27 - فصّ حكمة فردية في كلمة محمّدية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
27 - فصّ حكمة فردية في كلمة محمّدية صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
قال العبد : قد قدّمنا في شرح فهرس الفصّ ، علَّة استناد هذه الحكمة الكليّة الفردية إلى الكلمة الكاملة الإلهية ، وسيرد في متن الفصّ وشرحه ما فيه بلاغ ، ولكنّا نومئ إلى أوّلية المرتبة الفردية ، فإنّ للفردية مراتب ظهور ، وهي في كل مرتبة علَّة للإنتاج وسبب للإثمار .
"" قال العبد : جاء الوارد في هذه الحكمة بعبارتين دالَّتين على حقيقة واحدة :
إحداهما : حكمة كلَّية لكونها أحدية جمع جميع الحكم الجمعية الكلَّية المتعيّنة في كلّ كلّ منها كلَّية فهي كلّ كلّ منها .
والثانية : حكمة فردية لأسرار وحقائق يكشف لك عن أصولها وفصولها في شرح حكمته صلَّى الله عليه وسلَّم . ""
فنقول والله المؤيّد بأيد أيّدة لعبده المؤيّد بها ثمّ بما من عنده - :
قد علمت فيما تقدّم :
أنّ أوّل المراتب الذاتية الإطلاق واللاتعيّن ، وهو غيب غيب ذات الذات الإلهية .
والمرتبة الثانية التعيّن الأوّل الذاتي الأحدي الجمعي الذي به تعيّنت العين لعينها ، وتحقّقت الحقيقة الذاتية لذاتها وحقيقتها التي هي عين الذاتية ، وتسمّى حقيقة الحقائق الكبرى عندنا ، ولهذا التعيّن الأوّل الأحدية من وجه ، والوترية من وجه ، والشفعية من وجه .
أمّا شفعيته فلأنّه شفع مرتبة الغيب الذاتي الإطلاقي بتعيّنه وتميّزه عن اللاتعين .
وأمّا وتريّته فلأنّه امتاز بنفس التعيّن عن اللاتعين الذي نسبته إلى العين كنسبة التعيّن سواء ، فإنّ العين المتعيّنة بالتعيّن الأوّل من حيث هي هي اللامتعيّنة في اللاتعين والإطلاق ، بل التعين واللا تعين نسبتان لها ذاتيتان ، ليست إحداهما أولى من الأخرى ،
ومع كونها عينهما فهي مطلقة عن الجمع بينهما والإطلاق عنهما ، ولكنّ المتعيّن الأوّل بالتعين الأوّل لمّا امتاز بنفس التعين عن اللاتعين وليس ثمّة من يشفع أحديته ،
إذ هو أحدية جمع جميع التعينات المعنوية المرتبية للحقائق ، بقي وترا وهو أوّل مرتبة الوتريّة ، إذ ليس في مرتبة اللاتعين والإطلاق حكم ولا اسم ولا رسم ولا نعت ولا وصف ولا علم ، فلا شفع ولا وتر ولا واحد ولا فرد ولا غير ذلك .
وأمّا أحديّته فلكون هذا التعين عين المتعيّن ، لا زائد عليه إلَّا في تعقّلنا ، فإنّه تعيّن الذات بذاتية الذات ، فلا اثنينية ولا كثرة ، فلها الأحديّة ، فالأحدية والوترية والشفعية مستندها إلى هذا التعين الأوّل الذاتي العيني ، وللعين الجمع بين التعين واللا تعين ، والقيد والإطلاق ، وللتعين الأوّل الجمع بين الشفعية والوترية والأحدية ، كما مرّ .
فظهرت في مجموع هذه المراتب الثلاث الفردية الأولى ، وكذلك للتعيّن الأوّل وللعين ، فتعيّنت الحقيقة البرزخية الجمعية بين الإطلاق والتعيّن ، وبين التعيّن والمتعيّن ، وبين الشفعية والوترية ، بمعنى أنّ هذه الحقيقة البرزخية ، لها الجمع ولها الفصل بين الطرفين ، وهي عين الطرفين في هذه المراتب كلَّها .
وهذه البرزخية برزخية الحقيقة الإنسانية الأحدية الجمعية الأزلية الأبديّة المحمدية التي هي الأحدية الجمعية الكمالية الذاتية الأولى ، ولها جمع الجمع الأوّل ، وصورته في أوّل المرتبة النبويّة الإنسانية البشرية آدم عليه السّلام ، وفي آخر المرتبة النبويّة الكمالية الجمعية الختمية محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم وله أحدية جمع جمع الحقائق الإلهية والحقائق الكمالية الإنسانية ، ولهذه الحقيقة المحمدية المشار إليها الفردية الأولى ، ومنها تفرّعت الفرديات في جميع المراتب المعنويّة والروحانية والإلهية والكونية وغيرها ، فأسند الشيخ رضي الله عنه هذه الحكمة للكلمة الكاملة المحمدية ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( إنّما كانت حكمته فردية ، لأنّه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني ، ولهذا بدىء به الأمر وختم ، فكان نبيّا وآدم بين الماء والطين ، ثم كان بنشأته العنصرية خاتم النبيّين وأوّل الأفراد " الثلاثة" .).
