منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالسبت يوليو 20, 2019 10:50 am

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

فهرس موضوعات كتاب شرح فصوص الحكم .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفهرس على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

فهرس الموضوعات والتعرف بالشارح الشيخ مؤيد الدين الجندي تلميذ صدر الدين القنوي 

الفهرس  .
مقدمة الناشر .. 
مقدمة الشارح … 
مقدمة الكتاب ..  
البحث الأول من مباحث خطبة الكتاب . 
البحث الثاني من مباحث خطبة الكتاب تحقيق في وجوه تسمية اسم الله . 
البحث الثالث من مباحث خطبة الكتاب .  
البحث الخامس من المباحث الكلية التي تحويها خطبة الكتاب 
البحث السادس من مباحث الخطبة سر الكلم. 
البحث السابع من مباحث خطبة الكتاب . 
البحث الثامن منها أي من المباحث الكلية الستة عشر . 
البحث التاسع منها أي من المباحث الكلية الستة عشر. 
البحث العاشر من الستة عشر: في إمداد الهمم القابلة للترقي . 
البحث الحادي عشر من الستة عشر : في الهمم. 
البحث الثاني عشر من الستة عشر .  
البحث الثالث عشر من الستة عشر. 
البحث الرابع عشر من الستة عشر .
البحث الخامس عشر من الستة عشر. 
البحث السادس عشر من الستة عشر 
آخر شرح الخطبة 
01. فص حكمة إلهية في كلمة آدمية . 
فهرسة الشيخ الأكبر لكتاب فصوص الحكم  .. 
02. فص حكمة فنية في كلمة شيثية ..
03. فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية . 
04. فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية. 
05. فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية .
06. فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية. 
07. فص حكمة علنية في كلمة إسماعيلية . 
08. فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية.
09. فص حكمة نورية في كلمة يوسفية. 
10. فص حكمة أحدية في كلمة هودية.
11. فص حكمة فاتحية في كلمة صالحية. 
12. فص حكمة قلبية في كلمة شعبية .
13. فص حكمة ملكية في كلمة لوطية.
14. فص حكمة قدرية في كلمة نميرية.
15. فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية.
16.  فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .
17. فص حكمة وجودية في كلمة داوودية .
18. فص حكمة نفسية في كلمة يونسية.
19. قص حكمة غيبية في كلمة أيوبية.
20.  فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية .
21. فص حكمة مالكية في كلمة زگریاوية.
22. فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية.
23. فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية.
24. فص حكمة إمامية في كلمة هارونية.
25. فص حكمة علوية في كلمة موسوية.
26. فص حكمة صمدية في كلمة خالدية . 
27. فص حكمة فردية في كلمة محمدية .
مقدّمة الناشر للتعريف بالشارح الشيخ مؤيد الدين الجندي 
من الأمور التي لا تخفى على العرفاء وسالكي هذا الطريق أهمية وموقع كتاب فصوص الحكم وتفرّده في مجال العرفان النظري . 
فقد ترك مؤلفه العارف الكبير محيي الدين بن عربى أثرا كبيرا على العرفاء الذين تلوه ، فلا يوجد عارف إلَّا واغترف من هذا المنهل العذب وتزوّد من هذه المائدة الشهيّة .
ويعتبر العذب استيعاب هذا الكتاب وفهم مضامينه من الأمور المشكلة من دون الاستعانة بأستاذ ماهر وملازمة شخص كالخضر عليه السلام يبيّن له مرامي الكلام ومقاصده .
وبهذا الشأن يقول الشهيد مرتضى المطهّري ما مضمونه : إنّ هذا الكتاب رغم صغر حجمه فإنّه يعتبر من أدقّ وأعمق المتون العرفانية ، وربّما وجد في كلّ عصر شخصان أو ثلاثة يقدرون على فهم وتحليل مضامينه العميقة .
ويعدّ صدر الدين محمد بن إسحاق القونوي من أبرز تلاميذ محيي الدين ابن العربي الذين شرحوا هذا الكتاب ، نتيجة لحضوره درس أستاذه وتقريره له .
أمّا مؤيد الدين جندي الذي هو من ألمع تلامذه صدر الدين القونوي فهو يذكر بأنّه درس متون فصوص الحكم بحضرة أستاذه القونوي ، وما إن أتمّ ذلك حتى شرع بشرح فصوص الحكم .
وربّما كان السبب في التطويل والإطناب في شرح مقدمة الفصوص هو اعتقاد القونوي أنّ كلّ مطالب الكتاب قد اجتمعت في المقدمة بشكل مركز . 
وكلّ من قرأ الفصوص على يد القونوي كان أقرب إلى معرفة نظريات ابن عربي في هذا المجال .
والسمات الرئيسية في « شرح فصوص الحكم » يمكن تلخيصها في شيئين :
الأول : أنّ هذا الكتاب هو الأول من نوعه الذي كتب حول فصوص الحكم ، فقد اختصّ بالسبق التأريخي دون غيره من الشروح .
الثاني : استفادة مؤلَّفه واستيعابه لكلّ محتويات الكتاب بسبب تتلمذه على أوثق وأدقّ تلامذة محيي الدين بن عربي ، صدر الدين القونوي الذي عرف نكات هذا الكتاب ودقائق الأمور فيه .
وفي شرح مقدمة هذا الكتاب التي شغلت الحيّز الأكبر فيه تناول المؤلَّف المباحث العرفانية المتعددة ، التي منها مبحث الحمد ، الاسم الحقيقي والاسم الأعظم ، اللطائف الإنسانية السبعة ، الرؤيا ، الوراثة ، التعيّن الأول . . . إلى آخر ما هنالك .
في خدمة علوم آل محمد صلَّى الله عليه وسلم ونشر ثقافتهم الإسلامية الأصيلة ، إنّه حسبنا ، عليه توكَّلنا ، وهو نعم المولى ونعم النصير .
.

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 2210

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Y_ai_a10
.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة أغسطس 02, 2019 3:47 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسوية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:34 am

15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسوية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسوية
قال العبد : أضيفت هذه الحكمة النبويّة إليه عليه السّلام لاختصاصه بالنبوّة وهو في المهد قبل بلوغه إلى زمان البعث للنبوّة ، كما أشار إليه الكامل صلى الله عليه وسلم :
« ما بعث نبيّ إلَّا على رأس أربعين » فإنه عليه السّلام قد أنبأ أمّه - وهو في بطنها - بقوله :
" أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا "  .
لقد أسند الشيخ حكمته إلى النبوّة لكون الغالب على عيسى عليه السّلام الإنباء عن الحق وإنباء الحق عنه له وعن نفسه ولعلوّه وارتفاعه الروحي والإلهي عن أبناء البشر ، كما ستعرف .
وبقوله في المهد : " وَجَعَلَنِي نَبِيًّا " كما مرّ في الفهرس ويأتي فيما بعد .
قال رضي الله عنه :
(عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين ... في صورة البشر الموجود من طين)
(تكون الروح في ذات مطهرة   ...... من الطبيعة تدعوها بسجين )
 
يشير رضي الله عنه إلى أنّ تكوّن الروح في حكم النظر العقلي يجوز أن يكون عن نفخ جبرئيل عليه السّلام فإنّ الروح الأمين على أنباء الله التي أنبأ بها جميع الأنبياء عن الحق بنبوّاتهم .
ويجوز أن يكون من حيث طهارة المحلّ وهو مريم عليها السّلام فإنّها أيضا منبأة من عند الله بما يكون عنها بقوله تعالى : " إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْه ُ اسْمُه ُ الْمَسِيحُ " وذلك عين الإنباء من عند الله وقد أنبأت نبيّ الله زكريّا بقولها :
 
" هُوَ من عِنْدِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ من يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ " ، فصلحت إضافة تكوّن عيسى عليه السّلام نبيّا عن نفخ جبرئيل الأمين في صورة البشر ، وعن مائها الطاهر ، وعنهما معا ، ومقتضى الكشف أنّ النبوّة كانت مدرجة في الكلمة الإلهية وهي وجود عيسى ، فبدأ - رضي الله عنه - في نظمه مستفهما لهذا الاحتمال في النظر العقلي .
قال : الأصل في وجود نشأته عليه السّلام إمّا جبرئيل عليه السّلام أو مريم عليها السّلام أو هما معا .
 
وفي الكشف الاسم هو الكلمة الإلهية التي أنبأ الله بها أمّه وجبرئيل بكلّ نبأ واقع على لسانه وفي قلب أمّه وعن جبرئيل بالنسبة إلى أمّه وإليه ، لأنّ الإنباء الحقيقي إنّما هو للوجود المتعيّن في مظهرية كلّ منهم ، وهو الكلمة والروح الحقيقي .
 
قال - رضي الله عنه - :
(لأجل ذلك قد طالت إقامته ... فيها فزاد على ألف بتعيين )
يشير رضي الله عنه إلى إقامة روح الله في الصورة البشرية الطبيعية من جهة أمّه .
فإنّ تكوّن الروح بشرا إنّما كان من أجل المحلّ القابل وهي الطبيعة ، فإنّ وجود مريم من أظهر المظاهر الطبيعية وأصفاها ، ووجوده عليه السّلام ضرب مثل وإنباء من الله لمن عقل عنه لوجود الروح الإنساني الكمالي عن الطبيعية من حيث التعيّن وظهور أحكام الروح وآثاره وقواه في مظاهرها الطبيعية الجسمانية .
لأنّ الروح الإنساني بعينه حادث بحدوث البدن ، ولم يكن هذا التعيّن موجودا قبل النشأة الطبيعية ، فإنّ وجود الروح قبل وجود البدن وجود روحاني في صورة روحانية نورانية فلكية وعرشية ونورية ومثالية .
وإنّما ظهرت آثار قواه وتصرّفاتها في العالم مظاهرها بين البدن ، ومتعلَّق الحدوث إنّما هو التعيّن ، والحدوث في الصور العنصرية والمزاج الجسماني ، وليس ذلك إلَّا لقواها وآثارها وتصرّفاتها في الأرواح الثلاثة : الطبيعيّ والحيواني والنفساني ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه  :
(روح من الله لا من غيره فلذا ... أحيا الموات وأنشا الطير من طين)
يشير رضي الله عنه إلى أنّ هذا الروح الكامل مظهر الاسم « الله » وأنّ النافخ له هو الله من حيث الصورة الجبرئيلية ، ليس من حضرة اسم آخر من الأسماء التابعة الفرعية .
فإنّ كلم أرواح سائر الأنبياء كما علمت ممّا تقدّم وإن كانت من حضرة الاسم « الله » ولكن من حيث تجلَّيه من سائر الحضرات الإلهية إلَّا أنّه من باطن أحدية جمع الحضرة الإلهية .
كما مرّ في شرح فصّ شيث عليه السّلام فتذكَّر ، فتعيّن هذا الروح من باطن الحضرة الإلهية ، ولهذا قال الله تعالى إنّه روح الله وكلمته ، فالكلمة لباطن الله وهويّته الغيبية ، والروح لله ، ولهذا هو عبد الله ومظهره وقد ظهر به ، من الدلائل على ذلك الإحياء والإبراء والخلق .
 
قال رضي الله عنه :
(حتى يصح له من ربه نسب ... به يؤثر في العالي وفي الدون )
يشير رضي الله عنه : إلى الإحياء والخلق ، فإنّ الإحياء من خصوص الإلهية وكذلك الخلق ، " قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ "  فلمّا ظهرا منه ، صحّ له نسب من الاسم الله ، فأثّر بالإحياء والإبراء وقد عجز عن ذلك غيره في الصور العالية الإنسانية ، وأثّر في الدون بالخلق ، وهو صورة الخفّاش .
قال رضي الله عنه :
(الله طهره جسما ونزهه  .... روحا وصيره مثلا بتكوين )
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ جسمانيّته تمثّليّ روحاني ، ليس فيها من التلوينات الطبيعية البشرية ما يقدح في روحانيته ، فإنّ صورته روح متجسّد في رأي العين وليس فيها من الجسم إلَّا حقيقة الجسمية التي بها يثبت متحيّزا لعيان العيون ، ويبقى كذلك مدّة مديدة .
وذلك من طينة أمّه الطيّبة الطاهرة ، وتنزيه روحه عن التقيّد بمرتبة جزئيّة من

مراتب الأسماء وعن آثار الطبيعة فيه ، كما في غيره من الأرواح البشرية ، فإنّها بحسب الطبيعية والصور الجسمانية ، بخلاف صورته - صلوات الله عليه - فإنّها روحانية بحسب الروح ، فلا يقيّده حيّز بالحصر والحبس ، بل هو مطلق.
ولهذا ما قتل وما صلب في الصحيح كما أخبر الله عنه ولكن خيّل لهم ذلك ، وشبّه شبهه حين ألقي شبهه على من سعى في دمه ، وكذلك جميع أحواله الطبيعية من الأكل والشرب تمثيل إلَّا ما قال الله تعالى عنه : " كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ "  في رأي العين ، فكان يتغذّى بروحانية الطعام الذي يريهم أنّه يأكله أو يشربه لا غير .
وأمّا تصيّره مثلا فهو بتكوين الجوهر الطيري من الطين ، وتكوين الأعراض من الحياة والصحّة والألوان بلا مادّة ظاهرة ، فصحّت له المثلية من هذه الوجوه ظاهرا في نشأته الأولى النبويّة ، وبكونه خليفة الله في نشأته الثانية بختمية الولاية العامّة ، كما علمت في شرح الفصّ الشيثي ، فتذكَّر .

قال رضي الله عنه : ( اعلم : أنّ من خصائص الأرواح أنّها لا تطأ شيئا إلَّا حيي ذلك الشيء وسرت الحياة فيه ، ولهذا قبض السامريّ " قَبْضَةً من أَثَرِ الرَّسُولِ "  الذي هو جبرئيل وهو الروح ، وكان السامريّ عالما بهذا الأمر .
لمّا عرف أنّه جبرئيل ، عرف أنّ الحياة قد سرت فيما وطئ عليه ، فقبض قبضة من أثر الرسول - بالصاد أو بالضاد - أي بملء يده أو بأطراف أصابعه ، فنبذها في العجل فخار العجل ، إذ صوت البقر إنّما هو الخوار ، ولو أقامه صورة أخرى نسب إليه اسم الصوت الذي لتلك الصورة كالرغاء للإبل والثؤاج للكباش والثغاء للشياه ، والصوت للإنسان ، أو النطق أو الكلام » .)
قال العبد : قد علمت فيما تقدّم أنّ الروح نفس رحماني ، فالحياة ذاتية له ، وإذا أثّر أو باشر بصورته المثالية جسما من الأجسام ، ظهر سرّ الحياة فيه بحسب صور ذلك الجسم ، والجسم ليست له الحياة التي تفيد الحركة والحسّ الخاصّة بالحيوان ، وإنّما هي من خاصّة الروح .
 
ثمّ الروح إذا كان كلَّيا يكون تأثيره بحسبه وبحسب قوّته ، وجبرئيل هو الروح الكلَّي المسلَّط على عالم العناصر كلَّها وسلطانها ، ومقامه سدرة المنتهى ، وليس كما يزعم الفلاسفة أنّه العقل الفعّال يعنون روح فلك القمر .
فإنّ روحانية فلك القمر هو إسماعيل ، وليس بإسماعيل النبيّ ، بل هو ملك مسلَّط على عالم الكون والفساد ، هو من أتباع جبرئيل عليه السّلام .
وليس لإسماعيل حكم فيما فوق فلك القمر ، ولا لجبرئيل فيما فوق السدرة ، وحكمه على السماوات السبع وما تحتها من الأسطقسّات والعناصر والمواليد ، فلمّا ظهر هذا الروح الأمين الكلَّي متمثّلا على البراق ، والبراق أيضا روح متمثّل كذلك من روح البراق المتمثّل أثّر في التراب الذي وطئ عليه ، فسرت فيه الحياة ، لقوّة روحانيته المتعدّية ، فلمّا نبذ التراب في تلك الصورة المسوّاة على صورة البقر ، أثّر فيها من الحياة هذا القدر .
قال رضي الله عنه  : (« فذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء يسمّى لاهوتا ») .
يعني رضي الله عنه : لمّا كانت الحياة من خصوص الإلهية ، فأيّ شيء سرت فيه الحياة - أيّ نوع كان من أنواع الحياة المختلفة الظهور في الأجسام القابلة التي تسري فيها - يسمّى لاهوتا .
 
قال رضي الله عنه : ( والناسوت هو المحلّ القائم به ذلك الروح ، فسمّي الناسوت روحا بما قام به ) .
يعني رضي الله عنه : بالتضمّن ، ولكن إذا كان الروح قائما بصورة إنسانية يسمّى ناسوتا بالحقيقة ، وإذا قام بغير الصورة الإنسانية ، قد يسمّى ناسوتا بالمجاز ، لكونه محلا للَّاهوت .
 
قال رضي الله عنه : ( فلمّا تمثّل الروح الأمين الذي هو جبرئيل عليه السّلام لمريم بشرا سويّا ، تخيّلت أنّه بشر يريد مواقعتها ، فاستعاذت بالله منه استعاذة تجمّعيّة منها ليخلَّصها الله منه ، لما تعلم أنّ ذلك ممّا لا يجوز ، فحصل لها حضور تامّ مع الله وهو الروح المعنوي ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ حضورها لأجل التنفيس عنها استدعى روحا معنويا ، لأنّه لا يكون إلَّا بتجلّ نفسي رحماني في معنى الإنسان .
 
قال رضي الله عنه : ( فلو نفخ فيها في ذلك الوقت على تلك الحالة ، خرج عيسى لا يطيقه أحد ، لشكاسة خلقه لحال أمّه ) .
يعني : أنّ ظهور الروح وتعيّنه في كل محلّ إنّما يكون يحسب حال ، فلمّا كانت حال مريم عليها السّلام حال الاستعاذة والضجر والتحرّج من تخيّلها وقوع المواقعة ، فلمّا رأت صورة بشرية على صورة التقيّ النجّار ، وكانت متبتّلة إلى الله ، زاهدة في الدنيا وفي النكاح ، حصورة ، فخرجت نفسها ممّا رأت ، فلو نفخ جبرئيل فيها روح الله وكلمته وأمانته على تلك الحالة ، لسرت حالتها في الروح ، فخرج كذلك منكَّس الخلق لا يطيقه أحد ، فعلم الروح الأمين منها ذلك ، فأنسها بقوله : " إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ".
 
قال رضي الله عنه : « فلمّا قال لها : " إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ " جئت " لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا "  ، انبسطت عن ذلك القبض وانشرح صدرها ، فنفخ فيها في ذلك الحين عيسى ، فكان جبرئيل ناقلا كلمة الله لمريم ، كما ينقل الرسول كلام الله لأمّته وهو قوله : " وَكَلِمَتُه ُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْه ُ " . فسرت الشهوة في مريم ، فخلق جسم عيسى من ماء محقّق من مريم ومن ماء متوهّم من جبرئيل سرى في رطوبة ذلك النفخ ، لأنّ النفخ من الجسم الحيواني رطب ، لما فيه من ركن الماء ، فخلق جسم عيسى من ماء متوهّم ومن ماء متحقّق .
وخرج على صورة البشر من أجل أمّه ومن أجل تمثّل جبرئيل في صورة البشر ، حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني إلا على الحكم المعتاد ) .
قال العبد : أمّا سراية الشهوة في مريم فبأمر الله " لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كانَ مَفْعُولًا " ، ولا سيّما وكان الله قبل ذلك أنبأ مريم وبشّرها " بِكَلِمَةٍ مِنْه ُ اسْمُه ُ الْمَسِيحُ " ابن مريم ، أي تولَّد منها روح حين " قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ " .
وإنّما قالت ذلك بحكم العادة المتعارف في التوليد البشري ، فلو غلب عليها إذ ذاك شهود قدرة القدير ، لم تقل ذلك بحكم العرف ، بل بحكم الكشف والشهود .
فقال الملك : " كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ " ، أي خلق الولد بلا مسّ البشر بصورة الوقاع ، " وَلِنَجْعَلَه ُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا " هذا في وقت النفخ .
والذي قبل ذلك وهي في محرابها " إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْه ُ اسْمُه ُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَمن الْمُقَرَّبِينَ " الآية « 6 » ، فانتظرت ذلك من الله .
فلمّا قال جبرئيل : " إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا " تذكَّرت وزال عنها القبض ، فسرت الشهوة من حيث ما اشتهرت ، وتمنّت وقوع ما بشّرها الله به ، فنفخ أمين الله عند انشراح صدرها روح الله .
فخرج منشرح الصدر ، غالبا عليه البسط ، حسن الصورة ، بسّاما ، طليق الوجه ، مستبشرة ، رزقنا الله وإيّاك الاجتماع به يقظة ورؤيا في الدنيا والآخرة ، إنّه قدير .
وأمّا خلق جسم عيسى عليه السّلام من ماء محقّق فمن حيث سراية الشهوة فيها ، ومن ماء متوهّم فمن حيث توهّم مريم أنّ الرسول بشر أو روح في صورة بشرية ، وإذا ظهر الروح في صورة بشرية بأمر الله لإيجاد الولد ، فبما زعمت عرفا لا يكون إلَّا من ماء الرجل ، فتأثّرت بالوهم ، فوجد من ذلك ماء روحاني نوراني ، منه خلق جسم  الروح صلوات الله عليه ثمّ الروح لمّا لم يكن جسمانيا وليس فيه ماء حسيّ عرفا ، ولكن في قانون التحقيق لمّا تحقّقت ممّا أسلفنا في هذا الكتاب أنّ الأرواح وإن كانت غير متحيّزة ولكن في قوّتها ومن شأنها أنّها شاءت أو شاء الحق .
ظهرت في صورة متمثّلة كالمتحيّز وحينئذ أضيف إليها ما يضاف إلى تلك الصورة الجسمية من الأوصاف والأحكام واللوازم ، فلمّا ظهر الروح الأمين لمريم في صورة من شأنها أن يكون الولد عند التوليد من مائها ، أعني صورة البشر السويّ ، أي التامّ الخلق .
فتوهّمت عليها السّلام من حيث هذا السرّ مضافا إلى ما ذكر قبل أن يكون الولد من ماء وبه النفخ الواقع من الصورة الجبرئيلية التمثيلية في صورة البشر .
فظهرت رطوبة الحياة الروحية من ذلك الريح المنفوخ وهو هواء حارّ رطب ، ولا سيّما وجبرئيل سلطان العناصر أجرى في نفسه الرحماني روح الماء والحياة الذي عليه عرش الرحمن ، فتكون صورة الروح الظاهرة من هذا الماء الروحاني الإلهي الرحماني الساري في الماء البشري المريمي القدسي .
وأمّا خروجه على صورة البشر فلأنّ صورته نتيجة الصورة البشرية من جانب جبرئيل ومن جانب أمّه ، فأشبه الأصل ، ولما ذكره سلام الله عليه فاذكر ، حتى لا يكون التكوين والإيجاد الإنسانى إلَّا بالصورة الإنسانية تشريفا لهذه الصورة وتنزيها أن يتكوّن إلَّا عن الإنسان في الإنسان .
فإنّ خلق الإنسان مخصوص بالله من كونه متجلَّيا في صورة إنسانية ، ولهذا خمّر طينة آدم بيديه أربعين صباحا ، فكان الله تبارك وتعالى يتجلَّى في صورة إنسانية وتخمّر طينة في مادّة نورية لاهوتية .
من حيث الأحدية الجمعية البرزخية العظمى التي مرّ مرارا ذكرها ، فتذكَّر ، وكذلك الله ما تجلَّى من حضرة من الحضرات لإيجاد نوع أو جنس فما دونها وما فوقها إلَّا على صورة ذلك النوع والجنس والصنف والشخص الذي يريد إيجاده كائنا ما كان .
وبعد خلقه تامّا كاملا ارتضاه صورة له ، وكان هو ربّه وروحه ، فهو صورة أنانيّة الحقّ ، وهويتها - من حيث ذلك التجلَّي الأوّل الذي تجلَّى لإيجاده - على صورة عينه الثابتة ، فافهم - وما أظنّك تفهم - إن شاء الله العليم .


قال رضي الله عنه : (فخرج عيسى يحيي الموتى ، لأنّه روح إلهي ، وكان الإحياء لله والنفخ لعيسى ، كما كان النفخ لجبرئيل والكلمة لله).
قال العبد : اعلم أن الكلم وإن كانت كثيرة بحسب حضرات المتكلَّم منها ، ولكنّها تنحصر في أمّهات ثلاث :
الأولى : كلمة هي هيئة أحدية جمعية من حروف ظاهرة ملكية شهادية كونية جسمانية كسائر الموجودات الجسمانية ، فإنّ كل موجود موجود جسمانيّ كلمة إلهية كذلك .
الثانية : وكلمة هي هيئة جمعية من حروف باطنة ملكوتية روحانية ، كالموجودات الإبداعية الروحية كالأرواح والعقول والنفوس والملائكة ، فإنّها كلمات رحمانية قدسية طاهرة سبّوحيّة .
والثالثة : كلمة هي هيئة أحدية جمعية بين حقائق حرفية إلهية ، وحروف روحية جسمانية وهي حقائق الكمّل من النوع الإنساني ، ولكنّ الغالب على كل واحد من الكمّل حكم مرتبة من هذه المراتب .
فكانت الكلمة العيسوية المسيحية الظاهرة هيأة أحدية جمعية بين حقائق حرفية إلهية ، وحقائق حرفية روحية إلهية أيضا ، وحقائق حرفية جسمانية روحانية إنسانية في مرتبة البطون ، والغالب على حرف جسمانيته الحروف الروحية والغالب على حرف روحيته الحروف اللاهوتية.
ولهذا قيل فيه : " إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " غلطا من جهة القائل المنحرف .
فلو قالوا : هو الله ، لم يكن غلطا ، فإنّ هوية الصورة العيسوية المسيحية الروحية لله ، كما أنّه هوية الإنيّات كلَّها بلا حصر في شيء منها ، ولكنّهم ادّعوا الحصر ، فكفروا وجهلوا وغلطوا ، فافهم ، فإنّه بحث شريف لطيف عال غال ، حقّقنا الله وإيّاك بتحقّقه وتحقيقه بحسن توفيقه ، إنّه على ما يشاء قدير .
قال رضي الله عنه : (فكان إحياء عيسى للأموات إحياء محقّقا من حيث ما ظهر عن نفخه) .
يعني : من حيث حصول الإحياء عن نفخه ظاهرا رأي عين ، فتصحّ إضافة الإحياء إليه
بمشاهد الحسّ عرفا عاديا وتحقيقا أيضا ، لأنّ هويته الله ، وهو أحدية جمع اللاهوت والروحية والصورة ، فيضاف إليه حقيقة من حيث هويته اللاهوتية ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه : ( كما ظهر هو عن صورة أمّه ) .
يعني رضي الله عنه : في المعتاد من إيلاد الأولاد ، وبهذا الوجه أضيف إلى أمّه ونسب إليها ، فقيل فيه : إنّه عيسى بن مريم ، وهكذا إضافة الإحياء إلى الصورة العيسوية النافخة للإحياء .
 
قال رضي الله عنه : ( وكان إحياؤه أيضا متوهّما أنّه منه ، وإنّما كان من الله ، فجمع لحقيقته - التي خلق عليها كما قلناه - أنّه مخلوق من ماء متوهّم وماء محقّق ، ينسب إليه الإحياء بطريق التحقيق من وجه وبطريق التوهّم من وجه ، فقيل فيه من طريق التحقيق : « وتحيي الموتى » و قيل فيه من طريق التوهّم : " فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي " فالعامل في المجرور يكون « تكون » لا « تنفخ »  ويحتمل أن يكون العامل فيه « تنفخ » فيكون طائرا من حيث صورته الجسمية الحسّية ) .
يشير رضي الله عنه : إلى إنّه لمّا كان أصل خلقته من متحقّق ومتوهّم ، ظهر ذلك في فعله الذي هو فرع عليه متوهّم الإضافة إليه من وجه ، ومتحقّق الإضافة إليه أيضا من آخر ، فاعتبر الحق في العبارة المعجزة القرآنية كلا الوجهين ، لكونهما من مقتضى أصل خلقته ، فقال في الأوّل " فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي " فكان التقدير يكون المنفوخ فيه بإذن الله طائرا ، فيكون العامل في المجرور - أعني « بإذن الله » - « تكون » لا « تنفخ » ، فيكون الموجب لكونه طيرا بإذن الله ، فيكون طائرا بنفخه .
سرّ للخواصّ اعلم : أنّ حقيقة الإذن أمر من الله ، يمكَّن المأذون له من إيجاد الفعل الخارق للعادة الذي لا يضاف إلَّا إلى الله عرفا عاديا .
ثمّ إنّ تمكين الله تعالى للعبد وأمره بذلك إنّما يكون بخصوص استعداد ذاتي للعبد من حيث صورته المعلومية



لله أزلا وعينه الثابتة ، لأنّ الله علم من حقيقة قفداء العبد أنّ له صلاحية في الوجود وقابلية في الحقيقة لمثل هذا التمكين والأمر من الله بخلاف غير المأذون .
فهو من قدم الصدق الذي كان له عند ربّه المليك المقتدر ، اقتضى هذا العبد بتلك الخصوصية من الله هذا النوع من العناية والتمكين ، فأظهر الله في الوجود العيني من العبد هذا التمكين ممّا كان عليه في وجوده العلمي ، فإذن الله هو تمكين العين الثابتة ، وحسن تأتّيها باستعدادها الذاتي للوجود الحق أن يظهر هذا التمكين والإذن فيه بالحق ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه - : ( وكذلك " تُبْرِئُ الأَكْمَه َ وَالأَبْرَصَ " وجميع ما ينسب إليه وإلى إذن الله وإذن الكناية في مثل قوله : " بِإِذْنِي " و " بِإِذْنِ الله " فإذا تعلَّق المجرور بـ « تنفخ » فيكون النافخ مأذونا له في النفخ ويكون الطائر عن النافخ بإذن الله ، وإذا كان النافخ نافخا لا عن الإذن ، فيكون التكوين للطائر طائرا بإذن الله ، فيكون العامل عند ذلك « فتكون » فلو لا أنّ في الأمر توهّما وتحقّقا ، ما قبلت هذه الصورة هذين الوجهين ، بل لها هذان الوجهان ، لأنّ النشأة العيسوية تعطي ذلك ).
قلت : كلّ هذا ظاهر بيّن .
قال رضي الله عنه : ( وخرج عيسى من التواضع إلى أن شرّع لأمّته أن " يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ " وأنّ أحدهم إذا لطم في خدّه وضع الخدّ الآخر أن يلطمه ، ولا يرتفع عليه ، ولا يطلب القصاص منه ، هذا له من جهة أمّه ، إذ المرأة لها السفل ، فلها التواضع ، لأنّها تحت الرجل حكما وحسّا ) .
يعني رضي الله عنه : بقوله : « حكما » ما قال الله تعالى : " الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ


وقوله " لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ " و " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ " وغير ذلك .
قلت : وأمّا حسّا فظاهر .
 
قال رضي الله عنه : ( وما كان فيه من قوّة الإحياء والإبراء فمن جهة نفخ جبرئيل في صورة البشر  فكان عيسى يحيي الموتى بصورة البشر ، ولو لم يأت جبرئيل في صورة البشر وأتى في صورة غيرها من صور الأكوان العنصرية من حيوان أو نبات أو جماد ، لكان عيسى عليه السّلام لا يحيي الموتى إلَّا حين يتلبّس بتلك الصورة
ولو أتى جبرئيل في صورته النورية الخارجة عن العناصر والأركان - إذ لا يخرج عن طبيعته - لكان عيسى لا يحيي الموتى إلَّا حين يظهر في تلك الصورة الطبيعية النورية لا العنصرية مع الصورة البشرية من جهة أمّه ، فكان يقال فيه عند إحيائه الموتى : « هو لا هو » وتقع الحيرة في النظر إليه ) .
 
يشير ضي الله عنه : فيما سردنا وأوردنا من نصّ الفصّ إلى أنّ الإحياء والإبراء من خصائص الأرواح ، لكونها جملة أسماء اللاهوت ، وإحياء عيسى لما أحياء من جهة جبرئيل الأمين ، فإنّ الحياة للأرواح ذاتية ، فإنّها أنفاس رحمانية ، وإحياء عيسى وغيره ممّن أحيا فمن الروح الأمين أو غيره ، فلا يكون الإحياء منه إلَّا إذا كان عيسى على تلك الصورة التي كان عليها جبرئيل حين تمثّل لإلقاء الكلمة إلى مريم .
وفيما ذكر رضي الله عنه : إشارة أيضا إلى أنّ جبرئيل سلطان العناصر ، وأنّ له أن يظهر في السماوات السبع وما تحتها من العنصريات والعناصر لأهلها بأيّ صورة شاء من صور العنصريات بحسب الموطن والمقام والمناسبة واستعداد من ظهر له ، وأنّ صورته الأصلية غير عنصرية ، بل طبيعية نورية ما بين الثامن والسابع ، وأنّه ليس له أن يخرج عن هذه الطبيعة التي هي له بالأصالة إلى ما فوقها إلَّا أن يشاء الله ، فهو لا يتعدّى سدرة المنتهى .

فلو كان تمثّل جبرئيل عند النفخ في صورة عنصر أو عنصرين ، لما كان الإحياء من عيسى إلَّا بعد ظهوره بتلك الصورة ، ولو كان جبرئيل إذ ذاك في صورته الأصلية الطبيعية النورية ، لكان الحكم كالحكم في الواقع ، فلم يكن يحيي عيسى إلَّا إذا ظهر في صورة جبرئيل 
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسوية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:35 am

15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسوية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسوية
الأصلية مع جمعه بين ذلك وبين صورته البشرية من جهة أمّه ، إذ لا يخرج على كل حال عن صورته الأصلية وطبيعته ، فلا بدّ له من الظهور بصورة أصله من جهة جبرئيل ومن جهة أمّه ، حتى لا يخرج بالكلَّية عن طبيعته وصورته الإنسانية .
فيقال فيه :
« هو لا هو » وفات المراد المطلوب وهو إحياؤه وإبراؤه في صورة بشرية ، وإلَّا لكان إحياء عيسى على ذلك التقدير في تلك الصورة الجبرئيلية مع الصورة البشرية ، فيراه الرائي متحوّلا من صورته العيسوية إلى صورته الجبرئيلية ووقعت الحيرة .
 
قال رضي الله عنه : ( كما وقعت في العاقل عند النظر الفكريّ ، إذا رأى شخصا بشريّا من البشر يحيي الموتى - وهو من الخصائص الإلهية - إحياء النطق لا إحياء الحيوان ، بقي الناظر حائرا ، إذ يرى الصورة بشرا بالأثر إلهيا ) .
يعني رضي الله عنه : كان يحيي بالنطق ، فيقول : قم حيّا بالله أو بإذن الله أو باسم الله ، فتخرج الموتى بالنطق والدعاء ، فتجيبه فيما كلَّمها به نطقا ، لا إحياء الحيوان الذي يبقى حيّا عمرا على ما نقل في قصّة أنّه أحيا بنطقه سام بن نوح عليه السّلام فشهد بنبوّته ، ثمّ ترجّع على حالته .
 
قال رضي الله عنه : ( فأدّى بعضهم فيه) أي عند إحيائه الموتى
( إلى القول بالحلول ) يعني نسبوا الإحياء إلى الله حال حلوله في صورة عيسى
( وأنّه هو الله بما أحيا به الموتى ، ولذلك نسبوا إلى الكفر وهو الستر ، لأنّهم ستروا الله الذي أحيا الموتى بصورة بشرية عيسى ، فقال : "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ "  فجمعوا بين الخطأ والكفر في تمام الكلام ). بعد قولهم : إنّ الله هو .
 
وقال : ( لا بقولهم هو الله ) يعني : لم يكفروا بقولهم : إن الله هو ، فإنّ الله هو لنفسه هو .
( ولا بقولهم : المسيح ابن مريم ) بل بما حصروا الله في هوية عيسى بن مريم ، ولم يكفروا بقولهم : إنّ الله هو حملا لهوية عيسى على الله ، إذ هوية عيسى مع هوية العالم كلَّه هو الله المتجلَّي


بوجوده الحق في جميع العالم أبدا ، كما مرّ ، ولكن كفروا بوصفهم هوية الله في صورة ابن مريم على التعيين.
قال رضي الله عنه : ( فعدلوا بالتضمين من الله من حيث أحيا الموتى إلى الصورة الناسوتيّة البشرية بقولهم : ابن مريم وهو ابن مريم بلا شكّ ، فتخيّل السامع أنّهم نسبوا الإلهية للصورة وجعلوها عين الصورة وما فعلوا ، بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء في صورة بشرية هي ابن مريم ، ففصلوا بين الصورة والحكم ، لا أنّهم جعلوا الصورة عين الحكم ) .
 
يعني رضي الله عنه : أنّهم قالوا : " إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " ، ففصلوا بين الصورة المسيحية المريمية وبين الله بالهوية .
ولم يقولوا : الله المسيح بن مريم ، فتخيّل السامع أنّهم نسبوا الألوهية القائمة بذات الله إلى الصورة المسيحية وما فعلوا ذلك ، بل فصلوا بالهوية بين الصورة العيسوية وبين الحكم بحمل اللاهوت على الهوية ، فاقتضت حصر الإلهية في عيسى بن مريم .
 
قال رضي الله عنه : « بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء في صورة بشرية هي ابن مريم » .
أي جعلوا الله بهويته موضوعا ، وحملوا الصورة عليه فحدّدوا الهوية الإلهية وجعلوها محصورة في صورة الناسوت المعيّنة وهي غير محصورة ، بل له هوية الكلّ ، فجمعوا بين الكفر بأنّ الله هو هذا .
فستروا الهوية الإلهية في عيسى ، وبين الخطأ بأنّه ليس إلَّا فيه - أي هي هي هو لا غير ، وقد كان هو عين الكلّ - ولا في البعض ، بل مطلقا في ذاته عن كل قيد وإطلاق ، كما عرفت .
 
قال رضي الله عنه : « كما كان جبرئيل في صورة البشر ولا نفخ ، ثم نفخ ، ففصل بين الصورة والنفخ ، وكان النفخ من الصورة ، فقد كانت الصورة ولا نفخ ، فما هو النفخ من حدّها الذاتي ».
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ هذا الاختلاف كما كان بين حقيقة الصورة البشرية ،
لكون الصورة متحقّقة بلا وجود النفخ ، وليس النفخ من ذاتيات الصورة البشرية ، فكذلك كانت الهوية الإلهية موجودة متحقّقة بلا صورة عيسوية.
وكانت الصورة العيسوية أيضا، قبل ظهور الإحياء الإلهية المنسوبة إليه، من حيث ذاك الإحياء ، فليست هذه الصورة من حدّ الألوهية ، ولا الألوهية وهويّته من حدّها ، فكذلك ولذلك وقع الاختلاف بالفصل في هذه الصورة .
 
قال رضي الله عنه : « فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى ما هو ؟ فمن ناظر فيه من حيث صورته البشرية ، فيقول : هو ابن مريم . ومن ناظر فيه من حيث الصورة المتمثّلة البشرية ، فينسبه لجبرئيل . ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى ، فينسبه إلى الله بالروحية » .
يعني رضي الله عنه : يقول من حيث إنّه أحيا الموتى : هو روح الله ، أو كلمة الله ، أو هو الله ، أو هو ابن الله على الخلاف المشهور بين المسيحيّين ، وأنّه ابن مريم من حيث الصورة الناسوتية ، ومنهم من ينسبه إلى الروح الأمين من كونه نافخا له في الصورة البشرية .
 
قال رضي الله عنه : ( فيقول : روح الله ، أي منه ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه ، فتارة يكون الحق فيه متوهّما - اسم مفعول - وتارة يكون الملك فيه متوهّما ، وتارة تكون البشرية الإنسانية فيه متوهّمة ، فيكون عند كل ناظر بحسب ما يغلب عليه ، فهو كلمة الله وهو روح الله ، وهو عبد الله ، وليس ذلك في الصورة الحسيّة البشرية لغيره ، بل كل شخص منسوب إلى أبيه الصوري لا إلى النافخ روحه في الصورة البشرية ، فإنّ الله إذا سوّى الجسم الإنساني - كما قال : " فَإِذا سَوَّيْتُه ُ " نفخ فيه هو تعالى من روحه ، فنسب الروح في كونه وعينه إلى الله تعالى ، وعيسى ليس كذلك ، فإنّه اندرجت تسوية جسمه وصورته البشرية بالنفخ الروحي ، وغيره - كما ذكرنا - ليس  كذلك ) .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ صورة عيسى تكون بنفخ الروح الأمين ، فجسمه روح متجسّد متمثّل في مادّة ، يعني الرطوبة التي في النفخ للإحياء والحياة ، وغير عيسى ليس كذلك ، لأنّ الملك - بإذن الله - أو الله ينفخ فيه الروح بعد تسوية الجسم وإعداد الصورة البشرية المسوّاة المخلَّقة في الرحم .
 
ثم قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالموجودات كلَّها كلمات الله التي لا تنفد ، فإنّها عين « كن » و « كن » كلمة الله ، فهل تنسب الكلمة إليه بحسب ما هو عليه ، فلا تعلم ماهيتها ، أو ينزل هو - تعالى - إلى صورة من يقول له : « كن » فيكون قول : « كن » حقيقة لتلك الصورة التي نزل إليها وظهر فيها ؟ فبعض العارفين يذهب إلى الطرف الواحد ، وبعضهم إلى الطرف الآخر ، وبعضهم يحار في الأمر ، ولا يدري ) .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الموجودات كلَّها لمّا كانت تعيّنات الوجود الحق وتنوّعات صور تجلَّياته الإلهية ، فهي كلمات الله على ما مرّ مرارا ، ولأنّها صور «كن» فهي تحتمل اعتبارين:
أحدهما : اعتبارها من حيث وجودها الحقّ : فتترك مطلقة على حقيقتها ، فلا تعلم حقائقها ، فإنّها كلمات الله المطلقات ، كهو مطلقا .
والاعتبار الثاني : اعتبار تنزّل الوجود الحق إلى صور التعيّنات ، فيكون المتعيّن عين التعيّن ، فيكون كلمة « كن » إذن عين الصورة ، فذوق بعض العارفين اعتبر الوجه الأوّل ،
فقال : التعيّن عين المتعيّن بذلك التعين ، والمتعين عين الحقيقة المطلقة غير المتعيّنة ، وعلى إطلاقه .
وبعضهم قالوا : نزل عن الإطلاق بالتعين فتعين ، فكان الوجود الحق المتعيّن في كل تعيّن عين التعيّن وبحسبه على التعيين .
وبعضهم رأى احتمال الاعتبارين معا من غير ترجيح ، فحار الحيرة الكبرى التي للأكابر . وأمّا أهل الأكملية من أرباب الكمال فلم يحاروا ، بل قالوا بتحقّق الأمرين معا دائما في كل عين عين ، وهذا الذوق من مشرب الختم ، ويختصّ بالخاتميّين والمحمديّين ، جعلنا الله وإيّاك منهم .
 
قال رضي الله عنه : « وهذه مسألة لا يمكن أن تعرف إلَّا ذوقا كأبي يزيد - رضي الله عنه - حين نفخ في النملة التي قتلها ، فحييت ، فعلم عند ذلك بمن ينفخ فنفخ ، وكان عيسويّ المشهد».
يشير : إلى أنّ معرفة الإحياء وكيفية نسبته إلى الحق في صورة عبده أو إلى النافخ بالله لا تحصل إلَّا بالذوق ، فمن لم يحي ولم يحي هكذا شهودا محقّقا ، لم يعرف ، ذوقا كيف الإحياء ؟ فإنّ الكيفيات لا تعلم بالحكاية ، وهو لا يتحكَّى كما قيل قبل .
 
قال رضي الله عنه : « وأمّا الإحياء المعنوي بالعلم فتلك الإحياء الإلهية الذاتية العلمية النورية التي قال الله فيها : " أَوَمن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناه ُ وَجَعَلْنا لَه ُ نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُه ُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها " فكلّ من أحيا نفسا ميتة بحياة علميّة في مسألة خاصّة متعلَّقة بالعلم بالله ، فقد أحياه بها وكانت له نورا يمشي به في الناس  أي بين أشكاله في الصورة » .
يعني رضي الله عنه : أنّ الإحياء المعنويّ الحقيقيّ هو إحياء النفس الميتة بالجهل بالعلم ، فإنّه الحياة الحقيقية لنفوس العالمين العارفين بالله في الطبقة العليا ولنفوس الموتى بالجهل لله وأسمائه وآياته وكلماته وأنبائه.
 ولكن لا مطلقا في جميع مراتب العلم الكونيّ - أعني ليس لكلّ علم هذه الحياة والإحياء - بل هو العلم بالله خاصّة ، وقد أعطى الله ذلك لكمّل أوليائه وندّر الأفراد ، فهم يحيون بنفائس أنفاسهم نفوس المستعدّين ، ويفيضون عليهم أنوار الحياة العلمية النورية الذاتية ، وذلك أنّهم

أقيموا في مقام التحقّق بالعليم وعلَّام الغيوب وعالم الغيب والشهادة وبالحيّ المحيي بهذه الحياة العلمية الإلهية الذاتية النورية ، وهي مخصوصة بالله ومن أحياه بهذا العلم خاصّة من خاصّة الخاصّة وصفوة الخلاصة ، فأقامهم الله به وقام بهم ، وهذا الإحياء مثل إحياء الموتى صورة ، فإنّ كلا من خصائص الله ومن أعطاه ذلك وأذن له أو أمره به .
بل هو أعني الإحياء بالحياة العلمية أعلى وأرفع ، لأنّه إحياء النفوس والأرواح ، وذلك إحياء الأجسام والأشباح ، ولكن لمّا قلّ طلَّاب هذه الحياة وكثر طلَّاب الآخرة ، وجد حصول هذا من كمّل الرسل والأنبياء والأولياء ، وشوهد كثيرا .
ولم يشهد إحياء الأجسام والموتى في الناس إلَّا في عيسى ومن كان عيسويّ المشهد من الأولياء ، وذلك بالنادر مع توفير الرغبات في ذلك ، واستشراف النفوس إلى ذلك ، استعظموا ذلك ، لعزّته وعدم الظفر به ، وأنّه - والله - عظيم ولكن إحياء النفوس بهذه الحياة العلمية النورية أعظم وأعزّ وأشرف ، لكون الأرواح والنفوس أشرف من الأجسام ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( فلولاه ولولانا  .... لما كان الذي كانا)
يعني - رضي الله عنه - : أنّه لا بدّ في كون الأفعال الكونية والإلهية من الله من صدور وجود أعيانها ، ولا بدّ أيضا من الحقائق الكلَّية الكمالية العبدانية القابلة للوجود الحق الواحد وأكوانه الفعلية من التجليات والتعيّنات ، فنحن بعبوديّتنا ومألوهيّتنا ومربوبيتنا نظهر كونه ذا أسماء وتجلَّيات.
والله بإلهيته وربوبيته يفيض علينا الوجود وعلى الأكوان وعلى الأفعال الصالحة ، إضافة إلى الله من وجه ، و إلينا من وجه ، ولا بدّ منه .
كما قلنا في الغرّاء التائية :
فلا بدّ منه ....   إنّه كلّ بدّنا
ولا بدّ منّا ....  في أصحّ الأدلَّة
قال رضي الله عنه  :
(فإنّا أعبد حقّا ..... وإنّ الله مولانا)
(وإنّا عينه فاعلم  ..... إذا ما قلت إنسانا)
 
يعني : أنّ المظهر كهو في ذاته بخلاف غير الإنسان من الأعيان ، وإن كان الحق عين الكلّ وعين كلّ عين ، ولكن كون الحق في كل عين بحسبها لا بحسب الحق ، فلا يصحّ فيها أن يقال : إنّ هذا العين عين الحق ، بخلاف الإنسان مع كون الحق عينه يكون هو عين الحق .
 
قال رضي الله عنه  :
(فلا تحجب بإنسان ......   وقد أعطاك برهانا )
يعني : أنّ الإنسان وإن كان في العرف اسما من أسماء الأكوان من حيث شخصه ، ولكنّه في الحقيقة هو اسم للحق مع كونه - تعالى - عين الأعيان والوجود والمراتب ، فإنّ الحق من كونه إنسانا هو عين العالم لا من كونه ربّا إلها ، فإنّ الإله إله أبدا لا مألوه ، والربّ ربّ أبدا لا مربوب ، والإنسان - برزخيّة بين بحرى الربوبية والمربوبية - عين البحرين ، فافهم ، فإنّه البرهان الذي أعطاكه الإنسان .
 
قال رضي الله عنه - :
(فكن حقا وكن خلقا   ...... تكن بالله رحمانا)
يشير رضي الله عنه : إلى تمام المدّعى أنّك بإنسانيتك وبرزخيتك لك أن تكون عين الحق ، فتقوم بك جميع الأشياء الإلهية ، ولك - بما ذكرنا كذلك - أن تكون خلقا فتكون في أعمّ الحقائق والأعيان ، فتعمّ الحق بمظهريتك الكلَّية الجامعة للذات الإلهية والأسماء كلَّها ، وتعمّ الخلق برحمة الله وفيضه الواصل إلى العالم كلَّه ، من كونك خليفته والواسطة ، وتقوم بجميع ما يحتاج العالم إليه وتسعه ، فتسع الحق والخلق بعين ما وسع الحقّ بك ذلك ، فتكون رحمانا ، لعموم وجودك .
 
قال رضي الله عنه :
( وغذّ خلقه منه   ..... تكن روحا وريحانا)
يشير رضي الله عنه :  إلى ما قرّرنا من قبل أنّ الحقّ بالوجود غذاء الخلق ، إذ به قوامه وبقاءه وحياته ، كالغذاء به يكون قوام المغتذي وحياته وبقاؤه .
وكذلك تغذّي أنت بالوجود الحق الفائض جميع الخلق ، لأنّك النائب في ذلك عن الله ، وكذلك تغذّي الوجود الحقّ بأحكام الكون وصوره ، وتوجد بذلك له أسماء وصفات ونعوتا وأحكاما ونسبا وإضافات ، وبهذا تكون روحا للحقائق الكونية العدمية تريحها بالوجود عن العدم ، وتروّحها عن ظلمتها بنور القدم ، وكذلك تكون ريحانا للوجود الحق بالروائح الخلقية الكيانية والنشآت الصورية الإمكانية .
 
قال رضي الله عنه  :
(فأعطيناه ما يبدو ..... به فينا وأعطانا)
( فصار الأمر مقسوما  ..... بإيّاه و إيّانا )
أي أعطانا الحق من خصوصيات قابلياتنا ما يظهر به فينا في تعيّنه بنا ، وأعطانا وجودا به أيضا ظهورنا لنا ، فصار الأمر الوجودي ذا وجهين له نسبة إلينا ونسبة إليه ، فيقسم في العقل قسمين لا في العين فقرّبنا عين العينين ، ولهذا سمّانا إنسان العين لأهل الإشارة والفوز بالحسنيين في الطرفين .
قال رضي الله عنه  :
( فأحياه الذي يدري .... بقلبي حين أحيانا )
(وكنّا فيه أكوانا    ......   وأزمانا وأعيانا )
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الحقائق الكلَّية الإنسانية أعيان الشؤون الذاتية الإلهية ، والوجود الحق مظهر ومجلى لتلك الأعيان ، فإنّا نحن فيه أكوانه الأزلية التي كان بنا ولم نكن معه لأعياننا ، لكوننا عين كونه الذي كان ولم نكن في غيب العلم الأزلي .
وكذلك في الوجود العيني بكوننا ، ويكون سمعنا وبصرنا وأعياننا وقوانا وجوارحنا في قرب النوافل ، ونكون أيضا كذلك سمعه وبصره ولسانه وأعيان أسمائه وأكوانه .
وأمّا كوننا أزمانا فيه فمن حيث إنّ مظهرياتنا موجبة لتقدّر الاسم الدهر ، فإنّ مبدأ إضافة الوجود وتعيّنه امتداد النفس الرحماني والفيض الوجودي إلى أبد الأبد ، لا يتقدّر ولا يتعين إلَّا بحسب القوابل ، والزمان مقدار حركة الفلك المحيط عرفا فلسفيا  وهو عند المحقّق صاحب الكشف صورة الزمان لا حقيقته ، وحقيقته معنى امتداد أمداد الأنفاس الرحمانية والتجلَّيات الوجودية بالتعلَّقات الإرادية الإلهية إلى الحقائق والأعيان لإيجاد الأكوان في حضرة الإمكان .
 
فلو لا الحقائق الكيانية ، وأقدارها في قابلياتها وخصوصياتها في مراتبها الذاتية ، وتقدّمها وتأخّرها المرتبتان الذاتيتان ، لما تعيّنت المقادير الإيجادية ، فنحن بكمال قابلياتنا وسعتها نقبل أمداد الأنفاس الرحمانية بالتقدّم وبالتأخّر في القابليات الناقصة التابعة ، فإنّ الحقائق منها تابعة ومنها متبوعة ، وملزومة ولازمة ، ولوازم لوازم وعوارض ولواحق .
فالحقائق المتبوعة الملزومة الكاملة تقبل الوجود أوّلا ومنها ينفذ نور الوجود إلى التوابع واللوازم وما ذكر ، فتحقّق بين المبادي والغايات حقيقة التقدّم والتأخّر الذاتي والمرتبي بحقيقة معقولية امتداد الوجود من أوّل قابل - مثلا - إلى آخر موجود .
فحقيقة الزمان معقولية ذلك الامتداد ، ومعقولية تعلَّقه بكل عين عين حقيقة الآن الذي لا ينقسم ، فإنّ تعلَّق النور النفسي الوجودي الحق بكل عين غير قبوله باستعداده الذاتي ، ومعقولية أحدية جمع الامتدادات والتعلَّقات النورية الوجودية النفسية الإلهية إلى ما لا يتناهى حقيقة الاسم الدهر ، فمن حيث إن الوجود بنا وبحقائقنا يتقدّر ويتعين كنّا فيه أزمانا .
 
وقد قال بعض المحقّقين من أهل الحق :
الوقت وعاء لما قدّر أو فيه ، ونحن كذلك أوعية لما يتقدّر فينا من التجلَّي والتعين وتنوّعاتهما إلى الأبد ، فافهم .
وفيه إشارة أيضا إلى أنّا بحقائقنا وأعياننا الثابتة كنّا في الحق قبل قبول الوجود أزمانا لا تعرف أوّليّة ، إذ لا مبدأ وأزماننا بمعنى الحقيقة الذاتية ، لا بصورة الزمان ، فافهم ذلك .
 
قال رضي الله عنه :
( وليس بدائم فينا   .... ولكن ذاك أحيانا )
يشير إلى ما قاله زين العابدين عليه السّلام : « لنا وقت يكوننا فيه الحق ولا نكونه » وإلى قوله صلى الله عليه وسلم « لي مع الله وقت » وهو زمان غلبة حقّية الإنسان الكامل على خلقيته ، وليس ذلك بدائم فيه ، فإنّ ذلك مقتضى الحقيقة الإنسانية الكمالية ، فإنّه الحق الخلق الجامع بين بحري الوجوب والإمكان ، المطلق في جمعه بين الحقّية والخلقية عن الجمع والإطلاق دائما ، فليس له أن يكون على الدوام حقا محضا ، فإنّ ذلك لحقيقة الحق لا غير ، لا شريك له في خصوصه سبحانه .
 
وفي هذا المقام سرّ للخواصّ وهو :
أنّ الإنسان الكامل في كل عصر يقابل دائما بمألوهيته ومربوبيته وعبوديته الذاتية وخلقيته الكاملة حضرة الألوهية ، والربوبية والحقّية ، وكذلك يقابل بربوبيته وبما فيه من الألوهة وصورة الله من جهة خلافته وتحقّقه بجميع الأسماء الإلهية حضرة الكون والخلق بالإمداد والفيض الواصل إلى العالم بواسطته ولا بدّ ، وإلَّا فلا يكون خليفة ، فهو يسع بأحد طرفيه ما يقابله من الحقية والخلق ، وبجمعه بينهما يحاذي ويقابل الجمعية الإلهية بين حضرات الأسماء والمسمّيات وحقائق المسمّيات - بكسر الميم اسم فاعل - والمعيّنات كذلك وهي - دون تعيّن حقا وخلقا - جانب إطلاق الحق ، فهو من هذا الوجه حق دائما ، وخلق دائما ، جامع بينهما ، مطلق في كل ذلك ، كما هو ربّه ، فيكون على هذا الذوق .
قوله رضي الله عنه : « وليس بدائم فينا » فافهم هذا السرّ .
 
قال رضي الله عنه : ( وممّا يدلّ على ما ذكرناه في أمر النفخ الروحاني مع صورة البشر العنصري هو أنّ الحق وصف نفسه بالنفس الرحماني ولا بدّ لكل موصوف بصفة أن يتبع الصفة جميع  ما تستلزمه تلك الصفة ، وقد عرفت أنّ النفس في المتنفّس لم يلزمه ، فلذلك قبل النفس الإلهيّ صور العالم .
فهو لها كالجوهر الهيولاني ، وليس إلَّا عين الطبيعة ، فالعناصر صورة من صور الطبيعة ، وما فوق العناصر وما تولَّد عنها فهو أيضا من صور الطبيعة وهي الأرواح العلوية التي فوق السماوات السبع ،  وأمّا أرواح السماوات السبع وأعيانها فهي عنصرية ، فإنّها من دخان العناصر المتولَّد عنها ، وما يكون عن كل سماء من الملائكة فهو منها ، فهم عنصريون ، ومن فوقهم طبيعيون ، ولهذا وصفهم الله بالاختصام ، أعني الملأ الأعلى ، لأنّ الطبيعة متقابلة ، والتقابل الذي في الأسماء الإلهية التي هي النسب إنّما أعطاه النفس ، ألا ترى الذات الخارجة عن هذا الحكم كيف جاء فيها الغنى عن العالمين ؟ فلهذا خرج العالم على صورة من أوجدهم وليس إلَّا النفس الإلهيّ  ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ النفس لمّا نسب إلى الرحمن وكان صفة له ، فإنّه يضاف وينسب إلى الحق الرحمن جميع ما يستلزمه النفس من التنفيس وقبول صور الحروف والكلمات الكونية والأسماء الإلهية والحرارة والرطوبة والحياة وسرّ التقابل الذي في حقيقة الجمعية الأحدية والنفسية الرحمانية .
فإنّ النفس عبارة عن الوجود الفائض بمقتضيات الأسماء الإلهية ومقتضيات قوابلها وحقائقها جميعا ، فله أحدية جمع الجمعين مع الوجود بين المتقابلات والمتماثلات والمتنافيات والمتشاكلات الإلهية والكونية جميعا ، وفيه أيضا سرّ الجمع بين الفعل والانفعال ، والهيولانية المّادّة القابلة للصور كلَّها والطبيعة الفعّالة لها فيه ، كما قد أشرنا إلى كل ذلك في الفصّ الآدمي والشيثي وغيرهما بما فيه مقنع للأولياء ، فاذكر .
 
ونزيد هاهنا بما لم يذكر وهو أنّ الطبيعة الكلَّية وإن كانت - كما ذكرنا - هي الحقيقة الفعّالة للصور كلَّها إلهيّها وكونيّها ، علوا وسفلا ، فإنّها أيضا عين المادّة التي حصرت قوابل العالم كلَّه ، ففيه قابلية هيولانية لأن يفعل في النفس جميع الصور ، فهي بانفعالاتها المادية الهيولانية تفعل صور الفاعليات الأسمائية أيضا من الوجود الحق ، فهي فاعلة من وجه ، منفعلة من آخر ، لحقيقتها الجمعية الأحدية النفسية ، فإنّها عين النفس الممتدّ من حقيقة الحقائق الكبرى بأحدية جمع الحقائق الفعلية والانفعالية جامعا لحقائق المراتب والوجود ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه : ( فبما فيه من الحرارة علا في الصور الأسمائية الربانية ، وبما فيه من البرودة سفل).
يعني رضي الله عنه : في الصور الكيانية والعوالم الإمكانية
قال رضي الله عنه : ( وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل ، فالرسوب للبرودة والرطوبة ، ألا ترى الطبيب إذا أراد سقي دواء لأحد ، ينظر في قارورة مائه ، فإذا رآه رسب ، علم أنّ النضج  قد حصل ، فيسقيه الدواء ليسرع في النجح ، وإنّما رسب لرطوبيته وبرودته الطبيعية ، ثمّ إنّ هذا الشخص الإنساني عجن طينته بيديه وهما متقابلتان وإن كانت كلتا يديه يمينا ، فلا خفاء بما بينهما من الفرقان ، ولو لم يكن إلَّا كونهما اثنتين أعني اليدين ، لأنّه لا يؤثّر في الطبيعة إلَّا ما يناسبها ، وهي متقابلة فجاء باليدين ) .
 
يشير رضي الله عنه :  في كلّ ذلك إلى أنّ التقابل في الأمر الواحد من جهتين مختلفتين موجود ومشهود ، وأنّ الطبيعة التي لها التضادّ والتقابل عامّة الحكم في الصور الأسمائية والكونية ، ولولا أنّ في حقيقة الحق قبول كلّ ذلك ، لما وجدت هذه المتقابلات منها .
ولأنّ في طبيعة البشر جمعا بين المتقابلات توجّه الحق في إيجاده باليدين المتقابلتين ، وهما الفعل والانفعال اللذين في حقيقتي الربّ والمربوب ، والإله والمألوه في الذات ، أو الجلال والجمال ، واللطف والقهر في الإلهيات ، وكل ذلك مشير إلى التقابل في الأصل ، فافهم .
.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسوية الجزء الثالث .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:36 am

15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسوية الجزء الثالث .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
15 - فصّ حكمة نبويّة في كلمة عيسوية
قال رضي الله عنه : ( ولمّا أوجده باليدين سمّاه بشرا للمباشرة اللائقة بذلك الجناب باليدين المضافتين إليه ، وجعل ذلك من عنايته لهذا النوع الإنسانيّ ، فقال لمن أبي عن السجود له : " ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ " على من هو مثلك يعني عنصريا " أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ " عن العنصر ولست كذلك . ويعني بالعالين من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النورية عنصريّا وإن كان طبيعيّا ، فما فضل الإنسان غيره من الأنواع العنصرية إلَّا بكونه بشرا من طين ، فهو أفضل نوع من كل ما خلق من العناصر من غير مباشرة باليدين ) .
يعني : من كونه باشر الله خلقه بيديه ، وهو حقيقة الجمع بين المتقابلات والمتماثلات كلَّها .


قال رضي الله عنه : ( فالإنسان في الرتبة فوق الملائكة الأرضية والسماوية ، والملائكة العالون خير من هذا النوع الإنساني بالنصّ الإلهي ) .
يعني : أنّ الملائكة العالين وهم المهيّمة في سبحات وجه الحق - لفناء خلقيتهم واستهلاكهم عن أنفسهم وعن سوى الحق في الحق خير من نوع الإنسان الحيوان لا الإنسان الكامل ، لكون هذا النوع حقيقتهم مستهلكة في خلقيتهم ونوريتهم في ظلمتهم ، بعكس الملائكة العالين ، وقد ذكرنا فتذكَّر .
 
قال رضي الله عنه : ( فمن أراد أن يعرف النفس الإلهي ، فليعرف العالم ، فإنّ من عرف نفسه عرف ربّه الذي ظهر فيه : أي العالم ظهر في نفس الرحمن الذي نفّس الله به عن الأسماء الإلهية ما تجده من عدم ظهور آثارها بظهور آثارها فامتنّ على نفسه ) .
يعني: على أسمائه ونسبه وشئونه الذاتية ، فإنّها فيه عينه لا غيره ، فامتنّ عليها
قال رضي الله عنه : ( بما أوجده في نفسه ، فأوّل أثر كان للنفس إنّما كان في ذلك الجناب ، ثم لم يزل الأمر ينزل بتنفيس الهموم إلى آخر ما وجد ) .
قال العبد : هذه المباحث ذكرت مرارا ، فلا حاجة إلى الإعادة .
قال رضي الله عنه :
(فالكلّ في عين النفس   .... كالضوء في ذات الغلس)
يشير - رضي الله عنه - إلى أنّ صور الأسماء الإلهية والحقائق الوجوبية وصور الممكنات والحقائق الكونية المربوبية في عين النفس كالضوء في المادّة المشتعلة بالنور ، فالربّ بصور جميع الحقائق الربانية الحقّية في عماء الربّ في أعلى النفس والخلق ، وكذلك تصوّر جميع الحقائق الخلقية منها في عماء الكون من هذا النفس ، فتذكَّر .
قال رضي الله عنه :
(والعلم بالبرهان في  .... سلخ النهار لمن نعس )
(فيرى الذي قد قلته   ...... رؤيا تدلّ على النفس)
 
يشير إلى أنّ العلم بالنفس وما ذكرت من لوازمه لا ينال إلَّا بالكشف .
وأمّا البرهان الفكري - بتركيب المقدّمات واستنتاج النتائج منها والاستدلال بذلك على المطالب - فليس إلَّا لمن سلخ نهار الكشف عن يوم عمره ، فهو في ليل الحجاب والغفلة نائم عن التجلَّي الوجودي والنهار الكشفي الشهودي والفيض الدائم النوري الجودي ، تهبّ عليه مع الأنفاس فوائح روائح الأنفاس ، وهو لا يهبّ من النعاس ، يعتبر في تعبير رؤياه في المنام ، حقائق ما قلت ممّا يدلّ على النفس عند الكاشف العلَّام ، أنّها أضغاث أحلام .
 
