" المبروك " بقلم العالم الدكتور مصطفى محمود
أفرغ الرجل كأس الخمر الرديئة فى جوفه ثم شرع يبكى ويتمتم نادماً مستغفراً .. تبت إليك يا رب .. لا أعود إلى شربها أبداً .. أعاهدك وأستغفرك .. وبعد لحظات كان يملئ كأساً أخرى ليلقيها فى جوفه ليعود فيستغفر باكياً مغمغماً .. سامحنى يا رب .. هذه آخر مرة .. تبت إليك ورجعت إليك وأنبت إليك .. ثم ما تلبث الغفلة أن تسيطر عليه ويعاوده ضعفه فيغالبه فيغلبه فينكب على كأس أخرى .. ثم يعود فيقف تائباً باكياً بالباب .
ذلك هو الشيخ مبروك .. وكانوا يسمونه الشيخ من باب السخرية بحاله .
ستون سنة ولكن هيكله المضعضع يوحى بأنه جاوز المائة ..
جاء إلى الدنيا لقيطاً ملقى على الرصيف فى لفة وقضى صباه فى ملجأ للأيتام ثم فى سجن للأحداث .
لم يدع منكراً إلا قارفه ولا مخالصة أو حال إلا انغرس فيها .
كان يخرج من سجن ليدخل سجناً ويخرج من تخشيبة ليلقى فى تخشيبة .
وانتهى حاله إلى أن أصبح حارساً فى قرافة .. ينام ويأكل ويشرب ويسكن مع الموتى .. يحرس القبور نهاراً ثم يعود فينهشها ليلاً ليبيع الجثث لطلبة الطب فى مقابل جنيهات قليلة يسكر بها.
ذلك هو " الشيخ مبروك " صاحب ملف السوابق الحافل ..
ولكنه كان طرازاً عجيباً من المجرمين ..
كان مجرماً " غلباناً " دائم البكاء دائم الندم منكسر الوجه إلى الأرض يلازمه الشعور بأنه حشرة وبأنه لا يستحق شعاع الشمس الذى يطلعه الله عليه ولا نسمة الهواء التى يتنفسها ولا اللقمة الجافة التى يأكلها .
ولم يكن يرتكب ذنباً إلا كانت وراءه ضرورة ملحة تدفعه .. وحياته كلها كانت محاولة مستمرة للإستقامة دون جدوى .
فهو يغالب طبعه وطبعه يغلبه .
ويغالب ضعفه وضعفه يغالبه .
ثم يبكى فى النهاية ويشعر بالخزى والهوان .
ويحاول أن ينسى ذلك الهوان بالشرب فيزداد بالشرب هواناً .
يشعر دائماً بأن الله يراه .. ولا يدرى من أين يأتى ذلك الشعور .. ولا كيف يفعل ما يفعل أمام عين الله التى لا تنام .
شعوره الدائم الذى لا يفارقه هو الإشمئزاز من نفسه .
وهو شعور ملازم كالتنفس لا خلاص منه .. وكأنه صرصور غارق فى مستنقع من الصمغ كلما حاول الخلاص ازداد غرقاً .
لا ينجيه من الموت يأساً إلا إيمانه بأن ذنوبه مهما عظمت فإن عفو الله أعظم .. وإن الله لا تنفعه طاعتنا ولا تضره ذنوبنا .. فهو غنى بنفسه عن العالمين .. وهو الذى وسع كل شئ رحمة وعلماً .. وهو الوهاب الذى لا يحتاج إلى أحد ..
لا يكف عن البكاء .
ولا يكف عن الوقوف بباب الرحمة وإن كان يشعر بأن يديه ملطختان بالآثام .. يعرف الناس تاريخه ويسخرون منه ولكنهم يعطفون عليه .. والبعض يقول له .. ادع لنا يا شيخ مبروك .. فيقول لهم .. يدعو لكم الشيخ مبروك.. ولكن لا أنا شيخ ولا أنا مبروك .. ويبكى ويدس يده المرتجفة تحت جلبابه ليخرج الزجاجة فيشربها ممزوجة بدموعه ثم يمضى يحث الخطى لائذاً بالجدران منكّس الوجه إلى الأرض ليختفى فى ظلمة المقابر .. وهو يستغفر ويطلب العفو .