يشير رضي الله عنه إلى أنّ الفردية له من كونه أكمل النوع الإنساني الكمالي ، لأنّ الفردية مخصوصة كما ذكرنا بالإنسان الكامل ، ولا أكمل من محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم فله الفردية الحقيقية الغيبيّة العينية المشار إليها من حيث حقيقته ومعنويته.
أوّلا في عالم المعاني ، ثمّ بنشأته الروحانية كان نبيّا مبعوثا إلى كافّة الأرواح النبوية ،
ثمّ بنشأته العنصرية كان خاتم النبيين ، فحصلت الفرديّة الأولى ، وله الفردية الجامعة بين البدء والفاتح ، والختام الواضح ، ونبوّة روحانيته بالكمال الراجح ،
وثمّ سر آخر :
وهو أنّ الفردية جامعة بين الشفع الأوّل الذي هو اثنان والوتر الأوّل لأنّ أوّل الأفراد « الثلاثة » ، وهي تجمع بين الاثنين والواحد ، وبالجمع تحصل فرديته ، فهو أعني الثلاثة الفردية من الأعداد - الأوّل ، وليس هذا للأحدية ولا للواحد ولا للاثنين ، فافهم .
فإن قلت : الاثنان يجمع بين الأحدية والاثنيّنية .
قلنا : ليس له الفردية كما لأوّل الأفراد .
قال رضي الله عنه : ( وما زاد على هذه الأوّلية من الأفراد فإنّه عنها ، فكان عليه السّلام أدلّ دليل على ربّه ، فإنّه أوتي جوامع الكلم التي هي مسمّيات أسماء آدم ) .
يعني رضي الله عنه : مسمّيات الأسماء التي علَّمها الله آدم والكلمات الإلهية ، وإن كانت لا تنفد ، فإنّها لا تتناهى ، وهي أعيان الممكنات ، لكنّها تنحصر في أمّهات ثلاث :
الأولى : هي الحقائق والأعيان الفعلية المؤثّرة الوجوبية الإلهية .
والثانية : الحقائق الانفعالية الكيانية المربوبية الإمكانية .
والثالثة : الحقائق الجمعية الكمالية الإنسانية .
والكلّ أمّهات الشؤون الذاتية ، وللحقيقة العينيّة الذاتية الإحاطة والإطلاق ، فهذه الكلم هي الكلم التي أوتيها محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم فجمعها ببرزخيته المذكورة .
قال رضي الله عنه : ( فأشبه الدليل في تثليثه ) .
يشير رضي الله عنه : إلى التثليث المذكور في أوّل الفصّ المحمدي الصالحي فتذكَّر ، وهذا التثليث يتضمّن التربيع - كما ذكرنا - فإنّ الدليل وإن كان مثلَّث الكيان ، فإنّه مربّع الكيفية ، وقد ذكر ، فلا نعيد ، فاذكر .
قال رضي الله عنه : ( والدليل دليل لنفسه ) أي دلالته ذاتية له وهي أيضا ثلاثية ، إذ لا بدّ من دليل ومدلول ودلالة .
قال رضي الله عنه : ( ولمّا كانت حقيقته تعطي الفردية الأولى بما هو مثلَّث النشئ ) يعني بروحه وجسمه وحقيقته الجامعة كما مرّ « ولذلك قال في المحبّة التي هي أصل الوجود .
" في بعض النسخ : أصل الموجودات ."
قال رضي الله عنه : (« حبّب إليّ من دنياكم ثلاث » بما فيه من التثليث ، ثم ذكر النساء والطيب ، وجعلت قرّة عينه في الصلاة ، فابتدأ بذكر النساء وأخّر الصلاة ، وذلك لأنّ المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها ومعرفة الإنسان بنفسه مقدّمة على معرفته بربّه ، فإنّ معرفته بربّه نتيجة عن معرفته بنفسه ، لذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم -: " من عرف نفسه عرف ربّه " )
قال رضي الله عنه : (فإن شئت ، قلت بمنع المعرفة في هذا الخبر ، والعجز عن الوصول ، فإنّه سائغ فيه .
وإن شئت ، قلت بثبوت المعرفة ، فالأوّل أن تعرف أنّ نفسك لا تعرفها ، فلا تعرف ربّك . والثاني أن تعرفها فتعرف ربّك ، فكان محمّد أوضح دليل على ربّه ، فإنّ كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربّه فافهم . )
يشير رضي الله عنه إلى أنّ نفس الإنسان الكامل من حيث إنّ الحق هو المتعين في عينها على إطلاقه الذاتي غير المنحصر في تعيّن وإطلاق لا تعرف ، فلا يعرف الحق ، فإنّه لا يتعلَّق العلم بالحق من حيث لا تعيّنه ، ولكن من حيث تعيّنه بعينه يعرف ، فيعرف نفسه من هذه الحيثيّة فيعرف الحق ولا يعرفه إلَّا هو ، فلا يعرف الحق إلَّا هو فلا يعرف الحق إلَّا الحق المتعين بالتعين الأوّل الذاتي الأحدي الجمعي الكمالي .