قال رضي الله عنه :
(فيريحه عن كلّ  ..... كرب في تلاوته عبس) 
يشير إلى أنّ الذي تذكَّره ويذكره إن هو تفكَّر فيه فتدبّره يريحه عن كلّ كرب وضيق يجده في ظلمة حجابه بما أكشف له وأشهده وألقّنه على وجهه سرّ " وُجُوه ٌ يَوْمَئِذٍ ( مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ ) مُسْتَبْشِرَةٌ " بعد عبوسه في تلاوة " عَبَسَ وَتَوَلَّى " حال جهله بمن هو دائما كان عليه يتجلَّى .
 
قال رضي الله عنه  :
( ولقد تجلَّى للذي  ..... قد جاء في طلب القبس)
يعني : طالما انجلى هذا السرّ الخفيّ لمن طلب الحق الجليّ ، كما ظهر لموسى بن عمران لمّا كان مجدّا في طلب الجذوة ، فرآه رأي العيان .
 
قال رضي الله عنه :
(فرآه نارا وهو نور  .... في الملوك وفي العسس)
يعني : تجلَّى له نور وجهه في مثال النار على صورة الشجرة ، فظنّه نارا وكان نورا هو نور الأنوار ، فلم يعبّر رؤياه ولم يعبر عن صورة مطلبه الطبيعي إلى حقيقة ما رآه ، فلو عبّر ، وعبر ، واعتبر الحقيقة ، واستبصر ، لعلم أنّه النور الحق المتجلَّي في الملوك والشرفاء العلويّين والعمّال في أدنى الأعمال الليلية الحجابية السفليّين ، فإنّ ظهوره بحسب القوابل ، وإلَّا فهو هو في الأواخر والأوائل .
 
قال رضي الله عنه  :
( فإذا عرفت مقالتي ....   تعلم بأنّك مبتئس )
إذا فهمت ما قلت ، فهمت فيما نلت ممّا أعطيتك ، ونلت أنّك في طلب أمر سواه فقير مبتئس ، ومغبون ، سحر ، مفلس " كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُه ُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَه ُ لَمْ يَجِدْه ُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِنْدَه ُ " حاضرا لم يزل ، وبدا له من الله ما لم يحتسب ولم يتخيّل .
 
قال رضي الله عنه :
(لو كان يطلب غير ذا  .... لرآه فيه وما نكس )
يعني : أنّ موسى ما طلب غير النار ، فلمّا بلغ غاية طاقته في الجهد والطلب ، تجلَّى له الحق في صورة مطلوبه ، ولو طلب غير ذلك ، لرآه في ذلك الآخر ، وأنت أيضا حيث تطلب أمرا سواه ، فاعلم أنّك محجوب ، فمطلوبك في زعمك ومبلغ علمك ، فمحتجب عنك بصورة مطلبك الله ، فطوبى لمن لم تتعلَّق همّته بغير مولاه ، ولم يطلب طول عمره إلَّا إيّاه .
 
قال رضي الله عنه  : ( وأمّا هذه الكلمة العيسوية لمّا قام لها الحق في مقام « حتى نعلم ويعلم » استفهمها عمّا نسب إليها هل هو حق أم لا ؟ مع علمه الأوّل بهل وقع ذلك الأمر أم لا ؟
فقال له : " أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ من دُونِ الله " فلا بدّ من الأدب في الجواب للمستفهم ، لأنّه لمّا تجلَّى له في هذا المقام وبهذه الصورة ، اقتضت الحكمة الجواب في التفرقة بعين الجمع ، فقال - وقدّم التنزيه - : « سُبْحانَكَ » فحدّد بالكاف الذي يقتضي المواجهة والخطاب ) .
يعني : لمّا تجلَّى الحق لتحقيق العلم المطلق في التعيّن المقيّد - مع أنّ الحقيقة تقتضي الوحدة - فقام بعيسى مقام المخاطبة وثنّى وانفرد ، وكلّ منهما بتعيّنه الاختبار بأنّه هل يعلم مع علمه عمّا يستفهمه ، وهذا معنى قيام الحق له في مقام « حَتَّى نَعْلَمَ » من حيث تعيّننا في مادّة هذا التجلَّى والمادّة العيسوية .
وحتى يعلم هو من كونه هو ، لا من كونه نحن ، فحدّد عيسى بكونه عبدا مخاطبا ، فقال : " أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ من دُونِ الله "  فاقتضت الحكمة العيسوية أن يثبت للتجلَّي بحسبه ، فأفرد الحق أيضا كذلك وحدّده بالكاف في " سُبْحانَكَ " كما أفرده الحق وحدّده في " قُلْتَ " وأجابه في التفرقة بعين الجمع كما خاطبه الحق .
قال : « " ما يَكُونُ لِي " من حيث أنا لنفسي دونك " أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ " .
يعني : من حيث الامتياز والانفراد دونك من حيث التعين ما ليس لي بحق أن أقول مثل هذا ، فليس حقّا للمتعيّن المتقيّد أن يدعو إلى نفسه مطلقا من دون الله بالعبادة .
 
ثمّ قال رضي الله عنه : ( أي ما تقتضيه هويّتي ولا ذاتي ذلك " إِنْ كُنْتُ قُلْتُه ُ فَقَدْ عَلِمْتَه ُ " لأنّك أنت القائل ، ومن قال أمرا ، فقد علم ما قال ، وأنت اللسان الذي أتكلَّم به ، كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربّه في الخبر الإلهي . فقال : « كنت لسانه الذي يتكلَّم به » فجعل هويته عين لسان المتكلَّم ونسب الكلام إلى عبده . ثم تمّم العبد الصالح الجواب بقوله : " تَعْلَمُ ما في نَفْسِي " والمتكلَّم الحق ، ولا أعلم ما فيها من كونها أنت ، فنفى العلم عن هوية عيسى من حيث هويته لا من حيث إنّه قائل وذو أثر ) .
يعني : أنّ القائل والمتكلَّم حق ، لما قدّم أنّ الحق عين لسانه .
قال : (" إِنَّكَ أَنْتَ " فجاء بالفصل والعماد ،تأكيدا للبيان واعتمادا عليه أن لا يعلم الغيب إلَّا الله).


يعني : أكَّد المخاطبة بالتفرقة في عين الجمع بالفصل والعماد ، وهو تحقّق الإفراد للحق المطلق من حيث تعيّنه في إطلاقه وفصله عن تعيّنه الشخصي ونسبة العلم كلَّه إلى الله في الإطلاق والتقييد والجمع والفرق ، فإنّه هو علَّام الغيوب .
 
قال رضي الله عنه : « وفرّق وجمع ووحّد وكثّر ووسّع وضيّق » .
يعني بالتفرقة إفراد المخاطب عن المخاطب ، وبالجمع أنّه جعل الله في المادّة العيسوية وفي كل عالم من العالم وفي ذاته مطلقا ، وكثّر من حيث هذا الفرقان ، ووحّد من حيث الجمع ، وضيّق ووسّع كذلك .
 
قال رضي الله عنه : « ثم قال متمّما للجواب : “ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به “ فنفى أوّلا مشيرا إلى أنّه ما هو ثمّ »
يعني في قوله : « ما قُلْتُ لَهُمْ » ) ثم أوجب القول أدبا مع المستفهم (
يعني في قوله : « إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به » .
قال رضي الله عنه  : ) ولو لم يفعل كذلك ، لاتّصف بعدم علم الحقائق وحاشاه من ذلك ، فقال : « إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به » وأنت المتكلَّم على لساني وأنت لساني ( .
قال رضي الله عنه : « فانظر إلى هذه التنبئة الروحية ما ألطفها وأدقّها ! »
يعني في قوله : « ما أَمَرْتَنِي » مع أنّه عينه ، فأفرد الحق بتاء الكناية عن المخاطب ، وحدّد نفسه وميّزه من حيث مأموريته بياء كناية المتكلَّم « أَنِ اعْبُدُوا الله » فجاء بالاسم « الله » لاختلاف العبّاد في العبادات واختلاف الشرائع ، ولم يعيّن اسما خاصّا دون اسم ، بل جاء بالاسم الجامع للكلّ
ثم قال الشيخ رضي الله عنه :  ( « رَبِّي وَرَبَّكُمْ » ومعلوم أنّ نسبته إلى موجود ما بالربوبية ليست عين نسبته إلى موجود آخر .
فلذلك فصّل بقوله : « رَبِّي وَرَبَّكُمْ » بالكنايتين : كناية المتكلَّم وكناية المخاطب . « إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به » فأثبت نفسه مأمورا وليست سوى عبوديته ، إذ لا يؤمر إلَّا من يتصوّر منه الامتثال وإن لم يفعل ، ولمّا كان الأمر ينزل بحكم المراتب ، لذلك ينصبغ كلّ من ظهر في مرتبة ما بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة ، فمرتبة المأمور ، لها حكم يظهر في كل مأمور ، ومرتبة الآمر ، لها حكم يبدو في كل آمر ، فيقول الحق : “ أَقِيمُوا الصَّلاةَ “ فهو الآمر ، والمكلَّف المأمور .
ويقول العبد “ اغْفِرْ لِي “ فهو الآمر ، والحق المأمور ، فما يطلبه الحق من العبد بأمره هو بعينه ما يطلبه العبد من الحق بأمره » يعني الإجابة « ولهذا كان كلّ دعاء  مجابا ولا بدّ وإن تأخّر ، كما تتأخّر بعض المكلَّفين ممّن أقيم مخاطبا بإقامة الصلاة ، فلا يصلَّي في وقت فيؤخّر الامتثال ويصلَّي في وقت آخر إن كان متمكَّنا من ذلك ، ولا بدّ من الإجابة ولو بالقصد .
(ثم قال : “ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ “ ولم يقل : على نفسي معهم .
كما قال : “ رَبِّي وَرَبَّكُمْ “ ، " شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ " لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم . " فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي " أي رفعتني إليك وحجبتهم عنّى وحجبتني عنهم.
" كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " في غير مادّتي بل في موادّهم ، إذ كنت بصرهم الذي يقتضي المراقبة ، فشهود الإنسان نفسه شهود الحق إيّاه ، وجعله باسم « الرقيب »)  لأنّه جعل الشهود له 
يعني : بعين شهودهم أنفسهم بالحق ، فأراد أن يفصل بينه وبين ربّه حتى يعلم أنّه هو ، لكونه عبدا في الواقع وأنّ الحق هو الحق ،لكونه ربّا له ، فجاء لنفسه بأنّه شهيد وفي الحق بأنّه رقيب .
يعني : لأنّ الشهيد يكون بالنسبة إلى وقت دون وقت وبالنسبة إلى مشهود دون مشهود ، والرقيب يقتضي دوام الرقبى إلَّا إذا أضيف إلى الحق الدائم الوجود ، فيقتضي دوام الشهود ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه :  ( وقدّم « هم » في حق نفسه ، فقال : " عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ " إيثارا لهم في التقدّم وأدبا ) .


يعني: إيثار التربية والرقيب  بلا وساطة كله لأمرهم إلى ربّهم وربّه وأدبا مع ربّهم .
 
قال رضي الله عنه : ( وأخّر « هم » في جانب الحق عن الحق في قوله : " الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " لما يستحقّه الربّ من التقدّم في الرتبة .
وأعلم  أنّ للحق الرقيب الاسم الذي جعله عيسى لنفسه وهو « الشهيد » في قوله :
" عَلَيْهِمْ شَهِيداً " فقال "َأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " فجاء بـ « كلّ » للعموم وبـ « شيء » لكونه أنكر النكرات .
وجاء بالاسم الشهيد فهو الشهيد على كل مشهود بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود ، فنبّه على أنّه - تعالى - هو الشهيد على قوم عيسى حين قال : " وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ " فهي شهادة الحق في مادّة عيسوية ، لما ثبت أنّه لسانه وسمعه وبصره .
ثم قال كلمة عيسويّة ومحمدية ، أمّا كونها عيسويّة فإنّها قول عيسى بإخبار الله في كتابه . وأمّا كونها محمدية فلموقعها من محمّد صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي وقعت منه ، فقام بها ليلا كاملا يردّدها لم يعدل إلى غيرها ، حتى طلع الفجر " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " و « هم » ضمير الغائب كما أنّ « هو » ضمير الغائب
كما قال : " هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا " بضمير الغائب ، فكان الغيب سترا لهم عمّا يراد بالمشهود الحاضر ، فقال : " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ " بضمير الغائب ،وهو عين الحجاب الذي هم فيه عن الحق ).
 
يعني : حجاب تعيّن عيسى وحجابيّتهم ، فإنّهم إنّما حجبوا بالصورة الشخصية التعيّنية وحصروا الحق فيه ، فكفروا أي ستروا وغابوا عن الحق المتعيّن فيه وفيهم وفي الكلّ من غير حصر ، وذلك الحجاب الستر كان غيبا لهم .
« فذكَّرهم الله قبل حضورهم » يعني الحق المتجلَّي في الفرقان يوم الجمع والفصل ،


قال رضي الله عنه :  ( حتى إذا حضروا تكون الخميرة قد تحكَّمت في العجين )
يعني : من حيث أحدية جمع العين « فصيّرته مثلها .
قال رضي الله عنه :  ( فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ " فأفرد الخطاب ، للتوحيد الذي كانوا عليه )
من حيث العين في الحقيقة وإن كانوا مشركين في زعمهم ومعتقدهم وغيرهم من أهل الاعتقاد والتقليد .
قال رضي الله عنه : ( ولا ذلَّة أعظم من ذلَّة العبيد ، لأنّهم لا تصرّف لهم في أنفسهم ، فهم بحكم ما يريد بهم سيّدهم ، ولا شريك له فيهم ، فإنّه قال : " عِبادُكَ " فأفرد ، والمراد بالعذاب إذ لا لهم ، ولا أذلّ منهم ، لكونهم عبادا ، فذواتهم تقتضي أنّهم أذلَّاء فلا تذلَّهم ، فإنّك لا تذلَّهم بأدون ما هم فيه من كونهم عبيدا " وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ " أي تسترهم  عن إيقاع العذاب الذي يستحقّونه بمخالفتهم أي تجعل لهم غفرا يسترهم عن ذلك ويمنعهم عنه ، " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ ، أي المنيع الحمى ) .
يعني رضي الله عنه : لا يصلون إليك من حيث إنّك ربّ الكلّ على ما يقتضي من حيث ذاتك في نفسك ، فربوبيتك بالنسبة إلى عبدانيتهم بحسبهم وبحسبها ، وعبدانيتهم مقيّدة جزئيّة ، لكونهم كذلك ، فأنّى لهم عبادتك الحقيقية الكلَّية التي تستحقّها لنفسك ؟
وكيف اتّصالهم بربّ الكلّ وإله العالمين - تبارك وتعالى - وهو العزيز الحكيم ؟ !
 
قال رضي الله عنه : ( وهذا الاسم إذا أعطاه الحق لمن أعطاه من عباده يسمّى الحق ب « المعزّ » والمعطى له هذا الاسم بـ « العزيز » فيكون منيع الحمى عمّا يريد به « المنتقم » و « المعذّب » من الانتقام والعذاب . وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ولتكون الآية على مساق واحد في قوله : " إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ " وقوله : " كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " فجاء أيضا بـ " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " فكان سؤالا من النبيّ عليه السّلام وإلحاحا منه على ربّه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر يردّدها طلبا للإجابة ، فلو سمع الإجابة في أوّل سؤاله ، ما كرّر ، وكان الحق يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب عرضا مفصّلا ، فيقول له في كل عرض عرض ، وعين عين : " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه ،لدعاء عليهم لا لهم ، فما عرض عليه إلَّا ما استحقّوا به ما تعطيه هذه الآية من التسليم لله ).
يعني : ممّا تعطيه هذه الآية من تفويض أمرهم إليه تعالى .
 
قال رضي الله عنه  : ( من التسليم لله والتعريض لعفوه . وقد ورد أنّ الحق إذا أحبّ صوت عبده في دعائه إيّاه ، أخّر الإجابة عنه ، حتى يتكرّر ذلك منه ، حبّا فيه لا إعراضا عنه ، ولذلك جاء بالاسم « الحكيم » ، والحكيم هو الذي يضع الأشياء مواضعها ولا يعدل بها عن الذي تقتضيه وتطلبه حقائقها بصفاتها ، فالحكيم هو العليم بالترتيب ، فكان صلى الله عليه وسلَّم بترداد هذه الآية على علم عظيم عن الله ، فمن تلا فهكذا يتلو » يعني : فليتل « وإلَّا فالسكوت أولى به . وإذا وفّق الله العبد إلى نطق بأمر ما ، فما وفّقه إليه ) .
يعني « عليه » فإنّ حروف الجرّ يبدل بعضها عن بعض ، ولا سيّما « إلى » و « على » كما قال الله - تعالى - : " أُنْزِلَ إِلَيْكَ " و " أَنْزَلَ عَلَيْكَ " في مواضع .
 
قال رضي الله عنه : ( فما وفّقه إليه إلَّا وقد أراد إجابته فيه وقضاء حاجته ، فلا يستبطئ أحد ما يتضمّنه ما وفّق له ، وليثابر مثابرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الآية في جميع أحواله ، حتى يسمع بأذنه أو بسمعه ، كيف شئت أو كيف أسمعك الله الإجابة ، فإن جازاك بسؤال اللسان أسمعك بأذنك ، وإن جازاك بالمعنى أسمعك بسمعك ).

قال العبد : لم أجد مزيدا على ما فسّر الشيخ هذه الآية في المناجاة المحمدية العيسوية ، فقد وفّى حقّ تفسيرها ، وحرّر بحسن تخبيره تقريرها .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فصّ حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:04 pm

16 - فصّ حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
16 - فصّ حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
قال العبد : لمّا كانت الحكمة الرحمانية توجب ظهور الوجود العامّ على أكمل وجوهها في أكمل المظاهر الإلهية الرحمانية من الأشخاص الإنسانية بحيث يظهر فيه جميع أصناف الرحمة والإلهيات الظاهرة على العموم من كمال التصرّف والسلطان والملك والنبوّة والولاية على ما هي ظاهرة في جميع العالم مفصّلا مفرّقا في أشخاصه .
"أسندت حكمته إلى الرحمن لكمال ظهور أسرار الرحمة العامّة والخاصّة فيه صلَّى الله عليه وسلَّم على الوجه الأعمّ الأشمل وبالسرّ الأتّم الأكمل ، وجعل الله سعته في أمره وحكمه على أكثر المخلوقات ، وسخّر له العالم جميعا كما وسعت رحمة الرحمن جميع الموجودات ،فافهم."
 وكانت الكلمة السليمانية بهذه المثابة على التعيين فإنّه كان نبيّا وليّا عبدا كاملا .
ووهبه الله التسخير الكلَّيّ التامّ والسلطان والحكم والتصرّف العامّ في جميع أجناس العالم وأنواعه وأصنافه من الملائكة والجنّ والإنس والطير والسباع وسائر الحيوان والنبات والمعادن ، على أكمل وجوهها وأفضلها وأتمّها وأعمّها .
فصلحت إضافة هذه الحكمة الرحمانية إليه عليه السّلام.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (إِنَّه ُ)   يعني الكتاب (من سُلَيْمانَ وَإِنَّه ُ) أي مضمونه (بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)   .
فأخذ بعض الناس في تقديم اسم سليمان على اسم الله ولم يكن كذلك ،
وتكلَّموا في ذلك بما لا ينبغي ممّا لا يليق بمعرفة سليمان عليه السّلام بربّه .
وكيف .يليق ما قالوه وبلقيس تقول فيه :   ( إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ) أي يكرم عليها ؟ ! » .
 
قال العبد : تأدّب رضي الله عنه مع الحق الذي في أعيان الطاعنين في سليمان وتخطئتهم بعدم تعيينه أسماءهم .
فقال : « أخذ بعض الناس ، وتكلَّموا بما لا يليق » إعراضا عن التعرّض لتخطئتهم والتعريض بهم ، وإنّما ساق مقتضى التحقيق في هذا المقام السليمانيّ وأمّا خطؤهم في تخطئة سليمان فصريح.
فإنّ واضح التفسير أنّ بلقيس هي التي قالت لقومها عندما ألقى إليها الهدهد كتاب سليمان وأرتهم الكتاب :
 ( إِنَّه ُ من سُلَيْمانَ ) فهذا قولها ، ليس في طيّ الكتاب « إِنَّه ُ» يعني مضمون الكتاب ( بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ )  والدليل على ذلك من ظاهر اللفظ قولها :   ( يا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ )   .
وقولها : « إِنَّه ُ » أي الكتاب ، يعود الضمير إلى المذكور ، وعلى ما قالوا ليس للضمير مذكور يعود إليه .
وإنّما قالت ذلك بيانا لمرسل الكتاب ، ثمّ تصدّت لبيان مضمون الكتاب بقولها : ( وَإِنَّه ُ بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) .
وأنّه طلب الطاعة والانقياد لحكمه ، فما بقي بعد ذلك احتمال لكون الكتاب مكتوبا فيه ، كما قالوا ، وهذا ظاهر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : « وإنّما حملهم على ذلك ربما تمزيق كسرى كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم و ما مزّقه حتى قرأه كلَّه وعرف مضمونه .
فكذلك كانت تفعل بلقيس لو لم توفّق لما وفّقت له ، فلم يكن يحمي الكتاب عن الإخراق لحرمة صاحبه تقديم اسم سليمان عليه السّلام على اسم الله ولا تأخيره عنه » .
قال العبد : وإنّه رضي الله عنه وإن أقام عذرهم ، فإنّ قوله : « ربما حملهم على ذلك » إشارة إلى أنّهم علَّلوا فيما ذكروا تمزيق كتاب رسول الله .
ثمّ بيّن أنّ هذا التعليل أيضا غير صحيح ، لكون كسرى إنّما مزّق الكتاب ، لكون مضمونه دعوته إلى خلاف دينه ومعتقده ، لا لأنّ اسم الله مقدّم على اسمه .
وتقديم اسم رسول الله على اسمه كان جزءا لعلَّة التمزيق ، فمزّقه الله كلّ ممزّق .
فوفّق الله بلقيس ، فقرأت الكتاب وآمنت باطنا ، فذكرت لقومها أنّها ألقي إليّ كتاب كريم ، أرسله إليها سلطان عظيم .
فلو لم توفّق لما وفّقت ، لمزّقت ، سواء كان اسم سليمان مقدّما على اسم الله أو لم يكن ، فليس تقديم اسمه ولا تأخيره بمانع عن التمزيق والإحراق ، كما زعموا .
 
قال رضي الله عنه : « فأتى سليمان بالرحمتين » يعني : في مضمون كتابه أوّلا في البسملة « رحمة الوجوب ورحمة الامتنان اللتين هما الرحمن الرحيم » .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ الرحمتين عين الاسمين في حق الحق ، لأحدية الاسم والمسمّى في ذاته .
واعلم : أنّ الرحمن كما ذكرنا عبارة عن الحق من كونه عين الوجود العامّ بين العالمين ،
فعمّ بهذه الرحمة جميع الأسماء والحقائق ، فهي رحمة الامتنان على كل موجود لم يكن لعينه موجودا ، فأوجده الله بهذه الرحمة .
ولفظ الرحمن في وزانه يقتضي العموم ، ولمّا عمّت رحمته الكلّ اقتضت أن يخصّ بعمومها كلّ عين عين من الأعيان بخصوصية ذاتية .
لذلك التعيّن فيرحمها برحمة يصلح لها ويصلحها ، فالرحيم فيه مبالغة لتعميم التخصيص ، وللرحمن من الرحيم تخصيص التعميم ، وللرحيم من الرحمن تخصيص التعميم ، وللرحيم من الرحمن تعميم التخصيص ، فكلّ منهما إذن في كلّ منهما .
 
قال رضي الله عنه : « فامتنّ بالرحمن وأوجب بالرحيم ، وهذا الوجوب من الامتنان ، فدخل الرحيم في الرحمن دخول تضمّن ، فإنّه كتب على نفسه الرحمة ، سبحانه ليكون ذلك للعبد بما ذكره الحق من الأعمال يأتي بها هذا العبد حقا على الله أوجبه له على نفسه يستحقّ بها هذه الرحمة أعني رحمة الوجوب » .
يشير إلى قوله :  ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) فامتنّ على الكلّ بتعميم الرحمة ثمّ أوجبها بقوله  تعالى : ( فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) .
وقوله : « سبقت رحمتي غضبي » امتنان على الكلّ أيضا بإيجاب الرحمة ، فافهم ، فإنّه ذوق نادر غريب ، هذا معنى قوله : « فدخل الرحيم في الرحمن » .
وقوله : « فإنّه ( كَتَبَ عَلى نَفْسِه ِ الرَّحْمَةَ ) » يعني الرحمة التي سبقت غضبه .
وقوله : « ليكون للعبيد » أي أجاب الرحمة بالكتابة على نفسه حقا عليه ، « استحقّوها بها » أي بالأعمال بإيجابه لهم هذه الرحمة .
 
قال رضي الله عنه : « ومن كان من العبيد بهذه المثابة ، فإنّه يعلم من هو العامل به ؟ » .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ رحمة الوجوب هي التي استحقّها المتّقون بتقواهم وأعمالهم الصالحة ، فإنّها رحمة خاصّة من الرحيم بهذه الأعمال المستدعية لمجازاة الله بما يناسبها ، ثمّ أشار إلى من يكون له هذه التقوى والرحمة الخاصّة ، فإنّه يكون عالما بأنّ الله هو العامل به جميع أعماله المقتضية لهذه الرحمة ، فإنّ هذا العلم أعلى مراتب هذه الرحمة للمتّقي .
 
قال رضي الله عنه : « والعمل مقسّم على ثمانية أعضاء من الإنسان ، وقد أخبر الحق - تعالى - أنّه هويّة كل عضو منها ، فلم يكن العامل غير الحق والصورة للعبد ، والهوية مدرجة فيه أي في اسمه لا غير » .
يعني : أنّ هويّة العبد هو الله .
 
قال رضي الله عنه : « لأنّه تعالى عين ما ظهر ، وسمّي خلقا ، وبه كان الاسم « الظاهر » و « الآخر » للعبد ، وبكونه لم يكن ثم كان » .
يعني : من حيث إنّ هذا العبد لم يكن ثمّ كان تحقّقت الآخرية ، فهو الآخر وفي مادّته تسمّى الله بالآخر « وبتوقّف ظهوره عليه وصدور العمل منه كان الاسم الباطن والأوّل » .
يعني رضي الله عنه : بتوقّف وجود العبد على الله الموجد له تحقّقت الأوّلية له تعالى ومن حيث إنّ الأعمال صادرة ظاهرا من العبد تحقّق للحق اسم « الباطن » من غيب هوية العبد . . . فإنّ الحق هو العامل به وفيه .
 
قال رضي الله عنه : « فإذا رأيت الخلق رأيت الأوّل والآخر والظاهر والباطن ، وهذه معرفة لا يغيب عنها سليمان عليه السّلام بل هي من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده » .
يعني الظهور به في عالم الشهادة يشير إلى أنّ سليمان كان عارفا بأنّ الله هو العامل بسليمان وغيره ما يصدر عنه من الأعمال والتصرّفات والتسخيرات ، ولو لم يشهد أنّ الله عينه وجميع قواه وجوارحه ، لما يأتي له هذا السلطان والحكم الكلَّي والأمر الفعلي .
 
قال رضي الله عنه : « فقد أوتي محمّد صلى الله عليه وسلَّم ما أوتي سليمان عليه السّلام وما ظهر به ، فمكَّنه الله - تعالى - تمكين قهر من العفريت الذي جاءه بالليل ليفتك به ، فهم بأخذه وربطه بسارية من سواري المسجد ، حتى يصبح ، فيلعب به ولدان المدينة ، فذكر دعوة سليمان عليه السّلام فردّه الله خاسئا ، فلم يظهر عليه السّلام بما أقدره الله عليه ، فظهر بذلك سليمان . ثم قوله : « مُلْكاً » فلم يعمّ ، فعلمنا أنّه يريد ملكا ما ، ورأيناه قد شورك في كل جزء من الملك الذي أعطاه الله ، فعلمنا أنّه ما اختصّ إلَّا بالمجموع من ذلك ، وبحديث العفريت أنّه ما اختصّ إلَّا بالظهور ، وقد يختصّ بالمجموع والظهور ، ولو لم يقل صلى الله عليه وسلم في حديث العفريت : « فأمكنني الله منه » لقلنا : إنّه لمّا همّ بأخذه ، ذكَّره الله دعوة سليمان عليه السّلام فعلم أنّه لا يقدره الله على أخذه ، فردّه الله خاسئا ، فلمّا قال : « فأمكنني الله منه » علمنا أنّه قد وهبه الله التصرّف فيه ، ثم إنّ الله ذكَّره فتذكَّر دعوة سليمان عليه السّلام فتأدّب معه ، فعلمنا من هذا أنّ الذي لا ينبغي لأحد من الخلق بعد سليمان الظهور بذلك في العموم » .
 
قال العبد : كل هذا مشروح لا مزيد عليه .
ثمّ قال رضي الله عنه : « وليس غرضنا من هذه المسألة إلَّا الكلام والتنبيه على الرحمتين اللتين ذكرهما سليمان عليه السّلام في الاسمين اللذين تفسيرهما بلسان العرب « الرحمن » « الرحيم » فقيّد رحمة الوجوب وأطلق رحمة الامتنان
في قوله : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) حتى الأسماء الإلهية ، أعني حقائق النسب » .
 
يعني رضي الله عنه : من حيث إحدى دلالتها - التي يقتضي امتياز كل اسم بخصوصه - لا الأخرى التي هي الدلالة على الذات عينها والذات عينه ، فلا يطلق عليها أنّها مرحومة ، فالمرحومة الداخلة تحت « كل شيء » هي حقائق النسب وهي على وجهين :
أحدهما : كالوجود والحياة والعلم والقدرة وسائر النسب التي لا تحقّق لها في أعيانها إلَّا بالله ، والرحمة الذاتية .
والثاني : ما ينسب إلى الحق من حيث هذه النسب ، كالعالمية والقادرية والخالقية والرازقية ، فإنّها نسب لهذه النسب المذكورة أوّلا إلى المسمّى الواحد الأحد وهو الله سبحانه ، فهي التي وسعتها رحمة الامتنان مع العالمين .
 
قال رضي الله عنه : « فامتنّ عليها بنا ، فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء الإلهية والنسب الربانية » .
يعني الكمّل من نوع الإنسان ، فإنّ آدم وبنيه هم الذين أكرمهم الله تعالى واصطفاهم بتعليمه الأسماء لنا منّا ، فتذكَّر .
 
ثم قال رضي الله عنه : « ثم أوجبها على نفسه بظهورنا لنا ، وأعلمنا أنّه هويّتنا ليعلم أنّه ما أوجبها على نفسه إلَّا لنفسه ، فما خرجت الرحمة منه ، فعلى من امتنّ وما ثمّ إلَّا هو ؟
إلَّا أنّه لا بدّ من حكم لسان التفصيل لما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم ، حتى يقال إنّ هذا أعلم من هذا مع أحدية العين ، ومعناه معنى نقص تعلَّق الإرادة عن تعلَّق العلم ، فهذه مفاضلة في الصفات الإلهية وكمال تعلَّق الإرادة وفضلها أو زيادتها على تعلَّق القدرة ، وكذا السمع الإلهي والبصر وجميع الأسماء الإلهية على درجات في تفاضل بعضها على بعض ، كذلك تفاضل ما ظهر في الخلق من أن يقال : هذا أعلم من هذا مع أحدية العين ، وكما أنّ كل اسم إلهي إذا قدّمته سمّيته بجميع الأسماء ونعتّه بها ، كذلك فيما ظهر من الخلق فيه أهلية كلّ ما فوضل به فكل جزء من العالم مجموع العالم ، أي هو قابل لحقائق متفرّقات العالم كلَّه ، فلا يقدح قولنا : « إنّ زيدا دون عمرو في العلم » أن تكون هوية الحق عين زيد وعمرو ، ويكون في عمرو أكمل وأعلم منه في زيد ، كما تفاضلت الأسماء الإلهية وليست غير الحق ، فهو تعالى من حيث هو عالم أعمّ في التعلَّق من حيث هو مريد وقادر ، وهو هو ليس غيره ، فلا تعلَّمه يا وليّي هنا وتجهله هنا ، وتثبته هنا وتنفيه هنا إلَّا أن تثبته بالوجه الذي أثبت نفسه ونفيته عن كذا بالوجه الذي نفى نفسه ، كالآية الجامعة للنفي والإثبات في حقه حين
قال :  ( لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) فأثبت بصفة تعمّ كلّ سامع وبصير من حيوان وما ثمّ إلَّا حيوان إلَّا أنّه بطن في الدنيا عن إدراك بعض الناس ، وظهر في الآخرة لكل الناس » .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الحياة للحيوان وفيه عرفا عامّا ، وهي سارية في الحيوان والجماد والنبات وغيرهم عرفا خاصّا بالمحقّقين ، فإنّ الله كشف عن وجه هذا السرّ لهم ، وحجب عنه البعض وهم عامّة أهل الحجاب وقد مرّ مرارا فتذكَّر ، فإذا ارتفع الحجاب - وهو عقلك القابل - وكشف الغطاء - وهو وهمك الحائل - عمّت المعرفة ، فعرفته وعرفه كل أحد كذلك .
 
قال رضي الله عنه : « فإنّها الدار الحيوان » يعني الآخرة ، وأنّ كلّ من فيها حيوان حقيقة مبالغة « وكذلك الدنيا إلَّا أنّ حياتها مستورة عن بعض العباد ، ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد الله وما يدركونه من حقائق العالم ، فمن عمّ إدراكه كان الحق فيه أظهر في الحكم ممّن ليس له ذلك العموم ،
فلا تحجب بالتفاضل وتقول : لا يصحّ كلام من يقول : إنّ الخلق هوية الحق ، بعد ما أريتك التفاضل في الأسماء الإلهية التي لا تشكّ أنت أنّها هي الحق ومدلولها المسمّى بها وليس إلَّا الله ، ثم إنّه كيف يقدّم سليمان اسمه على اسم الله - كما زعموا - وهو من جملة من أوجدته الرحمة ؟!
فلا بدّ أن يتقدّم الرحمن الرحيم » أي على اسم سليمان « ليصحّ استناد المرحوم ، هذا عكس الحقائق :
تقديم من يستحقّ التأخير وتأخير من يستحقّ التقديم في الموضع الذي يستحقّه » .
يشير رضي الله عنه إلى حقيقة التفاضل بين الأسماء ، كتفاضل الرحمن على الرحيم ، فمع أنّ سليمان اسم إلهي في نفسه على مقتضى التحقيق ، ولكن بالنسبة إلى الله المتعيّن بذاته في ألوهيته متقيّد عن كل تقدير بخصوصية مادّة سليمانية ، وسليمان عارف بذلك .
 
فلا يقدّم المقيّد على المطلق ، كما لا يتقدّم الرحيم على الرحمن ، إذ الرحمن - الموجد لسليمان والمظهر عموم حكم سلطانه على العالم - يستحقّ التقديم بالذات على من أوجده ممّن سليمان واحد منهم ولا سيّما في أوّل الكتاب أو صدره ، فهذا لا يليق بكمال سليمان عليه السّلام وعلمه ومعرفته ، حاشاه عن ذلك .
 
قال رضي الله عنه : « ومن حكمة بلقيس وعلوّ علمها - كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب ، وما عملت ذلك إلَّا لتعلم أصحابها أنّ لها اتّصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها ، وهذا من التدبير الإلهي في الملك ، لأنّه إذا جهل طريق الإخبار الواصل للملك ، خاف أهل الدولة على أنفسهم في تصرّفاتهم ، فلا يتصرّفون إلَّا في أمر إذا وصل إلى سلطانهم يأمنون غائلة ذلك التصرّف ، فلو تعيّن لهم على يدي من تصل الأخبار إلى ملكهم ، لصانعوه وأعظموا له الرشى ، حتى يفعلوا ما يريدون ، ولا يصل ذلك إلى ملكهم ، فكان قولها : ( أُلْقِيَ إِلَيَّ ) ولم تسمّ من ألقاه سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواصّ مدبّرها ، وبهذا استحقّت التقدّم عليهم » .
 
قال العبد : كلّ هذا مشروح لا يحتاج فيه إلى مزيد بيان .
 
قال رضي الله عنه : « وأمّا فضل العالم الإنسان على العالم من الجنّ بأسرار التصرّف وخواصّ الأشياء فمعلوم بالقدر الزماني ، فإنّ رجوع الطرف إلى الناظر به أسرع من قيام القائم من مجلسه ، لأنّ حركة البصر في الإدراك إلى ما يدركه أسرع من حركة الجسم فيما يتحرّك منّا ، لأنّ الزمان الذي يتحرّك فيه البصر عين الزمان الذي يتعلَّق بمبصره مع بعد المسافة بين الناظر والمنظور ، فإنّ زمان فتح البصر زمان تعلَّقه بفلك الكواكب الثابتة ، وزمان رجوع طرفه إليه عن زمان عدم إدراكه ، والقيام من مقام الإنسان ليس كذلك ، أي ليس له هذه السرعة ، فكان آصف بن برخيا ، أتمّ في العمل من الجنّ ، وكان عين قول آصف بن برخيا عين الفعل في الزمان الواحد ، فرأى في ذلك الزمان بعينه سليمان عليه السّلام عرش بلقيس مستقرّا عنده ، لئلَّا يتخيّل أنّه يدركه وهو في مكانه من غير انتقال » .
 
قال العبد : يشير رضي الله عنه إلى أنّ وجود عرش بلقيس عند سليمان عليه السّلام قبل ارتداد طرفه إليه ليس كما زعم الجمهور من أهل الظاهر وعلماء الرسوم من إتيان آصف بعرش بلقيس من سبأ على ما كان موجودا ، ولم يره سليمان عليه السّلام في سبأ كشفا واطَّلاعا ، بل كان تصرّفا عجيبا غريبا إلهيا بإعدام عرشها في سبأ في عين إيجاده عند سليمان ، بمعنى أنّه سلب بتصرّفه العلمي الكامل الصورة العرشية عن وجوده المتعيّن فيها بسبإ ، وخلع عنه تلك الهيئة ، وخلعها عليه عند سليمان في عين ذلك الزمان .
فزمان قول آصف :   ( أَنَا آتِيكَ به قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ )  كان عين زمان انعدام عرش بلقيس في سبأ وإيجاده عند سليمان عليه السّلام وذلك من عين التصرّف الكلَّي الذي أعطاه الله - تعالى - كرامة لسليمان عليه السّلام وهذا التصرّف أعلى تصرّف أقدر الله من شاء من عباده عليه ، وهو من حيث العلم الكامل بالخلق الجديد ، كما عرفت فيما أسلفنا لك .
 
إنّ صور العالم كلَّها هيئات وأشكال ونقوش ظهرت في مرآة الوجود الحقّ أو تعيّنات الوجود الحق في صور حقائق العالم ، وأعيانها الثابتة في العلم القديم - التي كانت معدومة من حيث هي هي - لها حقائق الأعيان ،
فالقابل من الوجود الحق لصورة عين من الأعيان على الوجه الأوجه الأوّل الأولى أو المتعيّن منه في عين من الأعيان ، والظاهر بها وفيها ، والمظهرة المعيّنة هي له على الوجه الثاني في ذوق أهل المعاني والمغاني إنّما يتلبّس بصورتها عند انسحابه أو ملابسته أو محاذاته لتلك العين ، وباتّصال الفيض الوجودي الذي يعقب ذلك الفيض الأوّل ينخلع الأوّل عن تلك الصورة إلى غيرها من الصور الأخر التي لتلك العين في غير ذلك الموطن والحضرة ،
 
حتى يظهر ذلك الوجود بصورة ذلك التعيّن في جميع مراتب الوجود ومواطنه ، ويتلبّس الوجود المتعيّن ثانيا العاقب للأولى بتلك الصورة عند انسحابه عليها أو محاذاته لها كذلك ،
وكذلك الأمر دائما أبدا لا إلى نهاية أو غاية . كما كان لا عن بداية كالماء الجاري في نهر ( وَلَه ُ الْمَثَلُ الأَعْلى )  إذا حاذى موضعا من النهر ،
فإنّ الماء يتشكَّل بحسب ذلك الموضع ويجري عليه بحسبه ويظهر فيه بموجبه ، ولا يثبت ولا يبقى بل يمرّ بالجريان ويعقبه الماء بالفيضان بقطرات أو أجزاء مائية غير الأجزاء والقطرات الأولى ، وهذا لا ريب فيه عقلا وكشفا صحيحا ،
ولكنّ الحسّ يدرك الاتّصال في أحدية سطح الماء دائما ، لغلبة الوحدة الوجودية الحقّة على الكثرة وجودا وعينا ، كغلبة الكثرة على الوجود علما وتعقّلا ،
فكذلك الفيض النفسي الرحماني ، والوجود الجودي الإحسانيّ دائم الجريان متوالي الفيضان من الغيب والشهادة ، ثم منها إلى الغيب متواصل السريان في صور الحقائق كدوام الذاتي بالاقتضاء الذاتي لا يتغيّر عنه أزلا وأبدا ،
ولا يزال عليه دائما أبد الآبدين ودهر الداهرين ما دامت ذات المفيض المتجلَّي بالتجلَّي الذاتي وهي دائمة ، والذي اقتضته الذات الإلهية لذاتها فإنّها لا تزال عليه فلا يزال ولا يزول ولا يحول أبد الآباد ومنتهى الآماد ، فالوجود الحق الجاري والنفس الرحمانيّ الساري في حقائق الأشياء وأعيانها دائم أبدا وما ثمّ إلَّا وجود واحد وتجلّ واحد لا ينتهي أبد الآبدين ،
ولكنّه دائم التعيّن متنوّع التجلَّي والتبيّن بحسب خصوصيات القوابل وبموجب قابليات الأعيان والمظاهر ، كالماء ماء واحد وتعيّن القطرات والأجزاء المائيّة بحسب المعيّنات ممّا يجري عليه بتقدير العلم وفرض العقل من حيث كل موضع معيّن معيّن له بحسبه وموجبه ، فافهم
 
واعلم : أنّه أعلى الأذواق وأجلى المشاهد وأحلى المشارب ، جعلنا الله وإيّاك من أهله بمنّه وفضله وطوله .
فلمّا كان آصف عليه السّلام عارفا بهذه الحقيقة إمّا كشفا أو إعلاما من الله بذلك أو من كون الله أعطاه التصرّف في الوجود الكوني جمعا أو فرادى ، فاستمرّ تصرّفه على ذلك كرامة له ولسليمان ولما أراد الله من كمال الظهور بكمال التصرّف الوجودي في النوع الإنساني لتسخير الجنّ والإنس وغيرهما لمظهره الأكمل في ذلك العصر وهو سليمان عليه السّلام ،
فتصرّف آصف بخلع الصورة العرشية من وجوده في سبأ ، وخلعها عليه في الحال عينه عند سليمان في زمان واحد من غير ريث ولا تراخ ، إظهارا لكمال تصرّفه الذي آتاه الله .
 
وإنّما حملته على ذلك ، الغيرة على سليمان وله وللملك الذي آتاه الله من الجنّ لئلَّا يتوهّموا أنّ تصرّفهم أعلى وأتمّ من تصرّف سليمان وآصف ، فأظهر لهم أنّ الملك والتصرّف الذي أعطاهما ، أعني سليمان وآصف عليهم السّلام خارق لعادات الجنّ وسحرتهم في تصرّفاتهم الخصيصة بهم من تقريب البعيد وبالإتيان بالأعمال الشاقّة الخارجة عن قوّة البشر ، والخارقة لعادات أهل النظر بالفكر في المعتاد ،
وذلك بفضل روحانية في الجنّ وقوّة آتاهم الله من التصوّر والتشكَّل بأشكال مختلفة للرائين من البشر ، فإنّ وجود صورهم من الهواء والنار على أنحاء مختلفة وضروب متخالفة ومؤتلفة لا تتناهى شخصياتها وجزئيّاتها وإن انحصرت أمّهات أصنافهم .
وأممهم على أربع أمّهات ، فإنّ الغالب على نشآتهم إمّا الهواء أو النار أو هما معا متساويين غير متساويين على الماء والتراب مطلقا ، والعنصران الثقيلان - وهما الماء والأرض - مغلوبان في نشآت الجنّ على نحو غلبتهما على الهواء والنار في المولَّدات المعهودة المشهودة الكثيفة الثقيلة مثل مغلوبية البرودة والرطوبة في الفلفل وأمثاله ،
ومثل غلبة البرودة والرطوبة على الحرارة واليبوسة في لبّ الخيار - مثلا - وأمثاله على درجات دقائق لا تكاد تنحصر ولا يحصيها إلَّا موجدها ، الله تعالى.
 
 ثمّ مع مغلوبية هذين الأسطقسّين الثقيلين في نشآت الجنّ والشياطين ، فإمّا أن يكون الغالب الجزء الهوائيّ على الجزء الناري أو بالعكس .
والأوّل : الجنّ المؤمنون بالله والملائكة والكتب والرسل المتديّنون بالأديان والملل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين .
والثاني : الشياطين والمردة والعفاريت والأبالسة الكفرة ، فهم نوعان وكل واحد من النوعين بعد ذلك مع مغلوبية الثقيلين وأغلبية اللطيفين ، فإمّا أن يكون أحد الثقيلين غالبا على الآخر كالماء مثلا أو الأرض .
فالصنف الغالب في نشأتهم الماء على الأرض ، مع مغلوبيتهما تحت اللطيفين ، على أصناف : صنف أشخاصهم عمّار البحار ، وآخر في الأنهار ، وآخر أشخاصه في الآبار ، وآخر أشخاصه في العيون .
والغالب عليهم الأرض على الماء في نشأتهم أيضا على أصناف كذلك ،
منهم : عمرة الدور والمساكن والنواويس والمقابر ، 
ومنهم : عمرة الأودية ، 
ومنهم : عمرة الجبال والشعاب والمعادن ،
ومنهم : عمرة البساتين والمواضع النزيهة والرياض ، 
ومنهم : من يكونون في الفيافي والمهامه   والمجاهل والمعالم والطرقات .
والغالب على الكلّ إمّا النار على باقي الأجزاء أو الهواء ، وقد ذكرنا من أحوال نشآتهم وأخلاقهم وصورهم وأشكالهم ضوابط كلَّية فيما أسلفنا في هذا الكتاب ، فاذكر .
وأمّا قبائلهم وأساميهم وأفعالهم وصورهم فمذكورة مفصّلة في كتب علوم الروحانيات والدعوات والاستنزالات والتسخيرات ، ما هذا الكتاب موضع ذكر ذلك ، والله الموفّق .
ولا يحصي على التفصيل أشخاصهم إلَّا الله تعالى .
وبموجب نشآتهم أعطاهم الله التصرّف بما ليس في قوّة البشر غير الكمّل والمتصرّفين والروحانيين من صنف الإنسان الكامل ، ولكن ليس للجنّ هذا العلم وقوّة الهمّة من غير توسّط حركة جسمانية إلَّا القول ، وكان قول آصف عليه السّلام حين فعله اختصاصا من الله وإكراما من عين إكرامه لسليمان .
فلمّا رأت الجنّ هذا النوع من التصرّف آمنوا به وبسليمان إلَّا أفذاذا شذّوا ، فقيّدهم وسجنهم سليمان وآصف .
والجنّ وأكابرهم وملوكهم وكبراؤهم إلى الآن منقادون مسخّرون للخواتيم السليمانية والعزائم والأقسام الآصفية على أيدي أهل العلم الروحاني والله الموفّق الوهّاب يهب من يشاء ما يشاء ، لا ربّ غيره ، عليه التكلان وهو المستعان .
 
قال رضي الله عنه  : « ولم يكن عندنا باتّحاد الزمان انتقال » .
يعني : استقرار العرش عند سليمان لم يكن باتّحاد الزمان وانتقاله .
 
قال رضي الله عنه : « وإنّما كان إعداما وإيجادا من حيث لا يشعر أحد بذلك إلَّا من عرفه وهو قوله تعالى  : "بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ " . ولا يمضي عليهم وقت لا يرون فيه ما هم راؤون له ، إذا كان هذا كما ذكرناه ، فكان زمان عدمه أعني عدم العرش من مكانه عين وجوده عند سليمان من تجديد الخلق مع الأنفاس ، ولا علم لأحد بهذا القدر ، بل الإنسان لا يشعر من نفسه أنّه في كل نفس لا يكون ثم يكون » .
 
يعني : لاقتضائه من حيث إمكانه وعدميته من حيث إمكانه أن يرجع إلى عدمه الأصلي ، ولاقتضاء اتّصال التجلَّيات لتكوينه بعد العدم في زمان واحد من غير بعدية ولا قبلية زمانية توجب لبس الأمر عليهم ، بل عقلية معنوية .
 
قال رضي الله عنه : « ولا تقل : « ثمّ » يقتضي المهلة ، فليس ذلك بصحيح وإنّما « ثمّ » يقتضي تقدّم الرتبة العليّة عند العرب في مواضع مخصوصة ،
كقول شاعر : « كهزّ الرّدينيّ ، ثم اضطرب »
وزمان الهزّ عين زمان اضطراب المهزوز بلا شكّ وقد جاء ب « ثمّ » ولا مهلة ، كذلك تجديد الخلق مع الأنفاس ، زمان العدم زمان وجود المثل ، كتجديد الأعراض في دليل الأشاعرة ، فإنّ  مسألة حصول عرش بلقيس من أشكل المسائل إلَّا عند من عرف ما ذكرناه آنفا في قصّته ، فلم يكن لآصف من الفضل في ذلك إلَّا حصول التجديد في مجلس سليمان عليه السّلام » .
 
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الإيجاد - إمّا التعيّن الوجودي في صورة عرش بلقيس ، أو في صورة مثلها ، أو ظهور الصورة في الوجود الحق - إنّما هو للحق ، وليس لآصف إلَّا صورة التجديد والتجسيد في مجلس سليمان ، وتعيينه بالقصد منه ، وذلك أيضا للحق من مادّة آصف ، ولكن لسان الإرشاد يقضي بما رسم .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فصّ حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:05 pm

16 - فصّ حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
16 - فصّ حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
قال رضي الله عنه : « فما قطع العرش مسافة ، ولا زويت له الأرض ، ولا خرقها ، لمن فهم ما ذكرناه ، وكان ذلك على يدي بعض أصحاب سليمان ليكون أعظم لسليمان عليه السّلام في نفوس حاضرين من بلقيس وأصحابها ، وسبب ذلك كون سليمان عليه السّلام هبة الله - تعالى - لداود عليه السّلام من قوله :  ( وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ ) والهبة : عطاء الواهب بطريق الإنعام لا بطريق الجزاء الوفاق أو الاستحقاق ، فهو النعمة السابغة والحجّة البالغة والضربة الدامغة » .

يعني سليمان عليه السّلام بالنسبة إلى داوود عليه السّلام فقد كملت الخلافة الظاهرة في داوود ، وظهرت الملكية وجودها في سليمان عليه السّلام سائر الليالي والأيّام .

قال رضي الله عنه : « وأمّا علمه فقوله :  ( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ) مع نقيض الحكم » يعني مع منافاة حكمه لحكم داوود .
قال رضي الله عنه :   ( وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً )   ، فكان علم داوود علما مؤتى آتاه الله ، وعلم سليمان علم الله في المسألة ، إذا كان الحاكم بلا واسطة  ، وكان سليمان ترجمان حقّ في مقعد صدق ، كما أنّ المجتهد المصيب بحكم الله الذي يحكم به الله في المسألة ، لو تولَّاها بنفسه أو بما يوحي به لرسوله ، له أجران ، والمخطئ لهذا الحكم المعيّن له أحد مع كونه علما وحكما ، فأعطيت هذه الأمّة المحمدية رتبة سليمان في الحكم ورتبة داوود ، فما أفضلها من أمّة ! ولمّا رأت بلقيس عرشها مع علمها ببعد المسافة واستحالة انتقاله في تلك المدّة عندها ،   ( قالَتْ كَأَنَّه ُ هُوَ ) وصدقت بما ذكرناه من تجديد الخلق بالأمثال ، وهو هو ، وصدق الأمر ، كما أنّك في زمان التجديد عين ما أنت في الزمان الماضي ، ثمّ إنّه من كمال علم سليمان التنبيه الذي ذكره في الصرح ف   ( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ) وكان صرحا أملس ، لا أمت فيه ، من زجاج ( فَلَمَّا رَأَتْه ُ حَسِبَتْه ُ لُجَّةً )   أي ماء ( وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها ) ، حتى لا يصيب الماء ثوبها ، فنبّهها بذلك على أنّ عرشها الذي رأته من هذا القبيل ، وهذا غاية الإنصاف » .


يشير رضي الله عنه : إلى أنّ تقييد الوجود في الصورة العرشية عند سليمان وبلقيس لم يكن إعادة العين ، ولا نقل الموجود المشهود في سبأ إلى مجلس سليمان ، فإنّ ذلك محال ، ولكنّه إعدام لذلك الشكل العرشي في سبأ وإيجاد لمثله عندهما من علم الخلق الجديد ، فهو إيجاد المثل ، لا إيجاد العين وذلك إيهام وإيماء وتنبيه للمثل بإظهار المثل .

وكذلك كان الصرح يوهم من رآه أنّه ماء صاف يموج مثل ما يتخيّل من لا معرفة له بحقيقة تجديد الخلق مع الأنفاس أنّ الثاني عين الأوّل ، وأنّ المجسّد الممثّل من الصورة العرشية عين عرش بلقيس الذي في سبأ .

فصحّح سليمان في تنبيهه إيّاها في قوله :  ( إِنَّه ُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ من قَوارِيرَ )  لا كما ظنّت أنّه الماء أو اللجّة فكشفت عن ساقيها - أنّ قولها :  ( كَأَنَّه ُ هُوَ ) صادق ، إذ ليس هو هو ، بل كأنّه ، هو ، وهكذا سؤال سليمان عنها  ( أَهكَذا عَرْشُكِ ) لعلمه بالأمر في نفسه .


قال رضي الله عنه  : « فإنّه أعلمها بذلك إصابتها في قولها :  ( كَأَنَّه ُ هُوَ ) فقالت عند ذلك : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ )  » .

يعني : ظلمت نفسي بتأخير الإيمان إلى الآن ، و « أسلمت » - برفع التاء - عطف على ما نوت من التوبة والرجوع إلى الله من الظلم الذي اعترفت بها .

بمعنى تبت ورجعت عمّا ظلمت نفسي واعترفت وأسلمت مع سليمان لله ، لو كان عطفا على « ظلمت » لم يستقم الكلام ، ولم ينتظم ولو عطفت الكلمة أعني « أسلمت » على « قالت » لصحّ المعنى ، وكان إخبارا عن الجنّ أنّها قالت : ظلمت نفسي ، وأسلمت هي مجزوم التاء ، كناية عن بلقيس ، أنّها أسلمت لله ربّ العالمين مع سليمان ، أي إسلام سليمان لله ربّ العالمين .

قال رضي الله عنه : « فما انقادت لسليمان وإنّما انقادت لربّ العالمين وسليمان من العالمين ، فما تقيّدت في انقيادها كما لا يتقيّد الرسل في اعتقادها بالله ، بخلاف فرعون ، فإنّه قال : ( رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ) ».

يعني : أنّ فرعون قيّد إسلامه بقوله :  ( رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ) وإن كان ربّ موسى وهارون هو ربّ العالمين ، ولكن في لفظ فرعون مقيّد بموسى وهارون ، وفي قول بلقيس : ( لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ )  مطلق يعمّ سليمان وموسى وهارون وغيرهم .


قال رضي الله عنه : « وإن كان يلحق بهذا الانقياد البلقيسي من وجه ،ولكن لا يقوى قوّتها».

يعني رضي الله عنه : لا تقوى قوّة إسلام فرعون قوّة انقياد بلقيس ، لما ذكرنا ، ولا سيّما وقد كان إسلام فرعون في حال الذعر والخوف من الغرق ، ورجاء النجاة بالإسلام الفرعوني لا الانقياد البلقيسي ، فإنّ كل واحد منهما أتبع إسلامه إسلام نبيّه ، فأسلم فرعون لله الذي آمنت به بنو إسرائيل وآمن موسى به ، فإيمانه وإسلامه تبع لإيمانه ،

وقوله : أنا من المؤمنين ومن المسلمين فيهما دلالة إطلاق الإيمان والإسلام ، فإنّ المؤمنين والمسلمين الذين جعل نفسه منهم آمنوا وأسلموا لله مطلقا فينسحب حكم ذلك عليهم ، ولكن إسلام بلقيس وإن كان مقيّدا بالمعية ، فإنّه يقتضي المشاركة .

قال رضي الله عنه : « فكانت أفقه من فرعون في الانقياد لله وكان فرعون تحت حكم الوقت ، حيث قال : آمنت بالَّذى  ( آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ ) فخصّص ، وإنّما خصّص لما رأى السحرة قالوا في إيمانهم باللَّه : ( رَبِّ مُوسى وَهارُونَ )  ، فكان إسلام بلقيس إسلام سليمان ، إذ قالت : ( مَعَ سُلَيْمانَ ) فتبعته فما يمرّ بشيء من العقائد إلَّا مرّت به معتقدة ذلك كما نحن على الصراط المستقيم الذي الربّ عليه ، لكون نواصينا بيده وتستحيل مفارقتنا إيّاه ، فنحن معه بالتضمين ، وهو معنا بالتصريح .

 فإنّه قال :   ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ )  ونحن معه بكونه آخذا بنواصينا » .

يعني رضي الله عنه : أنّ كوننا على الصراط المستقيم لكون نواصينا بيد الحق الذي هو على الصراط المستقيم ، فنحن معه على الصراط في ضمن كونه على الصراط المستقيم ، ككون بلقيس في إسلامها بالتضمين والتبعية لإسلام سليمان .


قال رضي الله عنه : « فهو تعالى مع نفسه حيثما مشى بنا من صراطه فما من أحد من العالم إلَّا على صراط مستقيم وهو صراط الربّ تعالى ، وكذا علمت بلقيس من سليمان .
فقالت :  ( لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ )  وما خصّصت عالما من عالم . وأمّا التسخير - الذي اختصّ به سليمان ، وفضل به غيره ، وجعله الله من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده - فهو كونه عن أمره ،
فقال :  ( فَسَخَّرْنا لَه ُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِه ِ ) ، فما هو من كونه تسخيرا ، فإنّ الله تعالى يقول في حقّنا كلَّنا من غير تخصيص :  ( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وَما في الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْه ُ ) وقد ذكر تسخير الرياح والنجوم وغير ذلك .
ولكن لا عن أمرنا بل عن أمر الله ، فما اختصّ سليمان إن عقلت إلَّا بالأمر من غير جمعية ولا همّة ، بل بمجرّد الأمر وإنّما قلنا ذلك ، لأنّا نعرف أنّ أجرام العالم تنفعل لهم  النفوس إذا أقيمت في مقام الجمعية قد عاينّا ذلك في هذا الطريق ، فكان من سليمان مجرّد التلفّظ بالأمر لمن أراد تسخيره من غير همّة ولا جمعية » .


يشير رضي الله عنه : إلى أنّ التسخير السليمانيّ لم يكن بالهمّة والجمعية وتسليط الوهم ، وبالأقسام العظام ، وأسماء الله الكرام ، بل بمجرّد الأمر ، ويحتمل ذلك ، لمن يكون اختصاصا له من الله بذلك ، وفي ظاهر الاحتمال دلالة أن يكون بأسماء الله العظام ، وبالكلمات والأقسام في بدو أمره ، ثمّ بلغ الغاية في إتقانها حتى انقادت له الخلائق ، وأطاعه الجنّ والإنس والطير وغيرها بمجرّد الأمر والتلفّظ بما يريد من غير جمعية ولا تسليط وهم وهمّة ، عطاء وهبة من الله ، أن يقول للشيء : كن ، فيكون .


قال رضي الله عنه : « واعلم - أيّدنا الله وإيّاك بروح منه - : أنّ مثل هذا العطاء إذا حصل للعبد - أيّ عبد كان - فإنّه لا ينقصه من ملك آخرته ولا يحسب عليه ، مع أنّ سليمان طلبه من ربّه - تعالى - فيقضي ذوق التحقيق أن يكون قد عجّل له ما ادّخر لغيره ويحاسب به إذا أراده في الآخرة ،
فقال الله له :  ( هذا عَطاؤُنا )   ولم يقل : لك ولا لغيرك  ( فَامْنُنْ ) أي أعط ( أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ )  فعلمنا من ذوق الطريق أنّ سؤاله ذلك كان عن أمر ربّه ، والطلب إذا وقع عن الأمر الإلهي ، كان الطالب ، له الأجر التامّ على طلبه .
والبارئ تعالى إن شاء قضى حاجته فيما طلب منه ، وإن شاء أمسك ، فإنّ العبد قد وفّى ما أوجب الله عليه من امتثال أمره فيما سأل ربّه فيه ، فلو سأل ذلك من نفسه عن غير أمر ربّه له بذلك ، يحاسبه به.
 وهذا سار في جميع ما يسأل فيه الله تعالى كما قال لنبيّه ، محمّد صلى الله عليه وسلم :  ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) فامتثل أمر ربّه ، فكان يطلب الزيادة من العلم حتى إذا سيق له لبن تأوّله علما ،كما تأوّل رؤياه لمّا رأى أنّه أتي بقدح لبن فشربه وأعطى فضله عمر بن الخطَّاب.
قالوا : فما أوّلته ؟
قال : العلم ، وكذلك لمّا أسري به أتاه الملك بإناء فيه لبن وإناء فيه خمر ، فشرب اللبن ،
فقال له الملك : أصبت الفطرة أجاب الله بك أمّتك ، فاللبن متى ظهر ، فهو صورة العلم ، فهو العلم تمثّل في صورة اللبن كجبرئيل تمثّل في صورة بشر سويّ لمريم » .

قال العبد : إنّما أفرد الشيخ رضي الله عنه هذه المسألة التمثيلية هاهنا ، لكونها تتمّة البحث والحكمة التي كان في بيانها من تجديد المثل مع الأنفاس في الخلق الجديد ، فإنّه تمثيل للمعاني وتجسيد للحقائق وتشخيص للنسب في مثل ما كانت من الوجود الظاهر بها والمتعيّن فيها أو بالعكس ، على الذوقين من مشربي الفرائض والنوافل ، فافهم واذكر إن شاء الله تعالى .

قال رضي الله عنه : « ولمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا » ، نبّه على أنّ كل ما يراه الإنسان في حياته الدنيا إنّما هو بمنزلة الرؤيا للنائم خيال فلا بدّ من تأويله » .

يشير رضي الله عنه : إلى أنّ مضمون الحديث تصريح لنا معشر أهل الذوق والشهود ، أنّ المحسوسات المشهودة كالرؤيا للنائم ، تخييل وتمثيل ، فإنّ الخيال إنّما هو تشخّص المعاني وتمثّل الحقائق والأرواح من قبل الحق للرائي ، وتجسّد النفوس في أمثله صور ثقيلة كبيرة أو خفيفة وصغيرة أو متوسّطة ، كلَّها تمثّلي .

وكذلك عالم الحسّ من الجسمانيات الطبيعيّة والعنصرية إنّما هي صور تمثيلات وتشخيصات وتجسيدات لما فوقها من العوالم الروحانية والنفسانية والعقلية والمعنوية ، مثّلها وجسّدها وشخّصها الحق أمثلة قائمة وصورا زائلة ودائمة لوجوده الحقّ في نسبه ونسب نسبه ولوازمه الذاتية والمرتبية ولوازم لوازمه .

وكيفية ذلك والله أعلم بها على ما علمنا وأعلمنا بذلك : أنّ المعاني إذا قبلت الوجود الحق من التجلَّي النفسي ، أو الحقائق الكلَّية المتبوعة إذا تعيّنت في الوجود الفائض ، حصلت هيئات اجتماعية بين الوجود والحقائق المتبوعة .

ثمّ يسري نور الموجود من الملزومات والمتبوعات إلى اللوازم ولوازم اللوازم ، ومنها إلى العوارض واللواحق والنسب المنتسبة في البين ، فيتّصل أحكام بعضها بالبعض بالوجود الساري من الأصل إلى الفرع ومن الملزومات إلى اللوازم ولوازم اللوازم .
 

فيوصل خصائص بعضها إلى البعض ، ويفيد حقائق الكلّ للكلّ ويصبغ الكلّ بصبغة الكلّ ، فيلتحم ويتمثّل ويتشخّص صورا وهيئات وجودية ، كما هو مشهود رأي عين ، ومثال سراية الوجود من الأصول والملزومات والحقائق المتبوعة إلى الفروع واللوازم والتوابع في انتساج ملابس الكون والتمثيل والتجسيد كالسدى واللحمة ،
نظير منوال الحقائق المتبوعة المترتبة من أقصى مراتب المكان ، إلى أنهى غايات وجود الكيان ، ونظير الحقائق التابعة واللوازم كاللحمة .

فإذا وجدت الحقائق المتبوعة والملزومات ، وانسحب عليها الفيض الوجودي والتجلَّي النفسي الرحماني الجودي ، ممتدا من أوّل موجود وجد إلى آخر مولود ولد ، سرى منها منبسطا إلى ما حواليها من اللوازم القريبة ثمّ إلى لوازم اللوازم .