واليوم كان على الشيخ مبروك أن يفتح حوش الحاج إبراهيم ليتلقى الابن الخامس للحاج .. تلك القصة التى كانت تتكرر كل عام .. كلما أنجب الحاج ابناً شق له لحداً .
وكان قلب الشيخ مبروك ينفطر حزناً على ذلك الأب الواله الغارق فى دموعه .
قال الحاج وهو يبكى : ذلك هو ابنى الخامس .. بنتى الوحيدة أصابها شلل الأطفال من شهور وأصبحت كسيحة تتحرك على كرسى بعجلات .. وبالأمس قال الطبيب .. إنه لا فائدة .. تآكلت جذور الأعصاب ولم يعد ينفع طب ولا دواء .. عن قريب نشق لها لحداً آخر يا شيخ مبروك .. عن قريب آتى بها إليك محمولة .. يا رب رحمتك .
وألقى الرجل بنفسه على صدر الشيخ مبروك وراح يبكى وينهنه كطفل يتيم .
قال الحاج فى دموعه :
ادع لها بالشفاء يا شيخ مبروك .. لعل الله يشفيها بدعوتك ..
قال الشيخ مبروك والخزى يملأ نبراته :
أنت أولى بالدعوة يا حاج .. أنت حجيت بيت الله .. وزرت النبى .. أما أنا فحجى كان إلى السجون وزياراتى للملاجئ والأحداث .. وحظى من تقوى الله هو ما ترى .. فكيف أجرؤ أن أرفع وجهى إلى الله بدعاء .
فعاد الحاج يقول باكياً :
بح صوتى بالدعاء وجاهدت نفسى صلاة وصوماً فما استمعت السماء لدعائى ..ادع أنت لها يا شيخ مبروك .. فالله رب قلوب .. بحق الله ادع لها ولا تخيب رجاء أب مكلوم .
فرفع الشيخ مبروك يديه إلى السماء واجماً خزيان وتوجه إلى الله بنظرات خجلى وتمتم بدعوة مخضلة بالدمع متهدجة بالإنكسار :
يا رب اشفها فلا شاف سواك وعافها فى معاف سواك ..
وبكى الرجلان كما لم يبكيا منذ ولدا .
وفى اليوم التالى شهدت القرافة الحاج إبراهيم يبحث عن الشيخ مبروك .. و يفتش عنه كالمجنون وهو يقول لكل من يلقاه :
أين الشيخ مبروك .. أين الشيخ مبروك دلونى على مكانه .. بنتى شفيت من الشلل .. قامت من كرسيها ومشت وحدها وقال الدكتور هى معجزة .
أين الشيخ مبروك .. أين أجد الشيخ مبروك .
ولكن الشيخ مبروك كان قد مات ولقى ربه فى فجر ذلك اليوم .. ودفن حيث يلفظ أنفاسه وهو يتمتم باكياً كعادته كلما وضع خده لينام ..
رب اغفر لى فمن يغفر الذنوب إلا أنت .
رب إن ذنوبى وإن كثرت فإنها لن تضرك وطاعاتى وإن كثرت فإنها لن تنفعك فأنت الغنى عن العالمبن .
رب مهما عظمت ذنوبى فإن عفوك أعظم ومهما كبرت آثامى فإن إحسانك أكبر .
سبحانك وسعت كل شئ رحمة وعلماً .. فارحم ضعفى وعجزى وفاقتى وأنت القائل " وخلق الإنسان ضعيفاً " النساء 28 .
رب اقبلنى من المنكسرين الخائفين المشفقين الوجلين ..
يا رب أنت الرب وأنا العبد .. أنت الوجود وأنا العدم سبحانك لا املك من نفسى شيئاً ولا أملك لنفسى شيئاً .
رب أسلمت نفسى إليك .. وأسلمت ضعفى إليك .. وأسلمت حقيقتى إليك .. وأسلمت إرادتى إليك .. وأسلمت روحى إليك .. لا حول ولا قوة إلا بك .
بك أحيا وبك أموت وبك أُبعث .. وبك أنال المغفرة وبك أدخل الجنة .
وطلع فجر ذلك اليوم مع آخر أنفاس السيخ مبروك يسلمها إلى ربه.
وانتهت قصة رجل من الخطّائين كان أقرب إلى الله من كثير من الطائعين من أهل الغرور بطاعتهم .
رجل غفر الله له لأنه عرف مقامه .. وكانت حياته كلها انحناء وانكساراً ودخولاً من الباب الضيق .
الرئيسية 