ولكن هذه المعرفة - من كونها استدلالية - على وجهين : من حيث الدلالة العينيّة ، ومن حيث الدلالة بالصورة ، ولأنّ الصورة المحمدية الكمالية لمّا كانت جامعة بين الصورة الإلهية الأحدية الذاتية ، وبين الصورة الأسمائية الجمعية ، كان أكمل دليل على ربّه وأتمّه .
وأمّا دلالته من حيث العين فهي أنّ العين - من كونها متعيّنة بالبرزخية الكبرى المذكورة - نفس العين المتعيّنة بالتعين الأوّل الذاتي ، فهذه دلالة نفسية .
وأمّا دلالته من حيث الصورة فإنّ دلالة الصورة المحمدية - من حيث تعين الحق في وجوده الكامل الجامع بين المعنى والروح والصورة - دلالة على الحق من حيث أحدية جمعه بين الكمال الذاتي والاسمائي ، والجمعيّ الإنسانيّ .
وكل واحدة من الدلالتين على وجهين أيضا :
دلالة بالكمالات الثبوتية الظاهرة في الصورة المحمدية ، ودلالة من حيث الكمالات النسبية السلبية كالغنى والإطلاق واللا تعين واللاانحصار ، فإنّ محمّدا بصورته وحقيقته دليل دالّ على ربّه ، فهو أتمّ دليل ، لكونه أكمل المظاهر الجمعية الكمالية الإلهية الإنسانية ، وصورته أجمع الصور ، وسورته أفضل السور .
قال رضي الله عنه : (إنّما حبّب إليه النساء فحنّ إليهنّ، فإنّه من باب حنين الكلّ إلى جزئه).
يعني رضي الله عنه : أنّ كلَّية الكلّ لا تكون إلَّا بالجزء ، إذ الكلّ بالجزء كلّ فهو حنين الشيء إلى نفسه باعتبارين وحيثيّتين .
قال رضي الله عنه : ( فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحق في قوله في هذه النشأة الإنسانية العنصرية "وَنَفَخْتُ فِيه ِ من رُوحِي " ثم وصف نفسه بشدّة الشوق إلى لقائه ، فقال للمشتاقين : يا داوود إنّي أشدّ شوقا إليهم ، يعني للمشتاقين إليه ، وهو لقاء خاصّ ، فإنّه صلَّى الله عليه وسلَّم قال في حديث الدجّال : إنّ أحدكم لن يرى ربّه حتى يموت ، فلا بدّ من الشوق لمن هذه صفته .) .
يعني رضي الله عنه : لمن يحبّ أن يموت شوقا إلى الحق ، والسرّ أنّ الحق - من حيث تعيّنه بعين العبد المشتاق - يشتاق إلى نفسه من حيث تعيّنه في الأصل ، ثم إنّه من حيث الأصل يشتاق إلى نفسه في مرتبة التقييد ، فيكون حينئذ اشتياق الحق أشدّ ، لكون شوقه تعالى ضعف الشوق الظاهر من المسمّى عبدا ، إذ هو المشتاق إلى نفسه من حيثيّتين في مرتبتين له ، ذاتيّتين ، فافهم ، فإنّه عاد من مقام قوله : من تقرّب إليّ شبرا ، تقرّبت منه ذراعا ، ومن تقرّب إليّ ذراعا ، تقرّبت منه باعا ، ومن أتاني يمشي ، أتيته هرولة .
قال رضي الله عنه : ( فشوق الحق لهؤلاء المقرّبين مع كونه يراهم ، فيحبّ أن يروه ) .
يعني : بارتفاع حجابية التعيّن من العين ، الموجب في زعمه بالبين في البين ، وبارتفاعه يرتفع الغين من العين ، فتقرّ العين بالعين ، فيقرب أين العين من العين ، إن شاء الله تعالى .
قال رضي الله عنه : ( ويأبى المقام ذلك ، فأشبه قوله : " حَتَّى نَعْلَمَ " مع كونه عالما ، فهو يشتاق لهذه الصفة الخاصّة التي لا وجود لها إلَّا عند الموت ، فيبلّ بها شوقهم إليه ، كما قال في حديث التردّد وهو من هذا الباب : « ما تردّدت في شيء أنا فاعله تردّدي في قبض نسمة عبدي المؤمن يكره الموت ، وأنا أكره مساءته ، ولا بدّ له من لقائي " يعني ليس ذلك إلَّا بارتفاع الحجاب واندفاع الحجّاب من الباب . "
فبشّره بلقائه ، وما قال له : ولا بدّ له من الموت ، لئلَّا يهمّه بذكر الموت ، ولمّا كان لا يلقى الله إلَّا بعد الموت - كما قال عليه السّلام : « إنّ أحدكم لا يرى ربّه حتى يموت » .