وهكذا إلى العوارض واللواحق ، فانتسجت المعاني والحقائق الكونية على هذا المنوال بهذا المثال ، وكلَّما تضاعف حكم التجلَّي الوجودي وأوصل كوامن أحكام الحقائق بعضها إلى البعض وأظهرها ، تكاثفت الصور وثبّتت وثبتت بالنسبة والإضافة ، إذ لا ثبات للأعراض على الحقيقة فإنّها في التبدّل والتغيّر بالخلق الجديد ، فافهم ، وتنزّه فيما صرّحنا به .

واعلم : أنّ هذه الصور والأشكال والهيئات أظهرها الله آيات ونصبها أمثلة للصور والهيئات المعنوية المعقولة الأزلية التي هي شؤونه وأحواله الذاتية ، وما يعقلها إلَّا العالمون بالله الذين يعرفون تأويلها ويعبرون من صورها إلى حقائقها ، والله الموفّق له الحمد لا ربّ غيره .

قال رضي الله عنه  :
إنّما الكون خيال  .... وهو حق في الحقيقة
والذي يفهم هذا  .... حاز أسرار الطريقة
يعني رضي الله عنه : أنّه من حيث الصور والهيئات والأشكال والنقوش خيال يظاهر كثراء في مراء ، وهو من حيث الوجود الواحد الحق المتنوّع ظهوره والمنبسط عليها نوره .
وفي هذه الصور حق بلا شكّ ولا مراء ، فلو لم تشهد التبدّل والتحوّل فأنت عن الحق محجوب ، وفي عين اللبس من خلق جديد موهوب ، وإن شهدت التبدّل وقلت به ولم تر الحق المتحوّل في الصور والمتشكَّل في الأشكال من كل ما بطن فظهر ، فأنت في عين السفسطة ، فانتبه .

قال رضي الله عنه : « وكان صلَّى الله عليه وسلَّم إذا قدّم له لبن ، قال : « اللهمّ بارك لنا فيه وزدنا منه » لأنّه كان يراه صورة العلم وقد أمر بطلب الزيادة من العلم ، وإذا قدّم إليه غير اللبن ، قال : « اللهمّ بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه » فمن أعطاه الله ما أعطاه عن أمر إلهي ، لا يحاسبه به في الدار الآخرة ، ومن أعطاه ما أعطاه بسؤال لا عن أمر إلهي ، فالأمر فيه إلى الله ، إن شاء حاسبه به ، وإن شاء لم يحاسبه به .
وأرجو من الله في العلم خاصّة أنّه لا يحاسبه به ، فإنّ أمره لنبيّه بطلب الزيادة من العلم عين أمره لأمّته فإنّ الله يقول : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )  أي أسوة أعظم من هذا التأسي لمن عقل عن الله تعالى .
ولو نبّهنا على المقام السليماني على تمامه ، لرأيت أمرا يهولك الاطَّلاع عليه ، فإنّ أكثر علماء هذه الطريقة جهلوا حالة سليمان ومكانته و ليس الأمر كما زعموا »

ذلك عن ملك آخرته ، وهم غفر الله لهم غفلوا عن كمال تجلَّي الله وظهوره في أكملية مرتبة الخلافة في مظهرية سليمان .
وأنّ الوجود الحق تعيّن به وفيه على أكمل الصور الإلهية والرحمانية ، مع كمال إيفائه وقيامه بحقّ كمال العبدانية ، فإنّه عليه السّلام في عين شهوده ربّه على هذا الكمال ، كان يعمل بيديه ، ويأكل من كسبه ، ويجالس الفقراء والمساكين ، ويفتخر بذلك .

فيقول : « مسكين جالس مسكينا » رزقنا الله وإيّاك من كماله ، ولا حرمنا من علمه ومقامه وحاله ، إنّه قدير وهّاب ، مفتّح الأبواب ، وميسّر الأسباب .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فصّ حكمة وجودية في كلمة داوودية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:22 am

17 - فصّ حكمة وجودية في كلمة داوودية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الجزء الأول
17 - فصّ حكمة وجودية في كلمة داوودية
قال العبد : قد ذكرنا علَّيّة استناد الحكمة الوجودية إلى الكلمة الداودية في شرح الفهرست ، وفي شرح فصّ سليمان ، أنّه صورة كمال ظهور الوجود ،ونتمّمه إن شاء الله في شرح المتن.
" إنّما كانت حكمته وجودية لما تمّ في وجوده حكم الوجود العامّ في التسخير ، وجمع الله له بين الملك والحكمة والنبوّة ، ووهبه سليمان الذي آتاه التصرّف في الوجود على العموم ، وخاطبه بالاستخلاف ظاهرا صريحا ، فبلغ الوجود بوجوده كمال الظهور ."
 
قال رضي الله عنه : « اعلم : أنّه لمّا كانت النبوّة والرسالة اختصاصا إلهيّا ليس فيها شيء من الاكتساب ، أعني نبوّة التشريع ، كانت عطاياه - تعالى - لهم عليهم السّلام من هذا القبيل مواهب ليست جزاء ، ولا يطلب عليها منهم جزاء ، وإعطاؤه إيّاهم على طريق الإنعام والإفضال ، فقال :   ( وَوَهَبْنا لَه ُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ) ، يعني لإبراهيم الخليل ، وقال في أيّوب : ( وَوَهَبْنا لَه ُ أَهْلَه ُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) ،


وقال في حق موسى :   ( وَوَهَبْنا لَه ُ من رَحْمَتِنا أَخاه ُ هارُونَ نَبِيًّا )   فالذي تولَّاهم أوّلا هو الذي تولَّاهم في عموم أحوالهم أو أكثرها ، وليس إلَّا اسمه « الوهّاب » وقال في حق داوود عليه السّلام :   ( وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا )   فلم يقرن به جزاء يطلبه منه ، ولا أخبر أنّه أعطاه هذا الذي ذكره جزاء ، ولمّا طلب الشكر على ذلك بالعمل ، طلبه من آل داوود ، ولم يتعرّض لذكر داوود ليشكره الآل على ما أنعم به على داوود » .
قال العبد : يشير رضي الله عنه بإسناد هذه الحكمة الوجودية إلى الكلمة الداودية ، إلى أنّ الكمال الوجوديّ والوجود الكماليّ إن يظهرا في أحدية جمع الجمع الإنساني الإلهي ، بالخلافة والنيابة الإلهية الكلَّية من حضرة الجواد الوهّاب ،
فإنّ الوجود فيض ذاتي جودي ، وهو نفس رحماني وجودي ، وهذا وإن ظهر في كل خليفة الله في أرضه وقطب قام بنيابته في نفله وفرضه في كل عصر ،عصر من الأنبياء والأولياء ، ولكن ظهوره في داوود عليه السّلام كان أتمّ وأبين ، بمعنى أنّ الله جمع له - صلوات الله عليه - بين الخلافة الحقيقية المعنوية الإلهية وبين الخلافة الظاهرة بالسيف والتحكيم الكلَّي في العالم.
وأعطاه النبوّة والحكمة وفصل الخطاب والملك الكامل والسلطان والحكم الشامل في جميع أنواع العالم وأجناسه ،
كمال ظهور حكم ذلك في سليمان ، فإنّه حسنة من حسنات داوود - على نبيّنا وعليهم السّلام وتكملة لكماله وتتمّة لفضله وإفضاله ، وسليمان مع ما أعطاه الله من الملك والسلطان موهوب لداود عليه السّلام .
قال الله تعالى :   ( وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ )   ومن جملة كمالاته الاختصاصية - التي اختصّه الله بها ممّا لم يظهر في غيره من الخلفاء والكمّل أنّ الله تعالى نصّ على خلافته .
بقوله رضي الله عنه :  ( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ )   فحكمه بالحقّ على الخلق ، ولم يصرّح بمثل ذلك في غيره ،


وقوله تعالى :   ( إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً )   فيه احتمال في حق آدم عليه السّلام من كونه أوّل الخلفاء وأباهم ، ولكنّ احتمال متناول غيره من أولاده ، وقرينة الحال تدلّ على أنّ الاحتمال في حق داوود أرجح ، لأنّ آدم ما أفسد ولا سفك الدماء .
ومحاجّة الملائكة مع الربّ في جواب قوله :   ( إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً )   بقولهم :   ( أَتَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ) مرجّحة للاحتمال في حق داوود ، لأنّه سفك دماء أعداء الله من الكفرة كثيرا ، وقتل جالوت وأفسد ملكه .
وجعل كما قال تعالى حكاية عن بلقيس :   ( إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ )   فظهر من داوود عليه السّلام هذا النوع من الفساد في الكفّار الذين أمر الله داوود وأولي العزم من خلفائه بإفساد ملكهم وحالهم ، لأنّه عين إصلاح الملك والدين ، فصحّ في حق داوود ما قالت الملائكة .
 
فلقائل أن يقول : المراد على التعيين من قوله :   ( إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً )   هو داوود ، فلم تبق مرتبة وجودية إلَّا ظهر كمال داوود وخلافته فيها ، حتى في كلام الله ومرتبة اللفظ والرقم ، فلهذا نسبت الحكمة الوجودية إلى الكلمة الداودية .


ثمّ اعلم : أنّ الشيخ رضي الله عنه أشار إلى أنّ النبوّة والرسالة تكونان بالاختصاص الإلهي ، وليستا بكسب ، ولا مجازاة عن عمل أو ثوابا عن سابق حسنة وطاعة تكونان نتيجة عنها ، ولا لشكر أو عبادة متوقّعة منهم عليهما ،
وإذا كانتا كذلك ، فلا تحصلان لأحد بتعمّل وكسب ، كما وهم فيه القائلون من أهل النظر الفكري بأنّهما تحصلان لمن كملت علومه وأعماله ، وأنّ النبوّة عبارة عن كمال العلم والعمل فكلّ من كمل علمه وعمله ، فهو نبيّ في زعمهم ،
وهذا باطل ، وإلَّا لكان كل من تكامل علمه وعمله رسولا نبيّا يوحى إليه وينزل عليه الملك بالتشريع وليس كذلك ، فكم من عالم عامل كامل في العلم والعمل ولا ينزل عليه الملك بالوحي والتشريع ، فصحّ أنّها ليست إلَّا عن اختصاص إلهي ، ومن لوازمها كمال العلم والعمل ، فلا يتوقّف تحقّقها - أعني النبوّة - على لوازمها ، فإنّ تحقّق وجود اللازم بتحقّق وجود الملزوم لا بالعكس ، وهذا ظاهر .
 
ولمّا كانت اختصاصا إلهيّا ، لم يطلب منهم عليها جزاء ولا شكورا - وإن وقع الشكر منهم دائما - أو ثوابا لإعمال الصالحات في مقابلة ذلك ، فليس ذلك مطلوبا بالقصد الأوّل من الاختصاص ، ولا هم مطالبون بذلك عوضا عن ذلك ،
 كما قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قيامه الليل كلَّه ، حتى تورّمت قدماه ، فقيل له :
اقصر ، فقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر : « فلا أكون عبدا شكورا » ولهذا لم يرد طلب الجزاء والشكر من داوود ، وإنّما ورد ما ورد في حق آل داوود حيث جعلهم الله من آل من هذا شأن كمالاته ، فافهم .


قال رضي الله عنه : " وهو في حق داوود "   يعني ما وهبه الله « عطاء نعمة وإفضال ، وفي حق آله على غير ذلك ، لطلب المعاوضة ، فقال تعالى  ( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً )   يعني الأعمال الصالحة الزاكية عند الله   ( وَقَلِيلٌ من عِبادِيَ الشَّكُورُ )  ،
وإن كانت الأنبياء عليهم السّلام قد شكروا الله تعالى على ما أنعم به عليهم ووهبهم ، فلم يكن ذلك عن طلب من الله ، بل تبرّعوا بذلك من نفوسهم كما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورّمت قدماه شكرا لما غفر له من ذنبه ، ما تقدّم وما تأخّر ،
فلمّا قيل له في ذلك ، قال : « أفلا أكون عبدا شكورا ؟ »
وقال في حق نوح : ( إِنَّه ُ كانَ عَبْداً شَكُوراً )   والشكور من عباد الله قليل ، فأوّل نعمة أنعم الله بها على داوود أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتّصال ، فقطعه عن العالم بذلك إخبارا لنا عنه بمجرّد هذا الاسم ، وهي الدال والألف والواو » .
 
يشير رضي الله عنه إلى أنّ الله أخبره كشفا أنّه قطعه عن العالم من كونه غيرا وسوى بما اختصّه به من الجمع بين النبوّة والرسالة والخلافة والملك والعلم والحكمة والفصل ، بلا وساطة غيره ، وظهرت أسرار هذا القطع في حروف اسمه ، لكونه من أقطاب كمل الاسم « الظاهر » فإنّ الألقاب مع الأسماء تنزل من السماء ،
أي عن سماء الأسماء بتسمية ربّ حكيم عليم بما سمّى به كلّ عبد من الاسم ، وهذه الحروف من حروف الاسم الأعظم المتصرّف في الأكوان ، وكان هو - صلوات الله عليه - بعينه معنى الاسم الأعظم وصورته في عصره .
 
قال رضي الله عنه : « وسمّى محمّدا صلى الله عليه وسلم  بحروف الاتّصال والانفصال ، فوصله به وفصله عن العالم ، فجمع له بين الحالين في اسمه ، كما جمع لداود بين الحالين من حيث المعنى ، ولم يجعل ذلك في اسمه ، فكان ذلك اختصاصا لمحمّد على داوود ، أعني التنبيه عليه باسمه ، فتمّ له الأمر عليه السّلام من جميع جهاته ، وكذلك في اسم أحمد ، فهذا من حكمة الله » .
أي إنّما سمّاهما الله لحكمة دالَّة على حقائقهما من هذه الحروف والترتيب والتركيب والوضع والوزان التي في أسمائهما لمن عقل عن الله وما أغفل شيئا من الأشياء إلَّا شاهد حكمة الله المودعة فيه .
 
قال رضي الله عنه  : « ثم قال في حق داوود ، فيما أعطاه على طريق الإنعام عليه ترجيع  الجبال معه التسبيح ، فتسبّح لتسبيحه ، ليكون له عملها ، وكذلك الطير » .
 
قال العبد : يريد أن يوفي بحمد الله إلى الحكم والحقائق التي أوجبت ترجيع الجبال والطير لداود عليه السّلام بلسان الإشارة الكشفية ، فنقول : الجبال هي صورة الرسوخ والتمكَّن والثبات ، الخصيصة بالكمّل ، المتعيّنة حجابياتها في الجسمانيات والأماكن العالية ، المحتوية على جواهر الحقائق الكمالية التي أومأنا إليها ممّا يصعب الصعود عليها ، وقد أودعت في الحقائق الجسمية ، ممّا ليس في عالم الأرواح إلَّا روحانياتها ، ولا في عالم المعاني إلَّا معانيها وأعيان حقائقها من كمال الظهور والعلوّ وأحدية الجمع ، وما ذكرنا .
 
والطير صور القوى والحقائق والخصائص الروحانية في نشأة الإنسان الكامل ، ولمّا كان داوود عليه السّلام من كمال تبتّله وانقطاعه إلى الله بالمحبّة الدائمة والهيمان فيه والعشق وإيثار جنابه - تعالى - على نفسه وسواه وشدّة الشوق إليه بحيث تبعته قواه الجسمانية وقواه الروحانية ، فغلب عليه وعلى قواه الجسمانية والروحانية الانقطاع والرجوع إلى الله والتبتّل ، وتحقّق فيه هذا السرّ ، أظهر الله لسرّ تبعية ظاهره وباطنه ، كما قلنا له في التنزيه والتقديس الإلهي صورة ومثالا ترجيع الجبال والطير ، لمّا كان الغالب عليه في زمانه تجلَّي الاسم « الظاهر » على « الباطن » ، فكانت الحقائق والمعاني تظهر صورا قائمة لهم لما أهّله الله وخصّه بكمال الظهور الوجودي .
قال رضي الله عنه : « أعطاه القوّة ونعته بها وأعطاه الحكمة » يعني : وضع الأمور مواضعها ، وكان يحكم بالأحكام المؤيّدة بالحكمة .
قال : « وفصل الخطاب » .
يعني الإفصاح بحقيقة الأمر ، وقطع القضايا والأحكام باليقين من غير ارتياب ولا شكّ أو توقّف .


قال رضي الله عنه : « ثمّ المنّة الكبرى والمكانة الزلفى - التي خصّه الله بها - التنصيص على خلافته ، ولم يفعل ذلك بأحد من أبناء جنسه وإن كان فيهم خلفاء ، فقال : ( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى )   ،
أي ما يخطر لك في حكمك من غير وحي منّي   ( فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله )   أي عن الطريق الذي أوحي بها إلى رسلي ، ثمّ تأدّب سبحانه معه " ليعلمنا جل شأنه الأدب  مع الرسل والأنبياء وأولياء الله و وانزالهم منازلهم ".
، فقال رضي الله عنه :   ( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ )  "ولم يقل له : فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد ."
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن قلت : وآدم عليه السّلام قد نصّ على خلافته .
قلنا : ما نصّ مثل التنصيص على داود ، وإنّما قال للملائكة : ( إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً )    ، ولم يقل : إنّي جاعل آدم خليفة في الأرض ،
ولو قال ، لم يكن مثل قوله : « جَعَلْناكَ خَلِيفَةً » في حق داوود ، فإنّ هذا محقّق ، وليس ذلك كذلك ، وما يدلّ ذكر آدم في القصّة بعد ذلك على أنّه عين ذلك الخليفة الذي نصّ الله عليه ، فاجعل بالك لإخبارات الحق عن عباده إذا أخبر )
وكذلك في حق إبراهيم :   " إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ، ولم يقل : خليفة ، وإن كنّا نعلم أنّ الإمامة هنا خلافة ، ولكن ما هي مثلها لو ذكرها بأخصّ أسمائها وهي الخلافة . ثم في داوود من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم ، وليس ذلك إلَّا عن الله تعالى فقال له : « فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ  » .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الحكم مستنده إلى حضرة الاسم « الله » فإنّ الحكم لله ، والألوهية كمال الحكم والتصرّف بالفعل والإيجاد والاختراع .
 
قال رضي الله عنه : « وخلافة آدم قد لا تكون من هذه المرتبة ، فتكون خلافته أن يخلف من كان فيها قبل ذلك ، لا أنّه نائب عن الله في خلقه بالحكم الإلهي فيهم ، وإن كان الأمر كذلك وقع ، ولكن ليس كلامنا إلَّا في التنصيص عليه والتصريح به ، ولله في الأرض خلائف عن الله وهم الرسل ، وأمّا الخلافة اليوم فعن الرسول لا عن الله » يريد بها الخلافة الظاهرة بالملك والسيف .
 
« فإنّهم ما يحكمون إلَّا بما شرع لهم الرسول ، ولا يخرجون عن ذلك غير أنّ هنا دقيقة لا يعلمها إلَّا أمثالنا ، وذلك في أخذ ما يحكمون به ممّا هو شرّع للرسول عليه السّلام » .
يشير - رضي الله عنه - إلى أنّ الحاكم من الخلفاء الإلهيّين الآخذين الخلافة عن الله - بعد أن يرثها عمّن استخلفه بما يأخذ الحكم أيضا كذلك عن الله فيحكم بحكم الله - عليه أن يحكم تحكيمه إيّاه في خلقه ، ويطابق حكمه حكم المشروع ، فهو مأمور من قبل لله بالحكم .
 
قال رضي الله عنه : « فالخليفة عن الرسول من يأخذ الحكم بالنقل عنه صلى الله عليه وسلم أو بالاجتهاد الذي أصله أيضا منقول عنه صلى الله عليه وسلم وفينا من يأخذه عن الله ، فيكون خليفة عن الله بعين ذلك الحكم ، فتكون المادّة له من حيث كانت المادّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو في الظاهر متّبع ، لعدم مخالفته في الحكم ، كعيسى إذا نزل فحكم ،
وكان النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم في قوله : ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِه ْ )   وهو في حق ما يأخذه من صورة الأخذ مختصّ موافق ، هو فيه بمنزلة ما قرّره النبيّ صلى الله عليه وسلم من شرع من تقدّم من الرسل بكونه قرّره ، فاتّبعناه من حيث تقريره لا من حيث إنّه شرع لغيره قبله )، (وكذلك أخذ الخليفة عن الله عين ما أخذه منه الرسول).
 
يشير رضي الله عنه إلى أنّ الخليفة منّا أو الرسول فيما أمر باقتداء هدى الله الذي هدى به من قبله من الأنبياء وإن وقعت صورة الاقتداء والاتّباع ، فإنّ ذلك منهم موافقة لكونه مختصّا بالحكم من الله ، فإنّه وإن وقع الحكم بما يحكم به من قبله ، ولكنّه أخذ الحكم عن الله لا عمّا أخذه العامّة من علماء الرسوم ، وإن اشتركهم في شيء خصّصت به من بينهم وحدي ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه : « فنقول فيه » أي في خليفة من خلفاء الأولياء منّا « بلسان الكشف : خليفة الله ، وبلسان الظاهر : خليفة رسول الله ، ولهذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نصّ بخلافة عنه إلى أحد ولا عيّنه ، لعلمه أنّ في أمّته من أخذ الخلافة عن ربّه ، فيكون خليفة عن الله تعالى ليوافقه في الحكم المشروع ، فلمّا علم ذلك صلى الله عليه وسلم لم يحجز الأمر ،
 
فللَّه خلفاء في خلقه ، يأخذون من معدن الرسول والرسل ما أخذته الرسل عليهم السّلام ويعرفون فضل المتقدّم هناك ، لأنّ الرسول قابل للزيادة ، وهذا الخليفة ليس بقابل للزيادة التي لو كان الرسول قبلها ، فلا يعطى من العلم والحكمة فيما شرع إلَّا ما شرع للرسول خاصّة ، وهو في الظاهر متّبع غير مخالف بخلاف الرسل ، ألا ترى عيسى عليه السّلام لمّا تخيّلت اليهود أنّه لا يزيد على موسى – مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرسول - آمنوا به وأقرّوا »
أي أثبتوه نبيّا وأقرّوا بنبوّته « فلمّا زاد حكما أو نسخ حكما كان قد قرّره موسى لكون عيسى رسولا لم يحتملوا ذلك ، لأنّه خالف اعتقادهم فيه ، وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه ، فطلبت قتله ، فكان من قصّته ما أخبرنا الله تعالى في كتابة العزيز عنه وعنهم فلمّا كان رسولا قبل الزيادة : إمّا بنقص حكم قد تقرّر ، أو زيادة حكم . على أنّ النقص زيادة حكم بلا شكّ .
 
والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب ، وإنّما تنقص أو تزيد على الشرع الذي قد تقرّرنا بالاجتهاد ، لا على الشرع الذي شوفه به محمّد صلى الله عليه وسلم فقد يظهر من الخليفة ما يخالف حديثا ما في الحكم ، فيتخيّل أنّه عن الاجتهاد وليس كذلك ،
وإنّما هذا الإمام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولو ثبت لحكم به ، وإن كان الطريق فيه العدل عن العدل ، فما هو معصوم من الوهم ، ولا من النقل على المعنى ، فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم ،
وكذلك يقع من عيسى عليه السّلام فإنّه إذا نزل يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرّر ، فيبيّن برفعه صورة الحق المشروع الذي كان عليه عليه السّلام ولا سيّما إذا تعارضت بأحكام الأئمّة في النازلة الواحدة ، فيعلم قطعا أنّه لو نزل وحي لنزل بأحد الوجوه ، فذلك هو الحكم الإلهي ، وما عداه - وإن قرّره الحق - فهو شرع تقرير لرفع الحرج عن هذه الأمّة واتّساع الحكم فيها » .
 
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الخلافة المنفردة عن النبوّة التشريعية ورسالتها المنقطعتين بخاتم الأنبياء والرسل عليهم السّلام ليس لها هذا المنصب من الحكم ظاهرا من وجهين :
أحدهما : أنّ الخلفاء من بني العبّاس خلفاء من تقدّمهم من خلفاء رسول الله ، والحكم الذي كانوا يحكمون به غير مأخوذ عن الله ، على ما كان يأخذه الرسول أو الوليّ الخليفة ، بل مأخوذ عن النقل أو باجتهاده لا غير ، فلو كان الخليفة منهم آخذا خلافته عن الله وحكمه فيما يحكم به عن الله ، وكان له الحكم والسيف ظاهرا ، لكان له هذا المنصب الذي كنّا بصدده كخلافة داوود ومحمّد وموسى صلوات الله عليهم .
والثاني : أنّ الكمّل من خلفاء الله من الأولياء - وإن تحقّقوا بمقام الكمال وارتقوا في درجات الأكملية فليس لهم منصب الخلافة ظاهرا بالسيف ولا الحكم بالقتل والإبقاء على الاستقلال والاستبداد ، وإن كان كل منهم إماما متبوعا للعالمين كافّة فيما يشترك فيه الكلّ ، وللخاصّة فيما يخصّهم ، وينفردون بخصوصيات ليست لغيرهم من الأولياء ، ممّن لم يتحقّقوا بدرجة الكمال والخلافة ،
فيرى هذا الخليفة بعض الأحاديث المنقولة ثابت الإسناد في الظاهر ، عدلا عن عدل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غير ثابت عنده من طريق الكشف فيما أخذ عن الله ، فيحكم بخلافه إن أمر بذلك ، أو يسكت عنه إن أمر بذلك كذلك ، أو يبيّن الأمر فيه ،
 
فيقول : هذا الحديث ثابت ظاهر نقلا ، غير صحيح كشفا وبالعكس ، فيحكم بصحّة ما لم يصحّ في النقل الظاهر .
وكيفية علمه بصحّة ما صحّح كشفا - وإن لم يصحّ رواية وبالعكس هي أنّ الخليفة الكامل يحضر لتصحيح ذلك نقلا في الحضرة الإلهية ، ويجتمع بالرسول صلَّى الله عليه وسلَّم من حيث روحه في برزخه ، أو ينزل إليه روح الرسول ، أو ألحق مع الرسول ،
فيأخذ الحكم عن الله ، أو يسأل الرسول عن صحّة الحديث وعدم ثبوته عنه ، فيثبت ويصحّح له الرسول ما صحّ ، ويعرض عمّا لم يصحّ ،
فيقول : هذا صحيح كشفا لا نقلا ، وذلك غير صحيح كشفا إلَّا في النقل الظاهر ، فهذا سرّ الخلاف الواقع من الخليفة اليوم ، فلو كان مع الخلفاء من الأولياء الحكم بالهمم أو بغير الهمم من أنفسهم بل أمر بعض الأولياء المتصرّفين في العالم بالهمم ، فيخدمون ويمتثلون أمره وحكمه ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه : « وأمّا قوله عليه السّلام : « إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما » - هذا في الخلافة الظاهرة التي لها السيف ، وإن اتّفقا ، فلا بدّ من قتل أحدهما ، بخلاف الخلافة المعنوية ، فإنّه لا قتل فيها » .
يعني رضي الله عنه : أنّ الخلافة الحقيقية المعنوية العطيّة الكمالية لا تكون في كل عصر إلَّا لواحد ، كما أنّ الله واحد ، فكذلك خليفته الذي هو نائبه في الكلّ واحد ، ولا يأخذ الحكم الكلَّي الواحد عن الله الواحد الأحد إلَّا ذلك الواحد ، أعني كامل العصر .
 
قال : « وإنّما جاء القتل في الخلافة الظاهرة وإن لم يكن لذلك الخليفة هذا المقام » أي الأخذ عن الله ، تعالى .
قال رضي الله عنه : « وهو خليفة رسول الله إن عدل - فمن حكم الأصل الذي به يخيّل وجود إلهين ،   ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا ) وإن اتّفقا ، فنحن نعلم أنّهما لو اختلفا تقديرا لنفذ حكم أحدهما ، فالنافذ الحكم هو الإله على الحقيقة ،
والذي لا ينفذ حكمه ليس بإله ، ومن هاهنا يعلم أنّ كل حكم ينفذ اليوم في العالم أنّه حكم الله ، وإن خالف الحكم المقرّر في الظاهر المسمّى شرعا ، إذ لا ينفذ حكم إلَّا لله في نفس الأمر ، لأنّ الأمر الواقع في العالم ، إنّما هو على حكم المشيّة الإلهية ، لا على حكم الشرع المقرّر وإن كان تقريره من المشيّة ، ولذلك نفذ تقريره خاصّة ، فإنّ المشيّة ليس لها إلَّا التقرير لا العمل بما جاء به » .
 
يعني رضي الله عنه أنّ حكم الخليفة فيما خالف الحكم المقرّر في الشرع إذا نفذ ، علمنا أنّ نفوذه ليس إلَّا بإرادة الله ومشيّته ، إذ لا نفوذ إلَّا لما أراد الله ، لا ما تقرّر ممّا لا نفوذ له ، فليس في ذلك مشيّة التقرير النافذ ، ولا العمل غير النافذ ، فإنّ المشيّة ليس لها إلَّا التقرير التخصيصي لا العمل إلَّا ما تعلَّق به الإرادة من العمل ، فافهم .
 
والذي ذكر فيما قبل فإنّه يشير رضي الله عنه إلى أنّ الحكم بقتل آخر الخليفتين من أصل تقرّر في وحدة الله تعالى من قوله : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا )   .
وبيان ذلك على نحو ما قرّره الشيخ رضي الله عنه هو أنّه لو كان إلهان في العالم ، فإمّا أن يكونا إلهين بالذات أو بما خرج عن ذاتيهما ، لا جائز أن تكون إلهيّتهما بما خرج عنهما لا بالذات ، فإنّ غير الكامل بالذات في إلهيّته لا يكون إلها .
 
وإن كانا بالذات ، فلا يخلو في الإيجاد والإعدام من أن يتّفقا أو يتخالفا ، فإن تخالفا ، فلا يقع إيجاد ولا إعدام ، لتساوي تعادي أحد المقتضيين الآخر في أحد النقيضين ، لاقتضاء حكم أحدهما الإيجاد - مثلا - واقتضاء حكم الآخر بنقضه ونقيضه .
وإن اتّفقا فإمّا أن ينفذ حكم أحدهما في الآخر أو لم ينفذ ، فإن لم ينفذ فلا إلهية وإن نفذ فالنافذ الحكم هو الله وحده لا غير .
قال رضي الله عنه : « فالمشيّة سلطانها عظيم ، ولهذا جعلها أبو طالب عرش الذات » .
يعني ذات الألوهية لا ذات الذات المطلقة ، تباركت وتعالت .
 
قال رضي الله عنه : « لأنّها تقتضي لذاتها الحكم » يعني المشيّة « فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع خارجا عن المشيّة ، فإنّ الأمر الإلهي إذا خولف هنا بالمسمّى معصية ، فليس إلَّا الأمر الواسطة لا الأمر التكوينيّ ، فما خالف الله أحد قطَّ في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيّة ، فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة ، فافهم » .
 
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ حقيقة المشيّة تقتضي الحكم لذاتها ، لأنّ المشيّة اقتضاء ، والاقتضاء حكم بتخصيص ما عيّنه العلم لأمر بالإيجاد ، فيقع ما تعلَّقت المشيّة بوقوعه أو بإعدامه ، فيكون كذلك ،
وذلك بحسب تعيّن العلم وحكمه على مقتضى ما تعيّن المعلوم في العلم وبموجبه ، وقد علمت فيما سلف أنّ الأمر الإلهي الذي لا رادّ له وحكم الله الذي لا معقّب لحكمه ، وهو ما اقترنت به الإرادة والمشيّة ، فيقع ضرورة ، لوقوع تعلَّق المشيّة بوقوعه .
وإن لم تقترن المشيّة بوقوع العمل واقترنت بوقوع الأمر ، لم يقع العمل ووقع الأمر ، لاقتران المشيّة بوقوع الأمر من الآمر به وعدم اقترانها بوقوع مقتضى الأمر والعمل من هذا العامل المعيّن .
فاعلم هذا تعلم أنّ المسمّى معصية ومخالفة إنّما هي باعتبار أمر المكلَّف والشارع المتوسّط ، وليست من حيث نسبتها إلى الله ، فإنّه لا مخالف لله في أمره الذي لا واسطة فيه ، فلا رادّ له ، والله يقتضي ، إذ لا معقّب لحكمه ، هذا مقتضى الألوهة .
 
قال رضي الله عنه : « وعلى الحقيقة فأمر المشيّة إنّما يتوجّه على إيجاد عين الفعل ، لا على من ظهر على يديه ، فيستحيل إلَّا أن يكون ، ولكن في هذا المحلّ الخاصّ فوقتا يسمّى مخالفة لأمر الله ، ووقتا يسمّى موافقة وطاعة لأمر الله » .
 
يعني : فيمن وقع منه العمل بالطاعة ، بمعنى أنّ تعلَّق المشيّة والأمر الإرادي إنّما يكون بعين الفعل المأمور به ، فيقع بموجبه ، ولكن في هذا العبد المعيّن المسمّى مطيعا موافقا ، ويثاب عليه ، وذلك في ضمن تعلَّقها بعين فعله ، وأمّا بالنسبة إلى المخالف عرفا شرعيا فما تعلَّقت المشيّة به ولا بفعله ، لأنّ المشيّة ما تعلَّقت بعين الفعل في هذا المحلّ المعيّن ، ولم يكن في مقتضى حقيقته وعينه الثابتة في العلم أن يوجد منه هذا الفعل المأمور به ، بل في غيره ، لكون ذلك من مقتضى حقيقته ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه : « وينبعث لسان الحمد والذمّ على حسب ما يكون » على المخالفة لأمر الواسطة والموافقة لأمر الإرادة .
قال رضي الله عنه : « ولمّا كان الأمر في نفسه على ما قرّرناه لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة على اختلاف أنواعها ، فعبّر عن هذا المقام بأنّ الرحمة وسعت كلّ شيء ، وأنّها سبقت الغضب الإلهيّ ، والسابق متقدّم فإذا لحقه هذا الذي حكم عليه المتأخّر ، حكم عليه المتقدّم ، فنالته الرحمة ، إذ لم يكن غيرها سبق » .
 
يعني : كانت الرحمة هي السابقة بالنصّ الإلهي ، فنالت الكلّ ، فالكلّ مرحوم ، ومآل الكلّ إلى الرحمة .
ثم اعلم : أنّ الشيخ نبّه على برهان عال عظيم على زوال الشقاء وعموم السعادة في الدنيا والآخرة آخرا ، وذلك أنّ المقتضي لعموم السعادة بالرحمة وزوال الشقاوة بها كذلك سالم وهو سبق الرحمة الغضب ، فلا يلحقها الغضب ، وإلَّا لم تكن سابقة ، فإذا لحق المغضوب عليه الرحمة السابقة لكونها في الغاية ووقفت ، لم يبق للغضب المسبوق فيه حكم .
 

وأيضا لأنّ عين المغضوب من كونه شيئا يجب أن يكون مرحوما فإنّ رحمته وسعت كلّ شيء ، ولم يقل : سبقت رحمتي عين المغضوب ، فأعيان الأشياء مرحومة ، لكونها موجودة فلا يلحقها الغضب ، لأنّها لحقت الرحمة ولحقتها الرحمة التي وسعت والرحمة التي سبقت الغضب وبعد اللَّحوق ، فالرحمة تحكم بمقتضاها لا بمقتضى نقيضها ، وهو الغضب ، فتعمّ الرحمة جميع الحقائق .
.
ينبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فصّ حكمة وجودية في كلمة داوودية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:23 am

17 - فصّ حكمة وجودية في كلمة داوودية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الجزء الثاني
17 - فصّ حكمة وجودية في كلمة داوودية
قال رضي الله عنه : « فهذا معنى ) سبقت رحمته غضبه ( لتحكم على من وصل إليها ، فإنّها في الغاية ووقعت ، والكلّ سالك إلى الغاية ، فلا بدّ من الوصول إليها ، فلا بدّ من الوصول إلى الرحمة ومفارقة الغضب ، فيكون الحكم لها في كلّ واصل إليها بحسب ما يعطيه حال الواصل  إليها » .
قال العبد : هذا برهان ظاهر .
قال رضي الله عنه :
فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا  .... وإن لم يكن فهم فيأخذه عنّا
وما ثمّ إلَّا ما ذكرناه فاعتمد  .... عليه وكن بالحال فيه كما كنّا
فمنه إلينا ما تلونا عليكم  .... ومنّا إليكم ما وهبناكم منّا
يعني رضي الله عنه : ما قلناه لكم وارد إلينا من الحق ، وقد وهبناكم ، فلكم منّا ذلك ، وليس ذلك وارد من الحق إليكم ، بل منّا إلَّا ما شاء الله العزيز الحكيم .

قال رضي الله عنه : « وأمّا تليين الحديد فقلوب قاسية يليّنها الزجر والوعيد تليين النار الحديد ، وإنّما الصعب قلوب أشدّ قساوة من الحجارة ، فإنّ الحجارة تكسرها وتكلَّسها النار ولا تليّنها » .
يعني رضي الله عنه  : أنّ الحجارة ليس فيها قبول التليين ، فإنّها للكسر أو للتكليس .

قال رضي الله عنه  : " وما ألان له الحديد إلَّا لعمل الدروع الواقية ، تنبيها من الله أن لا يتّقى الشيء إلَّا بنفسه ، فإنّ الدروع يتّقى بها السنان والسيف والسكَّين والنصل ، فاتّقيت الحديد بالحديد ، فجاء الشرع المحمدي بـ « أعوذ بك منك » فافهم ، فهذا روح تليين الحديد فهو المنتقم الرحيم . والله الموفّق ".


يشير رضي الله عنه إلى أنّ صورة تليين الحديد على يد داوود والعمل للدروع صورة ما كان الله أعطاه من قوّة تليينه لقلب من يسمع كلامه ومزاميره ،
ومن جملة ذلك ترجيع الجبال والطير ، لقوّة تأثيره ولذّة ألحانه في الجماد والنبات والحيوان والإنسان ، فتليين القلوب روح تليين الحديد ،
لأنّ في الحديد قابلية للَّين كما في قلوب المؤمنين قابلية الانقياد والطاعة لكلامه وحكمه ، فإنّ من ليس فيه قابلية الزجر والوعيد والوعد والتشويق ، فهو في مرتبة أشدّ قساوة من الحجارة ، فـ  ( إِنَّ من الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْه ُ الأَنْهارُ )   . . . ( وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ من خَشْيَةِ الله )   
، ومنها ما لم يكن قابلا للَّين ، فالنار أولى بها ، حتى تكسرها وتكلَّسها ، حتى تلحق بالتراب ، فافهم .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 18 - فصّ حكمة نفسية في كلمة يونسية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالأحد يناير 19, 2020 6:17 pm

18 - فصّ حكمة نفسية في كلمة يونسية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص اليونسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
 18 - فصّ حكمة نفسية في كلمة يونسية
إنّما أضيفت الحكمة النفسية إلى الكلمة اليونسية ، لما نفّس الله بنفسه الرحماني عنه كربه التي ألبّت عليه من قبل قومه وأهله وأولاده من جهة أنّه كان من المدحضين ، ( فَالْتَقَمَه ُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ) ، فلمّا سبّح واعترف واستغفر (فَنادى في الظُّلُماتِ أَنْ لا إِله َ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ من الظَّالِمِينَ)   ، فنفّس الله عنه كربه ووهبه أهله وسربه ، قال تعالى :   ( وَنَجَّيْناه ُ من الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) .
"قال العبد : حاله عليه السّلام كان ضرب مثل لتعيّن النفس الناطقة بالمزاج العنصري وأهوال أحوال المزاج الطبيعي .
وفيه رواية ، أنّ حكمته مستندة إلى النفس الرحماني بفتح الفاء لما نفّس الله عنه جميع كربه المجتمعة عليه من قبل أهله ونفسه وولده وماله ."
ووجدت بخطَّ الشيخ المصنّف رضي الله عنه مقيّدا بفتح الفاء في النفس فصحّحنا النسخ به ، وكان عندنا بسكون الفاء.
وقد شرح شيخنا الإمام الأكمل أبو المعالي ، صدر الدين ، محيي الإسلام والمسلمين ، محمد بن إسحاق بن محمد في « فكّ الختوم » له على أنّها حكمة نفسية على ما سنشرح ذلك إن شاء الله ، والوجهان فيها موجّهان .
 
قال رضي الله عنه : ( اعلم : أنّ هذه النشأة الإنسانية بكمالها روحا وجسما ونفسا ، خلقها الله على صورته ، فلا يتولَّى حلّ نظامها إلَّا من خلقها إمّا بيده - وليس إلَّا ذلك - أو بأمره ) .
قال العبد : قد تقدّم في شرح الفصّ الآدمي سرّ قوله : « خلق الله آدم على صورته » وأنّه سارى الحكم في أولاد آدم وذرّيّته ، فإنّ المراد منه النوع ، فلمّا كان الإنسان على الصورة الإلهية ، فلا يجوز أن يتولَّى حلّ نظامها إلَّا الله ، فإنّ قبض الأرواح والأنفس على اختلاف ضروبها من قبضها بملك الموت أو بالقتل والهدم وغير ذلك فإنّ الأمر يرجع في كل ذلك إلى الله.
كما قال :   ( الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ )   أي يستوفي أخذها   ( حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها ) أي يأخذها في نومها ، والأسباب الموضوعة لذلك كلَّها في قبضة الله وبيده .
 
وقوله : « أو بأمره » إشارة إلى الحكم الشرعي بالقصاص ( ومن تولَّاها بغير أمر الله » يعني ظلما « فقد ظلم وتعدّى حدّ الله فيها وسعى في خراب ما أمر الله بعمارته) .
(اعلم أنّ الشفقة على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغيرة في الله ) .
 
يعني : الإبقاء على النفوس المستحقّة للقتل شرعا والكفّار وغيرهم مع ما ورد التحريض في الشرع على الغزو شفقة عليها أحقّ بالرعاية من الغيرة في الله الموجبة للقتل ، فإنّ في القتل هدم بنيان الربّ وهو الإنسان ، وفي الإبقاء والشفقة على النفوس وإن كانت كافرة ما قد يوجب استمالة الكافر على الدين كما شوهد هذا في كثير ولا سيّما إذا أبقى عليه بنيّة ذلك ، فإنّ الله يثيبه على ذلك ، ولا يؤاخذه على عدم الغيرة فيه .
والغيرة نسبة لا أصل لها في الحقائق الثبوتية ، فإنّها من الغيرية ، وبانتفائها في حقيقة الأمر تنتفي الغيرة تحقيقا لا حميّة عصبيّة عصيّة .
 
قال رضي الله عنه : « أراد داوود بنيان بيت المقدس ، فبناه مرارا فكلَّما فرغ منه تهدّم ، فشكا إلى الله ، فأوحى الله إليه : أنّ بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدماء ،
فقال داوود : يا ربّ ألم يكن ذلك في سبيلك ؟ فقال : بلى ، ولكنّهم ليسوا بعبادي ؟
فقال : يا ربّ فاجعل بنيانه على يدي من هو منّي ، فأوحى الله إليه : أنّ ابنك سليمان يبنيه . والغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الإنسانية ، وأنّ إقامتها أولى من هدمها ، ألا ترى عدوّ الله الذين قد فرض الله فيهم الجزية والصلح ، إبقاء عليهم و قال :  ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى الله ) ؟
ألا ترى من وجب عليه القصاص كيف شرع لوليّ الدم أخذ الفدية أو العفو ؟
فإنّ أبي فحينئذ يقتل ، ألا تراه إذا كان أولياء الدم جماعة ، فرضي واحد بالدية أو عفا وباقي الأولياء لا يريدون إلَّا القتل ، كيف يراعى من عفا ويرجّح على من لم يعف ، فلا يقتل قصاصا؟
ألا تراه عليه السّلام يقول في صاحب النسعة : « إن قتله كان مثله » ؟
ألا تراه تعالى يقول :   ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها )؟
 فجعل القصاص سيّئة ، أي يسوء ذلك الفعل مع كونه مشروعا ، ( فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُه ُ عَلَى الله ) ، لأنّه على صورته ، فمن عفا عنه ولم يقتله ، فأجره على من هو على صورته ، لأنّه أحقّ به ، إذ أنشأه له ، وما ظهر بالاسم « الظاهر " إلَّا بوجوده " .
 
قال العبد : هذه الاستدلالات والحجج على رجحان العفو والإبقاء على النفوس الإنسانية على قتلها كلَّها صحيحة واضحة رجيحة ، والسرّ ما ذكر من قبل ، فتذكَّر .
وكذلك في أنّه إنّما يسمّى بالاسم « الظاهر » بوجود الإنسان ، وأنّه على صورته ، فتذكَّر وتدبّر .
وأمّا صاحب النسعة فإنّه وليّ دم لمقتول وجد وليّه عند القاتل نسعة للمقتول .
والنسعة : حبل عريض كالحزام ، وقد يكون من السير أو القدّ ، فأخذه بدم من هو وليّه ، فأمر له بالقصاص وقتل ذلك القاتل ، فلمّا قصد وليّ الدم قتله ، قال صلَّى الله عليه وسلَّم : « إن قتله كان مثله » يعني في الظلم ، وأنّ كلَّا منهما قد هدم بنيان الربّ .


قال رضي الله عنه : « فمن رعاه » يعني الإنسان « إنّما يراعي الحق ، وما يذمّ الإنسان لعينه ، وإنّما يذمّ الفعل ، وفعله ليس عينه ، وكلامنا في عينه ولا فعل إلَّا لله ، ومع هذا ما ذمّ منها ما ذمّ ، وما حمد منها ما حمد » .


أي من عين الإنسان : إذا أضيف إليها الفعل ، فإنّه يذمّ ويحمد .
قال رضي الله عنه : ( ولسان الذّم على جهة الغرض مذموم عند الله ، فلا مذموم إلَّا ما ذمّه الشرع ، فإنّ ذمّ الشرع لحكمة يعلمها الله أو من أعلمه الله ، كما شرع القصاص للمصلحة إبقاء لهذا النوع وإرداعا للمتعدّي حدود الله فيه ، " وَلَكُمْ في الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الأَلْبابِ " وهم أهل لبّ الشيء الذين عثروا على سرّ النواميس الإلهية والحكمية .
وإذا علمت أنّ الله راعى هذه النشأة وأقامها ، فأنت أولى بمراعاتها ، إذ لك بذلك السعادة ، فإنّه ما دام الإنسان حيّا ، يرجى له تحصيل صفة الكمال الذي خلق له ، ومن سعى في هدمه ، فقد سعى في منع وصوله لما خلق له ،
وما أحسن ما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : « ألا أنبّئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ؟ ذكر الله ) .
 
قال العبد : والسرّ في ذلك أنّ الغزو والقتال في سبيل الله إنّما شرع لإعلاء كلمة الله وذكره ، إن كانت الدولة للمسلمين والغلبة للمجاهدين وإن لم يكن كذلك وكان بالعكس ،
فإنّ فيه نقصان عبيد الله الذاكرين له المقتولين في سبيله وتفويت العلَّة الغائيّة ، فذكر الله مع الأمن عن المحذور وهو الفتنة وقتل أولياء الله أفضل من الجهاد الظاهر ، وإن كان المقتول في سبيل الله على أجر تامّ ، فذلك حظَّه بهدم أبنية الرحمن في صورة الإنسان ، فاعلم ذلك .
 
قال رضي الله عنه : (وذلك أنّه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانية إلَّا من ذكر الله الذكر المطلوب منه  فإنّه تعالى جليس من ذكره ، والجليس مشهود للذاكر ، ومتى لم يشاهد الذاكر الحق الذي هو جليسه ، فليس بذاكر ، فإنّ ذكر الله سار في جميع العبد - لا من ذكره بلسانه خاصّة ، فإنّ الحق لا يكون في ذلك الوقت إلَّا جليس اللسان خاصّة ، فيراه اللسان من حيث لا يراه الإنسان ، بما هو راء وهو البصر ) .
 
قال العبد : إذا داوم على ذكر الله بلسانه مع نفي الخواطر ومراقبة الله بحيث يكون لسانه متلفّظا بكلمة الذكر ، وقلبه يكون حاضرا مع المذكور ، وعقله متعقّلا لمعنى الذكر ، وفي قوّة خياله تخيّل صورة الذكر على تؤدة ووقار وخضوع وخشوع ، فإنّه يوشك أن يتّحد ، إذ كانت الأعضاء والجوارح الخصيصة بها مع الذكر الذي يداوم عليه ،
ويفنى الذاكر عن كلّ شيء وعن الذاكر بالمذكور وفي المذكور ، فيحييه الله حياة طيّبة نورية ، يرزقه فيها العيش مع الله وبالله لله في الله ، مشاهدا - في كل ما يشهد - إيّاه ، وهذا حال الكمّل المقرّبين الذين هم خواصّ الله رزقنا الله وإيّاكم لزوم هذا الذكر والدؤوب عليه ، إنّه قدير .
 
قال رضي الله عنه : ( فافهم هذا السرّ في ذكر الغافلين ، فالذاكر من الغافل حاضر بلا شكّ ، والمذكور جليسه ، فهو يشهد ، والغافل من حيث غفلته ليس بذاكر ، فما هو جليس الغافل ، فإنّ الإنسان كثير ، ما هو أحديّ العين ، والحق أحديّ العين كثير بالأسماء الإلهية ، كما أنّ الإنسان كثير بالأجزاء ، وما يلزم من ذكر جزء ما ذكر جزء آخر ، فالحق جليس ذلك الجزء الذاكر منه ، والآخر متّصف بالغفلة عن الذكر ، ولا بدّ أن يكون في الإنسان جزء يذكر به ، فيكون الحق جليس ذلك الجزء ، فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية ) .
 
يعني المجالسة التمثيلية ، فإنّه يعتقد كونه جليس الذاكر ، وحيث اشتغل الجزء الذاكر بالحق فهو جليسه ، وكذلك شهوده للحق إنّما يكون بحسبه لا بحسب غيره من الأجزاء ، فلا يكون شهود اللسان ومجالسته للحق كشهود القلب ومجالسته ، ولا كشهود العقل ومجالسته ، فإذا خشع العبد في ذكر كلّ الخشوع ، وخنع لربّه كلّ الخنوع ، وسرى ذلك في أجزائه كلَّها ، فكلَّه إذن جليس الله والحق جليسه بشهادة الرسول .
 
قال رضي الله عنه : « وما يتولَّى الحق هدم هذه النشأة بالمسمّى موتا وليس بإعدام ، وإنّما هو تفريق ، فيأخذه إليه ، وليس المراد إلَّا أن يأخذه الحق إليه ،   ( وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ فإذا أخذه إليه ، سوّى له مركبا غير هذا المركب من جنس الدار التي ينقل إليها ، وهي دار البقاء ، لوجود الاعتدال ، فلا يموت أبدا أي لا تفرّق  أجزاؤه » .
 
قال العبد اعلم : أنّ الموت عبارة عن افتراق جوهرك اللطيف وهو روحك عن جوهرك الكثيف ، فإذا اقترنت هذه الهيئة الاجتماعية التعيّنية ، فإنّ الله يتولَّى أخذ حقائقها المفرّق بعضها عن البعض وحفظها في موطن من مواطن الحضرات الوجودية يسمّى البرزخ ، ثم يتولَّى كذلك جمعها في موطن آخر كما يشاء .


وإنّما افترقت أجزاؤها النورية اللطيفة الروحانية عن أجزائها المظلمة الكثيفة الجسمانية ، لغلبة ما به الامتياز والمباينة بينها ، فإنّها كانت بالتضمّن والالتزام ، أعني :
هذه الهيئة الاجتماعية بين حقائق الروح وحقائق الجسم في ضمن اللطيف الوحداني من الكثرة المعنوية التي هي قواه وحقائقه وخصائصه ، فناسب الجزء الكثير منه وهو الجسم الكثيف من حيث أحدية الكثرة التي له ، أعني الجسم ، فجمع الله بينهما بهذه المناسبة الصحيحة وغيرها ممّا في تفصيله تطويل ، فكانت بينهما هذه الهيئة الاجتماعية بتضمّن كلّ واحد منهما ما يناسب الآخر ، ويصلح أن يكون متمّما لكمالاته ،


وكان الجزء الكثيف المركب وهو مركب اللطيف البسيط متحصّلا من عناصر متضادّة متباينة من وجوه ، ومتشاكلة متشاركة من وجوه ، فجمع الله بينهما بتغليب ما به المشاركة والاتّحاد على ما به المباينة والامتياز ، فلمّا بلغت أحكام ما به المناسبة والمشاركة غاياتها وانتهت إلى نهاياتها ، غلبت ما به المباينة عليها ، فافترقت لطائفها عن كثائفها .


ثم الروح اللطيف أيضا وإن كان بسيطا فهو أيضا هيئة اجتماعية نورانية من حقائق اللاهوت على وجه لا يقبل الانفكاك ، فبقيت على بقائها الذاتي الإلهي ، وقد آتاها الله قوّتين هما لها ذاتيتان : قوّة عمليّة بها يقوى على عمل الصور ، فصوّر الله بتلك القوّة للروح مركبا من المتباينات والمتنافيات والمتضادّات ، بل مركبا روحانيّا مناسبا للروح من
أكثر الوجوه ، فركَّبه في ذلك المركب الروحانيّ فتصوّر الروح فيه وتمثّل في تمثال برزخي من ملكوت السماوات وما فوقها التي يناسب الروح المفارق هيكله النقليّ من الأفلاك ، إن كان ممّن يفتح له أبواب السماء ،


وإلَّا فالأمر فيها يعود إلى العودات والتعلَّقات بالصور المناسبة لقوى ذلك الروح وحقائقه وصفاته الراسخة فيه وأحواله وخلائقه مدّة إقامته في الحياة الدنيا من المولَّدات العنصرية إلى أن يساعده سعادة الطالع الإلهي الأسمائي الذي هو طالع طالعه المولديّ العرفي ، وتحصل اجتماعات واتّصالات بين الأنوار الأسمائية الإلهية ، فيقدّر له كمال الرقيّ ، ويفتح له أبواب السماء بمفتاح الأمر ،
فإذا سوّى الله للروح المفارق هيكلا روحانيّا نوريا ، وناسبت الهيئة الثانية الروحانية لهيئة الروح النورانية ، وطابقها ، جمع الله بينهما جمعا لا يقبل الانفكاك والانفصال والاختلال بوجود الاعتدال المقتضي لدوام الانفصال . والله الموفّق .
 
قال رضي الله عنه : « وأمّا أهل النار فمآلهم إلى النعيم ، ولكن في النار ، إذ لا بدّ لصورة النار بعد انتهاء مدّة العذاب أن تكون بردا وسلاما على من فيها ، وهذا نعيمهم ، فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل الله حين ألقي في النار ، فإنّه عليه السّلام تعذّب برؤيتها وبما تعوّد في علمه وتقرّر من أنّها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان وما علم مراد الله فيها ومنها في حقّه » . يعني عند الإلقاء وقبله .


قال رضي الله عنه : « وبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود صورة اللونيّة في حقّه وهي نار في عيون الناس ، فالشيء الواحد يتنوّع في عيون الناظرين ، هكذا هو التجلَّي الإلهيّ . فإن شئت قلت : إنّ الله تجلَّى مثل هذا الأمر ، وإن شئت قلت : إنّ العالم في النظر إليه وفيه مثل  الحقّ في التجلَّي ، فيتنوّع في عين الناظر بحسب مزاج الناظر » .
يعني  رضي الله عنه  المزاج الروحانيّ الذي للناظر طاحب الكشف والشهود لا مزاجه الجسمانيّ وإن كان له مدخل من وجه ما، لا من جميع الوجوه.
 
قال رضي الله عنه : « أو يتنوّع الناظر لتنوّع التجلَّي ، وكل هذا سائغ في الحقائق » .
قال العبد يشير رضي الله عنه : إلى اختلاف التجلَّي باختلاف مزاج الناظر إلى أنّ ظهور كل ظاهر في كل مظهر إنّما يكون بحسب المظهر إن كان الناظر من شأنه أن يكون له حسب معيّن أو لم يكن إذا كان المظهر من شأنه أن لا يكون له حسب معيّن ، ولا بدّ ، وإلَّا فبحسب الظاهر والناظر ، وأمّا تنوّع مزاج الناظر بحسب التجلَّي فهو من حيث مزاج الناظر القلبي ،
فإنّ القلب يتقلَّب مع التجلَّي في العبد الكامل ، فإنّه مقلب القلوب ، وفي غيره على غير ذلك ، فاذكر ، فقد ذكر مرارا ، والوجهان سائغان شائعان ، فلا تتحيّر ، فليس اختلاف الأحكام إلَّا باختلاف الوجوه بحسب الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم به .


قال رضي الله عنه : « ولو أنّ الميّت والمقتول - أيّ ميت كان أو أيّ مقتول كان إذا مات أو قتل ، لا يرجع إلى الله ، لم يقض الله بموت أحد ولم يشرع قتله ، فالكلّ في قبضته ، ولا فقدان في حقّه ، فشرع القتل وحكم بالموت ، لعلمه أنّ عبده لا يفوته ، فهو راجع إليه » .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ العبد مربوب وجودا وعلما ، فإن بطن العبد عن ربوبية الربّ الظاهر بالموت أو القتل ، فقد تولَّاه حين توفّاه الربّ القابض الباطن ، فإذا أخذ حفظه في نشأة وموطن ومقام كالدنيا ، نقله إلى نشأة أخرى وموطن وحالة أخرى وتجلّ أعلى وأجلّ وأولى بالنسبة إليه من الأولى ، فهو يقبضه إليه عن ظهور وتجلّ وتبسّط في نور وتجلّ آخر في شأن أعلى وفضاء أضوا ، ويورده موردا أعذب وأحلى ، فله الحمد أبدا دائما في الآخرة والأولى .
 
قال رضي الله عنه : « على أنّ في قوله :  ( وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ ) أي فيه يقع التصرّف ، وهو المتصرّف ، فما خرج عنه شيء لم يكن عينه ، بل هويّته عين ذلك الشيء ، وهو الذي يعطيه الكشف في قوله : وإليه يرجع الأمر كلَّه » .


قال العبد : والبرهان الكشفي على أنّ الحق بهويّته عين كلّ شيء انّ الأمر الموجود المشهود في العالم إمّا نقوش وصور وأشكال وهيئات وتعيّنات وجودية ، وإمّا وجود حق ظاهر متعيّن فيما ذكر كذلك .
والوجود واحد هو فيه عينه لا غيره ولا هو أمر زائد على حقيقته ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا .
والصور والهيئات والنقوش والكثرات مع أنّها لا تحقّق لها في أعيانها إلَّا بالوجود الحق الظاهر بها - عائدة إلى حقائق الأشياء وصور معلومياتها في العلم ، وهي شؤونه وأحواله ونسبه الذاتيّة ، والذاتيات عين الذات ، غير زائدة عليها في حقيقتها إلَّا علما لا وجودا ،

فما ثمّ إلَّا هو وأنا ، وهو في أنا أنا ، وأنا في هو هو ، كما قلنا :نحن فيه هو فاعرفنا به  وهو فينا نحن فافهم ما أقول.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 19 - فصّ حكمة غيبية في كلمة أيّوبيّة .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 27, 2020 4:37 pm

19 -  فصّ حكمة غيبية في كلمة أيّوبيّة .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الأيوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
19 -  فصّ حكمة غيبية في كلمة أيّوبيّة
لمّا كانت أحواله عليه السّلام في زمان الابتلاء وقبله وبعده غيبية ، أسندت هذه الحكمة الغيبية إلى الكلمة الأيّوبية ، .
""نبي الله أيوب في جميع أحواله عليه السّلام من أوّل حالة الابتلاء إلى آخر مدّة كشف الضرّ عنه غيبيّ حتى أنّ الآلام كانت في غيوب جسمه ، وابتلي بغتة غيبا ، ثم كشف عنه الضرّ ،
كذلك من الغيب من حيث لا يشعر ، فآتاه الله أهله الذين غيّبهم عنه " وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً " من الله غيبته ، كما سنومئ إلى ذلك عن قريب .""
أمّا قبل زمان الابتلاء فكان الله قد أعطاه من غيبه بلا كسبه - من الملك والمال والدنيا والبنين والخدم والخول - ما لم يحصّلها بكسبه ،
 وكان يصعد له من الأعمال الزاكية مثل ما يصعد من أهل الأرض أو أوفى ،
فغار عليه إبليس وبنوه ، وقصده بالأذيّة هو وذووه ، وكانوا يستكبرون بعمل ويستكتم دونه ، وكان الله تعالى يشكره في الملإ الأعلى ، ويذكره ،
فقال إبليس : مع هذه المواهب والنعماء والآلاء - التي أنعم الله بها عليه - أعماله قليلة ، فلو كان في حال الابتلاء والفقر صبر ولم يجزع ، لكان ما يأتي من الأعمال أعظم قدرا وأعلى مكانة ، فأذن له في اختباره وابتلائه ،
والقصّة مشهورة في بلائه ، فسلَّط الشيطان على ما تمنّى ، فغارت العيون ، وانقطعت الأنهار ، وخربت الديار ، ويبست الأشجار والثمار ، وهلكت مواشيه ، ومات اثنا عشر من بنيه ، وهجره جلّ أهله وذويه ،
كل هذا ابتلاء غيبيّ من غير سبب معهود وموجب مشهود ، في مدّة يسيرة ، وبعد غيبته عن أهله وماله ، مسّه الشيطان بضرّ في نفسه ، فظهرت من غيوب جسمه الآلام والأسقام ، وتولَّد الدود في جسمه وغيوب أعضائه وأجزائه ، فصبر لمّا عرف السرّ ، ولم يجزع ولم يقطع الذكر والشكر ، متلقّيا بحسن الشكر والصبر ، وهذا الأمر الإمر ،
 
ولم يشك إلى غير الله إلى انقضاء  مدّة الابتلاء ، فلمّا بلغ الابتلاء غايته ، وتناهي الضرّ نهايته ، ولم ينقص أيّوب عليه السّلام من أذكاره وشكوره وحضوره ، ولم يظهر الشكوى والجزع ، فتمّت حجّة الله على اللعين ، وعلى غيره من الشياطين ،
فتجلَّى من غيبه ربّه تجلَّيا غيبيّا فذكر لربّه ما أظهر الشيطان في حاله أمرا فريّا ، ممّا لم يكن به حريّا ،
فأزال الله عنه الآلام والأسقام ، وكشف ما به من ضرّ ، ووهبه أهله ومثلهم معهم ، رحمة أظهرها له من غيب الأمر ،
وأظهر له أيضا عن غيب الأرض مغتسلا باردا وشرابا ، عرّفه في ذلك حقيقة السرّ ، فبهذه العجائب الغيبية أسندت هذه الحكمة إلى هذه الكلمة .
قال رضي الله عنه : ( اعلم : أنّ سرّ الحياة سرى في الماء ، فهو أصل العناصر والأركان ، ولذلك جعل الله من الماء كلّ شيء حيّ ، وما ثمّ شيء إلَّا وهو حيّ ، فإنّه ما ثمّ شيء إلَّا وهو يسبّح بحمده ) أي بحمد الله (ولكن لا نفقة تسبيحه إلَّا بكشف إلهي ، ولا يسبّح إلَّا حيّ ، وكلّ شيء الماء أصله حيّ ). "في بعض النسخ : فكلّ شيء حي ، فكلّ شيء الماء أصله ".
 
قال العبد : الاختلاف المذكور بين حكماء الرسوم في وجود الأركان والعناصر قد عرف في كتبهم وهو مشهور .
ومن حيث النظر العقلي الصحيح لا يترجّح أحد أقوالهم على الآخر إلَّا بالإقناعيات ،
فظاهر النظر العقلي ومقتضى التحقيق الكشفي الإلهي أنّ الاثنين من الأربعة في أصل الطبيعة أصلان ، والآخران منفعلان عنهما ،
فالأصلان هما الحرارة والبرودة ، وانفعلت عنهما اليبوسة والرطوبة ،
كما أنّ الاسم « الظاهر » والاسم « الباطن » أصلان في الأسماء الذاتية ، وانفعل عنهما الفعل والانفعال ، فصار كلّ من الأصلين فاعلا في الآخر منفعلا عنه ،
فإنّ الظاهر مجلى الباطن ، وانفعل عنهما الأوّل والآخر ، وكذلك الأسماء الإلهية ، فإنّ الحياة والعلم أصلان ، والإرادة والقدرة تابعتان لهما ، كما علمت ، وهذا في الأصول والطبيعة ،
وعلى هذا يجب أن:-
يتكوّن النار من الحرارة واليبوسة ،
ويتكوّن الماء من البرودة والرطوبة ،
والأرض من اليبوسة والبرودة ،
والهواء من الحرارة والرطوبة ، هذا رأيي .
وقيل : إنّ كلّ ركن منها أصل في نفسه وسائرها غير متولَّد عن واحد منها .
وقيل أيضا : إنّ كلّ واحد منها أصل ، ويتكوّن الباقي من ذلك الأصل ، فإنّ النار يمكن أن تكون أصلا للباقي ، وكذلك كلّ واحد منها .
وهذه أقوال أربعة ذهب إلى كلّ قول منها قوم .
 