لذلك قال تعالى : ولا بدّ له من لقائي ، فاشتياق الحق لوجود هذه النسبة ) .
قال العبد : ولأنّ الشوق إنما يكون ممّن أحبّ وشهد محبوبه ، ثمّ وقع الفراق ، وامتنع الوصال والاعتناق ، فينبعث باعث طلب الاتّحاد والاشتباك بتقوية ما به الاشتراك ، والتعرية عمّا به المباينة والانفكاك ، والتبرئة عن حجاب التعين القاضي على الشائق بالهلاك ، المفضي إلى الارتياب والارتباك ،
فذلك الانبعاث العشقي لطلب الوصال في الفراق هو الشوق ، والاشتياق الذي يزداد ويشتدّ إنّما يكون للقاء خاصّ في عين الشهود والوصال ، وهو بارتفاع التعيّن العبدانيّ ، وفنائه في العين الأحدية بالبقاء الربّاني ، فيتّسع سعة وطنه ، بعد ضيق عطنه ، ويرتفع من حضيض تقييده ، إلى ذروة إطلاقه وتوحّده ،
وإلَّا فهي في الشهود دائما لربّه ، الذي هو متعلَّق شوقه ووجده ، وربّه دائم الشهود لعبده ، في جميع مراتب قربه وبعده ، شهود جمع في جمع ، على ما هو عليه الأمر في نفسه ، فناء في بقاء ، وبقاء في فناء من جهة العبد ، وبقاء في بقاء من جهة الربّ .
ثمّ الذي يشهد التعيّن نسبة ذاتية للمتعيّن ، ويراه عينه ، ويرى عينه إيّاه ، وفإنّه دائما في لقاء وهو في فناء فناء وبقاء بقاء ، ولكن هذا النوع من الاشتياق المنسوب إلى الأبرار إنّما يكون بالنسبة إلى من ليس مشهده ما ذكرنا .
وأمّا اشتياق العبد البالغ فإنّه لا يزول مع دوام الشهود ، ولا يحول مع اتّصال الوصال والوجود ، جعلنا الله وإيّاكم ممّن امتنّ عليه بهذا التجلَّي الدائم ، إنّه وليّ الوهب والجود .
وأمّا من حيث هذا الاشتياق واللقاء الخاصّ ، فشوقه أضعاف أضعاف جمع الشائقين والمتلقّين للقاء ربّ العالمين ، وله شوق آخر من حيث أحديّة جمع الشوقين والاشتياقين ، أعني شوق أهل الحجاب واشتياق أهل الشهود ، بمعنى أنّ هذا العبد يموت في عين حياته الدنيا ، ويتوفّاه الله إليه ، ويلقاه ويلقى ربّه ، فيبلّ كلّ واحد من صاحبه شوقه ، ويشهد كلّ منهما كلَّا منهما جمعا وفرادى في الصور البرزخية النورية والهيئات المثالية والفلكية الصورية التي لا وصول إلى شهود الحق فيها بهذا التعين النقلي السفلي وبعد ذلك اللقاء والموت عن هذه النشأة ،
إن اشتاق إلى الحق المتعين في هذه التعينات ، وحجبه ذلك المقام والتعيّن اللائق به عن شهوده هنا ، فيردّه الله إليه في هذه النشأة ، فأقرّ عينه به وبشهوده في هذا المقام ، وهكذا يداوم على هذين الشوقين والاشتياقين إلى اللقاء ، حتى تتّحد الأشواق ، وتبقى في شهود أحدية جمع الجمع بين القيد والإطلاق ، كما هو الأصل في الأصل ، والله وليّ التوفيق بالإطباق والاتّفاق .
قال رضي الله عنه : (
يحنّ الحبيب إلى رؤيتي .... وإنّي إليه أشدّ حنينا
وتهفو النفوس ويأبى القضا ..... فأشكو الأنين ويشكو الأنينا)
يريد رضي الله عنه : أنّ الحق يقول على لسانه من حيث المرتبة ، فإنّ المحبّ للعبد العارف به العالم له فحنينه عين حنينه إلى محبّه ، ولكن حنين الحق القائل : « أحببت » إليه أشدّ ، كما بيّنا في سرّ التقريب العبداني والرباني ، من حيث تعيّنه في عين عبده يشتاق ويتقرّب إلى نفسه ، ثمّ يجازيه عن شوقه إليه أيضا ، ويقرّ به بالشوق والتقرّب إلى العبد المشتاق المتقرّب ، والمجازاة بعشر أمثالها ، فيكون شوق الحق إلى العبد أضعاف أضعاف شوقه إليه ، فافهم هذا السرّ أيضا ، فإنّه عزيز .
قال رضي الله عنه : ( فلمّا أبان أنّه نفخ فيه من روحه ، فما اشتاق إلَّا إلى نفسه ، ألا تراه في خلقه على صورته ، لأنّه من روحه ؟ ولمّا كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسماة في جسده أخلاطا ، حدث عن نفخه اشتعال بما في جسده من الرطوبة ) .