ويقال أيضا : إنّ الأركان مركَّبة من صور الطبائع وهيولاها ، والطبيعة حقيقة كلَّية هي عين الكلّ ، فيجب أن يكون تكوّن كلّ منها عن المجموع .
ويعضد هذا الرأي مشرب التحقيق ، وأنّ كلّ شيء فيه كلّ شيء ، وهي من الأصول المقرّرة في طور التحقيق والكشف ،
وقد سبق لنا في هذا الكتاب ما فيه مقنع من هذه المباحث ، ولكنّ الشيخ  رضي الله عنه جعل الماء أصل الأركان كلَّها .
لما صحّ كشفا أنّ العرش الإلهي وهو محلّ استوائه أحدية جميع الحياة والعلم والوجود ، كان على الماء قبل وجود الأرض والسماء ، فالماء عرش العرش ، والحياة إذا تمثّلت أو تجسّدت ، ظهرت بصورة الماء ، وهو ذلك الماء الذي كان عليه العرش .
وأيضا على ما قرّرنا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب أنّ الطبيعة ظاهرية أحدية جمع الألوهة ، والألوهية حقيقتها ، وأركان الإلهية أربعة : حقائق الحياة - وهي كمال الوجود - والعلم ، والإرادة ، والقدرة .
والحياة شرط في وجود ما عداها ، وعليها تبتني هذه الأركان ، فمن هذه الحقيقة الكشفية الأصلية يتحقّق أيضا أنّ الماء أصل الأركان ، فإنّه صورة الحياة ، ولهذا سرى سرّ الحياة في الماء .
 
قال رضي الله عنه  : (ألا ترى العرش كيف كان على الماء ، لأنّه منه متكوّن فطفا عليه ).
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ العرش الجسمانيّ الذي هو على فلك الأفلاك الأطلس " قال الكاشاني : المراد بالعرش العرش الجسماني أي الفلك الأطلس " ، فإنّ حقيقة الجسم كانت في بدء الإيجاد مثل الجوهرة أو الدرّة ، فنظر الله
 
إليها بتجلَّية الحبيّ الإيجادي ، فذابت حياء وتحلَّلت أجزاؤها ماء ، فكان عرشه على ذلك الماء ، قبل وجود الأرض والسماء .
ولا يتوهّم أنّ هذه الدرّة أو الجوهرة هي حقيقة الجسم وجوهرته ، تكوّنت من الهيولى الرابعة التي هي الهيولى الأولى في صورة أحدية جمعية إجمالية اندمجت فيها حقيقة الأجسام كلَّها ، كالأكرة الكلَّية الكبيرة المصمتة فتجلَّى لها الرحمن ، فذابت أي تفصّلت ولاحت عليها أنوار سبحات وجه الرحمن فحلَّلتها تحليلا بخاريّا دخانيّا بعد ما كان التحليل في إشراق التجلَّي الأوّل مادّيّا " مساويا " ،
فيكون فلك الأفلاك الأطلس والعرش عليه من ذلك التحليل البخاري الأحدي الجمعي الكمالي ، فغمر الخلاء بوجوده جسما طبيعيا كلَّيا إحاطيا ملأ فضاء الخلاء المقدّر في مرتبة الإمكان ، فصلح هذا الفلك المحيط العرشي أن يكون عرشا للرحمن المحيط بنور وجديّ وتجلَّيه من خزائن وجوده ، أحاط بالموجودات كلَّها ،
فلمّا ألحّ التجلَّي بإشراق على ذلك الجوهر المحلول المائي ، وتحكَّمت في أجزاء بحره المسجور حرارة التجلَّي ، فدخنت الجوهرة المحلولة - كما قلنا - بخارا أحديا جمعيّا إحاطيا ، وأحاط بمركز الجوهر الأصل في أنّها مراتب البعد ، فأحاط بالماء المذكور وطفا كما أشار إليه الشيخ .
 
قال رضي الله عنه : ( فهو يحفظه من تحته ) أي الماء ( كما أنّ الإنسان خلقه الله عبدا فتكبّر على ربّه وعلا عليه ، وهو سبحانه و تعالى مع هذا يحفظه من تحته ، بالنظر إلى علوّ هذا العبد الجاهل بربّه. "في بعض النسخ: بنفسه).
 
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ العبد صورة تعيّن للوجود الحق المتجلَّي عليه والمتولَّي لإيجاده ، ثمّ التعيّن لا بدّ أن يعلو على المتعيّن به وهو الوجود الحق ،
فهو مستور بالتعيّن العبدانيّ ، ولولا حفظ الوجود الحق المتعيّن به وفيه ، لانعدم ، إذ لا تحقّق للتعيّن بدون المتعيّن ، فإنّه بلا هو هالك ، فالحق يحفظ العبد من تحته .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهو قوله عليه السّلام : « لو دلَّيتم بحبل ، لهبط على الله » فأشار إلى أنّ نسبة التحت إليه كنسبة الفوق في قوله تعالى : "يَخافُونَ رَبَّهُمْ من فَوْقِهِمْ " وقوله :   " وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِه ِ " ، فله الفوق والتحت ، ولهذا ما ظهرت الجهات الستّ إلَّا بالنسبة إلى الإنسان ، وهو على صورة الرحمن ) .
 
يعني : لمّا كانت نسبة الفوق والتحت إليه سواء ، فحفظه لعبده من تحته ما ينافي فوقيّته ، فإنّه - بإحاطته - فوقه وتحته .
 
وقال رضي الله عنه  : ( ولا مطعم إلَّا الله ، وقد قال في حق طائفة : " وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالإِنْجِيلَ " ثمّ نكرّ وعمّم ، فقال " وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ "  فدخل في قوله : " وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ " كلّ حكم منزل أو ملهم ، " لأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ " وهو المطعم من الفوقية التي نسبت إليه "وَمن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ " وهو المطعم من التحتية التي نسبها إلى نفسه على لسان رسوله المترجم عنه عليه السّلام ولو لم يكن العرش على الماء ما انحفظ وجوده ، فإنّه في الحياة ينحفظ وجود الحيّ ، ألا ترى الحيّ إذا مات الموت العرفيّ ، انحلَّت أجزاء نظامه ، وتنعدم قواه عن ذلك النظم الخاصّ ؟ )
 
يعني  رضي الله عنه  : إذا عدم الحيّ الحياة التي الماء صورته ، انحلَّت أجزاء نظامه ، وذلك لأنّ الحرارة الغريزيّة التي بها حياة الحيّ إنّما تنحفظ بالرطوبة الغريزيّة ، فحياة الحرارة أيضا بالرطوبة ، وهي صورة الماء ، فبفقدانه وجود الموت الذي هو افتراق أجزاء الإنسان ، فافهم .
ثم عدل رضي الله عنه بعد هذه المقدّمات إلى أن
قال رضي الله عنه  : « قال الله تعالى لأيّوب :  "ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ "  يعني ماء " بارِدٌ وَشَرابٌ " لما كان عليه من حرارة الألم ، فسكَّنه الله ببرد الماء ، ولهذا كان الطبّ النقص من الزائد والزيادة في الناقص ) .
 
يعني : طبّة الله تعالى بنقص حرارة الألم وزيادة البرد والسلام منها ، فإنّها كانت أعني الآلام  نارا أوقدها الشيطان سبع سنين في أعضاء أيّوب ، فشفاه الله عنها بهذا الطبّ الإلهي
.
ثم قال رضي الله عنه  : ( والمقصود طلب الاعتدال ، ولا سبيل إليه إلَّا أنّه يقاربه ، وإنّما قلنا : « ولا سبيل إليه » أعني الاعتدال ، من أجل أنّ الحقائق والشهود تعطي التكوين مع الأنفاس على الدوام ، ولا يكون التكوين إلَّا عن ميل يسمّى في الطبيعة انحرافا أو تعفينا ، وفي حق الحق إرادة ، وهي ميل إلى المراد الخاصّ دون غيره ، والاعتدال يؤذن بالسواء في الجميع ، وهذا ليس بواقع ) .
قال العبد : كان  رضي الله عنه  يريد الكون الخلقيّ والحقيّ الأسمائيّ وبموجب النظر العقلي لا غير ، فإنّ الوارد ورد بأنّ ذلك الاعتدال  المفقود في الأكوان قد انفرد به الله ، فهو له وهو فيه ، فلا يقبل الزيادة ولا النقص ، ولا يقبل الكون والفساد تبارك وتعالى من حيث ذاته الغنيّة عن العالمين ، وحقيقته العينية الغيبيّة الجامعة بين التعيّن واللاتعيّن ، والقيد والإطلاق ، وقبوله كلّ حكم وضدّه من كل حاكم ، وكونه عين النقيضين والمتباينين والمتناسبين والمتنافيين والمتشاكلين معا أبدا دائما ، فما بها أبدا ميل عن مقتضى ذاته ، ولا حيد عمّا وجب له لذاته الأحدية الجمعية الكمالية المطلقة عن كلّ قيد حتى عن الإطلاق عنه .
 
قال رضي الله عنه : ( فلهذا منعنا عن الاعتدال ، وقد ورد في العلم الإلهي النبوي اتّصاف الحق بالرضى والغضب وبالصفات ، والرضى مزيل الغضب والغضب مزيل للرضي عن المرضيّ عنه ، والاعتدال أن يتساوى الرضى والغضب ، فما غضب الغاضب على من غضب عليه وهو عنه راض ، فقد اتّصف بأحد الحكمين في حقّه ، وهو ميل ،
وما رضي الراضي عمّن رضي عنه وهو عليه غاضب ، فقد اتّصف بأحد الحكمين في حقّه ، وهو ميل ، وإنّما قلنا هذا من أجل من يرى أنّ أهل النار لا يزال غضب الله عليهم دائما أبدا في زعمه ، فما لهم حكم الرضي من الله ، فصحّ المقصود ، وإن كان - كما قلنا - مآل أهل النار إلى إزالة آلام أهل النار ، فذلك رضى ، فزال الغضب ، لزوال الآلام ، إذ عين الغضب عين الألم ، إن فهمت ) " في بعض النسخ : إلى إزالة الآلام وإن سكنوا النار "
 
قال العبد : الغضب والرضي إذا اتّصف الحق بأحدهما ، زال الآخر ، ولكن بالنسبة إلى مغضوب عليه أو مرضيّ عنه معيّنين ، وإلَّا فهو بالنسبة الكلَّية الغضبيّة القهرية الجلالية أو الرضى الكلي اللطفي الجمالي لا يزال اتّصافه بهما من كونه إلها وربّا ،
وأمّا من حيث غناه الذاتيّ الكليّ اللطفي الجمالي لا يزال اتّصافه بهما من كونه إلها وربّا ،
وأمّا من حيث غناه الذاتيّ فلا يتّصف بشيء منهما ، فهو غنيّ عن العالمين ،
فصحّ أنّ الميل والانحراف ليس إلَّا من قبل القابل ، لظهور حكم الرضى أو الغضب في القابل وغير القابل ، لا بالنسبة إلى الحق وإن كانت حقيقتا الرضى والغضب - الكلَّيّين الإلهيين الظاهر أحكامهما أبدا دائما في المرضيّين عنهم والمغضوبين عليهم من العالمين - ثابتتين لله ربّ العالمين على السواء ،
لا يتّصف بأحدهما دون الآخر إلَّا بالنسبة والإضافة إلَّا بحسب حكم سبق الرحمة الغضب - وهو ذاتيّ - وبالنسبة الأحدية الجمعية ، فحكم الغضب والرضى المتضادّين باعتبار ما ذكرنا ،
وفي صلاحية الوجود الحق الإلهي من حيث ظهوره في الأعيان والأكوان بحسب القوابل ، وظهور الميل والانحراف بحسب القابل وغير القابل ، وفي وقت دون وقت ، وبالنسبة إلى أمر دون أمر ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه: ( فمن غضب فقد تأذّى ، فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بالملامة " بإيلامه " إلَّا ليجد الغاضب الراحة بذلك ،
فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه، والحق إذا أفردته عن العالم، يتعالى علوّا كبيرا عن هذه الصفة على هذا الحدّ، وإذا كان الحق هويّة العالم، فما ظهرت الأحكام كلَّها إلَّا فيه ومنه، وهو قوله :"  وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ " حقيقة وكشفا " فَاعْبُدْه ُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه ِ " حجابا وسترا ، فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، لأنّه على صورة الرحمن ، أوجده الله ، أي ظهر وجوده بظهور العالم ، كما ظهر الإنسان بوجود الصورة الطبيعية ، فنحن صورته الظاهرة ، وهويّته روح هذه الصورة المدبّرة لها ، فما كان التدبير إلَّا فيه ، كما لم يكن إلَّا منه ، فـ هُوَ " الأَوَّلُ " بالمعنى و" الآخِرُ " بالصورة ، وهو "الظَّاهِرُ" بتغيير الأحكام والأحوال ، و" الْباطِنُ " بالتدبير   "َهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " فهو على كل شيء شهيد ، ليعلم عن شهود لا عن فكر ، فكذلك علم الأذواق ، لا عن فكر ، وهو العلم الصحيح ) .
 
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ العبد بتعيّنه حجاب على الحق المتعيّن به وفيه ، فهو هوية العبد ، والعبد صورة إنّيّة ربّه وأنانيّته ، فـ " الإنّي " المقيّد العينيّ و "الأنا " يقيّدان "الهو " الغيبيّ العينيّ فـ « الهو » المطلق روح هذا « الأنا » و « الإنّي » المقيّدين المتعيّن وحصّة هذا « الإنّي » المقيّد من « الهوية » المطلقة روحه المدبّر لصورته ، فـ « إنّا » و « إنّي » و « نحن » و « أنا » و « أنت » و " أنتم " كنايات عن الحق المتعيّن في الصور والتعيّنات ، و « هو » كناية عنه في الغيب الذاتي ، وهو غيب الذات وما لا يعلم ولا يضاف من العين المطلقة تعالى ، والهويات المقيّدة بالأعيان المتعيّنة في الصور وبها باعتبار الأنيّات والإنيّات الوجودية الشهودية ، وبدون هذا الاعتبار ليست إلَّا هو هو ،
فنحن صور تفصيل الإنّية العظمى الإلهية وشخصيات أنانيتها من حيث ظاهرنا وجسمانيتنا وصورتنا ، ومن حيث الباطن والروحانية فصور تفصيل هويته الكبرى ، فنحن له ، وهو لنا ، وهو فينا نحن ، ونحن فيه هو ، فافهم.
 
قال رضي الله عنه  : ( وما عداه فحدس وتخمين ، ليس بعلم ، ثم كان لأيّوب عليه السّلام ذلك الماء شرابا بإزالة ألم العطش الذي هو من النصب والعذاب الذي مسّه به الشيطان أي البعد عن الحقائق أن يدركها على ما هي عليه ، فيكون بإدراكها في محلّ القرب فكل مشهود قريب من العين ، ولو كان بعيدا ، من المسافة ، فإنّ البصر يتّصل به من حيث شهوده أو يتّصل المشهود بالبصر كيف كان ، فهو قرب بين البصر والمبصر ) .
 
قال العبد : سمّي الشيطان شيطانا ، لبعده عن الحقائق ، فاشتقاقه من شطن : إذا بعد ، أو من شاط : إذا نفر ، وإذا بعد عن إدراك الحقائق ، فقد بعد عن الله في عين القرب ، لكونه صورة الانحراف التعيّني .
 
قال رضي الله عنه  : ( ولهذا كنّى أيّوب في المسّ ، فأضافه إلى الشيطان مع قرب المسّ ، فقال : البعد منّي قريب لحكمه في ) .
يشير رضي الله عنه : إلى أغلبية حجابية التعيّن بالنسبة إليّ ، وإلَّا لم يكن للانحراف فيه حكم ، وإنّما حكم عليه وفيه الانحراف والبعد ، لبعده عن حقيقة الاعتدال الذي انفرد به العين والحقيقة ، كما أشرنا إليه ، فتذكَّر .
 
قال رضي الله عنه  : ( وقد علمت أنّ البعد والقرب أمران إضافيّان فهما نسبتان لا وجود لهما في العين ، مع ثبوت أحكامهما في القريب والبعيد .
واعلم : أنّ سرّ الله في أيّوب الذي جعله عبرة لنا وكتابا مسطورا حاليا يقرؤه هذه الأمّة المحمدية ، لتعلم ما فيه ، فتلحق بصاحبه تشريفا لها ، فأثنى الله على أيّوب بالبصر مع دعائه في رفع الضرّ عنه ، فعلمنا أنّ العبد إذا دعا الله في كشف الضرّ عنه ، لا يقدح في صبره ، وأنّه صابر ، وأنّه " نِعْمَ الْعَبْدُ " ، كما قال : " إِنَّه ُ أَوَّابٌ " أي رجّاع إلى الله لا إلى الأسباب ، والحقّ يفعل عند ذلك بالسبب ، لأنّ العبد مستند إليه )
 .
يعني : في وجوده المقيّد أو المطلق إلى الحق المتعيّن في السبب ، فلمّا حمد الله تعالى أيّوب عليه السلام، علمنا أنّ رجوعه أوّلا وآخرا ما كان إلى الأسباب من حيث حجابياتها .
 
قال رضي الله عنه  : ( إذ الأسباب المزيلة لأمر ما كثيرة والمسبّب واحد المعيّن ، فرجوع العبد إلى الواحد العين المزيل بالسبب ذلك الألم أولى من الرجوع إلى سبب خاصّ ربما لا يوافق علم الله فيه ، فيقول : إنّ الله لم يستجب لي وهو ما دعاه ، وإنّما جنح إلى سبب  معيّن لم يقتضه الزمان ، فعمل أيّوب بحكمة الله إذ كان نبيّا ، لما علم أنّ الصبر هو حبس النفس عن الشكوى عند الطائفة ) .
يعني أنّ المتقدّمين من المشرقيين من أهل التصوّف قالوا به .
 
قال رضي الله عنه  : ( وليس ذلك بحدّ للصبر عندنا ، وحدّه حبس النفس عن الشكوى لغير الله ، لا إلى الله ، فحجب الطائفة نظرهم في أنّ الشاكي يقدح بالشكوى في الرضا بالقضاء ، وليس كذلك ، فإنّ الرضي بالقضاء لا يقدح فيه الشكوى إلى الله ولا إلى غيره ، وإنّما تقدح في الرضى بالمقضيّ ، ونحن ما خوطبنا بالرضى بالمقضيّ ، والضرّ هو المقضيّ ، ما هو عين القضاء ) .


يشير رضي الله عنه : إلى أنّ القضاء حكم الله بمقتضى حقيقة المقضيّ عليه وحاله واستعداده بالمقضيّ به كائنا ما كان ، فالقضاء هو الحكم غير المقضيّ به وهو المحكوم به ، فلا يلزم من الرضا بحكم الله الرضا بالمحكوم ، لتغايرهما ، فإنّ المتغايرين متفارقان بما هما متغايران .
 
قال رضي الله عنه : ( وعلم أيّوب أنّ في حبس النفس عن الشكوى إلى الله في رفع الضرّ مقاومة القهر الإلهي ، وهو جهل بالشخص ، إذا ابتلاه الله بما يتألَّم منه نفسه، فلا يدعو الله في إزالة ذلك الأمر المؤلم، بل ينبغي له عند المحقّق أن يتضرّع ويسأل الله في إزالة ذلك عنه، فإنّ ذلك إزالة عن جناب الله عند العارف صاحب الكشف، فإنّ الله قد وصف نفسه بأنّه يؤذى،
فقال: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَه ُ " وأيّ أذى أعظم من أن يبتليك ببلاء عند غفلتك عنه أو عن مقام إلهي لا تعلمه لترجع إلى الله بالشكوى، فيرفعه عنك؟
فيصحّ الافتقار الذي هو حقيقتك، فيرتفع عن الحق الأذى بسؤلك إيّاه في رفعه عنك، إذ أنت صورته الظاهرة، كما جاع بعض العارفين فبكى،
فقال له في ذلك من لا ذوق له في هذا الفنّ معاتبا له،
فقال العارف: إنّما جوّعني لأبكي يقول: إنّما ابتلاني بالضرّ لأسأله في رفعه عنّي، وذلك لا يقدح في كونه صابرا،
فعلمنا: أنّ الصبر إنّما هو حبس النفس عن الشكوى لغير الله، وأعني بالغير وجها خاصّا من وجوه الله، وقد عيّن الله وجها خاصّا من وجوه الله وهو المسمّى وجه الهوية، فيدعوه في ذلك الوجه برفع الضرّ عنه، لا من الوجوه الأخر المسمّاة أسبابا، وليست إلَّا هو من حيث تفصيل الأمر فيه نفسه).
 
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ السبب الذي يتوجّه إليه غير العارف إنّما هو حجابية التعيّن ، والمتعيّن بذلك التعيّن الخاصّ هو السبب ، فهو من كونه متعيّنا في ذلك التعيّن والمعيّن وجه خاصّ من وجوه الله المتعيّنة في كل وجه وجهة ووجهة ، وهو وإن كان حقّا معيّنا من الله في تلك الجهة ، فإنّما هو وجه من وجوه الله ، لا هو هو.


فالأوّاب هو الرّجاع إلى الهوية الإلهيّة المحيطة بجميع الهويات المتعيّنة بالمسمّيات أسبابا ، وهي أيضا - من حيث عدم تحقّقها بدون المتعيّن ومن حيث تحقّقها بالمتعيّن فيها - وجه من وجوه الحق ، وأنت أيضا من حيث عدم تحقّقها بدون المتعيّن ومن حيث تحقّقها بالمتعيّن فيها وجه من وجوه الحق ، وأنت أيضا كذلك وجه من الوجوه الإلهية ، ولكن لا يتوجّه ولا توجّه وجه قلبك إلَّا إلى مستندك ، وهو الذي استندت إليه الوجوه كلَّها، ولا يتقيّد بوجه خاصّ، فقد لا يجيبك فيه، لعلمه أنّ ما تسأله في وجه آخر، فإذا سألت أحدية جميع جميع الوجوه وتوجّهتها ، فقد أصبت ، فالزم ، ولا يلزم التقيّد ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه : ( فالعارف لا يحجبه سؤاله هوية الحق في رفع الضرّ عنه ، عن أن يكون جميع الأسباب عينه ، وهذا لا يلزم طريقته إلَّا الأدباء من عباد الله ، الأمناء على أسرار الله ، فإنّ لله أمناء لا يعرفهم إلَّا الله ، ويعرف بعضهم بعضا ، وقد نصحناك فاعمل ، وإيّاه - سبحانه - فاسأل ) .
 
يعني رضي الله عنه : وجه الهوية الذي عيّنه على لسان الشارع ، فعليك بالسؤال عن الحق من ذلك الوجه في كلّ قليل وكثير ، وبالجزم بالإجابة إيمانا وتصديقا لقوله تعالى : " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " .
 "وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ".
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 20 - فصّ حكمة جلالية في كلمة يحيوية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:34 am

20 -  فصّ حكمة جلالية في كلمة يحيوية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص اليحيوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
20 -  فصّ حكمة جلالية في كلمة يحيوية
كان الغالب على أحوال يحيى عليه السّلام الجدّ والجهد والقبض والبكاء ، بكى من خشية الله حتى خدت الدموع في خدوده أخاديد ، وكان لا يضحك إلَّا ما شاء الله ،
وهذه الخلال من حضرة القهر والجلال ، وكان مقتضى حقيقة القيام بمظهرية حضرة الجلال وتجلَّياتها ، ثم قتل في سبيل الله ،
وقتل على دمه سبعون ألفا حتى سكن دمه من فورانه ، ومنبعث تعيّن نفسه ومستقرّها بعد المفارقة سماء الأحمر عند الجليل القهّار ، ولهذا وأمثاله أضيفت هذه الحكمة إلى كلمته .
 
قال رضي الله عنه  : " هذه الحكمية الأوّلية في الأسماء ، فإنّ الله سمّاه يحيى أي يحيا به ذكر زكريّا " . « في أكثر النسخ : حكمة الأوّلية . والأولى الحكمة »
يعني : أنّه لمّا طلب زكريّا من ربّه وارثا يرثه ، حتى يحيا به ذكره ، فأجاب الله دعاءه بوارث له يرثه ، وسمّاه يحيى ، أي بيحيى يحيا ذكره من باب الإشارات .
 
قال رضي الله عنه  : ( ولم "لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّ"   ، فجمع بين حصول الصفة التي فيمن غبر ممّن ترك ولدا يحيا به ذكره وبين اسمه بذلك ، فسمّاه يحيى ، فكان اسمه يحيى كالعلم الذوقي ، فإنّ آدم حيي ذكره بشيث ، ونوحا حيي ذكره بسام ، وكذلك  الأنبياء ، ولكن ما جمع الله لأحد قبل يحيى بين الاسم العلم منه له وبين الصفة إلَّا لزكريّا عناية منه ، إذ قال : "فهب لِي من لَدُنْكَ وَلِيًّا " .)


يشير رضي الله عنه  : إلى أنّ هذه الحكمة الجلالية تتضمّن حكمة الأوّلية في الأسماء ، والجمع بين العلمية والصفة ، على خلاف العادة والوضع والمفهوم خرقا للعادة ، اختصاصا إلهيا وتشريفا لزكريّا ويحيى ، كما جمع الاسم « الله » بين العلمية والصفات الدالَّة على حقائق الأحدية الجمعية الإلهية الجامعة لجميع الأسماء الذاتية والصفاتية والفعلية ، على ما استقصينا بيانه في شرح الخطبة . فلذلك جمع الله لزكريّا في اسم ولده الذي وهبه الله بين كونه اسما علما مع دلالته على أنّ [ ذكره به يحيا ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقدّم الحقّ على ذكر ولده كما قدّمت آسية ذكر الجار على الدار في قولها : " عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ "  فأكرمه الله بأن قضى حاجته وسمّاه بصفته ، حتى يكون اسمه تذكارا لما طلب منه نبيّه زكريّا ، لأنّه عليه السّلام آثر إبقاء ذكر الله في عقبه ،
إذ الولد سرّ أبيه ، فقال : " يَرِثُنِي وَيَرِثُ من آلِ يَعْقُوبَ " وليس ثمّ موروث في حق هؤلاء إلَّا مقام ذكر الله والدعوة إليه  .)


قال العبد : كان الغالب على زكريّا الهيبة والرقّة والخشوع والخوف والتقوى والحزن والمجاهدة وعدم التصرّف ، بل كانت مظهريته لرحمة وجمال ولطف وأنس يتضمّن إجلالا وهيبة وقهرا ، ومن هذا التجلَّي الجماليّ المتضمّن للجلال وجد زكريّا ، ورحمة الله عبده زكريّا من حضرة الجمال الذي تتضمّنه حضرة الجلال خفي وبطن اللطف في القهر ، فنادى كذلك نداء خفيّا من حقيقة كلّ شيء فيه كلّ شيء ، ولهذا كان الغالب على حال زكريّا ما ذكرنا ، وتحكَّمت عليه الأعداء أيضا ، كما تحكَّمت على يحيى عليه السّلام .


قال رضي الله عنه  : ( ثمّ إنّه بشّره بما قدّمه من سلامه عليه ، " يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا " فجاء بصفة الحياة وهي اسمه وأعلمه بسلامه عليه ، وكلامه صدق ، فهو مقطوع به ، وإن كان قول الروح " وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا " أكمل في الاتّحاد ، فهذا أكمل في الاتّحاد والاعتقاد ، وأرفع للتأويلات ) .


يشير رضي الله عنه  : إلى أنّ سلام عيسى على نفسه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّا أكمل في الاتّحاد من جهته ، فإنّ الله هو المسلَّم على نفسه من حيث تعيّنه في مادّة عيسوية ، ويدلّ على كمال تمكَّن عيسى من شهود هذه الأحدية ، ولكن سلام الله على يحيى من حيث إنّ الله هو عين هويّته وربّه ، عليه لا في مادّة يحيى ، بل من حيث هو ربّه أتمّ في الاعتقاد بالنسبة إلى شهود أهل الحجاب .
وأمّا بالنسبة إلى شهود أهل الذوق فالاتّحاد من قبل الحق - من كونه تعالى مسلَّما على نفسه في مادّة يحيوية من كونه ربّه ووكيلا له في التسليم عليه ، إمّا من قبله أو من قبل الحق - أتمّ وأعمّ ، ولكن للالتباس الذي عند الجاهل المحجوب .


قال رضي الله عنه  : ( فإنّ الذي انخرقت فيه العادة في حق عيسى إنّما هو النطق ، فقد تمكَّن عقله وتكمّل في ذلك الزمان الذي أنطقه الله فيه ، ولا يلزم للمتمكَّن من النطق - على أيّ حالة كان - الصدق فيما كان به ينطق ، بخلاف المشهود له كيحيى ، فسلام الحق على يحيى من هذا الوجه أرفع - للالتباس الواقع في العناية الإلهية به من سلام عيسى على نفسه ، وإن كانت قرائن الأحوال تدلّ على قربه من الله في ذلك ، وصدقه ، إذ نطق في معرض الدلالة على براءة أمّه  في المهد ، فهو أحد الشاهدين ، والشاهد الآخر هزّ الجذع اليابس ،
فسقط  " رُطَباً جَنِيًّا " من غير فحل ولا تذكير كما ولدت مريم عيسى من غير فحل ولا ذكر ولا جماع عرفيّ معتاد.
لو قال نبيّ : آيتي ومعجزتي أن ينطق هذا الحائط ، فنطق الحائط ، وقال في نطقه : تكذب ، ما أنت برسول الله، لصحّت الآية، وثبت بها أنّه رسول الله ، ولم يلتفت إلى ما نطق به الحائط.
فلمّا دخل هذا الاحتمال في كلام عيسى "يعني عند المحجوب الجاهل "بإشارة أمّه إليه ، وهو في المهد .)
 
يعني  رضي الله عنه  : مجرّد نطق عيسى - بإشارة أمّه إليه عند سؤال الأحبار عن مريم بأنّى لك هذا و  "ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا " كاف في صحّة مدّعا مريم وبراءتها عمّا توهّمت اليهود ممّا برّأها الله ممّا قالوا ، ولكن لمّا يطرق فيما نطق مثل ما مثّل في نطق الحائط عند الجاهل كان سلام الله على يحيى أرفع من هذا الوجه .
 
قال رضي الله عنه  : ( فموضع الدلالة أنّه عبد الله من أجل ما قيل فيه : إنّه ابن الله - وفرغت الدلالة بمجرّد النطق - وأنّه عبد الله ، عند الطائفة الأخرى القائلة بالنبوّة ، وبقي ما زاد بحكم الاحتمال في النظر العقلي حتى ظهر في المستقبل صدقه في جميع ما أخبر به في المهد فتحقّق ما أشرنا إليه ).
يعني : العرفيّ الحجابيّ ، لأنّ النظر الصحيح العقلي - مع ثبوت دلالة القرائن على صحّته في نطقه - يقضي بصحّة جميع ما نطق به عليه السّلام إذ لو تطرّق احتمال نقيض الصدق في بعض ما نطق ، لوقع ارتباك في غير ذلك البعض ،
فإنّ الكذب في بعض الكلام يفضي إلى احتمال الكذب في الباقي ، وبكمال صحّة الصدق في موضعي الدلالة يجب صحّته في الباقي ،
وكذلك سقوط الرطب الجنّي بإخباره في بطن أمّه - مع عدم معقوليّة ذلك من الجذع اليابس - قبل تسليمه على نفسه شاهد بصدق إخباراته كلَّها عقلا مؤيّدا بالنور ،
وكذلك كلامه في المهد ، فإنّ من أقدر على الكلام في المهد - خرقا لعادة العقل والعرف بإذن الله في موضع إقامة المعجزة على براءة أمّه وأنّه نبيّ صادق بكلام متّصل مفتتحه دعوى عبودة الله ومختتمه التسليم على نفسه من قبل الله ، بتمكين الله
 
له في كل ذلك - دليل صحيح تامّ على صدقه في تمام الإخبارات وارتفاع الالتباس وتطرّق الاحتمال في نظر العقل الصحيح الإلهي ، ولكنّ الاحتمال لأهل  الوهم والعقل المحجوب بالعرف والعادة ، وعندهم لا يرتفع الالتباس ، وأمّا عند الشيخ والمحمديّين فليس للاحتمال المذكور وجه أصلا ، ورأسا ، فافهم ،  
" وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ "
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 21 - فصّ حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:35 am

21 - فصّ حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الزكرياوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
 21 - فصّ حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
أضيفت هذه الحكمة المالكية إلى الكلمة الزكرياوية ، لما ذكرنا ممّا كان يشدّد على نفسه في الاجتهاد ، وظهرت فيه آثار الشدّة القهرية والجلال ، وكملت فيه التصرّفات الإلهية المالكية ، وظهرت تماما ، ولم يظهر تصرّف من قبله - صلوات الله عليه - في شيء أصلا .
 
قيل : إنّه ما لبس نعلا ولا مأزما ، يحمل بعض تراب وغبار من أرض إلى أرض ، فكان يمشي حافيا ، وكان مشهده عبدانيته وربوبيّة الله فيه وله وعليه ، حتى أنّه نشر ، فقطع نصفين ، مع تمكَّنه عليه السّلام من دعا الله وإجابته في رفع ذلك عنه في النظر العقلي بثبوت نبوّته وإجابة الله دعوته باستصحاب الحال والواقع في سؤال الولد والإجابة فيه وفي رفع الفقر عن امرأته ، وذلك لكونه عليه السّلام في مشهده تحت حكم مالك هو مملوكه الحقيقي ، وشهود أحدية التصرّف والمتصرّف والمتصرّف فيه .
 
وأمّا مضيّه ودخوله في جوف الشجرة فلم يكن لعدم رضاه وكمال استسلامه وانقياده لما يتصرّف فيه ، وإنّما كان إبقاء على قومه بحسب الاحتمال العقلي أنّه ربما يقلعون عن الظلم عليه ويؤمنون به بما شاهدوا عيانا من استبطان الشجرة له وستره وكون ذلك معجزا وحجّة على صدقه وصدق نبوّته ، وما أخبر به في تصديق عيسى ،
 
ولمّا شاهد من مفيض عينه الثابتة أنّ التجلَّي الجلاليّ محيط به في هذه الحياة الدنيا ، سلَّم واستسلم ولم يدع الله في رفع الضرّ عنه حتى قطعوا الشجرة فشقّوها بالمناشير فقطعوه نصفين في الشجرة ، فظهرت أسرار امتياز الحقيقة الجلالية عن الحقيقة الجمالية المستنبطة إحداهما في الأخرى ،
وظهرت رحمة اللطف المضمون في ضمن القهر ، وكملت عبوديته التي ظهر نفوذ التصرّف والحكم الكلَّي الإلهي فيها بصورة الظلم ، فانعكست حقائق الجلال والقهر على أعداء الله بتجلَّياتها ، وتغمّده الله برحمته الخفيّة في القهر ، فظهرت خليّة ، فكملت بحلّ القهر والنقمة على الأعداء ، فكمل كلّ شقّ من الجلال والجمال ، والقهر واللطف في أهلهما.
 
قال رضي الله عنه  : ( اعلم : أنّ رحمة الله وسعت كلّ شيء وجودا وحكما ، وأنّ وجود الغضب من رحمة الله بالغضب ، فسبقت رحمته غضبه ، أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه ) .
يعني  رضي الله عنه  : أنّ الرحمة له - تعالى - ذاتية ، لأنّه بالذات جواد فيّاض بالوجود ، من خزائن الرحمة والجود ، والوجود المفاض على كل شيء هو الرحمة العامّة التي وسعت كلّ شيء . وأمّا الغضب فليس بذاتيّ للحق تعالى ، بل هو حكم عدميّ من عدم قابلية بعض الأشياء لظهور آثار الوجود وأحكامه فيه تماما ، فاقتضى عدم قابليته للرحمة عدم ظهور حكم الرحمة فيه دنيا أو آخرة ، فسمّي بالنسبة إليه غضبا من قبل الراحم وشقاوة وشرّا وما شاكل هذه الألفاظ ، وانظر إلى كمال شهود النبيّ وإيمانه النبوي إلى الأمرين معا في قوله : « اللهمّ إنّ الخير كلَّه بيدك ، والشرّ ليس إليك » لأنّه حكم عدميّ .
 
من عدم قابلية بعض الممكنات لحكم رحمته ، وحيث لم تجد الرحمة المفاضة بالتجلَّي الرحمانيّ على الأعيان فيما لم تكن قابلية نور الوجود إلَّا نسبا عدميّة أو عدميات نسبية ، إذ العدم المحض لا حقيقة له تتعلَّق الرحمة بها ، فعمّت الرحمة - التي وسعت كلّ شيء - هذه الأعدام النسبية وهذه النسب العدمية ، ولحقتها ، فأوجدت الغضب والآلام والأسقام والمحن والموت والفقر وأمثالها من النسب العدميّة ، وذلك لكمال سعة الرحمة ، فافهمه .
 
قال رضي الله عنه  : " ولمّا كان لكل عين وجود يطلبه من الله ، لذلك عمّت رحمته كلّ شيء  ، فإنّه برحمته التي يرحمه بها قبل رغبته في وجود عينه ، فأوجدها ، فلذلك قلنا : إنّ رحمة الله وسعت كلّ شيء وجودا وحكما  " .
 
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ الأعيان الثابتة كانت في ثبوتها العلميّ الأزلي معدومة الأعيان بالنسبة إليها ، أي لم تكن موجودة لنفسها ، ولم ينسحب عليها الحكم الإيجادي ، فرغبتها في الوجود العيني - وهي عبارة عن قابلياتها واستعداداتها الذاتية غير المعدومة - معدومة الأعيان أيضا كهي ، فلمّا رحمها الرحمن بالتجلَّي الإيجادي ، وإفاضة النور الوجودي ، بالتوجّه الإرادي.
 
فأوّل أثر للرحمة فيها أن أعطتها صلاحية قبول التجلَّي الوجودي وذلك بالتجلَّي العيني الواقع غيبا ، فحييت بذلك التجلَّي الاستعدادات المعدومة الميّتة بحكم قهر الأحدية الغيبية ، فحصلت لها صلاحية قبول الوجود ، فتعلَّقت الرحمة الوجودية بها ، فأوجدتها بحسب خصوصياتها من الإحاطة والسعة والضيق والتقدّم والتأخّر وغير ذلك ، فكان الغضب أيضا من جملة النسب العدمية الناشئة من عدم الصلاحية والقبول لآثار الرحمة الوجودية ، وكذلك الآلام والعلل والأسقام والبلايا والمحن وغيرها من الأمور العدمية النسبية .
 
قال رضي الله عنه  : ( والأسماء الإلهية من الأشياء ، وهي ترجع إلى عين واحدة ، فأوّل ما وسعت رحمة الله سبعيّة  تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة ، فأوّل شيء وسعت الرحمة نفسها ، ثمّ الشيئية المشار إليها ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة عرضا وجوهرا ، مركَّبا وبسيطا ).  في بعض النسخ وهو الصحيح  : شيئية .
 
يشير رضي الله عنه  بهذا الترتيب إلى أنّ الحقائق الربانية والنسب والأعيان الكونية كانت معدومة الآثار ، غير متميّزة في الظهور والآثار ، لعدم مظاهرها ، فعمّتها الرحمة بتعلَّقها بتلك الأعيان أوّلا ، فظهرت النسبة الإلهية في مظاهرها ثانيا ،
ثم أثّرت الأسماء الإلهية في إيجاد أعيان الأكوان في أرض الإمكان ثالثا عند من يقول بوجود الحقائق العلمية  وجودا نعتيّا ،
وعلى الكشف الأتمّ والشهود الأعمّ وجدت وجودا نسبيا مثاليّا في مرآة الوجود الواحد ، لا وجوديا حقيقيا ، وقد أشرنا إلى الذاتية الجودية الوجودية ووجود الأشياء بالرحمة الرحمانية الإلهية الأسمائية ، فتحقّق ذلك .
 
قال رضي الله عنه  : ( ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع ، بل الملائم وغير الملائم وسعتهما الرحمة الإلهية وجودا ، وقد ذكرنا في الفتوحات أنّ الأثر لا يكون إلَّا للمعدوم لا للموجود ، وإن كان للموجود فبحكم المعدوم ، وهو علم غريب ومسألة نادرة ، لا يعلم تحقيقها إلَّا أصحاب الأوهام ، فذلك بالذوق عندهم ، وأمّا من لا يؤثّر الوهم فيه ، فهو بعيد عن هذه النسبة ) .
 
يشير إلى أنّ الأعيان الثابتة التي هي معدومة لنفسها هي المؤثّرة في الوجود الواحد الحق المنبسط عليها بالتعيين والتقييد والتكييف والتسمية بحسب خصوصياتها ، حتى تظهر الأسماء الإلهية والنسب الربانية ، ثم النسب الإلهية - التي هي من حيث هي نسب معدومة الأعيان ،
لا تحقّق لها إلَّا بين طرفيها من الحق - مؤثّرة أيضا في وجود الأشياء ، فالآثار كلَّها إن كانت من الإلهية ، فمن النسب العدمية ، وإن كانت منها مع الذات المتعيّنة بها ، فمن الوجود من حيث هذه النسب المعدومة الأعيان ،
وإن كانت من الأعيان الثابتة في الوجود الحق ، فالأثر للمعدوم العين ، وكذلك في الأكوان كلّ أثر يظهر من موجود ، فإنّه غير منسوب إلى وجوه من حيث هو وجود ، بل إلى عينه العدمية أو إلى وجوده المتعيّن بتلك الشيئية العدمية .
 
قال رضي الله عنه  : (
فرحمة الله في الأكوان سارية   .... وفي الذوات وفي الأعيان جارية
مكانة الرحمة المثلى إذا علمت  .... من الشهود مع الأفكار عالية.
فكل من ذكرته الرحمة ، فقد سعد ، وما ثمّ إلَّا من ذكرته الرحمة . وذكر الرحمة للأشياء  إيجادها إيّاها ، فكل موجود مرحوم ، ولا تحجب يا وليّي عن إدراك ما قلناه ممّا تراه من أصحاب البلاء ، وما تؤمن به من آلام الآخرة التي لا تفتر عمّن قامت به .
واعلم أوّلا : أنّ الرحمة إنّما هي في الإيجاد عامّة ، وبالرحمة بالآلام أوجد الآلام ، ثمّ إنّ الرحمة لها الأثر بوجهين : أثر بالذات وهو إيجادها كلّ عين موجودة ، ولا تنظر إلى غرض ولا إلى عدم غرض ولا إلى ملائم ولا إلى غير ملائم ، فإنّها ناظرة في عين كلّ موجود قبل  وجوده ، بل تنظره في عين ثبوته ، ولهذا رأت الحقّ المخلوق في الاعتقادات عينا ثابتة في العيون الثابتة ، فرحمته بنفسها في الإيجاد ، ولهذا قلنا : إنّ الحق المخلوق في الاعتقادات أوّل شيء مرحوم بعد رحمتها بنفسها ، في تعلَّقها بإيجاد المرحومين .
ولها أثر آخر بالسؤال ، فيسأل المحجوبون الحقّ أن يرحمهم في اعتقادهم ، وأهل الكشف يسألون رحمة الله أن تقوم بهم ، فيسألونها باسم الله ، فيقولون : يا الله ارحمنا ، ولا يرحمهم إلَّا قيام الرحمة بهم ، فلها الحكم ، لأنّ الحكم إنّما هو في الحقيقة بالمعنى القائم بالمحلّ ) .
 
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ الوجود الحق - المتعيّن في كل عين عين بعد تعيّنه بالمظهر وقيامه بمحلّ الظهور - يحكم على القابل بمقتضى حقيقته وقيامها ، أعني الرحمة الوجودية الفيضة  ، وليست إلَّا الوجود بعينها أوّلا بالذات في حقائق الأشياء وأعيانها الثابتة ، فبنفس تعلَّقها بالحقائق أزلا للإيجاد يوجد الحقّ المخلوق في الاعتقادات بعد تعيّنها في عين نفسها - يعني الرحمة - ونسب ذات الرحمة ،
فإنّ تعيّن الوجود في علوم المعتقدين بعد تعيّنه في علم الله ، فتعلَّق الرحمة الوجودية به كذلك - بحسب تعلَّقه في حقائقهم - متأخّر الرتبة عن حقيقة الرحمة ، ومتقدّم على المرحوم بحسب اعتقادهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( فهو الراحم على الحقيقة ، فلا يرحم الله عباده المعتنى بهم إلَّا بالرحمة ، فإذا قامت بهم الرحمة وجدوا حكمها ذوقا ، فمن ذكرته الرحمة ، فقد رحم ، واسم الفاعل هو الرحيم والراحم ، والحكم لا يتّصف بالخلق ، لأنّه أمر توجبه المعاني لذواتها ، فالأحوال لا موجودة ولا معدومة ، أي لا عين لها في الوجود ولا معدومة في الحكم ، لأنّ الذي قام به العلم يسمّى عالما وهو الحال ، فعالم ذات موصوفة بالعلم ، ما هو عين الذات ولا عين العلم ، وما ثمّ إلَّا علم وذات قام بها هذا العلم ، فكونه عالما حال لهذه الذات باتّصافها بهذا المعنى ، فحدثت نسبة العلم إليه ، فهو المسمّى عالما ، والرحمة على الحقيقة نسبة من الراحم وهي الموجبة للحكم ، فهي الراحمة ، والذي أوجدها في المرحوم ما أوجدها ليرحمه بها ، وإنّما أوجدها ليرحم بها من قامت به ، وهو - سبحانه - ليس بمحلّ للحوادث ، فليس بمحلّ لإيجاد الرحمة فيه . وهو الراحم ، ولا يكون الراحم راحما إلَّا بقيام الرحمة به ، فثبت أنّه عين الرحمة ).

يعني : الراحم - وهو الحق - عين الرحمة وإلَّا لزم كونه محلَّا للحوادث .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن لم يذق هذا الأمر ولا كان له فيه قدم ، ما اجترأ أن يقول : إنّه عين الرحمة أو عين الصفة فقال : ما هو عين الصفة ولا غيرها ، فصفات الحق عنده لا هي هو ولا هي غيره لأنّه لا يقدر على نفيه ولا يقدر أن يجعلها عينه ، فعدل إلى هذه العبارة ، وهي عبارة حسنة ، وغيرها أحقّ بالأمر منها وأرفع للإشكال ، وهو القول بنفي أعيان الصفات وجودا قائما بذات الموصوف ، وإنّما هي نسب وإضافات بين الموصوف بها وبين أعيانها المعقولة ) .
 
قال العبد : جلّ هذه المباحث قد ذكرنا فيه ما يكفي ويشفي فتذكَّر لا يتكرّر .
قال رضي الله عنه : ( وإن كانت الرحمة جامعة ، فإنّها بالنسبة إلى كل اسم إلهي مختلفة ، فلهذا يسأل - سبحانه - أن يرحم بكل اسم إلهيّ ، فرحمة الله والكناية هي التي وسعت كلّ شيء.)
""أضاف المحقق :
 المراد هو الرحمة المضافة إلى ضمير المتكلَّم في قوله : رحمتي ، فالمراد من « الكناية » هو الضمير أي رحمة الكناية . في النسختين وأكثر النسخ : فرحمه اللَّه والكناية "".
 
ثمّ لها شعب كثيرة تتعدّد بتعدّد الأسماء الإلهية، فما تعمّ بالنسبة إلى ذلك الاسم الخاصّ الإلهي
  في قول السائل : يا ربّ ارحم وغير ذلك من الأسماء حتى « المنتقم » له أن يقول :
يا منتقم ارحمني ، وذلك لأنّ هذه الأسماء تدلّ على الذات المسمّاة وتدلّ بحقائقها على معان مختلفة ، فيدعو بها في الرحمة من حيث دلالتها على الذات المسمّاة بذلك الاسم لا غير ، لا بما يعطيه مدلول ذلك الاسم الذي ينفصل به عن غيره لذاته ، إذ المصطلح عليه بأيّ لفظ كان حقيقة متميّزة بذاتها عن غيرها ، وإن كان الكلّ قد سيق ليدلّ على عين واحدة مسمّاة ، فلا خلاف في أنّه لكل اسم حكم ليس للآخر فذلك أيضا ينبغي أن يعتبر كما يعتبر دلالته على الذات المسمّاة ، ولهذا قال أبو القاسم بن قسيّ في الأسماء الإلهية : إنّ كل اسم على انفراده مسمّى بجميع الأسماء الإلهية كلَّها إذا قدّمته في الذكر نعتّه بجميع الأسماء ، وذلك لدلالتها على عين واحدة ، وإن تكثّرت الأسماء عليها واختلفت حقائقها أي حقائق تلك الأسماء .
ثمّ إنّ الرحمة تنال على طريقين : طريق الوجوب وهو قوله : " فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ " وما قيّدهم به من الصفات العلمية والعملية .
والطريق الآخر الذي تنال به هذه الرحمة طريق الامتنان الإلهي الذي لم يقترن به عمل وهو قوله : " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ " ومنه قيل: " لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ".  ومنها قوله : اعمل ما شئت فقد غفرت لك ، فاعلم ذلك ) .
 
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ رحمة الامتنان ذاتية ، ليست في مقابلة عمل ، تنال الأشياء كلَّها ، فكل ما تناولته الشيئية تناله هذه الرحمة ولا بدّ ، و « اعمل ما شئت فقد غفرت لك » و « غفران ما تقدّم وما تأخّر » من مقتضى هذه الرحمة ، ولسانها يقول ذلك .
وبهذه الرحمة استظهار الأبالسة والشياطين والسحرة والكفرة والفجرة والمردة والفراعنة ، وقد سبق كلّ ذلك مرارا، فتذكَّره تذكر ، والله الموفّق.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فصّ حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:36 am

22 - فصّ حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
22 - فصّ حكمة إيناسية في كلمة إلياسية                  الجزء الأول 
قد ذكرنا سبب استناد هذه الحكمة إلى الكلمة الإلياسية ، وسنزيدها بيانا في شرح المتن
" نشأته عليه السّلام روحانية على وجه لا يقبل تأثير الموت ، فانفلق له جبل لبنان من لبانته في صورة فرس من نار ، فأنس بها وآنسها ، فأمر بالركوب عليها ، فركبها ، فنسب حكمته إلى إيناس نور أحدية الجمع في صورة نارية الفرق على ما يأتي ."
قال رضي الله عنه  : ( إلياس هو إدريس كان نبيّا قبل نوح ، ورفعه الله ( مَكاناً عَلِيًّا ) فهو في قلب الأفلاك ساكن ، وهو فلك الشمس ، ثمّ بعث إلى قرية بعلبكّ، و« بعل » اسم صنم و« بك » هو سلطان تلك القرية ، وكان هذا الصنم المسمّى بعلا مخصوصا بالملك ) .
قال العبد : اعلم أنّ النفوس المفارقة هياكلهم بالمسمّى نونا  وهو مفارقة لطيفهم عن كثيفهم كما ذكرناه مرارا ،
وبتناسب ذلك الافتراق أنّه لغلبة حكم ما به يباين اللطيف الكثيف، وعدم وفاء قوّة الكثيف من حيث هو كذلك واقتضائه بمظهرية اللطيف وبقائه معه مدّة حياته وبقائه ،
فلا مناسبة تجمع بين اللطيف والكثيف إلَّا سرّ أحدية جمع " كلّ شيء فيه كلّ شيء " وأنّ في اللطيف كثافة معنوية من حيث تراكم كثرة حقائقها النسبية وتضاعف قواها ،
فإنّ ذلك كثافة معنوية ، فبهذه المناسبة جمع الله بين هذا اللطيف الروحاني والكثيف الجسماني ، فنزّل الله اللطيف إلى الكثيف ، وأظهر تلك الكثافة المعقولة في اللطيف الأحديّ بإظهار قواه المتكثّرة ،
وأوحى إلى النفس بأن تكمل نشأة الكثيف في قيام مظهريته لحقائق اللطيف وخصائصه بجزئيّات مظهرياتها الخصيصة بكلّ عضو ، فنزل اللطيف بأمر الله القدير القاهر لطفا ، وتكيّف بكيفية الكثيف فيسمّى نفسا أمّارة ،
لكونها آمرة بالوحي الإلهي لقواها وحقائقها أن تظهر حقائق الجسم الكثيف وخصائصها تماما أوّلا لتعمير العالم الكثيف وإظهار ما أودع الله فيه من كامنات أسراره،
ولم يكن يتأتّى ذلك إلَّا بجلب ما فيه منفعة الكثيف ودفع مضرّته ، فخلق الله في النفس الشهوة والغضب ، فاشتهت ما فيه بقاء صورته النوعية ، وغضبت لما فيه دفع ما يضرّه ويضرّها من جهته .
 
فهذه النفس المسمّاة أمّارة عرفا شرعيّا مأمورة أوّلا بما تأمّر ، فما أمرت إلَّا بما أمرت وأمّرت ، فظهر من حقيقتي الشهوة والغضب المستندتين في علم الحقائق إلى الرضي والغضب الإلهيين ، فلا تنس ولا تغفل عن أصول الحقائق الكونية في الحقائق الإلهية .
 
وتعيّن روحان لمظهريتهما وهما :
الروح الطبيعي الذي صورته الدم ،
والروح الحيواني الذي صورته البخار اللطيف الكائن في أحد تجويفي القلب الصنوبري الجسماني ، لا القلب الإلهي ، وفي التجويف الآخر جوهر الروح الطبيعي ، فينتشران من الأبهرين إلى أعالي أعضاء الهيكل وأسافلها في الشرايين والأوردة ، فخلقت صور الأعضاء الإلَّيّة  والأعضاء المتشابهة الأجزاء ، وظهرت القوى المسمّاة جسمانية من وجه ونفسانية من آخر بالأصالة في هذه الأعضاء ، فسبحان اللطيف ، المتجلَّي بحقائق اللطف ودقائق القوّة ورقائق الحياة ، العليم بما يخلق ، الخبير بما يفعل .
 
وظهرت الجاذبة والمشتهية من الروح الشهويّ ، والماسكة والهاضمة والمحيلة - أي المغيّرة - والغاذية والمولَّدة والمصوّرة والمشبّهة ، ولها جزئيّات تفريعية لم تسمّ في الحكمة العرفية ، فإنّهم اقتصروا على الأبين الأظهر الأجمع منها لسائرها رحمهم الله .
 
وهذان الروحان مخصوصان مأموران بخدمة هذا الهيكل الشريف الإلهي الذي هو بنيان الربّ اللطيف ، وموسومان بتعميره وتدبيره العمليّ من قبل النفس بهما ، ولكن هذا التدبير العملي للنفس من حيث القوّة العملية التي هي ذاتية لها ، وإنّما يتيسّر ويتأتّى لها ذلك بالتدبير العملي من حيث قوّتها العلمية التي هي أيضا ذاتية للنفس ،
 
وهي أصل القوّة العملية في الحقيقة ، وهي أخصّ بالنفس من حيث روحانيتها وجوهريتها ونورانيتها ، فخلق الله للقوى الخصيصة بالنفس من حيث روحانيتها الروح النفسانيّ من أحدية جمع الروحين الأوّلين ، وجعلهما مركبين وخادمين له ، وعيّن مظاهرها في أعضاء أعالي البدن ، وجمع جميع قوى هذا الروح النفسانيّ الروحانيّ النوراني في عشر قوى كلية :
خمسة منها باطنة مخصوصة بالروح الإنساني الظاهر في النفس المطمئنّة وهي :
المصوّرة ( أعني المتخيّلة )
والمفكَّرة ،
والحافظة ،
والذاكرة ،
والعاقلة الناطقة .
ثمّ الوهم ينتشي بين المتخيّلة والمتفكَّرة ، وينتشي القوّة المصوّرة للصور الذهنيّة والخياليّة ، وينتشي من العاقلة الناطقة ، وهي كمالها .
 
وخمسة ظاهرة وهي : الشمّ ، والذوق ، واللمس ، والسمع ، والبصر ،
وفي هذه المباحث مباحث جمّة عرفت في الحكمة الرسميّة من حيث ظاهرها ورسمها ، وأشرنا إلى بعض حقائقها في الفصّ الآدميّ ، فتأمّل ذلك منه ، إن شاء الله تعالى . فظهرت قوى النفس الناطقة لتكميل تعمير هيكله ، فدبّرت وفكَّرت وأقبلت وأدبرت ، حتى قامت الممكنة .
 
ثمّ انقسمت النفوس بموجب ما أراد الله به المدبّر الحكيم العليم إلى صنفين :
صنف غلَّبوا الروح النفسانيّ الروحاني الإلهي على الروح الطبيعي الشهواني ، وعلى الروح الغضبي الحيوانيّ ، وأقاموهما في خدمة الروح النفساني ، فدبّرت أمر هذا الهيكل على الوجه الأعدل وعمّرته بالأفضل الأكمل ، فظهرت الحقائق الروحانية النورانية ، وتبيّنت الدرج والدقائق الإلهية والرحمانية والإنسانية .
 
وهذا الصنف صنفان :
صنف منهم غلَّبوا القوى الروحانيّة على القوى الجسمانيّة بالكلَّية ، فاستهلكت القوى الغضبيّة والشهوية بالكلَّية ، وداوموا بالحكمة والموعظة الحسنة على الهوى والنفس الأمّارة بالسوء ، حتى غيّروها وأحالوها إلى الحقائق الروحانية ،
 
والخصائص النفسانيّة الإنسانية ، وواظبوا على الرياضات والمجاهدات الدائمة ، حتى تنوّرت هياكلهم ، وتطهّرت عن التلوينات البشرية ، فصارت هياكلهم روحانيّات ، وأنفسهم وأرواحهم نورانيات ربّانيّات ، وعادوا بمقتضى حقائقهم أرواحا قائمة ،
وحصلوا فوق الحيوانية البهيمية والسبعية ، وتجاوزوا مقام الموت ، فهم أحياء لا يموتون أبدا ، وهياكلهم لطائف الجوهر الجسميّ ، المتروحنة روحانية ، فقطعوا البرازخ الخصيصة بالنفوس البشرية والأجسام .
 
وكان إدريس عليه السّلام منهم ، فتروحن كما ذكرنا من قبل ، ونذكر أيضا عن قريب ما بقي من التتمّة في موضعه ، إن شاء الله تعالى .
 
والصنف الثاني منهم قصدوا الاقتصاد ، فلم يغلَّبوا روحانيّتهم على جسمانيّتهم بحيث تستهلك القوى الجسمانية ، فتحيلها إلى الجوهر الروحاني ، ولكن عدّلوها وقوّموها وثقّفوها بالسياسة الإلهية الشرعية والحكمية ، وما عطَّلوا قوّة من القوى الشهوية والغضبية ، وما بطلوها ،
وإنّما صرفوا أخلاقها - المسمّاة في الحكمة الرسمية رذائل - إلى المصارف المستحسنة عقلا وشرعا وعرفا ، فصارت كلَّها فضائل وأخلاقا إلهية ،
 
فأولئك الَّذين  "يُبَدِّلُ الله سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ " وهم أهل الاقتصاد والسداد ، ومنهم الكمّل المقرّبون من الأنبياء والأولياء أرباب الكمال ، وكملت المقابلات العبدانية والأخلاق الإلهية ، والمراتب الروحانية والكمالات النورانية في هذين الصنفين ،
وهم : الرسل والخلفاء ، والأولياء والعلماء والحكماء الإلهيّون ، لا غير .


ثمّ انقسم الصنف الباقي أيضا إلى صنفين ، وكلاهما غلَّبوا النفس الأمّارة بالسوء والهوى على العقل والروح ، وأسروا الروح النفسانيّ ، واستعملوا قواه بموجب الهوى في تحصيل الكمالات الوهميّة الجسمانية الحيوانية ، فغلبوا واستولوا بالكليّة على هذه الممكنة الهيكلية ، وازدوجت النفس من كونها أمّارة بالهوى ، فالصنف الواحد منهم غلَّبوا الشهوة على الغضب بعد تغليبها على الروح النفساني الإنساني ، فتولَّدت الأخلاق الرذلة البذلة ،
وهي المعقّبات المذكورة في كتب الإمام حجّة الإسلام ، أبي حامد محمد الغزالي رحمه الله .
وأمّهاتها : الحرص ، والشره ، والبخل ، والطمع ، والحسد ، والذلَّة ، والخسّة ، والخور ، والجزع ، والفزع ، والجبن ، والهلع ، والفشل ، والكسل ، والركَّة ، والوضاعة ، وما شاكلها وانتشى منها ممّا لا يحصي جزئياتها إلَّا الله .
 
والصنف الآخر غلَّبوا القوّة الغضبيّة على الشهوية بعد تغليبهما معا على الروح النفساني وقواه ، فظهر منها : التهوّر ، والظلم ، والجور ، والاستيلاء ، والاستعلاء ، والإيذاء ، والقهر ، والحقد ، والحميّة الجاهلية ، والنخوة ، والخيلاء ، والقساوة ، والجسارة ، والشكاسة ، والقتل ، وأمثالها . وإذا اعتدل ، فالشجاعة ، والشهامة ، والنبالة وأمثالها .
 
ثم تولَّدت من بين هاتين القوّتين بالمطابقات والموافقات الواقعات بينها وبين قواها في أشخاص هم مظاهرها أخلاق شيطانية : كالتخويف ، والخوف من الفقر ، والحزن على فوت الأغراض الدنياويّة ، والاستعلاء ، والاستكبار ، والتفاخر ، والتكاثر بالمال والجاه ، والمراء ، والجدل بالباطل ، والكفر ، والشرك والتثبيط  في الطاعات والعبادات ، والمنع والامتناع من الذكر والفكر والصلاة ، وإيقاع العداوة بين الأحبّاء والأصدقاء والمؤمنين والزوجين ، وما شاكل ذلك .
ومن أراد الاطَّلاع على أمّهاتها وكلَّيّاتها فليطالعها في كتاب " إكسير الكمال " وكتاب "خلاصة الإرشاد " لنا .
 
والغرض من ذكرها هاهنا هو أن يطَّلع المسترشدون  المستبصرون من إخواننا وأصحابنا وأولادنا على أخلاق المتروحنين وأهل الانسلاخ من الأوساخ ، وكيفية ظهور الروح المفارق الكامل القاطع للبرازخ بعد الموت العرفي ، وكيفية ظهور الإنسان المتروحن في الأرواح وجسمه الروحاني ،
ولمّا كان إدريس عليه السّلام من أقطاب المتروحنين وأكابرهم ، وله نشأتان ، عرضنا لذكر أصل ذلك على سبيل الإجمال ، وفي تفصيله تطويل .
 
قال رضي الله عنه  : ( وكان إلياس الذي هو إدريس قد مثّل له انفلاق الجبل المسمّى لبنان - من اللبانة وهي الحاجة - عن فرس من نار وجميع آلاته من نار ، فلمّا رآه ركب عليه ، فسقطت عنه الشهوة ، فكان عقلا بلا شهوة ، فلم يبق له تعلَّق بما يتعلَّق به الأغراض النفسية ، فكان الحق فيه منزّها ، فكان على النصف من المعرفة بالله تعالى ) .
 
قال العبد : الجبل المسمّى لبنان الحقيقة الجسمانيّة التي يبلغ فيها الروح الإلهي لبانتها وحاجتها من تكميل قواها بها وفيها .
وانفلاقها صورة الفرقان العقلي بين العالي الشريف والسافل السخيف من قواها وحقائق ذاتها . والفرس صورة الحياة والطلب والشوق والتشوّق إلى المقامات القدسية الروحانية الغالبة على القوى الجسمانية ،
فكان ممّا نقل إلينا أنّه بقي ستّ عشرة سنة أو أكثر لم ينم ، ولم يتقصّده ، ولم يأكل ، ولم يشرب إلَّا ما شاء الله إلى أن غلبت عليه الروحانية ، فتروحن أي عاد روحانيا ، وانقلبت قواه الحيوانية روحانية ، والشهوية نفسانية ، والنفسانية إلهية ، فامتنع عن الشهوات النفسانية الطبيعية حتى كملت حقيقة التروحن ،
فتمثّلت نفسه الناطقة - وهي نورية - في صورة فرس من نار ، فالصورة النارية لشدّة الشوق والطلب الإرادي لإحراق القوى الشهوية والإخراق لحجبها المانعة عن الانسلاخ والتقديس والطهارة عن الأوساخ ،
والصورة الفرسية لحقيقة همّته المترقّية إلى أعالي ذرى العروج ، وجميع آلاته صورة تكامل قواه الروحانية للانسلاخ والمفارقة عن الأدناس والأوساخ لأجل السير والسلوك الروحاني الذي كان بصدده ، فلمّا أمر بالركوب عليه ، ركبه ، فسقطت القوى الشهوية منه عن التعلَّق بالملاذّ الجسمانية الطبيعية ، فبقي روحا ، والعقول المجرّدة الكلَّية ، وهي نصف المعرفة بالله ، والنصف الآخر ظهر بالنصف الآخر من النفوس ، كما بيّنّا ، فاذكر .
 
قال رضي الله عنه  : ( فإنّ العقل إذا تجرّد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره ، كانت معرفته بالله على التنزيه لا على التشبيه ، وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلَّي ، كملت معرفته بالله  فنزّه في موضع التنزيه تنزيها حقيقيا لا وهميا رسميا ، وشبّه في موضع التشبيه تشبيها شهوديا كشفيا ورأى سريان الحقّ بالوجود في الصور الطبيعية والعنصرية ، ولا تبقى صورة إلَّا ويرى الحق عينها ، وهذه هي المعرفة التامّة الكاملة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله ، وحكمت أيضا بها الأوهام كلَّها ) .
 
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ الوهم يستشرف إلى ما وراء موجبات الأفكار ، ولا ينفعل للقوّة الفكرية العقلية من حيث تقيّدها انفعالا يخرجها عن الإطلاق ، بل الوهم يتعلَّق أبدا بما فوق المدرك بالعقل ، فيجيز الحكم على المطلق بالتقييد مرّة ، ويحكم بالعكس أخرى ، ولا يحيل ذلك ، ويحكم بالشاهد على الغائب تارة ، وعلى عكس ذلك أخرى ، وهذا في جميع من له قوّة الوهم من المقلَّدين والمؤمنين .
 
قال رضي الله عنه  : ( ولذلك كانت الأوهام أقوى سلطانا في هذه النشأة من العقل ، لأنّ العاقل - وإن بلغ من عقله ما بلغ - لم يخل عن حكم الوهم عليه والتصوّر فيما عقل ، فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه النشأة الإنسانية الكاملة ، وبه جاءت الشرائع المنزلة ، فشبّهت ونزّهت ، شبّهت في التنزيه بالوهم ، ونزّهت في التشبيه بالعقل ، فارتبط الكلّ بالكلّ ، فلم يمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه ، ولا تشبيه عن تنزيه، قال تعالى : "لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ" فنزّه وشبّه ) .
يعني  رضي الله عنه  : نزّه في عين التشبيه ، لأنّه نزّه في مماثلة المثل ما لا يماثله في هذه المثلية وهو عين التشبّه ، لأنّه إثبات المثل ونفي مماثلته ، فنزّه أن يكون شيء من الأشياء مثلا لهذا المثل المنزّه ، فينتفي عن الحق المماثلة بالأحرى والأحقّ ، وذلك على أنّ الكاف غير زائدة ، فهو - كما ذكرنا - تنزيه في تشبيه أو تشبيه في تنزيه ، وكلاهما سائغ فيه ، فتأمّل .
 
 ( "وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" فشبّه)  أي شبّه في عين التنزيه ، لأنّه أثبت السمع والبصر اللذين هما ثابتان عرفا للعبد ، ولكنّه خصّص الإضافة إليه - سبحانه - فإنّه حملهما على هويته تعالى المنزّهة المقدّسة عن أن يكون معه غيره ، فهو السميع لا سميع غيره معه ، وهو البصير لا بصير سواه دونه كذلك ،
ولذلك يسوغ أيضا كالأوّل في " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ " أن يكون تنزيها في عين التشبيه من حيث تخصيص السميعية والبصيرية اللتين اشترك فيهما ، عرفا وعقلا وشرعا لا كشفا كلّ حيوان ذو بصر وسمع بالحق دونه إن فرضت غيرا ، فانظر تداخل الحقائق بعضها في البعض من حيث النظرة الكشفي والتحقيق الشهودي الكمالي .
 
قال رضي الله عنه  : ( وهي أعظم آية نزلت في التنزيه ، ومع ذلك لم تخل عن تشبيه بالكاف ، فهو أعلم العلماء بنفسه ، وما عبّر عن نفسه إلَّا بما ذكرناه ، ثم قال : 
  ( سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ )  وما يصفونه إلَّا بما تعطيه عقولهم ، فنزّه نفسه عن تنزيههم ، إذ حدّدوه بذلك التنزيه ، وذلك لقصور العقل عن إدراك مثل هذا ) .
يعني رضي الله عنه  قصور العقل المقيّد بالقوّة البشرية النظرية بالفكر ، لا العقول المنوّرة القابلة نور التجلَّي والوهب الإلهيّين على الكشف والشهود .
 
قال رضي الله عنه  : ( ثم جاءت الشرائع كلها بما تحكم به الأوهام ، فلم تخل الحقّ عن صفة يظهر فيها ، كذا قالت ، وبذا جاءت ، فعملت الأمم على ذلك ، فأعطاها الحقّ التجلَّي ، فلحقت بالرسل وراثة ، فنطقت بما نطقت به رسل الله  " الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَه ُ " فـ « الله أعلم » موجّه : له وجه بالخبرية إلى رسل الله وله وجه بالابتداء إلى « أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَه ُ).
 
بمعنى أنّ قولهم : " لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ الله "  يعني هذا الرسول ، وتمّ كلام القوم ، وابتدأ برسل الله ، ثم حمل « الله أعلم » على « رسل الله » ، بمعنى أنّ رسل الله هم الله ، فإنّه هويّتهم وهم صورته ، وهو من حيث هو أعلم حيث يجعل رسالاته ، فجعل الله هوية رسله ، فكان تشبيها في عين تنزيه .
والوجه المشهور ظاهر ، وفي تسويغ هذا الوجه دقّة وتلطَّف ، فتدبّره بفهمك الثاقب .
 
ولذلك قال  رضي الله عنه : ( وكلا الوجهين حقيقة فيه ، لذلك قلنا بالتشبيه في التنزيه وبالتنزيه في التشبيه )
فإنّك إذا حملت « الله أعلم » على " رسل الله " ، نفيت الغيرية ، فأثبتّ الوحدة الحقيقية ،
كقوله عليه السّلام : « هذه يد الله » وأشار إلى يمينه المباركة صلَّى الله عليه وسلم فأوّل أهل الحجاب ، وآمن أهل الإيمان ، وكشف أهل الشهود والعيان أنّ يده عليه السّلام هي عين يد الله العليا في قوله : "يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ " رأي عيان ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( وبعد أن تقرّر هذا ، فنرخي الستور ونسدل الحجب على عين المنتقد والمعتقد ، وإن كانا من بعض صور ما تجلَّي فيها الحق ، ولكن قد أمرنا بالستر ) .
يعني رضي الله عنه  : لهم وعنهم وفي نظرهم وبموجب زعمهم ، ( ليظهر تفاضل استعداد الصور ، وإنّ المتجلَّي في صورة هو بحكم استعداد تلك الصورة ، فينسب إليه ما تعطيه حقيقتها ولوازمها ، لا بدّ من ذلك )
 حتى ينسب إلى المتجلَّي ما ينسب إلى تلك الصورة من الحجاب ، والكشف ، والتجلَّي والستر ، والعرفان والمنكر .
 
قال رضي الله عنه  : ( مثل من يرى الحق في النوم ، ولا شكّ هذا ، وأنّه لا شكّ الحقّ عينه ، فتتبعه لوازم تلك الصورة وحقائقها التي تجلَّى فيها في النوم ، ثم بعد ذلك يعبر - أي يجاز - عنها إلى أمر آخر يقتضي التنزيه عقلا ، فإن كان الذي يعبرها ذا كشف أو إيمان ، فلا يجوز عنها إلى تنزيه فقط ، بل يعطيها حقها من التنزيه ، وممّا ظهرت فيه ) . يعني : من التشبيه
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالله على التحقيق عبارة لمن فهم الإشارة ، وروح هذه الحكمة وفصّها أنّ الأمر ينقسم إلى مؤثّر ومؤثّر فيه وهما عبارتان ، فالمؤثّر بكل وجه ، وعلى كل حال ، وفي كلّ حضرة هو الله ، والمؤثّر فيه بكل وجه ، وعلى كل حال ، وفي كل حضرة هو العالم ، فإذا ورد وارد الحقّ فألحق كلّ شيء بأصله الذي يناسبه ، فإنّ الوارد أبدا لا بدّ أن يكون فرعا عن أصل كما كانت المحبّة الإلهية عن النوافل من العبد ، فهذا أثر بين مؤثّر ومؤثر فيه وكما  كان الحق سمع العبد وبصره وقواه عن هذه المحبة ، فهذا أثر مقرّر لا تقدر على إنكاره ، لثبوته شرعا إن كنت مؤمنا .
وأمّا العقل السليم فهو إمّا صاحب تجلّ إلهي في محلّ طبيعي ، فيعرف ما قلناه ، وإمّا مؤمن مسلم يؤمن به ، كما ورد في الصحيح . ولا بدّ من سلطان الوهم أن يحكم على العاقل الباحث فيما جاء به الحق في هذه الصورة ، لأنّه مؤمن بها وأمّا غير المؤمن فيحكم بالوهم على الوهم ، فيتخيّل بنظره الفكري أنّه قد أحال على الله ما أعطاه ذلك التجلَّي في الرؤيا ، والوهم في ذلك لا يفارقه من حيث لا يشعر بغفلته عن نفسه  ) .
يشير رضي الله عنه  إلى ما ذكر أوّلا عن سعة سلطان الوهم ، والوهم قوّة ، لها
مدخل في التخيّلات ، وتحكَّم أيضا في المعقولات والمحسوسات ، من شأنها أن تركَّب أقيسة كلَّية من الموادّ الجزئية ، وتحكم بالشاهد على الغائب ، وتجري الحكم كلَّيا والمقيس عليه جزئي والمقيس كلي ، ويعبّر في العرف النظري عن هذا القياس بالتمثيل ، والمثال فيما نحن بصدده : أنّ الحق - مثلا - تجلَّى في صورة إنسانية نوما ، فالمؤمن العاقل يؤمن بذلك ، ويتوهّم أنّه مطَّرد في جميع صور التجلَّي ، أو أنّه كلَّما يتجلَّى يتجلَّى في الصورة الإنسانية ، أو أنّ الصورة الإنسانية صورته في كلّ تجلّ .
والمنزّه ينزّه الحق عن الصورة في الدليل العقلي ، ويحكم بالوهم : أنّ ذلك له - تعالى - ذاتي ، وذلك تعيّن له في مرتبة الفكر ، لا في الكشف ولا في التجلَّي ولا كلَّما شاء ، فإنّه - تعالى - إن شاء ظهر في كل صورة ، فأضيف إليه ما يضاف إلى تلك الصورة ، وإن لم يشأ ، لا يضاف إليه صورة أصلا ، فلا يحكم عليه أنّه في كل موطن ومقام منزّه كذلك ، وهو وهم من المنزّه ، لأنّ تنزيهه عن الصورة حصوله فيما لا صورة له ، وحدّه به ، وهو - تعالى - غير محدود ، وتشبيه له - تعالى - بالعقول والمجرّدات عن الصور في زعم من يقول بذلك ، وهو قد يتوهّم أنّه قد نزّه وهو في عين التشبيه ، فلا يخلو عاقل ، - كما ذكر رضي الله عنه - عن الوهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( ومن ذلك قوله : " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " قال تعالى : "وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ" ، إذ لا يكون مجيبا إلَّا إذا كان  من يدعوه غيره ) .
يعني : يتوهّم الداعي ذو الوهم أنّ قربه عنه كقرب الأشياء الجسمانية بعضها من بعض ، وأنّه غيره من كل وجه ، وذلك وهم منه ، إذ هو هو ، لا غير ، ويتوهّم المفكَّر أيضا أنّ القرب والبعد لا يكونان إلَّا بين الأجسام المتحيّزة بعضها من بعض ، وهو أيضا وهم منه .
 
قال رضي الله عنه  : ( وإن كان عين الداعي عين المجيب ، فلا خلاف في اختلاف الصور ، فهما صورتان بلا شكّ ، وتلك الصور كلَّها كالأعضاء لزيد ، فمعلوم أنّ زيدا حقيقة واحدة شخصية ، وأنّ يده ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبه ) .
يعني : مع أنّ زيدا ليس إلَّا هيئة اجتماعية من هذه الأعضاء ، فليست صورة عضو منه عين عضو آخر .
 
قال رضي الله عنه  : ( فهو الكثير الواحد ، الكثير بالصورة ، والواحد بالعين ، وكالإنسان بالعين واحد بلا شكّ ولا نشكّ أنّ عمرا ما هو زيد ولا خالد ولا جعفر ، وأنّ أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودا شخصيا ، فهو وإن كان واحدا بالعين ، فهو كثير بالصور والأشخاص ، وقد علمت قطعا إن كنت مؤمنا أنّ الحق عينه يتجلَّى يوم القيامة في صورة فيعرف ، ثم يتحوّل في صورة فينكر ، ثم يتحوّل عنها في صورة فيعرف ، وهو هو المتجلَّي ليس غيره في كل صورة ، ومعلوم أنّ هذه الصورة ما هي تلك الصورة الأخرى ، فكان العين واحدة قامت مقام المرآة ، فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقدة في الله عرفه وأقرّ به ، وإذا اتّفق أن يرى فيها معتقد غيره ، أنكر كما يرى في المرآة صورته وصورة غيره ، فالمرآة عين واحدة والصور كثيرة في عين الرائي ، وليس في المرآة صورة منها جملة واحدة مع أنّ المرآة لها أثر في الصور بوجه ، وما لها أثر بوجه ، فالأثر الذي لها كونها ترد الصورة متغيّرة الشكل من الصغر والكبر ، والطول والعرض ، فلها أثر في المقادير ، وذلك راجع إليها ، وإنّما كانت هذه التغييرات منها ، لاختلاف مقادير المرائيّ ) .
 
قال العبد : قد صرّح بالحق الموجود المشهود في هذا المثال ، فإنّ عين الحق - تعالى - لمّا تجلَّى في قابلية كلَّية ، يعمّ ظهور هذه الصور الاعتقادية فيها بحسبها ، فلا شكّ أنّ كلّ ناظر يعتقد فيه صورة إذا رأى صورة معتقده فيه أقرّ واعترف ، ذلك التحقيق يقتضي أنّه لم يقرّ ولم يعترف إلَّا بصورة اعتقاده في الحقّ لا بالحق ، فلو أقرّ واعترف بالحق ، لاعترف وأقرّ به في صور المعتقدات كلَّها ، مع إقراره واعترافه أنّه غير محدود ، ولا منحصر في شيء منها ، ولا في الجميع ، ولكنّه إذا رأى صورة غير صورة معتقده أنكره ،
 
وهو تعالى يقبل إنكاره من حيث خلاف صورة معتقده ، كما يقبل إقراره في عين صورة معتقده ، ويكون عين الكلّ وهو في ذاته تعالى الغنيّة عن العالمين منزّه عن كلّ هذا ، وعن الظهور والتعيّن بها جمعا وفرادى ، وعن نفيك هذه الأمور والصور عنه وتنزيهه عنها .
 
وأمّا ظهور الصور متغيّرة في مرآة الحق لاختلاف في المرآة فضرب مثل لتجلَّي الحق في صور الحضرات مرائي ، فلا يكون تجلَّيه وظهوره في مرآتية كل حضرة حضرة إلَّا بحسبها ، فإنّ نظر ناظر إلى الحق من حيث تجلَّيه في حضرة ، فإنّه تظهر صورة الرائي له في تلك الحضرة بحسبه ، وأمّا في تجلَّيه الوجودي الذاتي الأحدي الجمعي ، فلا يرى فيه صورة إلَّا على ما هي عليه ، ولكنّ الناظر إن لم يغلب على نظره التقيّد بصورة دون صورة ، ولا حصره في الصورة المرئيّة في المرآة كلَّها ولم ينفها عنه مطلقا ، فإنّه يرى العين بعين رؤية العين عينها ، فافهم .

 .
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فصّ حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:36 am

22 - فصّ حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
22 - فصّ حكمة إيناسية في كلمة إلياسية                  الجزء الثاني 

قال رضي الله عنه  : ( فانظر في المثال مرآة واحدة من هذه المرائي لا تنظر الجماعة وهو نظرك من حيث كونه ذاتا ، فهو غنيّ عن العالمين ، ومن حيث الأسماء الإلهية فذلك الوقت يكون كالمرائي ، فأيّ اسم إلهي نظرت فيه نفسك أو من نظر فإنّما يظهر في الناظر حقيقة ذلك الاسم ، فهكذا هو الأمر إن فهمت ، فلا تجزع ولا تخف ، فإنّ الله يحبّ الشجاعة ولو على قتل حيّة ، وليست الحيّة سوى نفسك ، والحيّة حيّة لنفسها بالصورة والحقيقة ، والشيء لا يقتل عن نفسه وإن أفسدت الصورة في الحسّ ، فإنّ الحدّ يضبطها والخيال لا يزيلها ) .

يشير رضي الله عنه:  محرّضا على إطلاق العلم بالله عن كلّ قيد وحصر في عقد ، وليس ذلك إلَّا بإفساد الاعتقادات الجزئية التقييدية التحديدية صورة أو معنى أو بهما معا ، ويشجّع الناظر في حقيقة الحق على إفساد صورة التقييد والتحديد ، حتى يشهد الحق الموجود المشهود الشاهد ، كما هو في حقيقته ، وذلك بأن يراه عين كل شيء غير منحصر في تعيّنه به وفيه ،

ولا في الكلّ مطلقا عن الكلّ جامعا بين التعيّن واللاتعيّن مطلقا في جمعه بينهما ، قابلا كلّ وصف وحكم واعتبار من كل حاكم وواصف معتبر ، مع كمال تقديسه ونزاهته في حقيقته عن كل ذلك ، وإطلاقه في ذاته الغنيّة عن العالمين ، فهذا هو العلم المحقّق الصحيح بحقيقة الحق على ما يعلم نفسه ، وفي تفصيل ذلك طول ، فتدبّر وتحقّق إن شاء الله تعالى.

واعلم : أنّه ليس وراء الله مرمى ولا دونه منتهى ، وهو المنتهى والمنتهى ولا انتهاء له إلَّا إليه ، إليه المصير ، وهو الواحد الأحد الذي ليس في الوجود غيره .

قال رضي الله عنه  : ( وإذا كان الأمر على هذا ، فهذا هو الأمان على الذوات والعزّة والمنعة ، فإنّك لا تقدر على إفساد الحدود ، وأيّ عزّة أعظم من هذه العزّة ؟ فتتخيّل بالوهم أنّك قتلت ، وبالعقل والوهم لم تزل الصورة موجودة في الحدّ ، والدليل على ذلك "وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى " .
والعين ما أدركت إلَّا الصورة المحمدية التي ينسب لها الرمي في الحسّ ، وهي التي نفى الله الرمي عنها أوّلا ، ثم أثبته لها وسطا ، ثم عاد بالاستدراك أنّ الله هو الرامي في صورة محمدية ، ولا بدّ من الإيمان بهذا ، فانظر إلى هذا المؤثّر ، حتى أنزل الحق في صورة محمدية ، فأخبر الحق نفسه عباده بذلك ، فما قال أحد منّا عنه ذلك ، بل هو قال عن نفسه ، وخبره صدق والإيمان به واجب ، سواء أدركت علم ما قال أو لم تدركه ، فإمّا عالم أو مسلم مؤمن ،
وممّا يدلّ على ضعف النظر العقلي من حيث فكره كون العقل يحكم على العلَّة أنّها لا تكون معلولة لمن هي علَّة له ، هذا حكم العقل لا خفاء به ،
وما في علم التجلَّي إلَّا هذا وهو أنّ العلَّة تكون معلولة لمن هي علَّة له والذي حكم به العقل صحيح مع التحرير في النظر ، وغايته في ذلك أن يقول إذا رأى الأمر على خلاف ما أعطاه الدليل النظري : إنّ العين بعد أن ثبت أنّها واحدة في هذا الكثير ، فمن حيث هي علَّة في صورة من هذه الصور لمعلولها في حال كونها علَّة ، بل ينتقل الحكم بانتقالها في الصور ، فتكون معلولة لمعلولها ، فيصير معلولها علَّة لها .
هذا غايته إذا كان قد رأى الأمر على ما هو عليه ، ولم يقف مع نظره الفكري ).

يشير إلى أنّ العلَّية معلولة وجودا وتقديرا لمعلوليّة المعلول ،
لأنّه لولا معلولية المعلول لم تتحقّق علَّية العلَّة ، وحينئذ لم تكن العلَّة علَّة لهذا المعلول ،
فعلَّيّة العلَّة متوقّفة التحقق على معلولية المعلول ، فإذن معلولية المعلول علَّة لعلَّية العلَّة ، ولولا العلة وعلَّيّتها - لما كان المعلول معلولا ولا المعلولية نعتا له ، فتكون علَّية العلَّة علَّة لمعلولية المعلول ، والمعلول معلول بقيام المعلولية به ،

وكذلك العلة علَّة لقيام العلَّية بها فالعلة مع علَّيتها - التي بها علة للمعلول - معلولة لمعلولية المعلول التي هو بها معلول ، إذ هي عينه ، كما أنّ العلَّية ليست زائدة على العلَّة إلَّا في التعقّل لا في الوجود ، إذ العقل ينتزع معنى العلَّية فيفرزه زائدا على عين العلة ، وليس كذلك ،

إذ العلَّية والمعلولية لا عين لهما خارجا عن العلَّة والمعلول في الوجود ، إذ لو كان لهما تحقّق وجودي دون عين العلة والمعلول ، لتحقّق امتيازهما عنهما في الوجود ، والامتياز ليس إلَّا في تعقّل المتعقّل ، وكذلك جميع المتضايفات لا تحقّق لأحدهما إلَّا بالآخر ، فكلّ منهما علة لمعلوله ،

فيقول الناظر المناظر والمفكَّر الماهر بعد تحقّقه أحدية عين العلة والمعلول :
هذه العين الواحدة باعتبار كونها علة ليست معلولة لعلَّته بل باعتبار آخر فتنتقل العلَّية إلى المعلول باعتبار آخر ، والمعلولية إلى العلَّة كذلك باعتبار آخر ، وبتغاير الاعتبارين يتغاير الحكمان ، فنقول : والعلَّة باعتبار عليّته ليست معلولة لمعلولها ، والمعلول باعتبار معلوليته ليس علَّة لعلَّته إلَّا باعتبار الانتقال المذكور 

فنقول له بلسان الذوق والتحقيق : للعين الواحدة فيهما مع وجود الاعتبارين صلاحية قبول الكلّ بكونها عين العلة وعين المعلول ، حال كون العلة علَّة وكون المعلول معلولا ، وعين العلية والمعلولية المعتبرتين في العلة والمعلول حالتئذ ، فهي في عينها جامعة بين العلية والمعلولية ، فهي العلة بعلَّيتها والمعلول بمعلوليتها ، إذ لا يمكن اعتبار هذه العين الواحدة إلَّا وجميع الاعتبارات لها من عينها في حالة واحدة على السواء ،

وهذا صورة الأمر في التجلَّي ، فإنّ المتجلَّي والمتجلَّى له والتجلَّى وكون المتجلَّى متجلَّيا والمتجلَّى له متجلَّى له هو الحق الواحد عينه ، المستغرق لجميع هذه الاعتبارات التي يتعقّلها العقل ، والامتياز والفرقان ليس إلَّا في العقل والصور المتعقّلة المفروضة المنتزعة عن العين ، والدليل على ذلك أحدية العين ، فإنّ واحدا أحد ما ثمّ إلَّا هو ، فانظر ما ذا ترى ، وتأمّل مليّا تجده واضحا جليّا .

قال رضي الله عنه  : ( وإذا كان الأمر في العلَّة بهذه المثابة ، فما ظنّك باتّساع النظر العقلي في غير هذا المضيق ؟ فلا أعقل من الرسل - صلوات الله عليهم - وقد جاؤوا بما جاؤوا به في الخبر عن الجناب الإلهي ، فأثبتوا ما أثبته العقل » يعني في طور العقل .
« وزادوا ما لا يستقلّ العقل بإدراكه وما يحيله العقل رأسا ويقرّ به في التجلَّي فإذا خلا بعد التجلَّي بنفسه ، حار فيما رآه ، فإن كان عبد ربّ ، ردّ العقل إليه ، وإن كان عبد نظر ، ردّ الحق إلى حكمه ، وهذا لا يكون إلَّا ما دام في هذه النشأة الدنياوية محجوبا عن نشأته الآخرة في الدنيا ) .

يعني : يكون في هذه النشأة أبدا مقيّدا فيحار ويجار عن الحق ، ولا يجار إليه ، حتى يجيره عمّا يحيّره ، ويخبر بما يخبره .

قال رضي الله عنه  : ( فإنّ العارفين يظهرون هنا كأنّهم في الصورة الدنياوية لما يجري عليهم من أحكامها ، والله - تعالى - قد حوّلهم في بواطنهم في النشأة الأخراوية ، لا بدّ من ذلك ، فهم بالصورة مجهولون إلَّا لمن كشف الله عن بصيرته ، فأدرك ، فما من عارف بالله من حيث التجلَّي الإلهي إلَّا وهو على النشأة الآخرة قد حشر في دنياه ).
أي جمع ليوم الجمع « ونشر من قبره » أي انطلق عن قيده ولم يتقيد بتعينه ،

قال رضي الله عنه  : ( فهو يرى ما لا يرون ويشهد ما لا يشهدون عناية من الله ببعض عباده في ذلك .
فمن أراد العثور على هذه الحكمة الإلياسية الإدريسية الذي أنشأه الله نشأتين ، وكان نبيّا قبل نوح ، ثم رفع ونزل رسولا بعد ذلك ، فجمع الله له بين المنزلين ، فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته ، ويكون حيوانا مطلقا )  يعني من غير تصرّف عقلي  .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( حتى يكشف ما يكشفه كلّ دابّة ما عدا الثقلين ، فحينئذ علم أنّه قد تحقّق بحيوانيته . وعلامته علامتان : الواحدة هذا الكشف ، فيرى من يعذّب في قبره ومن ينعّم ، ويرى الميّت حيا والصامت متكلَّما والقاعد ماشيا .
والعلامة الثانية الخرس بحيث إنّه لو أراد أن ينطق بما رآه ، لم يقدر ، فحينئذ يتحقّق بحيوانيته .
وكان لنا تلميذ قد حصل له هذا الكشف ، غير أنّه لم يحفظ عليه الخرس ، فلم يتحقّق بحيوانيته . ولمّا أقامني الله في هذا المقام تحقّقت بحيوانيتي تحقّقا كلَّيا ، فكنت أرى وأريد النطق بما أشاهده ، فلا أستطيع ، فكنت لا أرى الفرق بيني وبين الخرس الذين لا يتكلَّمون ) .

قال العبد : إنّما ذكر الشيخ  رضي الله عنه قبيل ذكره سرّ هذا الكشف مسألة ظهور العين الواحدة في صور كثيرة هي في تلك الصور عينها غير مقيّدة ولا منحصرة في شيء منها ، فيصدق على تلك العين الواحدة في صورة من تلك الصور الكثيرة أنّها عينها في صورة أخرى أو صور أخر من وجه ، ويصدق أيضا أنّها من كونها في صورة عينها أنّها عين الأخرى من حيث تغاير الصورتين ، والتعيين باعتبار آخر ،

فيقال في إدريس : إنّه هو إلياس عينه ، أو إلياس المرسل إلى بعلبكّ هو إدريس الذي كان يوحى إليه قبل نوح من حيث التعين ، ويصدق أنّه غيره من حيث الصورة والتعيّن ، فتحقّق ولا تغلط في الحقائق والأعيان بالتباس التعينات عليك .

فلو قلنا : إنّ العين أخلت الصورة الإدريسية وانتقلت إلى الصورة الإلياسية فكانت عامرتها دون الصورة الإدريسية ، لكان عين القول بالتناسخ ، ولكنّ الفرق ما بيّنّا ، فتدبّر وتبصّر ،
فإنّا نقول : إنّ عين إدريس وهويته مع كونها قائمة في إنّيّة إدريس وصورته في السماء الرابعة.

 
هي الظاهرة في الصورة الإلياسية ، والمتعيّنة في إنّيّة إلياس الباقي إلى الآن ، فيكونان من حيث العين والحقيقة واحدا ، ومن حيث التعيّن الصوري والظهور الشخصي اثنين ، كحقيقة جبرئيل وعزرائيل وميكائيل ، يظهرون في الآن الواحد في مائة ألف مكان بصور شتّى ، كلَّها قائمة موجودة مشهودة بهؤلاء الأرواح الكلَّية الكاملة، فكذلك أرواح الكمّل وأنفسهم ، فافهم.

وكذلك الحق المتجلَّي في صور تجلَّيات لا تتناهى وتعيّنات أسماء إلهية لا تحصى واحد في ذاته وعينه المنزّهة في عين كونه كثيرا بالصور والتعيّنات .

ثمّ إنّه رضي الله عنه  أحال التحقّق بهذه الحقيقة على الحقيقة من غير الطريقة على أن يتحقّق السالك بحيوانيته ، وينزل من حكم العقل إلى حيوانيته ، ويعزل عن حكم العقل جانبا ، حتى يبقى حيوانا محضا حقيقة ليعلم سرّ نزول إدريس - بعد أن تحقّق بروحانيته حتى بقي عقلا مجرّدا بلا شهوة - إلى صورة إلياسية مبعوثا إلى أهل بعلبكّ ،

وفائدته في ذلك ، التحقّق بالمنزلتين : منزلة شهود الحق والتحقّق به في الملإ الأعلى ذوقا ، والتحقّق بشهود الحق أيضا في الأسفل والتحقّق به كذلك .
حقّقنا الله وإيّاك بحقائق الجمع بين هذين الكمالين بحوله وفضله وطوله ، إنّه قدير .

ولهذا دعا قومه في صورة إلياسية ، وأخبرهم بأحدية العين في عين كثرة لا تنحصر ، فقال الله - تعالى - حكاية عنهم في القرآن أنّه قال لهم "الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الأَوَّلِينَ " مع تحقّق كثرة المربوبين في أزمنة متغايرة بالتعين ، ومعلوم أنّ نسبة مربوب إلى ربّ غير النسبة الأخرى إلى مربوب آخر ، على أنّ النسبة والتعيّن والربوبية والمربوبية في الكلّ من حيث الإطلاق واحدة أيضا ، ولكن ليست هذه النسبة عين تلك النسبة الأخرى ، فاعقل ذلك ولا تغفله ولا تهمله أبدا ، فإدريس هو إلياس بحقيقته وعينه ، وليست صورته الإدريسية عين صورته الإلياسية ، فالصورتان متميّزتان غيران ، والعين واحدة ،
والصورة - من كونها صورة مطلقة - واحدة أيضا ، فلا غيرية إلَّا في التعيّن والتشخّص لا غير ، وهو متعلَّق الحدوث والفناء والزوال وغيرها ، فافهم .

قال رضي الله عنه  : ( فإذا تحقّق بما ذكرناه » يعني إذا نزل إلى حيوانيته وتحقّق بها « انتقل إلى أن يكون عقلا مجرّدا في غير مادّة طبيعية ، فيشهد أمورا هي أصول لما يظهر في الصور الطبيعية ، فيعلم من أين ظهر هذا الحكم في الصور الطبيعية علما ذوقيا ) .

يعني  رضي الله عنه  : أنّ السالك المتحقّق بحيوانيته إن انتقل بعد ذلك إلى التحقّق بكونه عقلا مجرّدا عن القيود الطبيعية ، تحقّق حينئذ ذوقا أنّ العين - التي كانت في العقل عين العقل ، وفي النفس عين النفس ، وفي المعاني معنى مجرّدا معقولا ، وفي الحقّية وجودا بحتا صرفا هو عين ذاته - تباركت وتعالت : وهو في الحيوان حيوان وفي الجماد " جماد " قد ظهرت العين الحقيقة بهذه الصور كلَّها ، فهي أصل الكلّ ومنشؤه ومنبعه ، ومنه وعليه منبعثه ومهيعه ، وإلى العين مصيره ومرجعه ، وأنّه أيضا في صورة من صورها أصل ومنشأ لصورة أخرى بعدها .

قال رضي الله عنه  : (فإن كوشف على أنّ الطبيعة عين نفس الرحمن فقد أوتي خيرا كثيرا) فإنّه قد أوتي الحكمة التي بها يغلب أعيان خلق العالم كلَّه مع كثرة صورها غير المتناهية حقّا واحدا أحدا لا كثرة فيه أصلا ، وهذا هو الخير الكثير .

قال رضي الله عنه : ( وإن اقتصر معه على ما ذكرناه ، فهذا القدر يكفيه من المعرفة الحاكمة على عقله، فيلحق بالعارفين ويعرف عند ذلك ذوقا "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ الله قَتَلَهُمْ").

يعني  رضي الله عنه  : أنّ الله قتلهم في صوركم وموادّكم ، ( وما قتلهم إلَّا الحديد والضارب والذي خلف هذه الصور ، فبالمجموع وقع القتل والرمي ، فيشاهد الأمور بأصولها وصورها ، فيكون تامّا ، فإن شهد النفس ، كان مع التمام كاملا ، فلا يرى إلَّا الله عين ما يرى ، فيرى الرائي عين المرئيّ ) كما كان يرى العلَّة عين المعلول
( وهذا القدر كاف ، والله الموفق  الهادي ) .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 23 - فصّ حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالسبت مارس 14, 2020 12:31 am

23 - فصّ حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    

الفص اللقماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
23 - فصّ حكمة إحسانية في كلمة لقمانية
إنّما أضيفت هذه الحكمة إلى الكلمة اللقمانية ، لكون الغالب على لقمان عليه السّلام شهود مقام الإحسان ، وهو شهود علميّ على ما يأتي في وصاياه لابنه سرّ : " وَوَصَّيْنَا الإِنْسانَ بِوالِدَيْه ِ حُسْناً "  وغير ذلك .
" كان الغالب على حاله في كشفه وشهوده الإحسان ، وأوّل مرتبته الأمر بالعبادة على البصيرة والشهود ، كما أمر لقمان ابنه في وصيّته إيّاه " يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " نهاه عن الشرك للإخلاص في عبادته وعبوديته لله .
وهو أعلى مرتبة الإحسان ، ثم عرّفه بوصيّته تعالى الإنسان بالإحسان ، ولقد أحسن في بيان إحسان الله تعالى إلى المرزوقين ، كما ستقف على أسراره عن قريب."
 
قال رضي الله عنه : (إذا شاء الإله يريد رزقا  .... له فالكون أجمعه غذاء)
يعني  رضي الله عنه  : إذا تعلَّقت مشيّة الحق بإرادة الرزق له من حيث إنّه عين الوجود الحق المتعيّن بأعيان الممكنات ، فإنّ الكون كلَّه والأحكام الظاهرة الإلهية بالكون غذاء للوجود ، لظهوره بها في ملابس من الأسماء والصفات والنسب والإضافات ،
فإنّ الهوية الإلهية الحقّية - من حيث غيبها وتجرّدها عن المظاهر - غنيّة عن العالمين وعن الأسماء كما عرفت من قبل .
وأمّا تعلَّق المشيّة بإرادة الرزق فمن كونه ظاهرا ومتعيّنا في أعيان العالم ، والإرادة عين المشيّة من وجه ،
 
وكذلك قوله :( وإن شاء الإله يريد رزقا   .... لنا فهو المشاء كما يشاء )
أي هو المراد ، كما " شاء " و " أراد " بمعنى ، وإن تعلَّقت مشيّة الحق بإرادة الرزق من لدنه لنا فهو - من حيث كونه عين الوجود - يكون مرادا له في تعلَّق مشيّته ، فيكون رزقا لنا بوجوده كما شاء .
 
وإنّما نحن نقوش وصور وأشكال وهيئات وحروف وكلمات وسور وآيات ، والكلّ تعيّنات نسبية لا تحقّق لها في حقائقها ، لكن بالمتعيّن بها ، فما لنا وجود ولا حياة ولا بقاء إلَّا بالوجود الحق المتعيّن بنا وفينا ،
فهو رزقنا وهو غذاؤنا ، كما نحن غذاؤه بالأحكام ، فكما أنّ بقاءنا بالوجود ، فكذلك بقاء الأسماء الإلهية والنسب الربّانية والحقائق الوجودية الوجوبية بأعيان الأكوان ، وقد مرّ هذا الذوق في الحكمة الإبراهيمية ، فتذكَّر .
 
ثمّ قال رضي الله عنه  : ( مشيّته إرادته فقولوا   .... بها قد شاءها فهي المشاء )
يأمر رضي الله عنه بالقول : « إنّ المشيّة تتعلَّق بالإرادة مع أنّها عينها »
أي قولوا : " شاء أن يريد " فمفعول المشيّة إذن الإرادة ، ولمّا كانت الإرادة تخصيص المعلوم المراد لما يقتضيه ، والإرادة من جملة المعلومات ، ولا سيّما الإرادة المخصوصة ، فإنّه من حيث ذاته ليست نسبة المشية أو اللامشيّة إليه أولى من إحداهما ، فهو من كونه إلها له أن يريد فتخصّص حقيقة الإرادة لتخصيص ما أراد .
 
ثم قال رضي الله عنه  : (يريد زيادة ويريد نقصا   .... وليس مشاءه إلَّا المشاء )
يريد  رضي الله عنه  : أنّ المشيّة قد تتعلَّق بالإرادة كالإرادة الإيجاد ، وتتعلَّق بإرادة النقص بالإعدام ، فالإرادة تعلَّق المريد بالمراد المعلوم ليوجده ، كقوله تعالى " :  فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ   أي يوجد ، فإنّ فعله الإيجاد ،
وما تعلَّقت الإرادة حيث وردت في القرآن العظيم إلَّا بالمعلوم المعدوم العين ليوجده ،
كقوله تعالى :  " إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناه ُ "  أي للإيجاد   ( أَنْ نَقُولَ لَه ُ كُنْ فَيَكُونُ )     وكقوله :   " فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما " [الكهف : 82]
وقوله :   " فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْه ُ "    [الكهف : 81]
 
وأمّا المشيّة فتعلَّقها أعمّ ، فإنّها تتعلَّق بالموجود للإعدام وتتعلَّق بالمعدوم أيضا للإيجاد ، كقوله - تعالى - :  " إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ " .
فتعلَّقت بهم وهم موجودون ليذهبهم ، وهو إعدام عينهم وتعيّنهم الشخصيّ العينيّ ، " وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ " تتعلَّق بخلق معدوم الأعيان لم يأت بعد ليأتي به .
 
قال رضي الله عنه  : (فهذا الفرق بينهما فحقّق  ..... ومن وجه فعينها سواء)
يريد : أنّ المشيّة تتعلَّق بالزيادة عند الإيجاد ، وتتعلَّق بالنقص عند الإعدام والإفساد ، وليست الإرادة كذلك ، فإنّها مخصوصة بالإيجاد والفعل دون الإعدام ، فهذا هو الفرق بين المشيّة والإرادة ، وهما من حيث حقيقتهما - الأحدية الجمعية التي تشملهما - عين واحدة .
 
وإنّما أورد هذه المسألة في هذا الفصّ ، لما يتضمّن من حكمة الرزق ، وأنّه لا بدّ من إيصال كل رزق إلى كل مرزوق ، وكيفية توصيله بتفصيله .
 
قال رضي الله عنه  : ( قال الله - تعالى : " وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ "  ،" وَمن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً " [البقرة : 269 ]، فلقمان بالنصّ هو ذو الخير الكثير ، لشهادة الله له بذلك ، والحكمة قد تكون متلفّظا بها ومسكوتا عنها ) .
يعني : أنّ النطق في موضعه حكمة ، والسكوت أيضا في الموضع الأليق الأنسب بذلك كذلك حكمة ، كما سكت لقمان عن سؤال داوود عليه السّلام في صنعة السرد وعمل الدروع بمحضر من لقمان ، فلم يسأله عنه وسكت ، حتى إذا أتمّه وأكمله داوود ، فأفرغه على لقمان ،
 
فقال لقمان : نعم الآلة للحرب ، فقيل : إنّه قال له داوود عند ذلك : الصمت حكمة .
فمثل هذا السكوت لعمر الله حكمة يدفع بها الاستعجال ، ويورث التؤدة والوقار .
 
قال رضي الله عنه  : ( مثل قول لقمان لابنه :   " يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أَوْ في السَّماواتِ أَوْ في الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا الله " [لقمان : 16] ، فهذه حكمة منطوق بها ، وهي أن جعل الله هو الآتي بها ، وقرّر ذلك الله في كتابه ، ولم يردّ هذا القول على قائله .
وأمّا الحكمة المسكوت عنها - وقد علمت بقرينة الحال - فكونه سكت عن المؤتى إليه بتلك الحبّة ، فما ذكره ، وما قال  " لإبنه ":  يأت بها الله إليك أو إلى غيرك ، فأرسل الإتيان عامّا ) يعني في   " يَأْتِ بِهَا الله " فالإتيان بها عامّ من الله من كلّ مكان .
قال رضي الله عنه  : ( وجعل المؤتى به في السماوات إن كان أو في الأرض ، تنبيها لنظر الناظر في قوله : "وَهُوَ الله في السَّماواتِ وَفي الأَرْضِ " [الأنعام : 3 ] ، فنبّه لقمان بما تكلَّم به وبما سكت عنه أنّ الحق عين كل معلوم ، لأنّ المعلوم أعمّ من الشيء فهو أنكر النكرات ).
 
قال العبد : أمّا تنبيهه على أنّ الحق عين كل معلوم فمن حيث إنّ المعلومات إمّا علويات تسمّى سماويّات ، أو سفليات وهي الأرضيات :
فالسماوات الساميات العلويات حقيقة هي الحقائق والأعيان الأسمائيّة
والروحانية على كثرة اختلاف طبقاتها وصورها ومعانيها ومراتبها ، مع عدم تناهي شخصياتها في التعيّنات والنوعية ، فإنّها هي العلويات الأصلية البحتة .
والسفليات الحقيقية والأرضيات هي الحقائق الكونية ، لأنّها تحت أحكام الحقائق الإلهية الوجوبية ، فلحقائق الوجوب حقائق السماوات .
ثمّ الأرواح العلَّية الكلَّية العليّة الإلَّيّة المحيطة بإشراق نورها على العوالم الجسمانية ، والسفل للحقائق الكونية أوّلا ، لأنّها منفعلة عن الحقائق العلَّية العلَّية كما ذكرنا .
 
ثمّ عالم الأجسام ، فإنّها تحت آثار العقول والنفوس والأرواح ، وتحت أحكامها وتصرّفاتها .
ثمّ الأجسام ، منها العلويات أيضا كذلك وهي السماوات المعروفة عرفا وفي الحقيقة السماوات هي العلويات كلَّها ، والسفليات كلَّها أرضيات ،
فلمّا قال :" يَأْتِ بِهَا الله " [ لقمان: 16] ، أي بما في السماوات وما في الأرض من الرزق ، فقد جعله إلها رزّاقا من السماوات والأرض ،
والكائن في السماء سماوي ليس بأرضيّ والأرضي كذلك ، لكون الوجود متعيّنا بحسبه وبحسب موطن المعيّن ، فإن لم يكن موجودا مطلق الوجود والتعيّن والتصرّف والعلم ، محيطا بالعين بما في السماوات والأرض من المرزوقين والأرزاق ،
لم يتأتّ أن يأتي بما في السماوات إلى من في الأرض أو في السماء ، ولا بما في الأرض لمن في السماء أو في الأرض من أرزاق المرزوقين ، وإحاطة عين الوجود الحق بما في السماوات والأرض من الأعيان بأن يكون عينها ،
وإلَّا لا تكون إحاطة كلَّية مطلقة من العلم إلَّا بالعين لائقة بجناب الله تبارك وتعالى فهو من كونه عين المرزوق والرزق يأتي بما في السماوات والأرض من الرزق .
وأمّا كون المعلوم أعمّ من الشيء فلأنّ الشيء هو الذي له وجود عيني وتحقّق في عينه ، والمعلوم يتناول ما له وجود عيني بل علمي ، فإنّ الموجودات معلومة للحق ، وكذلك علمه محيط بما لم يتحقّق له وجود ، فإنّ عينه يتعيّن به وفيه ، فالمعلوم أعمّ من الشيء .
 
قال بعض أهل النظر : قد يكون الشيء ثابتا وسمّى الماهيات أشياء ثابتة ،
فرجّح الشيخ  رضي الله عنه قول القائل بالأوّل ، ويعضده وإيّانا فيه التحقيق والنظر اللغوي ، فإنّ الشيء مشتقّ من المشيّة ،
كما قيل : كلّ شيء يشيّئه الله ، أي بمشيّته والشيء ما خصصته المشيّة ، وعيّنه الإيجاد من المعلومات ، وليس كل معلوم مرادا للإيجاد أو للإعدام ، وهو فعل بمعنى محلّ تعلَّق المشيّة ، وما يتعلَّق به المشيّة وما لا يتعلَّق به المشيّة ، فليس كل معلوم مرادا للإيجاد أو الإعدام ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( ثم تمّم الحكمة واستوفاها لتكون النشأة كاملة فيها فقال :
  " إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ " [ لقمان :16] ، فمن لطافته ولطفه أنّه في الشيء المسمّى بكذا لمحدود بكذا عين ذلك الشيء ، حتى لا يقال فيه إلَّا ما يدلّ عليه اسمه بالتواطؤ والاصطلاح ،
فيقال : هذا سماء وأرض وصخرة وشجرة وحيوان ورزق وملك وطعام ، والعين واحدة من كل شيء وفيه ، كما تقول الأشاعرة : إنّ العالم كلَّه متماثل بالجوهر ، فهو جوهر واحد ، فهو عين قولنا : العين واحدة ، ثم قالت ويختلف بالأعراض ، وهو قولنا ويختلف ويتكثّر بالصور والنسب حتى يتميّز ، فيقال : هذا ليس هذا من حيث صورته أو عرضه أو مزاجه - كيف شئت فقل - وهذا عين هذا من حيث جوهره . ولهذا يؤخذ عين الجوهر في حدّ كل صورة ومزاج ، فنقول نحن : إنّه ليس سوى الحق . ويظنّ المتكلَّم أنّ مسمّى الجوهر - وإن كان حقا - ما هو عين الحق الذي يطلقه أهل الكشف والتجلَّي ، فهذا حكمة كونه لطيفا ).
 
يشير رضي الله عنه :  إلى أنّ الأشاعرة مع قولهم بأحدية الجوهر في صور العالم كلَّها يقولون باثنينية العين . 
ولو كان كما قالوا ، لما كان الحق الموجود المشهود المطلق واحدا أحدا في الوجود .
بل كانا عينين موجودتين ، وانتهى حدّ كل منهما إلى الأخرى ، وتمايزا ، لكون كل منهما غير الآخر ، وليس عينه ، وحينئذ يتميّز كل منهما عن الآخر ويحدّ بامتيازه عن الآخر ،
والحق يتعالى عن أن يكون معدودا محدودا ، أو يكون معه غيره في الوجود حقيقة ،
فالحق أن يقال : ما في الوجود إلَّا عين واحدة ، هي عين الوجود الحق المطلق وحقيقته ، وهو الموجود المشهود لا غير ، ولكن هذه الحقيقة الواحدة والعين الأحدية ، لها مراتب ظهور لا تتناهى أبدا في التعيّن والشخص .
فأوّل مراتبها إطلاقها وعدم انحصارها ولا تعيّنها عن كل قيد واعتبار .
والمرتبة الثانية تعيّنها في عينها وذاتها بتعيّن جامع لجميع التعينات الفعلية المؤثّرة ، وهي مرتبة الله تعالى .
ثمّ المرتبة التفصيلية لتلك المرتبة الجمعية الأحدية الإلهية ، وهي مرتبة الأسماء وحضراتها .
ثم المرتبة الجامعة لجميع التعينات الانفعالية التي من شأنها التأثّر والانفعال والانتقال والتقيّد ولوازمها ، وهي المرتبة الكونية الخلقية .
ثم المرتبة التفصيلية لهذه الأحدية الجمعية الكونية ، وهي مرتبة العالم ،
ثمّ هكذا في جميع الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص والأجزاء والأعضاء والأعراض والنسب ، ولا تقدح كثرة التعينات واختلافها وكثرة الصور في أحدية العين ،
إذ لا تحقّق إلَّا لها في عينها وذاتها لا غير ، لا إله إلَّا هو ،
فالعين بأحدية الجمع النفسي الفيضي الوجودي سارية في جميع هذه المراتب والحقائق المترتّبة فيها ، فهو فيها هي عينها لا غيرها ، كما كانت هي فيه في المرتبة المذكورة الأحدية الجمعية الأولى هو لا غيره ، كان الله ولا شيء معه ، فافهم.
 
قال رضي الله عنه  : ( ثم نعت فقال : «خبير» أي عالم عن اختبار وهو قوله :" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ " ) [محمد : 31] .
يشير رضي الله عنه:  إلى العلم الثابت للحق من حيث حقّية وجود العباد .
قال رضي الله عنه  : ( وهذا هو علم الأذواق ، فجعل الحق نفسه مع علمه بما هو الأمر عليه - مستفيدا علما ، ولا تقدر على إنكار ما نصّ الحق عليه في حق نفسه ، ففرّق ما بين علم الذوق والعلم المطلق ، فعلم الذوق مقيّد بالقوى ، وقد قال عن نفسه :
إنّه عين قوى عبده في قوله : « كنت سمعه » وهو قوّة من قوى العبد ، و" بصره " وهو قوّة من قوى العبد و« لسانه » وهو عضو من أعضاء العبد و" رجله ويده " وما اقتصر في التعريف على القوى فحسب ، حتى ذكر الأعضاء وليس العبد بغير هذه الأعضاء والقوى ، فعين مسمّى العبد هو الحق ، لا عين العبد هو السيد ، فإنّ النسب متميّزة لذاتها ، وليس المنسوب إليه متميّزا فإنه ليس ثمّ سوى عينه معه فيتميّز عنه ، فهو هو وحده في جميع نسبه الذاتية التي هي عينه ، فهو عين واحدة ذات نسب وإضافات وأسماء وصفات ، فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ابنه ما جاء به في هذه الآية من هذين الاسمين الإلهيين « لطيفا خبيرا » سمّى بهما الله ، فلو جعل ذلك في الكون - وهو الوجود - فقال : « كان » ، لكان أتمّ في الحكمة وأبلغ ، فحكى الله قول لقمان على المعنى كما قال، ولم يزد عليه شيئا).
 
يشير رضي الله عنه:  إلى أنّ قوله : « لطيف خبير » إخبار بأنّه موصوف باللطف والخبرة ، والإخبار بكونه كذلك - إذا كان عن كونه كذلك في وجوده ومقتضى ذاته من مقام كان الله - كان إخبارا بكونه خبيرا عن خبرة لرعاية النسبة ،
فإنّه يخبر حينئذ عن خبره أنّه كان كما كان أزلا في ذاته خبيرا فهو كذلك في نفسه بلا قرينة دالَّة على الخبرة ، بخلاف « كان » فإنه دلالة وجودية ، ولكن لقمان عليه السّلام لمّا كان بصدد بيان الإخبار عن الواقع ، قال بهذه الصيغة ، وهي اللطيف الخبير جزما ليتحقّق ابنه أنّه قد تحقّق ذلك ، فافهم ، فإنّه دقيق لطيف .
 
قال رضي الله عنه  : ( وإن كان قوله : « إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ » من قول الله ) يعني في القرآن ، ( فلما علم الله تعالى من لقمان أنّه لو نطق متمّما لتمّم بهذا )
 .
يعني في اللغة العربية ومن حيث دلالة لفظ لقمان بلسانه ولغته بهذا ، وذلك من حيث التحقيق والنظر الدقيق ، والعذر ما ذكرنا ،
فاذكر فإنّه بثبوت كونه أوتي الحكمة ، ثم هو فيما نحن بصدد بيانه في مقام التعليم والإرشاد لابنه وثبوت بنوّة ابنه مع أبوّته له ، وبصحّة ثبوته عند ابنه وعندنا ، فقام بهذه القرائن إخباره عن الواقع إخبارا حقيقيا جازما ،
فقام الإخبار عن خبرة ووجود ، كما لو قال : « كان الله لطيفا خبيرا » وهذا وإن كان كذلك ، فالمبالغة والإتمام لسياق الكلام على الوجه الأنسب أنسب في الحكمة ، فأخبر الله عنه صورة ما جرى ، والحال الواقع من غير زيادة ولا نقصان .
 
قال رضي الله عنه  : (وأمّا قوله: " إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ " [لقمان : 16] لمن هي غذاء له ، وليس إلَّا الذرّة المذكورة في قوله :   " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه ُ * وَمن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ُ " [ الزلزلة : 7 - 8 ]  ، فهي أصغر متغذّ ) .
يعني  رضي الله عنه  : لو كان أصغر منها لذكره الله في هذه الآية ، لكونه تعالى في بيان أنهى درجة المبالغة .
( و ) أيضا لأنّ ( الحبة من الخردل أصغر غذاء ولو كان ثمّ أصغر منه ، لجاء به ، كما جاء بقوله  تعالى : "إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها " [البقرة :26 ]، ثمّ لمّا علم أنّ ثمّ ما هو أصغر من البعوضة ، قال : « فما فوقها » يعني في الصغر وهذا قول الله ، والتي في الزلزلة قول الله أيضا ، فاعلم ذلك ) .
قال العبد : فما فوق البعوضة في الصغر الذرّة ، وثمّ لطيفة أخرى ، وذلك أنّ الذرّة مع صغرها أخفّ في الوزن أيضا ، لكونها حيوانا ، إذ الحيّ أخفّ من الموات فانظر كمال البلاغ ، بأنّ العمل إذا كان مثقال ذرّة في الصغر والخفّة ، فلا بدّ من رؤية الجزاء .
 
قال رضي الله عنه  : ( فنحن نعلم أنّ الله ما اقتصر على وزن الذرّة ، وثمّ ما هو أصغر منها ، فإنّه جاء بذلك على المبالغة والله أعلم  . وأمّا تصغيره لاسم ابنه فتصغير رحمة ، ولهذا وصّاه بما فيه سعادته إذا عمل بذلك . وأمّا حكمة وصيّته في نهيه إيّاه أن " لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ "  [لقمان : 13]، والمظلوم المقام حيث نعته بالانقسام ، وهو عين واحدة - فإنّه لا يشرك معه إلَّا عينه ، وهذا غاية الجهل ، وسبب ذلك أنّ الشخص الذي لا معرفة له بالأمر على ما هو عليه ولا بحقيقة الشيء إذا اختلفت عليه الصور في العين الواحدة ، وهو لا يعرف أنّ ذلك الاختلاف في عين واحدة ، جعل الصورة مشاركة للأخرى في ذلك المقام ، فجعل لكل صورة جزءا من ذلك المقام ، ومعلوم في الشريك أنّ الجزء الذي يخصّه بما وقعت فيه المشاركة ، ليس عين الآخر الذي شاركه ، إذ هو للآخر ، فما ثمّ شريك على الحقيقة ، فإنّ كل واحد على حظَّه ممّا قيل فيه : إنّ بينهما مشاركة فيه ، وسبب ذلك ، الشركة المشاعة ، وإن كانت مشاعة ، فإنّ التصريف من أحدهما يزيل الإشاعة ، « قل ادعوا الله أو ادعوا الرّحمن » ، هذا روح المسألة ) .
 
هذه المباحث الشريفة ظاهرة ، والشركة بين الصورة الإلهية متوهّمة عند أهل الحجاب ، فإنّ الدعوة للذات في الصورة الرحمانية ، أو الصورة الإلهية ، أو هما معا ،
والداعي للرحمن مختصّ به من وجه ، فلا شركة ، وكذلك المختصّ بدعوة الله هذه في المحجوب بالصورة ، وأمّا في دعوة صاحب الشهود فلا شركة ، لأحدية المدعوّ والمعبود ، ولهذا علَّل سوغان الإجازة في دعوة أحدهما بقوله :"فَلَه ُ الأَسْماءُ الْحُسْنى" [الإسراء : 110]
 
أي الدعوة للهوية العينية الغيبيّة الأحدية الجمعية بين صور الأسماء الحسنى والمسمّيات ، فلا شركة أصلا .


.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 24 - فصّ حكمة إمامية في كلمة هارونية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالسبت مارس 14, 2020 12:31 am

24 -  فصّ حكمة إمامية في كلمة هارونية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    

الفص الهاروني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
24 -  فصّ حكمة إمامية في كلمة هارونية
إنّما نسب الحكمة الإمامية إلى الكلمة الهارونية ، لكون هارون خليفة موسى في قومه ، وقد قال له :   " اخْلُفْنِي في قَوْمِي " .
 الإمامة لقب من ألقاب الخلافة ، وكانت الإمامة لهارون في صلواتهم ، وكذلك الإمامة فيهم إلى اليوم في آل هارون .

"" كان هارون عليه السّلام إمام الأئمّة من الأحبار في بني إسرائيل كلَّهم ، وأمره موسى عليه السّلام أن يؤمّ أمّته ، واستخلفه عليهم ، ولقد صرّح بإمامته في القرآن ، وصرّح هو أيضا بذلك في طلبه الاتّباع والطاعة من قومه في قوله : " فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي " .""

قال رضي الله عنه  : ( اعلم : أنّ وجود هارون عليه السّلام كان من حضرة الرحموت بقوله :   " وَوَهَبْنا لَه ُ من رَحْمَتِنا " [ مريم : 53 ] يعني موسى   " أَخاه ُ هارُونَ نَبِيًّا " [ مريم : 53 ]  فكانت نبوّته من حضرة الرحموت ، فإنّه أكبر من موسى سنّا ، وكان موسى أكبر منه نبوّة . ولمّا كانت نبوّة هارون من حضرة الرحمة ، لذلك قال لأخيه موسى عليه السّلام :   " يَا بْنَ أُمَّ " [ طه :94 ] فناداه بأمّه لا بأبيه ، إذ كانت الرحمة للأمّ دون الأب أوفر في الحكم ، ولولا تلك الرحمة ، لما صبرت على مباشرة التربية .
ثم قال :   " لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي " [ طه : 94 ]  و   " فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْداءَ " [ الأعراف : 150 ] ، فهذا كلَّه نفس من أنفاس الرحمة . وسبب ذلك عدم التثبّت في النظر فيما كان في يديه من الألواح التي ألقاها بين يديه  ، فلو نظر فيها نظر تثبّت ، لوجد فيها الهدى والرحمة ، فالهدى بيان ما وقع من الأمر الذي أغضبه ممّا هو هارون بريء منه . والرحمة بأخيه .
فكان لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه مع كبره وأنّه أسنّ منه ، وكان ذلك من هارون شفقة على موسى ، لأنّ نبوّة هارون من رحمة الله ، فلا يصدر منه إلَّا مثل هذا ، ثم قال هارون لموسى عليهما السّلام : "إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ " [ طه : 94 ]   فتجعلني سببا في تفريقهم ، فإنّ عبادة العجل فرّقت بينهم ، وكان منهم من عبده اتّباعا للسامريّ وتقليدا له ، ومنهم من توقّف عن عبادته ، حتى يرجع موسى إليه ، فيسألونه في ذلك ، فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه ، وكان موسى أعلم بالأمر من هارون ، لأنّه علم ما عبده أصحاب العجل ، لعلمه بأنّ الله قد قضى ألَّا يعبد إلَّا إيّاه وما حكم الله بشيء إلَّا وقع ، فكان عتب موسى لأخيه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتّساعه ، فإنّ العارف من يرى الحق في كل شيء  بل يراه عين كلّ شيء وكان موسى يربّي هارون تربية علم ، وإن كان أصغر منه في السنّ ).
 
قال العبد : يريد التربية الربانية المتعيّنة لهارون في مادّة موسى عليهما السّلام فإنّ التربية لا تكون حقيقة إلَّا من الربّ ، لأنّ نبوّته من رحمة ربانية بموسى ، حتى يكمل بهارون أمره ويشدّ به أزره ،
فكان في تربية هارون وموسى من حيث لا يشعر بذلك إلَّا من شاء الله ، فإنّ جميع أفعال العبيد التي يجري الله على أيديهم صور نسب أحكام حقائقهم ، فيوجدها الله على حكم وعلوم تفرّد بعلمها هو ومن أعلمه بها ،
فوقوع العتب وعدم التثبّت وإلقاء الألواح من موسى وأخذه بلحية هارون ورأسه تأثير قويّ ، غير متوقّع من مثله في مثل أخيه الذي هو أكبر منه سنّا ، إنّما حصل لتنبيهه وتربيته على معرفة أسرار ما وقع من عبادة العجل وهو سرّ عظيم طوي عن الأنبياء من حيث نبوّاتهم ، فيعلمهم من حيث ولايته لهم ، فيعلمون آخرا ، فافهم .
 
وهاهنا دقيقة أخرى وهي أنّ موسى عليه السّلام كان في مبالغته في عتب أخيه يرى قومه أنّ عبادة غير الله - أو ما يسمّى في زعم أهل الحجاب غيرا وسوى أو تعيّنا جزئيا في شهود أهل الكشف والوجود - جهل أو كفر .
 
أمّا كونها جهلا فإنّ المعبود ما في الصور من الحق ، فإنّ العبادة لا يستحقّها إلَّا الله الذي هو عين الكلّ ، وله هوية هذه الصور المعبودة في زعم أهل الحجاب .
 
وأمّا كونها كفرا فلكونها سترا بالتعيّن على الحق المتعيّن ، ففعل ذلك به ربّ موسى من مادّته ، ليتنبّهوا على ما قد كان حذّرهم من قبل حين قالوا له :   ( يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) . يعنى حقيقة الأمر ،
إنّ العبادة مطلقة لا تكون إلَّا للربّ المطلق ، كما قال : إنّما إلهكم الله الَّذي خلق السّماوات والأرض ويعلم   "ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ " .
والإله المجعول ليس له الخلق ، فلا يستحقّ عبادة المخلوق إيّاه ، ولا علم له بما تبدون وما تكتمون ، ولعلمه صلَّى الله عليه بجهلهم بمثل هذا توجّه العتب على هارون ،
 
فإنّه في تربيته قولا وفعلا ، ليعلمه من حيث ولايته ونبوّته مشعرا بذلك حالتئذ ، أو لم يشعرا إلَّا بعد وقوع ما وقع ، وليعلمه بما هو الأمر عليه عند الله كذلك ، فلمّا نبّه هارون الحقيقة المذكورة ، وتحقّق هو بذلك وبما وقع منه ، أعرض عن قومه - بعد ما أراهم وأعلمهم بخطئهم - إلى السامريّ ، فلم يعتبهم ، وذلك أبلغ في الغرض .
 
قال رضي الله عنه  : ( ولذلك لمّا قال هارون ما قال ، رجع إلى السامري فقال له :
" فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ " [ طه : 95 ] يعني فيما صنعت من عدو لك إلى صورة العجل على التعيين  ، وصنعك هذا الشبح من حليّ القوم حتى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم ،
فإنّ عيسى يقول لبني إسرائيل : « يا بني إسرائيل ! قلب كلّ إنسان حيث ماله ، فاجعلوا أموالكم في السماء تكن قلوبكم في السماء » وما سمّي المال مالا إلَّا لكونه بالذات ، تميل القلوب إليه بالعبادة ، فهو المقصود الأعظم المعظم في القلوب ، لما فيها من الافتقار ، إليه وليس للصور بقاء ، فلا بدّ من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه ، فغلبت عليه الغيرة فحرّقه ، ثم نسف رماد تلك الصورة في اليمّ نسفا ،
وقال له :   " انْظُرْ إِلى إِلهِكَ " [ طه : 97 ] ، فسمّاه إلها بطريق التنبيه للتعليم ، لما علم أنّه بعض المجالي الإلهية "  لَنُحَرِّقَنَّه ُ " فإنّ حيوانية الإنسان لها التصرّف في حيوانية الحيوان لكون الله سخّرها للإنسان)  .
 
قال العبد : اعلم أنّ الأنبياء كلَّهم صور الحقائق الإلهية النورانية والروحانية السلطانيّة ، والفراعنة صور الحقائق والقوى النفسانية الظلمانية الحجابية والهوى ،
ولهذا كانت العداوة والمنافاة والمخالفة دائما واقعة بين الأنبياء والرسل بين الفراعنة ، كما أنّ المخالفة والمنافاة والمحاربة والمباينة والمجانبة واقعة دائما بين العقل والهوى وبين الروح والشيطان ،
وأنّهم - أعني الأنبياء والرسل والخلفاء الإلهيّين - وإن كانوا متشاركين في كونهم جميعا صور الحقائق الروحانية والإلهية الربّانيّة فهم الأرواح الإلهية الإنسانية الكمالية ،
ولكنّ الحقيقة الإنسانية في الروح الإنساني إنّما تعيّنت في كل واحد واحد على صورة حقيقة من حقائق الحقيقة الإنسانية التي هي حقيقة الحقائق ،
بمعنى أنّ سائر حقائق حقيقة الحقائق الإنسانية منصبغة بحكم تلك الحقيقة النسبيّة على التعيين ، وبهذا اختلفوا في الصور والتعيّن والشخص
 
والعلوم والأذواق والمشاهد والمشارب والتجلَّيات والأخلاق ، وإلَّا فكلَّهم كنفس واحدة من نفس واحدة إلهية على إلّ واحد لربّ واحد ، هو ربّ الأرباب المتعيّنين في حقائقهم من حيث صور تلك النسب وبحسبها ، فظهر الحق - المتعيّن في الصور الإنسانيّة من الحقيقة الإنسانية الكمالية الإلهية المتعيّنة بالتعيّن الأوّل - واحدا أحديّا .
 
و في هؤلاء الصور الإلهية الإنسانية الكمالية كثيرا متعدّدا متنوّع التجلَّي والظهور ، فكلَّهم صور الحق ، والحق الإنساني الكمالي الذاتي هو المتعيّن الظاهر في هذه الصور كلَّها ، ولكنّ الصور للنسب والأحكام  والأحوال العينية الغيبيّة الإنسانية ، فينسب التحقيق كلَّا منهم إلى الصورة الظاهرة الإلهيّة به ، فآدم صورة ظاهريّة الإلهية الأحدية الجمعية الإنسانية ، البشرية ، وشيث صورة الوهب والفيض النوري الوهبي العلمي .
 