يعني رضي الله عنه : الرطوبة الغريزية التي هي مادة الحرارة الغريزية وبها بقاؤها .
قال رضي الله عنه : ( فكان روح الإنسان نارا لأجل نشأته ) .
يعني رضي الله عنه: الحرارة الغريزية التي هي مركب حياة الروح النفساني ، أعني النفس الناطقة ، فإنّ النفس على صورة نارية ، والروح في صورة نورية .
قال رضي الله عنه : ( ولهذا ما كلَّم الله موسى إلَّا في صورة النار ، وجعل حاجته فيها ، فلو كانت نشأته طبيعية ، لكان روحه نورا وكنى عنه بالنفخ يشير إلى أنّه من نفس الرحمن فإنّه بهذا النفس الذي هو النفخة ظهر عينه ، وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال نارا لا نورا ) .
يشير رضي الله عنه إلى الجوهر النوري ، الظاهر بصورة النار ، المشتعل لفتيلة جسده ودهن رطوبته الغريزية المشار إليها في بعض وجوهها بقوله : " يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْه ُ نارٌ "
وإنّما فسّرت قوله : " روحه " بالنفس ، لأنّ الروح غير متعلَّق وإنّما المتعلَّق هو النار ، والنور محمول في النار ، كقيام العقل - وهو الروح - بالنفس الناطقة .
قال رضي الله عنه : ( فبطن نفس الحق فيما كان به الإنسان إنسانا ، ثم اشتقّ له شخصا على صورته ، فسمّاه امرأة ، فظهرت بصورته ، فحنّ إليها حنين الشيء إلى نفسه ، وحنّت إليه حنين الشيء إلى وطنه ، فحبّب إليه النساء ، فإنّ الله أحبّ من خلقه على صورته ، وأسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم ومنزلتهم وعلوّ نشأتهم الطبيعية ، فمن هناك وقعت المناسبة ، والصورة أعظم مناسبة وأجلَّها وأكملها ، فإنّها زوج أي شفعت وجود الحق ، كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرجل ، فصيّرته زوجا ، فظهرت الثلاثة : حق ، ورجل ، وامرأة ، فحنّ الرجل إلى ربّه الذي هو أصله حنين المرأة إليه ) .
يعني رضي الله عنه : لمّا كان على صورة ربّه ، بل هو صورة ربّه في عصره والحق هوية هذه الصورة وروحها ، فهو بصورته شفع الحق الواحد الأحد الوتر ، فإنّ الإنيّة تشفع الهوية ، كما يشفع الزوج الزوج بوجوده .
قال رضي الله عنه : ( فصيّرته زوجا ) أي شفعت الزوجة الزوج ، فصيّرته زوجا ، لأنّ كل زوج على صورة زوجه .
قال رضي الله عنه : ( فحبّب إليه ربّه النساء ، كما أحبّ الله من هو على صورته ، فما وقع الحبّ إلَّا لمن تكوّن عنه ، وقد كان حبّه لمن تكوّن منه وهو الحق ،
فلهذا قال : « حبّب إليّ » ولم يقل : أحببت من نفسي ، لتعلَّق حبّه بربّه الذي هو على صورته ، حتى في محبّته لامرأته ، فإنّه أحبّها بحبّ الله إيّاه تخلَّقا إلهيا .
ولمّا أحبّ الرجل المرأة طلب الوصلة أي غاية لوصلة التي تكون في المحبّة - فلم يكن في صورة .
النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح ، ولهذا تعمّ الشهوة أجزاءه كلَّها ، ولذلك أمر بالاغتسال منه ، فعمّت الطهارة كما عمّ الفناء فيها عند حصول الشهوة ، فإنّ الحق غيور على عبده أن يعتقد أنّه يلتذّ بغيره ، فطهّره بالغسل ، ليرجع بالنظر إليه ، فيمن فني فيه ، إذ لا يكون إلَّا ذاك ، فإذا شاهد الرجل الحقّ في المرأة ، كان شهودا في منفعل ، وإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه ، شاهده في فاعل ، وإذا شاهده من نفسه من غير استحضار صورة من تكون عنه ، كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة ، فشهوده للحق في المرأة أتمّ وأكمل ، لأنّه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصّة ، فلهذا أحبّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - النساء ، لكمال شهود الحق فيهنّ ، إذ لا يشاهد الحق مجرّدا عن الموادّ أبدا ، فإنّ الله بالذات غنيّ عن العالمين ، وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ولم تكن الشهادة إلَّا في مادّة ، فشهود الحق في النساء أعظم شهود وأكمله ).
أي في منفعل حالة انفعاله وفعله ، فإنّه جامع لشهود الحق منفعلا في عين كونه فاعلا في عين انفعال فعلا في عين انفعال وانفعالا في فعل ، وهاهنا أسرار مكتّمة ، وعلى من ليس من أهلها محرّمة .