وإدريس صورة التقديس العقلي والطهارة ، والروحية الإنسانية الكماليّة وتعرف الصور بحسب الحال والحكم والخلق والفعل والصفة والنعت والعلم والحكمة الغالبة على ذلك النبيّ أو الخليفة والوليّ ، فهذا امتياز الصور بعضها عن بعض وتعيّناتهم عند استقرارهم في مراتبهم البرزخيّة وصورهم الحشرية والجنانيّة وغيرها . وبهذا يتمايزون ويتظاهرون ويتعدّدون ، فاعرفه .
 
ولمّا كان الغالب على موسى عليه السّلام شهود التجلَّي النوريّ في صورة النار ، وهو شهود الواحد في الكثير كثيرا ، ولهذا كانت علومه فرقانيّة لا قرآنيّة ،
ولو كانت قرآنيّة ، لشهد الكلّ في الكلّ ، وكلّ واحد كلَّا ، وشهد الواحد في الكثير واحدا كثيرا ، وشهد الكثير في الواحد واحدا .
والنار من شأنها التفريق وتفكيك أجزاء ما سلَّطت عليه ، حتى تفرّق لطائفة عن كثائفه وأجزاء كثائفه بعضها عن بعض ، فغلب على موسى الفرقان والتمييز والقوّة والغلبة والظهور والسلطان والقهر والجلال ،
وبهذا السرّ سلَّط النار - التي في صورتها شاهد النور الحق الواحد في الكثرة الشجرية - على صورة العجل التي جعلها السامري إلها لمن عبدها ، حتى أحرقتها وفرّقت أجزاءها المتوحّدة ، لأنّ التجلَّيات الفرعية تضمحلّ وتتلاشى عند ظهور التجلَّي الكلَّي الإلهي الجمعي ، والمحدث إذا قرن بالقديم ، لم يبق له أثر ، كما قيل :
لأنّك شمس والملوك كواكب   .... إذا طلعت لم يبد فيهنّ كوكب.
 
وصور العالم وإن كانت كلَّها مجالي ، ولكن ظهور الحق وتجلَّيه في المجلى الموسوي أعظم من المجالي الصنمية ، فسبحات وجهه تحرقها .
 
قال رضي الله عنه  : ( ولا سيّما وأصله ليس من حيوان ، فكان أعظم في التسخير ، لأنّ غير الحيوان ماله إرادة ، بل هو بحكم من يتصرف فيه من غير إبائه ، وأمّا الحيوان فهو ذو إرادة وغرض ،
فقد يقع منه الإباءة في بعض التصريف ، فإن كان فيه قوّة إظهار ذلك  ، ظهر منه الجموح لما يريده منه الإنسان ، وإن لم يكن له هذه القوّة أو صادف غرض الحيوان ، انقاد مذلَّلا لما يريده منه كما ينقاد مثله لأمر فيما رفعه الله به من أجل المال - الذي يرجوه منه - المعبّر عنه في بعض الأحوال بالأجرة في قوله :  ( وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) [ الزخرف : 32 ] ،  فما يسخّر له من هو مثله إلَّا من حيوانيته لا من إنسانيته ، فإنّ المثلين ضدّان ، فيسخّره الأرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانيته ، ويتسخّر له ذلك الآخر - إمّا خوفا أو طمعا - من حيوانيته لا من إنسانيته ، فما يسخّر له من هو مثله ، ألا ترى ما بين البهائم من التحريش ، لأنّها أمثال ؟ فالمثلان ضدّان ،
ولذلك قال :   ( وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ) [ الزخرف : 32 ] فما هو معه في درجته ، فوقع التسخير من أجل الدرجات .
والتسخير على قسمين : تسخير مراد للمسخّر - اسم فاعل - قاهر في تسخيره لهذا الشخص المسخّر كتسخير السيّد لعبده ، وإن كان مثله في الإنسانية ، وكتسخير السلطان لرعاياه ، وإن كانوا أمثالا له ، فسخّرهم بالدرجة .
والقسم الآخر تسخير بالحال ، كتسخير الرعايا للملك القائم بأمرهم في الذبّ عنهم وحمايتهم وقتال من عاداهم وحفظه أموالهم وأنفسهم عليهم ، وهذا كلَّه تسخير بالحال من الرعايا ، يسخّرون بذلك مليكهم ، ويسمّى على الحقيقة تسخير المرتبة ، فالمرتبة حكمت عليه بذلك ، فمن الملوك من سعى لنفسه ، ومنهم من عرف الأمر ، فعلم أنّه بالمرتبة في تسخير رعاياه ، فعلم قدرهم وحقّهم ، فآجره الله على ذلك أجرة العلماء بالأمر على ما هو عليه ، وأجر مثل هذا يكون على الله ، من كون الله في شؤون عباده ، فالعالم كلَّه يسخّر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه اسم مسخّر ، قال الله تعالى :   " كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ " [ الرحمن : 29 ] .).
 
قال العبد : هذه المباحث ظاهرة ، والتقريب أنّ تسخير موسى لقومه كان بمرتبة النبوّة ، ولهذا كان يعلم حقّهم ويرعاه ويراعيهم رعاية الراعي لغنمه ، فمهما عاث فيه ذئب غريب قابله وقاتله ، كالسامري بالإحراق وتحريق العجل ، أو شدّد على خليفته مخافة المخالفة كما فعل بأخيه هارون ، وكلّ هذا تسخير لهم بما عنده من الله في عين ما هم مسخّرون له بالحال على أن يسعى عند الله في مصالحهم الدينية والدنياوية عرفوا ذلك أو لم يعرفوا ، إذ لا يعرفه إلَّا العارفون وما تعقّله إلَّا العالمون .
 
قال رضي الله عنه  : ( فكان عدم إرداع قوّة هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل ، كما سلَّط موسى عليه ، حكمة من الله ، ظاهرة في الوجود ليعبد في كل صورة وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك ، فما ذهبت إلَّا بعد ما تلبّست عند عابدها بالألوهة ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلَّا وعبد إمّا عبادة تألَّه أو عبادة تسخير ، ولا بدّ من ذلك لمن عقل ) .
 
يشير رضي الله عنه:  إلى أنّه لمّا كان الحق المعبود الموجود الذي   ( أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه ُ )   قد ظهر بنور الوجود الحق في كل نوع من هذه الأنواع وفي كل شخص فلا بدّ أن يعبد في تلك الصورة - إمّا عبادة عبد لإلهه أو عبادة تسخير ، كما عبدت عبدة الأصنام الحجر والشجر والشمس والقمر - لكون الإلهية ذاتية للوجود الحق .
والعبادة التسخيرية ليس لها اسم العبادة ، وهي مخصوصة بالتألَّه عرفا ، والعبادة والعبودة متحقّقة في الوجهين بالاعتبارين ، فإنّك عبد من ظهر عليك سلطانه .
 
قال رضي الله عنه  : « وما عبد شيء من العالم إلَّا بعد التلبّس بالرفعة عند العابد والظهور بالدرجة في قلبه ، ولذلك يسمّى الحق لنا بـ  " رَفِيعُ الدَّرَجاتِ " ولم يقل : رفيع الدرجة ،
فكثّر الدرجات في عين واحدة ، فإنّه قضى أن لا يعبد إلَّا إيّاه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كلّ درجة مجلى إلهيّا عبد فيها ، وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه الهوى ،كما قال :" أَفَرَأَيْتَ من اتَّخَذَ إِلهَه ُ هَواه ُ "[ الجاثية : 23 ] ، فهو أعظم معبود ، فإنّه لا يعبد شيء إلَّا به ، ولا يعبد هو إلَّا بذاته . وفيه أقول :
وحقّ الهوى إنّ الهوى سبب الهوى  .... ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى ).
 
قال العبد : يشير رضي الله عنه  إلى أنّ عبودتي التألَّه والتسخير لا تكونان من العابد لأيّ معبود كان إلَّا بهواه ، فما عبد إلَّا الهوى ، فهو الصنم والجبت والطاغوت الحقيقي لمن يرى غير الحق في الوجود . وأمّا عند العارف فهو أعظم تجلّ أو أعظم مجلى عبد فيه ، وهو باطن أبدا لا يظهر بالعين إلَّا في الأصنام وكلَّيات مراتبه بعد الأنواع المعبودة ، وهي وإن كثرت فقد أشرنا إلى أمّهاتها في الفصّ النوحي ، فانظرها فيه .
 
قال رضي الله عنه  : ( ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله ، كيف تمّم في حق من عبد هواه ، واتّخذه إلها ، فقال : « وَأَضَلَّه ُ الله عَلى عِلْمٍ » [ الجاثية : 23 ]  والضلالة : الحيرة ،
وذلك أنّه لمّا  رأى هذا العابد ما عبد إلَّا هواه بانقياده لطاعته فيما يأمره به من عبادة من عبده من الأشخاص ، حتى أنّ عبادته لله كانت عن هوى أيضا ، لأنّه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدّس هوى  وهو الإرادة بمحبّة - ما عبد الله ولا آثره على غيره ،
فكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم واتّخذها إلها ما اتّخذها إلَّا بالهوى ، فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه ، ثم رأى المعبودات تتنوّع في العابدين ، وكلّ عابد أمرا ما يكفّر من يعبد سواه ، والذي عنده أدنى تنبّه يحار لاتّحاد الهوى ، بل لأحدية الهوى ، فإنّه عين واحدة في كل عابد ، فأضلَّه الله - أي حيّره - على علم بأنّ كل عابد ما عبد إلَّا هواه ، ولا استعبده إلَّا هواه سواء صادف الأمر المشروع أو لم يصادف ، والعارف المكمّل من رأى كلّ معبود مجلى للحق يعبد فيه ، ولذلك سمّوه كلَّهم إلها مع اسمه الخاصّ بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك ، هذا اسم الشخصية فيه ، والألوهة مرتبة تخيّل العابد له أنّها مرتبة معبودة وهي على الحقيقة مجلى الحق لبصر هذا العبد الخاصّ المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختصّ ).
 .
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ حقيقة الهوى لمّا كانت ميلا نفسيا من كل ذي هوى إلى ما فيه هواه بحسب مناسبة إيّاه ، فالمعبود في الكلّ - وإن تكثّرت أشخاص المعبودين - بحسب توجّهات العابدين إلى ما فيه نسبة مميلة لهم إليها من كون تلك النسبة فيهم أيضا ، فحملتهم وأمالتهم إليها في جهة أخرى ، فعبد نفسه في غيره من وجه ، وما عبد ذلك الغير من كونه غيرا ، بل من كون ما فيه منه وفيه ، وسواء كان ذلك الغير حقا أو خلقا ، كائنا من كان ،
فإنّه ما عبده إلَّا بحسب ذلك الميل الكلَّي الحبّي إلى المعبود ، بحسب ما منه فيه ، فما عبده إلَّا بهواه ، فلم يعبد إلَّا هواه ، وهو ما يهوى أبدا إلَّا نفسه ، ولكن فيما يغايره من وجه ، ولا يمكن أن يهوى أحد غيره من حيث هما غيران ، لعدم الجامع ووجود المباينة ، ولا يمكن أيضا أن يهوى أحد نفسه في نفسه ، لعدم الاثنينية والبينيّة ، ووجود الأحدية ، وتحصيل الحاصل باطل .
 
ولا يقال : كيف يطلب أحد نفسه أو يميل إلى نفسه أو يهواه وهو هو نفسه واحد والواحد من كونه واحدا حاصل لنفسه ، وليس فيه اختلاف جهة يقتضي الميل من جهة إلى جهة ؟ !
لأنّا أعلمناك أنّ الطالب ومن له هوى في شيء إنّما يهوى نفسه في غيره طلبا للاتّحاد وظهور الوحدة الأصلية الأصلية ، ولهذه الحكمة أضلَّه الله على علم بحقيقة الأمر أنّه - تبارك وتعالى - عينه وعين ما يعبده ، وهو ما يميل إلَّا إلى عينه ، ولا يعبد إلَّا عينه ، ولا يهوى إلَّا عينه ، وإنّما تقع المؤاخذة والعتب على عدم العلم ولما وله بنفسه وعينه من حيث شخصيّته وتعيّنه وحصر هواه وميله إلى العين المتعيّنة المتشخّصة بتعيّن يمتاز عن الكلّ ، والحق المطلق والعين المحيطة والأمر الكليّ يقتضي بإطلاق الكلّ والهوى عن كل قيد حتى عن الإطلاق و الإلهية التي أمر ربّها أن لا يعبد إلَّا إيّاه تقتضي لذاتها الانحصار في جهة معيّنة من كل وجه فهكذا ، وبحسب ذلك يجب أن يكون هوى المحقّق المحقّ والمدقّق المرقّ إلى الحق المطلق في عين جمعه بين التعيّن واللا تعيّن مطلقا عن كل قيد .
شعر :
وهذا الهوى فيمن له ربّه الهوى  .... ومن ليس يهواه ويهوى السوي هوى
وذلك لأنّ « السوي » ما يصدق إلَّا على متعيّن ممتاز عن غيره ، والحقيقة المحيطة بالذات على الكلّ بالاستغراق لا يكون لها غير بالاتّفاق ، ولا يفرض امتياز لها ، وعمّن وما ثمّ إلَّا هو ؟
قال رضي الله عنه  : ( ولهذا قال بعض من لم يعرف مقالته جهالة  : " ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى " [ الزمر : 3 ]).
يشير إلى أنّ العين المعبودة بالذات في العابد والمعبود سواء ، فبما ذا تقرّبه إلى الحق ؟ وما الذي ليس له وهو عينه ؟ ، فالتمسّك بما خرج عنه - توصّلا وتوسّلا إلى ما هو عينه - جهل ، والسرّ فيه قد ذكر ، وهو واضح .
 
قال رضي الله عنه  : ( مع تسميتهم لهم آلهة ، كما  قالوا : " أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ" [ ص : 5 ] ، فما أنكروا ، بل تعجّبوا من ذلك ، فإنّهم وقفوا مع كثرة الصور ونسبة الألوهة لها ، فجاء الرسول ودعاهم إلى إله واحد يعرف ولا يشهد ، بشهادتهم أنّهم أثبتوا عندهم واعتقدوه في قولهم : " ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى " [ الزمر : 3 ]  لعلمهم بأنّ تلك الصور حجارة ،
ولذلك قامت الحجّة عليهم بقوله : " قُلْ سَمُّوهُمْ " [ الرعد:33]
فما يسمّونهم إلَّا بما يعلمون أنّ تلك الأسماء لهم حقيقة . وأمّا العارفون بالأمر على ما هو عليه فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور إلَّا أنّ  مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت لحكم الرسول - الذي آمنوا به - عليهم الذي به سمّوا مؤمنين فهم عبّاد الوقت مع علمهم بأنّهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها ، وإنّما عبدوا الله فيما يحكم سلطان التجلَّي الذي عرفوه منهم ، وجهله المنكر الذي لا علم له بما تجلَّى ، وستره العارف المكمّل من نبيّ ورسول ووارث عنهم ،
فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصورة لما انتزح عنها رسول الوقت اتّباعا للرسول طمعا في محبّة الله إيّاهم بقوله: " إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ".[ آل عمران : 31 ]
 فدعا إلى إله يصمد إليه ، ويعلم من حيث الجملة ، ولا يشهد ، ولا تدركه الأبصار [ الأنعام : 113 ]  ، بل هو يدرك الأبصار [ الأنعام : 113 ] ، للطفه وسريانه في أعيان الأشياء ، فلا تدركه الأبصار ، كما أنّها لا تدرك أرواحها المدبّرة أشباحها وصورها الظاهرة ، فهو اللطيف الخبير [ الأنعام :103 ] ، والخبرة ذوق ، والذوق تجلّ ، والتجلَّي في الصور ، فلا بدّ منها ولا بدّ منه ، فلا بدّ أن يعبده من رآه بهواه ، إن فهمت " وَعَلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ " [ النحل : 9 ] .)   . المعنى واضح.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:17 pm

25 - فصّ حكمة علويّة في كلمة موسوية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
 25 - فصّ حكمة علويّة في كلمة موسوية
إنّما أضيفت هذه الحكمة العلوية إلى الكلمة الموسوية ، لما جعل الله هذه الكلمة هي العليا ، وكلمة فرعون والسحرة وآل فرعون هي السفلى ، فقال :   " لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلى " [طه : 68]   فأشركه الله في صفته الأعلويّة وإن كانت أعلوية الله مطلقة وأعلوية موسى نسبية ،
 وذلك من قوله تعالى : " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى " [الأعلى : 1 ] صفة لـ " ربّك " ولما قال فرعون: " أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى "  [النازعات : 24 .]  
وقال الله تعالى في حقّه :   " إِنَّه ُ كانَ عالِياً من الْمُسْرِفِينَ " [الدخان : 31] وهم أهل الغلوّ في العلوّ ، فأعلم الله موسى أنّه هو الأعلى ، فأعلوية موسى بالنسبة إلى فرعون وغلوّه في علوّه ، وأعلوية الله لا بالنسبة والإضافة ، فهو الأعلى بذاته لذاته في ذاته وفي كل عال وأعلى ، والعلوّ والأعلويّة له أولى وأولى .
"" أعلى الله مكانته ، وأخبره أنّه هو الأعلى ، فقال : " لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلى " وأعلى الله كلمته العليا على من ادّعى العلوّ بقوله: "أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى" و "كانَ عالِياً من الْمُسْرِفِينَ" .""
قال رضي الله عنه  : ( حكمة قتل الأبناء من أجل موسى لتعود إليه بالإمداد حياة كلّ من قتل من أجله ، لأنّه قتل على أنّه موسى ، وما ثمّ جهل ، فلا بدّ أن تعود حياته على موسى ، أعني حياة المقتول من أجله ، وهي حياة ظاهرة على الفطرة لم تدنّسها الأغراض النفسية ، بل هي على فطرة « بَلى » فكان موسى مجموع حياة من قتل على أنّه هو ، فكلّ ما كان مهيّئا لذلك المقتول - ممّا كان استعداد روحه له - كان في موسى عليه السّلام وهذا اختصاص إلهي لموسى لم يكن لأحد قبله ، فإنّ حكم موسى كثيرة ) .
 
قال العبد : اعلم : أنّ النفس الكلَّية أحدية جمع النفوس الجزئية الإنسانية ، وهي إنّما تعيّنت في صورتها الكلَّية أحدية جمعية كلَّية لحقائقها الكلية الجزئية ، ثمّ تعيّنت في صور حقائقها الكلية في النفوس السماوية الكلَّية المحيطة الفلكية أوّلا فأوّلا ، ثم تعيّنت لحقائقها التابعة التفصيلية في الأجزاء الفلكية من الدرج والدقائق والثواني والثوالث ، بالغا ما بلغ ، فما من جزء من الأجزاء الفلكية السماوية إلَّا وقد قبلت روحا ونفسا بحسب أمزجتها الفلكية الطبيعية وهم الملائكة والأرواح الفلكية النورانية .
 
وهم على طبقات وجدت في كل فلك فلك ، وسماء سماء ، وجزء وجزء من أجزائه على مزاج خاص وطبيعة خصيصة بذلك الفلك والاسم المستوي على عرش تلك السماء أو الفلك ، حتى عمّر الله بهم الأفلاك والسماوات ، فمنهم حملة العرش والكروبيّون والحافّون والصافّون ، وكلَّهم طبيعيون نورانيّون ، ولهم صور طبيعية عرشية وفلكية ، ثمّ سماوية ، والنفس من ورائهم محيطة بالإمداد والنور والروح والحياة .


وإمدادها لهم بالفيض النوري الروحي الذي يقبله من التجلَّيات الأسمائية الذاتية . ومن جملة ما تشتمل عليه هذه النفس الكلية التي هي مظهر الاسم المفصّل ، واسمها في لسان الشرع اللوح المحفوظ وهي أمّ الكتاب المفصّل والتي تحتوي عليه هي الأرواح البشرية الإنسانية الكمالية الكلَّية والنفوس البشرية الجزئية ،
وهذا الروح الأعظم الأكمل ، مع من تعيّن من الأرواح والنفوس السماوية يفيض وتفيض الأنوار الروحية والأشعّة النفسية على الطبيعيات والعنصريات فمهما تعيّنت - بحسب التشكَّلات الفلكية والأوضاع الرفيعة السماوية والاتّصالات والانفصالات الكوكبية وامتزاجاتها بموجب مقتضى أرواحها ونفوسها ،
والأسماء الإلهية الظاهرة بها والمتوجّهة إلى إيجاد الصور الأحدية الجمعية الكمالية الإنسانية في العوالم العنصرية السفلية عند الظاهرية المسمّاة بعالم الكون والفساد عرفا رسميا - أمزجة بشرية إنسانية مستعدّة لقبول أرواح إنسانية ،
 
فإنّ فيض الأرواح والنفوس العلوية ، وفيض النفس الكلَّية يتعيّن فيها بحسب ما استعدّت له من الكمالات بالميل التامّ والعشق العامّ من القابل والمقبول إلى صاحبه ،
أعني المزاج العنصريّ وفيض الروح الفلكيّ والكلمة الإلهية المحمولة في ذلك الفيض الروحاني والنفس الرحمانيّ ،
فينبعث في عصر "عصر" من الأرواح الإنسانية من هذا اللوح الإلهي والروح الأعظم الرحماني ما أراد الله إظهاره في ذلك العصر من آياته وأسمائه الكلَّية وكلماته الكمالية ، ولا مانع لتعيّن الفيض الروحي والنور النفسي المحمول في الأنوار والأشعّة الكوكبية في أمزجة خصيصة بها مشاكلة مناسبة لظهور حقائقها وخصائصها فيها وبها إلَّا حصول التعيّن المزاجي العنصري وكمال التسوية لقبول النفخ الملكي الإلهي للروح فيه ، فافهم هذا الأصل الكلَّيّ والضابط الإلهي الجمليّ .
 
ثمّ اعلم : أنّه لمّا أراد الله إظهار آياته الكاملات وكلماته الفاضلات وحكمه العامّات التامّات الشاملات في الكلمة الموسوية ، وسرى حكم "حكم" هذه الإرادة في النفس الكلَّية ونزول الوحي الإلهي بذلك إلى عالم العنصر ، وتوجّهت الأسماء الكلية الظاهرة ، والأرواح والأنفس الطاهرة إلى تحصيل مطالبهم وتوصيل مآربهم ، فتعيّنت بموجبها أمزجة كثيرة بحسب حقائق ما في الروح الموسوي قبل تعيّن مزاجه الكامل النبوي ،
فقبلت تلك الأمزجة - من الأنوار والأشعّة والأرواح المنبثّة من النفوس الكلية الفلكية - أنفسا جزئية لا على الوجه الأكمل ، لظهور الكمالات الموسوية وإظهار الآيات التي أراد الله أن يظهرها ، فلمّا لم تكن وافية وكافية في مظهريتها ، أراد الله أن يبدلها ربّها خيرا منها ،
 
وكانت حكماء الزمان وعلماء القبط أخبروا فرعون أنّ هلاكه وهلاك ملكه يكون على يدي مولود يولد في ذلك الزمان ، فأمر فرعون بقتل كل ولد يولَّد في ذلك الزمان ، ولم يعلم أنّ الذي قدّر الله هلاكه وهلاك ملكه على يده ، وأراد الله حياته ، لن يظفر به ولن يقدر عليه ، فإنّه لا رادّ لأمر الله ولا معقّب لحكمه ،
 
فقتلوا بأمر فرعون كلّ مولود ولد ووجد في ذلك الزمان على أنّه ذلك الذي يكون هلاك فرعون على يده ، فقتلت عن نفوسها ،
أعني تلك الصورة والأشخاص والأمزجة التي قبلت تلك الأرواح الحاصلة للأسرار الكمالية والفضائل الروحانية التي كان ظهورها في موسى عليه السّلام أكمل وأتمّ ،
ولا شكّ أنّ الزمان زمان ظهورها ، والأمر الإرادي الإلهي قد نفذ بذلك ، فلمّا تبادرت بالظهور ، قبل تكامل النور ، وبلوغ عين الزمان والوقت الذي فيه التجلَّي الجامع لحقائق الحكم والآيات والكمالات التي للكلمة الموسوية ، فقبلت على اسمه ،
لما علم الله أنّ ظهورها في مزاج واحد كلي محيط بما كانت متفرّقة فيها أجمع وأتمّ وأنفع وأعمّ ، فتوجّهت أرواح هؤلاء المقتولين إلى الروح الموسوي الكمالي الموجّه من الله لإظهار ما أراده ومظهريته ، على الوجه الأفضل الأكمل ،
فاتّصلت الأنوار بنوره ، وتحصّلت الأرواح إلى روحه ، فتجمّعت فيه خصائص الكلّ ، وحقائق الفرع والأصل ، فكان الروح الموسوي مجموع تلك الأرواح كلَّها وجامعها ،
 
فتضاعفت القوى وتقوّت ، وتكاملت الأنوار واستوت ، وتعيّن مزاجه الشريف الجسماني المبارك عليه السّلام فنفخ الله فيه هذا الروح الكامل الجامع الموسوي المجموع ، ولهذا كانت آياته ومعجزاته في كمال الوضوح والظهور ، لكمال توجّه الهمم الروحانية والنفوس والملائكة وهمم أهل الزمان أجمعهم ، فظهر أمر الله وشأنه ، وغلبت حجّته وبرهانه ، وغلبت قوّته وسلطانه ، وقهر فرعون وآله و حكمه وأنصاره وأعوانه ، الحمد لله .
 
قال رضي الله عنه  : ( وأنا إن شاء الله تعالى أسرد منها » يعني من الحكم الموسوية « في هذا الباب على قدر ما يقع به الأمر الإلهي في خاطري ، فكان أول ما شوفهت به من هذا الباب هذا ، فما ولد موسى إلَّا وهو مجموع أرواح كثيرة ، جمع قوى فعالة ، لأنّ الصغير يفعل في الكبير ، ألا ترى الطفل يفعل في الكبير بالخاصيّة ، فينزل الكبير من رياسته إليه يلاعبه ويزقزق له ، ويظهر له بعقله ، فهو تحت تسخيره وهو لا يشعر ، ثم شغله بتربيته وحمايته وتفقّد مصالحه وتأنيسه ، حتى لا يضيق صدره ، هذا كلَّه من فعل الصغير بالكبير ، وذلك لقوّة المقام ، فإنّ الصغير حديث عهده بربّه ، لأنّه حديث التكوين ، والكبير أبعد ، فمن كان من الله أقرب ، سخّر من كان من الله أبعد ، كخواصّ الملك للقرب  منه يسخّرون الأبعدين ) .
 
قال العبد : اعلم : أنّ القرب والبعد نسبتان للقريب والبعيد من الحق من المقامين الإلهيّين ، وعليهما تترتّب مراتب السعادات والولايات ، وكذلك الشقاوات ومحالّ البعد .
المقام الأوّل : مقام الأحدية الإلهية ، فإنّ الكثرات كلَّها منها تنزّلت وتفصّلت وتعدّدت ، فمن كانت الوسائط بينه وبين الموجد الواحد الأحد أقلّ ، فهو أقرب ،
وكذلك التعينات الأوّل أوّل ما تظهر وتبدو - تكون قريبة من ربّها الذي هو قيّامها ، وقيّوم  يقوم بإقامة صورته ، فيسخّر بمقامه من ربّه وموجده من ليس له هذا النوع من القرب الأوّلي في الظهور والحدوث ، كالصغار من الأولاد ،
فإنّ الحق الظاهر المتعيّن في صورهم يسخّر لهم من طال مكثه في قبول التجلَّيات مدّة مديدة ، وله حكم آخر كمالي غير هذا القريب وهو الثاني ، وذلك هو القرب الحقيقي الذاتي الإلهي الكمالي من حيث الصورة الأحدية الجمعية الكمالية الإلهية الإنسانية ، فمن كانت نسبته من هذه الجمعية الكمالية أكمل وأتمّ ،
فهو أقرب إلى الله من حيث أحدية جمع جمع الكمالات الذاتية والإلهية ، وقربه من الله أعظم وأعمّ وأوسع وأكمل وأتمّ ، فالكبير القريب من هذه المرتبة القريبة لكماله ينزل لتكميل ذلك القريب الأوّل من حداثة تعيّن المربوبية ، بإحداثه وإظهاره والتجلَّي له وبه وفيه ، اتّباعا للحق النازل إليه وإلى مربوبيته ومظهريته
 
وحدثه وحداثة وجوده من أصله الذي انبعث منه روحه وتعيّن من المحتد العنصري مزاجه وهيكله ، فهذا معنى القرب والبعد ومراتبهما ، وإلَّا فمن حيث الوجود الحق المتعيّن الظاهر في الكلّ على السواء ، فلا بعد ، والكلّ في نفس المظهرية والمرآتية فعلى السواء .
 
والأفضل فيه الأكمل جمعية والأشمل حيطة وسعة ، فقد يكون من بلغ ستّين سنة من عمره أبعد من مبدئيته وأوّله  بعين الحق فيه وإن تضاعفت التجلَّيات واستنامت الفضائل والكمالات فيه بأضعاف أضعاف ما كان له أو لغيره في البدو وأوّل الفطرة ، فافهم.
 
قال رضي الله عنه  : ( كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يبرّز نفسه للمطر إذا نزل ، ويكشف رأسه له ، حتى يصيب منه ، ويقول : إنّه حديث عهد بربّه .
فانظر إلى هذه المعرفة بالله من هذا النبيّ ما أجلَّها وما أعلاها وأوضحها ، فقد سخّر المطر أفضل البشر ، لقربه من ربّه ، فكان مثل الرسول الذي ينزل عليه بالوحي ، فدعاه بالحال بذاته ، فبرز إليه ليصيب منه ما أتاه من ربّه ، فلو لا حصل له منه الفائدة الإلهية بما أصاب منه ، ما برز بنفسه إليه ، فهذه رسالة ماء جعل الله منه كلّ شيء حيّ . فافهم).
 
يشير إلى أنّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم كان يشاهد صور العلم الإلهي النازل بالوحي في المطر ، فيبرز إليه ويبرّز جسده المبارك وكرم رأسه تلقّيا لسرّ العلم الإلهي النازل على أمّ رأسه من الكتاب الأكبر الذي هو رتبته بالبرزخية الأولى في التعين الأوّل ، فافهم ،
فكذلك توجّهت الأسماء الإلهية والأرواح الكلية الفلكية والسماوية التي منها انبعثت أرواح أولئك المقتولين على اسم موسى عليه السّلام إلى الصورة الموسوية وروحه المدبّر ،
إذ ذاك لجسده الشريف ، حتى فعلت في أعداء ما فعلت وأظهرت من آيات الله ما أظهرت وحملت ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( وأمّا حكمة إلقائه في التابوت ورميه في اليمّ فالتابوت ناسوته ، واليمّ ما حصل له من العلم بوساطة هذا الجسم ، ممّا أعطته القوّة النظرية الفكرية ، والقوى الحسيّة والخيالية التي لا يكون شيء منها ولا من أمثالها لهذه النفس الإنسانية إلَّا بوجود هذا الجسم العنصري ، فلمّا حصلت النفس في هذا الجسم ، فأمرت بالتصرّف فيه وتدبيره ، جعل الله لها هذه القوى آلات يتوصّل بها إلى ما أراد الله منها في تدبير هذا التابوت الذي فيه سكينة الربّ ، فرمي به في اليمّ ليحصل بهذه القوى على فنون العلم ، فأعلمه بذلك أنّه وإن كان الروح المدبّر  له هو الملك ، فإنّه لا يدبّره إلَّا به ، فأصحبه هذه القوى الكامنة في هذا الناسوت الذي عبّر عنه بالتابوت في باب الإشارات والحكم ، كذلك تدبير الحق العالم فإنّه ما دبّره إلَّا به أو بصورته ، فما دبّره إلَّا به كتوقّف الولد على وجود الوالد ، والمسبّبات على أسبابها ، والمشروطات على شروطها ، والمعلولات على عللها ، والمدلولات على أدلَّتها ، والمحقّقات على حقائقها ، وكل ذلك من العالم ، وهو تدبير الحق فيه ، فما دبّره إلَّا به .
وأمّا قولنا : « أو بصورته » - أعني بصورة العالم - فأعني به الأسماء الحسنى والصفات العلى التي يسمّى الحق بها واتّصف بها ) .
 
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ العالم وصورة ظاهريات مظاهر الأسماء الحسنى والصفات العلى ، ولهذا كثرت الصور مع أحدية العين ، فهذه النقوش والأشكال والصور منها ولها وبها ، وباطن العالم وهويته للوجود الحق المتعيّن فيها بحسبها ، فصورة العالم ناسوته ، والتابوت وروحه هو الوجود المتعيّن فيه ، وهو سكينة الربّ ، واليمّ بهذا الاعتبار هو الوجود المطلق الحقّ ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( فما وصل إلينا اسم يسمّى به إلَّا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في العالم ، فما دبّر العالم أيضا إلَّا بصورة العالم ) .
يعني  رضي الله عنه  : أنّ الأسماء الإلهية كالحيّ والعالم والمريد والخالق والقادر والرازق التي يسمّى بها الحق حقائقها وأرواحها هي الحياة والعلم والإرادة والقدرة والخلق والرزق ، وهي موجودة في الحيّ والعالم والمعلوم والمراد والمقدور والمخلوق والمرزوق في العالم ، فما دبّر العالم إلَّا بصورته وهي الهيئة الاجتماعية من الأسماء الإلهية .
 
قال رضي الله عنه  : ( ولذلك قال في خلق آدم الذي هو البرزخ الجامع لنعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال :" إنّ الله خلق آدم على صورته" وليست صورته سوى الحضرة الإلهية ، فأوجد في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المفصّل وجعله روحا للعالم ، فسخّر له العلو والسفل لكمال الصورة ، فكما أنّه ليس شيء من العالم إلَّا وهو يسبّح بحمده ، كذلك ليس شيء من العالم إلَّا وهو مسخّر لهذا الإنسان الكامل ، لما تعطيه حقيقته صورته وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وَما في الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْه ُ " فكل ما في العالم تحت تسخير الإنسان ، علم ذلك من علمه وهو الإنسان الكامل وجهل ذلك من جهله ، وهو الإنسان الحيوان فكانت صورة إلقاء موسى في التابوت وإلقاء التابوت في اليمّ صورة هلاك يعني في الظاهر وفي الباطن كانت نجاة له من القتل فحيي كما تحيا النفوس بالعلم من موت الجهل ، كما قال تعالى: " أَوَمن كانَ مَيْتاً " يعني بالجهل "فَأَحْيَيْناهُ " يعني بالعلم" وَجَعَلْنا لَه ُ نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ" وهو الهدى   "كَمَنْ مَثَلُه ُ في الظُّلُماتِ" وهي الضلال ، "لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها" أي لا يهتدي أبدا ، فإنّ الأمر في نفسه لا غاية له يوقف عندها ، فالهدى هو أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة ، فيعلم أنّ الأمر حيرة ، والحيرة قلق وحركة ، والحركة حياة ، فلا سكون ولا موت ، ووجود فلا عدم ، وكذلك في الماء الذي به حياة الأرض ، وحركتها قوله : "اهْتَزَّتْ " ، وحملها قوله : " وَرَبَتْ " ، وولادتها قوله : "وَأَنْبَتَتْ من كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ " أي أنّها ما ولدت إلَّا ما يشبهها أي طبيعيا مثلها ، فكانت الزوجية التي هي الشفعية لها بما تولَّد منها وظهر عنها ، كذلك وجود الحق كانت الكثرة له ، وتعدّد الأسماء أنّه كذا وكذا بما ظهر عنه من العالم الذي يطلب نشأته حقائق الأسماء الإلهية ، فثبتت به ).
 
يشير رضي الله عنه : إلى أنّه كما شفعت النتائج والثمرات أصولها ، كذلك كثرة الأسماء شفعت أحدية الوجود الحقّ ، فإنّ الأسماء تثبت للوجود الحق بالعالم ، إذ هو المألوه والمربوب المقتضي وجود الربوبية والإلهية .
 
قال رضي الله عنه  : ( ويخالفه أحدية الكثرة ، وقد كان أحديّ العين من حيث ذاته كالجوهر الهيولاني أحدىّ العين من حيث ذاته ، كثير بالصور الظاهرة فيه ، التي هو حامل لها بذاته ، كذلك الحق بما ظهر منه من صور التجلَّي ، فكان مجلى صور العالم مع الأحدية المعقولة ، فانظر ما أحسن هذا التعليم الإلهيّ الذي خصّ الله بالاطَّلاع عليه من شاء من عباده ، ولمّا وجده آل فرعون في اليمّ عند الشجرة ، سمّاه فرعون موسى ، و "المو " هو الماء بالقبطية و « السّا » هو الشجر ، فسمّاه بما وجده عنده ، فإنّ التابوت وقف عند الشجرة في اليمّ) .
 
قال العبد : كما أنّ التابوت كان ضرب مثل للهيكل الجسماني الإنساني الذي فيه سكينة الربّ وهو الروح الذي أسكنه الله في هيكله وسكَّنه به ، وموسى صورة الروح من حيث هذا الوجه ، واليمّ - الذي هو البحر - صورة العلم الحاصل للروح الإنساني بسبب هذه النشأة العنصرية أي الحاصل ظهور ما كان لها بالقوّة بواسطته بالفعل ، فإنّ القوّة العلمية ذاتية للنفس ،
ولكن ظهورها بالفعل على الوجه الأكمل متوقّف على مظاهر قواها من هذه الصورة الهيكلية العنصرية ، فكذلك فرعون صورة الهوى الذي هو السلطان الغالب في مصر النشأة العنصرية ، ووجدانه للتابوت وحصوله له وعنده صورة تعيّن الروح ووقوفه أوّلا في تعمير البدن في حكم الهوى وعنده ،
فإنّ تربية الروح الإنساني إنّما تتمّ بوجود الهوى للنفس في تعمير البدن ومع تكامل القوى المزاجية تتكامل تربية الروح ، فيظهر قواه بالروح الإنساني  إلى أن يبلغ أشدّه ويظفر بالهوى ويملك مصر الكمال الطبيعي ، ووقوف تابوته عند الشجر إشارة إلى أنّ الهيكل الكماليّ الإنساني يتوقّف وجوده على الأركان المتشاجرة الأغصان من أصل الطبيعة الواحدة ،
فإنّ الشجر إنّما سمّي شجرا لاختلاف أغصانه والتفافها ، والمشاجرة هي المخالفة والمخاصمة ، كذلك هذا التابوت الناسوتي الهيكلي واقف عند الهوى بمقتضى القوى والخصائص الروحانية ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( فأراد قتله ، فقالت امرأته - وكانت منطقة بالنطق الإلهي الذي أنطق به كلّ شيء  فيما قالت لفرعون ، إذا كان الله خلقها للكمال ، كما قال عليه السّلام عنها حيث شهد لها ولمريم بنت عمران بالكمال الذي هو الذكران
فقالت لفرعون في حق موسى : إنّه " قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ " فيه قرّت عينها بالكمال الذي حصل لها ، كما قلنا وكان قرّة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق ، فقبضه طاهرا مطهّرا ، ليس عليه شيء من الخبث ، لأنّه قبضه عند إيمانه ، قبل أن يكتسب شيئا من الآثام ، والإسلام يجبّ ما قبله ، وجعله آية على عنايته - سبحانه - لمن شاء ، حتى لا ييأس أحد من رحمة الله "إِنَّه ُ لا يَيْأَسُ " ،" من رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ "  فلو كان فرعون ممّن يئس ، ما بادر إلى الإيمان ، فكان موسى عليه السّلام كما قالت امرأة فرعون عنه:
إنّه : " قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ " ، "لا تَقْتُلُوه ُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا "  وكذلك وقع ، فإنّ الله نفعهما به عليه السّلام إذا كانا ما شعرا بأنّه هو النبيّ الذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون وهلاك آله.)
 
قال العبد : قد تقرّر في نفوس العامّة من المسلمين وغيرهم من اليهود والنصارى أنّ فرعون كافر وأنّه من أهل النار بما ثبت عنه قبل الغرق من المعاداة لنبيّ الله ولنبي إسرائيل وبما قال :   ( أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى )   
وبقوله :   ( ما عَلِمْتُ لَكُمْ من إِله ٍ غَيْرِي )   وبأفعاله السيّئة إذ ذاك ، ولكنّ القرآن أصدق شاهد بإيمانه عند الغرق قبل أن يغرغر ، بل حال تمكَّنه من النطق بالإيمان وعلمه بأنّ النجاة حصر في ذلك ،
فقال : آمنت بالَّذى   ( آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا من الْمُسْلِمِينَ )   وهذا إخبار صحيح لا يدخله النسخ ، ولكنّ فيه دليلا أيضا أنّه لم يكن مؤمنا قبل هذا الإيمان ، كما زعم أهل الأخبار أنّه كان مؤمنا في الباطن ، وأنّه كان يكتم إيمانه عن قومه سياسة حكمية ، إذ لا دليل على ذلك من القرآن ولا فيما صحّ من الحديث ، فلم يكن إيمانه إلَّا عند الغرق بالاستدلال على وجود الله وكمال قدرته بما رأى أنّه أنجى بني إسرائيل الذين آمنوا به من الغرق ، فآمن به ، إمّا طلبا للنجاة أو إيمانا لا لعلَّة .
 
قال رضي الله عنه  : ( ولمّا عصمه الله من فرعون " أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً "  من الهمّ الذي كان قد أصابها ) .
قال العبد : أمّ موسى صورة المزاج القابل للروح الإنساني من طبيعته الخاصّة والاعتدال الخصيص المنتج لهذه النتيجة الشريفة الروحية ، فإنّ الروح الإنساني وإن كان عندنا موجودا قبل وجود البدن ، ولكن تعيّن هذا الروح المعيّن مثلا متوقّف على المزاج ، وكان موجودا بصورته الروحانية الخصيصة به الموجود هو فيها وبها قبل تعلَّقها بالبدن وجودا روحانيا عقليا نورانيا لا نقليا جسمانيا ، فالحادث بوجود هذه الأمّ الشريفة إنّما هو هذا التعيّن الشخصيّ لا الروح في حقيقته الجوهرية ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( ثم إنّ الله حرّم عليه المراضع حتى أقبل على ثدي أمّه فأرضعته  ليكمل الله لها سرورها به ، كذلك علم الشرائع ،
كما قال : « لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا أي طريقا ومنهاجا أي من تلك الطريقة جاء ، فكان هذا القول إشارة إلى الأصل الذي منه جاء ، فهذا غذاؤه كما أنّ فرع الشجرة لا يتغذّى إلَّا من أصلها ، فما كان حراما في شرع يكون حلالا في شرع آخر يعني في الصورة ،
أعني قولي : يكون حلالا  وفي نفس الأمر ما هو عين ما مضى ، لأنّ الأمر خلق جديد ولا تكرار ، ولهذا نبّهناك ، فكنى عن هذا في حق موسى بتحريم المراضع ).
 
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ اللبن الذي يرضعه كل مولود وإن كان في الصورة عينا واحدة هو اللبن ، ولكن لبن شخص دون شخص ما هو عين ذلك اللبن ،
وكذلك الشريعة التي جعلها الله لنبيّ وجبله عليها هي التي يأخذها ذلك النبيّ دون غيرها ، فإنّ الشرائع وإن كانت كلَّها منزلة من عند الله ولله ، ولكن لكل أحد شرعة منها شرع في طلب الحق والتوجّه إليه ، ومنها جاء في الأصل .
وأمّا تنزيل تحريم المراضع على حقيقتها في الروح الإنساني من البدن ، فهو أنّ لكل نفس نفس مزاجا خاصّا يناسبها ، لا يليق إلَّا لها في ثاني حصول كمالاتها لها في هذا المزاج الخاصّ ، فيكون محرّما على الأرواح الزاكية الكاملة الطاهرة أن يتغذى بالقوّة المخالفة للقوى الروحية وهي الهوى والشيطان والنفس ، وصور هذه القوى هي التي حرّمت على موسى مراضعها من نساء أهل فرعون ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( فأمّه على الحقيقة من أرضعته لا من ولدته ، فإنّ أمّ الولادة حملته على جهة الأمانة ، فيكوّن فيها ويغذّي بدم طمثها من غير إرادة لها في ذلك ، حتى لا يكون لها عليه امتنان ، فإنّه إنّما يتغذّى بما لو لم يتغذّ به ولم يخرج عنها ذلك الدم ، لأهلكها وأمرضها ، فللجنين المنّة على أمّه بكونه تغذّى بذلك الدم ، فوقاها بنفسه من الضرر الذي كانت تجده لو امتسك ذلك الدم عندها ولم يخرج ولم يتغذّ بها جنينها ، والمرضعة ليست كذلك ، فإنّها قصدت برضاعته حياته وإبقاءه فجعل الله ذلك لموسى في أمّ أولاده فلم يكن لامرأة عليه فضل إلَّا لأمّ ولادته لتقرّ أيضا عينها بتربيته وتشاهد انتشاءه في حجرها ولا تحزن ، ونجاها الله من غمّ التابوت، فخرق ظلمة الطبيعة بما أعطاه الله من العلم الإلهي وإن لم يخرج عنها) .
 
قال العبد : الأرواح الكاملة التي للكمّل كما أنّها أبناء أرواح كاملة كلية ، فكذلك أمزجتهم العادلة الفاضلة إنّما تكون من حقائق كلية طبيعية تامّه معتدلة مشاكلة لها في مظهرية الكمالات الإلهية المطلوبة منها ، وتلك الهيئة الاجتماعية - الفاصلة بين هذه الحقائق الطبيعية العادلة التي استجلبت واستدعت تعيّن الفيض الإلهي الكامل والروح الإنساني الفاضل إن كانت تربية الروح بعد التعين فيها أيضا بها وبحسبها ، كانت التربية أنسب وبالكمالات المطلوبة منها أشكل وأكمل ، وكذلك كانت أمّ موسى من بني إسرائيل مؤمنة موحّدة أوحي إليها بشهادة الله في القرآن بقوله :   ( أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ) الآية فأراد تكميل تربيته وانتشائه عليه السّلام على يديها رحمة وامتنانا بهما جميعا ، من حيث تشعر أمّه ولا يشعر هو إذ ذاك بذلك .
 
قال رضي الله عنه  : ( وفتنه فتونا أي اختبره في مواطن كثيرة ، ليتحقّق في نفسه صبره على ما ابتلاه الله به ، فأوّل ما ابتلاه الله به قتله القبطيّ بما ألهمه الله ووفّقه له في سرّه ، وإن لم يعلم بذلك ، ولكن لم يجد في نفسه اكتراثا بقتله ، مع كونه ما توقّف ، حتى يأتيه أمر ربّه بذلك ، لأنّ النبيّ عليه السّلام معصوم الباطن من حيث لا يشعر ، حتى ينبّأ أي يخبر بذلك ، ولهذا أراه الخضر قتل الغلام ، فأنكر عليه ولم يتذكَّر قتله القبطيّ ، فقال له الخضر : ( ما فَعَلْتُه ُ عَنْ أَمْرِي ) ينبّهه على مرتبته قبل أن ينبّأ أنّه كان معصوم الحركة في نفس الأمر وإن لم يشعر بذلك ) .
 
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ جميع أفعاله عليه السّلام وحركاته وما جرى عليه ومنه إنّما كان بأمر الله وإرادته وعلمه وإن لم يشعر به إذ ذاك ، فكان معصوما في جميع أفعاله بما لا يشبه أفعال المعصومين ، كقتله القبطيّ فإنّه عليه السّلام لم يعلم به حينئذ أنّه كان بعلم الله وإرادته وأمره ، ولهذا ألحقه بالشيطان وأضافه إلى نفسه ،
فقال : ( هذا من عَمَلِ الشَّيْطانِ )   أي بعيد عن الحق والصواب وكان الحق والصواب فيه من حيث ما أراد الله ذلك وأمره بالفعل لا بالقول ، بل فعله على يده لما كان يعلم أنّه لو بقي أفسد ما بين بني إسرائيل ، وأفضى إلى فتنة عظيمة ، فردّ الله بقتله الفتنة .
 
قال رضي الله عنه  : ( وأراه خرق السفينة التي ظاهرها هلك وباطنها نجاة عن يد الغاصب ، جعل له ذلك في مقابلة التابوت الذي كان في اليمّ مطبقا عليه ، وظاهره هلاك وباطنه نجاة وإنّما فعلت به أمّه ذلك خوفا من يد الغاصب فرعون أن يذبحه صبرا وهي تنظر إليه مع الوحي الذي ألهمها الله به ، من حيث لا تشعر ، فوجدت في نفسها أنّها ترضعه ، فإذا خافت عليه ، ألقته في اليمّ ، لأنّ في المثل « عين لا ترى ، قلب لا يتّجع » فلم تخف عليه خوف مشاهدة عين ، ولا حزنت عليه حزن رؤية بصر ، وغلب على  قلبها أنّ الله ربما ردّه إليها ، لحسن ظنّها به ، فعاشت بهذا الظنّ في نفسها ، والرجاء يقابل الخوف واليأس ، وقالت حين ألهمت لذلك : لعلّ هذا هو الرسول الذي يهلك فرعون والقبط على يده ، فعاشت وسرّت بهذا التوهّم بالنظر إليها ، وهو علم في نفس الأمر ) .
 
قال العبد : سمعت الشيخ الأكمل ، قدوة الكمّل ، أبا المعالي ، صدر الحق والدين محيي الإسلام والمسلمين ، محمد بن إسحاق بن محمد بن يوسف - سلام الله عليه - عن الشيخ خاتم الأولياء المحمديّين سلام الله تعالى عليه في الأوّلين والآخرين أنّه اجتمع بأبي العبّاس خضر صلوات الله عليهما فقال له : " كنت أعددت لموسى بن عمران ألف مسألة ممّا جرى عليه من أوّل ما ولد إلى زمان اجتماعه ، فلم يصبر على ثلاث مسائل منها » تنبيها من الخضر لموسى أنّ جميع ما جرى عليه ويجري بأمر الله وإرادته وعلمه الذي لا يمكن وقوع خلافه ،
 
وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم « ليت أخي موسى سكت ، حتى يقصّ علينا من أنبائهما » تنبيها على هذه الأسرار ، فإنّ العلم بها من خصوص الولاية التي لا ردّ فيها ولا إنكار ، فإنّ من شاهد أنّ ما يجري على أيدي العباد وعليهم إنّما هو من أمر الله الذي لا يردّ ، فإنّه مقترن بالإرادة ، مؤيّد بها ، ولا بدّ من وقوعه لا يصدر منه إنكار عليه ولا نهي عنه ولا أمر بخلافه ، ولو اطَّلع الرسول على سرّ القدر ،
فإنّ همّته ربما تفتر عن إبلاغ ما أمر بتبليغه ، فإنّه إنّما أمر بتبليغه على علم من الله بوقوع المأمور به من البعض وعدم وقوع ذلك من آخرين ، والمراد بأمره للرسول بالتبليغ هو التبليغ فقط ،
فإنّه ما على الرسول إلَّا البلاغ ، فقد ينظر المطَّلع على سرّ القدر عدم وقوع ما أمر بتبليغه فلم يقتصر على أنّه مأمور بالتبليغ فقط ، سواء وقع المأمور به ، أو لم يقع ، فربما يتقاعد عن تبليغ ما أمر بتبليغه أو يفتر أو يشقّ عليه ،
فطوى الله علم ما شاكل هذه الأسرار عن الأنبياء ، رحمة بهم ، ولا يوجب ذلك نقصا في مراتبهم النبوية ، ولا يقدح في كمالاتهم الخصيصة بهم ، فإنّ أكملهم - أعني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد  كشف من هذه العلوم ما لم يكشف غيره - أشار إلى هذا السرّ ،
 
فقال : « شيّبتني هود وأخواتها » ، لما اشتملت على الأمر بالاستقامة في الدعوة التي قد تردّ عند الكافر ولا تردّ عند المؤمن ، فيشقّ عليه أن يردّ أمر الله ، ولا يجد بدّا من الدعوة ، لكونه مأمورا بها بامتثال قوله تعالى :- ( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) فالمحمّديّ المشهد
 
لا يأخذه عند شهود ذلك فتور ولا لومة لائم ، ولم يكن غيره من الأنبياء كذلك ، فافهم ، ولا تجبن ، فإنّ المحمديين يرون ذلك ، ويدعون إلى الله على بصيرة ، وعلم هذه الأسرار للأنبياء الكمّل من كونهم رسلا ، فهكذا أمر موسى مع الخضر ومع الحق ، فاعلم ذلك .
 
قال رضي الله عنه  : ( ثم إنّه لمّا وقع عليه الطلب ، خرج فارّا خوفا في الظاهر وكان في المعنى حبّا في النجاة ، فإنّ الحركة أبدا إنّما هي حبّية ، ويحجب الناظر فيها بأسباب أخر وليست تلك ، وذلك لأنّ الأصل حركة العالم من العدم - الذي كان ساكنا فيه - إلى الوجود ، ولذلك يقال إن الأمر حركة عن سكون ، فكانت الحركة - التي هي وجود العالم - حركة حبّية ، قد نبّه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على ذلك ، بقوله : « كنت كنزا لم أعرف ، فأحببت أن أعرف » فلو لا هذه المحبّة ما ظهر العالم في عينه ، فحركته من العدم إلى الوجود حركة حبّ الموجد لذلك ، ولأنّ العالم أيضا يحبّ شهود نفسه وجودا كما شهدها ثبوتا ، فكانت بكل وجه حركته من العدم الثبوتي إلى الوجود حركة حبّية من جناب الحق وجانبه ، فإنّ الكمال محبوب لذاته .
وعلمه تعالى بنفسه من حيث هو غنيّ عن العالمين - هو له وما بقي له إلَّا تمام مرتبة العلم بالعلم الحادث الذي يكون من هذه الأعيان ، أعيان العالم إذا وجدت ، فتظهر صورة الكمال بالعلم المحدث والقديم ، فتكمل مرتبة العلم بالوجهين ، وكذلك تكمل مراتب الوجود ، فإنّ الوجود ، منه أزليّ ) .
 
يعني : إذا أضيف إلى الأزلي في غير الأزلي ، كما مرّ في الفصّ الشيثي ، فتذكَّر .
قال رضي الله عنه  : ( وغير أزليّ وهو الحادث " يعني غير الأزلي " والأزلي وجود الحق لنفسه وغير الأزلي وجود الحق بصور العالم الثابت ، فيسمّى حدوثا لأنّه ظهر بعضه لبعضه ، وظهر لنفسه بصور العالم ، فكمل الوجود ، فكانت حركة العالم حيث للكمال ، فافهم ) .
 
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ حركة موسى وفراره ، وإن كانت - على ما علَّل ذلك عند فرعون بقوله : ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ )  " بسبب الخوف ، وكذلك حركة كل ذي خوف وفراره " من أمر مخوف وإن كان بالنظر الظاهر معلَّلا بسبب قريب وهو الخوف ،
ولكنّ التحقيق يقتضي أن لا تكون الحركة عن خوف ، فإنّ الخوف يقتضي السكون والجمود ، ولا يقتضي الحركة ،
وإنّما السبب الموجب للحركة فيمن يفرّ عن مكروه هو حبّ الحياة والنجاة ، فلمّا رأى أمرا يوجب فوت محبوبه - وهو النجاة والحياة - خاف ذلك فتحرّك وفرّ طلبا للحياة ، فموجب الحركة في الحقيقة لم يكن الخوف ، بل الحبّ للنجاة أو الحياة أو غير ذلك ممّا يحبّ وجوده ويخاف عدمه .
ثمّ بيّن  رضي الله عنه  أنّ الحركة في الأصل حبّية ، وذكر في ذلك أسرارا عالية في الجناب الإلهي والعالم ، وأنّها وإن سبقت الإشارة إليها فيما سلف ، ولكن نبحث هاهنا على ما يبقى من الأسرار ، وهو أنّ قوله تعالى على لسان أكمل مظاهره الإنسانية : « أحببت أن أعرف » ليس محتده هذه المحبّة ، وأصل هذا التجلَّي من حيث الذات ، الغنيّة عن العالمين ،
وذلك لأنّ الكمال الذاتي حاصل للذات بالذات ، ومتعلَّق المحبّة أبدا أمر معدوم غير حاصل المعرفة به ، فما يسمّى « غيره » و « سواه » فلم يكن حاصلا ، لعدم المعارف إذ ذاك ، فأحبّ حصوله ووجوده ،
.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:17 pm

25 - فصّ حكمة علويّة في كلمة موسوية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
 25 - فصّ حكمة علويّة في كلمة موسوية
فخلق الخلق وتعرّف إليهم ، فعرفوه ، فكمل مرتبة العلم والوجود ، فوضح وصحّ أنّ الكناية بتاء "أحببت " لا تعود إلى ذات الذات ، تعالت وتباركت وجلَّت عن مثل ذلك ، وإنّما تاء الكناية تعود إلى أحدية النسب الذاتية - وهي حقائق الأسماء - وإلى الشؤون الغيبية العينية ، فإنّ هذه النسب هي التي لم تكن موجودة لأعيانها ولا ظاهرة في مظاهرها ،

فإنّ الألوهية والربوبية والخالقية والرازقية وسائر النسب في حقائقها متوقّفة الوجود والتحقّق على المألوه والمربوب والمخلوق والمرزوق وجودا وتقديرا ، وحيث لم يكن عالم يكون مألوها ، مربوبا ،  مخلوقا ، مرزوقا ، موجودا في عينه وكذلك الخالقية والرازقية والربوبية والإلهية ، لم تكن ظاهرة الأعيان ولا موجودة الآثار ،
فكانت مستهلكة تحت قهر الأحدية الإحاطية الذاتية مع النسب التي هي عليها متوقّفة كاستهلاك النصفية والثلثية والربعية والخمسية وغيرها - من النسب العددية التي لا تتناهى - في أحدية الواحد ،

فإنّ الواحد قبل أن يتعدّد وينشئ الأعداد في أحدية واحديته لا نصف ولا ثلث ولا ربع ولا خمس ولا سدس ولا غيرها بالفعل ، ولكن ثبوت هذه النسب للواحد مشروط بإنشائه العدد بنفسه ، فإذا وجد الواحد في مرتبتين أو ثلاثة أو أربعة بالفعل بنفسه ، حينئذ كان الواحد عين هذه النسب بالفعل ، وظهرت هذه النسب فيه عينها ،
فكان الواحد بالفعل نصف الاثنين وثلث الثلاثة وربع الأربعة وخمس الخمسة وجزءا من أيّ عدد فرضت بالفعل فهكذا كانت النسب الأسمائية مستهلكة الأعيان في أحدية الذات ، فـ « أحببت » أي أحبّ الواحد - من حيث هي لا من حيث هو هو ذاته الغيبية الغنيّة عن العالمين - أن يظهرها متمايزة الأعيان في الوجود ،

موجودة الآثار في عرصة الشهود كناية عن تلك النسب ، فتجلَّى تجلَّيا حبّيا منها وفيها ، فسرى سرّ التجلَّي الحقّ في الحقائق كلَّها ، فتحرّكت حقائق نسب الواحد من مقام استهلاكها إلى قوابلها ومظاهرها ، فحبّت الإلهية إلى المألوه والربوبية إلى المربوب والخالقية إلى المخلوق ،

وكذلك تحرّكت المخلوقية إلى الخالقية والمرزوق إلى الرازق والمربوب إلى الربّ ، فأحبّ الخلق من حيث هي لا من حيث ذاته ، لإسعافهم بأعيان مطالبهم وإيجاد مقاصدهم ومآربهم ، لأنّه من حيث ذاته الغنية عن العالمين لا يمكن أن يعرف أو يعلم ،
وإنّما يعرف ويعلم بأسمائه وصفاته وشئونه ونسب ذاته وإضافاته ، فهذه النسب هي الكنز الذي لم يكن يعرف ، فأحبّ الحق أن يعرف من حيث كونه هي أن يعرف ،
فتجلَّى بنفسه ونفسه الذي هو فيها هي فظهر بوجوده الحق الذي به تحقّقت المتحقّقات من الماهيات في مراتب حقائق الممكنات

التي لا تتناهى ، ويسمّى بأسماء المراتب جميعها ، وما ثمّ إلَّا هو ، والظهور والتعيّن والأسماء كلَّها نسب لا تحقّق لها إلَّا به وله ، إذ الظهور لا تحقّق له إلَّا بالظاهر ،
وكذلك التعيّن لا وجود له من حيث هو هو ، بل بالمتعيّن بذلك التعيّن ، فالواحد هو هو واحد ، في جميع هذه المراتب العددية ، فواحد وواحد اثنان ، وواحد وواحدان ثلاثة ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فتسمّى الواحد بأسماء الأعداد غير المتناهية وقبل الكلّ وصحّت إضافة الجميع إليه لا من حيث ذاته ، بل من حيث ظهوراته وتجلَّياته وتعيّناته ، فافهم .

واللطيفة الشريفة الأخرى أنّ الله الواحد الأحد الحقّ يعظم ويجلّ أن يعرفه غيره ، وما ثمّ إلَّا هو ، والمعروف والعارف والمعرفة يقضي بالكثرة والكثير ، وإذا كان الله ولا شيء معه ، فلا يمكن أن يعرفه غيره ، ولكنّ الواحد إذا ظهر بوجوده ونفسه في مراتب كثيرة عددية ،

فإنّه - من حيث تعيّنه في مرتبة غيره من كونه متعيّنا في مرتبة أخرى - له أن يعرف نفسه حقيقة فلم يعرفه إلَّا هو به ، فليس الاثنان ثلاثة ولا أربعة ولا خمسة ولا ستّة ولا سبعة ، فتحقّقت الغيرية النسبية والتغاير الاعتباري ،

فعرف نفسه ، فكان عارفا - من حيث ظهوره بوجود العالم في المألوه والمربوب المخلوق المرزوق - ومعروفا من كونه موجدا لها ربّا خالقا رازقا ، فحصل ما تعلَّقت به المحبّة الإلهية أن يعرف ، ولكن ما عرفه إلَّا هو ،

فهو العارف وهو المعروف من حيثيّتين متغايرتين بالنسبة والإضافة إلى التعين والظهور في مراتب عددية معقولة لا وجود لها إلَّا بهذا الواحد المنشئ بذاته للأعداد ، فسبحانه لا إله إلَّا هو الواحد الأحد الذي لا وجود لأحد في ذاته إلَّا هو ، فتحقّق هذه المباحث ، فإنّها من فيض أنوار ما دسّ الشيخ  رضي الله عنه في متن الكتاب ، وأنّه لباب الحق في الباب ، عند ذوي الألباب ، والله الموفّق للصواب .
 
قال رضي الله عنه  : ( ألا تراه كيف نفّس عن الأسماء الإلهية ما كانت تجده من عدم ظهور آثارها في عين مسمّى العالم ، فكانت الراحة محبوبة له ، ولم يوصل إليها إلَّا بالوجود الصوري الأعلى والأسفل ) .

يشير رضي الله عنه  إلى الوجود الظاهر بعين الحق والخلق ، فالأعلى وجود الحق المطلق بأسمائه وصفاته ، والأسفل وجود العالم المقيّد بأجناسه وأنواعه وشخصيّاته .

قال رضي الله عنه  : ( فثبت أنّ الحركة كانت للحبّ ، فما ثمّ حركة في الكون إلَّا وهي حبّية ، فمن العلماء من يعلم ذلك ، ومنهم من يحجبه السبب الأقرب لحكمه في الحال واستيلائه على النفس ، فكان الخوف لموسى مشهودا له بما وقع من قتله القبطيّ ، وتضمن الخوف حبّ النجاة من القتل ، ففرّ لمّا خاف ، وفي المعنى فرّ لمّا أحبّ النجاة من فرعون وعمله به ، فذكر السبب الأقرب المشهود له في الوقت الذي هو كصورة الجسم للبشر ، وحبّ النجاة مضمّن فيه تضمين الجسد للروح المدبّر له ،
والأنبياء لهم لسان الظاهر ، به يتكلَّمون لعموم الخطاب ، واعتمادهم على فهم العالم السامع ، فلا يعتبر الرسل إلَّا العامّة ، لعلمهم بمرتبة أهل الفهم ، كما نبّه عليه السّلام على هذه الرتبة في العطايا ،
فقال : « إنّي لأعطي الرجل وغيره أحبّ إلىّ منه ، مخافة أن يكبّه الله في النار » فاعتبر الضعيف العقل والنظر الذي غلب عليه الطمع والطبع ، وكذا ما جاؤوا به من العلوم جاؤوا به وعليه خلعة أدنى الفهوم ، ليقف من لا غوص له عند الخلعة ،
فيقول : ما أحسن هذه الخلعة أو براها غاية الدرجة ،
ويقول صاحب الفهم الدقيق ، الغائص على درر الحكم بما استوجب هذا : - « هذه الخلعة من الملك » فينظر في قدر الخلعة وصنفها من الثياب ، فيعلم منها قدر ما خلعت عليه ، فيعثر على علم لم يحصل لغيره ممّن لا علم له بمثل هذا .
ولمّا علمت الأنبياء والرسل والورثة أنّ في العالم وفي أمّتهم من هو بهذه المثابة ، عمدوا في العبارة إلى اللسان الظاهر الذي يقع فيه اشتراك الخاصّ والعامّ ، فيفهم منه الخاصّ ما فهم العامّ منه وزيادة ما صحّ له به اسم أنّه خاصّ يميّز به عن العامّيّ ، فاكتفى المبلَّغون للعلوم بهذا ، فهذا حكمة قوله عليه السّلام : ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ )   ولم يقل : ففررت منكم حبّا في السلامة والعافية ) .

يشير رضي الله عنه  في كل هذه الحقائق إلى أنّ قوله : "لَمَّا خِفْتُكُمْ " رعاية منه لمفهوم العموم ، فافهم ، ما ينظرون إلَّا إلى السبب الأقرب الظاهر لا إلى الحقيقة وباطن السرّ .

قال رضي الله عنه  : (فجاء إلى مدين ، فوجد الجاريتين ، " فَسَقى لَهُما " من غير أجر، " ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ " الإلهي " فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ من خَيْرٍ فَقِيرٌ " .

فجعل عين عمله السقي عين الخير الذي أنزله الله إليه ، ووصف نفسه بالفقر إلى الله في الخير الذي عنده ، فأراه الخضر إقامة الجدار من غير أجر ، فعتبه على ذلك ،
فذكَّره الخضر سقايته من غير أجر ، إلى غير ذلك ممّا لم يذكره ، حتى تمنّى صلَّى الله عليه وسلَّم أن يسكت موسى عليه السّلام ولا يعترض ، حتى يقص الله عليه من أمرهما ،
فيعلم بذلك ما وفّق إليه موسى من غير علم منه ، إذ لو كان عن علم ما أنكر مثل ذلك على الخضر الذي قد شهد الله له عند موسى وزكَّاه وعدّله ،
ومع هذا غفل موسى عن تزكية الله وعمّا شرطه عليه في اتّباعه ، رحمة بنا إذا نسينا أمر الله ، ولو كان موسى عالما بذلك ،
لما قال له الخضر : ( ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً ) أي إنّي على علم لم يحصل لك عن ذوق ، كما أنت على علم لا أعلمه أنا ، فأنصف .
وأمّا حكمة فراقه فلأنّ الرسول يقول الله فيه : " وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه ُ وَما نَهاكُمْ عَنْه ُ فَانْتَهُوا " فوقفت العلماء بالله الذين يعرفون قدر الرسالة والرسول عند هذا القول، وقد علم الخضر أنّ موسى عليه السّلام رسول الله ، فأخذ يرقب ما يكون منه ، ليوفّي الأدب حقّه مع الرسل ، فقال له :   " إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي " فنهاه عن صحبته ، فلمّا وقعت منه الثالثة) .


قال العبد : هذه الأحوال - التي يقصّ علينا - كلَّها صور أحوال للروح الإنساني الكمالي الإلهي من أوّل تعيّنه في المزاج الجسماني العنصري ، كما أومأنا إليه في حكمة تحريم المراضع ، فلنذكر من بعض ما يبقى من أسرارها والله الموفّق .

وذلك أنّ تربية الروح الإنساني وتغذيته إنّما تكون في بدو الفطرة وأوّل النشأة بالقوى الطبيعية التي للروح الطبيعي الشهودي الذي صورته الدم ،
والروح الحيواني الذي صورته البخار المتّصل من لطائف الروح الطبيعي ، وتربية الروح الإنساني النفساني الذي تعيّنه في القوى النفسانية وقوى الروح العقلي وخصائصه بهيئة أحدية جمعية اعتدالية بين قوى الروح النفساني ، وهذه القوى مختلط ومرتبط بعضها بالبعض في أوّل النشء والنماء .

والروح الإنساني ، وإن كانت ولادته وتعيّنه في تلك الهيئة العادلة الفاضلة الحاصلة بين قوى الروح النفساني فيمن سبقت له العناية الإلهية الأزلية ، ولكنّ القوى الروحية الحيوانية ، وقوى الروح الطبيعيّ غالبة في بدو النشء ،

وكذلك كانت تربية موسى في حجر أمّها التي هي صورة أفضل القوى الخصيصة بتربية الروح من قوى الطبيعة ، ولكن كان بين آل فرعون الذي هو صورة الهوى الطبيعي والحيواني - وآله صور القوى السبعية والشهوية التي للروح الحيواني والطبيعي وكانوا هم الغالبين إذ ذاك ،

ثمّ لمّا تمّ نشؤه وتكاملت قواه وبلغ أشدّه واستوى وميّز بين القوى الروحانية الإنسانية ، الإلهية وبين القوى الحيوانية الغضبيّة وبين القوى النفسانية الإنسانية وحصل على علم الفرقان بينها ، حينئذ فضّل القوى الروحانية الإنسانية على القوى الطبيعية كتفضيل موسى وآله من بني إسرائيل على قوى الهوى التي هي حقائق آل فرعون .

وأمّا قتله القبطيّ فهو صورة إبطال الروح العقلي لبعض القوى الإنحرافية الشيطانية التي تدعو إلى الشرّ ، وتسرع إلى الفساد والضرّ ، وتثبّط عن الخير بالضير ، وتمنع عن الصلاة والذكر ، وتأمر بتغليب القوى الطبيعية المزاجية على القوى الروحية العقلية التي كانت بنو إسرائيل صورها .

وبين هذه القوى الانحرافية الشيطانية وبين القوى الروحية العقلية والقوى الإيمانية لزام وخصام وجدال ونضال لا فتور لها ، كما كانت المخاصمة والمعاداة بين آل فرعون وبين بني إسرائيل حتى قتل القبطيّ بوكزة موسى ،

وصورة الوكز نظير حجر العقل والحجر وقهره لتلك القوّة بمعاونة قوّة الإيمان والفكر والذكر ، وقتله تعطيل تلك القوى الشيطانية بالكلَّية وتبطيل وجوده وشيطنته بسلطان الروح وبرهان العقل وتبيان في بعض النشآت الكمالية كنشأة موسى فيما نحن بصدد بيانه ،

ولكن بعض المحقّقين من أهل الكمال لا يبطلونها ولا يعطَّلونها بالكلَّية ، ولكنّهم يسخّرونها ويستعملونها في المصارف المستحسنة الكمالية كما أشار إلى ذلك رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنّه مكَّن من أخذ العفريت ،
وأشار أيضا إلى أنّ شيطانه أسلم ولا يأمره إلَّا بخير ، فيقلَّب هؤلاء الكمّل أعيان القوى ، الآمرة بالشرّ إلى أعيان القوى ، الأمرة بالخير بالإكسير الكمالي الأحدي الجمعي ، الكاسرة لصور النقص والضير ، وهو من المشرب المحمّدي الختمي .

وأمّا حبّه النجاة وفراره من الهلاك فإنّه مستحسن في الله ، فإنّ نفسه لله لا له ، كما قال :" إِنَّ الله اشْتَرى من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ " ونفوس الكمّل لله ، فيجب أن يحبّ كلّ منهم نجاته وحياته حبّا لله وفي الله ، فإنّ نفسه لله ، بل هو ظاهره وهو باطنه وهو عينه وهو هو من حيث تجلَّيه في حقيقته وعينه الثابتة ، والرجل الذي   " جاءَ من أَقْصَا الْمَدِينَةِ "   . . . 
" يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ من النَّاصِحِينَ " 
 هو الإلهام الإلهي من أصل الوحي يحصل من أقاصي القوى النفسانية الذي يرد على بعض النفوس الكاملة عناية من الله ، ولذلك الشخص كانت صورة القوّة الملهمة بأمره وإذنه .

وأمّا توجّهه تلقاء مدين فهو نظير إعراض الروح عن قوى الهوى التي آل فرعون صورة نظائرهم ، وتوجّهه بمقتضى القوى العقلية والعقدة الإيمانية النقلية إلى مدين وهو صورة الهيئة الاجتماعية بين خصائص القوى الروحية الإلهية وبين القوى الطبيعية الجسمانية القابلة للحقيقة القلبية التي شعيب مظهرها ،
فإنّ الروح الإنسانيّ بعد تميّزه وفرقانه بين الخير والشرّ ، والمحمود والمذموم يهاجر ويطلب النجاة من غلبة القوى الشهوية والحيوانية على القوى العقلية والإيمانية ، فيعرض من الانبساط إلى القوى الظاهرة الهيكلية القابلية إلى القوى الباطنة الروحانية القلبية .
وماء مدين صورة العلم المشروع للعالم في الحياة الدنيا الذي يشترك فيه أهل العموم والخصوص من القوى القابلية والقلبية .
والظلّ الإلهي هو الوجود الإلهي مأوى الروح العقلي الإنساني 

والشجرة التي منها الظلّ أحدية الجمع الجمعي الكمالي الإنساني روحانيّها وجسمانيّها غضبيّها وشهويّها ونفسانيّها ، فإنّها أحدية جمع كثرة متشاجرة أي متمازجة مختلطة .

والجاريتان صورتا قوّة الإيمان والهمّة ، وهما من نتائج القوى القلبية الجامعة بين خصائص القوى الروحية والقوى الطبيعية ، فافهم هذه الحكم أيضا ، فإنّها من مشرب الخضر المحمّدي ، والله الموفّق .

قال رضي الله عنه  : ( قال الخضر "هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ " ولم يقل له موسى : لا تفعل ، ولا طلب صحبته ، لعلمه بقدر الرتبة التي هو فيها التي نطَّقته بالنهي عن أن يصحبه ، فسكت موسى ووقع الفراق ، فانظر إلى كمال هذين الرجلين في العلم وتوفية الأدب الإلهيّ حقّه ، واتّصاف الخضر فيما اعترف به عند موسى ، حيث قال : أنا على علم علَّمنيه الله ، لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علَّمكه الله لا أعلمه أنا ، فكان هذا الإعلام من الخضر لموسى دواء لما جرحه به في قوله :" وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً " مع علمه بعلوّ رتبته بالرسالة ،
وليست تلك الرتبة للخضر ، فظهر ذلك في الأمّة المحمدية في إبار النخل ، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابه : « أنتم أعلم بمصالح دنياكم » ولا شكّ أنّ العلم بالشيء خير من الجهل ، ولهذا مدح الله نفسه بأنّه بكل شيء عليم ، فقد اعترف صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابه بأنّهم أعلم بمصالح الدنيا منه ، لكونه لا خبرة له بذلك ، فإنّه علم ذوق وتجربة ، ولم يتفرّغ صلَّى الله عليه وسلَّم لعلم ذلك ، بل كان شغله بالأهمّ فالأهم ، فقد نبّهتك على أدب عظيم تنتفع به إن استعملت نفسك فيه ) .

قال العبد أيّده الله به : اعلم : أنّ الخضر صلوات الله عليه صورة الاسم « الله » الباطن ، وله علوم الولاية والقرب والغيب ، وأسرار القدر ، وعلوم الهوية والإنيّة ، والعلوم اللدنّية والأسرار ، ولهذا محتد ذوقه الوهب والإيتاء ،
قال الله تعالى - : " فَوَجَدا عَبْداً من عِبادِنا آتَيْناه ُ رَحْمَةً من عِنْدِنا وَعَلَّمْناه ُمن لَدُنَّا عِلْماً " وكما كان يشير إلى ذلك في كلماته الكاملات لموسى بقوله :" فَأَرادَ رَبُّكَ "  فوحد وعين إنية الربوبية ، وأخبر عن الإرادة الربانية الباطنة ،
وقال :"فَأَرَدْتُ "  فعيّن وقيّد ، وأخبر عن تعيين علمه وتخصيص إرادته بعض ما في باطنه ،
وقال :" فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْه ُ زَكاةً " فجمع في الكناية ، وهو عين التوحيد وأحدية الإرادة والتصرّف والعلم عن ذوق وخبرة ، و
كل ذلك إشارة منه صلَّى الله عليه إلى أسرار البطون والغيب وخفّيات الغيبة وأسرار المشيّة وسرائر الإرادة .

وأمّا موسى عليه السّلام فصورة الاسم « الظاهر » ، وله الرسالة والنبوّة وعلوم التشريع من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والحكم بالظاهر ، ولذلك معجزاته في كمال الظهور والوضوح ، فلمّا أراد الله تكميل موسى بالجمع بين التجليات الظاهرة والباطنة وعلوم النبوّة وما في استعداده من علوم الولاية ،
وكان موسى قد ظهر بدعوى بين قومه أنّه أعلم أهل الأرض وذلك في ملأ من بني إسرائيل ، فأوحى الله إلى موسى ، بل عبد لنا بمجمع البحرين - أي بين بحرى الوجوب والإمكان ، أو بحر الظاهر وبحر الباطن ، أو بحر النبوّة وبحر الولاية  ،

فاستحى موسى من دعواه ، فسأل الله أن يقدّر الصحبة بينهما واستأذن في طلب الاجتماع به ، حتى يعلَّمه ممّا علَّمه الله ، فلو آثر صحبة الله وأخذ العلم منه من طريق الولاية ، من حيث إنّ كلّ نبيّ وليّ وأنّ الولاية باطن النبوّة ، لأغناه الله عن اتّباع الخضر ،
ولكنّه آثر صحبة الله المتجلَّي من الحضرة الخضرية والتجليات الباطنة الخفية والأسرار العليّة الإلَّيّة الحقّية ، فلمّا وقع الاجتماع ، ظهر النزاع لما بين الظهور والبطون من المباينة والمغايرة ،
وبعد حصول ما أراد الله إيصاله إلى موسى من ذلك في صحبة الخضر - صلى الله عليهما - كما بيّنّا ، وقع الفراق ،
لأنّ الظاهر - من كونه ظاهرا - يفترق من الباطن من كونه باطنا ولا بدّ ، ولنا بحمد الله من المقام الخضري والمقام الموسوي من الوارث المحمدي حظَّ وافر ، والحمد لله الأوّل والآخر الباطن الظاهر .

وقوله رضي الله عنه  : ( فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً " يريد به الخلافة   " وَجَعَلَنِي من الْمُرْسَلِينَ " يريد به الرسالة ، فما كل رسول خليفة ، والخليفة صاحب السيف والعزل والولاية ، والرسول ليس كذلك ، إنّما عليه بلاغ ما أرسل به ، فإنّ قاتل عليه وجاء بالسيف فذلك الخليفة الرسول ، فكما أنّ ما كلّ نبيّ رسولا ، فكذلك ما كلّ رسول خليفة ، أي ما أعطي الملك ولا الحكم فيه .
وأمّا حكمة سؤال فرعون عن الماهية الإلهية فلم يكن عن جهل ، وإنّما كان عن اختبار ، حتى يرى جوابه مع دعواه الرسالة عن ربّه ،  وقد علم فرعون مرتبة المرسلين في العلم ، فيستدلّ بجوابه على صدق دعواه ، وسأل سؤال إيهام من أجل الحاضرين ، حتى يعرّفهم من حيث لا يشعرون بما شعر هو في نفسه فإذا أجابه جواب العلماء بالأمر ،
أظهر فرعون إبقاء لمنصبه : أنّ موسى ما أجابه على سؤاله ، فتبيّن عند الحاضرين - لقصور فهمهم - أنّ فرعون أعلم من موسى ، ولهذا لمّا قال له في الجواب ما ينبغي وهو في الظاهر غير جواب على ما سئل عنه وقد علم فرعون أنّه لا يجيبه إلَّا بذلك فقال لأصحابه :" إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ " .
 أي مستور عنه علم ما سألته عنه ، إذ لا يتصوّر أن يعلم أصلا ، فالسؤال صحيح ، فإنّ السؤال عن الماهية ، سؤال عن حقيقة المطلوب ، ولا بدّ أن يكون على حقيقة في نفسه لا يكون لغيره ، فالسؤال صحيح .
وأمّا الذين جعلوا الحدود مركَّبة عن جنس وفصل ، فذلك في كل ما يقع فيه الاشتراك ، ومن لا جنس له لا يلزم أن لا يكون على حقيقة في نفسه لا تكون لغيره ، فالسؤال صحيح على مذهب أهل الحق والعلم الصحيح والعقل السليم ) .

يشير رضي الله عنه  إلى فساد ما تقرّر في نفوس الجمهور أنّ سؤال فرعون بقوله :
“ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ “ غير صحيح ، لأنّه سؤال عن الماهية وهي على ما زعموا مركَّبة عن جنس وفصل فالسؤال غير صحيح وليس كما زعموا فإنّ الماهية مركَّبة عن جنس وفصل فيما من شأنه أن يدخل تحت الجنس والفصل ،
والموجود الذي لا يدخل تحت جنس وفصل لا يلزم أن لا يكون له حقيقة غير داخلة تحت الجنس ، والفصل ، ويسأل عن ماهيته وحقيقته ،

فإنّ السؤال عن الماهية هو السؤال عن الحقيقة ، ولا شكّ أنّ ربّ العالمين له حقيقة في نفسه ، وإلَّا لزم أن لا يكون له حقيقة وهو باطل بالضرورة ، فله حقيقة في نفسه ، ولكن لا تعلم ولا تعرف ، فلا يعرّف ، ونفس عدم دخوله تحت  الجنس والفصل يميّزه ويخصّصه ، فإنّ عدم العلامة علامة من لا علامة له ، ولا بدّ أنّ يكون لله حقيقة ، فالسؤال صحيح عن الحقيقة ، ولا يلزم أن يكون داخلا تحت جنس وفصل .
ويجاب عن ذلك أيضا بما يشترك فيه مع غيره من اللوازم الكلية العامة ، وبما يختصّه وينفرد به ، فكان سؤال فرعون صحيحا ، وجواب موسى أيضا صحيحا ، فإنّ سؤاله كان عن حقيقة ربّ العالمين .

ولكنّ الجواب عن هذا لا يكون إلَّا ببيان المضاف إليه ، فإنّ الربوبية معلومة لهم ، والربّ من الأسماء المضافة ولا يرد إلَّا مضافا ، وكان فرعون يقول :" أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى " فكان يضيف إليهم ربوبيته العرضية ،
فلزم أن يعرف المضاف إليه في الجواب ، فيتحقّق امتياز ربوبية هذا الربّ عن ربوبية غيره ممّا توهّموا فيه الربوبية ، فقال في الجواب :" رَبُّ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا "

 يعني : هذا الربّ ربوبيته محيطة كلَّية عامّة في كل ما هو موجود في السماوات العلويات والأرضين السفليات ،
ولمّا كان المتداول عندهم في التعريفات بيان الجنس والفصل ، ولم يقع الجواب على ذلك النهج ، أو هم فرعون الحاضرين بموجب ما كان مستقرّا في نفوسهم أنّ جواب موسى غير مطابق لسؤال فرعون .

قال رضي الله عنه  : ( والجواب عنه لا يكون إلَّا بما أجاب به موسى وهنا سرّ كبير ، فإنّه أجاب بالفعل لمن سأل عن الحدّ الذاتي ، فجعل الحدّ الذاتيّ غير إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم ، أو ما ظهر فيه من صور العالم فكأنّه قال )
يعنى ذلك الجواب ، وهو ربّ السّموات والأرض وما بينهما « له في جواب قوله :" وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ". قال : الذي يظهر فيه صور العالم " أي بالمربوبية"  .

 
قال رضي الله عنه  :  ( من علو وهو السماء ، أو سفل وهو الأرض  " إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ " أو يظهر هو بما ) يعني بالربوبية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلمّا قال فرعون لأصحابه : إنّه "لَمَجْنُونٌ "  كما قلنا في معنى كونه مجنونا ، زاد موسى في البيان ليعلم فرعون رتبته في العلم الإلهي ، لعلمه بأنّ فرعون يعلم ذلك ،
فقال :  " رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ " فجاء بما يظهر ويستر وهو الظاهر والباطن وما بينهما وهو قوله : " بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " ،  "إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ " أي إن كنتم أصحاب تقييد ، إذ العقل تقييد ، فالجواب الأوّل جواب الموقنين ، وهم أهل الكشف والشهود بالوجود ،
فقال :  "إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ " أي أهل كشف ووجود ، فقد أعلمتكم بما تيقّنتموه في شهودكم ووجودكم ، وإن لم تكونوا من هذا الصنف فقد أجبتكم في الجواب الثاني إن كنتم أهل عقل وتقييد وحصر ، ثم الحق فيما تعطيه أدلَّة عقولكم ، فظهر موسى بالوجهين ، ليعلم فرعون فضله وصدقه) .

يشير رضي الله عنه  إلى أنّ الجواب الأوّل على مقتضى الكشف والشهود ، فإنّه أعلم في ذلك أنّ الجواب عن الحقيقة والماهية - مع قطع النظر عن الإضافة - محال ،
فإعراضه بالفعل عن التصدّي للجواب عن السؤال بالماهية إعلام تامّ بأنّه مطلق عن كل قيد وحدّ ، ولا يدخل تحت حدّ بجنس وفصل ، لاستغراقه الكلّ ،
وعدل إلى بيان حقيقة الربوبية المضافة ببيان المضاف إليه ، بأنّه هو الذي له ربوبية العالمين ، وهو عالم الأرواح العالية والأجسام السافلة ، وربّ ما علا وما سفل من الأجسام أي الظاهر بربوبيته في العالمين ، والباطن بهويته ،
لكونها عين العالمين وما بينهما من الأسماء والصفات والنسب والإضافات .


والجواب الثاني بما ظهر من عالم الأجسام والخلق ، وما بطن عالم الأرواح والعقول ،
 وما بين الظاهر والباطن من التعينات الجامعة بين الأرواح والأجسام ، فإنّ المشرق للظهور ، والمغرب للبطون ،
والحق هو الظاهر المتعيّن بجميع ما ظهر بإشراق نوره وإطلاق ظهوره ، وهو الباطن المتعيّن بجميع ما بطن في غيب عينه وعين حضوره ،
وأهل التقييد والتحديد إمّا أن قيّدوه بالتشبيه بالأجسام الظاهرة ،
فيقولون : إنّه جسم مطلق أو مقيد ، أو ينزّهوه فيحدّوه ويقيّدوه بتمييزه عن الأجسام وكانوا حينئذ في عين التشبيه بالعقول والمجرّدات مع تنزيههم العقلي في زعمهم والوهمي في نظر أهل التحقيق والكشف ،
فلهذا قال : " إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ " أي أهل عقل وتقييد .

 
قال رضي الله عنه  : ( وعلم موسى أنّ فرعون يعلم ذلك ، لكونه سأل عن الماهية ، فعلم أنّ سؤاله ليس على اصطلاح القدماء في السؤال بـ « ما هو » لكونهم لا يجيزون السؤال عن ماهية ما لا حدّ له بجنس وفصل ، فلمّا علم موسى ذلك ،
أجاب ، فلو علم منه غير ذلك ، خطَّأه في السؤال ، فلمّا جعل موسى المسؤول عنه عين الكلّ ، خاطبه فرعون بهذا اللسان الكشفي والقوم لا يشعرون ،
فقال له :" لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ من الْمَسْجُونِينَ " والسين في " السجن " من حروف الزوائد أي لأسترنّك ، فإنّك أجبت بما أيّدتني به أن أقول لك مثل هذا القول .
فإن قلت لي : فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إيّاي والعين واحدة ، فكيف فرّقت ؟
فيقول فرعون : إنّما فرّقت المراتب العين ، ما تفرّقت العين ولا انقسمت في ذاتها ، ومرتبتي الآن الحكم فيك يا موسى بالفعل ، وأنا أنت بالعين ، وغيرك بالرتبة ، فلمّا علم ذلك موسى منه ، أعطاه حقّه في كونه يقول له : لا تقدر على ذلك ، والرتبة تشهد له بالقدرة عليه وإظهار الأثر فيه ، لأنّ الحق في رتبة فرعون من الصورة الظاهرة ، لها التحكَّم على المرتبة التي كان فيها ظهور موسى في ذلك المجلس ، فقال له يظهر له المانع من تعدّيه عليه :" أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ " فلم يسع فرعون إلَّا أن يقول له :   " فَأْتِ به إِنْ كُنْتَ من الصَّادِقِينَ " حتى لا يظهر فرعون عند الضعفاء الرأي من قومه بعدم الإنصاف ، فكانوا يرتابون فيه، وهي الطائفة التي استخفّها فرعون" فَأَطاعُوه ُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ"
 أي خارجين عمّا تعطيه العقول الصحيحة من إنكار ما ادّعاه فرعون باللسان الظاهر في العقل ، فإنّ له حدّا يقف عنده إذا جاوزه صاحب الكشف واليقين ،
ولهذا جاء موسى بالجواب بما يقبله المؤمن والعاقل خاصّة "فَأَلْقى عَصاه ُ " وهي صورة ما عصى به فرعون موسى في إبائه عن إجابة دعوته ،   "فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ " أي حيّة ظاهرة ، فانقلبت المعصية التي هي السيّئة طاعة أي حسنة ،
كما قال : " يُبَدِّلُ الله سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ " يعني في الحكم ، فظهر الحكم هنا عينا متميّزة في جوهر واحد ، فهي العصا وهي الحيّة والثعبان الظاهر فالتقم أمثاله من الحيّات من كونها حيّة والعصا من كونها عصيّا  ،
فظهرت حجّة موسى على حجج فرعون في صورة عصيّ وحيّات وحبال ، فكانت السحرة الحبال ، ولم يكن لموسى حبل ،
والحبل : التلّ الصغير ، أي مقاديرهم بالنسبة إلى قدر موسى بمنزلة الحبال من الجبال الشامخة ، فلمّا رأت السحرة ذلك علموا رتبة موسى في العلم ، وأنّ الذي رأوه ليس من مقدور البشر ، وإن كان من مقدور البشر ، فلا يكون إلَّا ممّن له تميز في العلم المحقّق عن التخييل والإيهام ، فآمنوا بربّ العالمين ، ربّ موسى وهارون .
أي الربّ الذي يدعو إليه موسى وهارون - بعلمهم بأنّ القوم يعلمون أنّه ما دعا لفرعون ، فلمّا كان فرعون في منصب التحكَّم صاحب الوقت ، وأنّه الخليفة بالسيف  وإن جار في العرف الناموسي - لذلك قال الشيخ رضي الله عنه :  :"أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى ".
أي وإن كان الكلّ أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم .
ولمّا علمت السحرة صدقه في مقاله ، لم ينكروه وأقرّوا له بذلك فقالوا له :" إِنَّما تَقْضِي هذِه ِ الْحَياةَ الدُّنْيا " ،   " فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ" فالدولة لك فصحّ قوله : « أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى » وإن كان عين الحق ، فالصورة لفرعون ، فقطع الأيدي والأرجل ، وصلب بعين حقّ في صورة باطل لنيل مراتب لا تنال إلَّا بذلك الفعل ، فإنّ الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها).

قال العبد : يشير رضي الله عنه  في كل ذلك إلى الربوبيات العرضية المبثوثة في كلّ من أعطاه الله تصرّفا ، فكل من كان تصرّفه وحكمه في الظاهر أتمّ وأعمّ ، فربوبيّته كذلك أعمّ وأتمّ ، فإنّ الربّ لغة هو المالك . وقيل : هو السيد ، والربّ هو المربّي .
والمالك يتصرّف في ملكه بما أراد ، والسيد يحكم بسيادته على العبيد بما يبقى له عليهم السيادة ولهم العبودية له ،

وهو كما يقال : ربّ الدار ، وربّ الخاتم ، وربّ الثوب ، وربّ القرية والمدينة ، وهو اسم إضافى أبدا ، وإذا عرّف بلام التعريف والعهد يكون مدلوله ربّ العالمين وربّ الأرباب ، فلم يبرح عن الإضافة في المعنى .
وهذه النسبة أعني الربوبية لعين واحدة ظاهرة بصور كثيرة شتّى وهي بعينها تربّي وتربّ وتصلح صورها التي هي لها مجال ومراء ومحالّ ظهور وتراء ، والربّ له خمسة معان ، فإنّه المالك ، والسيد ، والثابت ، والمصالح ، والمربّي ، والعين الأحدية الظاهرة بحقيقتها في كل صورة بقدر قابليتها –
لها أحدية جمع جميع هذه المعاني كلَّها ، فإنّها مالكة الصور المشهودة منها ، فهي لها ، ولها أيضا السيادة على الكلّ جميعا وعلى كل عين عين منها ما يخصّها ، فإنّها عين هذه الأعيان الظاهرة بصور الكلّ ،

وهي أيضا تصلحها بما تصلح لها وتربّيها وتغذّيها ، فتغذّى الصور بأعيانها المتعيّنة بها وفيها ، وتغذّى  الأعيان بالأحكام والآثار والأفعال والأحوال والنسب والإضافات والأسماء والصفات الخصيصة بها جمعا وفرادى ،

وتغذّي وتربّي المجموع بالفيض الأحديّ الجمعي النفسي الذي هو مادّة هذه الصور كلَّها وهيولاها ، وهي الثابتة في عينها لعينها ، فالثبات للعين فيها لا لها إلَّا بها وفيها ، إذ الصور والنسب والتعينات والظهور أعراض لا تبقى زمانين ، والتحقّق والثبوت للعين في الكلّ .
فلمّا كان فرعون صاحب الوقت وربّ السيف في الكلّ ، والربوبية ظهورها فيه أكثر ، لتحكَّمه فيهم جميعا ظاهرا فقال بلسان الحق - الذي أنطق كلّ شيء ، ونطق بألسنة كل ميت وحيّ ، في صورة هداية وغيّ ، إشارة إلى العين الظاهرة المتعيّنة بصورة فرعون وفيها ، وهو عين الحق في صورة من صور الباطل :" أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى " أي ربوبيتى أعلى من ربوبيّتكم ، والعين - الظاهرة في صورتي بربوبية أعلى أعلى وأجلى ، وصدق في كون ربوبيّته أعلى من ربوبية غيره في ملئه 
كما أشار إلى هذا المقام الشيخ أبو مدين البجائيّ :
لا ينكر الباطل في طوره   .... فإنّه بعض ظهوراته
وأعطه منك بمقداره     .... حتّى توفي حقّ إثباته .
وقلنا في تتمّتها :
فالحق قد يظهر في صورة   .... ينكرها الجاهل في ذاته.

 .
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:18 pm

25 - فصّ حكمة علويّة في كلمة موسوية الجزء الثالث .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
 25 - فصّ حكمة علويّة في كلمة موسوية
ثمّ اعلم يا أخي :  أنّ المحاجّة والمباحثة الواقعة بين فرعون وموسى ضرب مثل ضربها الحقّ في الشاهد لصور المحاجّة والمخاصمة الواقعة بين الروح العقلي الإنساني المويّد من الله وبين الهوى النفسي الطبيعي والأنانية التعينية الحجابية ،
فإنّ طاغوت الهوى وفرعون صنميّة الحجاب التعيّنيّة الصورية يدعو إلى الربوبية العرضية المقيّدة بمصر الطبيعة الشهوية ، والقوى الحيوانية الغضبيّة والقوى النفسانية الفكرية المنصبغة بأحكام الشهوة والغضب ، والشهوة تساعدها وتعاضدها ،
 
والروح العقلي الإلهي المؤيّد بنور الله ، يدعو إلى الله الواحد الأحد في عين ما تكثّر وتعدّد ، وقد علمت فيما سلف أنّ كلَّا منها صور ماذا ؟
فطابق بها بين الكلّ في جميع المحاجّات والمخاصمات الواقعة بين فرعون وموسى وبين العقل والهوى ، تعثر على حقائق عزيزة ، إن شاء الله تعالى .
 
والسحرة صور القوى النفسانية والروح النفسانيّ ، المنصبغة بحكم الهوى وقوّتي الشهوة والغضب ، المنحرفة إلى خصائص الروحين : الطبيعي والحيواني ، فإنّ قوى الروح النفساني إذا تكيّفت بكيفيات هاتين القوّتين وانصبغت بصبغة أحكامهما ، صاغت صور الباطل في صيغة الحق ، وأظهرت الشبه الكاذبة في صور الحجج الصدق ، فخيّلت وأوهمت بما لا حقيقة له ، وادّعت الحكم والربوبية للهوى كما قالت السحرة في أوّل الدعوى :" بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ " فانقادت للهوى وخضعت ، فأسرها الهوى ، واستعملها فيما يشاء ويهوى ، فقطع أيديهم - أي قواهم العلوية الروحية - وأرجلهم أي قواهم الساعية بموجب العقل والشرع في تعمير المملكة الهيكلية .
 
ثمّ الروح العقلي الإنساني إذا تأيّد بربّه وتجلَّى له الحق - بعد التحقّق بالحق المستوي على أحدية جمع شعب قلبه واستعمال أعضائه الثمانية بحكم الإيمان وشعبها النورانية ، طلبا للأجر والثواب القلبي الأحدي الجمعي ،
وسيّره بأهله مع ما أصحبه من فضله من مدين القلب إلى شاطئ الوادي الأيمن الروحي الإلهي والتجلَّي النوري الأحدي الجمعي في صورة التفرقة النارية بأنّه هو الواحد الأحد في كثرة لا تتناهى من العدد - أعطاه الله صورة الاستقامة على شهوده في صورة العصا الذي عصى به أوّلا فرعون الهوى ،
واتّبع سبيل الهدى بصورة الإيمان والاستقامة والتأييد الذي كان يتوكَّا عليها - أي يعتمد بالإيقان الذي كان يعتقد - ويهشّ بها على غنمه من القوى الإلهية التي بها  أيّده الله وهو عين ما عصى فرعون موسى آخرا حين دعاه إلى الاستقامة على عبادة الله والإقلاع عن الربوبية العرضية ، وهو دعوة الروح الإنساني العقلي للهوى النفسي إلى أن يكون تبعا للعقل المؤيّد من عند الله في عبادة الله ، فيكون هواه في الله وبالله ولله .
 
لا تقع الإجابة إلَّا عند غرق الهوى في بحار الكشف وأمواج التجلَّي ، فيظهر له سلطان أحدية العين بعين بطلان الربوبية العرضية الموجبة للفرق والبين ، كما آمن فرعون عند الغرق بربّ العالمين ، ربّ موسى وهارون ، فيقول لهوى الربوبية العرضية لسان أحدية العين عند شهود عين اليقين :  " آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ من الْمُفْسِدِينَ " أي الآن رجعت إلى الحق وأسلمت حين أشرفت على الهلاك وأسلمت ، فاليوم لا بدّ أن تغرق ببحر الربوبية العامّة الكلَّية ،
فيقول لسان حال الربوبية العرضية القائمة بصورة الهوى الطبيعي الذي فرعون مصر صورته وتمثاله - : أجل ، قضيت أجلي الذي أجّلت وأمهلت وما عجّلت ،
فلمّا انقضى الأجل وانتهى الأمل وانقطع العمل ، فإليك المصير ، وكان فيك وبك ولك وإليك المسير فاستغرقني ببحار رحمتك ، فقد آمنت وأسلمت ،
ونجّني من صور الحجاب التعيّني ، وآمنّي ، فقد استجرت واستسلمت فيقول بلسان الربوبية المستغرقة لربوبيات الأرباب ربّ العالمين :  " فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً "
فإذا غرّقت أنانيّتك في بحر إنّيتي ، فقد بلغت الغاية وانتهيت إلى النهاية ،
وقبل هذا عند اجتماع الروح العقلي مع فرعون الهوى ، لا بدّ أن يظهر الهوى بصورة الربوبية العرضية الأولى ويقهر من دونه وقبله من قبيله بدعوى  " أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى " ويكون حينئذ معه خطاب موسى الروح العقلي الإلهي ودعوته إلى الربوبية المطلقة المستغرقة لربوبية الأرباب التي تحت حيطة الاسم « الظاهر » الإلهي ، 
فيقول للهوى : إنّي إليك رسول ربّ العالمين ، فيدعوه إلى ربّ الأرباب ، والربوبية المحيطة المستغرقة لربوبيته العرضية في جملة العالمين ، فيقول فرعون الهوى :" وَما رَبُّ الْعالَمِينَ "؟
لا على طريقة السؤال الآبق "اللائق" عن تلك الحقيقة المطلقة اختيارا منه لغرض عرض له واختبارا لا جهلا واستحقارا ، بل اعتبارا واستبصارا ،
إذ السؤال عن الماهية إنّما يتأتّى ويجوز فيما يكون له ماهية متميّزة عن غيرها ، فيكون تحت جنس أو فصل ،
والحقيقة المطلقة الربوبية في العالمين تتعالى عن مثل هذا السؤال ، وتجلّ عن الضدّ والندّ والمثال ، فيقول الروح العقلي للهوى في جوابه :" رَبُّ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ " .
 مبيّنا تفصيل مظاهر حقيقة الربوبية المطلقة الكلَّية العامّة في العالمين ،
فيوهم فرعون الهوى آله من قوى الطبيعة والحيوانية أنّه لم يجب بما يطابق سؤاله ، إذ لم يجب بما يبيّن الماهية الإلهية الربانية ، بل بيّن المضاف إليه كما ذكرنا .
فيقول الهوى :" إِنَّ رَسُولَكُمُ " أي الروح العقلي الإلهي المرسل بالتجلَّي " الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ "  أي مستور عنه ربوبيّتي الظاهرة في الوقت ، فيدعو إلى غيري ولا إلى عيني .
 
فزاد موسى الروح العقلي الكشفي إرداعا له وإفحاما لا إحجابا وإبهاما  " رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ " أي ربّ ما ظهر وما بطن ، فإنّك ما تدعو إلَّا إلى ما تدّعي من الربوبية الظاهرة الجزئيّة العرضيّة في المملكة الهيكلية ، وأنا أدعوك إلى حقيقة الربوبية الحقيقيّة القائمة بما ظهر وما بطن " إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ " أي تقيّدون الظاهر بحدوده الظاهرة أو تقيّدون الباطن بحدوده  الباطنة ، وأنّ ما أدعو إليه أتمّ وأكمل وأعمّ وأشمل فانظر ما ذا ترى ، فإنّه ربّ ما فوق السماوات العلى وما تحت الثرى .
فيقول له فرعون الهوى ما يقول وما يؤول أمره إلى ما يؤول .
 
وأما هارون فصورة الروح من حيث القوى الناطقة التي هي بمثابة الأخ للقوّة العاقلة وهي أكبر سنّا من القوّة العاقلة الإلهية الكشفية ، لأنّ النطق العرفي بحكم العادة  والعقل المعيشي يكون قبل النطق بموجب الحكمة الإلهيّة والعقل المؤيّد بنور الكشف والتجلَّي ، والقوّة العاقلة في النبوّة وإدراك الحقائق أكبر من القوّة الناطقة بالأصالة ، فإنّ النطق لا يكون إلَّا بالعقل ، ولكنّها أفصح منها لسانا ، لأنّها المترجمة عن القوّة العاقلة .
 
وأمّا هامان فنظير القوّة الشهوية للروح الطبيعي ، لها الوزارة عن الروح الحيواني الذي له الاستيلاء والغلبة ، فإنّ الغلب للغضب والروح الطبيعي بناء هذه البنية الهيكلية ، كما أشار إليه بقوله - تعالى - حكاية عن فرعون :" يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً "  أي أنشئ لي مزاجا خاصّا وهميا عاليا يعطي الاطَّلاع على ما يخبر عنه وينبئ الروح العقلي .
 
ثم لمّا تبيّنت لقوى النفسانية المنصبغة بحكم الهوى والشهوة والغضب ، المظهرة للباطل والكمالات الوهمية في صورة الحق التي صوّرها السحرة  أنّ الروح العقلي الإلهي قد تأيّد وأنّه هو الحق الظاهر بالحق الباطن فآمنوا وأقلعوا عن عادة الهوى ، واتّبعوا الهدى واجتنبوا في اتّباع القوى الحيوانية والطبيعية الردى ، فاستسلموا لأمر الله ، وانقادوا لحكمه ، فقطعت أيدي تصرّفاتهم وأرجل مساعيهم إلى طلباتهم التي كانت مطلقة بأمر فرعون الهوى ، فكان الله إذ ذاك عن أيديهم وأرجلهم وألسنتهم ، فنطقوا بالحقّ : إنّا آمنّا بربّنا ربّ الروح الإلهي المؤيّد بالتجلَّي ، ليغفر لنا خطايانا التي تخطَّينا إليها في طاعة الهوى وما أكرهتنا عليه من السحر ، وهو ستر الحق في صورة الباطل ، والظهور بالباطل في صورة الحق ، والله خير وأبقى ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( فقطع الأيدي والأرجل وصلب بعين حقّ في صورة باطل ، لنيل مراتب لا تنال إلَّا بذلك الفعل ، فإنّ الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها ، لأنّ الأعيان الثابتة اقتضتها ، فلا تظهر في الوجود إلَّا بصورة ما كان عليه في الثبوت ، إذ لا تبديل لكلمات الله ، وليست كلمات الله سوى أعيان الموجودات ، فينسب إليها التقدّم من حيث ثبوتها ، وينسب إليها الحدوث من حيث وجودها وظهورها  ) .
"" أضاف المحقق :
"كلمة التقدم والصحيح القدم"  و"من قوله: «فقطع» إلى قوله: «تعطيلها» مرتّ في المتن السابق. ""
يعني وجودها النسبيّ من حيث التعيّن ، فإنّ متعلَّق الحدوث الظهور والتعيّن لا غير .
 
قال رضي الله عنه  : ( كما تقول : حدث اليوم عندنا إنسان أو ضيف ولا يلزم من حدوثه أنّه ما كان له وجود قبل هذا الحدوث ، لذلك قال الله - تعالى - في كلامه العزيز ، أي في إتيانه مع قدم كلامه :  " ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوه ُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ " ، " وَما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْه ُ مُعْرِضِينَ " والرحمة  "يعني القرآن" لا يأتي إلَّا بالرحمة ، ومن أعرض عن الرحمة استقبل العذاب الذي هو عدم الرحمة ،
وأمّا قوله :" فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبادِه " ، " إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ " فلم يدلّ ذلك على أنّه لا ينفعهم في الآخرة ،
بقوله في الاستثناء   " إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ "فأراد أنّ ذلك " يعنى الإيمان" لا يرفع عنهم الأخذ في الدنيا ، فلذلك أخذ فرعون مع وجود الإيمان منه ، هذا إن كان أمره أمر من تيقّن بالانتقال في تلك الساعة ، وقرينة الحال تعطي أنّه ما كان على يقين من الانتقال ، لأنّه عاين المؤمن في الطريق اليبس الذي ظهر بضرب موسى بعصاه البحر ، فلم يتيقّن فرعون بالهلاك إذا آمن ، بخلاف المحتضر ، حتى لا يلحق به ) .
يعني : لا يلحق بالمحتضر الذي يؤمن بعد تيقّنه بالهلاك .
( فآمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل على التيقّن بالنجاة ، فكان كما تيقّن ، لكن على غير الصورة التي أراد ، فنجّاه الله من عذاب النار  في نفسه ونجّى بدنه ،
كما قال : " فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً " لأنّه لو غاب بصورته ربما قال قومه
احتجب ، فظهر بالصورة المعهودة ميّتا ، ليعلم أنّه هو ، فقد عمّته النجاة حسّا ومعنى.)
 
يعني رضي الله عنه  : أنّ المخاطب في قوله :" فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ " إن كان روحه ونفسه ، فمقتضى الآية أنّه بروحه منجّى .
وإن كان المخاطب مجموع الصورة والروح ، فكذلك ليتناول الخطاب المجموع ، وعلى التقديرين وعد من الله وإخبار منه بأنّه ينجّيه ، ووعد الله حق ، وإخباره صدق ، فقد عمّته النجاة جسما وروحا .
 
قال رضي الله عنه  : ( ومن حقّت عليه كلمة العذاب الأخراوي لا يؤمن ، ولو جاءته كلّ آية ، حتى يروا العذاب الأليم ، أي يذوقوا العذاب الأخراوي ، فخرج فرعون من هذا الصنف .
هذا هو الظاهر الذي ورد به القرآن
ثم إنّا نقول بعد ذلك : والأمر فيه إلى الله ، لما استقرّ في نفوس عامّة الخلق من شقائه ، وما لهم نصّ في ذلك مستندون إليه .  وأمّا آله فلهم حكم آخر ليس هذا موضعه .
ثمّ لتعلم أنّه ما يقبض الله أحدا إلَّا وهو مؤمن أي مصدّق بما جاء به الأخبار الإلهية ، وأعني من المحتضرين ، ولهذا يكره موت الفجاة وقتل الغفلة ، فأمّا موت الفجأة فحدّه أن يخرج النفس الداخل ولا يدخل النفس الخارج ، فهذا موت الفجأة ، وهذا غير المحتضر ،
وكذلك قتل الغفلة بضرب عنقه من ورائه وهو لا يشعر ، فيقبض على ما كان عليه من إيمان وكفر ، ولذلك قال عليه السّلام : ويحشر الناس على ما هو عليه مات ، كما أنّه يقبض على ما كان عليه .
والمحتضر ما يكون إلَّا صاحب شهود ، فهو صاحب إيمان بما ثمّ فلا يقبض إلَّا على ما كان عليه ، لأنّ « كان » حرف وجودي لا ينجرّ معه زمان إلَّا بقرائن الأحوال ، فيفرق بين الكافر المحتضر في الموت وبين الكافر المقتول غفلة أو الميت فجأة ، كما قلنا في حدّ الفجأة . )
 .
يشير رضي الله عنه  إلى بشارة عظيمة لمن احتضر من الكفّار والمشركين ولا محجوبين بأنّهم يشاهدون الملائكة وأمارات الآخرة ، فيؤمن بحكم ما يشهد ولا بدّ ، ولكن قد يكون إيمانه حال الغرغرة ، والله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ، والمؤمن منهم عند الغرغرة أمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء أخذ ،
والميت فجأة والمقتول غفلة من الكفّار يقبض على ما كان عليه في آخر نفسه كفرا كان أو إيمانا ويحشر على صورة خاطره إذ ذاك ، والمحتضر من الكفّار بخلافهما ،
وأمّا فرعون غير داخل فيهم ، فإنّه مؤمن قبل الغرغرة ، راج للنجاة من عذاب الغرق ولات حين مناص .
 
قال رضي الله عنه  : ( وأمّا حكمة التجلَّي والكلام في صورة النار فلأنّها كانت بغية موسى ، فتجلَّى له في مطلوبه ليقبل عليه ولا يعرض عنه ، فإنّه لو تجلَّى له في غير صورة مطلوبه أعرض عنه لاجتماع همّه على مطلوب خاصّ ، ولو أعرض لعاد عمله عليه ، فأعرض عنه الحق وهو مصطفى مقرّب ، فمن قربه أنّه تجلَّى له في مطلوبه وهو لا يعلم .
كنار موسى يراها حين حاجته  ... وهو الإله ولكن ليس يدريه)
 
قال العبد : النار أعظم الأسطقسّات وأقواها ، ولا يفارق النور صورة النار ، إذ لها الإشراق وكمالها الإحراق ، وهي تفني ما سواها من الأشكال والمولَّدات إذا قربت وسلَّطت عليه ، ولها من الحقائق الإلهية التجلَّي الإراديّ والحبّ الإلهي ، وكان الغالب على التجلَّيات الكلامية التي أوتيها موسى عليه السّلام من حضرة المحبّة والمشيّة ، ومستند الحقيقة الكلامية أيضا هي الإرادة ، فإنّ الكلام مظهر السرّ الإرادي ومظهر ما أحبّ المتكلَّم إيجاده من صور سبب علمه ، وقال الله تعالى لموسى :" وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي " .
 والآية تحتمل الوجهين في المحبّة :
أحدهما : أن يكون الحق ألقى محبّته عليه وأحبّه .
والثاني : ألقى محبّة الحق في قلبه وسلَّطها عليه ، فأحبّ موسى الحق .
 
وأيضا في قوله : " وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى فكان طالبا رضى الله ، ومحبّا لمحبّته إيّاه .
وأيضا كان شهوده الغالب عليه في آخر أمره ، وكماله شهود الوحدة - التي هي عين الكثرة - خارجة عنها ، وشهود الكثرة في وحدة العين كثيرة ،
ولذلك كان التجلَّي في الصورة النارية وهو النور ونور الوحدة الجمعية التي في نار التفرقة وكان متعلَّق نظره الفرق في الجمع ، ولهذا أوتي الفرقان ،
وتجلَّى له نور الواحد في نار الكثرة وعين مطلوبه من الشجرة وهو صورة التفرقة التفصيلية الفرقانية بين المتشاجرات المتخالفات في عين الوفاق ،
كاختلاف الشجرة بعضها الممتدّ من أصل شجرة أعيان العالم وهو ظلّ الله الممدود المتعيّن الظاهر بصورة العالم ، فانظر التفرقة في نظره إذ قال :"رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ".
فأثبت إنّيّين اثنين ، وأضاف فعلين إلى فاعلين ، وأنت إذا قلَّبت أحواله وأقواله ، وجدت الفرقان والتمييز ، لهذا وقع التجلَّي له على التعيين في صورة النار من الشجرة كلاميّا فجمع له بين الكلام والشهود ، لكون الشهود مثاليا ، إذ لا يجمع بينهما في الشهود المعنوي الحقيقي ، لفناء الشاهد في المشهود حقيقة ،
"" المراد : كان شهود موسى صورة النار من الشجرة ممثّلا. ""
وكان شهود موسى عليه السّلام وصورة النار الشجرة ممثّلا تمثّل له الواحد الأحد الحق في عين الكثرة ، وكذا الكلام ، لأنّ الشهود الحقيقي يقتضي فناء المتجلَّى له في المتجلَّي ، والتجلَّي وظهور المتجلَّي ببقائه في عين المتجلَّى له والتجلَّي بلا اثنينية في الإنّية ،
بل وحدة بحتة ونور محض وحق صرف واحد أحد وحدته عينه فلا تجلَّي ولا متجلَّى له ، ولا كلام ولا مخاطب ، فإنّها تقتضي الفرقان والتمييز ،

ولهذا اندكّ ظهور تعيّنه من طور أنانيّته وفني وخرّ صعقا لمّا بدا إنّيتي أجلى سواه وأفنى فشاهد العين منّا فكان في الكلّ عينا مشهودة العين عينا " وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ".

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:18 pm

26 - فصّ حكمة علويّة في كلمة موسوية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   

الفص الخالدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
26 -  فصّ حكمة صمدية في كلمة خالدية
كان هجّير خالد الأحد الصمد ، ومشهوده الصمدية ، وكان في قومه مظهر الصمدية يصمدون إليه في المهمّات ، ويقصدونه في العظائم والملمّات ، لهذا أضيفت الحكمة الصمدية إليه ، كما سنذكر إن شاء الله تعالى .
"" دعا إلى الأحد الصمد ، وكان قومه يصمدون إليه ويقصدونه في الملمّات والمهمّات ، فيكشف الله إيّاها عنهم بدعائه عليه السّلام  .""
قال رضي الله عنه  : (وأمّا حكمة خالد بن سنان فإنّه أظهر بدعواه النبوّة البرزخية ، فإنّه ما ادّعى الإخبار بما هنا لك إلَّا بعد الموت ، فأمر أن ينبش عليه ، ويسأل فيخبر أنّ الحكم في البرزخ على صورة الحياة الدنيا ، فيعلم بذلك صدق الرسل كلَّهم فيما أخبروا به في حياتهم الدنيا ، فكان غرض خالد عليه السّلام إيمان العالم كلَّه بما جاءت به الرسل ليكون رحمة للجميع ، فإنّه أشرف بقرب نبوّته من نبوّة محمّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلم أنّ الله أرسله رحمة للعالمين ، ولم يكن خالد برسول ، فأراد أن يحصل من هذه الرحمة في الرسالة المحمدية على حظَّ وافر وإن لم يؤمر بالتبليغ ، فأراد أن يحظى بذلك في البرزخ ليكون أقوى في العلم في حق الخلق فأضاعه قومه ).
 
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ خالدا لمّا استشرف على كمال نبوّة محمّد ، وأنّه المبعوث رحمة للعالمين كافّة ، تمنّى أن يكون له عموم إنباء ونبوّة مستندة إلى العلم الحاصل للكافّة بما في البرزخ بعد الموت ، فإنّ العامّة والجمهور لا ينقادون لإنباء الأنبياء وأنبائهم مثل انقيادهم مثلا ، إلى إنباء من ينبئ بما بعد الموت وإنبائه بعد أن يموت ، وأحياه الله في رأى العين وأخبر بما شاهد ، فإنّ تأثير مثل ذلك في عموم إيمان الخلق أبلغ ،
 
فكان من قضيّة خالد عليه السّلام أنّه كان قويّ الهمّة ، والغالب عليه شهود الأحدية ، فظهرت في زمانه بين قومه - وكانوا يسكنون في بلاد عدن - نار عظيمة خرجت من مغارة ،
فأهلكت الزرع والضرع ، فصمد إليه قومه وقصدوه - على ما اعتادوا منه في دفع الملمّات ورفع المهمّات - حتى يدفع عنهم أذيّة تلك النار ، وكانوا مؤمنين ، فلما رأى خالد بن سنان عليه السّلام تلك النار ، أخذ يضربها بعصاه من خلفها ،
 
ويقول : بدّا بدّا ، حتى بدّد النار وفرّقها ، فرجعت النار هاربة وهو يضربها بعصاه ويقول : بدّا بدّا حتى ساقها إلى مغارة خرجت منها فأدخلها في المغارة
ثمّ قال لأولاده وقومه : إنّى أدخل المغارة خلف النار ، حتى أطفئها ، وأمرهم أن يدعوه ولا يدعوه إلى ثلاثة أيّام تامّة ، فإنّهم إن نادوه ودعوه قبل تمام ثلاثة أيّام وفي أثنائها ، فإنّه يخرج ويموت ،
وإن صبروا إلى تمام ثلاثة أيّام ، خرج سالما ، وقد دفع عنهم أذية النار ، فلمّا دخل المغارة خلف النار ، صبروا يومين واستفزّهم الشيطان ، فلم يصبروا تمام ثلاثة أيّام ، فصاحوا به قبل تمام الوقت ودعوه ونادوه وارتابوا أنّه ربما يكون قد هلك ،
فخرج عليه السّلام من المغارة ويداه على رأسه من الألم الذي ألمّ به من صياحهم وندائهم قبل تمام الميقات ،
فقال لهم : « ضيّعتموني وأضعتم قولي وعهدي » وأخبرهم بموته ، وأمرهم أن يقبروه ويرقبوه أربعين يوما فإنّه يأتيهم بعد الأربعين قطيع غنم يقدمها حمار أبتر مقطوع الذنب ، فإذا حاذى قبره ووقف ، فلينبش على خالد عليه السّلام قبره ، فإنّه يقوم ويخبرهم بجليّة الأمر بعد الموت عن شهود ورؤية ويقين ، فيحصل الخلق كلَّهم على اليقين بما أخبرت الرسل ، وتصحّ عندهم الإخبارات النبويّة كلَّها ،
 
ثمّ مات خالد ، فدفنوه وانتظروا عبور أربعين يوما ، وانتظروا بعد ذلك قطيع غنم ، فجاء القطيع - كما ذكر - يقدمه حمار أبتر ، فوقف حذاء قبره فهمّ مؤمنو قومه ، وأولاده أن ينبشوا عليه كما أمرهم حتى يخبرهم بصدق الأنبياء والنبوّات كلَّها فأبى أكابر أولاده ،
وقالوا يكون عار عند العرب أن ينبش على أبينا ، فيقال فينا : أولاد المنبوش وندعى بذلك ، فحملتهم الحميّة الجاهلية على ذلك ، فضيّعوا وصيّته وأضاعوه .
 
ثمّ بعد بعثة رسولنا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم جاءته بنت خالد ، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم  " مرحبا بابنة نبيّ أضاعه قومه " .
 
قال رضي الله عنه  : « ولم يصف النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قومه بأنّهم ضاعوا ، وإنّما وصفهم بأنّهم أضاعوا نبيّهم ، حيث لم يبلغوه مراده فهل بلَّغه الله أجر أمنيّته ؟
فلا شكّ ولا خلاف أنّ له أجر أمنيّته ، وإنّما الشكّ والخلاف في أجر المطلوب ، هل يساوي تمنّي وقوعه مع عدم وقوعه - بالوجود أم لا ؟
فإنّ في الشرع ما يؤيّد التساوي في مواضع كثيرة ، كالآتي للصلاة في الجماعة فتفوته الجماعة ، فله أجر من حضر الجماعة ، وكالمتمنّي مع فقره ما همّ عليه أصحاب الثروة والمال من فعل الخيرات ، فله مثل أجورهم ، ولكن مثل أجورهم في نيّاتهم أو في عملهم ، فإنّهم جمعوا بين المنية والعمل ؟ )
ولم ينصّ النبيّ عليهما ولا على واحد منهما ، والظاهر أنّه لا تساوى بينهما ، ولذلك طلب خالد بن سنان الإبلاغ ، حتى يصحّ له مقام الجمع بين الأمرين ، فيحصل على الأجرين والله أعلم  .
وكل هذا ظاهر جليّ ، والله الموفّق .


.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:20 pm

27 -  فصّ حكمة فردية في كلمة محمّدية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الجزء الأول

 27 -  فصّ حكمة فردية في كلمة محمّدية صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
قال العبد : قد قدّمنا في شرح فهرس الفصّ ، علَّة استناد هذه الحكمة الكليّة الفردية إلى الكلمة الكاملة الإلهية ، وسيرد في متن الفصّ وشرحه ما فيه بلاغ ، ولكنّا نومئ إلى أوّلية المرتبة الفردية ، فإنّ للفردية مراتب ظهور ، وهي في كل مرتبة علَّة للإنتاج وسبب للإثمار .
"" قال العبد : جاء الوارد في هذه الحكمة بعبارتين دالَّتين على حقيقة واحدة :
إحداهما : حكمة كلَّية لكونها أحدية جمع جميع الحكم الجمعية الكلَّية المتعيّنة في كلّ كلّ منها كلَّية فهي كلّ كلّ منها .
والثانية : حكمة فردية لأسرار وحقائق يكشف لك عن أصولها وفصولها في شرح حكمته صلَّى الله عليه وسلَّم . ""
فنقول والله المؤيّد بأيد أيّدة لعبده المؤيّد بها ثمّ بما من عنده - :
قد علمت فيما تقدّم :
أنّ أوّل المراتب الذاتية الإطلاق واللاتعيّن ، وهو غيب غيب ذات الذات الإلهية .
والمرتبة الثانية التعيّن الأوّل الذاتي الأحدي الجمعي الذي به تعيّنت العين لعينها ، وتحقّقت الحقيقة الذاتية لذاتها وحقيقتها التي هي عين الذاتية ، وتسمّى حقيقة الحقائق الكبرى عندنا ، ولهذا التعيّن الأوّل الأحدية من وجه ، والوترية من وجه ، والشفعية من وجه .
أمّا شفعيته فلأنّه شفع مرتبة الغيب الذاتي الإطلاقي بتعيّنه وتميّزه عن اللاتعين .
وأمّا وتريّته فلأنّه امتاز بنفس التعيّن عن اللاتعين الذي نسبته إلى العين كنسبة التعيّن سواء ، فإنّ العين المتعيّنة بالتعيّن الأوّل من حيث هي هي اللامتعيّنة في اللاتعين والإطلاق ، بل التعين واللا تعين نسبتان لها ذاتيتان ، ليست إحداهما أولى من الأخرى ،
ومع كونها عينهما فهي مطلقة عن الجمع بينهما والإطلاق عنهما ، ولكنّ المتعيّن الأوّل بالتعين الأوّل لمّا امتاز بنفس التعين عن اللاتعين وليس ثمّة من يشفع أحديته ،
إذ هو أحدية جمع جميع التعينات المعنوية المرتبية للحقائق ، بقي وترا وهو أوّل مرتبة الوتريّة ، إذ ليس في مرتبة اللاتعين والإطلاق حكم ولا اسم ولا رسم ولا نعت ولا وصف ولا علم ، فلا شفع ولا وتر ولا واحد ولا فرد ولا غير ذلك .
 
وأمّا أحديّته فلكون هذا التعين عين المتعيّن ، لا زائد عليه إلَّا في تعقّلنا ، فإنّه تعيّن الذات بذاتية الذات ، فلا اثنينية ولا كثرة ، فلها الأحديّة ، فالأحدية والوترية والشفعية مستندها إلى هذا التعين الأوّل الذاتي العيني ، وللعين الجمع بين التعين واللا تعين ، والقيد والإطلاق ، وللتعين الأوّل الجمع بين الشفعية والوترية والأحدية ، كما مرّ .
فظهرت في مجموع هذه المراتب الثلاث الفردية الأولى ، وكذلك للتعيّن الأوّل وللعين ، فتعيّنت الحقيقة البرزخية الجمعية بين الإطلاق والتعيّن ، وبين التعيّن والمتعيّن ، وبين الشفعية والوترية ، بمعنى أنّ هذه الحقيقة البرزخية ، لها الجمع ولها الفصل بين الطرفين ، وهي عين الطرفين في هذه المراتب كلَّها .
 
وهذه البرزخية برزخية الحقيقة الإنسانية الأحدية الجمعية الأزلية الأبديّة المحمدية التي هي الأحدية الجمعية الكمالية الذاتية الأولى ، ولها جمع الجمع الأوّل ، وصورته في أوّل المرتبة النبويّة الإنسانية البشرية آدم عليه السّلام ، وفي آخر المرتبة النبويّة الكمالية الجمعية الختمية محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم وله أحدية جمع جمع الحقائق الإلهية والحقائق الكمالية الإنسانية ، ولهذه الحقيقة المحمدية المشار إليها الفردية الأولى ، ومنها تفرّعت الفرديات في جميع المراتب المعنويّة والروحانية والإلهية والكونية وغيرها ، فأسند الشيخ  رضي الله عنه هذه الحكمة للكلمة الكاملة المحمدية ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( إنّما كانت حكمته فردية ، لأنّه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني ، ولهذا بدىء به الأمر وختم ، فكان نبيّا وآدم بين الماء والطين ، ثم كان بنشأته العنصرية خاتم النبيّين وأوّل الأفراد " الثلاثة" .).
 
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ الفردية له من كونه أكمل النوع الإنساني الكمالي ، لأنّ الفردية مخصوصة كما ذكرنا بالإنسان الكامل ، ولا أكمل من محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم فله الفردية الحقيقية الغيبيّة العينية المشار إليها من حيث حقيقته ومعنويته.
 
أوّلا في عالم المعاني ، ثمّ بنشأته الروحانية كان نبيّا مبعوثا إلى كافّة الأرواح النبوية ،
ثمّ بنشأته العنصرية كان خاتم النبيين ، فحصلت الفرديّة الأولى ، وله الفردية الجامعة بين البدء والفاتح ، والختام الواضح ، ونبوّة روحانيته بالكمال الراجح ،
وثمّ سر آخر :
وهو أنّ الفردية جامعة بين الشفع الأوّل الذي هو اثنان والوتر الأوّل لأنّ أوّل الأفراد « الثلاثة » ، وهي تجمع بين الاثنين والواحد ، وبالجمع تحصل فرديته ، فهو أعني الثلاثة الفردية من الأعداد - الأوّل ، وليس هذا للأحدية ولا للواحد ولا للاثنين ، فافهم .
 
فإن قلت : الاثنان يجمع بين الأحدية والاثنيّنية .
قلنا : ليس له الفردية كما لأوّل الأفراد .
قال رضي الله عنه  : ( وما زاد على هذه الأوّلية من الأفراد فإنّه عنها ، فكان عليه السّلام أدلّ دليل على ربّه ، فإنّه أوتي جوامع الكلم التي هي مسمّيات أسماء آدم ) .
يعني  رضي الله عنه  : مسمّيات الأسماء التي علَّمها الله آدم والكلمات الإلهية ، وإن كانت لا تنفد ، فإنّها لا تتناهى ، وهي أعيان الممكنات ، لكنّها تنحصر في أمّهات ثلاث :
الأولى : هي الحقائق والأعيان الفعلية المؤثّرة الوجوبية الإلهية .
والثانية : الحقائق الانفعالية الكيانية المربوبية الإمكانية .
والثالثة : الحقائق الجمعية الكمالية الإنسانية .
والكلّ أمّهات الشؤون الذاتية ، وللحقيقة العينيّة الذاتية الإحاطة والإطلاق ، فهذه الكلم هي الكلم التي أوتيها محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم فجمعها ببرزخيته المذكورة .
قال رضي الله عنه  :  ( فأشبه الدليل في تثليثه ) .

يشير رضي الله عنه : إلى التثليث المذكور في أوّل الفصّ المحمدي الصالحي فتذكَّر ، وهذا التثليث يتضمّن التربيع - كما ذكرنا - فإنّ الدليل وإن كان مثلَّث الكيان ، فإنّه مربّع الكيفية ، وقد ذكر ، فلا نعيد ، فاذكر .
قال رضي الله عنه  : ( والدليل دليل لنفسه ) أي دلالته ذاتية له وهي أيضا ثلاثية ، إذ لا بدّ من دليل ومدلول ودلالة .
 
قال رضي الله عنه  : ( ولمّا كانت حقيقته تعطي الفردية الأولى بما هو مثلَّث النشئ ) يعني بروحه وجسمه وحقيقته الجامعة كما مرّ « ولذلك قال في المحبّة التي هي أصل الوجود .
" في بعض النسخ : أصل الموجودات ."
قال رضي الله عنه  : (« حبّب إليّ من دنياكم ثلاث » بما فيه من التثليث ، ثم ذكر النساء والطيب ، وجعلت قرّة عينه في الصلاة ، فابتدأ بذكر النساء وأخّر الصلاة ، وذلك لأنّ المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها ومعرفة الإنسان بنفسه مقدّمة على معرفته بربّه ، فإنّ معرفته بربّه نتيجة عن معرفته بنفسه ، لذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم -: " من عرف نفسه عرف ربّه " )
قال رضي الله عنه  : (فإن شئت ، قلت بمنع المعرفة في هذا الخبر ، والعجز عن الوصول ، فإنّه سائغ فيه .
وإن شئت ، قلت بثبوت المعرفة ، فالأوّل أن تعرف أنّ نفسك لا تعرفها ، فلا تعرف ربّك . والثاني أن تعرفها فتعرف ربّك ، فكان محمّد أوضح دليل على ربّه ، فإنّ كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربّه فافهم . )
 
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ نفس الإنسان الكامل من حيث إنّ الحق هو المتعين في عينها على إطلاقه الذاتي غير المنحصر في تعيّن وإطلاق لا تعرف ، فلا يعرف الحق ، فإنّه لا يتعلَّق العلم بالحق من حيث لا تعيّنه ، ولكن من حيث تعيّنه بعينه يعرف ، فيعرف نفسه من هذه الحيثيّة فيعرف الحق ولا يعرفه إلَّا هو ، فلا يعرف الحق إلَّا هو فلا يعرف الحق إلَّا الحق المتعين بالتعين الأوّل الذاتي الأحدي الجمعي الكمالي .
 