قال رضي الله عنه : ( وأعظم الوصلة النكاح ، وهو نظير التوجّه الإرادي على من خلقه على صورته ليخلفه ، فيرى فيه نفسه ، فسوّاه وعدله ، ونفخ فيه من روحه الذي هو نفسه ، فظاهره خلق وباطنه حق ، ولهذا وصفه بالتدبير لهذا الهيكل ، فإنّه تعالى "يُدَبِّرُ الأَمْرَ من السَّماءِ " وهو العلو " إِلَى الأَرْضِ " وهو أسفل سافلين ، لأنّها أسفل الأركان كلَّها ) .
يشير رضي الله عنه إلى النكاحات الخمسة الكلَّية الإلهية الموجبة لإنتاج العوالم المعنوية والروحية والنفسيّة والمثالية والحسيّة على اختلاف صورها ، كما مرّت فيما سلف ، فاذكر .
قال رضي الله عنه : ( وسمّاهنّ بالنساء وهو جمع لا واحد له من لفظه ، ولذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم - : « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : النساء » ولم يقل : المرأة ، فراعى تأخّر هنّ في الوجود عنه ، فإنّ النسأة هي التأخير ، كما قال تعالى : "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ في الْكُفْرِ " والبيع بنسيئة يقول : بتأخير ، فلذلك ذكر " النساء " فما أحبّهنّ إلَّا بالمرتبة ، فإنّهنّ محلّ الانفعال ، فهنّ له كالطبيعة للحق التي فتح فيها صور العالم بالتوجّه الإرادي والأمر الإلهي الذي هو نكاح في عالم الصور العنصرية ، وهمّة في عالم الأرواح النورية ، وترتيب مقدّمات في المعاني للإنتاج ، وكلّ ذلك نكاح الفردية الأولى في كل وجه من هذه الوجوه ، فمن أحبّ النساء على هذا الحدّ فهو حبّ إلهي ، ومن أحبّهنّ على جهة الشهوة الطبيعية خاصّة نقصه علم هذه الشهوة ، وكان صورة بلا روح عنده ، وإن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذات روح ولكنّها غير مشهودة لمن جاء لامرأته أو لأنثى حيث كانت - لمجرّد الالتذاذ ولكن لا يدري لمن ، فجهل من نفسه ما يجهل الغير ما لم يسمّه هو بلسان حتى يظهر .
كما قال بعضهم :
صحّ عند الناس أنّي عاشق ..... غير أن لم يعرفوا عشقي لمن.
كذلك هذا أحبّ الالتذاذ ، فأحبّ المحلّ الذي يكون فيه وهو المرأة ولكن غاب عنه روح المسألة ، فلو علمها ، لعلم بمن التذّ ومن التذّ وكان كاملا ) .
يشير رضي الله عنه إلى شهود الحق في المحلّ الذي فيه يلتذّ عينه ، فلو شهد الحقّ إذ ذاك شهودا أحديا جمعيا عين الفاعل والمنفعل مع شهوده عدم انحصاره وتقيّده بالتعيّن في أحدهما أو كليهما معا أو في الجمع أو الإطلاق عن الجمع ، بل شهودا مطلقا عن هذه الاعتبارات والتنزّه عنها جمعا وفرادى ، كان حينئذ هو ذلك الرجل الكامل الملتذّ بالحق في كل عين عين وتعيّن تعيّن ، وهو أوحد زمانه ونسيج وحده في أقرانه وأخدانه ، وهو من الكمّل أو من ندّر الأفراد .
قال رضي الله عنه : ( وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله تعالى - : " وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ " نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته ، فبتلك الدرجة التي تميّز بها عنه كان غنيّا عن العالمين وفاعلا أوّلا ، فإنّ الصورة فاعل ثان ، فما له الأوّلية التي للحق ، فتميّزت الأعيان بالمراتب ، فأعطى كلّ شيء خلقه ، كما أعطى كلّ ذي حق حقّه كلّ عارف ، فلهذا كان حبّ النساء لمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم عن تحبّب إلهي وإنّ الله أعطى كلّ شيء خلقه ، وهو أي المعطى عين حقّه ، فما أعطاه إلَّا بالاستحقاق ، استحقّه بمسمّاه أي بذات ذلك المستحقّ ) .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ الحق لمّا تعيّن في كل متعيّن من كلّ زوج عارف وغير عارف ، أعطى كلّ ذي مرتبة ما يستحقه لحقيقته ، فأعطى المنفعل خلقه في انفعاله وتأخّره عن الدرجة وهو حقه ، وأعطى كلّ الفاعل خلقه كذلك في فاعليّته وتقدّمه وذلك حقّه ، وأعطى العارف بذلك شهود الحق في الكلّ والالتذاذ به وهو خلقه وحقّه ، وأعطى غير العارف خلقه وهو صورة الالتذاذ بلا روح عنده وذلك حقّه وخلقه .
قال رضي الله عنه : ( وإنّما قدّم النساء لأنّهن محلّ الانفعال ، كما تقدّمت الطبيعة على من وجد منها بالصورة ، وليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفس الرحمانيّ ، فإنّه فيه فتحت صور العالم أعلاه وأسفله لسريان النفخة في الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام خاصّة .
وأمّا سريانها لوجود الأرواح النورية والأعراض فذلك سريان آخر ثمّ إنّه عليه السّلام غلَّب في هذا الخبر التأنيث على التذكير ، لأنّه قصد التهمّم بالنساء فقال : « ثلاث » ولم يقل :
" ثلاثة " بالهاء الذي هو لعدد الذكران إذ فيها ذكر الطيب وهو مذكَّر ، وعادة العرب أن تغلَّب التذكير على التأنيث ، فتقول : « الفواطم وزيد خرجوا » ولا تقول : خرجن فغلَّبوا التذكير وإن كان واحدا على التأنيث وإن كنّ جماعة ، وهو عربي ، فراعى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المعنى الذي قصد به في التحبب إليه ، ما لم يكن يؤثر حبّه ، « فعلَّمه الله ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليك عظيما » فغلَّب التأنيث على التذكير بقوله : « ثلاث » بغير هاء ، فما أعلمه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالحقائق ، وما أشدّ رعايته للحقوق .
ثمّ إنّه جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث وأدرج بينهما المذكَّر فبدأ بـ « النساء » وختم بـ « الصلاة » وكلتاهما تأنيث ، و"الطيب " بينهما كهو في وجوده ، فإنّ الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها وبين امرأة ظهرت عنه ، فهو بين مؤنّثين : تأنيث ذات وتأنيث حقيقي ، كذلك « النساء » تأنيث حقيقي و « الصلاة » تأنيث غير حقيقي ، والطيب مذكَّر بينهما كآدم بين الذات الموجود هو عنها وبين حوّاء الموجودة عنه .
وإن شئت قلت : « الصفة » فمؤنّثة أيضا ، وإن شئت قلت : " القدرة " فمؤنّثة أيضا ، فكن على أيّ مذهب شئت ، فإنّك لا تجد إلَّا التأنيث يتقدّم على أنّ أصحاب العلَّة الذين جعلوا الحق علَّة في وجود العالم والعلَّة مؤنّثة ) .
يشير رضي الله عنه في تغليب رسول الله في كلماته الكاملات التامّة ، وعباراته العالية العامّة التأنيث على التذكير مع كونه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أنفس أنفس العرب وغاية رعاية العرب لعكس ذلك في تغليب التذكير على التأنيث إلى أنّ ذلك لكمال تحقّقه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعلم الحقائق ونهاية عنايته برعاية الحقوق ، وذلك ، الأصل في الكلّ الأمّ ، والتأنيث في الأم .
ثمّ إنّ الأمّ الأمّهات وأصل الأصول الذي ما فوقه فوق هي العين أو الحقيقة أو الذات المطلقة تباركت وتعالت وقد وقعت صورة التأنيث في هذه الألفاظ كلَّها ، وإن كانت هذه الأمّ من جهة المعنى أبا ، ولكنّ الحقيقة تجمع بالذات بين الفعل والانفعال الذاتيين الحقيقيين ، فهي أمّ باعتبارين وأب أيضا باعتبارين ، فإنّ العين المطلقة أو الحقيقة أو الذات - تبارك وتعالت - تقتضي لحقيقتها الجمع بين التعيّن واللاتعيّن ، فيتحقّق لها بهذين الاعتبارين كما مرّ مرارا نسبتا الظهور والبطون فهي الموصوفة بهما معا ، والعين أو الحقيقة هي المتعيّنة بالتعين الأوّل ، واللامتعيّنة في اللاتعين وبه ، وأحدية العين تقتضي الاعتدال ، أعني بين الفعل والانفعال .
ثمّ التّعين بظهور الذاتي يقتضي أن يكون مسبوقا باللاتعين والإطلاق ، وكلّ مسبوق بأصل يستند إليه ، فإنّه منفعل عن ذلك الأصل ومظهر له ولا بدّ ، والمتعيّن بالتعين الأوّل من العين المطلقة عن نسبتي التعيّن واللا تعين فهو منفعل من كونه متعيّنا عن نفسه من كونه مطلقا ، وأمّا اللاتعين فإن اعتبرناه بمعنى سلب التعيّن ، فإنّ المعرفة بذلك متوقّفة على المتعيّن ،
إذ لولا التعيّن لما تحقّق اللاتعين في العلم ، فهو في العلم منفعل التحقّق عن المتعيّن بالتعيّن الأوّل والمتعيّن به ، وإلَّا تعيّن باعتبارين لتحقّق الفعل لكلّ منها من حيث تحقّق الانفعال للآخر ، ومن كون العين المطلقة تقتضي اللاتعيّن والتعيّن معا دائما ، فإنّها تتعيّن وتظهر بالتعيّن الأوّل عن بطونها في اللاتعيّن وغيبها الذاتي إلى شهادتها الكبرى الأولى ،
وكلّ مظهر ومجلى من كونه معيّنا مقيّدا للمطلق بخصوصيّة - فاعل لتقييد المطلق وتعيين غير المتعيّن بتكييفه ، فصدق من هذا الوجه للمتعيّن والتعيّن الفعل والتأثير في غير المتعيّن المطلق عن التعين واللاتعيّن من قبوله لذلك ، والانفعال لذلك المطلق ، فصدقت الأمومة والأبوّة من حيث الفعل والانفعال للحقيقة .
ولهذا السرّ صحّ التأنيث في الحقيقة أو العين أو الذات ، فتحقّق أنّ الحقيقة الأصليّة - التي هي محتد الحقيقة الإنسانية - تقبل لحقيقتها الفعل والانفعال والظهور والبطون ، فإنّ هذه النسب شؤونها الذاتية ، فلا تحول ولا تزول ، والحقيقة الأحدية الجمعية توجب البرزخية الجامعة بين الإطلاق والتقييد ، والتعيّن واللاتعيّن ،
والظهور والبطون ، والفعل والانفعال ، والبرزخية الإنسانية المشار إليها أيضا منفعلة عن العين بين التعيّن الأوّل ولا تعيّن الذات جامعا لهما وفاصلا بينهما ظاهرا بتثليث فرديته الأولى التي هي محتد نشأته وأصل وجوده ، صلَّى الله عليه ، والتأنيث نعت للمنفعل ، ذاتيّ ،
والتذكير كذلك وصف للفاعل ، والأمر بين حق باطن أو ظاهر ، وخلق باطن أو ظاهر كذلك في مقامي الأوّلية والآخرية بنسبتي الظهور والبطون ، أو الغيب والشهادة ، والحقيقة واحدة في الكلّ ، والفعل والانفعال صادقان لها في جميع هذه النسب أعني الظاهرية والباطنية ، والغيب والشهادة ، والخلقية والحقّية ، والربّ والعبد بالذات من حيث أحدية العين ،
فالبرزخ الجامع فاعل بين منفعلين كالتذكير بين تأنيثين ، فأظهر صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الأسرار والحقائق من كونه أوتي جوامع الكلم - في جميع أقواله وأفعاله ، وراعى الفردية كذلك في الكلّ ،
فقدّم التأنيث الحقيقيّ الذي للذات أو الحقيقة أو العين أو الإلهية أو الربوبية أو الصفة أو العلَّة على اختلاف المشاهد والنظر ، وأخّر التأنيث أيضا في الصلاة من حيث اللفظ وأدرج الطيب - مذكَّرا - بين مؤنّثين ، فما أعلمه صلَّى الله عليه وسلَّم كما ذكر ، رضي الله عنه بالحقائق ، فاعلم ذلك ، فإنّ هذه المباحث وإن تكرّر ذكرها في هذا الكتاب فهي على صعوبتها عند من لم تنكشف له حقيقة ، والله الموفّق .
قال رضي الله عنه : ( وأمّا حكمة الطيب وجعله بعد "النساء " فلما في النساء من روائح التكوين ، فإنّه أطيب الطيب عناق الحبيب ، كذا قالوا في المثل السائر ، ولمّا خلق عبدا بالأصالة ، لم يرفع رأسا قطَّ إلى السيادة ، بل لم يزل ساجدا واقفا مع كونه منفعلا حتى كوّن الله عنه ما كوّن ، فأعطاه رتبة الفاعلية في عالم الأنفاس التي هي الأعراف الطَّيبة ، فحبّب إليه الطيب ، فلذلك جعله بعد « النساء » فراعى الدرجات التي للحق في قوله : "رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ لاستوائه عليه باسمه "الرحمن" فلا يبقى فيمن حواه العرش من لا تصيبه الرحمة الإلهية ، وهو قوله تعالى :- " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ والعرش وسع كلّ شيء والمستوي الرحمن فبحقيقته يكون سريان الرحمة في العالم ، كما قدّمنا في غير موضع من هذا الكتاب ومن الفتوح المكَّي ، وقد جعل الطيب تعالى في هذا الالتحام النكاحى في براءة عائشة فقال : "الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ " .
فجعل روائحهم طيّبة وأقوالهم صادقة لأنّ القول نفس وهو عين الرائحة ، فيخرج بالخبيث والطيّب على حسب ما يظهر به في صورة النطق ، فمن حيث هو إلهيّ بالأصالة كلَّه طيّب ، فهو طيّب ومن حيث ما يحمد ويذمّ ، فهو طيّب وخبيث ،
فقال في خبث الثوم : « هي شجرة أكره ريحها » ولم يقل : أكرهها ، فالعين لا تكره وإنّما يكره ما يظهر منها ، والكراهة لذلك ، إمّا عرفا بملاءمة طبع أو غرض أو شرع أو نقص عن كمال مطلوب ، وما ثمّ غير ما ذكرناه ) .
.
يتبع