ولكن هذه المعرفة - من كونها استدلالية - على وجهين : من حيث الدلالة العينيّة ، ومن حيث الدلالة بالصورة ، ولأنّ الصورة المحمدية الكمالية لمّا كانت جامعة بين الصورة الإلهية الأحدية الذاتية ، وبين الصورة الأسمائية الجمعية ، كان أكمل دليل على ربّه وأتمّه .
وأمّا دلالته من حيث العين فهي أنّ العين - من كونها متعيّنة بالبرزخية الكبرى المذكورة - نفس العين المتعيّنة بالتعين الأوّل الذاتي ، فهذه دلالة نفسية .
 
وأمّا دلالته من حيث الصورة فإنّ دلالة الصورة المحمدية - من حيث تعين الحق في وجوده الكامل الجامع بين المعنى والروح والصورة - دلالة على الحق من حيث أحدية جمعه بين الكمال الذاتي والاسمائي ، والجمعيّ الإنسانيّ .
 
وكل واحدة من الدلالتين على وجهين أيضا :
دلالة بالكمالات الثبوتية الظاهرة في الصورة المحمدية ، ودلالة من حيث الكمالات النسبية السلبية كالغنى والإطلاق واللا تعين واللاانحصار ، فإنّ محمّدا بصورته وحقيقته دليل دالّ على ربّه ، فهو أتمّ دليل ، لكونه أكمل المظاهر الجمعية الكمالية الإلهية الإنسانية ، وصورته أجمع الصور ، وسورته أفضل السور .
 
قال رضي الله عنه  : (إنّما حبّب إليه النساء فحنّ إليهنّ، فإنّه من باب حنين الكلّ إلى جزئه).
 
يعني  رضي الله عنه  : أنّ كلَّية الكلّ لا تكون إلَّا بالجزء ، إذ الكلّ بالجزء كلّ فهو حنين الشيء إلى نفسه باعتبارين وحيثيّتين .
قال رضي الله عنه  : ( فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحق في قوله في هذه النشأة الإنسانية  العنصرية "وَنَفَخْتُ فِيه ِ من رُوحِي " ثم وصف نفسه بشدّة الشوق إلى لقائه ، فقال للمشتاقين : يا داوود إنّي أشدّ شوقا إليهم ، يعني للمشتاقين إليه ، وهو لقاء خاصّ ، فإنّه  صلَّى الله عليه وسلَّم قال في حديث الدجّال : إنّ أحدكم لن يرى ربّه حتى يموت ، فلا بدّ من الشوق لمن هذه صفته .) .
 
يعني  رضي الله عنه  : لمن يحبّ أن يموت شوقا إلى الحق ، والسرّ أنّ الحق - من حيث تعيّنه بعين العبد المشتاق - يشتاق إلى نفسه من حيث تعيّنه في الأصل ، ثم إنّه من حيث الأصل يشتاق إلى نفسه في مرتبة التقييد ، فيكون حينئذ اشتياق الحق أشدّ ، لكون شوقه تعالى ضعف الشوق الظاهر من المسمّى عبدا ، إذ هو المشتاق إلى نفسه من حيثيّتين في مرتبتين له ، ذاتيّتين ، فافهم ، فإنّه عاد من مقام قوله : من تقرّب إليّ شبرا ، تقرّبت منه ذراعا ، ومن تقرّب إليّ ذراعا ، تقرّبت منه باعا ، ومن أتاني يمشي ، أتيته هرولة .
 
قال رضي الله عنه  : ( فشوق الحق لهؤلاء المقرّبين مع كونه يراهم ، فيحبّ أن يروه ) .
يعني : بارتفاع حجابية التعيّن من العين ، الموجب في زعمه بالبين في البين ، وبارتفاعه يرتفع الغين من العين ، فتقرّ العين بالعين ، فيقرب أين العين من العين ، إن شاء الله تعالى .
 
قال رضي الله عنه  : ( ويأبى المقام ذلك ، فأشبه قوله :   " حَتَّى نَعْلَمَ " مع كونه عالما ، فهو يشتاق لهذه الصفة الخاصّة التي لا وجود لها إلَّا عند الموت ، فيبلّ بها شوقهم إليه ، كما قال في حديث التردّد وهو من هذا الباب : « ما تردّدت في شيء أنا فاعله تردّدي في قبض نسمة عبدي المؤمن يكره الموت ، وأنا أكره مساءته ، ولا بدّ له من لقائي " يعني ليس ذلك إلَّا بارتفاع الحجاب واندفاع الحجّاب من الباب . "
فبشّره بلقائه ، وما قال له : ولا بدّ له من الموت ، لئلَّا يهمّه  بذكر الموت ، ولمّا كان لا يلقى الله إلَّا بعد الموت - كما قال عليه السّلام : « إنّ أحدكم لا يرى ربّه حتى يموت » .
لذلك قال تعالى : ولا بدّ له من لقائي ، فاشتياق الحق لوجود هذه النسبة ) .
 
قال العبد : ولأنّ الشوق إنما يكون ممّن أحبّ وشهد محبوبه ، ثمّ وقع الفراق ، وامتنع الوصال والاعتناق ، فينبعث باعث طلب الاتّحاد والاشتباك بتقوية ما به الاشتراك ، والتعرية عمّا به المباينة والانفكاك ، والتبرئة عن حجاب التعين القاضي على الشائق بالهلاك ، المفضي إلى الارتياب والارتباك ،
فذلك الانبعاث العشقي لطلب الوصال في الفراق هو الشوق ، والاشتياق الذي يزداد ويشتدّ إنّما يكون للقاء خاصّ في عين الشهود والوصال ، وهو بارتفاع التعيّن العبدانيّ ، وفنائه في العين الأحدية بالبقاء الربّاني ، فيتّسع سعة وطنه ، بعد ضيق عطنه ، ويرتفع من حضيض تقييده ، إلى ذروة إطلاقه وتوحّده ،
وإلَّا فهي في الشهود دائما لربّه ، الذي هو متعلَّق شوقه ووجده ، وربّه دائم الشهود لعبده ، في جميع مراتب قربه وبعده ، شهود جمع في جمع ، على ما هو عليه الأمر في نفسه ، فناء في بقاء ، وبقاء في فناء من جهة العبد ، وبقاء في بقاء من جهة الربّ .
 
ثمّ الذي يشهد التعيّن نسبة ذاتية للمتعيّن ، ويراه عينه ، ويرى عينه إيّاه ، وفإنّه دائما في لقاء وهو في فناء فناء وبقاء بقاء ، ولكن هذا النوع من الاشتياق المنسوب إلى الأبرار إنّما يكون بالنسبة إلى من ليس مشهده ما ذكرنا .
 
وأمّا اشتياق العبد البالغ فإنّه لا يزول مع دوام الشهود ، ولا يحول مع اتّصال الوصال والوجود ، جعلنا الله وإيّاكم ممّن امتنّ عليه بهذا التجلَّي الدائم ، إنّه وليّ الوهب والجود .
 
وأمّا من حيث هذا الاشتياق واللقاء الخاصّ ، فشوقه أضعاف أضعاف جمع الشائقين والمتلقّين للقاء ربّ العالمين ، وله شوق آخر من حيث أحديّة جمع الشوقين والاشتياقين ، أعني شوق أهل الحجاب واشتياق أهل الشهود ، بمعنى أنّ هذا العبد يموت في عين حياته الدنيا ، ويتوفّاه الله إليه ، ويلقاه ويلقى ربّه ، فيبلّ كلّ واحد من صاحبه شوقه ، ويشهد كلّ منهما كلَّا منهما جمعا وفرادى في الصور البرزخية النورية والهيئات المثالية والفلكية الصورية التي لا وصول إلى شهود الحق فيها بهذا التعين النقلي السفلي وبعد ذلك اللقاء والموت عن هذه النشأة ،
إن اشتاق إلى الحق المتعين في هذه التعينات ، وحجبه ذلك المقام والتعيّن اللائق به عن شهوده هنا ، فيردّه الله إليه في هذه النشأة ، فأقرّ عينه به وبشهوده في هذا المقام ، وهكذا يداوم على هذين الشوقين والاشتياقين إلى اللقاء ، حتى تتّحد الأشواق ، وتبقى في شهود أحدية جمع الجمع بين القيد والإطلاق ، كما هو الأصل في الأصل ، والله وليّ التوفيق بالإطباق والاتّفاق .
 
قال رضي الله عنه  : (
يحنّ الحبيب إلى رؤيتي  .... وإنّي إليه أشدّ حنينا
وتهفو النفوس ويأبى القضا ..... فأشكو الأنين ويشكو الأنينا)
 
يريد  رضي الله عنه : أنّ الحق يقول على لسانه من حيث المرتبة ، فإنّ المحبّ للعبد العارف به العالم له فحنينه عين حنينه إلى محبّه ، ولكن حنين الحق القائل : « أحببت » إليه أشدّ ، كما بيّنا في سرّ التقريب العبداني والرباني ، من حيث تعيّنه في عين عبده يشتاق ويتقرّب إلى نفسه ، ثمّ يجازيه عن شوقه إليه أيضا ، ويقرّ به بالشوق والتقرّب إلى العبد المشتاق المتقرّب ، والمجازاة بعشر أمثالها ، فيكون شوق الحق إلى العبد أضعاف أضعاف شوقه إليه ، فافهم هذا السرّ أيضا ، فإنّه عزيز .
 
قال رضي الله عنه  : ( فلمّا أبان أنّه نفخ فيه من روحه ، فما اشتاق إلَّا إلى نفسه ، ألا تراه في خلقه على صورته ، لأنّه من روحه ؟ ولمّا كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسماة في جسده أخلاطا ، حدث عن نفخه اشتعال بما في جسده من الرطوبة ) .
يعني  رضي الله عنه  : الرطوبة الغريزية التي هي مادة الحرارة الغريزية وبها بقاؤها .
 
قال رضي الله عنه   : ( فكان روح الإنسان نارا لأجل نشأته ) .
يعني  رضي الله عنه:  الحرارة الغريزية التي هي مركب حياة الروح النفساني ، أعني النفس الناطقة ، فإنّ النفس على صورة نارية ، والروح في صورة نورية .
 
قال رضي الله عنه  : ( ولهذا ما كلَّم الله موسى إلَّا في صورة النار ، وجعل حاجته فيها ، فلو كانت نشأته طبيعية ، لكان روحه نورا وكنى عنه بالنفخ يشير إلى أنّه من نفس الرحمن فإنّه بهذا النفس الذي هو النفخة ظهر عينه ، وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال نارا لا نورا ) .
يشير رضي الله عنه  إلى الجوهر النوري ، الظاهر بصورة النار ، المشتعل لفتيلة جسده ودهن رطوبته الغريزية المشار إليها في بعض وجوهها بقوله : " يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْه ُ نارٌ "
 
وإنّما فسّرت قوله : " روحه " بالنفس ، لأنّ الروح غير متعلَّق وإنّما المتعلَّق هو النار ، والنور محمول في النار ، كقيام العقل - وهو الروح - بالنفس الناطقة .
 
قال رضي الله عنه  : ( فبطن نفس الحق فيما كان به الإنسان إنسانا ، ثم اشتقّ له شخصا على صورته ، فسمّاه امرأة ، فظهرت بصورته ، فحنّ إليها حنين الشيء إلى نفسه ، وحنّت إليه حنين الشيء إلى وطنه ، فحبّب إليه النساء ، فإنّ الله أحبّ من خلقه على صورته ، وأسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم ومنزلتهم وعلوّ نشأتهم الطبيعية ، فمن هناك وقعت المناسبة ، والصورة أعظم مناسبة وأجلَّها وأكملها ، فإنّها زوج أي شفعت وجود الحق ، كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرجل ، فصيّرته زوجا ، فظهرت الثلاثة : حق ، ورجل ، وامرأة ، فحنّ الرجل إلى ربّه الذي هو أصله حنين المرأة إليه ) .
يعني  رضي الله عنه  : لمّا كان على صورة ربّه ، بل هو صورة ربّه في عصره والحق هوية هذه الصورة وروحها ، فهو بصورته شفع الحق الواحد الأحد الوتر ، فإنّ الإنيّة تشفع الهوية ، كما يشفع الزوج الزوج بوجوده .
 
قال رضي الله عنه  : ( فصيّرته زوجا ) أي شفعت الزوجة الزوج ، فصيّرته زوجا ، لأنّ كل زوج على صورة زوجه .
قال رضي الله عنه  : ( فحبّب إليه ربّه النساء ، كما أحبّ الله من هو على صورته ، فما وقع الحبّ إلَّا لمن تكوّن عنه ، وقد كان حبّه لمن تكوّن منه وهو الحق ،
فلهذا قال : « حبّب إليّ » ولم يقل : أحببت من نفسي ، لتعلَّق حبّه بربّه الذي هو على صورته ، حتى في محبّته لامرأته ، فإنّه أحبّها بحبّ الله إيّاه تخلَّقا إلهيا .
ولمّا أحبّ الرجل المرأة طلب الوصلة أي غاية لوصلة التي تكون في المحبّة - فلم يكن في صورة   .  
النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح ، ولهذا تعمّ الشهوة أجزاءه كلَّها ، ولذلك أمر بالاغتسال منه ، فعمّت الطهارة كما عمّ الفناء فيها عند حصول الشهوة ، فإنّ الحق غيور على عبده أن يعتقد أنّه يلتذّ بغيره ، فطهّره بالغسل ، ليرجع بالنظر إليه ، فيمن فني فيه ، إذ لا يكون إلَّا ذاك ، فإذا شاهد الرجل الحقّ في المرأة ، كان شهودا في منفعل ، وإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه ، شاهده في فاعل ، وإذا شاهده من نفسه من غير استحضار صورة من تكون عنه ، كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة ، فشهوده للحق في المرأة أتمّ وأكمل ، لأنّه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصّة ، فلهذا أحبّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - النساء ، لكمال شهود الحق فيهنّ ، إذ لا يشاهد الحق مجرّدا عن الموادّ أبدا ، فإنّ الله بالذات غنيّ عن العالمين ، وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ولم تكن الشهادة إلَّا في مادّة ، فشهود الحق في النساء أعظم شهود وأكمله ).
 
أي في منفعل حالة انفعاله وفعله ، فإنّه جامع لشهود الحق منفعلا في عين كونه فاعلا في عين انفعال فعلا في عين انفعال وانفعالا في فعل ، وهاهنا أسرار مكتّمة ، وعلى من ليس من أهلها محرّمة .
قال رضي الله عنه  : ( وأعظم الوصلة النكاح ، وهو نظير التوجّه الإرادي على من خلقه على صورته ليخلفه ، فيرى فيه نفسه ، فسوّاه وعدله ، ونفخ فيه من روحه الذي هو نفسه ، فظاهره خلق وباطنه حق ، ولهذا وصفه بالتدبير لهذا الهيكل ، فإنّه تعالى "يُدَبِّرُ الأَمْرَ من السَّماءِ " وهو العلو " إِلَى الأَرْضِ " وهو أسفل سافلين ، لأنّها أسفل الأركان كلَّها ) .
يشير رضي الله عنه  إلى النكاحات الخمسة الكلَّية الإلهية الموجبة لإنتاج العوالم المعنوية والروحية والنفسيّة والمثالية والحسيّة على اختلاف صورها ، كما مرّت فيما سلف ، فاذكر .
 
قال رضي الله عنه  : ( وسمّاهنّ بالنساء وهو جمع لا واحد له من لفظه ، ولذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم - : « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : النساء » ولم يقل : المرأة ، فراعى تأخّر هنّ في الوجود عنه ، فإنّ النسأة هي التأخير ، كما قال تعالى :   "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ في الْكُفْرِ " والبيع بنسيئة يقول : بتأخير ، فلذلك ذكر " النساء " فما أحبّهنّ إلَّا بالمرتبة ، فإنّهنّ محلّ الانفعال ، فهنّ له كالطبيعة للحق التي فتح فيها صور العالم بالتوجّه الإرادي والأمر الإلهي الذي هو نكاح في عالم الصور العنصرية ، وهمّة في عالم الأرواح النورية ، وترتيب مقدّمات في المعاني للإنتاج ، وكلّ ذلك نكاح الفردية الأولى في كل وجه من هذه الوجوه ، فمن أحبّ النساء على هذا الحدّ فهو حبّ إلهي ، ومن أحبّهنّ على جهة الشهوة الطبيعية خاصّة نقصه علم هذه الشهوة ، وكان صورة بلا روح عنده ، وإن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذات روح ولكنّها غير مشهودة لمن جاء لامرأته أو لأنثى حيث كانت - لمجرّد الالتذاذ ولكن لا يدري لمن ، فجهل من نفسه ما يجهل الغير ما لم يسمّه هو بلسان حتى يظهر  .
كما قال بعضهم :
صحّ عند الناس أنّي عاشق  ..... غير أن لم يعرفوا عشقي لمن.
كذلك هذا أحبّ الالتذاذ ، فأحبّ المحلّ الذي يكون فيه وهو المرأة ولكن غاب عنه روح المسألة ، فلو علمها ، لعلم بمن التذّ ومن التذّ وكان كاملا ) .
يشير رضي الله عنه  إلى شهود الحق في المحلّ الذي فيه يلتذّ عينه ، فلو شهد الحقّ إذ ذاك شهودا أحديا جمعيا عين الفاعل والمنفعل مع شهوده عدم انحصاره وتقيّده بالتعيّن في أحدهما أو كليهما معا أو في الجمع أو الإطلاق عن الجمع ، بل شهودا مطلقا عن هذه الاعتبارات والتنزّه عنها جمعا وفرادى ، كان حينئذ هو ذلك الرجل الكامل الملتذّ بالحق في كل عين عين وتعيّن تعيّن ، وهو أوحد زمانه ونسيج وحده في أقرانه وأخدانه ، وهو من الكمّل أو من ندّر الأفراد .
 
قال رضي الله عنه  : ( وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله تعالى - : " وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ " نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته ، فبتلك الدرجة التي تميّز بها عنه كان غنيّا عن العالمين وفاعلا أوّلا ، فإنّ الصورة فاعل ثان ، فما له الأوّلية التي للحق ، فتميّزت الأعيان بالمراتب ، فأعطى كلّ شيء خلقه ، كما أعطى كلّ ذي حق حقّه كلّ عارف ، فلهذا كان حبّ النساء لمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم عن تحبّب إلهي وإنّ الله أعطى كلّ شيء خلقه ، وهو أي المعطى عين حقّه ، فما أعطاه إلَّا بالاستحقاق ، استحقّه بمسمّاه أي بذات ذلك المستحقّ ) .
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ الحق لمّا تعيّن في كل متعيّن من كلّ زوج عارف وغير عارف ، أعطى كلّ ذي مرتبة ما يستحقه لحقيقته ، فأعطى المنفعل خلقه في انفعاله وتأخّره عن الدرجة وهو حقه ، وأعطى كلّ الفاعل خلقه كذلك في فاعليّته وتقدّمه وذلك حقّه ، وأعطى العارف بذلك شهود الحق في الكلّ والالتذاذ به وهو خلقه وحقّه ، وأعطى غير العارف خلقه وهو صورة الالتذاذ بلا روح عنده وذلك حقّه وخلقه .
 
قال رضي الله عنه  : ( وإنّما قدّم النساء لأنّهن محلّ الانفعال ، كما تقدّمت الطبيعة على من وجد منها بالصورة ، وليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفس الرحمانيّ ، فإنّه فيه فتحت صور العالم أعلاه وأسفله لسريان النفخة في الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام خاصّة .
وأمّا سريانها لوجود الأرواح النورية والأعراض فذلك سريان آخر ثمّ إنّه عليه السّلام غلَّب في هذا الخبر التأنيث على التذكير ، لأنّه قصد التهمّم بالنساء فقال : « ثلاث » ولم يقل :
" ثلاثة " بالهاء الذي هو لعدد الذكران إذ فيها ذكر الطيب وهو مذكَّر ، وعادة العرب أن تغلَّب التذكير على التأنيث ، فتقول : « الفواطم وزيد خرجوا » ولا تقول : خرجن فغلَّبوا التذكير وإن كان واحدا على التأنيث وإن كنّ جماعة ، وهو عربي ، فراعى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المعنى الذي قصد به في التحبب إليه ، ما لم يكن يؤثر حبّه ، « فعلَّمه الله ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليك عظيما » فغلَّب التأنيث على التذكير بقوله : « ثلاث » بغير هاء ، فما أعلمه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالحقائق ، وما أشدّ رعايته للحقوق .
ثمّ إنّه جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث وأدرج بينهما المذكَّر فبدأ بـ « النساء » وختم بـ « الصلاة » وكلتاهما تأنيث ، و"الطيب " بينهما كهو في وجوده ، فإنّ الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها وبين امرأة ظهرت عنه ، فهو بين مؤنّثين : تأنيث ذات وتأنيث حقيقي ، كذلك « النساء » تأنيث حقيقي و « الصلاة » تأنيث غير حقيقي ، والطيب مذكَّر بينهما كآدم بين الذات الموجود هو عنها وبين حوّاء الموجودة عنه .
وإن شئت قلت : « الصفة » فمؤنّثة أيضا ، وإن شئت قلت : " القدرة " فمؤنّثة أيضا ، فكن على أيّ مذهب شئت ، فإنّك لا تجد إلَّا التأنيث يتقدّم على أنّ أصحاب العلَّة الذين جعلوا الحق علَّة في وجود العالم والعلَّة مؤنّثة ) .
 
يشير رضي الله عنه  في تغليب رسول الله في كلماته الكاملات التامّة ، وعباراته العالية العامّة التأنيث على التذكير مع كونه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أنفس أنفس العرب وغاية رعاية العرب لعكس ذلك في تغليب التذكير على التأنيث إلى أنّ ذلك لكمال تحقّقه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعلم الحقائق ونهاية عنايته برعاية الحقوق ، وذلك ، الأصل في الكلّ الأمّ ، والتأنيث في الأم .
 
ثمّ إنّ الأمّ الأمّهات وأصل الأصول الذي ما فوقه فوق هي العين أو الحقيقة أو الذات المطلقة تباركت وتعالت وقد وقعت صورة التأنيث في هذه الألفاظ كلَّها ، وإن كانت هذه الأمّ من جهة المعنى أبا ، ولكنّ الحقيقة تجمع بالذات بين الفعل والانفعال الذاتيين الحقيقيين ، فهي أمّ باعتبارين وأب أيضا باعتبارين ، فإنّ العين المطلقة أو الحقيقة أو الذات - تبارك وتعالت - تقتضي لحقيقتها الجمع بين التعيّن واللاتعيّن ، فيتحقّق لها بهذين الاعتبارين كما مرّ مرارا نسبتا الظهور والبطون فهي الموصوفة بهما معا ، والعين أو الحقيقة هي المتعيّنة بالتعين الأوّل ، واللامتعيّنة في اللاتعين وبه ، وأحدية العين تقتضي الاعتدال ، أعني بين الفعل والانفعال .
 
ثمّ التّعين بظهور الذاتي يقتضي أن يكون مسبوقا باللاتعين والإطلاق ، وكلّ مسبوق بأصل يستند إليه ، فإنّه منفعل عن ذلك الأصل ومظهر له ولا بدّ ، والمتعيّن بالتعين الأوّل من العين المطلقة عن نسبتي التعيّن واللا تعين فهو منفعل من كونه متعيّنا عن نفسه من كونه مطلقا ، وأمّا اللاتعين فإن اعتبرناه بمعنى سلب التعيّن ، فإنّ المعرفة بذلك متوقّفة على المتعيّن ،
إذ لولا التعيّن لما تحقّق اللاتعين في العلم ، فهو في العلم منفعل التحقّق عن المتعيّن بالتعيّن الأوّل والمتعيّن به ، وإلَّا تعيّن باعتبارين لتحقّق الفعل لكلّ منها من حيث تحقّق الانفعال للآخر ، ومن كون العين المطلقة تقتضي اللاتعيّن والتعيّن معا دائما ، فإنّها تتعيّن وتظهر بالتعيّن الأوّل عن بطونها في اللاتعيّن وغيبها الذاتي إلى شهادتها الكبرى الأولى ،
وكلّ مظهر ومجلى من كونه معيّنا مقيّدا للمطلق بخصوصيّة - فاعل لتقييد المطلق وتعيين غير المتعيّن بتكييفه ، فصدق من هذا الوجه للمتعيّن والتعيّن الفعل والتأثير في غير المتعيّن المطلق عن التعين واللاتعيّن من قبوله لذلك ، والانفعال لذلك المطلق ، فصدقت الأمومة والأبوّة من حيث الفعل والانفعال للحقيقة .
 
ولهذا السرّ صحّ التأنيث في الحقيقة أو العين أو الذات ، فتحقّق أنّ الحقيقة الأصليّة - التي هي محتد الحقيقة الإنسانية - تقبل لحقيقتها الفعل والانفعال والظهور والبطون ، فإنّ هذه النسب شؤونها الذاتية ، فلا تحول ولا تزول ، والحقيقة الأحدية الجمعية توجب البرزخية الجامعة بين الإطلاق والتقييد ، والتعيّن واللاتعيّن ،
 
والظهور والبطون ، والفعل والانفعال ، والبرزخية الإنسانية المشار إليها أيضا منفعلة عن العين بين التعيّن الأوّل ولا تعيّن الذات جامعا لهما وفاصلا بينهما ظاهرا بتثليث فرديته الأولى التي هي محتد نشأته وأصل وجوده ، صلَّى الله عليه ، والتأنيث نعت للمنفعل ، ذاتيّ ،
والتذكير كذلك وصف للفاعل ، والأمر بين حق باطن أو ظاهر ، وخلق باطن أو ظاهر كذلك في مقامي الأوّلية والآخرية بنسبتي الظهور والبطون ، أو الغيب والشهادة ، والحقيقة واحدة في الكلّ ، والفعل والانفعال صادقان لها في جميع هذه النسب أعني الظاهرية والباطنية ، والغيب والشهادة ، والخلقية والحقّية ، والربّ والعبد بالذات من حيث أحدية العين ،
فالبرزخ الجامع فاعل بين منفعلين كالتذكير بين تأنيثين ، فأظهر صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الأسرار والحقائق من كونه أوتي جوامع الكلم - في جميع أقواله وأفعاله ، وراعى الفردية كذلك في الكلّ ،
فقدّم التأنيث الحقيقيّ الذي للذات أو الحقيقة أو العين أو الإلهية أو الربوبية أو الصفة أو العلَّة على اختلاف المشاهد والنظر ، وأخّر التأنيث أيضا في الصلاة من حيث اللفظ وأدرج الطيب - مذكَّرا - بين مؤنّثين ، فما أعلمه صلَّى الله عليه وسلَّم كما ذكر ، رضي الله عنه بالحقائق ، فاعلم ذلك ، فإنّ هذه المباحث وإن تكرّر ذكرها في هذا الكتاب فهي على صعوبتها عند من لم تنكشف له حقيقة ، والله الموفّق .
 
قال رضي الله عنه  : ( وأمّا حكمة الطيب وجعله بعد "النساء " فلما في النساء من روائح التكوين ، فإنّه أطيب الطيب عناق الحبيب ، كذا قالوا في المثل السائر ، ولمّا خلق عبدا بالأصالة ، لم يرفع رأسا قطَّ إلى السيادة ، بل لم يزل ساجدا واقفا مع كونه منفعلا حتى كوّن الله عنه ما كوّن ، فأعطاه رتبة الفاعلية في عالم الأنفاس التي هي الأعراف الطَّيبة ، فحبّب إليه الطيب ، فلذلك جعله بعد « النساء » فراعى الدرجات التي للحق في قوله :   "رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ لاستوائه عليه باسمه "الرحمن" فلا يبقى فيمن حواه العرش من لا تصيبه الرحمة الإلهية ، وهو قوله تعالى :- " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ والعرش وسع كلّ شيء والمستوي الرحمن فبحقيقته يكون سريان الرحمة في العالم ، كما قدّمنا في غير موضع من هذا الكتاب ومن الفتوح المكَّي ، وقد جعل الطيب تعالى في هذا الالتحام النكاحى في براءة عائشة فقال : "الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ " .
فجعل روائحهم طيّبة وأقوالهم صادقة لأنّ القول نفس وهو عين الرائحة ، فيخرج بالخبيث والطيّب على حسب ما يظهر به في صورة النطق ، فمن حيث هو إلهيّ بالأصالة كلَّه طيّب ، فهو طيّب ومن حيث ما يحمد ويذمّ ، فهو طيّب وخبيث ،

فقال في خبث الثوم : « هي شجرة أكره ريحها » ولم يقل : أكرهها ، فالعين لا تكره وإنّما يكره ما يظهر منها ، والكراهة لذلك ، إمّا عرفا بملاءمة طبع أو غرض أو شرع أو نقص عن كمال مطلوب ، وما ثمّ غير ما ذكرناه ) .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:21 pm

27 -  فصّ حكمة فردية في كلمة محمّدية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
 27 -  فصّ حكمة فردية في كلمة محمّدية صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
يشير رضي الله عنه  إلى أنّه من حيث برزخيته الجامعة لمّا كان منفعلا عن عين العين الجامعة ببرزخيته وفعله وانفعاله ، ظهر صلَّى الله عليه وسلَّم بتحقّق العبدانية المنفعلة بالأصالة عن الربوبية الفعّالة المؤثّرة - ولم يظهر بالربوبية والسيادة ، فآتاه الله الفعل من عين العين ، فتساوى فيه طرفا الفعل والانفعال ، فكان قاب قوسي بحر الوجوب والإمكان بوجوده ، كما كان جامعا بين التعين واللا تعين برتبته ،
وأوتي السيادة العظمى لما تحقّق بالعبودة الكاملة الكبرى ، فكان فاعليته في عالم الأنفاس لكونه أوتي جوامع الكلم ، وهي هيئات اجتماعية نفسية بحقائق الحروف كما علمت ، فلهذا حبّب الطيب إليه ، وتأخيره عن « النساء » كشفا من حيث إنّ النفس متأخّر عن الأصل والأمّ الذي هو المتعيّن الأوّل الذاتي ، وأوّل ما تعيّن وخرج من غير انتقال عن هذا الأمّ هو النفس الذي نفّس الله عن الحقائق كلَّها به ، فظهرت به ، فهو مسبوق بالمتنفّس بذلك النفس المنفّس عن نفسه وعمّا في نفسه ، كما مرّ ، فتذكَّر .
 
ثمّ الكراهة والطيب المتقابلان عارضان على حقيقة النفس من جهة المتنفّس والمحلّ القابل ، فهو من حيث الأصالة النفسية طيّب كلَّه ، ثمّ غير الطيّب والطيّب بحسب المدرك والمدرك ، فيحمد ويذمّ ، ويكره ويحبّ بحسب القابل ومزاجه ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( ولمّا انقسم الأمر إلى خبيث وطيّب - كما قرّرناه - حبّب إليه الطيّب دون الخبيث ، ووصف الملائكة بأنّها تتأذّى بالروائح الخبيثة لمّا في هذه النشأة العنصرية من التعفين ، فإنّ مخلوق من صلصال من حماء مسنون ، أي متغيّر الريح ، فتكرهه الملائكة بالذات ، كما أنّ مزاج الجعل يتضرّر برائحة الورد وهي من الروائح الطيّبة ، فليس ريح الورد عند الجعل بريح طيّبة . ومن كان على مثل هذا المزاج معنى وصورة ، أضرّ به الحق إذا سمعه وسرّ بالباطل وهو قوله :" وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِالله " ووصفهم بالخسران ، قال : "أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ " ،   "الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ"، فإنّه من لم يدرك الطيّب من الخبيث ، فلا إدراك له ، فما حبّب إلى رسول الله إلَّا الطيّب من كل شيء وما ثمّ إلَّا هو ، وهل يتصوّر أن يكون في العالم مزاج لا يجد إلَّا الطيّب من كلّ شيء ولا يعرف الخبيث أم لا ؟ قلنا هذا لا يكون فإنّا ما وجدناه في الأصل الذي ظهر العالم منه ، وهو الحق ، فوجدناه يكره ويحبّ ، ليس الخبيث إلَّا ما يكره والطيّب إلَّا ما يحبّ ، فالعالم على صورة الحق والإنسان على الصورتين ، فلا يكون ثمّ مزاج لا يدرك إلَّا الأمر الواحد من كل شيء ، بلى ثمّ مزاج يدرك الطيّب من الخبيث مع علمه بأنّه خبيث بالذوق ، طيّب من غير الذوق ، فيشغله إدراك الطيّب منه عن الإحساس بخبثه ، هذا قد يكون ، وأمّا رفع الخبيث من العالم - أي من الكون - فإنّه لا يصحّ ) .
 
يشير رضي الله عنه  إلى ارتفاع الخبيث عن الإدراك ، وإلَّا فمن حيث أعيان الأشياء وما به هي هي ، ومن حيث الوجود الحق المتعين بكل شيء فليس شيء في  العالم خبيثا وما يكون بعض الأمور طيّبا أو خبيثا عند الحق فذلك من حيث تعيّنه في مرتبة ما ، فيطيب له ما يشاكل الحال والوصف والنعت الخصيص بتلك المرتبة ، وتكره أيضا كذلك من حيث هي ما يضارّها ويناقضها ويباينها وينافيها لا غير ، والكل - من حيث هو هو - طيّب له وعنده ، وهو عند الكلّ طيّب كلَّه ، كما مرّ .
 
قال رضي الله عنه  : ( ورحمة الله في الخبيث والطيّب ) يعني بالنسبة والإضافة .
قال رضي الله عنه  : ( والخبيث عند نفسه طيّب ، والطيب عنده خبيث ، فما ثمّ شيء طيّب إلَّا وهو من وجه في حقّ مزاج ما خبيث ، وكذلك بالعكس .
وأمّا الثالثة التي بها كملت الفردية فالصلاة ، فقال : « وجعلت قرّة عيني في الصلاة » لأنّها مشاهدة ) .
يعني  رضي الله عنه  أنّ قرّة عين الحبيب بمشاهدة الحبيب .
 
قال رضي الله عنه  : ( وذلك لأنّها مناجاة بين الله وبين عبده » يعني الصلاة « كما قال :" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " وهي عبادة مقسومة بين الله وبين عبده بنصفين ، فنصفها لله ونصفها للعبد ، كما ورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى : أنّه قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، يقول العبد :"بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ " يقول الله : ذكرني عبدي.
 يقول العبد : "الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ "  يقول الله : حمدني عبدي . يقول العبد :" الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ " يقول الله : أثنى عليّ عبدي . يقول العبد :" مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " يقول الله : فوّض إليّ عبدي ، فهذا النصف كلَّه لله تعالى خالص .
ثم يقول العبد :" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " يقول الله : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فأوقع الاشتراك في هذه الآية .
يقول العبد :" اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " السورة يقول الله : هؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، فخلص هؤلاء لعبده ، كما خلص  الأولى له تعالى ، فعلم من هذا وجوب قراءة « الحمد لله ربّ العالمين » فمن لم يقرأها ، فما صلَّى الصلاة المقسومة بين الله وبين عبده ) .
قال العبد : لمّا ذكر الله تعالى على لسان رسوله الصادق صلَّى الله عليه وسلَّم في أوّل الحديث الصحيح نقلا وعقلا وكشفا : يقول العبد : " بسم الله الرحمن الرحيم " فهو دليل لنا وللشافعي رحمه الله أنّ « بسم الله الرحمن الرحيم » من الفاتحة ، ولا سيّما ويعضدنا في الاستدلال بذلك قوله عليه السّلام : « لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب » مع ما ذكر في هذا الحديث على لسان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي " .
 
ولمّا تمّم التقسيم في الفاتحة بل الفاتحة هي الصلاة المقسومة ومن لم يقرأها ، فلا صلاة له ، وأيضا لمّا كان الافتتاح شرعا في كل أمر إنّما هو بالبسملة ، ومن لم يبدأ بها في أمره ، فهو أبتر ، والفاتحة مبدأ كتاب الله ، فالأحق والأحرى عقلا أن يكون البسملة آية من الفاتحة بدأ بها الله أوّل هذه السورة التي افتتح بها كتابه الكريم ، وسمّاها فاتحة الكتاب . وفي ترجيح ما ذهبنا إليه دلائل شرعية ليس هذا موضع ذكرها ، نذكرها في كتاب الفقه إن شاء الله تعالى .
 
وأمّا الحق الذي قسم الصلاة بينه وبين عبده نصفين ، فهو الحق المعبود المعتقد في العقيدة الإسلاميّة وغيرها ، وذلك لأنّ الإله الذي في قبلة المصلَّي كما قال :" فَأَيْنَما تُوَلُّوا " هو الذي قسم الصلاة وهو الإله المعتقد وأنّ الله الذي هو ربّ العالمين غير منحصر في قبلة المصلَّي ، فإنّه كما قال :" فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه ُ الله " و" هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ " ، فانظر التثليث والفردية في أمّ الكتاب الذي خصّ به محمّد صلى الله عليه وسلم فإنّ القسم الأوّل منه يختصّ بالحق ، والأخير يختصّ بالكون أو العبد ،  وما بينهما مشترك بين الحق والعبد .
 
قال رضي الله عنه  : (« ولمّا كانت مناجاة » يعني الصلاة « فهي ذكر ، ومن ذكر الحق ، فقد جالس الحق ، وجالسة الحق ، فإنّه صحّ في الخبر الإلهي أنّه قال : أنا جليس من ذكرني . ومن جالس من ذكره - وهو دو بصر - رأى جليسه ، فهذه مشاهدة ورؤية ، فإن لم يكن ذا بصر ، لم يره ، فمن هنا يعلم المصلَّي رتبته ، هل يرى الحق هذه الرؤية في الصلاة أم لا ؟
فإن لم يره ، فليعبده بالإيمان كأنّه يراه ، فيخيّله في قبلته عند مناجاته ، ويلقي السمع لما يرد به عليه [ من ] الحق ، فإن كان إماما لعالمه الخاصّ به وللملائكة المصلَّين معه ، فإنّ كلّ مصلّ فهو إمام بلا شكّ ، فإنّ الملائكة يصلَّون خلف العبد إذا صلَّى وحده ، كما ورد في الخبر - فقد حصل له رتبة الرسول في الصلاة - وهي النيابة عن الله - إذا قال : سمع الله لمن حمده ،
فيخبر نفسه ومن خلفه بأنّ الله قد سمعه ، فتقول الملائكة والحاضرون : ربّنا لك الحمد ، فإنّ الله قال على لسان عبده : سمع الله لمن حمده ، فانظر علوّ رتبة الصلاة والى أين تنتهي بصاحبها ، فمن لم يحصّل درجة الرؤية في الصلاة ، فما بلغ غايتها ، ولا كان له فيها قرّة عين ، لأنّه لم ير من يناجيه ، فإن لم يسمع ما يرد [ من ] الحق عليه فيها ، فما هو ممّن ألقى السمع ، ومن لم يحضر فيها مع ربّه مع كونه لم يسمع ولم ير ، فليس بمصلّ أصلا ، ولا هو ممّن ألقى السمع وهو شهيد ) .
 
قال العبد : الرؤية والشهود والسماع من العبد المصلَّي للحق ، قد تكون ببصر الإيمان ، وقد تكون ببصر البصيرة والفهم ، وقد تكون بالرؤية البصرية ، فيتمثّل الحق متجلَّيا مشهودا له ، قاسما للصلاة بينه وبين عبده ، وقد يجمع هذه كلَّها للعبد الكامل أو الفرد النادر ، وقد ينفرد كلّ واحد منها بواحد واحد منها ، وهكذا في السمع ، والذي يجمع له بين الكلّ فهو أكمل الكلّ .
 
قال رضي الله عنه  : ( وما ثمّ عبادة تمنع من التصرّف في غيرها ما دامت سوى الصلاة ، وذكر الله فيها أكبر ما فيها لما تشتمل عليه من أقوال وأفعال ، وقد ذكرنا صفة الرجل الكامل في الصلاة في الفتوحات المكَّيّة كيف تكون ، لأنّ الله يقول :
" إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ " لأنّه شرع للمصلَّي أن لا يتصرّف في غير هذه العبادة ما دام فيها ويقال له مصلّ " لَذِكْرُ الله أَكْبَرُ " يعني فيها ، أي الذكر الذي يكون من الله لعبده حين يجيبه في سؤاله، والثناء عليه أكبر من ذكر العبد ربّه فيها، لأنّ الكبرياء لله تعالى.
ولذلك قال :" وَالله يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ " وقال :" أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ " وإلقاؤه السمع هو لما يكون من ذكر الله إيّاه فيها ، ...
ومن ذلك أنّ الوجود لمّا كان من حركة معقولة نقلت العالم من العدم إلى الوجود ، عمّت الصلاة جميع الحركات وهي ثلاث : حركة مستقيمة وهي حال قيام المصلَّي ، وحركة أفقيّة وهي حال ركوع المصلَّي ، وحركة منكوسة وهي حال سجوده ، فحركة الإنسان مستقيمة ، وحركة الحيوان أفقية ، وحركة النبات منكوسة وليس للجماد حركة من ذاته ، فإذا تحرّك حجر فإنّما يتحرّك بغيره .)
 
يقول العبد : يتحرّك الإنسان دوريا بالإرادة ، ولكنّه بالطبع يتحرّك في نموّه على استقامة قامته ، والحيوان يتحرّك في نشئه بالطبيعة أفقيا ، والنبات يتحرّك بطبيعته منكوسا بالعروق بالأصالة ، ثم يتحرّك حركة فرعية على عكس حركته الأصلية منكوسا أيضا ، فيظنّ أنّ له حركة مستقيمة وليس ذلك كذلك ، فإنّ حركته الأصلية منكوسة ، فإنّ أصله ثابت في الأرض وإن كان فرعه في ظاهر الأرض إلى السماء .
 
ثمّ اعلم : أنّ الوجود الكونيّ ، لمّا كان عن حركة معقولة من حقيقة العالم ، خرجت بها من العدم العيني إلى الشهود الوجودي ، فكانت حركة الوجود على ثلاثة أنحاء من الحركات المعقولة الأولى كما مرّ في سرّ الألف - : حركة تنزّل ونذل من الفوق إلى التحت وهي حركة منكوسة لإيجاد عالم السفل وهو الكون ، وحركة من التحت إلى الفوق وهي حركة مستقيمة لإيجاد عوالم الأسماء الإلهية والنسب ، فإنّها إنّما توجد بوجود الكون ويندرج فيه الحركة المعراجية لإيجاد الأرواح والأنفس ، والحركة الجمعية لإيجاد العالم الإنساني الجمعي .
 
هذا في صلاة الحق ، الخصيصة به - وهو التجلَّي الإيجادي - وكذلك في صلاة العبد وهو الوصل والارتباط من قبل العبد بالحق ، فتمّت بهذه الحركات الثلاث القيام والركوع والسجود ، هذا في أفعاله ، وكذلك في أقواله . كما مرّ في الفاتحة ، فانظر سرّ الفردية والتثليث ساريا في هذا القسم الأخير الذي به تتمّ الفردية المحمدية ما أطفّها وما أشرفه لمن عقل .
 
قال رضي الله عنه  : ( وأمّا قوله : " وجعلت قرّة عيني في الصلاة" ولم ينسب الجعل إلى نفسه ، فإنّ تجلَّي الحق للمصلَّي إنّما هو راجع إليه - تعالى - لا إلى المصلَّي فإنّه لو لم يذكره بهذه الصفة عن نفسه ، لأمره بالصلاة على غير تجلّ منه له ، فلمّا كان ذلك منه بطريق الامتنان ، فقال : « وجعلت قرّة عيني في الصلاة » وليست إلَّا مشاهدة المحجوب ، التي تقرّ بها عين المحبّ - من الاستقرار - فيستقرّ العين عند رؤيته ، فلا تنظر معه إلى شيء غيره في شيء وفي غير شيء ) .
يعني  رضي الله عنه  : في شيء موجود ، فعلَّقت المشيّة بوجوده من قولهم : كل شيء بشيئيّته أي بمشيئته . و « غير شيء » ما لم يتعلَّق به المشيّة من النسب .
وقوله : « من الاستقرار » لطيفة ، وذلك أنّ العبد إنّما يكون قرير العين إذا شاهد عين حبيبه ، لقرار عينه بعين الحق حين المشاهدة ، فلا يشاهد سواه ، ويفنى هو عن نفسه وعن كل ما يسمّى سوى الحق في هذا الشهود ، وعلى هذا القرار يثبت .
وتقرّ بفتح القاف - إذا ابتهج برؤية ما يسرّه . وقرّ يقرّ - بكسر القاف - إذا ثبت ، وإنّما يقرّ عين المحبّ إذا ثبت لمشاهدته محبوبه ببقاء عين الحق وفناء عين العبد فيه عن حجابية تعيّن غيريته واتّحاد بقائه ببقاء الحق ، وهذا الشهود فوق اللقاء المنتظر الموعود ، لأنّ اللقاء يقتضي الاثنينيّة ، وهذا الشهود يقتضي أحدية العين ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( ولذلك نهي عن الالتفات في الصلاة ، فإنّ الالتفات شيء يختلسه الشيطان من صلاة العبد ، فيحرمه مشاهدة محبوبه ، بل لو كان محبوب هذا الملتفت ، ما التفت إلى غير قبلته بوجهه ) .
يعني  رضي الله عنه  : إن وقع التفات بعينه في جهة القبلة من غير ليّ لوجهه إلى جهة غير القبلة ، فإنّ الحق قد يعفو عنه ، إذا هو في قبلته ولم يلتفت معرضا عن القبلة إلى غيرها .
 
قال رضي الله عنه  : ( والإنسان يعلم حاله في نفسه هل هو بهذه المثابة في هذه العبادة الخاصّة أم لا ؟ فإنّ "الإِنْسانُ عَلى نَفْسِه ِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَه ُ " فهو يعرف كذبه من صدقه في نفسه ، لأنّ الشيء لا يجهل حاله ، فإنّ حاله له ذوقيّ .
ثمّ إنّ مسمّى الصلاة ، له قسمة أخرى ، فإنّه - تعالى - أمرنا أن نصلَّي له ، وأخبرنا أنّه يصلَّي علينا فالصلاة منّا ومنه ، فإذا كان هو المصلَّي ، فإنّما يصلَّي باسمه « الآخر » فيتأخّر عن وجود العبد ، وهو عين الحق الذي يخلقه العبد في قلبه ، بنظره الفكري أو بتقليده ، وهو الإله المعتقد ، ويتنوّع بحسب ما قام بذلك المحلّ من الاستعداد ، كما قال الجنيد - رحمة الله عليه - حين سئل عن المعرفة بالله والعارف فقال : لون الماء لون إنائه . وهو جواب سادّ ، أخبر عن الأمر بما هو عليه ، فهذا هو الله الذي يصلَّي علينا ) .
 
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ المصلَّي هو التابع للمجلي ، وهو عبارة عن كون التجلَّي بحسب المتجلَّى له ، فإنّ تعيّن الوجود الحق وظهوره في تجلَّيه إنّما يكون بحسب خصوص قابليّة المتجلَّى له ، كما أشار إليه الأستاذ بقوله : « لون الماء لون إنائه » يعني ليس للحق صورة معيّنة تسمّى ، فتميّزه عن صورة أخرى ، كالماء لا لون له ، ولكنّ لون  الماء يتلوّن بحسب لون إنائه ، فإنّ الحق لذاته يقتضي القبول لكل نعت والظهور بكل وصف بحسب الواصف والحاكم والعالم به ، فإن كان العالم صاحب اعتقاد جزئي نسبي ، ظهر في معتقدة ، ومن لا حسبان له في علمه بالله ، بحسب عقد معيّن ولم يتقيّد في معرفته وشهوده بعقيدة معيّنه دون غيره ، بل يكون علمه ومعرفته بالله وشهوده له إحاطته بالجميع بحيث لا يشذّ عنه صورة إلا وعنده له وجه حقيقة ، وسع الحق وغمره بتجلَّيه وأنانيّته
كما قال رضي الله عنه  :
عقد الخلائق في الإله عقائدا ....  وأنا شهدت جميع ما اعتقدوا
فذلك هو العارف العالم الذي لا لون له يخرج الماء إلى ذلك اللون ويكسبه ما ليس له إلَّا فيه لا في نفسه ، وفي قوله رحمة الله عليه دلالة على أنّ سائله لم يكنّ إلَّا صاحب عقد معيّن ، فأجابه الجنيد بجواب كلَّي يفيد الكلّ معرفة بالمعرفة بالله ، فرقاه إلى ما فوق معتقده ، فإنّ من كان على ما ذكرنا لا لون له ، فيظهر الحق بحسبه ، كما هو تعالى في نفسه ، ولقد أشرت إلى هذا المقام بأبيات وردت عقيب شهود كلَّي وفناء حقيقي ، اتّفق في عشر ذي الحجّة ، خلوت بالحق في بيت الخلوة الذي للجنيد عليه السّلام بمحروسة « دار السلام » ، وهي كثيرة منها في المقام ،
شعر :
حرام على عيني معاينة السوي  .... وحلّ دمي إن كان غيرك في عيني
لقد كنت عيني حيث كنت ولم أكن   .... وكنت عن الأغيار في عزة الصون .
فكن لك بي لا لي كما كنت دائما   .... أكن لك عين الكلّ فيك بلا كوني
فلا أين يحويني ولا كيف حاصري   .... ولا في هيولى الكلّ منحصر عيني
يقولون : لون الماء لون إنائه   .... أنا الآن من ماء إناء بلا لون.
والله الموفّق المؤيّد للمؤيّد الموفّق .
 
قال رضي الله عنه  : ( فإذا صلَّينا نحن ، كان لنا الاسم « الآخر » فكنّا فيه ما ذكرناه في حال من له هذا الاسم ، فنكون عنده بحسب حالنا فلا ينظر إلينا إلَّا بصورة ما جئناه بها ، فإنّ المصلَّي هو المتأخّر عن السابق في الحلبة ) .
وذلك لأنّ مرآة الحق تظهرنا على ما نحن عليه ، فما نكون عنده إلَّا بحسب حالنا في صلاتنا ، ولو كنّا فيها بحسبه ، فقد كملت صلاتنا كصلاة أهل الكمال والرسوخ .
 
قال رضي الله عنه : ( وقوله :" كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَه ُ وَتَسْبِيحَه " أي رتبته في التأخّر في عبادة ربّه وتسبيحه الذي يعطيه من التنزيه استعداده ، فما من شيء إلَّا وهو يسبّح بحمد ربّه الحليم الغفور ) .
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ للأشياء - في تأخّر وجودها عن ربّها بمظهريّاتها له أو ظهورها فيه - حكمين :
أحدهما ثبوتي والآخر سلبي 
فالسلبي هو الذي يسلب وينفى به عن الحق ما هي عليه من التقيّد والنقائص ونقائض الكمالات ، وهو تنزيهها للحق وتسبيحها من النقائص التي هي عليها .
والحكم الآخر : إثبات الكمالات التي هي عليها للحق على الوجه الأكمل الأليق بجنابه - تعالى - على ما مرّ مرارا .
 
قال رضي الله عنه  : ( ولذلك لا نفقه تسبيح العالم على التفصيل واحدا واحدا . وثمّ قرينة بعود الضمير فيها على العبد المسبّح في قوله :"وَإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه" أي بحمد ذلك الشيء ، فالضمير الذي في قوله : «بحمده» يعود على «الشيء» أو بـ " لثناء" الذي يكون عليه ) .
يعني  رضي الله عنه  : لمّا كان كلّ شيء كما ذكرنا مشتملا على محامد وكمالات خصيصة به ، ولا تظهر تلك المحامد على الوجه الذي ظهرت فيه إلَّا منه وبه لا من غيره وفي سواه ، مستوعبا أيضا لكمالات يشترك فيها مع غيره ، فهو يحمد عين  وجوده الظاهر فيه بتلك الكمالات ، بل يحمد بوجوده الخاصّ به عينه الثابتة وحقيقته التي هذه المحامد نسبها ولوازمها ، كانت كامنة في عينها الغيبي ، فأظهرها الوجود الحق لها ووصفها وعرّفها بها فيه أوله ، فإذن لم يحمد كلّ شيء بذاته ووجوده إلَّا نفسه ، فإليه يعود الضمير في قوله :" يُسَبِّحُ بِحَمْدِه ِ ".
 
وأمّا تسبيحه وهو تنزيهه عن نقائص كونيّة فيكون بمعنى نفي النقص مطلقا ، أي كل ما ظهر به النقائص النسبيّة المتوهّمة كمالات حقّيّة خفيّة نسبية للوجود والعين بالنسبة إلى ذلك ، فينزّه وجوده وحقيقته جمعا وفرادى عمّا توهّمه متوهّم النقص فيه ،
إذ لا نقص إلَّا بالنسبة والإضافة ، ولكن ظهور الوجود في حقيقة الشيء هو كذلك ، وذلك درجة أو مرتبة لتجلَّي الوجود أو ظهور تلك العين والحقيقة في الوجود الحق بحسبه كذلك ليس إلَّا على هذا الوجه ، ولكنّ الناظر بنظره الوهمي يرى ذلك بالنسبة إلى ظهور آخر في مظهر ومرآة أخرى - نقصا ، فليس في الوجود نقص حقيقي ، بل بالنسبة والإضافة في وهم المتوهّم أو في التخيّل أو التعقّل لا غير ، ومقتضى التحقيق أنّه لمّا كان للوجود الحق صلاحية الظهور بتلك المحامد التي ذلك الشيء عليها ، وقبول الظهور لتلك الأحكام - التي توهم النقص من حيث التعيّن والظهور ، ذاتيّا ، كانت المحامد والمذامّ المتوهّمة عائدة على الوجود الحق بالأصالة في الحقيقة ، فاحتمل الضمير في قوله :"يُسَبِّحُ بِحَمْدِه ِ " الوجهين معا ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه  : ( كما قلنا في المعتقد : إنّه إنّما يثني على الإله الذي في معتقده وربطه به نفسه ، وما كان - من عمل - فهو راجع إليه فما أثنى إلَّا على نفسه ، فإنّه من مدح الصنعة فإنّما يمدح الصانع بلا شكّ ، فإنّ حسنها وعدم حسنها راجع إلى صانعها ، وإله المعتقد مصنوع للناظر فيه ، فهو صنعته ، فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه ، ولهذا يذمّ معتقد غيره ، ولو أنصف ، لم يكن له ذلك إلَّا أنّ صاحب هذا المعبود الخاصّ جاهل بلا شكّ في ذلك ، لاعتراضه على غيره ، فما اعتقده في الله ،  
إذ لو عرف ما قال الجنيد : « لون الماء لون إنائه » لسلَّم كلّ ذي اعتقاد ما اعتقده ، وعرف الله في كل صورة وكلّ معتقد » . )
يشير رضي الله عنه  إلى أنّ الضمير في قوله : « بحمده » من " وَإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه ِ " الراجع إلى المسبّح المعتقد لا يصلح أن يكون راجعا إلى الله إلَّا من حيث الوجه المحقّق الذي ذكرنا و لا إلى ما اعتقده ، فإنّ صورة معتقده مصنوعة له ومخلوقة له كذلك ، وليست لموجد الأشياء الذي يجب له التسبيح ، فإنّ الله أخبر عن نفسه بأنّه "سُبْحانَه ُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ "  فإنّ كل معتقد خاصّ فإنّما يصفه بصفة كمال هو عليه لا غير ،
إذ لا يعرف غير ذلك الوصف ، وأخبر أنّه " لا يُحِيطُونَ به عِلْماً " وكلّ ذي اعتقاد فإنّه محيط بصورة معتقدة ، وأخبر تعالى أيضا في كتابه الذي "لا يَأْتِيه ِ الْباطِلُ من بَيْنِ يَدَيْه ِ وَلا من خَلْفِه " على خلاف ما هو عليه معتقده ، وذلك لأنّ المنزّة بالتنزيه العقلي صوّر في اعتقاده صورة ليست بجسم ولا جوهر ولا غرض ولا كذا ولا كذا ،
وكذلك المشبّه حصره فيما شبّههه به وهو محيط بما صوّره ، لأنّه مصنوعه ، وصورة معتقد كلّ منهما محدودة بما يباين الآخر ويتميّز عنه ، وكل متميّز عن غيره متناهي الحدود إلى ذلك الغير ، ومحدود بما به يخصّص ويميّز ، فالإله الذي يعبده في زعمه هو ما صنعه في خياله ووهمه ، فما حمده به يرجع إليه ، فما حمد إلَّا نفسه ، لأنّه موجد تلك الصورة الذهنية في ذهنه ، فما سبّح الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ،
فإنّه غير محدود بحدّ ، ولا محصور في حكم ، ولا محاط به عقلا ، فإنّه هو المحيط بالعقل وبكلّ شيء بالذات إحاطة ذاتية ، كما علمت ، فسبحانه وتعالى  عمّا يقولون علوّا كبيرا .
 
قال رضي الله عنه  : ( فهو ظانّ ليس بعالم ، فلذلك قال : " أنا عند ظنّ عبدي بي " أي لا أظهر له إلَّا في صورة معتقدة ، فإن شاء أطلق ، وإن شاء قيّد ، فإله المعتقدات تأخذه الحدود ، وهو الإله الذي وسعه قلب عبده ، فإنّ الإله المطلق لا يسعه شيء ، لأنّه عين الأشياء وعين نفسه ، والشيء لا يقال فيه : يسع نفسه ، ولا : لا يسعها ، فافهم والله يقول الحقّ وهو يهدي السّبيل).
 
 يشير رضي الله عنه  إلى أنّ الأحدية الذاتية تستهلك ما يسمّى غيره ، فما ثمّ إلَّا هو هو ، حتى أنّ الأحدية ليست نعتا له ، بل الأحدية في هذا المقام عين الواحد الأحد ، فلا اثنينيّة ، فما ثمّ من يسعه سواه ، فآلهة الاعتقادات صور وهميّة تعقّلها المعتقدون من حيث إنّ اعتقاد كلّ معتقد على التعيين يخالف اعتقاد مخالفه ، وقد ميّز كل منهم معتقده عن معتقد مخالفه ، فحدّده بما به ميّزه وعقده ، وحصر الحق الذي في زعمه في صورة اعتقاده ، وعقد عليه عقده ، واعتقد عقيدة ، وأنكر الحق الذي في معتقد غيره وجحد ،
لكنّ الله الواحد الأحد محيط بكلّ ما توحّد فتأحّد ، وما تعدّد فتحدّد ، لا تقدح في أحديته كثرة ما يتعدّد في مراتب العدد ، ولا في إطلاقه تقيّد ما تعيّن وتقيّد ، فتحدّد ، فيتنوّع التجلَّي من ينبوع تعيناته في منصّات تجلَّياته ومجالي تعيناته بحسب خصوصيات شؤون ذاته ،
فيقبل كلّ ذلك لنفسه من نفسه باقتضاء له ذاتيّ فوسع الكلّ ، ولم يسعه الكلّ ، فالذي وسعه قلب عبده هو الإله الذي اعتقده ، فوسع قلبه وملأه ، فلا يسع معه غيره .
ولكنّ هاهنا تحقيقا لمن آتاه الله نظرا دقيقا ولطفا في الإدراك وتدقيقا وهو أنّ الله لمّا كان بوجوده عيّن ما ظهر وعيّن ما بطن واستتر ،
فهذه الصور الاعتقادية تكون من جملة ظهوراته وتعيّناته في مراتب الأذهان والأوهام والأفهام والبصائر والعقول والقلوب والشهود والوجود ، فقد وسع الحق هذه الصور كلَّها ، فإنّها صورة في تلك  المراتب الخصيصة بها .
 
ولا يقال : إنّه من حيث ظهوره في صورة عين ما ظهر بصورة أخرى : فإنّه - من حيث ظهوره في صورة ما - متعيّن فيها بحسبها ، محدود بحدّها .
ولا يقال أيضا : إنّه من كونه عين الكلّ هو هذا على التعيين ، فإنّ هذا هذا لا غير ، ليس ذاك وهو عين الكلّ ، والكل صورته وهو هوية الكل فمن لم يحصره في صورة معينة دون غيره فقد عرف الحق على ما هو عليه في نفسه ، فإنّه في نفسه مطلق عن كل قيد وحصر وهو المحيط غير المحاط ، من كونه هو هو هو هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن ،
وما ثمّ إلَّا ظاهر أو باطن أو أوّل أو آخر ، فمن كونه عينا في غيب عينه باطن أوّل لا اطَّلاع عليه من هذا الوجه أصلا ورأسا ، وهو من كونه عين ما ظهر من كل صورة حسّيّة جسميّة طبيعية أو عنصرية أو غير حسيّة بل عقلية أو وهمية أو خيالية عين الكلّ من غير حصر في صورة ما منها على التعيين ، ولا في الجميع ولا في الإطلاق عن الجمع والجميع وعن كل قيد وحصر .
 

وقوله  رضي الله عنه  : ( الذي وسعه القلب هو الإله المعتقد  يريد بذلك الاعتقادات الجزئية التقييدية من تنزيه أو تشبيه أو غير ذلك سوى الذي وسعه قلب الكامل ، فإنّ قلب الإنسان الكامل - المشاهد للأمر على ما هو عليه في نفسه - منقلب مع الحق أوله في صور شؤونه الذاتية أبدا دائما ، فهو مطلق لا قيد له في عقد ، فما له معتقد معيّن ، لحصر الحق فيه ولا يكون صورا اعتقادية ، بل هو مع الحق في صور شؤونه التي فيه ، يتقلَّب ويتحوّل فيها لمقتضى ذاته وقد وسعه ، لأنّ قلبه أحديّة جمع جميع الشؤون الذاتية ، وهو عين الأعيان الغيبيّة العينيّة ، وهو قلب الوجود ، ولبّ الشاهد والمشهود والشهود ، لأنّه صورة التعين الأوّل الذاتي ،
وهو قلب الحق المطلق والخلق المقيّد ، فافهم إن كان لك قلب يسع الحق على ما هو عليه الحق في نفسه ، وإلَّا فألق السمع إلى الحق الذي أنزل القرآن على رسوله ، ونطق على لسان هذا الرسول بالحق ، فإنّه "ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ".
 
 فليؤمن بما أنزل الله من الكتاب كلَّه وبجميع ما نطق به على السنة أنبيائه ورسله وأوليائه ، من غير تأويل نفسيّ أو تحكيم عقلي ورأي من عنده ظنّيّ أو حدسيّ أو علمي في زعمه فكريّ فعساه يكون من أهل النجاة والرشاد والسّداد ، ولله ولَّي التوفيق والإرشاد والإسعاد ، واهب الاستعداد أبد الآباد .
 
والحمد لله الأوّل الآخر الباطن الظاهر ، منتهى الأعداد ، ومبلغ الأمداد ، ومداد الإمداد ، وغاية الدهور والآماد ، ملء السماوات والأرضين وما بينهما وما فوقهما وما تحتهما وما أحاط بهما ، عدد خلقه وزنة عرشه ورضى نفسه ومداد كلماته .
 
وصلَّى الله على خاتم الرسل والأنبياء ووارثه الأكمل في خصوص ختميته ، خاتم الأولياء المحمديين ، وخاتم الولاية العامّة المطلقة ، روح الله وكلمته وخاتم الأولياء أجمعين ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلاته وسلامه على محمد وآله أجمعين الطَّيبين الطاهرين .
تمّ بتوفيق الله في أوائل ذي القعدة الحرام لسنة خمس وسبعين وثمانمائة الهجرية 875 اللهمّ اغفر وارحم لكاتبه ولجميع المؤمنين ، آمين .
 
 
قال رضي الله عنه : ( ثم الله أطلعه على ما أودع فيه ، وجعل ذلك في قبضتيه :القبضة الواحدة فيها العالم ، والقبضة الأخرى فيها آدم وبنوه ، وبيّن مراتبهم فيه ) .
قال العبد أيّده الله تعالى به :
اعلم : أنّ الكمّل من الصورة الأحدية الجمعية الإنسانية لا بدّ لهم أن يريهم الله ويشهدهم صور تفاصيل ما أودع فيهم تشريفا لهم وتكميلا وتفهيما لهم بحقائقه التي أودعها فيهم وتوصيلا .
 وكذلك أشهد آدم عليه السّلام صور تفاصيل النشأة الإنسانية في مقامي الجمع والفرق المشار إليهما بالآفاق والأنفس .
 

 فأشهد جميع العالم في القبضة الواحدة وهي اليسار عرفا اصطلاحيّا وأشهد آدم وذرّيّته في الأخرى ، وهي اليمين كذلك ، وكلتا يدي ربّي يمين مباركة ، والحديث مشهور . 
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 2انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
 مواضيع مماثلة
-
» شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
» شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر
» كتاب فصوص الحكم الشيخ الاكبر محيي الدين بن العربي الطائي الحاتمي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: