منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يوليو 23, 2019 2:51 pm

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

مقدمة الشارح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

مقدمة الشارح اقيصري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

مقدمة الشارح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري على فصوص الحكم الشيخ الأكبر

كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم
751 هـ  - 1350 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي عين الأعيان بفيضه الأقدس الأقدم  وقدرها بعلمه في غيب ذاته وتمم ولطف برش نور التجلي عليها وانعم وأظهرها بمفاتيح خزاين الجود والكرم.
عن مكامن الغيوب ومقار العدم ووهب لكل منها ما قبل استعداده فأكرم.
وأوجد منها ما كان ممكنا واحكم لذاته باظهار ملابس أسمائه في القدم ودبرها بحكمته فاتقن وأبرم.
فسبحان الذي تجلى بذاته لذاته، فاظهر آدم واستخلفه على مظاهر أسمائه المنعوتة بالعالم وأجمل فيه جميع الحقايق وأبهم ليكون صورة اسمه الجامع العزيز الأكرم وحامل أسرار العليم الأعلم فيدل به عليه فيعلم. وصلى الله على من هو الاسم الأعظم الناطق بلسان مرتبته (انا سيد ولد آدم) المبعوث بالرسالة إلىخير الأمم وعلى آله وأصحابه المصطفين من العرب والعجم  الرافعين بأنوارهم أستار الظلم ، وعلى وارثيه من الأولياء الكمل السالكين للطريق الأمم المطلعين بالحق على الاسرار والحكم.
وبعد :
فيقول العبد الضعيف داود بن محمود بن محمد الرومي القيصري  
مولدا الساوي محتدا، انجح الله مقاصده في الدارين.
فلما وفقني الله تعالى وكشف على أنوار أسراره ورفع عن عين قلبي أكنة أستاره وأيدني بالتأييد الرباني باعلام رموزه والتوفيق الصمداني باعطاء كنوزه.
وساقتني الأقدار إلى خدمة مولانا الامام العلامة الكامل المكمل، وحيد دهره وفريدعصره فخر العارفين قرة عين ذات الموحدين ونور بصر المحققين كمال الملة والحق والدين، عبد الرزاق بن جمال الدين أبى الغنائم القاشاني، أدام الله على المستفيدين بركة أنفاسه وأنار بمعارفه قلوب الطالبين وجلاسه.
وكان جملة من الاخوان المشتغلين بتحصيل الكمال الطالبين لأسرار حضرة ذي الجمال والجلال، شرعوا في قراءة كتاب فصوص الحكم الذي أعطاه النبي، صلى الله عليه وسلم، الشيخ الكامل المكمل قطب العارفين وامام الموحدين وقرة عيون المحققين وارث الأنبياء والمرسلين خاتم الولاية المحمدية كاشف الاسرار الآلهية.
الذي لا يسمح بمثله الدهور والأعصار ولا يأتي بقرينه الفلك الدوار محيي الملة والحق والدين، رضى الله عنه وأرضاه وجعل أعلى جنانه موطنه ومثواه.
ليخرجه إلى الخلق ويبين لهم ما ستر من الحقايق ويكشف عليهم ما انحجب من الأسرار والدقايق، لأنه كاد ان ينجلي الحق بالنور الموجب للظهور.
وقرب ان تنكشف لهم ما ستر من الحقايق ويكشف كل مرموز ومستور وحان طلوع شمس  الحقيقة من مغربها وبروز عرش الربوبية من مشرقها .
وكان الحق قد أطلعني على معانيه المتساطعة أنوارها وألهمني بفحاويه المتعالية أسرارها، وأراني في سرى من بشرني بمعرفتي هذا الكتاب وخصصني بالعلم به من بين ساير الأصحاب .
من غير تأمل سابق فيه أو مطالعة واستحضار لمعانيه، عناية من الله الكريم وفضلا من الرب الرحيم، لأنه هو المؤيد بنصره من يشاء من عباده .
والموفق بالظفر على أسرار مبدئه ومعاده، مع تجوال عقول العقلاء حول فنائه وترجاعهم خاسرين وتطواف فهوم الفضلاء حريم حمائه وتردادهم حاسرين.
لكونه منزلا من سماء يحيط بفلك العقل ولا يحاط، ومقاما ينوط بكل ما يناله الفهم ولا يناط.
مشيرا بحقايق، عجزت العقول عن ادراكها وكاشفا لدقايق وقفت القلوب عن ذرى أفلاكها وحارت أعين ذوي البصائر والابصار في عرايس معانيها المتلألئة من وراء الحجاب.
وشخصت ابصار أهل العلم والفهم في محاسن مجاليها المتجلية لأولي الألباب، يحول عقول الخلق حول جنابه ولم يدركوا من برقه غير لمعة من سرابه.
سنح لي ان اكشف بعض أسراره على طالبيه وارفع القناع عن وجوه عرايس معانيه التي فاضت على قلبه المنور وروحه المطهر من حضرة العليم الخبير الحكيم القدير.
بالتجلي منه عليه والدنو منه والتدلي إليه ، امتثالا لأمره وانقيادا لحكمه حيث قال: هذه الرحمة التي وسعتكم فوسعوا.
ودخولا فيمن قال تعالى، فيهم: "ومما رزقناهم ينفقون".
وأداء لشكره كما قال:"واما بنعمة ربك فحدث".
فشرعت فيه مستعينا بالله طالبا لرحمته، ان أقيد بعض ما فتح الله لي فيه وما استفدت من كتب الشيخ وكتب أولاده ، رضوان الله عليهم أجمعين.
بعبارة واضحة وإشارة لايحة، من غير ايجاز مخل ولا تطويل ممل.
شارطا ان لا انزل كلامهم الا على قواعده ولا أتعرض في معاقده الا بأذيال عقايده.
بل أبين بحيث يتضح للناظر معنى الكتاب ويعلم ما هو الباطل من الصواب، فيحق الحق ويبطل الباطل من غير إشارة منى وخطاب، مع اعترافي بالعجز والتقصير واقراري بأنه هو العليم الخبير.
ولما كان العلم بهذه الأسرار موقوفا على معرفة قواعد وأصول اتفقت عليها هذه الطايفة.
قدمت لبيانها فصولا وبينت فيها أصولا تبتنى قاعدة التوحيد عليها وتنتسب هذه الطريقة إليها بحيث يعلم منها أكثر قواعد هذا العلم لمن وفقه الله تعالى وانعم عليه بالفهم.
وجعلتها اثنى عشر فصلا:
الفصل الأول : في الوجود وانه هو الحق.
والفصل الثاني : في أسمائه وصفاته، تعالى
والفصل الثالث : في الأعيان الثابتة والتنبيه على بعض مظاهر الأسماء في الخارج
والفصل الرابع : في الجوهر والعرض وما يتبعهما على هذه الطريقة
والفصل الخامس : في بيان العوالم الكلية والحضرات الخمس الآلهية .
والفصل السادس : فيما يتعلق بالعالم المثالي .
والفصل السابع : في مراتب الكشف وأنواعها اجمالا.
والفصل الثامن : في أن العالم هو صورة الحقيقة الانسانية بحسب مراتبها .
والفصل التاسع : في بيان خلافة الحقيقة المحمدية والأقطاب.
والفصل العاشر : في بيان الروح الأعظم ومراتبه وأسمائه في العالم الإنساني .
والفصل الحادي عشر : في عود الروح ومظاهره العلوية والسفلية إليه، تعالى .
والفصل الثاني عشر في النبوة والرسالة والولاية
ووشحتها بغرايب قد من الله بها على ولم أر في كتب الطائفة شيئا منها ولطايف استنبطها من قواعدهم.
وسميت الكتاب بمطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم.
وجعلته مشرفا بألقاب المولى المعظم الصدر الأعظم صاحب ديوان الأمم دستور الممالك في العالم مربى ضعفاء العرب والعجم سلطان الوزراء وأكمل من في عصره من الوراء حاوي الشيم الملكية مظهر الصفات الرحمانية مجمع الأخلاق الربانية اللطيف بعباد الله المتخلق بأخلاق الله الذي لم يتشرف مسند الوزارة بمثله في الصدارة ولم يمكن إحاطة صفاته بلسان العبارة والإشارة.
شعر
كملت محاسنه فلو اهدى السنا   .... للبدر عند تمامه لم يخسف
وعلى تفنن واصفيه بحسنه    .... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
أردت له مدحا فما من فضيلة   .... تأملت الأجل عنها وقلت
الصاحب غياث الملة والحق والدين، أمير محمد بن صدر السعيد الشهيد المغفور المرحوم رشيد الدنيا والدين.
أنار الله تعالى، ضريح السلف وضاعف جلال الخلف واعز أنصار دولته وأعوان رفعته.
لا زال الحفيظ  لجنابه حفيظا والرقيب المجيب له رقيبا، لكونه متحليا بهذه الأسرار العلية وحاملا للأنوار السنية سالكا طريق الحق متوجها إلى مقعد الصدق مدبرا بظاهره نظام
العالم مشاهدا بباطنه كمال بنى آدم.
فاستحق ان يخلد بخلود ذكره ويحمد بمحامد خلقه وخلقه، ان قرن بعنايته الجسيمة التامة وألطافه العميمة العامة.
ونظر أصحابه المخاديم الكرام وقدوة فضلاء الأنام، أعزهم الله وحرسهم إلى يوم القيام، وكل ناظر فيه بعين الانصاف تاركا طريق الجور والاعتساف.
إذ لا يستفيد بهذا النوع من العلم الا من تنور باطنه بالفهم وجانب طريق الجدل ونظر بنظر من انصف وعدل وانعزل عن شبهات الوهم الموقع في الخطأ والخلل.
وطهر الباطن عن دنس الأغيار وتوجه إلى الله الواحد القهار وآمن بان "فوق كل ذي علم عليم".
وعلم قصور العقل عن إدراك أسرار العزيز الحكيم.
فان أهل الله انما وجدوا هذه المعاني بالكشف واليقين لا بالظن والتخمين.
وما ذكر فيه مما يشبه الدليل والبرهان إنما جئ به تنبيها للمستعدين من الاخوان.
إذ الدليل لا يزيد فيه الا خفاء والبرهان لا يوجب عليه الا جفاء لأنه طور لا يصل إليه الامن
اهتدى ولا يجده عيانا الا من زكى نفسه واقتدى.
فأرجو من الله الكريم ان يحفظني على الطريق القويم ويجعل سعيي مشكورا وكلامي مقبولا، واسأل الله العون والتوفيق والعصمة من الخطأ في مقام التحقيق.
.
التعرف بالشارح  :
شرف الدين داود بن محمود بن محمد القَيْصَري الرومي (ت. 751 ه‍ / 1350 م) 
القرماني الحنفي الصوفي 
هو أديب ومتصوف من أهل قيصرية. 
تعلم بالقيصرية وأقام بضع سنوات في مصر، ثم عاد إلى بلده. 
أخذ عن الشيخ عبد الرزاق القاشاني. 
من آثاره :
كتاب «مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم» 
والذي يسمى أيضا «مقدمة شرح الفصوص» 
و«شرح الخمرية لابن الفارض» 
و«رسالة في أحوال الخضر» 
و«نهاية البيان ودارية الزمان» تحقيق 
تحقيق ماء الحياة وكشف أسرار الظلمات
أصول الوحدانية ومنتهى الفردانية
رسالة في علم الحقائق 





عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة أغسطس 02, 2019 3:47 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:51 pm

- فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص الصالحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية
ومثال المساواة : الإنسان حيوان ، وكل حيوان حساس ، فالإنسان حساس . والحساس مساو للحيوان . أو هو بعينه ما شرط في المنطق من كلية الكبرى .
وإنما سمى الأوسط ب‍ ( العلة ) ، لأنه كالعلة الصورية للقياس ، بل علة حصول النتيجة ، إذ لو لم يكن الحد الأوسط ، لم يحصل النتيجة .
قوله : ( وإن لم يكن كذلك ) أي ، وإن لم يكن على نظام مخصوص ، لا ينتج ، أو ينتج نتيجة غير صادقة .
(وهذا موجود في العالم مثل إضافة الأفعال إلى العبد معراة عن نسبتها إلى الله . أو إضافة التكوين الذي نحن بصدده إلى الله مطلقا ) . أي ، معراة عن نسبته إلى عين العبد .
( والحق ما أضافه إلا إلى الشئ الذي قيل له : " كن " ) أي ، هذا الذي ينتج نتيجة غير صادقة ، هو مثل إسناد الفعل إلى العبد بأنه هو فاعله ، فإنه نتيجة غير صادقة .
لأن العبد قابل ، والقابل لا يكفي في حصول النتيجة ، بل لا بد من فاعل ، والفاعل هو الله ، لأن العبد مجردا عن الوجود هو العدم ، ولا يتأتى منه فعل ، ومع الوجود يقدر على ذلك ، و (القدرة) من لوازم الوجود ، والوجود هو الحق ، فرجع الفعل إليه .
والمثال الثاني ، هو إضافة ( التكوين ) إلى الله معراة عن عين العبد ، فإنه أيضا نتيجة غير صادقة .
لأن ( الأمر ) من الله ، و ( التكون ) والامتثال للأمر من العبد ، فإضافة الإيجاد إلى الله مطلقا من غير اعتبار عين العبد ، غير صادقة .

(ومثاله إذا أردنا أن ندل على أن وجود العالم عن سبب ، فنقول : كل حادث فله سبب ، فمعنا الحادث والسبب .
ثم نقول في المقدمة الأخرى : والعالم حادث . فتكرر ( الحادث ) في المقدمتين.
والثالث قولنا ( العالم ) فأنتج أن العالم له سبب ) . أي ، مثال ما قلنا من أنه لا بد من الدليل أن يكون مركبا من ثلاثة على نظام مخصوص وشرط مخصوص ليكون له نتيجة صادقة ، إنا إذا أردنا أن نذكر دليلا على أن وجود العالم حاصل عن سبب موجد له .
نقول : كل حادث فله سبب ، والعالم حادث ، فالعالم له سبب .
وهذا هو الشكل الرابع . ويرد إلى الشكل الأول بجعل المقدمة الثانية ، وهي : العالم حادث ، صغرى ، والمقدمة الأولى ، وهي : كل حادث فله سبب ، كبرى ، فيصير : العالم حادث ، وكل حادث فله سبب ، ينتج فالعالم له سبب .
وقوله : ( والثالث قولنا العالم ) أي ، ومعنا أيضا الثالث ، وهو ( العالم ) .
( فظهر في النتيجة ما ذكر في المقدمة الواحدة ، وهو ( السبب ) ) أي ، وهو قوله : (فله سبب).
( فالوجه الخاص ، هو تكرار ( الحادث ) ) أي ،الحد الأوسط في المثال المذكور ،هو (الحادث) المكرر . وإنما سماه ب‍ ( الوجه ) ، لأن المحمول من حيث إنه مغائر للموضوع ، نسبة من نسبه ووجه من وجوهه .
( والشرط الخاص هو عموم العلة ) . أي ، الشرط الخاص في هذا المثال المذكور ، هو عموم علة الوجود وسببه ، لأن كل ما هو حادث محتاج في وجوده إلى علة وسبب .
فالمراد ب‍ ( العلة ) هنا الأكبر ، وهو قوله : ( فله سبب ) لا الحد الأوسط الذي هو علة نسبة الأكبر إلى الأصغر .
لذلك قال : ( لأن العلة في وجود الحادث " السبب " ) . أي ، لأن العلة في الوجود الخارجي للحادث ، السبب الذي يوجده . ( وهو ) أي ،السبب . ( عام في حدوث العالم عن الله ) .يعنى، ماله السبب ، أعم من العالم وحدوثه ، من الله . فإن الأسماء والصفات الإلهية
ليست من العالم ، لكونها غير موجودة في الخارج ، مع أنها في فيضانها من الله تحتاج إلى سبب .

قوله : ( أعني الحكم ) أي ، أعني بقولي ، وهو عام الحكم ، أي ، الحكم بأن كل ما هو حادث فله سبب ، حكم عام كلي ، سواء كان الحادث حادثا بالحدوث الزماني كالمخلوقات ، أو الذاتي كالمبدعات.
لذلك أردفه بقوله : ( فنحكم على كل حادث بأن له سببا ، سواء كان ذلك السبب مساويا للحكم ، أو يكون الحكم أعم منه ، فيدخل تحت حكمه ، فتصدق النتيجة .
المراد ب‍ ( السبب ) في قوله : ( سواء كان السبب مساويا ) ، الحد الأوسط ، لأنه سبب الربط بين محمول النتيجة وموضوعها . كما عبر عنه ب‍ ( العلة ) في قوله : ( والشرط المخصوص أن يكون الحكم أعم من العلة ، أو مساويا لها ) . والمراد ب‍ ( الحكم ) الأكبر .

ولا ينبغي أن يتوهم أن المراد ب‍ ( السبب ) هنا السبب المذكور في المثال ، لأنه لا يمكن أن يكون الحكم أعم منه ، وإن كانت المساواة ممكنة بينهما ، لأن المراد بالحكم حينئذ المحكوم عليه ، وهو قولنا : كل حادث .
إذ لا يمكن حمل الحكم هنا على النسبة الحاصلة بين الموضوع والمحمول ، لأنها لا توصف بأنها أعم من طرفيها ، أو أخص أو مساو ، بل يوصف بذلك بحسب نسبة أخرى حين يلزم من صدقها ، صدقها ، كما يقال ، إذا كان الشئ حادثا ، كان له سبب .
فبين الحادث وبين ما له السبب ، مساواة . وذلك في الشرطية لا الحملية .
والمحكوم عليه إن كان أعم من قوله : ( فله سبب ) ، يلزم حمل الأخص على الأعم ، وهو محال ، لعدم صدق قولنا : الحيوان إنسان ، والجسم حيوان .
اللهم إلا أن يقال ، هذا المثال ( مثال المساواة ) فحينئذ يكون صحيحا ومثال المساواة بين ( السبب ) و ( الحكم ) ، أي المحكوم به ، قولنا : كل حادث فله سبب .
إذا أردنا ب‍ ( الحادث ) الحدوث الذاتي ، لصدق قولنا : كل ماله سبب فهو الحادث بالحدوث الذاتي . فبينهما مساواة .
ومثال كون الحكم ، أي المحكوم به ، أعم من السبب الذي هو الحد الأوسط .

قولنا : كل حادث فله سبب . إذا أردنا ب‍ ( الحادث ) الحدوث الزماني ، لأن ماله سبب ، قد يكون حادثا بالحدوث الذاتي ، وقد يكون حادثا بالحدوث الزماني ، فيدخل ( الأوسط ) في الحالين تحت حكم الأكبر ، فتصدق النتيجة .
( فهذا أيضا قد ظهر حكم التثليث في إيجاد المعاني التي تقتنص بالأدلة) . تقدير الكلام : فهذا حكم التثليث ، قد ظهر أيضا في إيجاد المعاني التي يكتسب بالأدلة . ( فهذا ) مبتدأ ، ( حكم التثليث ) مبتدأ خبر ما بعده خبره ، والجملة خبر الأول . كقولك : هذا زيد يكرمني .
ويجوز أن يكون ( حكم التثليث ) بيانا ( هذا) .
أو بدلا منه . أي ، فهذا حكم التثليث قد ظهر . فيكون المجموع جملة واحدة .
( فأصل الكون التثليث ) . أي ، فأصل الوجود الخارجي الذي للعالم ، التثليث .
( ولهذا كانت حكمة صالح ، عليه السلام ، التي أظهر الله ) أي ، أظهرها الله .
( في تأخير أخذ قومه ثلاثة أيام وعدا غير مكذوب ) . أي ، لما كان أصل الكون مبنيا على التثليث ، كان حكمة صالح ، عليه السلام ، في إهلاك قومه أيضا مبنية عليه ، فأهلكهم الله في ثلاثة أيام ، ليناسب الفساد الكون .

وقوله : ( في تأخير ) متعلق بقوله : ( كانت ) . وقوله : ( ثلاثة أيام ) منصوب على أنه مفعول ( التأخير ) . وقوله : ( وعدا ) منصوب على أنه خبر ( كانت).
وفي بعض النسخ : ( وعد غير مكذوب ) . كما في القرآن . أي ، ذلك وعد غير مكذوب ، أورده على الحكاية .
( فأنتج صدقا وهي الصيحة التي أهلكم بها ) . ( فأنتج ) أي ، الوعيد بثلاثة أيام حال كونه صادقا نتيجة . أو : نتج ذلك التثليث نتيجة صادقة ، وهي الصيحة التي أهلكهم بها .
( "فأصبحوا في دارهم جاثمين") أي ، فأصبحوا هالكين في ديارهم حيث لم يستطيعوا القيام .
(فأول يوم من الثلاثة اصفرت وجوه القوم ، وفي الثاني ، احمرت ، وفي الثالث اسودت . فلما كملت الثلاثة ، صح الاستعداد ) . أي ، استعداد الوصول إلى العالم الأخروي .
( فظهر كون الفساد فيهم ، فسمى ذلك الظهور " هلاكا " ) أي ، فظهر الوجود الذي هو مشروط بهلاكهم وفسادهم . وهو الوجود البرزخي والأخراوي .
وإنما أضاف ( الكون ) إلى ( الفساد ) ، لأن كل فساد يستلزم كونا آخر لم يكن قبل ، لذلك قال : ( فسمى ذلك الظهور هلاكا )
(فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة إسفار وجوه السعداء في قوله تعال : ( وجوه يومئذ مسفرة ) . من ( السفور ) وهو الظهور .

كما كان ( الاصفرار ) في أول يوم ظهور علامة الشقاء في قوم صالح . ثم جاء في موازنه ( الاحمرار ) القائم بهم ، قوله تعالى في السعداء : "ضاحكة" ) أي ، ( وجوه يومئذ ضاحكة مستبشرة ) .
(فإن الضحك من الأسباب المولدة لاحمرار الوجوه . فهي في السعداء إحمرار الوجنات . ثم جعل في موازنة تغير بشرة الأشقياء بالسواد قوله تعالى : ( مستبشرة )
وهو ما أثره السرور في بشرتهم ، كما أثر السواد في بشرة الأشقياء . ولهذا قال ) أي ،الحق .
( في الفريقين بالبشرى ، أي ، يقول لهم قولا يؤثر في بشرتهم ، فيعدل بها إلى لون لم تكن البشرة يتصف به قبل هذا . فقال في حق السعداء : ( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم ) . وقال في حق الأشقياء : ( فبشرهم بعذاب اليم ) .
فأثر في بشرة كل طائفة ما حصل في نفوسهم من أثر هذا الكلام ، فما ظهر عليهم في ظواهرهم إلا حكم ما استقر في بواطنهم من المفهوم ) . أي ، من مفهوم ( الكلام ) .
( فما أثر فيهم سواهم ، كما لم يكن ( التكوين ) إلا منهم فلله الحجة البالغة ) . هذا ( الكلام )
رجوع إلى ما كان في تقريره أولا ، أي ، هم الذين يؤثرون في أنفسهم بحسب استعداداتهم وقبولهم لفيض الحق وأمره لا غيرهم ، كما لم يكن ( التكوين ) إلا منهم . فلله الحجة البالغة على الناس في كونهم سعداء وأشقياء : ( فما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) . لأن الحق يعطى الوجود : فإن استحقوا خيرا ، أعطاهم وجوده ، وإن استحقوا شرا ، أعطاهم وجود ذلك . 
( فمن فهم هذه الحكمة وقررها في نفسه وجعلها مشهودة له ، أراح نفسه من التعلق بغيره . وعلم أنه لا يؤتى عليه بخير ولا بشر إلا منه . وأعنى بالخير ما يوافق غرضه ويلائم طبعهومزاجه ، وأعنى بالشر مالا يوافق غرضه ولا يلائم طبعه ولا مزاجه . ويقيم صاحبهذا الشهود معاذير الموجودات كلها عنهم وإن لم تعتذروا ، ويعلم أنه منه )
أي ، من نفسه . ( كان ) أي ، حصل . ( كل ما هو فيه ، كما ذكرناه أولا في أن العلم تابع للمعلوم ، فيقول لنفسه إذ جاءه مالا يوافق غرضه : ( يداك أوكتا وفوك نفخ ) .
هذا مثل مشهور أي ، يداك كسبتا .

"" يحكى ان : أن رجلا كان في جزيرة من جزائر البحر. فأراد أن يعبر على زق، قد نفخ فيه، فلم يحسن إحكامه حتى إذا توسط البحر. خرجت من زقه الريح، وغرق. فلما غشيه الموت، استغاث برجل. فقال له الرجل: يداك أوكتا وفوك نفخ   . يضرب مثلا لمن يجنى على نفسه بعمله ""
كما قال تعالى : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " .
( والله يقول الحق وهو يهدى السبيل ) .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:53 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الجزء الأول
12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية
قد مر في المقدمات أن ( القلب ) يطلق على النفس الناطقة إذا كانت مشاهدة للمعاني الكلية والجزئية متى شاءت .
وهذه المرتبة مسماة عند الحكماء ب‍ ( العقل المستفاد ) .
وقد يطلق على ناطقة من اتصف بالأخلاق الحميدة ، وجعلها ملكة .
وإنما تسمى بالقلب لتقلبها بين العالم العقلي المحض ، وعالم النفس المنطبعة ، وتقلبها في وجوهها الخمسة التي لها إلى العوالم الكلية الخمسة  وله أحدية الجمع بين الأسماء الإلهية والظهور بحكم كل منها على سبيل العدالة .
وهو برزخ بين الظاهر والباطن ، ومنه يتشعب القوى الروحانية والجسمانية ، ومنه الفيض على كل منها ، وهو صورة المرتبة الإلهية ، كما أن الروح صورة المرتبة الأحدية ، لذلك وسع كل شئ حتى الحق .
ولما كان كثير الشعب والنتائج ، وكان شعيب ، عليه السلام ، كثير النتائج  والأولاد متحققا بمقام القلب - مشاهدا للمعاني الكلية والجزئية متخلقا بالأخلاق الإلهية قائما بالعدل الذي هو سبب وجود العالم آمرا بإيفاء الحقوق في المكيال والميزان والقسطاس المستقيم بمقتضى استعداد كل من الناس - أضاف ( الحكمة القلبية ) إلى كلمته .


قال الشيخ رضي الله عنه : (واعلم ، أن القلب ، أعني قلب العارف بالله ، هو من رحمة الله ، وهو أوسع منها ، فإنه وسع الحق جل جلاله ، ورحمته لا تسعه ) .
إنما قال : ( أعني  قلب العارف ) لأن قلب غيره ليس مصطلحا عند الخواص ، بل عند العوام ، كما يسمى ( لب ) الشئ واللحم الصنوبري أيضا ب‍ ( القلب ) .
وإنما قال : ( بالله ) - دون غيره من الأسماء - لأنه مجمع الأسماء ، و ( القلب )
قابل لفيضها كلها ، والعارف به عارف بغيره ، والعارف لغيره لا يكون عارفا به ،
إذ العارف بالأفعال وأحكامها ليس عارفا بالله وظهوراته وأسمائه .
وليس المراد هنا ب‍ ( الرحمة ) الوجود ، إذ القلب ليس أوسع من الوجود ،  
بل ما به يتعطف على عباده ويشفق عليهم ويرحمهم فيهب لهم الوجود . لذلك
قال : ( هو من رحمة الله ) أي ، صادر منها .
وقال : ( فان الحق راحم ليس بمرحوم ) .  ولو كان بمعنى الوجود ، لصدق أنه ( مرحوم ) كما يصدق أنه موجود .
وقوله : ( فإنه وسع الحق ) إشارة إلى ما نقله النبي ، صلى الله عليه وسلم ،
عن الله تعالى أنه قال : " ما وسعني أرضى ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن التقى النقي "  
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهذا لسان عموم من باب الإشارة ، فإن الحق راحم ليس بمرحوم ، فلا حكم للرحمة فيه ) .
أي ، كون الرحمة لا تسعه لسان عموم الخلائق وعلماء الظاهر ،  والإشارة إلى معتقدهم ، فإن الحق راحم مطلقا عندهم ، ليس بمرحوم بوجه من الوجوه ، فلا حكم للرحمة فيه . وأما بلسان الخواص والمحققين ، فإنه هو ( الراحم ) وهو ( المرحوم ) ، إذ لا غير والأعيان المسماة ب‍ ( العالم ) عينه ، فما يرحم الحق إلا نفسه . فهو ( راحم ) في مقام جمع الأحدية ، ( مرحوم ) في مقام التفصيل والكثرة .

وإليه أشار بقوله : ( وأما الإشارة من لسان الخصوص ، فإن الله وصف نفسه ب‍ ( النفس ) ، بفتح الفاء ، وهو من باب ( التنفيس ) )
أي ، وصف لسان نبيه نفسه بأن له ( النفس ) . وهو مأخوذ من ( التنفيس ) ، لأنه إرسال الهواء الحار من الباطن ، وإيراد الهواء البارد لترويح المتنفس عن الكرب ، فالتنفس إنما
يتنفس دفعا للكرب . فشبه النفس الإلهي بالنفس الإنساني .
وأضاف ( الكرب ) إليه لا من حيث إنه غنى عن العالمين ، بل من حيث إنه رب لهم . وكربه طلب الأسماء الإلهية الباقية في الذات الأحدية بالقوة ظهورها وعيانها ، فتنفس وأوجد أعيان تلك الأسماء ، فظهرت الإلهية .
( وأن الأسماء الإلهية عين المسمى ) . أي ، من حيث الوجود وأحدية الذات ، وإن كانت غيرا باعتبار كثرتها . ( وليس إلا هو ) .
أي ، وليس المسمى إلا عين هوية الحق ، أو وليس ذلك النفس إلا عين الهوية السارية في الموجودات كلها .
( وإنها طالبة ما تعطيه من الحقائق ) . أي ، وإن الأسماء طالبة وجود ما تعطى الحقائق الكونية للحق من الأحكام والصفات الكونية .
وفي بعض النسخ : ( ما تعطيه من الحقائق ) . أي ، وإن الأسماء طالبة للحقائق .
وفاعل ( تعطى ) ضمير ( الأسماء ) .
ويؤكد الثاني قوله رضي الله عنه  : ( وليست الحقائق التي يطلبها الأسماء إلا العالم ، فالألوهية
تطلب المألوه ، والربوبية تطلب المربوب ) .
واعلم ، أن الشيخ رضي الله عنه  يستعمل في جميع كتبه ( المألوه ) ويريد به (
العالم ) .
واللغة يقتضى أن يطلق على الحق ، إلا في بعض معانيه . لأنه مشتق من ( أله ) وله معان متعددة :
يقال : أله ، يأله ، إلهة . أي ، عبد عبادة ، فالمألوه هو المعبود .
وثانيها ، ( الفزع ) و ( الالتجاء ) . يقال : أله إلى زيد . أي ، إلتجاء إليه ، فأجأره.
وقال : تأبط شرا . شعر : ( ألهت إليها والركائب وقف ) . فالمألوه المفزع  والملجأ .
وثالثها ، ( الثبات ) .
يقال : ألهنا بمكان كذا . أي ، أقمنا . قال الشاعر : ( ألهنا بدار ما تبيد رسومها ) . فالمألوه المثبت .
ورابعها ، ( السكون ) . يقال : ألهت إليه . أي ، سكنت إليه . فالمألوه  المسكون إليه .
وخامسها ، ( التحير ) . يقال : أله زيد . إذا تحير . فالمألوه المتحير فيه .
ولا شك أن ( المعبود ) و ( المفزوع إليه ) و ( المسكون إليه ) هو الحق و ( المتحير )
و ( المثبت ) هو العالم .
ويمكن أن يستعمل لغة في معان آخر يليق ب‍ ( العالم ) .
و ( الألوهية ) اسم المرتبة الإلهية ، أي ، هذه المرتبة تطلب وجود العالم ،
وهو المألوه ، لأن كل واحد من أسماء الصفات والأفعال يقتضى محل ولايته ليظهر
به ، كالقادر للمقدور ، والخالق للمخلوق ، والرازق للمرزوق ، وهكذا غيرها .
والفرق بين ( الألوهية ) و ( الربوبية ) :
أن ( الألوهية ) حضرة الأسماء كلها - أسماء الذات والصفات والأفعال ، و ( الربوبية ) حضرة أسماء الصفات والأفعال فقط لذلك تأخرت عن المرتبة الإلهية .
قال تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) .
( وإلا ) أي ، وإن لم تكن ( الألوهية ) و ( الربوبية ) طالبة للمألوه والمربوب ، لا يكون شئ منها متحققا ، كما لا يتحقق الأبوة إلا بالإبن ، والبنوة إلا بالأب ، لأنهما من قبيل المتضايفين .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلا عين لها إلا به وجودا وتقديرا ) أي ، فلا عين للألوهية أو الربوبية إلا بالعالم ، سواء كان موجودا بالوجود الحقيقي ، أو مقدرا .
فقوله : ( فلا عين ) جواب الشرط المقدر . أي ، إذا كان تحقق الألوهية والربوبية موقوفا على المألوه والمربوب ، فلا عين للألوهية إلا بالمألوه ، ولا للربوبية إلا بالمربوب .
وجواب ( إلا ) محذوف ، لدلالة قوله : ( فلا عين لها إلا به ) عليه . ولا يجوز أن يكون هو جوابا ، لفساد المعنى .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والحق من حيث ذاته غنى عن العالمين ، و ( الربوبية ) ما لها هذا الحكم ) . إذ لا غناء لها عن المربوب .


قال الشيخ رضي الله عنه : (فبقى الأمر بين ما تطلبه الربوبية ، وبين ما يستحقه الذات من الغنى عن العالم ) .
أي ، بقي الشأن بين الغنى الذاتي ، والافتقار الأسمائي . فيجب أن ينزل كل منهما على مقامه. فنقول : ( الغنى ) من حيث الذات ، لأن العالم ، كان أو لم يكن ، لا يحصل التغير في الذات ، فهي على حالها أزلا وأبدا عند وجود العالم وعدمه . و(الافتقار) من حيث الربوبية والألوهية . ولما كانت الربوبية صفة الذات الغنية ، والصفة عين الموصوف في الأحدية ،
فقال : ( وليست الربوبية على الحقيقة والإنصاف إلا عين هذه الذات ) .
فللذات الغنى عن العالمين من وجه ، وهو وجه الأحدية المتعالية عن النسب والإضافات ،
ولها الافتقار إليهم من وجه آخر ، وهو الوجه الواحدية الطالبة للنسب ومظاهرها.

قال الشيخ رضي الله عنه : (فلما تعارض الأمر بحكم النسب ، ورد في الخبر ما وصف الحق به نفسه من الشفقة على عباده ) .
أي ، فلما تعارض الأمر الإلهي بحكم النسب والإضافات - من الصفات الحقيقية والإضافات المتقابلة كالقهر واللطف والرحمة والنقمة - أضاف الشفقة على عباده إلى نفسه .
كما ورد : ( الله رؤوف بالعباد ) . و ( الشفقة ) هي الرحمة .
فرحم بها عباده وأسماءه التي يطلب العباد بإظهارها ، وإظهار ما عليه سلطنتها من أعيان العالم ، لأنها سبب ظهور كمالات الأسماء ، والربوبية لا تتم بها .
(فأول ما نفس عن الربوبية بنفسه المنسوب إلى ( الرحمن ) بإيجاده العالم الذي
تطلبه الربوبية بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهية )
أي ، فأول شئ نفس عنه الحق وأزال الكرب إنما كان صفة الربوبية عن جميع الأسماء ،لذلك قدمها ،وعطف ( جميع الأسماء الإلهية ) عليها.
وذلك لأن ( الربوبية ) وجميع الأسماء الإلهية اقتضت وجود المربوبات ومظاهر الأسماء والصفات ، وذلك ( التنفيس ) كان بإيجاد العالم في الخارج ، لكن بواسطة ( النفس الرحماني ) . ( فأول ) مبتدأ ، خبره ( عن الربوبية ) .
ويجوز أن يكون خبره : ( بإيجاده العالم ) . أي ، أول ما نفس عن الربوبية ، إنما كان بإيجاد أعيان العالم .
ويجوز أن يكون ( ما ) في قولهما ( ما نفس ) مصدرية .
فمعناه : فأول تنفيسه عن الربوبية بإيجاد الأعيان ، ثم بإظهار كمالاتها ، ثم بإنزال كل منها في مقام يليق بحاله في الآخرة .
( فيثبت ) وفي بعض النسخ : ( فثبت ) ( من هذا الوجه أن رحمته وسعت كل
شئ ، فوسعت الحق ، وهي أوسع من القلب ، أو مساوية له في السعة ) .
أي ، لما كان الغرض من قوله : ( وأما الإشارة بلسان الخصوص ) إلى هنا ، إثبات أن الحق
كما هو ( راحم ) كذلك هو ( مرحوم ) من وجه آخر ، صرح هنا بالمقصود وهو أن
رحمته وسعت كل شئ ، اسما كان ذلك الشئ أو عينا .
وإذا كانت كذلك ، وسعت الحق أيضا ، لأنه عين هذه الأسماء والأعيان . فرحمته أوسع من القلب ، لأن الحق ، من حيث أسمائه ، والقلب وكل ما يطلق عليه اسم الشيئية ، داخل فيها ، والقلب لا يسع نفسه وإن وسع غيره من الحق والأعيان ومظاهرها .
ولما كان القلب أيضا يسع نفسه من حيث الإحاطة العلمية ، قال : ( أو مساوية له
في السعة . هذا مضى ) .
 واعلم ، أن الذي يسع كل شئ ثلاث : العلم ، والرحمة ، والقلب .
قال الله تعالى : ( ربنا وسعت كل شئ ) . ( رحمة وعلما ) وأحاط بكل شئ علما ،
( وسعت رحمتي كل شئ ) .
وقال : ( ما وسعني أرضى ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن ) .
ولما تكلم في سعة الرحمة جعلها أوسع أو مساويا للقلب ، قال : ( هذا مضى ) .


قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم ، لتعلم أن الحق تعالى ، كما ثبت في الصحيح ، يتحول في الصور عند التجلي ، فإن الحق تعالى إذا وسعه القلب ، لا يسعه معه غيره من المخلوقات ، فكأنه يملأه ) .
يريد أن يبين اتساع القلب ويؤمي إيماء لطيفا إلى أصل يستند تقلب  القلب إليه ، وهو التحول الإلهي في صور تجلياته ، كما ثبت في الحديث .
ولما كان التجلي بحسب استعداد المتجلى له ، فالقلب الذي يسع الحق  لا يكون إلا لمن له استعداد جميع التجليات الإلهية الذاتية والأسمائية ، وإذا وسعه ، لا يسع معه غيره من المخلوقات - وذلك إما لفناء غير الحق عند تجليه في نظر المتجلى له ، كما إذا تجلى بالأحدية ، فإن الكثرة تضمحل وتفنى عنده فالمتجلى له لا يشعر لنفسه فضلا على غيره ولا يرى ذاته أيضا إلا عين الحق حينئذ ، أو لاختفاء الأغيار عند ظهور أنوار الحق في نظر المتجلى له ، كاختفاء الكواكب عند طلوع الشمس مع بقاء أعيانها - ولما كانت السعة مقتضية للإثنينية - إذ لا يقال :
الشئ يسع نفسه - فسر بالمعنى الثاني : ( ومعنى هذا ) أي ،
ومعنى قولنا : ( إذا وسعه القلب ، لا يسع معه غيره ) ،
( أنه إذا نظر إلى الحق عند تجليه له ، لا يمكن معه أن ينظر إلى غيره ) .
لاشتغال القلب بكليته إلى الله تعالى واختفاء الأغيار بنور الواحد القهار .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وقلب العارف من السعة ، كما قال أبو يزيد البسطامي : " لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به " . )
لأن القلب يحصل له السعة الغير المتناهية عند تجلى من هو غير متناه .
والعرش وما فيه ، على أي مقدار يفرض ، يكون متناهيا ، ولا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي .
(وقال الجنيد في هذا المعنى : ( إن المحدث إذا قرن بالقديم ، لم يبق له أثر ،
وقلب يسع القديم ، كيف يحس بالمحدث موجودا ) . )
هذا تأكيد لقول أبى يزيد قدس الله روحه . أي ، أن الحق إذا تجلى ، يفنى ما سواه ، فلا يبقى لغيره وجود فضلا عن أثره .
وإن قلنا إنه باق عند تجلى القديم ، فكيف يحس بالمحدث قلب تجلى له الحق ونوره بأنواره وشغله لذاته ؟
قوله ( موجودا ) حال من ( المحدث ) . أو مفعول ثان لقوله : ( يحس ) .


قال الشيخ رضي الله عنه : (وإذا كان الحق يتنوع تجليه في الصور ، فبالضرورة يتسع القلب ويضيق بحسب الصورة التي يقع فيها التجلي الإلهي ، فإنه لا يفضل عن القلب شئ عن صورة ما يقع فيها التجلي ، فإن القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محل فص الخاتم
من الخاتم لا يفضل ، بل يكون على قدره وشكله من الاستدارة ، إن كان الفص مستديرا ، أو من التربيع والتسديس والتثمين وغير ذلك من الأشكال ، إن كان الفص مربعا أو مسدسا أو مثمنا ، أو ما كان من الأشكال . فإن محله من الخاتم يكون مثله لا غير ) .
أي ، إذا ظهر الحق في صور شؤونه المتنوعة وتجلى تجليا ذاتيا بما في الغيب المطلق ، يتنوع بحسب استعدادات القلب ، فيتسع ، ويضيق بحسب الصورة التي وقع التجلي فيها ، لأنها تهب للقلب استعدادا يناسبها وتجعله بحيث لا يفضل عنها .
وهذا القلب المتجلى له ، لا يكون إلا للعارف الكامل ، لأن قلبه  مرآة الذات الإلهية وشؤونها جميعا ، لخلوه عن الأحكام الجزئية المقيدة له .
فينصبغ انصباغا تقتضيه الصورة المتجلية له ، لأنها حاكمة عليه .
 وقلب غيره مرآة الذات من حيثية معينة وشأن مقيد ، وليس فارغا من الأحكام الجزئية الأسمائية، فينصبغ التجلي بصبغه ، ولا يبقى على طهارته الأصلية وإطلاقه .
وتلخيصه : أن للمرآة حكما في ظهور الصور بحسبها ، وللصورة حكم
في المرأة التي تظهر الصورة فيها . ولكل منهما أحكام بحسب الظاهر والباطن .
ولما ذكر أن القلب لا تفضل عن الصورة المتجلية ، شبه القلب بمحل الفص والصورة المتجلية بالفص .
وهو إذا كان مستديرا ، يجعل المحل مستديرا ، وإذا كان مربعا أو مسدسا أو مثمنا ، فمحله أيضا كذلك .
وإنما شبه المعقول المحض بالمحسوس الصرف ، لأن كلا منهما نسخة من الآخر ، إذ الظاهر صورة الباطن ، والباطن معنى الظاهر .
وفي التشبيه ب‍ ( المستدير ) و ( المربع ) و ( المسدس ) لطيفة أخرى .
وهي أن المعنى المتجلي قد يكون معنى بسيطا ، لا تعدد فيه ولا تكثر ، فصورته أيضا يكون مستديرة .
وقد يكون مركبا ، وله جهات متعددة بحسب الظهور والخفاء والقرب والبعد ، فصورته أيضا يكون مشتملة على جهات متعددة متفاوتة في القرب والبعد إلى المركز .
فإن زوايا المربع والمسدس وأمثالهما أبعد من الوسط من غيرها من الأضلاع .


قال الشيخ رضي الله عنه : (وهذا عكس ما تشير إليه الطائفة من أن الحق يتجلى على قدر استعداد العبد ، وهذا ليس كذلك . فإن العبد يظهر للحق على قدر الصورة التي يتجلى له فيها الحق).
لما ذكر حكم الصورة في المرأة ، ذكر عكسه ، وهو حكم المرأة في الصورة .
كما أشار إليه أهل الحق في كتبهم من أن الحق يتجلى على قلوب العباد بحسب استعداداتهم .
وهذان الحكمان بعينهما حكم ( الفيض الأقدس ) و ( الفيض المقدس ) : فإن ( الفيض الأقدس ) يعطى الاستعداد للعين ، و ( الفيض المقدس ) يعطى ما يترتب على الاستعداد . كذلك التجلي الغيبي من الباطن يعطى القلب استعدادا بحسب الصورة التي يتجلى فيها ، والتجلي من الظاهر يترتب على استعداد العين بحسب الباطن . وكلاهما حق .
لذلك قال رضي الله عنه  ( وتحرير هذه المسألة أن لله تجليين : تجلى غيب ، وتجلى شهادة . فمن تجلى الغيب يعطى الاستعداد الذي يكون عليه القلب ) .
أي ، تحقيق هذه المسألة : أن لله بحسب الاسم ( الباطن ) و ( الظاهر ) تجليين :
تجلى غيب ، وهو التجلي الذاتي الذي تظهر هوية الحق به ، فتصير عينا ثابتة مع استعداداتها .
وتجلى شهادة ، وهو تجلى الاسم الظاهر . وهذا التجلي يترتب على التجلي الأول .
( وهو التجلي الذاتي الذي الغيب حقيقته ) أي ، تجلى الغيب هو التجلي الذاتي ألذ الغيب المطلق نعته .
قال رضي الله عنه  ( وهو الهوية التي يستحقها عن نفسه هو ) . أي ، التجلي الغيبي هو الهوية الإلهية التي يستحق الحق تلك الهوية عن نفسه .
فقوله ( هو ) فاعل ( يستحقها ) .
قال رضي الله عنه  ( فلا يزال ( هو ) له دائما أبدا ) . أي ، فلا تزال هوية الحق له ثابتا دائما ابدا في مقام أحديته وجمعه ، وكذلك في مقام تفصيله ، لأن لكل عين هوية هي بها هي .
قال رضي الله عنه  ( فإذا حصل له ، أعني للقلب ، هذا الاستعداد ، تجلى ) أي ، الحق .
( له التجلي الشهودي في الشهادة ، فرآه ) أي ، فرأى القلب الحق في ذلك التجلي .
( فظهر ) أي ، القلب . ( بصورة ما تجلى له كما ذكرناه . فهو تعالى أعطاه الاستعداد ) كما أشار إليه بقوله : ( ( أعطى كل شئ خلقه ثم هدى ) . ثم رفع ) أي ، الحق .
( الحجاب بينه وبين عبده ، فرآه ) أي ، رأى العبد الحق . ( في صورة معتقده . فهو عين اعتقاده ) . أي ، فالمرئي عين اعتقاد العبد ، لا غير ، لأنه رأى الحق من حيث اعتقاد خاص ، والحق عين اعتقاده ، كما قال : ( أنا عند ظن عبدي بي ) .
قال رضي الله عنه  ( فلا يشهد القلب ولا العين أبدا إلا صورة معتقده في الحق ) . أي ، فلا يشهد القلب بعين البصيرة الحق ولا العين أبدا الحسية إياه ، إلا على صورة ما يعتقده في الحق .
وهذا تعميم للحكم ، ليشمل الكامل وغيره : فالكامل يشهده في مقامي الإطلاق والتقييد بالتنزيه والتشبيه ، وغير الكامل إما منزه فقط ، وإما مشبه فقط ، وإما جامع بينهما لكن يقيده ببعض الكمالات دون البعض ، فيرى الحق بحسب اعتقاده .
قال رضي الله عنه  ( فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته ) . أي ، فالحق الذي وسعه القلب ، هو الحق المتجلي في صورة الاعتقادات ، ( وهو الذي يتجلى له ، فيعرفه ) . أي ، هو الذي يتجلى للقلب بحسب اعتقاده ، فيعرفه . وإذا تجلى بحسب اعتقاد غيره ، لا يعرفه وينكره .
( فلا يرى العين ) في الدنيا والآخرة عند التجلي .
( إلا الحق الاعتقادي ) . أي ، الثابت في الاعتقادات .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولا خفاء في تنوع الاعتقادات : فمن قيده ، أنكره في غير ما قيده به وأقر به فيما قيده به إذا تجلى ) . كأصحاب الاعتقادات الجزئية .
( ومن أطلقه عن التقييد ، لم ينكره وأقر له في كل صورة يتحول فيها ) .
كأصحاب الاعتقادات الكلية والجزئية ، كالكمل والعارفين .
قال رضي الله عنه  ( ويعظمه من نفسه قدر صورة ما تجلى له فيها إلى مالا يتناهى ، فإن صور التجلي ما لها نهاية يقف عندها ) . أي ، يعظم تلك الصورة التي تجلى له الحق فيها ، وينقاد لأحكامها ويعبدها عبادة يليق بمقامه .
وغير تلك الصورة من الصور التي يتجلى الحق فيها له ، أو لغيره من العباد إلى مالا يتناهى ، فلا ينكر الحق في جميع صور تجلياته ، ولا ينكر لمن حصل له ذلك التجلي ، فيعظمها ويعظم أصحابها ، سواء كان من أصحاب الظاهر ، أو الباطن ، إذ لا نهاية لتجليات الحق وصورها ليقف عندها . وفي بعض النسخ : ( تقف عنده ) .
أي ، تقف أنت عند ذلك التجلي الذي ما بعده تجلى آخر .  أو تقف صور التجليات عنده .

قال رضي الله عنه  ( وكذلك العلم بالله ما له غاية في العارفين يقف عندها ) . أي ، العلم بالله أيضا ليس له غاية في قلوب العارفين ليقف العارف عندها . ( بل العارف في كل زمان يطلب الزيادة من العلم به : " رب زدني علما ، رب زدني علما ، رب زدني علما " . فالأمر لا يتناهى من الطرفين ) .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:54 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الجزء الثاني
12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية
أي ، الذي هو العارف يطلب الزيادة من العلم في كل زمان من الأزمنة ، كما قال لنبيه : ( وقل رب زدني علما ) .
فالأمر الإلهي لا يتناهى من طرف الحق بالتجلي ، ومن طرف العبد بالعلم بالله .
( هذا إذا قلت حق وخلق ) . أي ، إذا نظرت إلى مقام الجمع والتفصيل ، وميزت بينهما .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا نظرت في قوله تعالى : " كنت رجله التي يسعى بها ، ويده التي يبطش به ، ولسانه الذي يتكلم به"  . إلى غير ذلك من القوى ومحلها الذي هو الأعضاء ، لم تفرق ) . أي ، بين المرتبتين .
( فقلت الأمر حق كله ، أو خلق كله ، فهو خلق بنسبة ، وهو حق بنسبة ) . ( الأمر ) بمعنى المأمور . أي ، الموجود كله حق بحسب ظهوره في مرآيا الأعيان الثابتة ، وهي على حالها في عدمها .
أو خلق كله باعتبار ظهور الإنسان في مرآة الوجود الحق ، وهو على غيبه الذاتي .
أو قلت : خلق بنسبة ، وهي من حيث تعين الوجود وتقيده . أو : حق بنسبة .
وهي باعتبار الوجود بدون التعين الموجب للخلقية .
( والعين واحدة ) . أي ، يعتبر هذه الاعتبارات كلها ، والحال أن الذات التي عليها تطرأ هذه الاعتبارات واحدة ، لا تعدد فيها ولا تكثر .
قال رضي الله عنه  (فعين صورة ما تجلى ، عين صورة ما قبل ذلك التجلي ، فهو المتجلي والمتجلى له ) . 
فعين الصورة المتجلية على القلب ، بعينها عين الصورة القلبية في الحقيقة ، وإن اختلفت بالقابلية والمقبولية ، فالحق هو المتجلي والمتجلى له .
قال رضي الله عنه  (فانظر ما أعجب أمر الله من حيث هويته ، ومن حيث نسبته إلى العالم في حقائق الأسماء الحسنى ) .
أي ، فانظر ما أعجب أمر الله أنه من حيث هويته واحدة ، ومن حيث نسبته إلى العالم وحقائق الأسماء الحسنى ، التي تطلب العالم ، متكثرة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه شعرا :
( فمن ثم وما ثمة   .... وعين ثم هو ثمة )
( من ) و ( ما ) للاستفهام . إستفهم ب‍ ( من ) لأولى العقل ، ب‍ ( ما ) لغير أولى العقل ، لأنهما واقعان في الوجود .
أي ، إذا كان العين واحدة ، فانظر ما ثم ومن ثم ، وليس في الوجود غيره تعالى ، ظهرت في صورة هي التي ظهرت في صورة أخرى .
وتذكير ( ( هو ) ) العائد إلى ( العين ) باعتبار الحق ، أو الشئ والوجود .
 
(فمن قد عمه خصه .....   ومن قد خصه عمه )
ضمير ( عمه ) و ( خصه ) عائد إلى ( العين الواحدة ) ، والمراد به ( الوجود ) لذلك ذكره .
أي ، الذي قد عمم الوجود وبسطه على الأعيان ، هو الذي خصه أيضا بجعله وجودا معينا . 
ومن خصص الوجود وجعله مهية معينة ، هو الذي عممه بالنسبة إلى أفراد تلك المهية .
أو من قال بأن الوجود عام ، فقد خصه ، لأن العموم أيضا قيد مخصص .
ومن قال بأن الوجود معنى خاص ، فقد عممه أيضا ، لشموله على كل ما في الوجود .

(فما عين سوى عين  ..... فنور عينه ظلمة )
أي ، إذا كان عين العالم عين الخاص وبالعكس ، فليس عين سوى عين ، بل عين كل أحد عين العين الذي للآخر .
فعين ( النور ) هو عين ( الظلمة ) وبالعكس ، لاتحاد حقيقة الكل ، وهي عين الوجود .
اعلم ، أن ( النور ) قد يطلق ويراد به الضياء المحسوس .
وقد يطلق ويراد به الوجود : فإنه الظاهر بنفسه والمظهر لغيره .
و ( الظلمة ) أيضا يطلق على ما يقابل المعنيين :
وهو ظل الأرض أو جزء منها ، والعدم .
فقوله : ( فنور عينه ظلمة ) باعتبار المعنى الأول لهما ، فإنهما وجوديين ، لكونهما محسوسين . وقولهم : ( الظلمة عدم النور ) .
رسم لها ، إذا أريد بها المعنى الأول ، باعتبار أن الظل يستلزمه . وإذا أريد بها المعنى الثاني ، فحد لها .
(فمن يغفل عن هذا ....    يجد في قلبه غمة )
الغم بضم ( الغين ) ، هو الكرب ، ويستعمل في الظلمة مجازا . والمراد هنا الحجاب .
ومنه ( الغمام ) أيضا ، لأنه يستر الشمس . أي ، ومن يغفل عن مقام الوحدة ، تبقى في حجاب الكثرة وظلمتها ، لأن الوحدة منبع النور ، والكثرة منبع الظلمة .
(ولا يعرف ما قلناه .....    سوى عبد له همة )
أي ، لا يعرف هذا المعنى إلا من له همة قوية : لا يقنع بظواهر العلوم ، ولا يقف عند مبلغ علماء الرسوم من العلم ، بل يقدر على خرق الحجب الناتجة من كثرة الصور ، ليصل إلى ما لا يصل إليه الفكر .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " . لتقلبه في أنواع الصور والصفات . ولم يقل : لمن كان له عقل ، فإن العقل قيد ، فيحصر الأمر في نعت واحد ، والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر . )
أي ، السر في إسناد ( الذكرى ) إلى ( القلب ) هنا ، وفي  موضع آخر إلى ( اللب ) كقوله : ( إن في ذلك لذكرى لأولى الألباب ) .
و ( اللب ) هو القلب دون العقل ، أن القلب لكونه محلا لتجليات مختلفة من الإلهية والربوبية
وتقلبه في صورها ، يتذكر ما نسيه مما كان يجده قبل ظهوره في هذه النشأة العنصرية ، ويجد هنا ما أضاعه ، كما قال ، صلى الله عليه وسلم : ( الحكمة ضالة المؤمن ) .
والعقل ، أي القوة النظرية ، من شأنه أن يضبط الأشياء ويقيدها ، فيحصر الأمر الإلهي ، الذي لا ينحصر في نفسه ، فيما يدركه ، والحقيقة تأبى وتمنع من ذلك .
( فما هو ذكرى لمن كان له عقل . ) الضمير عائد إلى المشار إليه بذلك ، وهو القرآن ، أي ، القرآن ليس ذكرى لمن يريد أن يدرك الأشياء بالعقل .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهم أصحاب الاعتقادات الذين يكفر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، وما لهم من  ناصرين . )
أي ، أصحاب الاعتقادات الجزئية . وإنما نسبهم إلى العقل ، لكون عقولهم أعطت لهم التقيد بتلك الاعتقادات بحسب إدراكاتهم . ولو كان مبدأ اعتقاداتهم قلوبهم ، لما كانوا مقيدين بها ، كما لم يتقيد القلب ، فكانوا من العابدين للحق في صور شؤونه كلها .
ولما تقيد كل منهم باعتقاد خاص ، ظن أن الحق هو الذي اعتقده فقط ، وغيره باطل ، فكفر بعضهم بعضا ، ولعن بعضهم بعضا ، فما لهم من ناصرين .
( فإن إله المعتقد ماله حكم في إله المعتقد الآخر . ) لما كان لكل من أرباب العقائد الخاصة ربا خاصا يربه في صورة معتقده ، لا يمكن لكل من أربابها أن ينصر عبد رب آخر ، إذ ليس له تلك الوجهة التي للآخر من الله ، كما قال تعالى :
( ولكل وجهة هو موليها ) . لكن لكل أن ينصر عبده .
فليس المراد ب‍ ( الإله ) هنا ، الرب الحاكم على المعتقد ، بل المراد منه الإله المجعول الذي اتخذه المعتقد بتصوره وتعمله إلها .
وهذا الإله لا يقدر أن ينصر معتقده ، فكيف تقدر أن ينصر معتقدا آخر يضاده وينافيه قد والفرق بين الإله المجعول بحسب الاعتقاد ، وبين الأصنام التي عبدت ، أنها مجعولة في الخارج ، وهو مجعول في الذهن .
بل صاحب الاعتقاد ينصر إلهه ويدفع عنه ، وهو عاجز عن نصرته ودفع المكاره عنه . وإليه أشار بقوله : ( فصاحب الاعتقاد يذب عنه ، أي ، عن الأمر الذي اعتقده في إلهه وينصره . وذلك الذي في اعتقاده لا ينصره . )
أي ، صاحب الاعتقاد يدفع عن الإله الذي اعتقده ما ينافيه ويخالفه ، وينصره ، وذلك
الإله لا ينصر صاحب الاعتقاد ، لأنه مجعوله ، والمجعول لا يمكن أن يكون أقوى  من جاعله لينصره .


قال الشيخ رضي الله عنه : (فلهذا لا يكون له أثر في اعتقاد المنازع له . وكذا المنازع ما له نصرة من إلهه الذي في اعتقاده : "فما لهم من ناصرين". ) أي ، فلأجل أن إله المعتقد عاجز
عن النصرة ، ليس له أثر في اعتقاد المنازع له .
وهكذا إله المنازع عاجز عن نصرة معتقده ، وليس له أثر ، أي ، فيمن يضاده وينافيه . فليس لأصحاب الاعتقادات الجزئية من ناصرين .


قال الشيخ رضي الله عنه : (فنفى الحق النصرة عن آلهة الاعتقادات على انفراد كل معتقد على حدته . )
أي ، نفى الحق عنها النصرة على انفراد كل منها ، إذ لا يقدر أن ينصر كل منها لكل معتقد على حدته . ف‍ ( عن ) متعلق ب‍ ( نفى ) . و ( على ) ب‍ ( النصرة ) . وإضافة ( الانفراد ) إلى ( الكل ) إضافة المصدر إلى مفعوله .
( والمنصور المجموع ، والناصر المجموع . ) وفي بعض النسخ :
( فالمنصور ) . ب‍ ( الفاء ) . و ( المجموع ) في قوله : ( والمنصور المجموع ) يجوز أن يحمل بمجموع الآلهة .

وفي قوله : ( والناصر المجموع ) لمجموع المعتقدين ، لينصر كل منهم إلهه الذي يعتقده . ويجوز أن يحمل بمجموع المعتقد وإلهه المجعول في الأول ، وبمجموع المعتقد وإلهه الحقيقي في الثاني .
ومعناه : والحال أن المنصور مجموع المعتقد ، وإلهه الذي يعتقده ، إذ الرب الحاكم عليه ينصره، وهو ينصر معتقده .
و ( الناصر ) أيضا المجموع ، وهو الرب الحاكم على المعتقد وعين المعتقد . فإن نصرة الرب من الباطن لا يظهر في الظاهر إلا بمظهره ، وهو عين العبد .
( فالحق عند العارف هو المعروف الذي لا ينكر ) 
كما قال رضي الله عنه في فتوحاته : ( الآمرون بالمعروف هم الآمرون بالحق ) . 
أي ، فالحق عند العارف هو الذي يظهر في صور تجلياته ، ويعرف فيها ولا ينكر ، لأنه يعرف أن لا غير في الوجود ، فصور الموجودات ظاهرا وباطنا كلها صورته ، فهو المعروف الذي لا ينكر .
( عند العارف . فأهل المعروف في الآخرة . ) أي ، إذا كان الحق المعروف الذي لا ينكر ، فأهل المعروف هم العارفون الذين عرفوا الحق في صور تجلياته ، وصار الحق معروفهم في الدنيا ، وهم الذين يتصفون في الآخرة أيضا بأنهم أهل المعروف ، فإنهم يعرفونه أيضا في صور يتحول فيها ، ولا ينكرونه أبدا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (فلهذا قال : "لمن كان له قلب" أي ، لكون أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة ).
قال : " لمن كان له قلب " . ولم يقل : لمن كان له عقل .
لأن صاحب القلب يتقلب في الصور بحسب العوالم الخمسة الكلية ، ومن تقليبه فيها يعرف تقليب الحق في الصور ، فيعبده فيها ، ولا ينكره في صورة من الصور .
وهذا معنى قوله : ( فعلم تقلب الحق في الصور بتقليبه في الأشكال ، فمن نفسه عرف نفسه . )
 أي ، علم القلب تقليب الحق في الصور المتنوعة وتجلياته المختلفة بواسطة تقلباته الحق في صور العوالم الكلية والحضرات الأصلية .
وإذا كان كذلك ، فالقلب العارف من نفسه وذاته عرف نفس الحق وذاته .
كما قال صلى الله عليه وسلم : "من عرف نفسه فقد عرف ربه " . 
أو العارف من نفسه عرف نفسه ، ليكون هو العارف والمعروف . والأول أنسب .


قال الشيخ رضي الله عنه : (وليست نفسه بغير لهوية الحق ، ولا شئ من الكون مما هو كائن ويكون بغير لهوية الحق ، بل هو عين الهوية . فهو العارف والعالم والمقر في هذه الصورة ، وهو الذي لا عارف ولا عالم وهو المنكر في هذه الصورة الأخرى . )
لما تكلم في مراتب الكثرة  بلسانه ، شرع يتكلم في الوحدة ومعناه أن نفس العارف ليست مغائرة لهوية الحق ، فلا شئ من الموجودات أيضا مغائر لها ، لأن الهوية الإلهية هي التي ظهرت
في هذه الصور كلها ، فهو العارف والعالم والمقر في صور أهل العلم والعرفان  والإيمان ، وهو الذي لا يعرف ولا يعلم وينكر في صور المحجوبين والجهلة والكفرة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( هذا حظ من عرف الحق من التجلي والشهود في عين الجمع . ) 
أي ، هذا العلم الذي حصل للقلب من نفسه وعرف الحق وتقلباته في الصور من عين تقلباته في العوالم ، حظ من شاهد مقام الجمع من التجلي الإلهي ، وعرف الحق فيه ، لاحظ لأهل العقل وأصحاب الفكر المحجوبين عنه وعن تجلياته وتقلباته في الصور .
( فهو قوله : " لمن كان له قلب " . يتنوع في تقليبه . ) أي ، هذا الحظ المذكور من العلم والمعرفة والشهود والتجلي .
هو المعنى من قوله : ( لمن كان له قلب ) .
ويؤيده ما بعده من قوله : ( هم المرادون بقوله : " أو ألقى السمع وهو شهيد" .)
أي ، المعنى من قوله : ( لمن كان له قلب ) . صاحب الشهود .
والمعنى بقوله : ( أو ألقى السمع ) المقلدون للرسل .
( فهو ) مبتدأ ، و ( قوله ) قائم مقام الخبر . و ( يتنوع ) صفة ( للقلب ) .
وضمير قوله : ( في تقليبه ) يجوز أن يعود إلى ( الحق ) . أي ، في تقليب الحق إياه .
ويجوز أن يعود إلى ( القلب ) . أي ، في تقليبه نفسه في الصور .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما أهل الإيمان وهم المقلدة الذين قلدوا الأنبياء والرسل ، عليهم السلام  والصلاة ، فيما أخبروا به عن الحق ، لا من قلد أصحاب الأفكار والمتأولين للأخبار الواردة بحملها على أدلتهم العقلية ، فهؤلاء الذين قلدوا الرسل ، صلوات الله عليهم ، هم المرادون بقوله : "أو ألقى السمع " لما وردت به الأخبار الإلهية على ألسنة الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام . )
أي ، وأما نصيب أهل الايمان والمقلدين للأنبياء والأولياء من هذه الآية ، قوله تعالى : "أو ألقى السمع وهو شهيد " .
فإن ( إلقاء السمع ) إنما يكون عند القبول لما جاء به الأنبياء والرسل من غير طلب دليل عقلي . ولما كان أصحاب الأفكار والمتأولين للأخبار على ما يقتضيه طريق عقولهم على نهج غير موصل لما هو في نفس الأمر من الحقائق.
قال : ( لا من قلد أصحاب الأفكار ) لأن المتبوع إذا كان جاهلا بما هو الأمر عليه ، فالتابع أولى
به . ( وهو ، يعنى هذا الذي ألقى السمع ، شهيد . ) أي ، المؤمن الذي ألقى السمع بالأخبار الإلهية ، شهيد .
و ( للشهيد ) معنيان :
أحدهما ، حاضر . أي ، حاضر مراقب لما يبلغه الأنبياء من الأخبار النازلة عليهم .
وثانيهما ، شاهد .
و ( للشهود ) مراتب :
إحديها ، الرؤية بالبصر .
وثانيها ، الرؤية بالبصيرة في عالم الخيال .
وثالثها ، الرؤية بالبصر والبصيرة معا .
ورابعها ، الإدراك الحقيقي للحقائق مجردة عن الصور الحسية . وكل منها بعين نفسه أو ربه .
والمراد هنا كلا المعنيين : الحضور ، والرؤية في عالم الخيال .
أما الحضور ، فإنه لو لم يكن حاضرا أو مراقبا ، لا يحصل له الرؤية المثالية .
فالذي يلقى سمعه ، يكون مشاهدا للأشياء في حضرة الخيال ، ويكون مؤمنا لما في باقي الحضرات .
لذلك قال رضي الله عنه  : ( ينبه على حضرة الخيال واستعمالها . ) أي ، الحق ينبه بهذا القول على حضرة الخيال ، إذ أول ما ينكشف للمؤمن حضرة الخيال ، وهو المثال المقيد ، ثم يسرى إلى المثال المطلق الذي هو عالم الأرواح . كما مر بيانه .
وكذلك ينبه على الوصول إلى هذا المقام ، وهو المراد بقوله : ( واستعمالها ) . أي ، واستعمال الحضرة الخيالية .
وهي القوة التي فيها تظهر الصور الخيالية ، واستعمالها إنما يكون بالتجرد التام والتوجه الكلى
بالقلب إلى العالم العلوي ، من غير اتباع العقل واستعمال للمفكرة .
فإنه كما يتحرك ، ينفتح له طريق الفكر وينسد عليه باب الكشف ، بل يتوجه توجها تاما عند تسكين المفكرة عن حركاتها بالذكر .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهو قوله ، عليه السلام ، في الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه ". "والله في قبلة المصلى" . فلذلك هو شهيد . )
( هو ) عائد إلى ( الاستعمال ) . أو ( الشهود ) . أي ، ذلك الاستعمال ، أو الشهود ، كقوله ، عليه السلام ، في الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه " . أي ، بمراقبة تامة وتوجه كلي ، كأنك مشاهد للحق ، لأن مثل هذه المراقبة تفتح أبواب الغيوب ، فتحصل هذه الرؤية العيانية ، فيرتفع حكم ، كأن الذي كان يقوم مقام المشاهدة .
وقوله : " والله في قبلة المصلى " هذا أيضا حديث آخر صحيح ، فإن كان المصلى ممن تكحل عينه بنور الحق واحتد بصره ، فيراه رؤية العين ، وإلا فينبغي أن يراقب بجمعية تامة ، ليكون كأنه يراه .
وقوله : "فلذلك هو شهيد " أي ، فلكون الحق في قبلة المصلى بصلاة الحضور والمراقبة ، هو شهيد للحق ، مشاهدا لوجهه الكريم في قبلته .
ومن يكمل استعداده ويقوى كشفه ، شاهد الحق في جميع الجهات ، فإنه فيها كلها ، كما
قال : "أينما تولوا فثم وجه الله " .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (ومن قلد صاحب نظر فكري وتقيد به ، فليس هو الذي "ألقى السمع " . فإن هذا الذي "ألقى السمع "لا بد أن يكون شهيدا لما ذكرناه ، ومن لم يكن شهيدا لما ذكرناه ، فما هو المراد بهذه الآية .
فهؤلاء هم الذين قال الله تعالى في حقهم : " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا " . والرسل لا يتبرؤون من اتباعهم الذين اتبعوهم . فحقق يا ولى ما ذكرته لك في الحكمة القلبية . )

إنما كان صاحب نظر فكري غير معتبر عند أهل الله ، لأن المفكرة قوة جسمانية يتصرف فيها الوهم تارة ، والعقل أخرى ، فهي محل ولايتها ، والوهم ينازع العقل .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثالث .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:55 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثالث .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الجزء الثالث
12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية
والعقل لانغماس آلته  في المادة الظلمانية ، لا يقدر على إدراك الشئ إدراكا تاما ، خصوصا مع
وجود المنازع ، ولا يسلم مدركاته عن الشبه النظرية ، فيبقى صاحبه لا يزال شاكا
أو ظانا فيما أدركه .
بخلاف أرباب اليقين ، فإنهم يشاهدون الأشياء بنور ربهم لا بتعلمهم وتفكرهم . والقوة الخيالية ، وإن كانت جسمانية ، لكنها بمنزلة البصر للقلب ومدركاته محسوسة ، فيحصل بها اليقين .
فمن قلد لمن لا يكون على يقين ، فقد خاب وخسر ، إذ ليس ممن "ألقى السمع " ، ولم يحصل له الشهود ، ويدخل فيمن قال الله تعالى في حقهم : " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا " .
أي ، المتبوعون من تابعيهم .
ولما كان هذا التنبيه أصلا عظيما لأرباب السلوك ، وصى بتحقيقه ، أي ، بجعله حقا ثابتا ، وإمعان النظر في حقيقته ، لئلا يقلدوا أرباب النظر بترك الشرائع ، فيقعون في الغواية ، و" يحسبون أنهم يحسنون صنعا " . كما في زماننا هذا .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأما اختصاصها بشعيب ، لما فيها من ( التشعب ) ، أي ، شعبها لا تنحصر ، لأن كل اعتقاد شعبة ، فهي شعب كلها ، أعني الاعتقادات . )
لما كان ( شعيب ) مأخوذا من ( الشعبة ) ، وكان القلب كثير الشعب - بحسب عوالمه وعقائده وقواه الروحانية والجسمانية ذكر أن اختصاص الحكمة القلبية بهذا الكلمة الشعيبية ، لأجل المناسبة التي بينهما .
وإنما بين هذا الاختصاص هنا ، ليبين شعب الاعتقادات المختلفة ، وإن شعبها لا تنحصر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا انكشف الغطاء ، انكشف لكل أحد بحسب معتقده ، وقد ينكشف بخلاف معتقده في الحكم وهو قوله) أي ، الانكشاف بخلاف المعتقد .
هو كقوله : ( "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " . فأكثرها في الحكم ، كالمعتزلي ، يعتقد في الله نفوذ الوعيد في العاصي إذا مات على غير توبة . فإذا مات وكان مرحوما عند الله : قد سبقت له عناية بأنه لا يعاقب : "وجد الله غفورا رحيما". فبدا له من الله ما لم يكن يحتسبه . )
أي ، إذا انكشف الغطاء عن البصائر والأبصار ، انكشف الحق لكل أحد بحسب معتقده ، وأما حكم الله قد ينكشف بخلاف معتقده .
كما ينكشف للمعتزلي الذي يعتقد أن العاصي إذا مات على غير توبة ، يكون معاقبا ، فإذا رأى من مات كذلك ورحمه الحق وعفا عنه للعناية السابقة في حقه أزلا بأنه لا يعاقب ، فقد انكشف له خلاف ما اعتقد في حكم الله .
وكذا من اعتقد أنه من الناجين ، وعاقبه الحق وجعله من الهالكين ، لما قضى عليه أزلا ، فقد انكشف له خلاف معتقده . واستشهد بالآية : " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ".
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما في الهوية ، فإن بعض العباد يجزم في اعتقاده أن الله كذا وكذا ، فإذا انكشف الغطاء ، رأى صورة معتقده ، وهي حق ، فاعتقدها وانحلت العقدة ، فزال
الاعتقاد وعاد علما بالمشاهدة . وبعد احتداد البصر ، لا يرجع كليل النظر . ) أي ،
كل من اعتقد أن هوية الحق كذا وكذا ، يرى يوم القيامة معتقده حقا واقعا ، لأن الحق يتجلى له بذلك الاعتقاد فتنحل العقدة التي كانت على قلبه ، وهي الحجاب المانع لكل أحد من انكشاف الغيوب لهم ، فزال الاعتقاد الذي كان بالغيب بواسطة الحجاب ، وعاد علما يقينيا لا يحتمل النقيض بمشاهدة الأمر على ما هو عليه .
قوله : ( وبعد احتداد البصر ، لا يرجع كليل النظر . ) إشارة إلى بطلان قول من يقول : إن بعد الظهور التام يحصل الخفاء التام . كما يقول بعض الموحدين من التناسخية .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فيبدو لبعض العبيد ، باختلاف التجلي في الصور عند الرؤية ، خلاف معتقده ، لأنه لا يتكرر ، فيصدق عليه في الهوية . و "بدا لهم من الله " في هويته "ما لم يكونوا يحتسبون " فيها قبل كشف الغطاء . )
أي ، فيبدو لبعض العبيد في تجلى الهوية أيضا خلاف معتقده في الدنيا ، لأن الحق يتجلى في صور أسمائه المختلفة عند الرؤية .
فبعد أن يتجلى له بصورة معتقده ، يتجلى أيضا بصورة أخرى لم يعتقد تجلى الحق فيها ، لأن التجلي لا يتكرر ليكون على صورة واحدة فقط ، فيصدق عليه بحسب الهوية ، و ( بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ) .
وحديث ( التحول ) أيضا يدل على ذلك . وعدم معرفة الجاهلين بتجليات الحق لا يقدح في كونه تجليا .

قال الشيخ رضي الله عنه : (وقد ذكرنا صورة الترقي بعد الموت في المعارف الإلهية ، في كتاب التجليات لنا ، عند ذكرنا بعض من اجتمعنا به من الطائفة في الكشف . وما أفدنا هم في هذه المسألة مما لم يكن عندهم . )
ولما كان ظهور الحق في صور ما كان يعتقد أن الحق يتجلى بها ترقيا حصل للعبيد بعد انتقالهم إلى دار الآخرة ، أكد بما وقع له في بعض مكاشفاته من أنه أفاد أكابر الأولياء ، كالجنيد والشبلي وأبى يزيد وغيرهم قدس الله أسرارهم ، وحصل لهم الترقي بعد الموت .
وهذا ( الترقي ) ليس مخصوصا بطائفة دون طائفة ، لأن العارفين ببعض التجليات يحصل لهم البعض الآخر ، فيحصل لهم الترقي .
وكذلك المحجوبون من المؤمنين والمشركين والكافرين : فإن انكشاف الغطاء عنهم ترق ، وظهور أحكام أعمالهم ترق ، وشهود أنواع التجليات ، وإن لم يعرفوا حقيقتها ، ترق ،
وحصولهم في البرازخ الجهمية والجنانية أيضا ترق ، لوصولهم فيها إلى كمالهم  الذاتي ، وارتفاع العذاب عنهم بعد انتقام ( المنتقم ) منهم ترق ، وشفاعة الشافعين لهم ترق . ولولا مخافة التطويل ، لأوردت مراتب الترقيات في الآخرة مفصلا ، وللعارف غنية فيما أشرت إليه .
فقوله تعالى  : "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " .
إنما هو العمى عن معرفة الحق لا غير ، لأن الحق متجل دائما أبدا ، وهو أعمى عنه .
فإذا انكشف الغطاء ، ارتفع العمى بالنسبة إلى دار الآخرة ونعيمها وجحيمها والأحوال التي فيها ، لكن لا يرتفع العمى بالنسبة إلى معرفة الحق .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم ، انقطع عنه عمله إلا عن ثلاث " لا يدل على عدم الترقي ، لأنه ليس بالعمل ، بل بفضل الله ورحمته ، والعمل أيضا مستند إليه .
ولئن سلم ذلك ، فهو يدل على أن الأشياء التي يتوقف حصولها بالأعمال لا تحصل له إلا بالعمل ، لا مالا يتوقف عليها مما سبقت له العناية الأزلية على حصوله بلا عمل . والاطلاع بأحوال غيره من السعداء والأشقياء أيضا من مراتب الترقي . والله أعلم بالحقائق ولكون الترقي ليس مخصوصا بطائفة وموطن معين وزمان خاص .

قال الشيخ رضي الله عنه : (ومن أعجب الأمر أنه في الترقي دائما ولا يشعر بذلك ، للطافة الحجاب ورقته وتشابه الصور مثل قوله : "وأتوا بها متشابها " . )
أي ، ومن أعجب الأحوال أن الإنسان دائما في الترقي من حين سيره من العلم إلى العين ، فإن عينه الثابتة لا تزال تظهر في صورة كل من مراتب النزول والعروج ، وفي جميع العوالم الروحانية والجسمانية في الدنيا والآخرة ، وكل صورة ظهرت هي فيها ، كانت بالقوة فيها ، وحصولها بالفعل بحسب استعداداتها الكلية والجزئية من جملة ترقياته ، فلا يزال في كل آن مترقيا ولا يشعر به في كل زمان جزئي ، وإن كان يشعر به بعد مدة ، أو لا
يشعر به أصلا .
وذلك لتشابه الصور التي تعرض على عينه في كل آن ، إذا كانت من جنس واحد ، كما تشابه عليهم صور الأرزاق .

قال تعالى : " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا بها متشابها"
قوله : ( للطافة الحجاب ورقته ) أي ، ولا يشعر بصورة الترقي ، للطافتها ورقتها . وإنما جعلها ( حجابا ) ، لكون صور المراتب كلها حجبا للذات الأحدية :
 منها حجب نورانية ، ومنها حجب ظلمانية ، كما قال ، صلى الله عليه وسلم :
قال صلى الله عليه وسلم   : "إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة ، لو كشفها ، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره" .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وليس هو الواحد عين الآخر ، فإن الشبيهين عند العارف من حيث إنهما شبيهان غيران . ) يجوز أن يكون ( هو ) تأكيدا للضمير المستتر . و ( الواحد ) عطف بيان له .
و ( عين الآخر ) خبر ( ليس ) . ويجوز أن يكون ( هو ) بمعنى ذلك ، كما استعمل الشاعر بقوله :  فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق أي ، كان ذلك .
والإشارة إلى ( الحجاب ) أي ليس ذلك الحجاب الواحد عين الحجاب الآخر ، يعنى ، ليس تلك الصورة عين الصورة الأخرى ، لأن الشبيهين غيران ، إذ لا يمكن أن يكون الشئ الواحد شبيها لنفسه . فهما من حيث أنهما شبيهان غيران .
فقوله : ( غير ان ) خبر ( إن ) بالكسر . و ( شبيهان ) خبر ( أن ) بالفتح .
تقديره : فإن الشبيهين غيران من حيث أنهما شبيهان .


قال الشيخ رضي الله عنه : (وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد ، كما يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية ، وإن اختلفت حقائقها وكثرت ،أنها عين واحدة . فهذه كثرة معقولة في واحد العين ، فيكون في التجلي كثرة مشهودة في عين واحدة .)
لما تكلم في الفرق ، شرع يتكلم في الجمع بين الفرق والجمع . ومعناه : أن المحقق يرى الكثرة الواقعة في العالم موجودة في الواحد الحقيقي الذي هو الوجود المطلق الظاهر بصور الكثرة ،
كرؤية القطرات في البحر والثمر في الشجر والشجر في النواة ، كما يرى الكثرة الأسمائية ، مع أنها مختلفة الحقائق ، راجعة إلى تلك الذات .
فهذه الكثرة الأسمائية معقولة في الذات الواحدة الإلهية ، فعند التجلي بصور الأسماء تكون الكثرة الأسمائية مشهودة في عين واحدة معقولة . ولأجل هذا المعنى ، تسرت ( الهوية ) في صور الموجودات ، فأظهرها .
وفي القيامة الكبرى يجعل تلك الصورة مستورة ، ويظهر الحق بذاته .
ويقول : ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) . ثم يتجلى بالكثرة المشهودة في الدار الآخرة أيضا ، جلت قدرته .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( كما أن الهيولى تؤخذ في حد كل صورة . وهي ، مع كثرة الصور واختلافها ، ترجع في الحقيقة إلى جوهر واحد ، وهو هيولاها . ) .
المراد ب‍ ( الهيولى ) هنا هو الهيولى الكلية التي تقبل صور جميع الموجودات الروحانية والجسمانية .
وهو الجوهر كما بينه في كتابه المسمى بإنشاء الدوائر .
ومعناه : أن الكثرة مشهودة في عين واحدة ، وتلك العين الواحدة معقولة  فيها ، كما أن صور الموجودات كلها مشهودة في عين الهيولى ، والهيولي معقولة فيها ، لذلك تؤخذ في تعريف كل من الموجودات .
كما أنك تقول العقل هو جوهر مجرد مدرك للكليات غير متعلق بجسم ، والنفس الناطقة جوهر مجرد مدرك للكليات والجزئيات ، وله تعلق التدبير والتصرف بالجسم ، والجسم جوهر قابل للأبعاد الثلاثة ، فيؤخذ ( الجوهر ) في تعريفاتها .
وهو في الحقيقة واحد والصور كثيرة مختلفة . والغرض التنبيه لأرباب النظر ، لئلا تشمئز عقولهم عما يقوله أهل الله في التوحيد .
( فمن عرف نفسه بهذه المعرفة ، فقد عرف ربه . ) أي ، فمن عرف أن حقيقته هي حقيقة الحق ، وهي التي تفصلت وظهرت بصور الموجودات بحسب مراتبها وظهوراتها - كما بينا في المقدمات ، هو الذي عرف ربه .
( فإنه على صورته خلقه ، بل هو عين حقيقته وهويته. ) أي ، فإن الإنسان مخلوق على صورة ربه ، كما جاء في الحديث الصحيح : ( إن الله خلق آدم على صورته ) .
وفي رواية : ( على صورة الرحمان ) . والمراد ب‍ ( الصورة ) الأسماء والصفات الإلهية .
أي ، خلقه موصوفا بجميع تلك الأسماء والصفات ، بل هويته
التي اختفت وحقيقته التي تسترت في الحقيقة الإنسانية ، فأظهرت الإنسان ، فهويته عين هوية الحق ، وحقيقته عين الحقيقة الإلهية .
وهو اسمه الأعظم الجامع لحقائق الأسماء كلها . ( ولهذا ما عثر ) أي ، ما اطلع .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أحد من الحكماء والعلماء على معرفة النفس وحقيقتها ، إلا الإلهيون من الرسل والأكابر من الصوفية . وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلمين في كلامهم في النفس وماهيتها ، فما منهم من عثر على حقيقتها ، ولا يعطيها النظر الفكري أبدا . )
"" الإلهيون من الرسل والأكابر من الصوفية عرفوا نفوسهم بعلوا هممهم ولسطوع أنوار الحضرات الإلهية والربانية على قلوبهم فتذكروا وعلموا ما لم يكونوا يعلمون ""
"وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلمين"  لما بينا من أنه جسماني منغمس في الظلمات ، عاجز عن رفع الوهم والشبهات .
( فمن طلب العلم بها ) أي ، بماهية النفس وحقيقتها . ( من طريق النظر الفكري ، فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم . ) ( الضرم ) ما به يوقد النار .


قال الشيخ رضي الله عنه : (لا جرم أنهم من "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعا " . فمن طلب الأمر من غير طريقه ، فما ظفر بتحقيقه . ) كله ظاهر .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وما أحسن ما قال الله في حق العالم وتبدله من الأنفاس في خلق جديد في عين
واحدة . فقال في حق طائفة ، بل أكثر أهل العالم : "بل هم في لبس من خلق جديد " .
فلا يعرفون تجديد الأمر مع الأنفاس . )
لما كان كلامه رضي الله عنه  في الحكمة القلبية وبيان تقلبات القلب في عوالمه ، وكان العالم أيضا لا يزال متقلبا في الصور ، ذكر أنه في كل آن ونفس يتبدل صورة على العين الواحدة التي هي الجوهر ، واستشهد بقوله تعالى : " بل هم في لبس من خلق جديد ".
ولما كان هذا التبديل نوعا من أنواع القيامة - كما مر بيانه في المقدمات - وأهل
النظر لم يشعروا بهذا ، جعلهم بمثابة المنكرين بقوله : ( فقال في حق طائفة ) وهم
أهل النظر . ثم عم بقوله : ( بل أكثر العالم ) . أي ، قال في حق أكثر العالم ،
وهم المحجوبون كلهم . وما التبس عليهم ذلك إلا بمشابهة الصور .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( لكن قد عثرت عليه الأشاعرة في بعض الموجودات وهي الأعراض . )
لأنهم ذهبوا أن العرض لا يبقى زمانين . ( وعثرت عليه ( الحسبانية ) في العالم كله .
وجهلهم أهل النظر بأجمعهم . ) ( الحسبانية ) هم المسماة عند أهل النظر ب‍ ( السوفسطائية )
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولكن أخطأ الفريقان : أما خطأ الحسبانية فبكونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدل في العالم بأسره على أحدية عين الجوهر المعقول الذي قبل هذه الصور ولا يوجد إلا بها . )
أي ، ولا يوجد ذلك الجوهر في الخارج إلا بتلك الصور .
( كما لا تعقل إلا به ) أي ، كما لا تعقل تلك الصورة إلا بالجوهر ، يعنى ، كما لا يعقل كل واحد
من الموجودات عند التعريف إلا بالجوهر .
( فلو قالوا بذلك ) أي ، بأن الجوهر شئ واحد يطرأ عليه صور العالم كله ، فتصير موجودات متعينة متكثرة .
وذلك الجوهر هو عين الحق الذي بتجليه حصل العالم . ( فازوا بدرجة التحقيق في الأمر) لأنهم حينئذ كانوا عارفين بالأمر على ما هو عليه.

قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما الأشاعرة ، فما علموا أن العالم كله مجموع أعراض ،فهو يتبدل في كل زمان ،إذا العرض لا يبقى زمانين.)
أي ، وخطاء الأشاعرة أنهم ما علموا أن العالم كله عبارة عن أعراض مجتمعة ظاهرة في الذات الأحدية متبدلة في كل آن .
فلو حكموا على أن أعيان الموجودات أيضا يتبدل ، كأعراضها ، فلا يبقى زمانين على حالة واحدة ، لفازوا أيضا بالتحقيق .
لكنهم غفلوا عن وحدة الجوهر وكونه عين الحق القائم بنفسه المقوم لغيره ، وأثبتوا جواهر غير الذات الأحدية الظاهرة بالصورة الجوهرية ، فحجبوا وحرموا عن حقيقة التوحيد .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ويظهر ذلك في الحدود للأشياء ، فإنهم إذا حدوا الشئ يتبين في حدهم تلك الأعراض.)
وفي نسخة : ( كونه الأعراض ) . أي ، كون ذلك الشئ عين الأعراض .
ويتبين أيضا ، ( أن هذه الأعراض المذكورة في حده ، عين هذا الجوهر وحقيقته القائم بنفسه ، ومن حيث هو عرض ، لا يقوم بنفسه . )
( القائم بنفسه ) مجرور على أنه صفة ( الجوهر ) . أي ، ويظهر . أن العالم كله أعراض في
حدودهم للأشياء . فإنهم إذا حدوا الإنسان بالحيوان الناطق ، والحيوان بالجسم
الحساس المتحرك بالإرادة ، والجسم بأنه جوهر قابل للأبعاد الثلاثة ، يتبين أن الجوهر هو الذي مع كل واحد من الأعراض ، يصير موجودا معينا مسمى بالجوهر قائما بنفسه .
وذلك لأن مفهوم الناطق ذو نطق ، والنطق عرض ، و ( ذو ) أيضا عرض لأنها نسبة رابطة ، والحيوان جسم حساس ، والحساس ذو حس ، والحس عرض لأنه الإدراك ، وذو عرض ، والمتحرك بالإرادة أيضا كذلك ، فإن الحركة عرض ، والإرادة عرض ، وكذلك الجسم ، فإن المتحيز هو ماله التحيز ، والتحيز عرض ، والقابل للأبعاد الثلاثة التي هي الأعراض عبارة عماله القبول ، والقبول عرض ، وهكذا إلى أن ينتهى إلى الجوهر ، والجوهر موجود لا في موضوع ، والموجود هو ذو وجود ، وذو نسبة وهو عرض ، و ( الكون ) أيضا كذلك .
فبقى الوجود الحقيقي الذي يدل عليه ( ذو ) ، وهو عين الحق .
كما مر بيانه في المقدمات فتبين أن مجموع العالم من حيث إنه عالم ، أعراض كلها قائمة بالذات الإلهية .
وإنما قال : ( وأن هذه الأعراض . . . عين هذا الجوهر ) لأنها كلها صفاته التي فيه بالقوة ، فهي عينه بحسب الوجود ،وغيره بحسب العقل.
( فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه ) وهي الأعراض . ( من يقوم بنفسه . ) وهو الجوهر ( كالتحيز في حد الجوهر القائم بنفسه الذاتي ) مثال للعرض الذي يلحق الجوهر فيجعله جسما . أي ، كالتحيز الذي هو عرض ذاتي مأخوذ في حد الجوهر القائم بنفسه ،وهو الجسم.
والمراد ب‍ ( الذاتي ) جزء المهية ، فإن ( المتحيز ) و ( القابل للأبعاد ) ، فصلان للجسم .
( وقبوله للأعراض حد له ذاتي) أي ، قبول الجسم للأعراض الثلاثة أيضا حد للجسم ذاتي .
والمراد ب‍ ( الحد ) التعريف : فإنك إذا عرفت الجسم بأنه القابل للأبعاد الثلاثة ، تكون صحيحا .
ويجوز أن يكون المراد ب‍ ( الحد ) جزء الحد ، فإن كلا من الأجزاء الذاتية يحدد المحدود ويعينه .
(ولا شك أن القبول عرض ، إذ لا يكون إلا في قابل ، لأنه لا يقوم بنفسه ، و هو ) أي ، القابل ( ذاتي للجوهر ) الذي هو الجسم .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( والتحيز عرض ، ولا يكون إلا في متحيز ، فلا يقوم بنفسه . وليس التحيز والقبول بأمر زائد على عين الجوهر المحدود . ) أي ، بحسب الوجود .
( لأن الحدود الذاتية ) أي ، الأجزاء الذاتية . وإنما سماها ( حدودا ) ، لأن الحدود تعريفات ، وبالأجزاء تحصل التعريفات .
( هي عين المحدود وهويته . ) بحسب الخارج . وإنما جعل ( التحيز ) و ( القبول ) حدودا ذاتية ، لأن ( المتحيز ) و ( القابل ) ذاتيان للجسم ، والتحيز ذاتي للمتحيز والقبول للقابل ، وجزء الجزء جزء .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقد صار مالا تبقى زمانين ، يبقى زمانين وأزمنة . ) أي ، بحسب الظاهر والحس ، كما يزعم المحجوب .
( وعاد مالا يقوم بنفسه ، يقوم بنفسه ) أي ، بحسب ما يشاهد في الحس ويزعم المحجوب ، لأنه في الحقيقة قائم بالله لا بنفسه .
( ولا يشعرون ) أي ، المحجوبون . ( لما هم عليه من التبدل . ) لأن أعيانهم أعراض متبدلة في كل آن ، والحق ، سبحانه ، يخلقهم خلقا جديدا في كل زمان .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهؤلاء هم في لبس من خلق جديد . وأما أهل الكشف فإنهم يرون أن الله تعالى يتجلى في كل نفس ، ولا يكرر التجلي . )
فإن ما يوجب البقاء غير ما يوجب الفناء . وفي كل آن يحصل الفناء والبقاء ، فالتجلي غير متكرر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ويرون أيضا شهودا أن كل تجلى يعطى خلقا جديدا ، ويذهب بخلق ، فذهابه هو الفناء عند التجلي . ) أي ، عند التجلي الموجب للفناء .
( والبقاء لما يعطيه التجلي الآخر . ) وهو التجلي الموجب للبقاء بالخلق الجديد .
( فافهم ) لتكون من أرباب الشهود للقيامة وتلحق بالعالمين للآخرة .
وإنما قال : ( ويرون أيضا شهودا ) لئلا يزعم المحجوب أنه يحكم بهذا الخلق الجديد بسبب النص الوارد فيه ، وهذا النص مستنده فقط .
ولما كان هذا الخلق من جنس ما كان أولا ، التبس عليهم ، ولم يشعروا التجدد وذهاب ما كان
حاصلا بالفناء في الحق ، لأن كل تجلى يعطى خلقا جديدا ، ويفنى في الوجود الحقيقي ما كان حاصلا .
ويظهر هذا المعنى في النار المشتعل من الدهن والفتيلة :
فإنه في كل آن يدخل منها شئ في تلك النارية ويتصف بالصفة النورية ، ثم يذهب تلك الصورة بصيرورته هواء .
هكذا شأن العالم بأسره : فإنه يستمد دائما من الخزائن الإلهية ، فيفيض منها ويرجع إليها .
والله أعلم بالحقائق .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:56 pm

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الجزء الأول
13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية
( الملك ) ، بفتح الميم وسكون اللام ، هو الشدة . و ( المليك ) الشديد .
قال صاحب الصحاح : ملكت العجين أملكه ملكا - بالفتح - إذا شددت عجنا  
"" أضاف المحقق : قال الشيخ صدر الدين القنوي في رسالة الفكوك فك ختم الفص اللوطي: (إنما قرن الشيخ رضي الله عنه  هذه الحكمة بالصفة (الملكية) مراعاة الأمر الغالب على حال لوط عليه السلام وأمته، وما عامل الحق به قومه من شدة العقوبة في مقابل الشدة التي قاساها لوط منهم حتى نطق لسان حاله معهم بقوله: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد).  ""
وإنما نسب هذه ( الحكمة ) إلى كلمة ( لوط ) ، عليه السلام ، لأنه كان ضعيفا  في قومه ، وهم أقوياء شديد الحجاب ، ما كانوا تقبلون منه ما أتى به من الله إليهم .
وكانوا يفسدون في الأرض بالاشتغال بالشهوة البهيمية والانهماك في الأمور الطبيعية ، حتى قال : ( لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد ) .
فالتجأ إلى الله  من حيث إنه القوى الشديد حتى استأصلهم بشدة العذاب .
(الملك ) الشدة . و ( المليك ) الشديد . يقال : أملكت العجين . إذا شددت عجنه . قال قيس بن الحطيم ، يصف طعنه :  
ملكت بها كفى فانهرت فتقها  ..... يرى قائم من دونها ما ورائها
أي ، شددت بها كفى ، يعنى ، الطعنة .
معنى البيت : إني شددت بالطعنة كفى . أي ، مسكت الرمح قويا ،
فضربت به العدو ، فأوسعت ما فتقت الطعنة حتى يرى القائم ما وراء تلك الطعنة من جانب آخر . 
كأنه جعل موضع الطعنة مثل شباك يرى منها ما وراءها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فهو قوله تعالى عن لوط : " لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أخي لوطا ، لقد كان يأوى إلى ركن شديد " . فنبه ، عليه السلام ، أنه كان مع الله من كونه شديدا . ) .
أي ، ( الملك ) المفسر بالشدة مستفاد من قوله تعالى عن لسان لوط ، عليه السلام : ( لو أن لي بكم قوة ) والمراد ب‍ ( القوة ) الهمة القوية المؤثرة في النفوس ، لأن القوة منها جسمانية ، ومنها روحانية ، وهي الهمة .
والروحانية أقوى تأثيرا ، لأنها قد تؤثر في أكثر أهل العالم أو كله ، بخلاف الجسمانية .
( أو آوى ) أي ، التجئ إلى ( ركن شديد ) . أي ، قبيلة قوية غالبة على خصمائها .
هذا بحسب الظاهر . وأما بحسب الباطن ، فإنه التجأ إلى الله من حيث إنه قوى شديد ، كما نبه عليه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والذي قصد لوط ، سلام الله عليه ، القبيلة ب‍ ( الركن ) الشديد ، والمقاومة  بقوله : " لو أن لي بكم قوة " . وهي ( الهمة ) هنا ، من البشر خاصة . )
( القبيلة ) مرفوعة على أنها خبر المبتدأ ، والرابطة محذوفة . أي الذي قصده لوط هي القبيلة. و ( المقاومة ) عطف على ( القبيلة ) .
وإنما قصد لوط ، عليه السلام ، القبيلة ب‍ ( الركن الشديد ) ، لأنه يعلم أن أفعال الله تعالى لا يظهر في الخارج إلا على أيدي المظاهر ، فتوجه بسره إلى الله ، وطلب منه أن يجعل له  أنصارا ينصرونه على أعداء الله ، وقوة وهمة مؤثرة من نفسه ليقاوم بها الأعداء .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " فمن ذلك الوقت يعنى من الزمن الذي قال فيه لوط عليه السلام : أو آوى إلى ركن شديد ما بعث نبي بعد ذلك إلا في منعة من قومه " . )
أي ، ما بعث نبي إلا بين منعة يمنعون شر الأعداء منه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان تحمية قبيلته كأبي طالب عليه السلام مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . فقوله )
أي ، قول لوط ، عليه السلام : ( " لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد " . لكونه ، عليه السلام ، سمع الله يقول : " الله الذي خلقكم من ضعف " بالأصالة . )
أي ، هذا القول إنما وقع لكون لوط ، عليه السلام ، أدرك بالنور الإلهي معنى:-
قول الله تعالى : ( وهو الذي خلقكم من ضعف ) . وعلم أن الله خلق الخلق من العدم ، ومعنى الآية أيضا يرجع إليه ، إذ ( الضعف ) عدم القوة ، والعدم أصل كل متعين . وإليه ترجع الصفات الكونية كلها ، وعرف أن القوة لله جميعا بالأصالة ، ولغيره بالتبعية ، كما قال تعالى .
( ثم ، جعل من بعد ضعف قوة ، فعرضت القوة بالجعل . ) أي ، بالإيجاد بالخلق الجديد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهي قوة عرضية . ثم ، جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة . فالجعل تعلق بالشيبة . ) لأنها خلق جديد . ( وأما ( الضعف ) فهو رجوع إلى أصل خلقه وهو قوله : " خلقكم من ضعف" ) وهو العدم ، لأنه عبارة عن عدم القوة .
( فرده لما خلقه منه ) . ( اللام ) بمعنى إلى . ( كما قال تعالى : " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا " . فذكر أنه رد إلى الضعف الأول .  فحكم الشيخ حكم الطفل في الضعف . ) الكل ظاهر .
والمقصود أن القوة للخلق ، من حيث إنه غير وسوى ، عارضي . ولهذا قال الشيخ رضي الله عنه : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) . والضعف والعجز ذاتي له ، لأنه من العدم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وما بعث نبي إلا بعد تمام الأربعين ، وهو زمان أخذه في النقص والضعف . فلهذا قال : " لو أن لي بكم قوة " مع كون ذلك يطلب همة مؤثرة . ) معناه ظاهر.
وإنما كانت ( البعثة ) بعد تمام ( الأربعين ) ، لأن أحكام النشأة العنصرية غالبة على أحكام النشأة الروحانية في تلك المدة ، والقوة الطبيعية مستعلية  على القوى الروحانية بحيث لا يظهر أثرها إلا أحيانا ، ولذلك يغلب السواد ، أيضا في تلك المدة ، على الشعر . والحكمة في هذه الغلبة واختفاء القوى  الروحانية ، تكميل النشأتين وتحصيل السعادتين ، لأن الرب كما يرب الظاهر في ذلك الزمان ، يرب الباطن أيضا .
ولما كانت النشأة الدنياوية منقضية متناهية ، يتوجه تلك القوة إلى الضعف  إلى أن تفنى . ولكون الآخرة دائمة أبدية ، تزداد القوى الروحانية ، إلى أن ينتهى إلى الكمال المقدر له .
وقوله تعالى : ( لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ) . إشارة إلى فناء قابلية الآلة التي بها يظهر العلم في الخارج ، لأن النفس الناطقة يطرء عليها الجهل بعد العلم ، وإلا ما كان تبقى العلم بعد المفارقة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن قلت : فما يمنعه من الهمة المؤثرة ، وهي موجودة في السالكين من الاتباع ، والرسل أولى بها ؟
قلنا : صدقت ، ولكن نقصك علم آخر . وذلك أن المعرفة لا تترك للهمة تصرفا ، فكلما علت معرفته ، نقص تصرفه بالهمة . وذلك لوجهين : الوجه الواحد ، لتحققه بمقام العبودية ونظره إلى أصل خلقه الطبيعي . )
أي ، لظهوره  بمقام العبودية ، وهي يقتضى الإتيان بأوامر السيد . والتصرف إنما يكون
عند الظهور بالربوبية ، لأن للسيد المالك أن يتصرف في ملكه لا لعبده ، ولنظره إلى أصل خلقه الطبيعي ، وهو الضعف والعجز .

كما قال تعالى : 
( الله الذي خلقكم من ضعف ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والوجه الآخر ، أحدية المتصرف والمتصرف فيه . فلا يرى على من يرسل همته فيمنعه ذلك . ) والوجه الآخر ، أن العارف يعرف أن المتصرف والمتصرف فيه في الحقيقة واحد ، وإن كانت الصور مختلفة ، فلا يرى أحدا غيره ليرسل همته عليه ، فيهلكه فيمنع المتصرف ذلك العرفان عن تصرفه .
ف‍ـ ( الرؤية ) رؤية البصر ، و ( من ) مفعوله . و ( على ) متعلق بقوله : ( يرسل ) .
ويجوز أن يكون ( الرؤية ) بمعنى العلم ، و ( من ) استفهامية . أي ، فلا يعلم على أي موجود يرسل همته على سبيل القهر والغضب ، فيهلكه . وليس في الوجود غيره .
وأيضا ، ( التصرف ) إنما يكون بالجهة الربوبية . فالمتصرف إن قلنا إنه رب ، فليس للعبد فيه شئ ، وهو المالك يفعل في ملكه ما يشاء . وإن قلنا إنه عبد ، فلا يخلو من أنه يتصرف بأمر المالك أو لا .
فإن كان بالأمر على التعيين ، فالمتصرف أيضا المالك على يد العبد ، وهو آلة فقط .
وإن كان بالأمر على الإجمال ، كقول المالك : تصرف فيما شئت ، فهو بما شئت . فهو الخليفة . وهو أيضا مظهر الرب لا يفعل شيئا لنفسه . فإن لم يفعل بأمر المالك ، يعلم أن المتصرف فيه هو الحق الظاهر بتلك الصورة ، أو لا .
فإن علم ، فهو ممن أساء الأدب مع الله ، فلا يكون تام المعرفة . 
وإن لم يعلم ، فهو الجاهل بمرتبة المتصرف فيه ، وبجهله يرسل همته عليه بالإهلاك .
فالحاصل أن المعرفة تمنع العارف من التصرف . ومن تصرف من الأنبياء والأولياء ، إنما تصرف بالأمر الإلهي ، لتكميل المتصرف فيه والشفقة عليه ، وإن كانت الصورة صورة الإهلاك .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وفي هذا المشهد يرى أن المنازع له ما عدل عن حقيقته التي هو عليها في حال ثبوت عينه وحال عدمه ، فما ظهر في الوجود إلا ما كان له في حال العدم في الثبوت ، فما تعدى حقيقته ، ولا أخل بطريقته . )
( المشهد ) مقام الشهود . أي ، وفي هذا المقام من المعرفة ، وهو مقام شهود الأحدية ، يعلم العارف أن من ينازعه وينازع الأنبياء والأولياء ما عدل عن اقتضاء حقيقته التي هي العين الثابتة ، فإنها كانت على المنازعة مع حقائق الأنبياء والأولياء حال كونها ثابتة في العدم ، لأن حقائقهم اقتضت الهداية والرشاد وطاعة أمر الله ، وحقيقة المنازع معهم اقتضت الضلالة والغواية والإباء عما جاء به النبي . فكل على طريقته الخاصة به ، وكل عند ربه مرضى . كما مر بيانه .
فما ظهر في الوجود العيني شئ إلا على صفة ما كانت عليها في الوجود العلمي ، فما تعدى المنازع عن حقيقته ، ولا أخل بشئ في طريقته .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتسمية ذلك نزاعا ) أي ، ب‍ ( النزاع ) . ( إنما هو أمر عرضي ، أظهره الحجاب الذي على أعين الناس ، كما قال الله تعالى فيهم : " ولكن أكثر الناس لا يعلمون،  يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " . )
ضمير ( إنما هو ) عائد إلى ( التسمية ) . ذكره باعتبار ( القول ) ، أو تغليبا للخبر .
ومعناه : 
فتسمية ما عليه المنازع من الطريق الخاص به ( نزاعا ) ، إنما هو أمر عرضي ، حصل للمحجوبين بواسطة الحجاب الذي على أعينهم من سر القدر . 
فإنهم يتوقعون من جميع الخلائق الاهتداء والرشد لما جاء به الأنبياء ، عليه السلام ، وما يعلمون أن كل عين لا تقبل إلا ما يعطيه الاسم الحاكم عليه من الله ، وكل موافق لطريقه .
ولو كانوا يعلمون ذلك ، ما كانوا يسمونه منازعا مطلقا ، بل موافقا .
لذلك قال تعالى في حقهم : " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " . أي ، سر القدر .
" يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " .  أي ، يعلمون ما ظهر لهم من النشأة الدنياوية ، وهم عن النشأة الأخراوية التي عندها يظهر سر القدر ، غافلون .
واعلم ، أن ما زعم المحجوب ، أيضا حق واقع . فإن للأسماء مقتضيات متوافقة ومتخالفة : الأول ، ك‍ ( الرحيم ) و ( الكريم ) . والثاني ، ك‍ ( الرحيم ) و ( المنتقم ) . فإذا اعتبر مقتضى كل اسم بحسبه ، أو بحسب الاسم الموافق له ، كانت عينه موافقة لطريقها ، كما مر من أن كل واحد من الأعيان على طريق مستقيم وهو عند ربه مرضى .
وإذا اعتبر بحسب اسم آخر مخالف له ، كانت عينه مخالفة ، فالتخالف والتضاد بين الأسماء والأعيان واقع .
والأنبياء ، عليه السلام ، أمروا بالدعوة ، علموا سر القدر .
أو لم يعلموا لمقاصد :
أحدها ، تميز أهل الدارين .
وثانيها ، إيصال كل بكمال ما يقتضى حقيقته .
وثالثها ، الحجة لهم وعليهم ، إذ الأنبياء ، عليه السلام ، حجج الله على خلقه .
كما قال تعالى : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " . فتسمية المحجوب أو النبي أو الولي أو المكاشف لسر القدر ، ذلك ( نزاعا ) إنما هو بالنسبة إلى عدم قبوله الأمر الإلهي التكليفي ، ومنازعه ما يعطى حقيقته من الضلال لما تعطى حقيقة النبي من الهداية ، فوقع النزاع .
وإنما كان عرضيا ، لأنه بالنظر إلى الغير لا إلى ذاته .

( وهو من المقلوب ، فإنه من قولهم : " قلوبنا غلف " . أي ، في غلاف ) ( هو ) يجوز أن يكون عائدا إلى ( النزاع ) المذكور .
أي ، النزاع المذكور ، مقلوب بالقلب المعنوي قلبه أهل الحجاب ، لكون قلوبهم في أكنة ، فإنه وفاق في نفس الأمر ، ولا يعلم الحق منه إلا كذلك ، وما يعطيه ربه الحاكم عليه إلا ذلك ، كما يعطى رب المحجوبين الوفاق نزاعا هذا وجه .
والأولى منه أن يكون الضمير عائدا إلى قوله : ( غافلون ) . أي ، ( الغافل ) مقلوب من ( الغلف ) ، فإنه من ( غفل ) ، المغلوب من غلف .
ويؤكده قوله : ( فإنه من قولهم : " قلوبنا غلف . . " ) . أي ، مأخوذ من ( الغلف ) . وهذا أيضا تقرير سبب تسميتهم للوفاق نزاعا .
قال تعالى - حاكيا عن الكفار - وقالوا : ( قلوبنا غلف ) . ( بل لعنهم الله بكفرهم ، فقليلا ما يؤمنون ) . أي ، قلوبنا في غلاف ، أي ، في حجاب . إذ لا شك أن الغافل إنما يغفل عن الشئ بواسطة الحجاب الذي يطرأ على قلبه . فالغافلون عن الآخرة هم الذين قلوبهم في غلاف وحجاب .

( وهو ( الكن ) الذي ستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه . ) وهو ، أي الغلاف ، هو ( الكن ) المذكور في قوله تعالى : " إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ، وفي آذانهم وقرا " . فهو الذي ستر القلب وحجبه عن إدراك الحقائق على ما هي عليه .
ولما كان قوله : ( وهو من المقلوب . ) اعتراضا وقع في أثناء تقريره :
أن المعرفة تمنع العارف من التصرف ، قال : ( فهذا ) أي ، هذا الذي ذكرناه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمثاله يمنع العارف من التصرف في العالم . قال الشيخ أبو عبد الله بن قائد للشيخ أبى السعود بن الشبلي : لم لا تتصرف ؟ )
فقال أبو السعود : تركت الحق يتصرف لي كما يشاء . ويريد قوله تعالى آمرا : " فاتخذه وكيلا " . ف‍ ( الوكيل ) هو المتصرف . ولا سيما وقد سمع ) أي ، سمع أبو السعود .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أن الله يقول : " وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " . فعلم أبو السعود والعارفون أن الأمر الذي بيده ليس له ، وأنه مستخلف فيه .
ثم قال له الحق : هذا الأمر الذي استخلفتك فيه وملكتك إياه ، إجعلني واتخذني فيه وكيلا .
فامتثل أبو السعود أمر الله ، فاتخذه وكيلا . فكيف يبقى لمن شهد مثل هذا الأمر همة ، يتصرف بها ؟ والهمة لا تفعل إلا بالجمعية التي لا متسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه .
وهذه المعرفة تفرقه عن هذه الجمعية ، فيظهر العارف التام المعرفة بغاية العجز والضعف .
قال بعض الأبدال للشيخ عبد الرزاق : قل للشيخ أبى مدين بعد السلام عليه : يا أبا مدين ، لم لا يعتاص علينا شئ ، وأنت تعتاص عليك الأشياء ، ونحن نرغب في مقامك ، وأنت لا ترغب في مقامنا ؟ وكذلك كان ) هذا كلام الشيخ رضي الله عنه  
. أي ، وكذلك كان أبو مدين تعتاص عليه الأشياء ، وكان يرغب غيره في مقامه ، وهو لا يرغب في مقام غيره .

( مع كون أبى مدين رضي الله عنه  كان عنده ذلك المقام ) أي ، مقام البدلاء . ( وغيره . ونحن أتم في مقام العجز والضعف منه . ) أي ، من أبى مدين .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومع هذا قال له هذا البدل ما قال . وهذا ) أي ، وعدم التصرف والظهور بمقام الضعف والعجز .
( من ذلك القبيل أيضا . ) أي ، ومن قبيل ما يمنع من التصرف ، وهو المعرفة بمقام العبودية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقال ، صلى الله عليه وسلم ، في هذا المقام عن أمر الله له بذلك : " ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم ، إن اتبع إلا ما يوحى إلى " . فالرسول يحكم ما يوحى إليه به ما عنده غير ذلك . )
أي ، ليس عنده إلا الظهور بالعجز ، وعدم العلم بما في الغيب  من الأحوال والحقائق .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن أوحى إليه بالتصرف بجزم ، تصرف ، وإن منع ، امتنع ، وإن خير ، أختار ترك التصرف . ) وظهر بمقام عبوديته وترك التصرف لربه تأدبا
بآداب العبودية ، وملازمة لما يقتضيه ذاته من الضعف والعجز .
( إلا أن يكون ) أي ، المخير . ( ناقص المعرفة . ) فإنه يتصرف لجهله بمقام المتصرف فيه ، وظهور نفسه بمقام الربوبية الذي هو نقص بالنسبة إلى الكمل ، وعدم علمه بما هو ذاتي له من الضعف والفقر والمسكنة والعجز ، ولعدم علمه بأن التخيير قد يكون ابتلاء من الله ، ولعدم التأدب بين يدي الله .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال أبو السعود لأصحابه المؤمنين به : " إن الله أعطاني التصرف منذ خمس عشرة سنة ، وتركناه تظرفا " . هذا  لسان إدلال . ) أي ، هذا الذي ذكره أبو السعود ، لسان من يتدلل على ربه ، وهو نوع من سوء الأدب بالنسبة إلى الحضرة الإلهية . ( وأما نحن ، فما تركناه تظرفا وهو تركه إيثارا ،  ) أي ، ( التظرف ) عبارة عن ترك التصرف على سبيل الإيثار .
( وإنما تركناه لكمال المعرفة ، فإن المعرفة لا يقتضيه ) أي ، لا يقتضى التصرف .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بحكم الاختيار ، فمتى تصرف العارف بالهمة في العالم ، فعن أمر إلهي وجبر لا بالاختيار . ولا شك أن مقام الرسالة تطلب التصرف لقبول الرسالة التي جاء بها ، فيظهر عليه ما يصدقه عند أمته وقومه ) من المعجزات وخارق العادات .
( ليظهر دين الله ، والولي ليس كذلك . ومع هذا فلا يطلبه الرسول في الظاهر .)
أي ، ومع أن الرسول يحتاج في إظهار دين الله إلى التصرف وخرق العادة ، فلا يطلب التصرف في الظاهر .
( لأن للرسول الشفقة على قومه ، فلا يريد أن يبالغ في إظهار الحجة عليهم ، فإن في ذلك هلاكهم ، فيبقى عليهم . ) من ( الإبقاء ) . أي ، يبقى عليهم صورة الحجاب تعطفا ورحمة منه عليهم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد علم الرسول أيضا أن الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة ، فمنهم من يؤمن عند ذلك ، ومنهم من يعرفه ويجحده ولا يظهر التصديق به ظلما وعلوا وحسدا ، ومنهم من يلحق ذلك بالسحر والإيهام ) أي الشعبذة .
( فلما رأت الرسل ذلك وأنه لا يؤمن إلا من أنار الله قلبه بنور الإيمان ، ومتى لم ينظر الشخص بذلك النور المسمى إيمانا ، فلا ينفع في حقه الأمر المعجز . فقصرت الهمم ) أي ، همم الأنبياء . ( عن طلب الأمور المعجزة . ) أي ، من الله .
( لما لم يقم أثرها في الناظرين ) لعدم إعطاء حقائقهم وأعيانهم الثابتة قبولها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا في قلوبهم ، كما قال في حق أكمل الرسل وأعلم الخلق وأصدقهم في الحال : " إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء " ).
ولو كان للهمة أثر ، ولا بد لم يكن أحد أكمل من رسول الله ، صلى الله عليه
وسلم ، ولا أعلى وأقوى همة منه ، وما أثرت في إسلام أبى طالب عمه ، وفيه نزلت الآية
التي ذكرناها ولذلك قال في الرسول : إنه ما عليه إلا البلاغ .

وقال : ( " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء " . ) كل هذا غنى عن الشرح .
( وزاد في سورة ( القصص ) : " وهو أعلم بالمهتدين " . أي ، بالذين أعطوه . )
أي ، أعطوا الحق . أي ، ( العلم بهدايتهم في حال عدمهم بأعيانهم الثابتة . فأثبت أن العلم تابع للمعلوم : فمن كان مؤمنا في ثبوت عينه وحال عدمه ، ظهر بتلك الصورة في حال وجوده . وقد علم الله ذلك منه أنه هكذا يكون ، فلذلك قال : " 
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:56 pm

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الجزء الثاني
13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية
وهو أعلم بالمهتدين " . فلما قال مثل هذا ، قال أيضا : " ما يبدل القول لدى " . لأن قولي على حد علمي في خلقي . " وما أنا بظلام للعبيد " . أي ما قدرت عليهم الكفر الذي يشقيهم ، ثم طالبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به ، بل ما عاملناهم إلا بحسب ما علمناهم ، وما علمناهم إلا بما أعطونا من نفوسهم مما هم عليه : فإن كان ظلما ، فهم الظالمون .
ولذلك قال : " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " . فما ظلمهم الله . كذلك ما قلنا لهم إلا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم ، وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ، ولا نقول كذا . فما قلنا إلا بما علمنا أنا نقول ، فلنا القول منا ، ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السماع منهم . ) ألفاظه ظاهرة .
والمقصود بيان سر ( القدر ) . وقد مر في المقدمات أن الله يعلم ذاته وأسمائه  وصفاته بذاته ، ويعلم الأعيان التي هي صور الأسماء بعين ما يعلم ذاته ، فكما لا يعلم من ذاته وأسمائه وصفاته إلا ما تعطيه الذات والأسماء والصفات مما هي عليها ، كذلك لا يعلم من الأعيان إلا ما تعطيه الأعيان واستعداداتها مما هي عليها ، فعلمه تعالى تابع للمعلوم من هذا الوجه ، وإن كان المعلوم تابعا للعلم من وجه آخر .
فمن كانت عينه مؤمنة حال ثبوتها وحال كونها موصوفة بالعدم بالنسبة إلى الخارج ، فهو يظهر مؤمنا عند سماع أمر الله بقوله : ( كن ) . ومن كان كافرا أو عاصيا أو منافقا ، فهو يظهر في الوجود العيني بتلك الصفة . فالحق ما يعاملهم إلا بما يقتضى أعيانهم باستعداداتها وقبولها : إن خيرا ، فخير ، وإن شرا ، فشرا . فمن وجد خيرا ، فليحمد الله ، ومن
وجد دون ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه – " فما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " .
ولما تكلم من طرف القابل ، تكلم من طرف الفاعل بقوله : ( كذلك ما قلنا لهم . . . ) أي ، ما أمرناهم إلا ما يقتضيه ذاتنا وأسماؤنا ، فمنا القول والأمر ، ومنهم السماع والامتثال .
ولما كان الأمر من الله على قسمين :
قسم لا يمكن أن لا يمتثل له شئ من الأعيان.
وقسم يمكن أن لا يمتثل له بعض الأعيان.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السماع منهم . ) أما الأول ، فهو الأمر الذي به توجد الأعيان ، وهو قول : ( كن ) .
إذ عدم الامتثال فيه محال ، لأن أعيان الممكنات كلها طالبة للوجود العيني من الحضرة الإلهية ، فلا يمكن أن لا يمتثل له شئ منها .
وأما الثاني ، فهو الأمر بالإيمان والهداية وتوابعهما ، فإن من لا تكون عينه قابلة له أو للوازمه ، لا يمكن أن يمتثل له .
قال الشيخ رضي الله عنه : 
(فالكل منا ومنهم  ..... والأخذ عنا وعنهم )
أي ، فكلما يحصل من التجليات والأحوال العارضة على الموجودات ، منا بحسب الفاعلية ، ومنهم بحسب القابلية ، وتلك التجليات والأحوال بحسب أخذ العلم عن ذاتنا مما هي عليها من الأسماء والصفات ، وعن ذواتهم ، لأن ذواتهم حال كونها في العدم ، منتقشة بجميع ما يطرأ عليها من الأزل إلى الأبد ، فالأخذ عنا بالإيجاد والإظهار ، والأخذ عنهم بالاتصاف والقبول .
أو فالكل منا بحسب القابلية وإعطاء أعياننا للحق ما يفيض علينا من التجليات والأحوال ، ومنهم ،أي ومن الأسماء الأسماء الإلهية ،بحسب الفاعلية.
والأخذ عنا ، أي ، يأخذ الحق عنا ما تعطيه ذواتنا . وعنهم ، أي ، يأخذ عن أسمائه ما تعطيه الأسماء من الإيجاد والقدرة وغيرها .
وهذا أنسب للبيت الثاني وهو قوله رضي الله عنه   :
( إن لا يكونون منا   ..... فنحن لا شك منهم)
) أي ، إن كانت الأسماء بحيث لا يكونون منا ، فوجودنا لا شك حاصل منهم ، أي ، من تلك الأسماء ، سواء كان الوجود علميا أو عينيا . ف‍ ( كان ) مع اسمها مقدرة بعد ( إن ) .
كقولهم : إن خيرا ، فخير .
فعلى المعنى الأول من البيت الأول ، معناه : 
إن لم يكن وجود الأعيان من الأسماء ، فوجود الأسماء لا شك منهم ، أي من الأعيان ، فيلزم انقلاب الرب مربوبا ، والمربوب ربا ، وكون الأعيان موجودة بأنفسها علما وعينا ، لأنها إذا كانت علة الأسماء ، كانت متقدمة عليها بالذات ، والذات الإلهية من حيث هي هي غنية عن العالمين .
فبقى أن توجد الأعيان بأنفسها من غير طلب الأسماء إياها ، ويلزم انخرام قواعد التوحيد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتحقق يا ولى هذه الحكمة الملكية من الكلمة اللوطية ، فإنها لباب المعرفة . )
إنما جعل هذه الحكمة ( لباب المعرفة ) لأنها مشتملة على بيان الضعف الأصلي الذي هو للخلق ذاتي ، وعلى بيان أن كمال المعرفة تمنع صاحبها من التصرف في العالم وأهل العالم يزعمون خلافه ، وعلى بيان أسرار القدر الذي لا يعلمها إلا أكابر الأولياء .
ولذلك قال الشيخ رضي الله عنه :
 ( فقد بان لك السر ..... وقد اتضح الأمر )
أي ، ظهر لك سر القدر واتضح أمر الوجود على ما هو عليه ، والأمر الذي اشتبه
على علماء الظاهر كلهم ، حيث ذهب بعضهم إلى الجبر المحض بنسبة الفعل إلى الحق فقط ، وبعضهم
إلى القدر الصرف بنسبة الفعل إلى العبد فقط ،
فاتضاحه أن الفعل يحصل منهما . كما مر ، وسيجئ بيانه في الفص التالي لهذا الفص .
قال الشيخ رضي الله عنه : 
( وقد أدرج في الشفع  ..... الذي قيل هو الوتر )
أي ، الواحد الحقيقي الذي يوصف ب‍ ( الوتر ) أدرج في ( الشفع ) ، وهو أعيان العالم ، لأنها وقعت في المرتبة الثانية . وبهذا الإدراج حصلت الأعيان ، إذ الواحد هو الذي بتكراره يحصل منه الشفع ، وبزيادة الواحد عليه ، يحصل الفرد .
فقوله رضي الله عنه : ( الذي قيل هو الوتر ) مفعول أقيم مقام الفاعل للفعل المبنى للمفعول ، وهو ( أدرج ) . ولا ينبغي أن يتوهم أنه صفة ( الشفع ) ، فإنه قسيم للوتر ، إذ ( الوتر ) هو الفرد . ومن توهم فقد غلط .
ولا بد أن يعلم أن ( الوتر ) و ( الفرد ) قد يطلق ويراد به ما يقابل الشفع .
وبهذا الاعتبار إطلاقه على الحق يكون حسب مقام جمعه الإلهي ، كما قال : ( إن مسمى الله أحدي بالذات كل بالأسماء ) .
وقد يطلق ويراد به الواحد الذي ليس من العدد وهو أصله . وبهذا الاعتبار يكون إطلاقه على الحق حسب مقام جمع الجمع الذي هو الهوية المطلقة المسماة ب‍ ( الأحدية ) .

والله أعلم بالصواب .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية الجزء الثاني الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 12:11 pm

11- فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية الجزء الثاني الجزء الثاني .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص الصالحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية
ومثال المساواة : الإنسان حيوان ، وكل حيوان حساس ، فالإنسان حساس . والحساس مساو للحيوان . أو هو بعينه ما شرط في المنطق من كلية الكبرى .
وإنما سمى الأوسط ب‍ ( العلة ) ، لأنه كالعلة الصورية للقياس ، بل علة حصول النتيجة ، إذ لو لم يكن الحد الأوسط ، لم يحصل النتيجة .
قوله : ( وإن لم يكن كذلك ) أي ، وإن لم يكن على نظام مخصوص ، لا ينتج ، أو ينتج نتيجة غير صادقة .
(وهذا موجود في العالم مثل إضافة الأفعال إلى العبد معراة عن نسبتها إلى الله . أو إضافة التكوين الذي نحن بصدده إلى الله مطلقا ) . أي ، معراة عن نسبته إلى عين العبد .
( والحق ما أضافه إلا إلى الشئ الذي قيل له : " كن " ) أي ، هذا الذي ينتج نتيجة غير صادقة ، هو مثل إسناد الفعل إلى العبد بأنه هو فاعله ، فإنه نتيجة غير صادقة .
لأن العبد قابل ، والقابل لا يكفي في حصول النتيجة ، بل لا بد من فاعل ، والفاعل هو الله ، لأن العبد مجردا عن الوجود هو العدم ، ولا يتأتى منه فعل ، ومع الوجود يقدر على ذلك ، و (القدرة) من لوازم الوجود ، والوجود هو الحق ، فرجع الفعل إليه .
والمثال الثاني ، هو إضافة ( التكوين ) إلى الله معراة عن عين العبد ، فإنه أيضا نتيجة غير صادقة .
لأن ( الأمر ) من الله ، و ( التكون ) والامتثال للأمر من العبد ، فإضافة الإيجاد إلى الله مطلقا من غير اعتبار عين العبد ، غير صادقة .

(ومثاله إذا أردنا أن ندل على أن وجود العالم عن سبب ، فنقول : كل حادث فله سبب ، فمعنا الحادث والسبب .
ثم نقول في المقدمة الأخرى : والعالم حادث . فتكرر ( الحادث ) في المقدمتين.
والثالث قولنا ( العالم ) فأنتج أن العالم له سبب ) . أي ، مثال ما قلنا من أنه لا بد من الدليل أن يكون مركبا من ثلاثة على نظام مخصوص وشرط مخصوص ليكون له نتيجة صادقة ، إنا إذا أردنا أن نذكر دليلا على أن وجود العالم حاصل عن سبب موجد له .
نقول : كل حادث فله سبب ، والعالم حادث ، فالعالم له سبب .
وهذا هو الشكل الرابع . ويرد إلى الشكل الأول بجعل المقدمة الثانية ، وهي : العالم حادث ، صغرى ، والمقدمة الأولى ، وهي : كل حادث فله سبب ، كبرى ، فيصير : العالم حادث ، وكل حادث فله سبب ، ينتج فالعالم له سبب .
وقوله : ( والثالث قولنا العالم ) أي ، ومعنا أيضا الثالث ، وهو ( العالم ) .
( فظهر في النتيجة ما ذكر في المقدمة الواحدة ، وهو ( السبب ) ) أي ، وهو قوله : (فله سبب).
( فالوجه الخاص ، هو تكرار ( الحادث ) ) أي ،الحد الأوسط في المثال المذكور ،هو (الحادث) المكرر . وإنما سماه ب‍ ( الوجه ) ، لأن المحمول من حيث إنه مغائر للموضوع ، نسبة من نسبه ووجه من وجوهه .
( والشرط الخاص هو عموم العلة ) . أي ، الشرط الخاص في هذا المثال المذكور ، هو عموم علة الوجود وسببه ، لأن كل ما هو حادث محتاج في وجوده إلى علة وسبب .
فالمراد ب‍ ( العلة ) هنا الأكبر ، وهو قوله : ( فله سبب ) لا الحد الأوسط الذي هو علة نسبة الأكبر إلى الأصغر .
لذلك قال : ( لأن العلة في وجود الحادث " السبب " ) . أي ، لأن العلة في الوجود الخارجي للحادث ، السبب الذي يوجده . ( وهو ) أي ،السبب . ( عام في حدوث العالم عن الله ) .يعنى، ماله السبب ، أعم من العالم وحدوثه ، من الله . فإن الأسماء والصفات الإلهية
ليست من العالم ، لكونها غير موجودة في الخارج ، مع أنها في فيضانها من الله تحتاج إلى سبب .

قوله : ( أعني الحكم ) أي ، أعني بقولي ، وهو عام الحكم ، أي ، الحكم بأن كل ما هو حادث فله سبب ، حكم عام كلي ، سواء كان الحادث حادثا بالحدوث الزماني كالمخلوقات ، أو الذاتي كالمبدعات.
لذلك أردفه بقوله : ( فنحكم على كل حادث بأن له سببا ، سواء كان ذلك السبب مساويا للحكم ، أو يكون الحكم أعم منه ، فيدخل تحت حكمه ، فتصدق النتيجة .
المراد ب‍ ( السبب ) في قوله : ( سواء كان السبب مساويا ) ، الحد الأوسط ، لأنه سبب الربط بين محمول النتيجة وموضوعها . كما عبر عنه ب‍ ( العلة ) في قوله : ( والشرط المخصوص أن يكون الحكم أعم من العلة ، أو مساويا لها ) . والمراد ب‍ ( الحكم ) الأكبر .

ولا ينبغي أن يتوهم أن المراد ب‍ ( السبب ) هنا السبب المذكور في المثال ، لأنه لا يمكن أن يكون الحكم أعم منه ، وإن كانت المساواة ممكنة بينهما ، لأن المراد بالحكم حينئذ المحكوم عليه ، وهو قولنا : كل حادث .
إذ لا يمكن حمل الحكم هنا على النسبة الحاصلة بين الموضوع والمحمول ، لأنها لا توصف بأنها أعم من طرفيها ، أو أخص أو مساو ، بل يوصف بذلك بحسب نسبة أخرى حين يلزم من صدقها ، صدقها ، كما يقال ، إذا كان الشئ حادثا ، كان له سبب .
فبين الحادث وبين ما له السبب ، مساواة . وذلك في الشرطية لا الحملية .
والمحكوم عليه إن كان أعم من قوله : ( فله سبب ) ، يلزم حمل الأخص على الأعم ، وهو محال ، لعدم صدق قولنا : الحيوان إنسان ، والجسم حيوان .
اللهم إلا أن يقال ، هذا المثال ( مثال المساواة ) فحينئذ يكون صحيحا ومثال المساواة بين ( السبب ) و ( الحكم ) ، أي المحكوم به ، قولنا : كل حادث فله سبب .
إذا أردنا ب‍ ( الحادث ) الحدوث الذاتي ، لصدق قولنا : كل ماله سبب فهو الحادث بالحدوث الذاتي . فبينهما مساواة .
ومثال كون الحكم ، أي المحكوم به ، أعم من السبب الذي هو الحد الأوسط .

قولنا : كل حادث فله سبب . إذا أردنا ب‍ ( الحادث ) الحدوث الزماني ، لأن ماله سبب ، قد يكون حادثا بالحدوث الذاتي ، وقد يكون حادثا بالحدوث الزماني ، فيدخل ( الأوسط ) في الحالين تحت حكم الأكبر ، فتصدق النتيجة .
( فهذا أيضا قد ظهر حكم التثليث في إيجاد المعاني التي تقتنص بالأدلة) . تقدير الكلام : فهذا حكم التثليث ، قد ظهر أيضا في إيجاد المعاني التي يكتسب بالأدلة . ( فهذا ) مبتدأ ، ( حكم التثليث ) مبتدأ خبر ما بعده خبره ، والجملة خبر الأول . كقولك : هذا زيد يكرمني .
ويجوز أن يكون ( حكم التثليث ) بيانا ( هذا) .
أو بدلا منه . أي ، فهذا حكم التثليث قد ظهر . فيكون المجموع جملة واحدة .
( فأصل الكون التثليث ) . أي ، فأصل الوجود الخارجي الذي للعالم ، التثليث .
( ولهذا كانت حكمة صالح ، عليه السلام ، التي أظهر الله ) أي ، أظهرها الله .
( في تأخير أخذ قومه ثلاثة أيام وعدا غير مكذوب ) . أي ، لما كان أصل الكون مبنيا على التثليث ، كان حكمة صالح ، عليه السلام ، في إهلاك قومه أيضا مبنية عليه ، فأهلكهم الله في ثلاثة أيام ، ليناسب الفساد الكون .

وقوله : ( في تأخير ) متعلق بقوله : ( كانت ) . وقوله : ( ثلاثة أيام ) منصوب على أنه مفعول ( التأخير ) . وقوله : ( وعدا ) منصوب على أنه خبر ( كانت).
وفي بعض النسخ : ( وعد غير مكذوب ) . كما في القرآن . أي ، ذلك وعد غير مكذوب ، أورده على الحكاية .
( فأنتج صدقا وهي الصيحة التي أهلكم بها ) . ( فأنتج ) أي ، الوعيد بثلاثة أيام حال كونه صادقا نتيجة . أو : نتج ذلك التثليث نتيجة صادقة ، وهي الصيحة التي أهلكهم بها .
( "فأصبحوا في دارهم جاثمين") أي ، فأصبحوا هالكين في ديارهم حيث لم يستطيعوا القيام .
(فأول يوم من الثلاثة اصفرت وجوه القوم ، وفي الثاني ، احمرت ، وفي الثالث اسودت . فلما كملت الثلاثة ، صح الاستعداد ) . أي ، استعداد الوصول إلى العالم الأخروي .
( فظهر كون الفساد فيهم ، فسمى ذلك الظهور " هلاكا " ) أي ، فظهر الوجود الذي هو مشروط بهلاكهم وفسادهم . وهو الوجود البرزخي والأخراوي .
وإنما أضاف ( الكون ) إلى ( الفساد ) ، لأن كل فساد يستلزم كونا آخر لم يكن قبل ، لذلك قال : ( فسمى ذلك الظهور هلاكا )
(فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة إسفار وجوه السعداء في قوله تعال : ( وجوه يومئذ مسفرة ) . من ( السفور ) وهو الظهور .

كما كان ( الاصفرار ) في أول يوم ظهور علامة الشقاء في قوم صالح . ثم جاء في موازنه ( الاحمرار ) القائم بهم ، قوله تعالى في السعداء : "ضاحكة" ) أي ، ( وجوه يومئذ ضاحكة مستبشرة ) .
(فإن الضحك من الأسباب المولدة لاحمرار الوجوه . فهي في السعداء إحمرار الوجنات . ثم جعل في موازنة تغير بشرة الأشقياء بالسواد قوله تعالى : ( مستبشرة )
وهو ما أثره السرور في بشرتهم ، كما أثر السواد في بشرة الأشقياء . ولهذا قال ) أي ،الحق .
( في الفريقين بالبشرى ، أي ، يقول لهم قولا يؤثر في بشرتهم ، فيعدل بها إلى لون لم تكن البشرة يتصف به قبل هذا . فقال في حق السعداء : ( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم ) . وقال في حق الأشقياء : ( فبشرهم بعذاب اليم ) .
فأثر في بشرة كل طائفة ما حصل في نفوسهم من أثر هذا الكلام ، فما ظهر عليهم في ظواهرهم إلا حكم ما استقر في بواطنهم من المفهوم ) . أي ، من مفهوم ( الكلام ) .
( فما أثر فيهم سواهم ، كما لم يكن ( التكوين ) إلا منهم فلله الحجة البالغة ) . هذا ( الكلام )
رجوع إلى ما كان في تقريره أولا ، أي ، هم الذين يؤثرون في أنفسهم بحسب استعداداتهم وقبولهم لفيض الحق وأمره لا غيرهم ، كما لم يكن ( التكوين ) إلا منهم . فلله الحجة البالغة على الناس في كونهم سعداء وأشقياء : ( فما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) . لأن الحق يعطى الوجود : فإن استحقوا خيرا ، أعطاهم وجوده ، وإن استحقوا شرا ، أعطاهم وجود ذلك . 
( فمن فهم هذه الحكمة وقررها في نفسه وجعلها مشهودة له ، أراح نفسه من التعلق بغيره . وعلم أنه لا يؤتى عليه بخير ولا بشر إلا منه . وأعنى بالخير ما يوافق غرضه ويلائم طبعهومزاجه ، وأعنى بالشر مالا يوافق غرضه ولا يلائم طبعه ولا مزاجه . ويقيم صاحبهذا الشهود معاذير الموجودات كلها عنهم وإن لم تعتذروا ، ويعلم أنه منه )
أي ، من نفسه . ( كان ) أي ، حصل . ( كل ما هو فيه ، كما ذكرناه أولا في أن العلم تابع للمعلوم ، فيقول لنفسه إذ جاءه مالا يوافق غرضه : ( يداك أوكتا وفوك نفخ ) .
هذا مثل مشهور أي ، يداك كسبتا .

"" يحكى ان : أن رجلا كان في جزيرة من جزائر البحر. فأراد أن يعبر على زق، قد نفخ فيه، فلم يحسن إحكامه حتى إذا توسط البحر. خرجت من زقه الريح، وغرق. فلما غشيه الموت، استغاث برجل. فقال له الرجل: يداك أوكتا وفوك نفخ   . يضرب مثلا لمن يجنى على نفسه بعمله ""
كما قال تعالى : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " .
( والله يقول الحق وهو يهدى السبيل ) .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الأول .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 12:14 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الأول .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص الشعيبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية
قد مر في المقدمات أن ( القلب ) يطلق على النفس الناطقة إذا كانت مشاهدة للمعاني الكلية والجزئية متى شاءت .
وهذه المرتبة مسماة عند الحكماء ب‍ ( العقل المستفاد ) .
وقد يطلق على ناطقة من اتصف بالأخلاق الحميدة ، وجعلها ملكة .
وإنما تسمى بالقلب لتقلبها بين العالم العقلي المحض ، وعالم النفس المنطبعة ، وتقلبها في وجوهها الخمسة التي لها إلى العوالم الكلية الخمسة  وله أحدية الجمع بين الأسماء الإلهية والظهور بحكم كل منها على سبيل العدالة .
وهو برزخ بين الظاهر والباطن ، ومنه يتشعب القوى الروحانية والجسمانية ، ومنه الفيض على كل منها ، وهو صورة المرتبة الإلهية ، كما أن الروح صورة المرتبة الأحدية ، لذلك وسع كل شئ حتى الحق .
ولما كان كثير الشعب والنتائج ، وكان شعيب ، عليه السلام ، كثير النتائج  والأولاد متحققا بمقام القلب - مشاهدا للمعاني الكلية والجزئية متخلقا بالأخلاق الإلهية قائما بالعدل الذي هو سبب وجود العالم آمرا بإيفاء الحقوق في المكيال والميزان والقسطاس المستقيم بمقتضى استعداد كل من الناس - أضاف ( الحكمة القلبية ) إلى كلمته .


قال الشيخ رضي الله عنه : (واعلم ، أن القلب ، أعني قلب العارف بالله ، هو من رحمة الله ، وهو أوسع منها ، فإنه وسع الحق جل جلاله ، ورحمته لا تسعه ) .
إنما قال : ( أعني  قلب العارف ) لأن قلب غيره ليس مصطلحا عند الخواص ، بل عند العوام ، كما يسمى ( لب ) الشئ واللحم الصنوبري أيضا ب‍ ( القلب ) .
وإنما قال : ( بالله ) - دون غيره من الأسماء - لأنه مجمع الأسماء ، و ( القلب )
قابل لفيضها كلها ، والعارف به عارف بغيره ، والعارف لغيره لا يكون عارفا به ،
إذ العارف بالأفعال وأحكامها ليس عارفا بالله وظهوراته وأسمائه .
وليس المراد هنا ب‍ ( الرحمة ) الوجود ، إذ القلب ليس أوسع من الوجود ،  
بل ما به يتعطف على عباده ويشفق عليهم ويرحمهم فيهب لهم الوجود . لذلك
قال : ( هو من رحمة الله ) أي ، صادر منها .
وقال : ( فان الحق راحم ليس بمرحوم ) .  ولو كان بمعنى الوجود ، لصدق أنه ( مرحوم ) كما يصدق أنه موجود .
وقوله : ( فإنه وسع الحق ) إشارة إلى ما نقله النبي ، صلى الله عليه وسلم ،
عن الله تعالى أنه قال : " ما وسعني أرضى ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن التقى النقي "  
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهذا لسان عموم من باب الإشارة ، فإن الحق راحم ليس بمرحوم ، فلا حكم للرحمة فيه ) .
أي ، كون الرحمة لا تسعه لسان عموم الخلائق وعلماء الظاهر ،  والإشارة إلى معتقدهم ، فإن الحق راحم مطلقا عندهم ، ليس بمرحوم بوجه من الوجوه ، فلا حكم للرحمة فيه . وأما بلسان الخواص والمحققين ، فإنه هو ( الراحم ) وهو ( المرحوم ) ، إذ لا غير والأعيان المسماة ب‍ ( العالم ) عينه ، فما يرحم الحق إلا نفسه . فهو ( راحم ) في مقام جمع الأحدية ، ( مرحوم ) في مقام التفصيل والكثرة .

وإليه أشار بقوله : ( وأما الإشارة من لسان الخصوص ، فإن الله وصف نفسه ب‍ ( النفس ) ، بفتح الفاء ، وهو من باب ( التنفيس ) )
أي ، وصف لسان نبيه نفسه بأن له ( النفس ) . وهو مأخوذ من ( التنفيس ) ، لأنه إرسال الهواء الحار من الباطن ، وإيراد الهواء البارد لترويح المتنفس عن الكرب ، فالتنفس إنما
يتنفس دفعا للكرب . فشبه النفس الإلهي بالنفس الإنساني .
وأضاف ( الكرب ) إليه لا من حيث إنه غنى عن العالمين ، بل من حيث إنه رب لهم . وكربه طلب الأسماء الإلهية الباقية في الذات الأحدية بالقوة ظهورها وعيانها ، فتنفس وأوجد أعيان تلك الأسماء ، فظهرت الإلهية .
( وأن الأسماء الإلهية عين المسمى ) . أي ، من حيث الوجود وأحدية الذات ، وإن كانت غيرا باعتبار كثرتها . ( وليس إلا هو ) .
أي ، وليس المسمى إلا عين هوية الحق ، أو وليس ذلك النفس إلا عين الهوية السارية في الموجودات كلها .
( وإنها طالبة ما تعطيه من الحقائق ) . أي ، وإن الأسماء طالبة وجود ما تعطى الحقائق الكونية للحق من الأحكام والصفات الكونية .
وفي بعض النسخ : ( ما تعطيه من الحقائق ) . أي ، وإن الأسماء طالبة للحقائق .
وفاعل ( تعطى ) ضمير ( الأسماء ) .
ويؤكد الثاني قوله رضي الله عنه  : ( وليست الحقائق التي يطلبها الأسماء إلا العالم ، فالألوهية
تطلب المألوه ، والربوبية تطلب المربوب ) .
واعلم ، أن الشيخ رضي الله عنه  يستعمل في جميع كتبه ( المألوه ) ويريد به (
العالم ) .
واللغة يقتضى أن يطلق على الحق ، إلا في بعض معانيه . لأنه مشتق من ( أله ) وله معان متعددة :
يقال : أله ، يأله ، إلهة . أي ، عبد عبادة ، فالمألوه هو المعبود .
وثانيها ، ( الفزع ) و ( الالتجاء ) . يقال : أله إلى زيد . أي ، إلتجاء إليه ، فأجأره.
وقال : تأبط شرا . شعر : ( ألهت إليها والركائب وقف ) . فالمألوه المفزع  والملجأ .
وثالثها ، ( الثبات ) .
يقال : ألهنا بمكان كذا . أي ، أقمنا . قال الشاعر : ( ألهنا بدار ما تبيد رسومها ) . فالمألوه المثبت .
ورابعها ، ( السكون ) . يقال : ألهت إليه . أي ، سكنت إليه . فالمألوه  المسكون إليه .
وخامسها ، ( التحير ) . يقال : أله زيد . إذا تحير . فالمألوه المتحير فيه .
ولا شك أن ( المعبود ) و ( المفزوع إليه ) و ( المسكون إليه ) هو الحق و ( المتحير )
و ( المثبت ) هو العالم .
ويمكن أن يستعمل لغة في معان آخر يليق ب‍ ( العالم ) .
و ( الألوهية ) اسم المرتبة الإلهية ، أي ، هذه المرتبة تطلب وجود العالم ،
وهو المألوه ، لأن كل واحد من أسماء الصفات والأفعال يقتضى محل ولايته ليظهر
به ، كالقادر للمقدور ، والخالق للمخلوق ، والرازق للمرزوق ، وهكذا غيرها .
والفرق بين ( الألوهية ) و ( الربوبية ) :
أن ( الألوهية ) حضرة الأسماء كلها - أسماء الذات والصفات والأفعال ، و ( الربوبية ) حضرة أسماء الصفات والأفعال فقط لذلك تأخرت عن المرتبة الإلهية .
قال تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) .
( وإلا ) أي ، وإن لم تكن ( الألوهية ) و ( الربوبية ) طالبة للمألوه والمربوب ، لا يكون شئ منها متحققا ، كما لا يتحقق الأبوة إلا بالإبن ، والبنوة إلا بالأب ، لأنهما من قبيل المتضايفين .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلا عين لها إلا به وجودا وتقديرا ) أي ، فلا عين للألوهية أو الربوبية إلا بالعالم ، سواء كان موجودا بالوجود الحقيقي ، أو مقدرا .
فقوله : ( فلا عين ) جواب الشرط المقدر . أي ، إذا كان تحقق الألوهية والربوبية موقوفا على المألوه والمربوب ، فلا عين للألوهية إلا بالمألوه ، ولا للربوبية إلا بالمربوب .
وجواب ( إلا ) محذوف ، لدلالة قوله : ( فلا عين لها إلا به ) عليه . ولا يجوز أن يكون هو جوابا ، لفساد المعنى .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والحق من حيث ذاته غنى عن العالمين ، و ( الربوبية ) ما لها هذا الحكم ) . إذ لا غناء لها عن المربوب .


قال الشيخ رضي الله عنه : (فبقى الأمر بين ما تطلبه الربوبية ، وبين ما يستحقه الذات من الغنى عن العالم ) .
أي ، بقي الشأن بين الغنى الذاتي ، والافتقار الأسمائي . فيجب أن ينزل كل منهما على مقامه. فنقول : ( الغنى ) من حيث الذات ، لأن العالم ، كان أو لم يكن ، لا يحصل التغير في الذات ، فهي على حالها أزلا وأبدا عند وجود العالم وعدمه . و(الافتقار) من حيث الربوبية والألوهية . ولما كانت الربوبية صفة الذات الغنية ، والصفة عين الموصوف في الأحدية ،
فقال : ( وليست الربوبية على الحقيقة والإنصاف إلا عين هذه الذات ) .
فللذات الغنى عن العالمين من وجه ، وهو وجه الأحدية المتعالية عن النسب والإضافات ،
ولها الافتقار إليهم من وجه آخر ، وهو الوجه الواحدية الطالبة للنسب ومظاهرها.

قال الشيخ رضي الله عنه : (فلما تعارض الأمر بحكم النسب ، ورد في الخبر ما وصف الحق به نفسه من الشفقة على عباده ) .
أي ، فلما تعارض الأمر الإلهي بحكم النسب والإضافات - من الصفات الحقيقية والإضافات المتقابلة كالقهر واللطف والرحمة والنقمة - أضاف الشفقة على عباده إلى نفسه .
كما ورد : ( الله رؤوف بالعباد ) . و ( الشفقة ) هي الرحمة .
فرحم بها عباده وأسماءه التي يطلب العباد بإظهارها ، وإظهار ما عليه سلطنتها من أعيان العالم ، لأنها سبب ظهور كمالات الأسماء ، والربوبية لا تتم بها .
(فأول ما نفس عن الربوبية بنفسه المنسوب إلى ( الرحمن ) بإيجاده العالم الذي
تطلبه الربوبية بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهية )
أي ، فأول شئ نفس عنه الحق وأزال الكرب إنما كان صفة الربوبية عن جميع الأسماء ،لذلك قدمها ،وعطف ( جميع الأسماء الإلهية ) عليها.
وذلك لأن ( الربوبية ) وجميع الأسماء الإلهية اقتضت وجود المربوبات ومظاهر الأسماء والصفات ، وذلك ( التنفيس ) كان بإيجاد العالم في الخارج ، لكن بواسطة ( النفس الرحماني ) . ( فأول ) مبتدأ ، خبره ( عن الربوبية ) .
ويجوز أن يكون خبره : ( بإيجاده العالم ) . أي ، أول ما نفس عن الربوبية ، إنما كان بإيجاد أعيان العالم .
ويجوز أن يكون ( ما ) في قولهما ( ما نفس ) مصدرية .
فمعناه : فأول تنفيسه عن الربوبية بإيجاد الأعيان ، ثم بإظهار كمالاتها ، ثم بإنزال كل منها في مقام يليق بحاله في الآخرة .
( فيثبت ) وفي بعض النسخ : ( فثبت ) ( من هذا الوجه أن رحمته وسعت كل
شئ ، فوسعت الحق ، وهي أوسع من القلب ، أو مساوية له في السعة ) .
أي ، لما كان الغرض من قوله : ( وأما الإشارة بلسان الخصوص ) إلى هنا ، إثبات أن الحق
كما هو ( راحم ) كذلك هو ( مرحوم ) من وجه آخر ، صرح هنا بالمقصود وهو أن
رحمته وسعت كل شئ ، اسما كان ذلك الشئ أو عينا .
وإذا كانت كذلك ، وسعت الحق أيضا ، لأنه عين هذه الأسماء والأعيان . فرحمته أوسع من القلب ، لأن الحق ، من حيث أسمائه ، والقلب وكل ما يطلق عليه اسم الشيئية ، داخل فيها ، والقلب لا يسع نفسه وإن وسع غيره من الحق والأعيان ومظاهرها .
ولما كان القلب أيضا يسع نفسه من حيث الإحاطة العلمية ، قال : ( أو مساوية له
في السعة . هذا مضى ) .
 واعلم ، أن الذي يسع كل شئ ثلاث : العلم ، والرحمة ، والقلب .
قال الله تعالى : ( ربنا وسعت كل شئ ) . ( رحمة وعلما ) وأحاط بكل شئ علما ،
( وسعت رحمتي كل شئ ) .
وقال : ( ما وسعني أرضى ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن ) .
ولما تكلم في سعة الرحمة جعلها أوسع أو مساويا للقلب ، قال : ( هذا مضى ) .


قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم ، لتعلم أن الحق تعالى ، كما ثبت في الصحيح ، يتحول في الصور عند التجلي ، فإن الحق تعالى إذا وسعه القلب ، لا يسعه معه غيره من المخلوقات ، فكأنه يملأه ) .
يريد أن يبين اتساع القلب ويؤمي إيماء لطيفا إلى أصل يستند تقلب  القلب إليه ، وهو التحول الإلهي في صور تجلياته ، كما ثبت في الحديث .
ولما كان التجلي بحسب استعداد المتجلى له ، فالقلب الذي يسع الحق  لا يكون إلا لمن له استعداد جميع التجليات الإلهية الذاتية والأسمائية ، وإذا وسعه ، لا يسع معه غيره من المخلوقات - وذلك إما لفناء غير الحق عند تجليه في نظر المتجلى له ، كما إذا تجلى بالأحدية ، فإن الكثرة تضمحل وتفنى عنده فالمتجلى له لا يشعر لنفسه فضلا على غيره ولا يرى ذاته أيضا إلا عين الحق حينئذ ، أو لاختفاء الأغيار عند ظهور أنوار الحق في نظر المتجلى له ، كاختفاء الكواكب عند طلوع الشمس مع بقاء أعيانها - ولما كانت السعة مقتضية للإثنينية - إذ لا يقال :
الشئ يسع نفسه - فسر بالمعنى الثاني : ( ومعنى هذا ) أي ،
ومعنى قولنا : ( إذا وسعه القلب ، لا يسع معه غيره ) ،
( أنه إذا نظر إلى الحق عند تجليه له ، لا يمكن معه أن ينظر إلى غيره ) .
لاشتغال القلب بكليته إلى الله تعالى واختفاء الأغيار بنور الواحد القهار .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وقلب العارف من السعة ، كما قال أبو يزيد البسطامي : " لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به " . )
لأن القلب يحصل له السعة الغير المتناهية عند تجلى من هو غير متناه .
والعرش وما فيه ، على أي مقدار يفرض ، يكون متناهيا ، ولا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي .
(وقال الجنيد في هذا المعنى : ( إن المحدث إذا قرن بالقديم ، لم يبق له أثر ،
وقلب يسع القديم ، كيف يحس بالمحدث موجودا ) . )
هذا تأكيد لقول أبى يزيد قدس الله روحه . أي ، أن الحق إذا تجلى ، يفنى ما سواه ، فلا يبقى لغيره وجود فضلا عن أثره .
وإن قلنا إنه باق عند تجلى القديم ، فكيف يحس بالمحدث قلب تجلى له الحق ونوره بأنواره وشغله لذاته ؟
قوله ( موجودا ) حال من ( المحدث ) . أو مفعول ثان لقوله : ( يحس ) .


قال الشيخ رضي الله عنه : (وإذا كان الحق يتنوع تجليه في الصور ، فبالضرورة يتسع القلب ويضيق بحسب الصورة التي يقع فيها التجلي الإلهي ، فإنه لا يفضل عن القلب شئ عن صورة ما يقع فيها التجلي ، فإن القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محل فص الخاتم
من الخاتم لا يفضل ، بل يكون على قدره وشكله من الاستدارة ، إن كان الفص مستديرا ، أو من التربيع والتسديس والتثمين وغير ذلك من الأشكال ، إن كان الفص مربعا أو مسدسا أو مثمنا ، أو ما كان من الأشكال . فإن محله من الخاتم يكون مثله لا غير ) .
أي ، إذا ظهر الحق في صور شؤونه المتنوعة وتجلى تجليا ذاتيا بما في الغيب المطلق ، يتنوع بحسب استعدادات القلب ، فيتسع ، ويضيق بحسب الصورة التي وقع التجلي فيها ، لأنها تهب للقلب استعدادا يناسبها وتجعله بحيث لا يفضل عنها .
وهذا القلب المتجلى له ، لا يكون إلا للعارف الكامل ، لأن قلبه  مرآة الذات الإلهية وشؤونها جميعا ، لخلوه عن الأحكام الجزئية المقيدة له .
فينصبغ انصباغا تقتضيه الصورة المتجلية له ، لأنها حاكمة عليه .
 وقلب غيره مرآة الذات من حيثية معينة وشأن مقيد ، وليس فارغا من الأحكام الجزئية الأسمائية، فينصبغ التجلي بصبغه ، ولا يبقى على طهارته الأصلية وإطلاقه .
وتلخيصه : أن للمرآة حكما في ظهور الصور بحسبها ، وللصورة حكم
في المرأة التي تظهر الصورة فيها . ولكل منهما أحكام بحسب الظاهر والباطن .
ولما ذكر أن القلب لا تفضل عن الصورة المتجلية ، شبه القلب بمحل الفص والصورة المتجلية بالفص .
وهو إذا كان مستديرا ، يجعل المحل مستديرا ، وإذا كان مربعا أو مسدسا أو مثمنا ، فمحله أيضا كذلك .
وإنما شبه المعقول المحض بالمحسوس الصرف ، لأن كلا منهما نسخة من الآخر ، إذ الظاهر صورة الباطن ، والباطن معنى الظاهر .
وفي التشبيه ب‍ ( المستدير ) و ( المربع ) و ( المسدس ) لطيفة أخرى .
وهي أن المعنى المتجلي قد يكون معنى بسيطا ، لا تعدد فيه ولا تكثر ، فصورته أيضا يكون مستديرة .
وقد يكون مركبا ، وله جهات متعددة بحسب الظهور والخفاء والقرب والبعد ، فصورته أيضا يكون مشتملة على جهات متعددة متفاوتة في القرب والبعد إلى المركز .
فإن زوايا المربع والمسدس وأمثالهما أبعد من الوسط من غيرها من الأضلاع .


قال الشيخ رضي الله عنه : (وهذا عكس ما تشير إليه الطائفة من أن الحق يتجلى على قدر استعداد العبد ، وهذا ليس كذلك . فإن العبد يظهر للحق على قدر الصورة التي يتجلى له فيها الحق).
لما ذكر حكم الصورة في المرأة ، ذكر عكسه ، وهو حكم المرأة في الصورة .
كما أشار إليه أهل الحق في كتبهم من أن الحق يتجلى على قلوب العباد بحسب استعداداتهم .
وهذان الحكمان بعينهما حكم ( الفيض الأقدس ) و ( الفيض المقدس ) : فإن ( الفيض الأقدس ) يعطى الاستعداد للعين ، و ( الفيض المقدس ) يعطى ما يترتب على الاستعداد . كذلك التجلي الغيبي من الباطن يعطى القلب استعدادا بحسب الصورة التي يتجلى فيها ، والتجلي من الظاهر يترتب على استعداد العين بحسب الباطن . وكلاهما حق .
لذلك قال رضي الله عنه  ( وتحرير هذه المسألة أن لله تجليين : تجلى غيب ، وتجلى شهادة . فمن تجلى الغيب يعطى الاستعداد الذي يكون عليه القلب ) .
أي ، تحقيق هذه المسألة : أن لله بحسب الاسم ( الباطن ) و ( الظاهر ) تجليين :
تجلى غيب ، وهو التجلي الذاتي الذي تظهر هوية الحق به ، فتصير عينا ثابتة مع استعداداتها .
وتجلى شهادة ، وهو تجلى الاسم الظاهر . وهذا التجلي يترتب على التجلي الأول .
( وهو التجلي الذاتي الذي الغيب حقيقته ) أي ، تجلى الغيب هو التجلي الذاتي ألذ الغيب المطلق نعته .
قال رضي الله عنه  ( وهو الهوية التي يستحقها عن نفسه هو ) . أي ، التجلي الغيبي هو الهوية الإلهية التي يستحق الحق تلك الهوية عن نفسه .
فقوله ( هو ) فاعل ( يستحقها ) .
قال رضي الله عنه  ( فلا يزال ( هو ) له دائما أبدا ) . أي ، فلا تزال هوية الحق له ثابتا دائما ابدا في مقام أحديته وجمعه ، وكذلك في مقام تفصيله ، لأن لكل عين هوية هي بها هي .
قال رضي الله عنه  ( فإذا حصل له ، أعني للقلب ، هذا الاستعداد ، تجلى ) أي ، الحق .
( له التجلي الشهودي في الشهادة ، فرآه ) أي ، فرأى القلب الحق في ذلك التجلي .
( فظهر ) أي ، القلب . ( بصورة ما تجلى له كما ذكرناه . فهو تعالى أعطاه الاستعداد ) كما أشار إليه بقوله : ( ( أعطى كل شئ خلقه ثم هدى ) . ثم رفع ) أي ، الحق .
( الحجاب بينه وبين عبده ، فرآه ) أي ، رأى العبد الحق . ( في صورة معتقده . فهو عين اعتقاده ) . أي ، فالمرئي عين اعتقاد العبد ، لا غير ، لأنه رأى الحق من حيث اعتقاد خاص ، والحق عين اعتقاده ، كما قال : ( أنا عند ظن عبدي بي ) .
قال رضي الله عنه  ( فلا يشهد القلب ولا العين أبدا إلا صورة معتقده في الحق ) . أي ، فلا يشهد القلب بعين البصيرة الحق ولا العين أبدا الحسية إياه ، إلا على صورة ما يعتقده في الحق .
وهذا تعميم للحكم ، ليشمل الكامل وغيره : فالكامل يشهده في مقامي الإطلاق والتقييد بالتنزيه والتشبيه ، وغير الكامل إما منزه فقط ، وإما مشبه فقط ، وإما جامع بينهما لكن يقيده ببعض الكمالات دون البعض ، فيرى الحق بحسب اعتقاده .
قال رضي الله عنه  ( فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته ) . أي ، فالحق الذي وسعه القلب ، هو الحق المتجلي في صورة الاعتقادات ، ( وهو الذي يتجلى له ، فيعرفه ) . أي ، هو الذي يتجلى للقلب بحسب اعتقاده ، فيعرفه . وإذا تجلى بحسب اعتقاد غيره ، لا يعرفه وينكره .
( فلا يرى العين ) في الدنيا والآخرة عند التجلي .
( إلا الحق الاعتقادي ) . أي ، الثابت في الاعتقادات .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولا خفاء في تنوع الاعتقادات : فمن قيده ، أنكره في غير ما قيده به وأقر به فيما قيده به إذا تجلى ) . كأصحاب الاعتقادات الجزئية .
( ومن أطلقه عن التقييد ، لم ينكره وأقر له في كل صورة يتحول فيها ) .
كأصحاب الاعتقادات الكلية والجزئية ، كالكمل والعارفين .
قال رضي الله عنه  ( ويعظمه من نفسه قدر صورة ما تجلى له فيها إلى مالا يتناهى ، فإن صور التجلي ما لها نهاية يقف عندها ) . أي ، يعظم تلك الصورة التي تجلى له الحق فيها ، وينقاد لأحكامها ويعبدها عبادة يليق بمقامه .
وغير تلك الصورة من الصور التي يتجلى الحق فيها له ، أو لغيره من العباد إلى مالا يتناهى ، فلا ينكر الحق في جميع صور تجلياته ، ولا ينكر لمن حصل له ذلك التجلي ، فيعظمها ويعظم أصحابها ، سواء كان من أصحاب الظاهر ، أو الباطن ، إذ لا نهاية لتجليات الحق وصورها ليقف عندها . وفي بعض النسخ : ( تقف عنده ) .
أي ، تقف أنت عند ذلك التجلي الذي ما بعده تجلى آخر .  أو تقف صور التجليات عنده .

قال رضي الله عنه  ( وكذلك العلم بالله ما له غاية في العارفين يقف عندها ) . أي ، العلم بالله أيضا ليس له غاية في قلوب العارفين ليقف العارف عندها . ( بل العارف في كل زمان يطلب الزيادة من العلم به : " رب زدني علما ، رب زدني علما ، رب زدني علما " . فالأمر لا يتناهى من الطرفين ) .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 12:15 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص الشعيبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية
أي ، الذي هو العارف يطلب الزيادة من العلم في كل زمان من الأزمنة ، كما قال لنبيه : ( وقل رب زدني علما ) .
فالأمر الإلهي لا يتناهى من طرف الحق بالتجلي ، ومن طرف العبد بالعلم بالله .
( هذا إذا قلت حق وخلق ) . أي ، إذا نظرت إلى مقام الجمع والتفصيل ، وميزت بينهما .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا نظرت في قوله تعالى : " كنت رجله التي يسعى بها ، ويده التي يبطش به ، ولسانه الذي يتكلم به"  . إلى غير ذلك من القوى ومحلها الذي هو الأعضاء ، لم تفرق ) . أي ، بين المرتبتين .
( فقلت الأمر حق كله ، أو خلق كله ، فهو خلق بنسبة ، وهو حق بنسبة ) . ( الأمر ) بمعنى المأمور . أي ، الموجود كله حق بحسب ظهوره في مرآيا الأعيان الثابتة ، وهي على حالها في عدمها .
أو خلق كله باعتبار ظهور الإنسان في مرآة الوجود الحق ، وهو على غيبه الذاتي .
أو قلت : خلق بنسبة ، وهي من حيث تعين الوجود وتقيده . أو : حق بنسبة .
وهي باعتبار الوجود بدون التعين الموجب للخلقية .
( والعين واحدة ) . أي ، يعتبر هذه الاعتبارات كلها ، والحال أن الذات التي عليها تطرأ هذه الاعتبارات واحدة ، لا تعدد فيها ولا تكثر .
قال رضي الله عنه  (فعين صورة ما تجلى ، عين صورة ما قبل ذلك التجلي ، فهو المتجلي والمتجلى له ) . 
فعين الصورة المتجلية على القلب ، بعينها عين الصورة القلبية في الحقيقة ، وإن اختلفت بالقابلية والمقبولية ، فالحق هو المتجلي والمتجلى له .
قال رضي الله عنه  (فانظر ما أعجب أمر الله من حيث هويته ، ومن حيث نسبته إلى العالم في حقائق الأسماء الحسنى ) .
أي ، فانظر ما أعجب أمر الله أنه من حيث هويته واحدة ، ومن حيث نسبته إلى العالم وحقائق الأسماء الحسنى ، التي تطلب العالم ، متكثرة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه شعرا :
( فمن ثم وما ثمة   .... وعين ثم هو ثمة )
( من ) و ( ما ) للاستفهام . إستفهم ب‍ ( من ) لأولى العقل ، ب‍ ( ما ) لغير أولى العقل ، لأنهما واقعان في الوجود .
أي ، إذا كان العين واحدة ، فانظر ما ثم ومن ثم ، وليس في الوجود غيره تعالى ، ظهرت في صورة هي التي ظهرت في صورة أخرى .
وتذكير ( ( هو ) ) العائد إلى ( العين ) باعتبار الحق ، أو الشئ والوجود .
 
(فمن قد عمه خصه .....   ومن قد خصه عمه )
ضمير ( عمه ) و ( خصه ) عائد إلى ( العين الواحدة ) ، والمراد به ( الوجود ) لذلك ذكره .
أي ، الذي قد عمم الوجود وبسطه على الأعيان ، هو الذي خصه أيضا بجعله وجودا معينا . 
ومن خصص الوجود وجعله مهية معينة ، هو الذي عممه بالنسبة إلى أفراد تلك المهية .
أو من قال بأن الوجود عام ، فقد خصه ، لأن العموم أيضا قيد مخصص .
ومن قال بأن الوجود معنى خاص ، فقد عممه أيضا ، لشموله على كل ما في الوجود .

(فما عين سوى عين  ..... فنور عينه ظلمة )
أي ، إذا كان عين العالم عين الخاص وبالعكس ، فليس عين سوى عين ، بل عين كل أحد عين العين الذي للآخر .
فعين ( النور ) هو عين ( الظلمة ) وبالعكس ، لاتحاد حقيقة الكل ، وهي عين الوجود .
اعلم ، أن ( النور ) قد يطلق ويراد به الضياء المحسوس .
وقد يطلق ويراد به الوجود : فإنه الظاهر بنفسه والمظهر لغيره .
و ( الظلمة ) أيضا يطلق على ما يقابل المعنيين :
وهو ظل الأرض أو جزء منها ، والعدم .
فقوله : ( فنور عينه ظلمة ) باعتبار المعنى الأول لهما ، فإنهما وجوديين ، لكونهما محسوسين . وقولهم : ( الظلمة عدم النور ) .
رسم لها ، إذا أريد بها المعنى الأول ، باعتبار أن الظل يستلزمه . وإذا أريد بها المعنى الثاني ، فحد لها .
(فمن يغفل عن هذا ....    يجد في قلبه غمة )
الغم بضم ( الغين ) ، هو الكرب ، ويستعمل في الظلمة مجازا . والمراد هنا الحجاب .
ومنه ( الغمام ) أيضا ، لأنه يستر الشمس . أي ، ومن يغفل عن مقام الوحدة ، تبقى في حجاب الكثرة وظلمتها ، لأن الوحدة منبع النور ، والكثرة منبع الظلمة .
(ولا يعرف ما قلناه .....    سوى عبد له همة )
أي ، لا يعرف هذا المعنى إلا من له همة قوية : لا يقنع بظواهر العلوم ، ولا يقف عند مبلغ علماء الرسوم من العلم ، بل يقدر على خرق الحجب الناتجة من كثرة الصور ، ليصل إلى ما لا يصل إليه الفكر .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " . لتقلبه في أنواع الصور والصفات . ولم يقل : لمن كان له عقل ، فإن العقل قيد ، فيحصر الأمر في نعت واحد ، والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر . )
أي ، السر في إسناد ( الذكرى ) إلى ( القلب ) هنا ، وفي  موضع آخر إلى ( اللب ) كقوله : ( إن في ذلك لذكرى لأولى الألباب ) .
و ( اللب ) هو القلب دون العقل ، أن القلب لكونه محلا لتجليات مختلفة من الإلهية والربوبية
وتقلبه في صورها ، يتذكر ما نسيه مما كان يجده قبل ظهوره في هذه النشأة العنصرية ، ويجد هنا ما أضاعه ، كما قال ، صلى الله عليه وسلم : ( الحكمة ضالة المؤمن ) .
والعقل ، أي القوة النظرية ، من شأنه أن يضبط الأشياء ويقيدها ، فيحصر الأمر الإلهي ، الذي لا ينحصر في نفسه ، فيما يدركه ، والحقيقة تأبى وتمنع من ذلك .
( فما هو ذكرى لمن كان له عقل . ) الضمير عائد إلى المشار إليه بذلك ، وهو القرآن ، أي ، القرآن ليس ذكرى لمن يريد أن يدرك الأشياء بالعقل .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهم أصحاب الاعتقادات الذين يكفر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، وما لهم من  ناصرين . )
أي ، أصحاب الاعتقادات الجزئية . وإنما نسبهم إلى العقل ، لكون عقولهم أعطت لهم التقيد بتلك الاعتقادات بحسب إدراكاتهم . ولو كان مبدأ اعتقاداتهم قلوبهم ، لما كانوا مقيدين بها ، كما لم يتقيد القلب ، فكانوا من العابدين للحق في صور شؤونه كلها .
ولما تقيد كل منهم باعتقاد خاص ، ظن أن الحق هو الذي اعتقده فقط ، وغيره باطل ، فكفر بعضهم بعضا ، ولعن بعضهم بعضا ، فما لهم من ناصرين .
( فإن إله المعتقد ماله حكم في إله المعتقد الآخر . ) لما كان لكل من أرباب العقائد الخاصة ربا خاصا يربه في صورة معتقده ، لا يمكن لكل من أربابها أن ينصر عبد رب آخر ، إذ ليس له تلك الوجهة التي للآخر من الله ، كما قال تعالى :
( ولكل وجهة هو موليها ) . لكن لكل أن ينصر عبده .
فليس المراد ب‍ ( الإله ) هنا ، الرب الحاكم على المعتقد ، بل المراد منه الإله المجعول الذي اتخذه المعتقد بتصوره وتعمله إلها .
وهذا الإله لا يقدر أن ينصر معتقده ، فكيف تقدر أن ينصر معتقدا آخر يضاده وينافيه قد والفرق بين الإله المجعول بحسب الاعتقاد ، وبين الأصنام التي عبدت ، أنها مجعولة في الخارج ، وهو مجعول في الذهن .
بل صاحب الاعتقاد ينصر إلهه ويدفع عنه ، وهو عاجز عن نصرته ودفع المكاره عنه . وإليه أشار بقوله : ( فصاحب الاعتقاد يذب عنه ، أي ، عن الأمر الذي اعتقده في إلهه وينصره . وذلك الذي في اعتقاده لا ينصره . )
أي ، صاحب الاعتقاد يدفع عن الإله الذي اعتقده ما ينافيه ويخالفه ، وينصره ، وذلك
الإله لا ينصر صاحب الاعتقاد ، لأنه مجعوله ، والمجعول لا يمكن أن يكون أقوى  من جاعله لينصره .


قال الشيخ رضي الله عنه : (فلهذا لا يكون له أثر في اعتقاد المنازع له . وكذا المنازع ما له نصرة من إلهه الذي في اعتقاده : "فما لهم من ناصرين". ) أي ، فلأجل أن إله المعتقد عاجز
عن النصرة ، ليس له أثر في اعتقاد المنازع له .
وهكذا إله المنازع عاجز عن نصرة معتقده ، وليس له أثر ، أي ، فيمن يضاده وينافيه . فليس لأصحاب الاعتقادات الجزئية من ناصرين .


قال الشيخ رضي الله عنه : (فنفى الحق النصرة عن آلهة الاعتقادات على انفراد كل معتقد على حدته . )
أي ، نفى الحق عنها النصرة على انفراد كل منها ، إذ لا يقدر أن ينصر كل منها لكل معتقد على حدته . ف‍ ( عن ) متعلق ب‍ ( نفى ) . و ( على ) ب‍ ( النصرة ) . وإضافة ( الانفراد ) إلى ( الكل ) إضافة المصدر إلى مفعوله .
( والمنصور المجموع ، والناصر المجموع . ) وفي بعض النسخ :
( فالمنصور ) . ب‍ ( الفاء ) . و ( المجموع ) في قوله : ( والمنصور المجموع ) يجوز أن يحمل بمجموع الآلهة .

وفي قوله : ( والناصر المجموع ) لمجموع المعتقدين ، لينصر كل منهم إلهه الذي يعتقده . ويجوز أن يحمل بمجموع المعتقد وإلهه المجعول في الأول ، وبمجموع المعتقد وإلهه الحقيقي في الثاني .
ومعناه : والحال أن المنصور مجموع المعتقد ، وإلهه الذي يعتقده ، إذ الرب الحاكم عليه ينصره، وهو ينصر معتقده .
و ( الناصر ) أيضا المجموع ، وهو الرب الحاكم على المعتقد وعين المعتقد . فإن نصرة الرب من الباطن لا يظهر في الظاهر إلا بمظهره ، وهو عين العبد .
( فالحق عند العارف هو المعروف الذي لا ينكر ) 
كما قال رضي الله عنه في فتوحاته : ( الآمرون بالمعروف هم الآمرون بالحق ) . 
أي ، فالحق عند العارف هو الذي يظهر في صور تجلياته ، ويعرف فيها ولا ينكر ، لأنه يعرف أن لا غير في الوجود ، فصور الموجودات ظاهرا وباطنا كلها صورته ، فهو المعروف الذي لا ينكر .
( عند العارف . فأهل المعروف في الآخرة . ) أي ، إذا كان الحق المعروف الذي لا ينكر ، فأهل المعروف هم العارفون الذين عرفوا الحق في صور تجلياته ، وصار الحق معروفهم في الدنيا ، وهم الذين يتصفون في الآخرة أيضا بأنهم أهل المعروف ، فإنهم يعرفونه أيضا في صور يتحول فيها ، ولا ينكرونه أبدا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (فلهذا قال : "لمن كان له قلب" أي ، لكون أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة ).
قال : " لمن كان له قلب " . ولم يقل : لمن كان له عقل .
لأن صاحب القلب يتقلب في الصور بحسب العوالم الخمسة الكلية ، ومن تقليبه فيها يعرف تقليب الحق في الصور ، فيعبده فيها ، ولا ينكره في صورة من الصور .
وهذا معنى قوله : ( فعلم تقلب الحق في الصور بتقليبه في الأشكال ، فمن نفسه عرف نفسه . )
 أي ، علم القلب تقليب الحق في الصور المتنوعة وتجلياته المختلفة بواسطة تقلباته الحق في صور العوالم الكلية والحضرات الأصلية .
وإذا كان كذلك ، فالقلب العارف من نفسه وذاته عرف نفس الحق وذاته .
كما قال صلى الله عليه وسلم : "من عرف نفسه فقد عرف ربه " . 
أو العارف من نفسه عرف نفسه ، ليكون هو العارف والمعروف . والأول أنسب .


قال الشيخ رضي الله عنه : (وليست نفسه بغير لهوية الحق ، ولا شئ من الكون مما هو كائن ويكون بغير لهوية الحق ، بل هو عين الهوية . فهو العارف والعالم والمقر في هذه الصورة ، وهو الذي لا عارف ولا عالم وهو المنكر في هذه الصورة الأخرى . )
لما تكلم في مراتب الكثرة  بلسانه ، شرع يتكلم في الوحدة ومعناه أن نفس العارف ليست مغائرة لهوية الحق ، فلا شئ من الموجودات أيضا مغائر لها ، لأن الهوية الإلهية هي التي ظهرت
في هذه الصور كلها ، فهو العارف والعالم والمقر في صور أهل العلم والعرفان  والإيمان ، وهو الذي لا يعرف ولا يعلم وينكر في صور المحجوبين والجهلة والكفرة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( هذا حظ من عرف الحق من التجلي والشهود في عين الجمع . ) 
أي ، هذا العلم الذي حصل للقلب من نفسه وعرف الحق وتقلباته في الصور من عين تقلباته في العوالم ، حظ من شاهد مقام الجمع من التجلي الإلهي ، وعرف الحق فيه ، لاحظ لأهل العقل وأصحاب الفكر المحجوبين عنه وعن تجلياته وتقلباته في الصور .
( فهو قوله : " لمن كان له قلب " . يتنوع في تقليبه . ) أي ، هذا الحظ المذكور من العلم والمعرفة والشهود والتجلي .
هو المعنى من قوله : ( لمن كان له قلب ) .
ويؤيده ما بعده من قوله : ( هم المرادون بقوله : " أو ألقى السمع وهو شهيد" .)
أي ، المعنى من قوله : ( لمن كان له قلب ) . صاحب الشهود .
والمعنى بقوله : ( أو ألقى السمع ) المقلدون للرسل .
( فهو ) مبتدأ ، و ( قوله ) قائم مقام الخبر . و ( يتنوع ) صفة ( للقلب ) .
وضمير قوله : ( في تقليبه ) يجوز أن يعود إلى ( الحق ) . أي ، في تقليب الحق إياه .
ويجوز أن يعود إلى ( القلب ) . أي ، في تقليبه نفسه في الصور .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما أهل الإيمان وهم المقلدة الذين قلدوا الأنبياء والرسل ، عليهم السلام  والصلاة ، فيما أخبروا به عن الحق ، لا من قلد أصحاب الأفكار والمتأولين للأخبار الواردة بحملها على أدلتهم العقلية ، فهؤلاء الذين قلدوا الرسل ، صلوات الله عليهم ، هم المرادون بقوله : "أو ألقى السمع " لما وردت به الأخبار الإلهية على ألسنة الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام . )
أي ، وأما نصيب أهل الايمان والمقلدين للأنبياء والأولياء من هذه الآية ، قوله تعالى : "أو ألقى السمع وهو شهيد " .
فإن ( إلقاء السمع ) إنما يكون عند القبول لما جاء به الأنبياء والرسل من غير طلب دليل عقلي . ولما كان أصحاب الأفكار والمتأولين للأخبار على ما يقتضيه طريق عقولهم على نهج غير موصل لما هو في نفس الأمر من الحقائق.
قال : ( لا من قلد أصحاب الأفكار ) لأن المتبوع إذا كان جاهلا بما هو الأمر عليه ، فالتابع أولى
به . ( وهو ، يعنى هذا الذي ألقى السمع ، شهيد . ) أي ، المؤمن الذي ألقى السمع بالأخبار الإلهية ، شهيد .
و ( للشهيد ) معنيان :
أحدهما ، حاضر . أي ، حاضر مراقب لما يبلغه الأنبياء من الأخبار النازلة عليهم .
وثانيهما ، شاهد .
و ( للشهود ) مراتب :
إحديها ، الرؤية بالبصر .
وثانيها ، الرؤية بالبصيرة في عالم الخيال .
وثالثها ، الرؤية بالبصر والبصيرة معا .
ورابعها ، الإدراك الحقيقي للحقائق مجردة عن الصور الحسية . وكل منها بعين نفسه أو ربه .
والمراد هنا كلا المعنيين : الحضور ، والرؤية في عالم الخيال .
أما الحضور ، فإنه لو لم يكن حاضرا أو مراقبا ، لا يحصل له الرؤية المثالية .
فالذي يلقى سمعه ، يكون مشاهدا للأشياء في حضرة الخيال ، ويكون مؤمنا لما في باقي الحضرات .
لذلك قال رضي الله عنه  : ( ينبه على حضرة الخيال واستعمالها . ) أي ، الحق ينبه بهذا القول على حضرة الخيال ، إذ أول ما ينكشف للمؤمن حضرة الخيال ، وهو المثال المقيد ، ثم يسرى إلى المثال المطلق الذي هو عالم الأرواح . كما مر بيانه .
وكذلك ينبه على الوصول إلى هذا المقام ، وهو المراد بقوله : ( واستعمالها ) . أي ، واستعمال الحضرة الخيالية .
وهي القوة التي فيها تظهر الصور الخيالية ، واستعمالها إنما يكون بالتجرد التام والتوجه الكلى
بالقلب إلى العالم العلوي ، من غير اتباع العقل واستعمال للمفكرة .
فإنه كما يتحرك ، ينفتح له طريق الفكر وينسد عليه باب الكشف ، بل يتوجه توجها تاما عند تسكين المفكرة عن حركاتها بالذكر .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهو قوله ، عليه السلام ، في الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه ". "والله في قبلة المصلى" . فلذلك هو شهيد . )
( هو ) عائد إلى ( الاستعمال ) . أو ( الشهود ) . أي ، ذلك الاستعمال ، أو الشهود ، كقوله ، عليه السلام ، في الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه " . أي ، بمراقبة تامة وتوجه كلي ، كأنك مشاهد للحق ، لأن مثل هذه المراقبة تفتح أبواب الغيوب ، فتحصل هذه الرؤية العيانية ، فيرتفع حكم ، كأن الذي كان يقوم مقام المشاهدة .
وقوله : " والله في قبلة المصلى " هذا أيضا حديث آخر صحيح ، فإن كان المصلى ممن تكحل عينه بنور الحق واحتد بصره ، فيراه رؤية العين ، وإلا فينبغي أن يراقب بجمعية تامة ، ليكون كأنه يراه .
وقوله : "فلذلك هو شهيد " أي ، فلكون الحق في قبلة المصلى بصلاة الحضور والمراقبة ، هو شهيد للحق ، مشاهدا لوجهه الكريم في قبلته .
ومن يكمل استعداده ويقوى كشفه ، شاهد الحق في جميع الجهات ، فإنه فيها كلها ، كما
قال : "أينما تولوا فثم وجه الله " .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (ومن قلد صاحب نظر فكري وتقيد به ، فليس هو الذي "ألقى السمع " . فإن هذا الذي "ألقى السمع "لا بد أن يكون شهيدا لما ذكرناه ، ومن لم يكن شهيدا لما ذكرناه ، فما هو المراد بهذه الآية .
فهؤلاء هم الذين قال الله تعالى في حقهم : " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا " . والرسل لا يتبرؤون من اتباعهم الذين اتبعوهم . فحقق يا ولى ما ذكرته لك في الحكمة القلبية . )

إنما كان صاحب نظر فكري غير معتبر عند أهل الله ، لأن المفكرة قوة جسمانية يتصرف فيها الوهم تارة ، والعقل أخرى ، فهي محل ولايتها ، والوهم ينازع العقل .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثالث .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 12:15 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثالث .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص الشعيبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية
والعقل لانغماس آلته  في المادة الظلمانية ، لا يقدر على إدراك الشئ إدراكا تاما ، خصوصا مع
وجود المنازع ، ولا يسلم مدركاته عن الشبه النظرية ، فيبقى صاحبه لا يزال شاكا
أو ظانا فيما أدركه .
بخلاف أرباب اليقين ، فإنهم يشاهدون الأشياء بنور ربهم لا بتعلمهم وتفكرهم . والقوة الخيالية ، وإن كانت جسمانية ، لكنها بمنزلة البصر للقلب ومدركاته محسوسة ، فيحصل بها اليقين .
فمن قلد لمن لا يكون على يقين ، فقد خاب وخسر ، إذ ليس ممن "ألقى السمع " ، ولم يحصل له الشهود ، ويدخل فيمن قال الله تعالى في حقهم : " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا " .
أي ، المتبوعون من تابعيهم .
ولما كان هذا التنبيه أصلا عظيما لأرباب السلوك ، وصى بتحقيقه ، أي ، بجعله حقا ثابتا ، وإمعان النظر في حقيقته ، لئلا يقلدوا أرباب النظر بترك الشرائع ، فيقعون في الغواية ، و" يحسبون أنهم يحسنون صنعا " . كما في زماننا هذا .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأما اختصاصها بشعيب ، لما فيها من ( التشعب ) ، أي ، شعبها لا تنحصر ، لأن كل اعتقاد شعبة ، فهي شعب كلها ، أعني الاعتقادات . )
لما كان ( شعيب ) مأخوذا من ( الشعبة ) ، وكان القلب كثير الشعب - بحسب عوالمه وعقائده وقواه الروحانية والجسمانية ذكر أن اختصاص الحكمة القلبية بهذا الكلمة الشعيبية ، لأجل المناسبة التي بينهما .
وإنما بين هذا الاختصاص هنا ، ليبين شعب الاعتقادات المختلفة ، وإن شعبها لا تنحصر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا انكشف الغطاء ، انكشف لكل أحد بحسب معتقده ، وقد ينكشف بخلاف معتقده في الحكم وهو قوله) أي ، الانكشاف بخلاف المعتقد .
هو كقوله : ( "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " . فأكثرها في الحكم ، كالمعتزلي ، يعتقد في الله نفوذ الوعيد في العاصي إذا مات على غير توبة . فإذا مات وكان مرحوما عند الله : قد سبقت له عناية بأنه لا يعاقب : "وجد الله غفورا رحيما". فبدا له من الله ما لم يكن يحتسبه . )
أي ، إذا انكشف الغطاء عن البصائر والأبصار ، انكشف الحق لكل أحد بحسب معتقده ، وأما حكم الله قد ينكشف بخلاف معتقده .
كما ينكشف للمعتزلي الذي يعتقد أن العاصي إذا مات على غير توبة ، يكون معاقبا ، فإذا رأى من مات كذلك ورحمه الحق وعفا عنه للعناية السابقة في حقه أزلا بأنه لا يعاقب ، فقد انكشف له خلاف ما اعتقد في حكم الله .
وكذا من اعتقد أنه من الناجين ، وعاقبه الحق وجعله من الهالكين ، لما قضى عليه أزلا ، فقد انكشف له خلاف معتقده . واستشهد بالآية : " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ".
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما في الهوية ، فإن بعض العباد يجزم في اعتقاده أن الله كذا وكذا ، فإذا انكشف الغطاء ، رأى صورة معتقده ، وهي حق ، فاعتقدها وانحلت العقدة ، فزال
الاعتقاد وعاد علما بالمشاهدة . وبعد احتداد البصر ، لا يرجع كليل النظر . ) أي ،
كل من اعتقد أن هوية الحق كذا وكذا ، يرى يوم القيامة معتقده حقا واقعا ، لأن الحق يتجلى له بذلك الاعتقاد فتنحل العقدة التي كانت على قلبه ، وهي الحجاب المانع لكل أحد من انكشاف الغيوب لهم ، فزال الاعتقاد الذي كان بالغيب بواسطة الحجاب ، وعاد علما يقينيا لا يحتمل النقيض بمشاهدة الأمر على ما هو عليه .
قوله : ( وبعد احتداد البصر ، لا يرجع كليل النظر . ) إشارة إلى بطلان قول من يقول : إن بعد الظهور التام يحصل الخفاء التام . كما يقول بعض الموحدين من التناسخية .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فيبدو لبعض العبيد ، باختلاف التجلي في الصور عند الرؤية ، خلاف معتقده ، لأنه لا يتكرر ، فيصدق عليه في الهوية . و "بدا لهم من الله " في هويته "ما لم يكونوا يحتسبون " فيها قبل كشف الغطاء . )
أي ، فيبدو لبعض العبيد في تجلى الهوية أيضا خلاف معتقده في الدنيا ، لأن الحق يتجلى في صور أسمائه المختلفة عند الرؤية .
فبعد أن يتجلى له بصورة معتقده ، يتجلى أيضا بصورة أخرى لم يعتقد تجلى الحق فيها ، لأن التجلي لا يتكرر ليكون على صورة واحدة فقط ، فيصدق عليه بحسب الهوية ، و ( بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ) .
وحديث ( التحول ) أيضا يدل على ذلك . وعدم معرفة الجاهلين بتجليات الحق لا يقدح في كونه تجليا .

قال الشيخ رضي الله عنه : (وقد ذكرنا صورة الترقي بعد الموت في المعارف الإلهية ، في كتاب التجليات لنا ، عند ذكرنا بعض من اجتمعنا به من الطائفة في الكشف . وما أفدنا هم في هذه المسألة مما لم يكن عندهم . )
ولما كان ظهور الحق في صور ما كان يعتقد أن الحق يتجلى بها ترقيا حصل للعبيد بعد انتقالهم إلى دار الآخرة ، أكد بما وقع له في بعض مكاشفاته من أنه أفاد أكابر الأولياء ، كالجنيد والشبلي وأبى يزيد وغيرهم قدس الله أسرارهم ، وحصل لهم الترقي بعد الموت .
وهذا ( الترقي ) ليس مخصوصا بطائفة دون طائفة ، لأن العارفين ببعض التجليات يحصل لهم البعض الآخر ، فيحصل لهم الترقي .
وكذلك المحجوبون من المؤمنين والمشركين والكافرين : فإن انكشاف الغطاء عنهم ترق ، وظهور أحكام أعمالهم ترق ، وشهود أنواع التجليات ، وإن لم يعرفوا حقيقتها ، ترق ،
وحصولهم في البرازخ الجهمية والجنانية أيضا ترق ، لوصولهم فيها إلى كمالهم  الذاتي ، وارتفاع العذاب عنهم بعد انتقام ( المنتقم ) منهم ترق ، وشفاعة الشافعين لهم ترق . ولولا مخافة التطويل ، لأوردت مراتب الترقيات في الآخرة مفصلا ، وللعارف غنية فيما أشرت إليه .
فقوله تعالى  : "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " .
إنما هو العمى عن معرفة الحق لا غير ، لأن الحق متجل دائما أبدا ، وهو أعمى عنه .
فإذا انكشف الغطاء ، ارتفع العمى بالنسبة إلى دار الآخرة ونعيمها وجحيمها والأحوال التي فيها ، لكن لا يرتفع العمى بالنسبة إلى معرفة الحق .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم ، انقطع عنه عمله إلا عن ثلاث " لا يدل على عدم الترقي ، لأنه ليس بالعمل ، بل بفضل الله ورحمته ، والعمل أيضا مستند إليه .
ولئن سلم ذلك ، فهو يدل على أن الأشياء التي يتوقف حصولها بالأعمال لا تحصل له إلا بالعمل ، لا مالا يتوقف عليها مما سبقت له العناية الأزلية على حصوله بلا عمل . والاطلاع بأحوال غيره من السعداء والأشقياء أيضا من مراتب الترقي . والله أعلم بالحقائق ولكون الترقي ليس مخصوصا بطائفة وموطن معين وزمان خاص .

قال الشيخ رضي الله عنه : (ومن أعجب الأمر أنه في الترقي دائما ولا يشعر بذلك ، للطافة الحجاب ورقته وتشابه الصور مثل قوله : "وأتوا بها متشابها " . )
أي ، ومن أعجب الأحوال أن الإنسان دائما في الترقي من حين سيره من العلم إلى العين ، فإن عينه الثابتة لا تزال تظهر في صورة كل من مراتب النزول والعروج ، وفي جميع العوالم الروحانية والجسمانية في الدنيا والآخرة ، وكل صورة ظهرت هي فيها ، كانت بالقوة فيها ، وحصولها بالفعل بحسب استعداداتها الكلية والجزئية من جملة ترقياته ، فلا يزال في كل آن مترقيا ولا يشعر به في كل زمان جزئي ، وإن كان يشعر به بعد مدة ، أو لا
يشعر به أصلا .
وذلك لتشابه الصور التي تعرض على عينه في كل آن ، إذا كانت من جنس واحد ، كما تشابه عليهم صور الأرزاق .

قال تعالى : " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا بها متشابها"
قوله : ( للطافة الحجاب ورقته ) أي ، ولا يشعر بصورة الترقي ، للطافتها ورقتها . وإنما جعلها ( حجابا ) ، لكون صور المراتب كلها حجبا للذات الأحدية :
 منها حجب نورانية ، ومنها حجب ظلمانية ، كما قال ، صلى الله عليه وسلم :
قال صلى الله عليه وسلم   : "إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة ، لو كشفها ، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره" .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وليس هو الواحد عين الآخر ، فإن الشبيهين عند العارف من حيث إنهما شبيهان غيران . ) يجوز أن يكون ( هو ) تأكيدا للضمير المستتر . و ( الواحد ) عطف بيان له .
و ( عين الآخر ) خبر ( ليس ) . ويجوز أن يكون ( هو ) بمعنى ذلك ، كما استعمل الشاعر بقوله :  فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق أي ، كان ذلك .
والإشارة إلى ( الحجاب ) أي ليس ذلك الحجاب الواحد عين الحجاب الآخر ، يعنى ، ليس تلك الصورة عين الصورة الأخرى ، لأن الشبيهين غيران ، إذ لا يمكن أن يكون الشئ الواحد شبيها لنفسه . فهما من حيث أنهما شبيهان غيران .
فقوله : ( غير ان ) خبر ( إن ) بالكسر . و ( شبيهان ) خبر ( أن ) بالفتح .
تقديره : فإن الشبيهين غيران من حيث أنهما شبيهان .


قال الشيخ رضي الله عنه : (وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد ، كما يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية ، وإن اختلفت حقائقها وكثرت ،أنها عين واحدة . فهذه كثرة معقولة في واحد العين ، فيكون في التجلي كثرة مشهودة في عين واحدة .)
لما تكلم في الفرق ، شرع يتكلم في الجمع بين الفرق والجمع . ومعناه : أن المحقق يرى الكثرة الواقعة في العالم موجودة في الواحد الحقيقي الذي هو الوجود المطلق الظاهر بصور الكثرة ،
كرؤية القطرات في البحر والثمر في الشجر والشجر في النواة ، كما يرى الكثرة الأسمائية ، مع أنها مختلفة الحقائق ، راجعة إلى تلك الذات .
فهذه الكثرة الأسمائية معقولة في الذات الواحدة الإلهية ، فعند التجلي بصور الأسماء تكون الكثرة الأسمائية مشهودة في عين واحدة معقولة . ولأجل هذا المعنى ، تسرت ( الهوية ) في صور الموجودات ، فأظهرها .
وفي القيامة الكبرى يجعل تلك الصورة مستورة ، ويظهر الحق بذاته .
ويقول : ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) . ثم يتجلى بالكثرة المشهودة في الدار الآخرة أيضا ، جلت قدرته .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( كما أن الهيولى تؤخذ في حد كل صورة . وهي ، مع كثرة الصور واختلافها ، ترجع في الحقيقة إلى جوهر واحد ، وهو هيولاها . ) .
المراد ب‍ ( الهيولى ) هنا هو الهيولى الكلية التي تقبل صور جميع الموجودات الروحانية والجسمانية .
وهو الجوهر كما بينه في كتابه المسمى بإنشاء الدوائر .
ومعناه : أن الكثرة مشهودة في عين واحدة ، وتلك العين الواحدة معقولة  فيها ، كما أن صور الموجودات كلها مشهودة في عين الهيولى ، والهيولي معقولة فيها ، لذلك تؤخذ في تعريف كل من الموجودات .
كما أنك تقول العقل هو جوهر مجرد مدرك للكليات غير متعلق بجسم ، والنفس الناطقة جوهر مجرد مدرك للكليات والجزئيات ، وله تعلق التدبير والتصرف بالجسم ، والجسم جوهر قابل للأبعاد الثلاثة ، فيؤخذ ( الجوهر ) في تعريفاتها .
وهو في الحقيقة واحد والصور كثيرة مختلفة . والغرض التنبيه لأرباب النظر ، لئلا تشمئز عقولهم عما يقوله أهل الله في التوحيد .
( فمن عرف نفسه بهذه المعرفة ، فقد عرف ربه . ) أي ، فمن عرف أن حقيقته هي حقيقة الحق ، وهي التي تفصلت وظهرت بصور الموجودات بحسب مراتبها وظهوراتها - كما بينا في المقدمات ، هو الذي عرف ربه .
( فإنه على صورته خلقه ، بل هو عين حقيقته وهويته. ) أي ، فإن الإنسان مخلوق على صورة ربه ، كما جاء في الحديث الصحيح : ( إن الله خلق آدم على صورته ) .
وفي رواية : ( على صورة الرحمان ) . والمراد ب‍ ( الصورة ) الأسماء والصفات الإلهية .
أي ، خلقه موصوفا بجميع تلك الأسماء والصفات ، بل هويته
التي اختفت وحقيقته التي تسترت في الحقيقة الإنسانية ، فأظهرت الإنسان ، فهويته عين هوية الحق ، وحقيقته عين الحقيقة الإلهية .
وهو اسمه الأعظم الجامع لحقائق الأسماء كلها . ( ولهذا ما عثر ) أي ، ما اطلع .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أحد من الحكماء والعلماء على معرفة النفس وحقيقتها ، إلا الإلهيون من الرسل والأكابر من الصوفية . وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلمين في كلامهم في النفس وماهيتها ، فما منهم من عثر على حقيقتها ، ولا يعطيها النظر الفكري أبدا . )
"" الإلهيون من الرسل والأكابر من الصوفية عرفوا نفوسهم بعلوا هممهم ولسطوع أنوار الحضرات الإلهية والربانية على قلوبهم فتذكروا وعلموا ما لم يكونوا يعلمون ""
"وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلمين"  لما بينا من أنه جسماني منغمس في الظلمات ، عاجز عن رفع الوهم والشبهات .
( فمن طلب العلم بها ) أي ، بماهية النفس وحقيقتها . ( من طريق النظر الفكري ، فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم . ) ( الضرم ) ما به يوقد النار .


قال الشيخ رضي الله عنه : (لا جرم أنهم من "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعا " . فمن طلب الأمر من غير طريقه ، فما ظفر بتحقيقه . ) كله ظاهر .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وما أحسن ما قال الله في حق العالم وتبدله من الأنفاس في خلق جديد في عين
واحدة . فقال في حق طائفة ، بل أكثر أهل العالم : "بل هم في لبس من خلق جديد " .
فلا يعرفون تجديد الأمر مع الأنفاس . )
لما كان كلامه رضي الله عنه  في الحكمة القلبية وبيان تقلبات القلب في عوالمه ، وكان العالم أيضا لا يزال متقلبا في الصور ، ذكر أنه في كل آن ونفس يتبدل صورة على العين الواحدة التي هي الجوهر ، واستشهد بقوله تعالى : " بل هم في لبس من خلق جديد ".
ولما كان هذا التبديل نوعا من أنواع القيامة - كما مر بيانه في المقدمات - وأهل
النظر لم يشعروا بهذا ، جعلهم بمثابة المنكرين بقوله : ( فقال في حق طائفة ) وهم
أهل النظر . ثم عم بقوله : ( بل أكثر العالم ) . أي ، قال في حق أكثر العالم ،
وهم المحجوبون كلهم . وما التبس عليهم ذلك إلا بمشابهة الصور .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( لكن قد عثرت عليه الأشاعرة في بعض الموجودات وهي الأعراض . )
لأنهم ذهبوا أن العرض لا يبقى زمانين . ( وعثرت عليه ( الحسبانية ) في العالم كله .
وجهلهم أهل النظر بأجمعهم . ) ( الحسبانية ) هم المسماة عند أهل النظر ب‍ ( السوفسطائية )
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولكن أخطأ الفريقان : أما خطأ الحسبانية فبكونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدل في العالم بأسره على أحدية عين الجوهر المعقول الذي قبل هذه الصور ولا يوجد إلا بها . )
أي ، ولا يوجد ذلك الجوهر في الخارج إلا بتلك الصور .
( كما لا تعقل إلا به ) أي ، كما لا تعقل تلك الصورة إلا بالجوهر ، يعنى ، كما لا يعقل كل واحد
من الموجودات عند التعريف إلا بالجوهر .
( فلو قالوا بذلك ) أي ، بأن الجوهر شئ واحد يطرأ عليه صور العالم كله ، فتصير موجودات متعينة متكثرة .
وذلك الجوهر هو عين الحق الذي بتجليه حصل العالم . ( فازوا بدرجة التحقيق في الأمر) لأنهم حينئذ كانوا عارفين بالأمر على ما هو عليه.

قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما الأشاعرة ، فما علموا أن العالم كله مجموع أعراض ،فهو يتبدل في كل زمان ،إذا العرض لا يبقى زمانين.)
أي ، وخطاء الأشاعرة أنهم ما علموا أن العالم كله عبارة عن أعراض مجتمعة ظاهرة في الذات الأحدية متبدلة في كل آن .
فلو حكموا على أن أعيان الموجودات أيضا يتبدل ، كأعراضها ، فلا يبقى زمانين على حالة واحدة ، لفازوا أيضا بالتحقيق .
لكنهم غفلوا عن وحدة الجوهر وكونه عين الحق القائم بنفسه المقوم لغيره ، وأثبتوا جواهر غير الذات الأحدية الظاهرة بالصورة الجوهرية ، فحجبوا وحرموا عن حقيقة التوحيد .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ويظهر ذلك في الحدود للأشياء ، فإنهم إذا حدوا الشئ يتبين في حدهم تلك الأعراض.)
وفي نسخة : ( كونه الأعراض ) . أي ، كون ذلك الشئ عين الأعراض .
ويتبين أيضا ، ( أن هذه الأعراض المذكورة في حده ، عين هذا الجوهر وحقيقته القائم بنفسه ، ومن حيث هو عرض ، لا يقوم بنفسه . )
( القائم بنفسه ) مجرور على أنه صفة ( الجوهر ) . أي ، ويظهر . أن العالم كله أعراض في
حدودهم للأشياء . فإنهم إذا حدوا الإنسان بالحيوان الناطق ، والحيوان بالجسم
الحساس المتحرك بالإرادة ، والجسم بأنه جوهر قابل للأبعاد الثلاثة ، يتبين أن الجوهر هو الذي مع كل واحد من الأعراض ، يصير موجودا معينا مسمى بالجوهر قائما بنفسه .
وذلك لأن مفهوم الناطق ذو نطق ، والنطق عرض ، و ( ذو ) أيضا عرض لأنها نسبة رابطة ، والحيوان جسم حساس ، والحساس ذو حس ، والحس عرض لأنه الإدراك ، وذو عرض ، والمتحرك بالإرادة أيضا كذلك ، فإن الحركة عرض ، والإرادة عرض ، وكذلك الجسم ، فإن المتحيز هو ماله التحيز ، والتحيز عرض ، والقابل للأبعاد الثلاثة التي هي الأعراض عبارة عماله القبول ، والقبول عرض ، وهكذا إلى أن ينتهى إلى الجوهر ، والجوهر موجود لا في موضوع ، والموجود هو ذو وجود ، وذو نسبة وهو عرض ، و ( الكون ) أيضا كذلك .
فبقى الوجود الحقيقي الذي يدل عليه ( ذو ) ، وهو عين الحق .
كما مر بيانه في المقدمات فتبين أن مجموع العالم من حيث إنه عالم ، أعراض كلها قائمة بالذات الإلهية .
وإنما قال : ( وأن هذه الأعراض . . . عين هذا الجوهر ) لأنها كلها صفاته التي فيه بالقوة ، فهي عينه بحسب الوجود ،وغيره بحسب العقل.
( فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه ) وهي الأعراض . ( من يقوم بنفسه . ) وهو الجوهر ( كالتحيز في حد الجوهر القائم بنفسه الذاتي ) مثال للعرض الذي يلحق الجوهر فيجعله جسما . أي ، كالتحيز الذي هو عرض ذاتي مأخوذ في حد الجوهر القائم بنفسه ،وهو الجسم.
والمراد ب‍ ( الذاتي ) جزء المهية ، فإن ( المتحيز ) و ( القابل للأبعاد ) ، فصلان للجسم .
( وقبوله للأعراض حد له ذاتي) أي ، قبول الجسم للأعراض الثلاثة أيضا حد للجسم ذاتي .
والمراد ب‍ ( الحد ) التعريف : فإنك إذا عرفت الجسم بأنه القابل للأبعاد الثلاثة ، تكون صحيحا .
ويجوز أن يكون المراد ب‍ ( الحد ) جزء الحد ، فإن كلا من الأجزاء الذاتية يحدد المحدود ويعينه .
(ولا شك أن القبول عرض ، إذ لا يكون إلا في قابل ، لأنه لا يقوم بنفسه ، و هو ) أي ، القابل ( ذاتي للجوهر ) الذي هو الجسم .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( والتحيز عرض ، ولا يكون إلا في متحيز ، فلا يقوم بنفسه . وليس التحيز والقبول بأمر زائد على عين الجوهر المحدود . ) أي ، بحسب الوجود .
( لأن الحدود الذاتية ) أي ، الأجزاء الذاتية . وإنما سماها ( حدودا ) ، لأن الحدود تعريفات ، وبالأجزاء تحصل التعريفات .
( هي عين المحدود وهويته . ) بحسب الخارج . وإنما جعل ( التحيز ) و ( القبول ) حدودا ذاتية ، لأن ( المتحيز ) و ( القابل ) ذاتيان للجسم ، والتحيز ذاتي للمتحيز والقبول للقابل ، وجزء الجزء جزء .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقد صار مالا تبقى زمانين ، يبقى زمانين وأزمنة . ) أي ، بحسب الظاهر والحس ، كما يزعم المحجوب .
( وعاد مالا يقوم بنفسه ، يقوم بنفسه ) أي ، بحسب ما يشاهد في الحس ويزعم المحجوب ، لأنه في الحقيقة قائم بالله لا بنفسه .
( ولا يشعرون ) أي ، المحجوبون . ( لما هم عليه من التبدل . ) لأن أعيانهم أعراض متبدلة في كل آن ، والحق ، سبحانه ، يخلقهم خلقا جديدا في كل زمان .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهؤلاء هم في لبس من خلق جديد . وأما أهل الكشف فإنهم يرون أن الله تعالى يتجلى في كل نفس ، ولا يكرر التجلي . )
فإن ما يوجب البقاء غير ما يوجب الفناء . وفي كل آن يحصل الفناء والبقاء ، فالتجلي غير متكرر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ويرون أيضا شهودا أن كل تجلى يعطى خلقا جديدا ، ويذهب بخلق ، فذهابه هو الفناء عند التجلي . ) أي ، عند التجلي الموجب للفناء .
( والبقاء لما يعطيه التجلي الآخر . ) وهو التجلي الموجب للبقاء بالخلق الجديد .
( فافهم ) لتكون من أرباب الشهود للقيامة وتلحق بالعالمين للآخرة .
وإنما قال : ( ويرون أيضا شهودا ) لئلا يزعم المحجوب أنه يحكم بهذا الخلق الجديد بسبب النص الوارد فيه ، وهذا النص مستنده فقط .
ولما كان هذا الخلق من جنس ما كان أولا ، التبس عليهم ، ولم يشعروا التجدد وذهاب ما كان
حاصلا بالفناء في الحق ، لأن كل تجلى يعطى خلقا جديدا ، ويفنى في الوجود الحقيقي ما كان حاصلا .
ويظهر هذا المعنى في النار المشتعل من الدهن والفتيلة :
فإنه في كل آن يدخل منها شئ في تلك النارية ويتصف بالصفة النورية ، ثم يذهب تلك الصورة بصيرورته هواء .
هكذا شأن العالم بأسره : فإنه يستمد دائما من الخزائن الإلهية ، فيفيض منها ويرجع إليها .
والله أعلم بالحقائق .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الأول .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 12:17 pm

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الأول .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

فص لوط على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية
( الملك ) ، بفتح الميم وسكون اللام ، هو الشدة . و ( المليك ) الشديد .
قال صاحب الصحاح : ملكت العجين أملكه ملكا - بالفتح - إذا شددت عجنا  
"" أضاف المحقق : قال الشيخ صدر الدين القنوي في رسالة الفكوك فك ختم الفص اللوطي: (إنما قرن الشيخ رضي الله عنه  هذه الحكمة بالصفة (الملكية) مراعاة الأمر الغالب على حال لوط عليه السلام وأمته، وما عامل الحق به قومه من شدة العقوبة في مقابل الشدة التي قاساها لوط منهم حتى نطق لسان حاله معهم بقوله: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد).  ""
وإنما نسب هذه ( الحكمة ) إلى كلمة ( لوط ) ، عليه السلام ، لأنه كان ضعيفا  في قومه ، وهم أقوياء شديد الحجاب ، ما كانوا تقبلون منه ما أتى به من الله إليهم .
وكانوا يفسدون في الأرض بالاشتغال بالشهوة البهيمية والانهماك في الأمور الطبيعية ، حتى قال : ( لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد ) .
فالتجأ إلى الله  من حيث إنه القوى الشديد حتى استأصلهم بشدة العذاب .
(الملك ) الشدة . و ( المليك ) الشديد . يقال : أملكت العجين . إذا شددت عجنه . قال قيس بن الحطيم ، يصف طعنه :  
ملكت بها كفى فانهرت فتقها  ..... يرى قائم من دونها ما ورائها
أي ، شددت بها كفى ، يعنى ، الطعنة .
معنى البيت : إني شددت بالطعنة كفى . أي ، مسكت الرمح قويا ،
فضربت به العدو ، فأوسعت ما فتقت الطعنة حتى يرى القائم ما وراء تلك الطعنة من جانب آخر . 
كأنه جعل موضع الطعنة مثل شباك يرى منها ما وراءها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فهو قوله تعالى عن لوط : " لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أخي لوطا ، لقد كان يأوى إلى ركن شديد " . فنبه ، عليه السلام ، أنه كان مع الله من كونه شديدا . ) .
أي ، ( الملك ) المفسر بالشدة مستفاد من قوله تعالى عن لسان لوط ، عليه السلام : ( لو أن لي بكم قوة ) والمراد ب‍ ( القوة ) الهمة القوية المؤثرة في النفوس ، لأن القوة منها جسمانية ، ومنها روحانية ، وهي الهمة .
والروحانية أقوى تأثيرا ، لأنها قد تؤثر في أكثر أهل العالم أو كله ، بخلاف الجسمانية .
( أو آوى ) أي ، التجئ إلى ( ركن شديد ) . أي ، قبيلة قوية غالبة على خصمائها .
هذا بحسب الظاهر . وأما بحسب الباطن ، فإنه التجأ إلى الله من حيث إنه قوى شديد ، كما نبه عليه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والذي قصد لوط ، سلام الله عليه ، القبيلة ب‍ ( الركن ) الشديد ، والمقاومة  بقوله : " لو أن لي بكم قوة " . وهي ( الهمة ) هنا ، من البشر خاصة . )
( القبيلة ) مرفوعة على أنها خبر المبتدأ ، والرابطة محذوفة . أي الذي قصده لوط هي القبيلة. و ( المقاومة ) عطف على ( القبيلة ) .
وإنما قصد لوط ، عليه السلام ، القبيلة ب‍ ( الركن الشديد ) ، لأنه يعلم أن أفعال الله تعالى لا يظهر في الخارج إلا على أيدي المظاهر ، فتوجه بسره إلى الله ، وطلب منه أن يجعل له  أنصارا ينصرونه على أعداء الله ، وقوة وهمة مؤثرة من نفسه ليقاوم بها الأعداء .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " فمن ذلك الوقت يعنى من الزمن الذي قال فيه لوط عليه السلام : أو آوى إلى ركن شديد ما بعث نبي بعد ذلك إلا في منعة من قومه " . )
أي ، ما بعث نبي إلا بين منعة يمنعون شر الأعداء منه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان تحمية قبيلته كأبي طالب عليه السلام مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . فقوله )
أي ، قول لوط ، عليه السلام : ( " لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد " . لكونه ، عليه السلام ، سمع الله يقول : " الله الذي خلقكم من ضعف " بالأصالة . )
أي ، هذا القول إنما وقع لكون لوط ، عليه السلام ، أدرك بالنور الإلهي معنى:-
قول الله تعالى : ( وهو الذي خلقكم من ضعف ) . وعلم أن الله خلق الخلق من العدم ، ومعنى الآية أيضا يرجع إليه ، إذ ( الضعف ) عدم القوة ، والعدم أصل كل متعين . وإليه ترجع الصفات الكونية كلها ، وعرف أن القوة لله جميعا بالأصالة ، ولغيره بالتبعية ، كما قال تعالى .
( ثم ، جعل من بعد ضعف قوة ، فعرضت القوة بالجعل . ) أي ، بالإيجاد بالخلق الجديد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهي قوة عرضية . ثم ، جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة . فالجعل تعلق بالشيبة . ) لأنها خلق جديد . ( وأما ( الضعف ) فهو رجوع إلى أصل خلقه وهو قوله : " خلقكم من ضعف" ) وهو العدم ، لأنه عبارة عن عدم القوة .
( فرده لما خلقه منه ) . ( اللام ) بمعنى إلى . ( كما قال تعالى : " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا " . فذكر أنه رد إلى الضعف الأول .  فحكم الشيخ حكم الطفل في الضعف . ) الكل ظاهر .
والمقصود أن القوة للخلق ، من حيث إنه غير وسوى ، عارضي . ولهذا قال الشيخ رضي الله عنه : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) . والضعف والعجز ذاتي له ، لأنه من العدم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وما بعث نبي إلا بعد تمام الأربعين ، وهو زمان أخذه في النقص والضعف . فلهذا قال : " لو أن لي بكم قوة " مع كون ذلك يطلب همة مؤثرة . ) معناه ظاهر.
وإنما كانت ( البعثة ) بعد تمام ( الأربعين ) ، لأن أحكام النشأة العنصرية غالبة على أحكام النشأة الروحانية في تلك المدة ، والقوة الطبيعية مستعلية  على القوى الروحانية بحيث لا يظهر أثرها إلا أحيانا ، ولذلك يغلب السواد ، أيضا في تلك المدة ، على الشعر . والحكمة في هذه الغلبة واختفاء القوى  الروحانية ، تكميل النشأتين وتحصيل السعادتين ، لأن الرب كما يرب الظاهر في ذلك الزمان ، يرب الباطن أيضا .
ولما كانت النشأة الدنياوية منقضية متناهية ، يتوجه تلك القوة إلى الضعف  إلى أن تفنى . ولكون الآخرة دائمة أبدية ، تزداد القوى الروحانية ، إلى أن ينتهى إلى الكمال المقدر له .
وقوله تعالى : ( لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ) . إشارة إلى فناء قابلية الآلة التي بها يظهر العلم في الخارج ، لأن النفس الناطقة يطرء عليها الجهل بعد العلم ، وإلا ما كان تبقى العلم بعد المفارقة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن قلت : فما يمنعه من الهمة المؤثرة ، وهي موجودة في السالكين من الاتباع ، والرسل أولى بها ؟
قلنا : صدقت ، ولكن نقصك علم آخر . وذلك أن المعرفة لا تترك للهمة تصرفا ، فكلما علت معرفته ، نقص تصرفه بالهمة . وذلك لوجهين : الوجه الواحد ، لتحققه بمقام العبودية ونظره إلى أصل خلقه الطبيعي . )
أي ، لظهوره  بمقام العبودية ، وهي يقتضى الإتيان بأوامر السيد . والتصرف إنما يكون
عند الظهور بالربوبية ، لأن للسيد المالك أن يتصرف في ملكه لا لعبده ، ولنظره إلى أصل خلقه الطبيعي ، وهو الضعف والعجز .

كما قال تعالى : 
( الله الذي خلقكم من ضعف ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والوجه الآخر ، أحدية المتصرف والمتصرف فيه . فلا يرى على من يرسل همته فيمنعه ذلك . ) والوجه الآخر ، أن العارف يعرف أن المتصرف والمتصرف فيه في الحقيقة واحد ، وإن كانت الصور مختلفة ، فلا يرى أحدا غيره ليرسل همته عليه ، فيهلكه فيمنع المتصرف ذلك العرفان عن تصرفه .
ف‍ـ ( الرؤية ) رؤية البصر ، و ( من ) مفعوله . و ( على ) متعلق بقوله : ( يرسل ) .
ويجوز أن يكون ( الرؤية ) بمعنى العلم ، و ( من ) استفهامية . أي ، فلا يعلم على أي موجود يرسل همته على سبيل القهر والغضب ، فيهلكه . وليس في الوجود غيره .
وأيضا ، ( التصرف ) إنما يكون بالجهة الربوبية . فالمتصرف إن قلنا إنه رب ، فليس للعبد فيه شئ ، وهو المالك يفعل في ملكه ما يشاء . وإن قلنا إنه عبد ، فلا يخلو من أنه يتصرف بأمر المالك أو لا .
فإن كان بالأمر على التعيين ، فالمتصرف أيضا المالك على يد العبد ، وهو آلة فقط .
وإن كان بالأمر على الإجمال ، كقول المالك : تصرف فيما شئت ، فهو بما شئت . فهو الخليفة . وهو أيضا مظهر الرب لا يفعل شيئا لنفسه . فإن لم يفعل بأمر المالك ، يعلم أن المتصرف فيه هو الحق الظاهر بتلك الصورة ، أو لا .
فإن علم ، فهو ممن أساء الأدب مع الله ، فلا يكون تام المعرفة . 
وإن لم يعلم ، فهو الجاهل بمرتبة المتصرف فيه ، وبجهله يرسل همته عليه بالإهلاك .
فالحاصل أن المعرفة تمنع العارف من التصرف . ومن تصرف من الأنبياء والأولياء ، إنما تصرف بالأمر الإلهي ، لتكميل المتصرف فيه والشفقة عليه ، وإن كانت الصورة صورة الإهلاك .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وفي هذا المشهد يرى أن المنازع له ما عدل عن حقيقته التي هو عليها في حال ثبوت عينه وحال عدمه ، فما ظهر في الوجود إلا ما كان له في حال العدم في الثبوت ، فما تعدى حقيقته ، ولا أخل بطريقته . )
( المشهد ) مقام الشهود . أي ، وفي هذا المقام من المعرفة ، وهو مقام شهود الأحدية ، يعلم العارف أن من ينازعه وينازع الأنبياء والأولياء ما عدل عن اقتضاء حقيقته التي هي العين الثابتة ، فإنها كانت على المنازعة مع حقائق الأنبياء والأولياء حال كونها ثابتة في العدم ، لأن حقائقهم اقتضت الهداية والرشاد وطاعة أمر الله ، وحقيقة المنازع معهم اقتضت الضلالة والغواية والإباء عما جاء به النبي . فكل على طريقته الخاصة به ، وكل عند ربه مرضى . كما مر بيانه .
فما ظهر في الوجود العيني شئ إلا على صفة ما كانت عليها في الوجود العلمي ، فما تعدى المنازع عن حقيقته ، ولا أخل بشئ في طريقته .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتسمية ذلك نزاعا ) أي ، ب‍ ( النزاع ) . ( إنما هو أمر عرضي ، أظهره الحجاب الذي على أعين الناس ، كما قال الله تعالى فيهم : " ولكن أكثر الناس لا يعلمون،  يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " . )
ضمير ( إنما هو ) عائد إلى ( التسمية ) . ذكره باعتبار ( القول ) ، أو تغليبا للخبر .
ومعناه : 
فتسمية ما عليه المنازع من الطريق الخاص به ( نزاعا ) ، إنما هو أمر عرضي ، حصل للمحجوبين بواسطة الحجاب الذي على أعينهم من سر القدر . 
فإنهم يتوقعون من جميع الخلائق الاهتداء والرشد لما جاء به الأنبياء ، عليه السلام ، وما يعلمون أن كل عين لا تقبل إلا ما يعطيه الاسم الحاكم عليه من الله ، وكل موافق لطريقه .
ولو كانوا يعلمون ذلك ، ما كانوا يسمونه منازعا مطلقا ، بل موافقا .
لذلك قال تعالى في حقهم : " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " . أي ، سر القدر .
" يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " .  أي ، يعلمون ما ظهر لهم من النشأة الدنياوية ، وهم عن النشأة الأخراوية التي عندها يظهر سر القدر ، غافلون .
واعلم ، أن ما زعم المحجوب ، أيضا حق واقع . فإن للأسماء مقتضيات متوافقة ومتخالفة : الأول ، ك‍ ( الرحيم ) و ( الكريم ) . والثاني ، ك‍ ( الرحيم ) و ( المنتقم ) . فإذا اعتبر مقتضى كل اسم بحسبه ، أو بحسب الاسم الموافق له ، كانت عينه موافقة لطريقها ، كما مر من أن كل واحد من الأعيان على طريق مستقيم وهو عند ربه مرضى .
وإذا اعتبر بحسب اسم آخر مخالف له ، كانت عينه مخالفة ، فالتخالف والتضاد بين الأسماء والأعيان واقع .
والأنبياء ، عليه السلام ، أمروا بالدعوة ، علموا سر القدر .
أو لم يعلموا لمقاصد :
أحدها ، تميز أهل الدارين .
وثانيها ، إيصال كل بكمال ما يقتضى حقيقته .
وثالثها ، الحجة لهم وعليهم ، إذ الأنبياء ، عليه السلام ، حجج الله على خلقه .
كما قال تعالى : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " . فتسمية المحجوب أو النبي أو الولي أو المكاشف لسر القدر ، ذلك ( نزاعا ) إنما هو بالنسبة إلى عدم قبوله الأمر الإلهي التكليفي ، ومنازعه ما يعطى حقيقته من الضلال لما تعطى حقيقة النبي من الهداية ، فوقع النزاع .
وإنما كان عرضيا ، لأنه بالنظر إلى الغير لا إلى ذاته .

( وهو من المقلوب ، فإنه من قولهم : " قلوبنا غلف " . أي ، في غلاف ) ( هو ) يجوز أن يكون عائدا إلى ( النزاع ) المذكور .
أي ، النزاع المذكور ، مقلوب بالقلب المعنوي قلبه أهل الحجاب ، لكون قلوبهم في أكنة ، فإنه وفاق في نفس الأمر ، ولا يعلم الحق منه إلا كذلك ، وما يعطيه ربه الحاكم عليه إلا ذلك ، كما يعطى رب المحجوبين الوفاق نزاعا هذا وجه .
والأولى منه أن يكون الضمير عائدا إلى قوله : ( غافلون ) . أي ، ( الغافل ) مقلوب من ( الغلف ) ، فإنه من ( غفل ) ، المغلوب من غلف .
ويؤكده قوله : ( فإنه من قولهم : " قلوبنا غلف . . " ) . أي ، مأخوذ من ( الغلف ) . وهذا أيضا تقرير سبب تسميتهم للوفاق نزاعا .
قال تعالى - حاكيا عن الكفار - وقالوا : ( قلوبنا غلف ) . ( بل لعنهم الله بكفرهم ، فقليلا ما يؤمنون ) . أي ، قلوبنا في غلاف ، أي ، في حجاب . إذ لا شك أن الغافل إنما يغفل عن الشئ بواسطة الحجاب الذي يطرأ على قلبه . فالغافلون عن الآخرة هم الذين قلوبهم في غلاف وحجاب .

( وهو ( الكن ) الذي ستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه . ) وهو ، أي الغلاف ، هو ( الكن ) المذكور في قوله تعالى : " إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ، وفي آذانهم وقرا " . فهو الذي ستر القلب وحجبه عن إدراك الحقائق على ما هي عليه .
ولما كان قوله : ( وهو من المقلوب . ) اعتراضا وقع في أثناء تقريره :
أن المعرفة تمنع العارف من التصرف ، قال : ( فهذا ) أي ، هذا الذي ذكرناه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأمثاله يمنع العارف من التصرف في العالم . قال الشيخ أبو عبد الله بن قائد للشيخ أبى السعود بن الشبلي : لم لا تتصرف ؟ )
فقال أبو السعود : تركت الحق يتصرف لي كما يشاء . ويريد قوله تعالى آمرا : " فاتخذه وكيلا " . ف‍ ( الوكيل ) هو المتصرف . ولا سيما وقد سمع ) أي ، سمع أبو السعود .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أن الله يقول : " وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " . فعلم أبو السعود والعارفون أن الأمر الذي بيده ليس له ، وأنه مستخلف فيه .
ثم قال له الحق : هذا الأمر الذي استخلفتك فيه وملكتك إياه ، إجعلني واتخذني فيه وكيلا .
فامتثل أبو السعود أمر الله ، فاتخذه وكيلا . فكيف يبقى لمن شهد مثل هذا الأمر همة ، يتصرف بها ؟ والهمة لا تفعل إلا بالجمعية التي لا متسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه .
وهذه المعرفة تفرقه عن هذه الجمعية ، فيظهر العارف التام المعرفة بغاية العجز والضعف .
قال بعض الأبدال للشيخ عبد الرزاق : قل للشيخ أبى مدين بعد السلام عليه : يا أبا مدين ، لم لا يعتاص علينا شئ ، وأنت تعتاص عليك الأشياء ، ونحن نرغب في مقامك ، وأنت لا ترغب في مقامنا ؟ وكذلك كان ) هذا كلام الشيخ رضي الله عنه  
. أي ، وكذلك كان أبو مدين تعتاص عليه الأشياء ، وكان يرغب غيره في مقامه ، وهو لا يرغب في مقام غيره .

( مع كون أبى مدين رضي الله عنه  كان عنده ذلك المقام ) أي ، مقام البدلاء . ( وغيره . ونحن أتم في مقام العجز والضعف منه . ) أي ، من أبى مدين .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومع هذا قال له هذا البدل ما قال . وهذا ) أي ، وعدم التصرف والظهور بمقام الضعف والعجز .
( من ذلك القبيل أيضا . ) أي ، ومن قبيل ما يمنع من التصرف ، وهو المعرفة بمقام العبودية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقال ، صلى الله عليه وسلم ، في هذا المقام عن أمر الله له بذلك : " ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم ، إن اتبع إلا ما يوحى إلى " . فالرسول يحكم ما يوحى إليه به ما عنده غير ذلك . )
أي ، ليس عنده إلا الظهور بالعجز ، وعدم العلم بما في الغيب  من الأحوال والحقائق .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن أوحى إليه بالتصرف بجزم ، تصرف ، وإن منع ، امتنع ، وإن خير ، أختار ترك التصرف . ) وظهر بمقام عبوديته وترك التصرف لربه تأدبا
بآداب العبودية ، وملازمة لما يقتضيه ذاته من الضعف والعجز .
( إلا أن يكون ) أي ، المخير . ( ناقص المعرفة . ) فإنه يتصرف لجهله بمقام المتصرف فيه ، وظهور نفسه بمقام الربوبية الذي هو نقص بالنسبة إلى الكمل ، وعدم علمه بما هو ذاتي له من الضعف والفقر والمسكنة والعجز ، ولعدم علمه بأن التخيير قد يكون ابتلاء من الله ، ولعدم التأدب بين يدي الله .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال أبو السعود لأصحابه المؤمنين به : " إن الله أعطاني التصرف منذ خمس عشرة سنة ، وتركناه تظرفا " . هذا  لسان إدلال . ) أي ، هذا الذي ذكره أبو السعود ، لسان من يتدلل على ربه ، وهو نوع من سوء الأدب بالنسبة إلى الحضرة الإلهية . ( وأما نحن ، فما تركناه تظرفا وهو تركه إيثارا ،  ) أي ، ( التظرف ) عبارة عن ترك التصرف على سبيل الإيثار .
( وإنما تركناه لكمال المعرفة ، فإن المعرفة لا يقتضيه ) أي ، لا يقتضى التصرف .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بحكم الاختيار ، فمتى تصرف العارف بالهمة في العالم ، فعن أمر إلهي وجبر لا بالاختيار . ولا شك أن مقام الرسالة تطلب التصرف لقبول الرسالة التي جاء بها ، فيظهر عليه ما يصدقه عند أمته وقومه ) من المعجزات وخارق العادات .
( ليظهر دين الله ، والولي ليس كذلك . ومع هذا فلا يطلبه الرسول في الظاهر .)
أي ، ومع أن الرسول يحتاج في إظهار دين الله إلى التصرف وخرق العادة ، فلا يطلب التصرف في الظاهر .
( لأن للرسول الشفقة على قومه ، فلا يريد أن يبالغ في إظهار الحجة عليهم ، فإن في ذلك هلاكهم ، فيبقى عليهم . ) من ( الإبقاء ) . أي ، يبقى عليهم صورة الحجاب تعطفا ورحمة منه عليهم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد علم الرسول أيضا أن الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة ، فمنهم من يؤمن عند ذلك ، ومنهم من يعرفه ويجحده ولا يظهر التصديق به ظلما وعلوا وحسدا ، ومنهم من يلحق ذلك بالسحر والإيهام ) أي الشعبذة .
( فلما رأت الرسل ذلك وأنه لا يؤمن إلا من أنار الله قلبه بنور الإيمان ، ومتى لم ينظر الشخص بذلك النور المسمى إيمانا ، فلا ينفع في حقه الأمر المعجز . فقصرت الهمم ) أي ، همم الأنبياء . ( عن طلب الأمور المعجزة . ) أي ، من الله .
( لما لم يقم أثرها في الناظرين ) لعدم إعطاء حقائقهم وأعيانهم الثابتة قبولها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا في قلوبهم ، كما قال في حق أكمل الرسل وأعلم الخلق وأصدقهم في الحال : " إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء " ).
ولو كان للهمة أثر ، ولا بد لم يكن أحد أكمل من رسول الله ، صلى الله عليه
وسلم ، ولا أعلى وأقوى همة منه ، وما أثرت في إسلام أبى طالب عمه ، وفيه نزلت الآية
التي ذكرناها ولذلك قال في الرسول : إنه ما عليه إلا البلاغ .

وقال : ( " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء " . ) كل هذا غنى عن الشرح .
( وزاد في سورة ( القصص ) : " وهو أعلم بالمهتدين " . أي ، بالذين أعطوه . )
أي ، أعطوا الحق . أي ، ( العلم بهدايتهم في حال عدمهم بأعيانهم الثابتة . فأثبت أن العلم تابع للمعلوم : فمن كان مؤمنا في ثبوت عينه وحال عدمه ، ظهر بتلك الصورة في حال وجوده . وقد علم الله ذلك منه أنه هكذا يكون ، فلذلك قال : " 
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 12:18 pm

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

فص لوط على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية
وهو أعلم بالمهتدين " . فلما قال مثل هذا ، قال أيضا : " ما يبدل القول لدى " . لأن قولي على حد علمي في خلقي . " وما أنا بظلام للعبيد " . أي ما قدرت عليهم الكفر الذي يشقيهم ، ثم طالبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به ، بل ما عاملناهم إلا بحسب ما علمناهم ، وما علمناهم إلا بما أعطونا من نفوسهم مما هم عليه : فإن كان ظلما ، فهم الظالمون .
ولذلك قال : " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " . فما ظلمهم الله . كذلك ما قلنا لهم إلا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم ، وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ، ولا نقول كذا . فما قلنا إلا بما علمنا أنا نقول ، فلنا القول منا ، ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السماع منهم . ) ألفاظه ظاهرة .
والمقصود بيان سر ( القدر ) . وقد مر في المقدمات أن الله يعلم ذاته وأسمائه  وصفاته بذاته ، ويعلم الأعيان التي هي صور الأسماء بعين ما يعلم ذاته ، فكما لا يعلم من ذاته وأسمائه وصفاته إلا ما تعطيه الذات والأسماء والصفات مما هي عليها ، كذلك لا يعلم من الأعيان إلا ما تعطيه الأعيان واستعداداتها مما هي عليها ، فعلمه تعالى تابع للمعلوم من هذا الوجه ، وإن كان المعلوم تابعا للعلم من وجه آخر .
فمن كانت عينه مؤمنة حال ثبوتها وحال كونها موصوفة بالعدم بالنسبة إلى الخارج ، فهو يظهر مؤمنا عند سماع أمر الله بقوله : ( كن ) . ومن كان كافرا أو عاصيا أو منافقا ، فهو يظهر في الوجود العيني بتلك الصفة . فالحق ما يعاملهم إلا بما يقتضى أعيانهم باستعداداتها وقبولها : إن خيرا ، فخير ، وإن شرا ، فشرا . فمن وجد خيرا ، فليحمد الله ، ومن
وجد دون ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه – " فما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " .
ولما تكلم من طرف القابل ، تكلم من طرف الفاعل بقوله : ( كذلك ما قلنا لهم . . . ) أي ، ما أمرناهم إلا ما يقتضيه ذاتنا وأسماؤنا ، فمنا القول والأمر ، ومنهم السماع والامتثال .
ولما كان الأمر من الله على قسمين :
قسم لا يمكن أن لا يمتثل له شئ من الأعيان.
وقسم يمكن أن لا يمتثل له بعض الأعيان.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السماع منهم . ) أما الأول ، فهو الأمر الذي به توجد الأعيان ، وهو قول : ( كن ) .
إذ عدم الامتثال فيه محال ، لأن أعيان الممكنات كلها طالبة للوجود العيني من الحضرة الإلهية ، فلا يمكن أن لا يمتثل له شئ منها .
وأما الثاني ، فهو الأمر بالإيمان والهداية وتوابعهما ، فإن من لا تكون عينه قابلة له أو للوازمه ، لا يمكن أن يمتثل له .
قال الشيخ رضي الله عنه : 
(فالكل منا ومنهم  ..... والأخذ عنا وعنهم )
أي ، فكلما يحصل من التجليات والأحوال العارضة على الموجودات ، منا بحسب الفاعلية ، ومنهم بحسب القابلية ، وتلك التجليات والأحوال بحسب أخذ العلم عن ذاتنا مما هي عليها من الأسماء والصفات ، وعن ذواتهم ، لأن ذواتهم حال كونها في العدم ، منتقشة بجميع ما يطرأ عليها من الأزل إلى الأبد ، فالأخذ عنا بالإيجاد والإظهار ، والأخذ عنهم بالاتصاف والقبول .

أو فالكل منا بحسب القابلية وإعطاء أعياننا للحق ما يفيض علينا من التجليات والأحوال ، ومنهم ، أي ومن الأسماء الأسماء الإلهية ، بحسب الفاعلية .
والأخذ عنا ، أي ، يأخذ الحق عنا ما تعطيه ذواتنا . وعنهم ، أي ، يأخذ عن أسمائه ما تعطيه الأسماء من الإيجاد والقدرة وغيرها .

وهذا أنسب للبيت الثاني وهو قوله رضي الله عنه   :
( إن لا يكونون منا   ..... فنحن لا شك منهم)
) أي ، إن كانت الأسماء بحيث لا يكونون منا ، فوجودنا لا شك حاصل منهم ، أي ، من تلك الأسماء ، سواء كان الوجود علميا أو عينيا . ف‍ ( كان ) مع اسمها مقدرة بعد ( إن ) .
كقولهم : إن خيرا ، فخير .
فعلى المعنى الأول من البيت الأول ، معناه : 
إن لم يكن وجود الأعيان من الأسماء ، فوجود الأسماء لا شك منهم ، أي من الأعيان ، فيلزم انقلاب الرب مربوبا ، والمربوب ربا ، وكون الأعيان موجودة بأنفسها علما وعينا ، لأنها إذا كانت علة الأسماء ، كانت متقدمة عليها بالذات ، والذات الإلهية من حيث هي هي غنية عن العالمين .
فبقى أن توجد الأعيان بأنفسها من غير طلب الأسماء إياها ، ويلزم انخرام قواعد التوحيد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتحقق يا ولى هذه الحكمة الملكية من الكلمة اللوطية ، فإنها لباب المعرفة . )
إنما جعل هذه الحكمة ( لباب المعرفة ) لأنها مشتملة على بيان الضعف الأصلي الذي هو للخلق ذاتي ، وعلى بيان أن كمال المعرفة تمنع صاحبها من التصرف في العالم وأهل العالم يزعمون خلافه ، وعلى بيان أسرار القدر الذي لا يعلمها إلا أكابر الأولياء .

ولذلك قال الشيخ رضي الله عنه :
 ( فقد بان لك السر ..... وقد اتضح الأمر )
أي ، ظهر لك سر القدر واتضح أمر الوجود على ما هو عليه ، والأمر الذي اشتبه
على علماء الظاهر كلهم ، حيث ذهب بعضهم إلى الجبر المحض بنسبة الفعل إلى الحق فقط ، وبعضهم
إلى القدر الصرف بنسبة الفعل إلى العبد فقط ،
فاتضاحه أن الفعل يحصل منهما . كما مر ، وسيجئ بيانه في الفص التالي لهذا الفص .
قال الشيخ رضي الله عنه : 
( وقد أدرج في الشفع  ..... الذي قيل هو الوتر )
أي ، الواحد الحقيقي الذي يوصف ب‍ ( الوتر ) أدرج في ( الشفع ) ، وهو أعيان العالم ، لأنها وقعت في المرتبة الثانية . وبهذا الإدراج حصلت الأعيان ، إذ الواحد هو الذي بتكراره يحصل منه الشفع ، وبزيادة الواحد عليه ، يحصل الفرد .
فقوله رضي الله عنه : ( الذي قيل هو الوتر ) مفعول أقيم مقام الفاعل للفعل المبنى للمفعول ، وهو ( أدرج ) . ولا ينبغي أن يتوهم أنه صفة ( الشفع ) ، فإنه قسيم للوتر ، إذ ( الوتر ) هو الفرد . ومن توهم فقد غلط .
ولا بد أن يعلم أن ( الوتر ) و ( الفرد ) قد يطلق ويراد به ما يقابل الشفع .
وبهذا الاعتبار إطلاقه على الحق يكون حسب مقام جمعه الإلهي ، كما قال : ( إن مسمى الله أحدي بالذات كل بالأسماء ) .
وقد يطلق ويراد به الواحد الذي ليس من العدد وهو أصله . وبهذا الاعتبار يكون إطلاقه على الحق حسب مقام جمع الجمع الذي هو الهوية المطلقة المسماة ب‍ ( الأحدية ) .

والله أعلم بالصواب .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 12:20 pm

14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي 

الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية
والمراد بالحكمة ( القدرية ) سر القدر والأعيان الثابتة والنقوش التي فيها ، لا نفس ( القدر ) الذي هو بعد ( القضاء ) المعبر عنه بتوقيت في عينها ، فإن هذا القضاء والقدر مرتب على الأعيان الثابتة ونقوشها الغيبية .
وإنما اختصت الكلمة ( العزيرية ) بهذه الحكمة القدرية ، لأن عينه كانت باستعدادها الأصلي طالبة لمعرفة سر القدر وشهود الإحياء ، ولذلك قال مستبعدا عند مروره بالقرية الخربة : ( أنى يحيى هذه الله بعد موتها ؟ ) فأشهده الله في نفسه وحماره ذلك بإماتتهما وإحيائهما .
كما قال : فأماته الله مأة عام ، ثم بعثه إظهارا للقدرة على الإعادة .
ولما كان ( القضاء ) حكما كليا في الأشياء على ما يقتضيها أعيانها ، و ( القدر ) جعله جزئيا معينا مخصوصا بأزمنة مشخصة له ، قدم القضاء على القدر فقال :
قال رضي الله عنه : ( اعلم ، أن القضاء حكم الله في الأشياء . ) وراعى فيه معناه اللغوي ، إذ القضاء لغة (الحكم).
يقال : قضى القاضي . أي ، حكم الحاكم من جهة الشرع .
وفي الاصطلاح عبارة عن الحكم الكلى الإلهي في أعيان الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية من الأزل إلى الأبد .
قال رضي الله عنه : ( وحكم الله في الأشياء على حد علمه بها وفيها . ) إذا الحكم يستدعى العلم بالمحكوم به وعليه وما فيهما من الأحوال والاستعدادات .

قال رضي الله عنه : ( وعلم الله في الأشياء على ما أعطته المعلومات بما هي عليه في نفسها . ) قد مر في المقدمات أن العلم في المرتبة ( الأحدية ) عين الذات مطلقا ، فالعالم والمعلوم والعلم شئ واحد لا مغايرة فيها وفي المرتبة ( الواحدية ) ، وهي الإلهية ، العلم  إما صفة حقيقية ، أو نسبة إضافية . أياما كان ، يستدعى معلوما ليتعلق العلم به ، والمعلوم الذات الإلهية وأسماؤها وصفاتها والأعيان .
فالعلم الإلهي من حيث مغايرته للذات من وجه ، تابع لما تعطيه الذات من نفسها من الأسماء والصفات ، ولما تعطيه الأعيان من أحوالها باستعداداتها وقبولها إياها .
( و (القدر ) توقيت ما عليه الأشياء في عينها ) أي ، ( القدر ) هو تفصيل ذلك الحكم بإيجادها في أوقاتها وأزمانها التي يقتضى الأشياء وقوعها فيها باستعداداتها الجزئية .
فتعليق كل حال من أحوال الأعيان بزمان معين وسبب معين عبارة عن (القدر).


قوله : ( من غير مزيد ) تأكيد ورفع لوهم من يتوهم أن الحق من حيث أسمائه يحكم على الأعيان مطلقا ، سواء كانت مستعدة أو غير مستعدة ، كما يقول المحجوب بأنه تعالى حاكم في ملكه يحكم بما يشاء : يقدر على الكافر الكفر وعلى العاصي المعصية ، مع عدم اقتضاء أعيانها ذلك ، ويكلف عبيده بما لا يطاق لحكمة يعلمها .
( فما حكم القضاء على الأشياء إلا بها ) أي ، إذا كان حكم الله على حد علمه بالأشياء وعلمه تابع لها ، فما حكم الحق على الأشياء إلا باقتضائها من الحضرة الإلهية ذلك الحكم ، أي ، اقتضت أن يحكم الحق عليها بما هي مستعدة له وقابلة .
فأطلق القضاء وأراد القاضي على المجاز .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا هو عين سر القدر الذي يظهر " لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ".)
هذا إشارة إلى قوله : ( فما حكم القضاء على الأشياء إلا بها ) أي ، هذا المعنى هو سر القدر الذي يظهر لمن كان له قلب ، يتقلب في أطوار عوالم الملك والملكوت ، أو ألقى السمع بنور الإيمان الصحيح ، وهو شهيد يشاهد أنوار الحق في بعض عوالمه الحسية والمثالية .


قال رضي الله عنه : ( " فلله الحجة البالغة " . ) أي ، فلله الحجة التامة القوية على خلقه فيما يعطيهم من الإيمان والكفر والانقياد والعصيان ، لا للخلق عليه ، إذ لا يعطيهم إلا ما طلبوا منه باستعدادهم . فما قدر عليهم الكفر والعصيان من نفسه ، بل باقتضاء أعيانهم ذلك وطلبهم بلسان استعدادتهم أن يجعلهم كافرا أو عاصيا ، كما طلب عين الحمار صورته وعين الكلب صورته ، والحكم عليه بالنجاسة
العينية أيضا مقتضى ذاته .

وإذا أمعن النظر في غير الإنسان من الجمادات والحيوانات ، يحصل له ما فيه شفاء ورحمة .
فإن قلت : الأعيان واستعداداتها فائضة من الحق تعالى ، فهو جعلها كذلك .
قلت : الأعيان ليست مجعولة بجعل الجاعل ، كما مر في المقدمات ، بل هي صور علمية للأسماء الإلهية التي لا تأخر لها عن الحق إلا بالذات لا بالزمان ، فهي أزلية وأبدية .
والمعنى بالإضافة ( التأخر ) بحسب الذات لا غير .

قال رضي الله عنه : (فالحاكم في التحقيق تابع لعين المسألة التي يحكم فيها بما يقتضيه ذاتها)  لما أثبت أن الحكم بحسب القابلية التي للأعيان ، وهي أعيان الموجودات ، وكل حال من الأحوال أيضا يقتضى بقابليته حكما خاصا .
عمم القول بقوله ( لعين المسألة ) . إذ ( اللام ) للاستغراق .
أي ، فالحاكم الذي هو الحق في حكمه في الحقيقة تابع للأعيان وأحوالها التي هي أعيان المسائل التي يقع الحكم فيها ، فما يحكم الحاكم في القضاء والقدر إلا بما يقتضيه ذات الأعيان وأحوالها .
قال رضي الله عنه : ( فالمحكوم عليه بما هو فيه حاكم ) بقابليته . ( على الحاكم أن يحكم عليه السلام بذلك . )
ولما كان الأمر في نفسه كما قرره وليس مختصا ببعض الحاكمين دون البعض ، عمم الحكم 
بقوله رضي الله عنه  : (فكل حاكم محكوم عليه بما حكم به وفيه ، كان الحاكم من كان .).
أي ، سواء كان الحاكم حاكما حقيقيا وهو في الباطن ، كالحق سبحانه تعالى والمجردات المدبرات لأمر العالم لعلمهم بما في نفس الأمر ، أو في الظاهر ، كالأنبياء والرسل لاطلاعهم على ما في نفس الأمر من الاستعدادات بالكشف أو الوحي ، أو مجازيا ، كالملوك وأرباب الدول الظاهرة ، لكونهم آلة وحجابا في صدور الحكم من الحاكم الحقيقي .
فأكثر أحكامهم وإن كان ظاهرا مما ينسب إلى الخطأ ، لكن في الباطن كلها صادرة من الله بحسب طبائع القوم واستعداداتهم .
وإذا كان كل حاكم من وجه محكوما عليه ،كان المجازاة بين مقامي الجمع والتفصيل واقعا.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فتحقق هذه المسألة ،فإن القدر ما جهل إلا لشدة ظهوره فلم يعرف ، وكثر فيه الطلب والإلحاح.)
أي ، تحقق مسألة سر القدر .
وإنما قال : ( لشدة ظهوره ) لأن كل ذي بصر وبصيرة يشاهد أن وجود الأشياء صادر من الله في كل آن بحسب القوابل ، كإفاضة الصورة الإنسانية على النطفة الإنسانية والصورة الفرسية على النطفة الفرسية .
وهذا أظهر شئ في الوجود . وكما يترتب إفاضة الصور على الأشياء بالاستعداد والقابلية ، كذلك يترتب إفاضة لوازمها على قابلية تلك الصور . وهذا أيضا أمر بين عند العقل .
وكثير من الأشياء البالغة في الظهور قد يختفي اختفاء لا يكاد يبدو ، كالوجود والعلم والزمان ، وأنواع الوجدانيات والبديهيات أيضا كذلك .
والطلب والإلحاح على معرفة سر القدر من الأنبياء ، عليهم السلام ، إنما كان للاحتجاب . فإن النبي إذا اطلع عليه ، لا يقدر على الدعوة وإجراء أحكام الشريعة على الأمة ، بل يعذر كلا
منهم فيما هو عليه لإعطاء عينه ذلك  .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم ، أن الرسل ، صلوات الله عليهم ، من حيث هم رسل ، لا من حيث هم أولياء وعارفون على مراتب ما هي عليه أممهم ، فما عندهم من العلم الذي أرسلوا به إلا قدر ما تحتاج إليه أمة ذلك الرسل ، لا زائد ولا ناقص )
أي ، الرسل من حيث إنهم رسل ، ما أعطى لهم العلم إلا قدر ما يطلب استعدادات أمته ، لا يمكن أن يكون زائدا عليه ولا ناقصا منه ، لأن الرسول إنما هو مبلغ لما أنزل إليه ، كقوله
تعالى : ( بلغ ما أنزل إليك وما عليك إلا البلاغ إن أنت إلا نذير مبين ) . لأحكام أفعالهم لإصلاح معاشهم ومعادهم .
 
والتبليغ والتبيين لا يكون إلا بحسب استعدادات المبلغين إليهم وأفعالهم ، لا زائدا ولا ناقصا . وأما من حيث إنهم أولياء فانون في الحق ، أو أنبياء عارفون ، فليس كذلك ، لأن هاتين الصفتين
بحسب استعداداتهم في أنفسهم ، لا مدخل لاستعداد الأمة فيها .
فقوله : ( وعارفون ) أي ، ولا من حيث إنهم أنبياء . فنبه بهذا الاطلاع على كون النبوة تعطى العلم والمعرفة بالله والمراتب ، وعلى أن العارفين لهم نصيب من النبوة العامة ، لا الخاصة التشريعية .
 
وقوله رضي الله عنه   : ( على مراتب ما هي عليه أممهم ) بإضافة ( المراتب ) إلى ( ما ) خبر ( أن ) .  و ( هي ) ضمير مبهم مفسره ( أممهم ) .
تقديره : أن الرسل ، من حيث هم رسل ، عالمون على قدر مراتب أممهم على ما هي عليه .


قال رضي الله عنه : ( والأمم متفاضلة ، يزيد بعضها على بعض ، فيتفاضل الرسل في علم الإرسال بتفاضل أممها . وهو قوله : " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض " . ) معناه ظاهر .
و ( هو ) بمعنى ذلك . أي ، وذلك التفاضل ثابت بقوله : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما هم أيضا فيما يرجع إلى ذواتهم ، عليه السلام ، من العلوم والأحكام متفاضلون بحسب استعداداتهم . وهو ) أي ، ذلك التفاضل هو المشار إليه ( في قوله : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض . ) أي ، الرسل يتفاضلون بتفاضل أممهم .
كما يتفاضلون فيما يرجع إلى ذواتهم من العلوم والمعارف والأحكام الإلهية .
ففي الكلام تقديم وتأخير . تقديره : كما هم متفاضلون فيما يرجع إلى ذواتهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقال تعالى في حق الخلق " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " . والرزق منه ما هو روحاني كالعلوم ، وحسى كالأغذية . وما ينزله الحق إلا بقدر معلوم . )
أي ، بقدر يعلمه الحق من استعداد عين العبد في كل حين .
قال رضي الله عنه : ( وهو الاستحقاق الذي يطلبه الخلق . ) أي ، ذلك ( القدر المعلوم ) هو ما استحق الخلق وطلبه
من الحضرة الإلهية .
( فإن الله "أعطى كل شئ خلقه " . ) أي ، أعطى كل شئ مقتضى خلقه وعينه دفعة واحدة في الأزل ، ثم جعله وديعة في خزائن السماوات والأرض ، بل في نفس كل شئ إلى أن يظهر في الحس .
وإليه أشار بقوله : ( فينزل بقدر ما يشاء . ) أي ، في كل حين .
قال رضي الله عنه : ( وما يشاء إلا ما علم فحكم به . وما علم ، كما قلناه ، إلا بما أعطاه المعلوم من نفسه . ) .
أي ، ما تتعلق المشيئة الذاتية إلا بما علم الله من الأعيان ، فحكم بما علم من أحوالها ، وما علم إلا ما أعطى الأعيان من نفسها بحسب استعداداتها .

قال رضي الله عنه : ( فالتوقيت في الأصل للمعلوم ، والقضاء والعلم والإرادة والمشية تبع للقدر . ) أي ، تعيين كل حال من أحوال الأعيان بوقت معين وزمان خاص ، إنما هو في الحقيقة مقتضى الأعيان ، فإنها تطلب باستعداداتها ذلك التوقيت .
والعلم الإلهي تابع للمعلوم ، فالقضاء والقدر الذي هو التوقيت والإرادة والمشيئة كلها تابعة للقدر ، أي المقدور ، إذ القدر بمعنى التوقيت تابع للمقدور .
كما مر آنفا . فما هو المشهور من أن الإرادة مخصصة ، أو المشيئة أو العناية الإلهية مقتضية
أمرا ما ، محمول بالمشيئة والإرادة الذاتية ، لا الأسمائية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فسر القدر من أجل العلوم ، وما يفهمه الله إلا لمن اختصه بالمعرفة التامة ). معناه ظاهر .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالعلم به يعطى الراحة الكلية للعالم به ، ويعطى العذاب الأليم للعالم به أيضا ، فهو يعطى النقيضين . ) .
أي ، العلم بسر القدر يعطى لصاحبه الراحة الكلية ، لأن العلم بأن الحق ما حكم عليه في القضاء السابق إلا بمقتضى ذاته ، ومقتضى الذات لا يمكن أن يختلف عنها بسبب ، به تحصل الاطمينان على أن كل كمال يقتضيه حقيقته وكل رزق صوري ومعنوي يطلبه عينه لا بد أن يصل إليه .
كما قال ، صلى الله عليه وسلم : " إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى يستكمل رزقها . ألا ، فأجملوا في الطلب " .
فيستريح عن تعب الطلب . وإن طلب أجمل في الطلب ، ولا يخاف من الفوات ، ولا ينتظر لعلمه بأن الله في كل حين يعطيه من خزائنه ما يناسب وقته ، فهو واجد دائما من مقصوده شيئا فشيئا ، وما لا يحصل له لا يراه من الغير ، فيحصل له الراحة العظيمة .
 
وكذلك يعطى العذاب الأليم . لأن صاحبه قد يكون مقتضى ذاته أمورا لا تلائم نفسه ، كالفقر
وسوء المزاج وقلة الاستعداد ، ويرى غيره في الغنى والصحة والاستعداد التام ، ولا يرى سببا للخلاص ، إذ مقتضى الذات لا يزول ، فيتألم بالعذاب الأليم .
 
فالعلم بسر القدر يعطى النقيضين : الراحة وعدمها ، والألم وعدمه وإطلاق النقيضين هنا مجاز ، لأن الراحة والألم ضدان ، وهما ليسا نقيضين .
ولما كان كل منهما يستلزم عدم الآخر ،أطلق اسم النقيضين عليها ، كأنه قال : الراحة وعدمها ،والألم وعدمه . وموضوعهما غير متحد أيضا.
 
قال رضي الله عنه : (وبه وصف الحق نفسه بالغضب والرضا ، وبه تقابلت الأسماء الإلهية.)
أي ، وبسبب العلم بسر القدر وصف الحق نفسه بالغضب والرضا ، لأنه يعلم ذاته بذاته ويعلم ما تعطيه ذاته من النسب والكمالات المعبر عنها بالأسماء والصفات ، ومن جملة نسبه الرضا والغضب ، فالعلم بذاته أعطاه الرضا والغضب ، ولهاتين النسبتين انقسم الأسماء إلى .
( الجمال ) و ( الجلال ) ، ومن هذا الانقسام حصل الداران : الجنة والنار .
فصح أيضا أن العلم بالذات من حيث الرضا والغضب ، هو سبب تقابل الأسماء الإلهية .
هذا من جهة الذات وأسمائها .
وأما من جهة الأعيان ، فالعلم بها أيضا يعطى الحق الرضا والغضب ، لأن العين المؤمنة المطيعة لأمر الله تطلب من الله تعالى أن يتجلى لها بالرضا واللطف ، والعين الآبية الكافرة يطلب من الله أن يتجلى عليها بالغضب والقهر ، فأظهرت الأعيان أحكام نسبة الرضا والغضب ووجودهما بالفعل .
فتقابلت الأسماء الإلهية ، وانقسمت بالجمال والجلال ، لأن كل ما يتعلق بالرضا واللطف فهو الجمال ، وما يتعلق بالقهر والغضب فهو الجلال .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فحقيقته تحكم في الموجود المطلق والموجود المقيد ، لا يمكن أن يكون شئ أتم منها ولا أقوى ولا أعظم ، لعموم حكمها المتعدى وغير المتعدى ) أي ، فحقيقة العلم بسر القدر ، أو حقيقة سر القدر ، تحكم في الموجود المطلق .
وفي بعض النسخ : ( في الوجود المطلق ) . أي ، في الحق بإثبات الرضا والغضب له
والاتصاف بالأسماء الجمالية والجلالية .
وتحكم أيضا أن توجد كل عين بما يقتضى استعدادها ويقبل ذاتها ، ويحكم في الموجود المقيد بالسعادة والشقاوة ، وكونه مرضيا عند ربه أو مغضوبا عليه ، وأن يوجد بمقتضى عينه في الأخلاق والأفعال وجميع كمالاته .
فلا يمكن أن يكون شئ أتم من حقيقة سر القدر ، لأن حكمها عام : تحكم في الحق وأسمائه وصفاته كلها من حيث إنها تابعة للأعيان ، وتحكم في جميع الموجودات .
والمراد ب‍ ( الحكم المتعدى ) الأحكام والتأثيرات التي تقع من الأعيان في مظاهرها ، ويتعدى منها إلى غيرها بالفعل والانفعال .
وغير المتعدى ما يقع في مظاهرها فقط ، كالكمالات النفسانية من العلم والحكمة وغيرها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما كانت الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، لا تأخذ علومها إلا من الوحي الخاص الإلهي ، فقلوبهم ساذجة من النظر العقلي ، لعلمهم بقصور العقل من حيث
نظره الفكري عن إدراك الأمور على ما هي عليه .
والإخبار أيضا يقصر عن إدراك مالا ينال إلا بالذوق ، فلم يبق العلم الكامل إلا في التجلي الإلهي ، وما يكشف الحق عن أعين البصائر والأبصار من الأغطية ،فتدرك الأمور قديمها وحديثها وعدمها ووجودها ومحالها وواجبها وجائزها على ما هي عليه في حقائقها وأعيانها.)
أي ، لما كانت علوم الأنبياء ، عليه السلام ، مأخوذة من الوحي ، كانت قلوبهم ساذجة مما يتعلق بالنظر العقلي ، لأنه طريق الانتقاش بالتعمل والكسب .
والأمر ، كما هو ، لا يتجلى إلا في القلب المجلو الفارع عن النقوش .
والإخبار لا يمكن إلا عما يمكن التعبير عنه ويسمع العبارة ، أما مالا يمكن ، كالوجدانيات والمدركات بالذوق ، فيقصر الإخبار أيضا عن إيضاحه ، فلا يحصل العلم التام به ، كمالا يحصل بطريق النظر العقلي .
 
فلم يبق أن يدرك الحقائق على ما هي عليه إلا في التجلي الإلهي ، ليشاهد تارة في العالم المثالي المقيد ، وأخرى في المطلق ، وأعلى منهما في عالم المجردات ، وأعلى من ذلك أيضا في عالم الأعيان ، فيحصل الاطلاع بحقائق الأمور ، قديمها وحديثها وعدمها ووجودها ومحالها وواجبها ، على ما هي عليه في حقائقها وأعيانها .
فجواب ( لما ) قوله : ( فقلوبهم ) . و ( ما ) في ( وما يكشف ) مصدرية . أي ، فلم يبق العلم الكامل إلا في التجلي وكشف الحق .
 
و ( من ) في قوله : ( من الأغطية ) للبيان ، والمبين مقدر . وهو ما طرأ على أعين البصائر والأبصار ، فمنعها عن شهود الحقائق والأسرار .
ويجوز أن يكون ( ما ) بمعنى الذي ، و ( من الأغطية ) بيانا له . فمعناه : فلم يبق العلم الكامل إلا في التجلي وفيما يكشف الحق ، أي ، يرفعه الحق عن أعين البصائر والأبصار من الأغطية . وهذا أنسب .
 
وإنما قال : ( عن أعين البصائر والأبصار ) لأن الأغطية إذا ارتفعت ، يتحد النوران : نور البصيرة ونور البصر ، فيدرك بكل منهما ما يدرك بالآخر ، وكذلك يدرك بالسمع ما يدرك بالبصر وبالعكس . هذا أيضا من خصوصيات الكشف التام الذي هو فوق طور العقل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما كان مطلب " العزير " على الطريقة الخاصة ، لذلك وقع العتب عليه ، كما ورد في الخبر . ولو طلب الكشف الذي ذكرناه ، ربما كان لا يقع عليه عتب في ذلك .)
المراد ب‍ ( الطريقة الخاصة ) طريق الذوق . وهو الاتصاف هنا بصفة القدرة على الإحياء ذوقا . وإنما وقع العتب عليه ، لأنها من الخصائص الإلهية ويدل عليه .
ما ذكره من بعد ، وطلب أن يكون له قدرة يتعلق بالمقدور .
ويجوز أن يكون المراد بها طريق الوحي . لكن الأول أولى ، إذ لا تعتب على ما يطلبه نبي بالوحي .
إلا أن يقال العتب مترتب على الطلب على سبيل التعجب والاستغراب بالنسبة إلى القدرة العظيمة الإلهية . وذلك عين سوء الأدب مع الله .
 
أي ، لما كان طلب العزير الاطلاع على سر القدر ذوقا واتصافا بالقدرة ، أو بطريق الوحي - إذ هو الطريقة الخاصة بالأنبياء لكونهم يحترزون عن النظر بالعقل في الأمور الإلهية خصوصا في مثل هذا المقام مع الاستغراب والتعجب - وقع العتب عليه .
 
كما ورد في الخبر من أنه قيل له : ( لئن لم تنته يا عزير ، لأمحون اسمك من ديوان النبوة ) .
لأن مثل هذا السؤال لا يليق بمن تحقق بالحقائق الإلهية وعلم طريقها .
وكان الواجب أن يستصغر كل عظيم بالنسبة إلى قدرته تعالى .
فمن سذاجة قلبه سأل ما سأل على الطريقة الخاصة حتى وقع في معرض العتب .
ولو كان على طريق الكشف لحصول الاطمينان ، لا على طريق التعجب والاستغراب ، لما وقع عليه العتب .
 
كما لم يقع على إبراهيم إذ قال : ( رب أرني كيف تحيى الموتى . قال . . . ) - الآية .
وهذا المعنى بلسان أهل الظاهر ، لذلك قال فيما بعد : ( وأما عندنا ) إلى آخره .
( والدليل على سذاجة قلبه قوله في بعض الوجوه : " أنى يحيى هذه الله بعد موتها " . ) أي ، والدليل على سذاجة قلبه قوله : " أنى يحيى هذه الله بعد موتها" .
وإنما قال : ( في بعض الوجوه ) فإن أصحاب التفاسير اختلفوا في أن المار على القرية
الخاوية القائل بهذا الكلام من كان ؟
فمنهم من قال إنه عزير ، عليه السلام . وهو قول ( قتادة ) . وقال ( وهب ) : هو ( إرميا ) . وقيل ( الخضر ) وقال ( الحسن ) : ( كان علجا كافرا مر على قرية ، وكان على حمار ، ومعه سلة تبن ) . وقيل : تين وعنب . والله أعلم .
فمعناه : الدليل على سذاجة قلبه هذا القول في بعض الوجوه المذكورة .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما عندنا فصورته ، عليه السلام ، في قوله هذا كصورة إبراهيم : "أرني كيف تحيى الموتى" . ويقتضي ذلك الجواب بالفعل الذي أظهره الحق فيه في قوله : ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه فقال له وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما  . فعاين كيف تنبت الأجسام معاينة تحقيق ، فأراه الكيفية . ) أي ، وأما عند أهل الكشف ، فصورة قوله ، عليه السلام ، من حيث المعنى كصورة قول إبراهيم ، عليه السلام : " رب أرني كيف تحيي الموتى . قال : أو لم تؤمن ؟ " أي ، ليس قوله : " أنى يحيى هذه الله بعد موتها " بمعنى الاستبعاد والتعجب .
 
فإن المتحقق بمقام النبوة والولاية لا يستبعد من الله القادر الموجد المحيي المميت أن يعيد الأموات ويوجدهم مرة أخرى .
بل المؤمن بالأنبياء ، الكامل في إيمانه ، لا يستبعد ذلك ، فإنه يقدح في إيمانه ، فكيف يتصور من النبي قد وإنما هو شأن المحجوبين بالعادة عن القدرة الإلهية .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 12:20 pm

14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي 

الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية
بل بمعنى كيف : فإنه ، عليه السلام ، يطلب أن يريه الحق كيفية إحياء الموتى ، ليكون في ذلك صاحب شهود ، ويقتضي ذلك ، أي السؤال ، الجواب بالفعل ، فأجابه بإماتته وإعادته ثانيا ،فيشاهد كيف تنبت الأجسام ،شهودا محققا.
وفي قوله : " كيف تنبت " إشارة إلى ما ذكره في الفتوحات ، في الباب الرابع والستين ، من أن أجسام الأموات تنبت من " عجب الذنب " .
والظاهر أن المراد بالأجزاء الأصلية التي لم تتفتت  
قال رضي الله عنه :  ( فسأل عن القدر الذي لا يدرك إلا بالكشف للأشياء في حال ثبوتها في عدمها  ، فما أعطى ذلك ، فإن ذلك من خصائص الاطلاع الإلهي . )
( فسأل ) ليس عطفا على قوله : ( فأراه ) إذ السؤال لم يكن بعد الإراءة ، بل قبلها . فهو استيناف .
ومعناه : أنه سأل الله أن يطلعه على سر القدر الذي هو العلم بالأعيان حال ثبوتها في
عدمها ، وبكيفية تعلق القدرة بالمقدور . فما أعطى ذلك . فإنه مخصوص بالله ولمن أراد أن يطلعه .
كما قال رضي الله عنه  : ( ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء ) . بل أراه كيفية الإحياء في نفسه ، وما أراه الأعيان لا عين نفسه ولا عين غيره من أهل القرية ، وما اطلعه على كيفية تعلق القدرة بالمقدور اطلاعا على سبيل الذوق ، لأنه لا يكون إلا لصاحب القدرة بالإيجاد ، فهو من خصائص الاطلاع الإلهي .
ولا يلزم من شهود كيفية الإحياء الاطلاع بعين نفسه التي هي الثابتة في علم الله تعالى ، ولا الاطلاع بكيفية تعلق القدرة بالمقدور على سبيل الذوق . وما يذكر بعد يدل على ما ذكرناه .
( فمن المحال أن يعلمه إلا هو ، فإنها ) أي ، الأعيان .
قال رضي الله عنه : ( المفاتيح الأول ، أعني ، مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو ، ) كما قال تعالى : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) .
واعلم ، أن الأعيان هي المفاتيح الأول بالنسبة إلى الشهادة ، لا مطلقا ، فإن الأسماء الذاتية المقتضية للأعيان هي المفاتيح الأول مطلقا ، لأنها مفاتيح الأعيان وأربابها أيضا
قال رضي الله عنه : ( وقد يطلع الله من يشاء من عباده على بعض الأمور من ذلك . )
كما قال : ( ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء ) .
وقال رضي الله عنه  : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا )
( واعلم ، أنه لا تسمى " مفاتيح " إلا في حال الفتح ، وحال الفتح هو حال تعلق التكوين بالأشياء . )
أي ، الأعيان لا تسمى بالمفاتيح إلا في حال الفتح .
وهو عند تعلق الإرادة بتكوين الأشياء ولما كان ذلك التعلق غير منفك عن تعلق القدرة بها وأن تعلق الإرادة بالتكوين هو بعينه أن تعلق القدرة بالمقدورات .
قال رضي الله عنه  : ( أو قل إن شئت : حال تعلق القدرة بالمقدور . )
وإنما قال رضي الله عنه  : ( ولا ذوق لغير الله في ذلك . ) لأن كل ما وقع عليه اسم الغيرية محصور مقيد ، وكل ما هو مقيد موصوف بالعجز والقصور لا بالقدرة ، فليس لأحد من العباد قدرة على الإيجاد . كما قال : ( لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يخلقوا ذبابا لم يقدروا عليه ) .
قال رضي الله عنه : ( فلا يقع فيها تجل ولا كشف ، إذ لا قدرة ولا فعل إلا لله خاصة ، إذ له الوجود المطلق الذي لا يتقيد . ) .
أي ، فإذا لم يكن لغير الله ذوق في القدرة على الإيجاد ، لا يتجلى الحق للعباد من حيث القدرة ، ولا ينكشف لهم هذا الحال ، إذ القدرة على الإيجاد لله لا للغير .
فضمير ( فيها ) عائد إلى ( القدرة ) واتصاف الكمل بالقدرة على الإيجاد والإعدام في بعض الأعيان وبالنسبة على بعض الأعيان - كما هو مقرر عند الطائفة - إنما هو من حيث عدم المغايرة بينه وبين الحق بفناء جهة العبودية في جهة الربوبية .

أو من جهة الخلافة ، لا الأصالة كما قال الله تعالى عن لسان نبيه عيسى عليه السلام : ( وأبرء الأكمه والأبرص بإذن الله وأحيى الموتى بإذن الله ) .
فلا يرد ( فلما رأينا عتب الحق له ، عليه السلام ، في سؤاله في القدر ، علمنا أنه طلب هذا الاطلاع ) أي ، الاطلاع على كيفية تعلق القدرة بالمقدور على سبيل الذوق .
( فطلب أن يكون له قدرة يتعلق بالمقدور ، وما يقتضى ذلك إلا من له الوجود المطلق.) كالحق تعالى ومن فنى وجوده وإنيته في الحق من العباد .

قال رضي الله عنه :  ( فطلب مالا يمكن وجوده في الخلق ذوقا ، فإن الكيفيات لا تدرك إلا بالأذواق . ) كما لا يمكن للعنين إدراك لذة الوقاع على سبيل السماع . وجميع الوجدانيات بهذه المرتبة .
فمن ليس له قوة الوجدان ، لا يمكن له حصول العرفان .
قال رضي الله عنه :  ( وأما ما رويناه مما أوحى الله به إليه : " لئن لم تنته ، لأمحون اسمك من ديوان النبوة" ) .
أي ، أرفع عنك طريق الخبر ، وأعطيك الأمور على التجلي ، والتجلي لا يكون إلا بما أنت عليه من الاستعداد الذي به يقع الإدراك الذوقي ، فتعلم أنك ما أدركت إلا بحسب استعدادك ، فتنظر في هذه الأمر الذي طلبت ، فلما لم تره ، تعلم أنه ليس عندك الاستعداد الذي تطلبه ، وإن ذلك من خصائص الذات الإلهية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فقد علمت أن الله " أعطى كل شئ خلقه " . فإن لم يعطك هذا الاستعداد الخاص ، فما هو خلقك ، ولو كان خلقك ، لأعطاكه الحق الذي أخبر أنه أعطى كل شئ خلقه . فتكون أنت الذي تنتهي عن مثل هذا السؤال من نفسك ، لا تحتاج إلى نهى إلهي . وهذا عناية من الله بالعزير ، عليه السلام . علم ذلك من علمه ، وجهله من جهله . )

جواب ( أما ) قوله : ( أي أرفع ) . تقديره : وأما ما رويناه من قوله تعالى ب‍ ( لئن لم تنته
لأمحون اسمك من ديوان النبوة ) . فمعناه : أرفع عنك طريق الخبر ، وأعطيك الأمور على التجلي .
ولما كانت النبوة مأخوذة من ( النبأ ) وهو الخبر ، فسر طريق الكشف ، لأن النبي ولى ، ومن شأن الأولياء الكشف ، فإذا ارتفع الحجاب وانكشف حقائق الأمور ، علم أن الحق ما يعطى لأحد شيئا إلا بحسب الاستعداد .
فإذا نظر ولم يجد في عينه استعداد ما يطلبه ، ينتهى عن الطلب ويتأدب بين يدي الله ، ولا يطلب ما ليس في وسعه واستعداده .
ويعلم أن مطلوبه مخصوص بالحق ، ليس لغيره فيه ذوق ولا كشف .

ويعلم أن الله أعطى كل شئ خلقه ، أي استعداده الذي يخلق في الشهادة بحسبه عند تعين المهيات وفيضها أزلا ، فمن أعطى له الحق هذا الاستعداد الخاص وجعله خليفة ، يصدر منه ذلك ، كالإحياء من عيسى عليه السلام وشق القمر من نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، والتصرفات التي يتعلق بالقدرة .
ومن لم يعط له ذلك ، لم يمكن صدوره منه ، سواء طلب ذلك أو لم يطلب .
ولما كان ظاهر الخبر سلب النبوة عنه وإبعاده من حضرته وهذا لا يليق بمراتب الأنبياء صلوات الله عليهم .
لأنهم المصطفون من العباد وأعيانهم مقتضية لها لا يمكن سلبها عنهم - صرح بأن هذا العتب عناية من الله في حقه وتأديب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " أدبني ربي ، فأحسن تأديبي " علم هذا المعنى من علم من أهل الحجاب والطغيان .
أو لما كان الخبر في الباطن والحقيقة وعدا ، لا وعيدا ، والوعيد عناية من الله في حقه .
 قال رضي الله عنه  : ( علم ذلك الوعد  من علمه ، وجهله من جهله . )

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم ، أن الولاية هي الفلك المحيط العام ، ولهذا لم ينقطع ، ولها الإنباء العام . وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة . وفي محمد ، صلى الله عليه وسلم قد انقطعت ، فلا نبي بعده مشرعا أو مشرعا له ، ولا رسول وهو المشرع . )
لما فسر الغيب بما يتعلق بالولاية ، نقل الكلام إليها .
وإنما أطلق اسم ( الفلك ) عليها ، لأنها حقيقة محيطة لكل من يتصف بالنبوة والرسالة والولاية ، كإحاطة الأفلاك لما تحتها من الأجسام ، ولكون الولاية عامة شاملة على الأنبياء والأولياء ، لم ينقطع ، أي ، ما دام الدنيا باقية .
وعند انقطاعها ينتقل الأمر إلى الآخرة . كما مر في الفص الأول والثاني وللولاية الإنباء العام ، لأن الولي هو الذي فنى في الحق ، وعند هذا الفناء يطلع على الحقائق والمعارف الإلهية ، فينبئ عنها عند بقائه ثانيا .
وكذلك النبي ، لأنه من حيث ولايته يطلع على المعارف والحقائق ، فينبئ عنها ، لكن الولي لا يسمى نبيا ، ولا يسمى الأنبياء العام بالنبوة .
وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة ، وفي نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، قد انقطعت .

لذلك قال : ( لا نبي بعدي ) . يعنى نبيا مشرعا - على صيغة اسم الفاعل - كموسى وعيسى ومحمد ، عليهم السلام . أو نبيا مشرعا له ، أي نبيا داخلا في شريعة مشرع ، كأنبياء بني إسرائيل ، إذا كانوا كلهم على شريعة موسى ، عليه السلام .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا الحديث قصم ظهور أولياء الله ، لأنه يتضمن انقطاع ذوق العبودية الكاملة التامة ، فلا ينطلق عليه اسمها الخاص بها ، فإن العبد يريد أن لا يشارك سيده ، وهو الله في اسم . 
والله لم يتسم بنبي ولا رسول ، وتسمى ب‍الولى واتصف بهذا الاسم فقال : " الله ولى الذين آمنوا " . 
وقال : " هو الولي الحميد " . وهذا الاسم باق جار على عباد الله ، دنيى وآخرة . فلم يبق اسم يختص به العبد دون الحق بانقطاع النبوة والرسالة . ) .

أي ، قوله ، صلى الله عليه وسلم : ( لا نبي بعدي ) . قصم ظهور أولياء الله ، لأن الكاملين المحققين بالفقر التام والعبادة الكاملة التامة لا يختارون المشاركة في اسم من أسماء الله ، لعلمهم بأن الاتصاف بالأسماء الإلهية ليست مقتضى ذواتهم ، لكونه بالنسبة إليهم عرضيا يحصل لهم عند فنائهم في الحق ، بل يريدون أن يظهروا بمقتضى ذواتهم ، وهو العبادة .
كما قال الشيخ رضي الله عنه  : ( لا تدعني إلا ب‍ " يا عبدها ". فإنه أشرف أسمائي ) .

"" أضاف الجامع : قال الشيخ رضي الله عنه عن نعت المحب بأنه مجهول الأسماء
في الفتوحات الباب الثامن والسبعون ومائة في معرفة مقام المحبة
قال الشاعر : لا تدعني إلا بيا عبدها ..... فإنه أشرف أسمائي
فهذا مثل قولهم فيه إنه مخلوع النعوت فالعبودية له ذاتية فما له اسم معين سوى ما يسميه به محبوبه . فبأي اسم سماه ودعاه به أجابه ولباه .
فإذا قيل للمحب ما اسمك يقول سل المحبوب فما سماني به فهو اسمي لا اسم لي أنا المجهول الذي لا يعرف والنكرة التي لا تتعرف المحب الله لا اسم له يدل على ذاته .
وإنما المألوه الذي هو محبوبه نظر إلى ما له فيه من أثر فسماه بآثاره فقبل الحق ما سماه به .
فقال المألوه يا الله قال الله له لبيك
قال المربوب يا رب قال له الرب لبيك
قال المخلوق له يا خالق قال الخالق لبيك
قال المرزوق يا رزاق قال الرزاق لبيك
قال الضعيف يا قوي قال القوي أجبتك.أهـ""  

والنبي والرسول مختصان بالعباد ، لأن الله تعالى لم يتسم بهما . ولا يجوز إطلاق هذين الاسمين عليه "سبحانه" ، بخلاف الاسم ( الولي ) ، فإنه اسم من أسماء الله .
كما قال : " الله ولى الذين آمنوا " .  وقال : " هو الولي الحميد " .
وهذا الاسم ، أي ( الولي ) ، باق وجار ، أي ، مطلق على عباد الله تعالى دنيى وآخرة .
وفي قوله : ( وهذا الحديث قصم ظهور أولياء الله ) وتعليله بانقطاع ذوق العبودية الكاملة ، سر يطلع عليه من أمعن النظر فيه ، وتذكر قوله ،
عليه السلام : ( أنا والساعة كهاتين ) . وتحقق بأسرار القيامة وظهور الحق بفناء الخلق وعبوديتهم   .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إلا أن الله لطيف بعباده ، فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها ، وأبقى لهم التشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام ، وأبقى لهم الوراثة في التشريع .
فقال : " العلماء ورثة الأنبياء " . وما ثمة ميراث في ذلك إلا فيما اجتهدوا فيه من الأحكام ، فشرعوه . )
تقدير الكلام : وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة ، إلا النبوة العامة التي هي الإنباء عن المعارف والحقائق الإلهية من غير تشريع ، فإنها غير منقطعة .

أبقاها الله لعباده لطفا عليهم وعناية ورحمة في حقهم . وأبقى لهم من التشريع أيضا نصيبا ، لكن بحسب اجتهادهم ، لا آخذا من الله بلا واسطة أو بواسطة الملك ، فإنه مخصوص بالأنبياء ، لأن المسائل الاجتهادية والأحكام الظنية نوع  من التشريع ، حاصل من المجتهدين فيه ، وجعلهم من الورثة للأنبياء ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( العلماء ورثة الأنبياء ) . وليس لهم ميراث من أموال الدنيا ، كما قال : "نحن معاشر الأنبياء لا نرث ولا نورث " فميراثهم الأموال الأخراوية.
فالأولياء العارفون وارثون للأنبياء في المعارف والحقائق ، والعلماء المجتهدون وارثون للأنبياء في التشريع بالاجتهاد .
فالأولياء ورثة بواطنهم ، والعلماء ورثة ظواهرهم ، والأولياء العلماء ورثة مقام جمعهم .
ولا تجتمع هذه النبوة العامة والتشريع الموروث في شخص واحد ، لذلك ما اجتهد ولى من الأولياء في حكم من أحكام الشرع ، حتى خاتم الأولياء أيضا يتبع الشريعة في الظاهر .
وجعله للمذاهب مذهبا واحدا ليس تشريعا منه ، لأنه يحكم على ما يشاهد في نفس الأمر متابعا لما حكم به خاتم الأنبياء .
والأئمة الأربعة أولياء بالولاية العامة الشاملة حتى للمؤمنين ، لا الخاصة فلا يرد .

قال رضي الله عنه : ( فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع ، فمن حيث هو ولى وعارف ) وذلك كقوله ، صلى الله عليه وسلم : " لو دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبطتم على الله " .
وكنقل الحديث القدسي : ( لا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل . . . ) - إلى آخره ، والأحاديث المبينة للمقامات والمظهرة لأحوال الآخرة والدرجات ، وغير ذلك مما يتعلق بكشف الحقائق والأسرار الإلهية ، فهو من مقام عرفانه وولايته ، لا من مقام نبوته ورسالته .

قال رضي الله عنه : ( ولهذا مقامه من حيث هو عالم وولى أتم وأكمل من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع . ) أي ، ولأجل أن الولاية غير منقطعة والنبوة منقطعة ، صار مقام النبي ، من حديث إنه عالم بالله وأسمائه وصفاته ، وولى فان عبوديته في ربوبيته ، أتم وأكمل من مقام نبوته ورسالته ، لأن الولاية جهة حقانية ، فهي أبدية ، والنبوة جهة خلقية ، فهي منقطعة غير أبدية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا سمعت أحدا من أهل الله يقول ، أو ينقل إليك عنه أنه قال : الولاية أعلى من النبوة . فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه . )
من أن ولايته أعلى من نبوته ، لا أن ولاية الولي أعلى من نبوة النبي .
وذلك كما يقول فيمن يكون عالما تاجرا خياطا : هو من حيث إنه عالم أعلى مرتبة من حيث إنه تاجر أو خياط . أو من حيث إنه تاجر أعلى من حيث إنه خياط .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أو يقول إن الولي فوق النبي والرسول ، فإنه يعنى بذلك في شخص واحد . وهو أن الرسول من حيث إنه ولى أتم منه من حيث هو نبي ورسول . لا أن الولي التابع له ) أي ، للرسول .
( أعلى منه ، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه ، إذ لو أدركه ، لم يكن تابعا ، فافهم . ) ظاهر مما مر .
قوله : ( إذ لو أدركه ) أي ، بالذوق والوجدان ، كما يدرك المتبوع ذلك . ( لم يكن تابعا ) لأنه مثله وفي مرتبته حينئذ .
( فمرجع الرسول والنبي المشرع إلى الولاية والعلم . ) أي ، إذا علمت أن الرسول والنبي لا يشرع لأمته الأحكام ولا ينبئ عن الحقائق إلا من حيث إنه ولى وعالم بالله ، فمرجعهما إلى الولاية والعلم بالله . فليس المراد بالعلم العلم الكسبي بل اليقيني الذي هو من الشهود الذاتي وما ينتجه .

قال رضي الله عنه :  ( ألا ترى أن الله قد أمره بطلب الزيادة من العلم لا من غيره ، فقال له آمرا : " قل رب زدني علما " . )
أي ، ألا ترى أن الله تعالى أمره بطلب زيادة العلم بقوله : " وقل رب زدني علما ". وما أمر بطلب زيادة النبوة والرسالة ، لأن تعلقهما بالنشأة الدنياوية ، والولاية متعلقة بالنشأة الأخراوية . فأمره بالطلب ، لأنه كلما يتوجه إلى الله ، يحصل له الترقي في مراتب الولاية ، ويطلع بحسب كل مرتبة على علوم تختص بها .
فالأمر بطلب العلم أمر بالترقي في مراتب الولاية ، إذ الأمر بتحصيل اللازم للشئ أمر بتحصيل ملزومه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وذلك أنك تعلم أن الشرع تكليف بأعمال مخصوصة أو نهى عن أعمال مخصوصة ، ومحلها هذه الدار ، فهي منقطعة ، والولاية ليست كذلك ، إذ لو انقطعت لانقطعت من حيث هي ، كما انقطعت الرسالة من حيث هي ، وإذا انقطعت الولاية من حيث هي ، لم يبق لها اسم ، و الولي  اسم باق لله . ) .
كما قال : " إن الله هو الولي الحميد " .
وقال عن لسان يوسف ، عليه السلام : "أنت ولى في الدنيا والآخرة " .
( فهو لعبيده تخلقا تحققا وتعلقا . ) أي ، فالاسم ( الولي ) للعباد يطلق بحسب تخلقهم بالأخلاق الإلهية وهو إشارة إلى الفناء في الأفعال والصفات ، وتحققهم بالذات الإلهية المسماة ب‍ (الولي).
وهو إشارة إلى الفناء في الذات ، لأن ذواتهم إنما يتحقق بهذا الاسم إذا فنيت في الحق وتعلق أعيانهم الثابتة أزلا بالاتصاف بصفة الولاية وطلبهم إياها من الله باستعدادتهم ، أو تعلقهم بالبقاء بعد الفناء .
فالولي اسم لمن فنى عن صفاته وأخلاقه وتخلق بأخلاق الله ولمن فنيت ذاته فيه وتسترت في العين الأحدية وتحققت بها ، ولمن رجع إلى البقاء وتوجه ثانيا وتعلق بعالم الخلق والفناء .

قال رضي الله عنه : ( فقوله للعزير : " لئن لم تنته " عن السؤال عن ماهية القدر " لأمحون اسمك من ديوان النبوة " ) .
فيأتيك الأمر على الكشف بالتجلي ، ويزول عنك اسم "النبي " و " الرسول " ، وتبقى له ولايته . ( فقوله ) مبتداء ، وخبره أحد الأمرين المذكورين من الوعيد والوعد . أي ، هذا القول وعيد عند قوم ووعد عند آخرين . حذفه لدلالة الكلام الآتي عليه .

وقوله : ( وتبقى له ولايته ) أي ، وتبقى لله ولايته ، لأن " الولي " اسم لله بالأصالة ، واسم العبد بالتبعية .
ويجوز أن يكون ضمير ( له ) عائد إلى النبي الذي هو ( العزير ) . أي ، ويزول عنك اسم النبي وتبقى لعزير ولايته ، إذ لا يلزم من انتفاء النبوة والرسالة انتفاء الولاية .
وإنما أتى بضمير الغائب بعد الخطاب ، لأنه كان على سبيل الحكاية عن الله ، وبعد تمامها قال : ( وتبقى لعزير ولايته ) . والباقي ظاهر مما مر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إلا أنه لما دلت قرينة الحال أن هذا الخطاب جرى مجرى الوعيد ، علم من اقترنت عنده هذه الحالة مع الخطاب أنه وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية في هذه الدار ، إذ النبوة والرسالة خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تحوي عليه الولاية من المراتب . )
قوله : ( إلا ) بمعنى ( غير ) . وضمير ( أنه ) للشأن .
وجواب ( لما ) ( علم ) . أي ، غير أنه لما دلت قرينة الحال ، وهي حال السؤال أن هذا الخطاب جرى مجرى الوعيد - لأن الخطاب وقع في صورة العتاب - علم من جعل حالة السؤال مقترنة مع الخطاب أن هذا الكلام وعيد .
وذلك لأن الولاية أعم من النبوة ، وهي أعم من الرسالة ، فالنبوة هي الولاية مع خصوصية أخرى ، والرسالة هي النبوة مع خصوصية أخرى زائدة عليها .
وهاتان الخصوصيتان متعلقتان بدار الدنيا ، ولا يعطيهما إلا الاسم ( الظاهر ) ، كما لا تعطى الولاية إلا  الاسم ( الباطن ) .
فإذا انقطعتا ، تزول فضيلتهما وشرفهما اللذان أعطاهم الاسم ( الظاهر ) ويبقى مجرد الولاية ، فيكون هذا الكلام وعيدا من هذه الحيثية .
وقوله رضي الله عنه  : ( على بعض ما تحوي ) متعلق بمحذوف ، هو صفة ( رتبة ) . أي ، إذ النبوة والرسالة خصوص رتبة مندرجة في الولاية ، مشتملة على بعض ما يحتوي عليها الولاية من المراتب . وفيه إيماء إلى أن رتبة النبوة والرسالة من جملة خصوصيات رتب الولاية باطنا ، وإن كان ظهورهما متوقفا إلى الاسم ( الظاهر ) كما مر .

ويظهر حقية هذا المعنى عند من يعلم أن كل ما في الخاص بالفعل من الخصوصية ، فهو في العام بالقوة ، فالعام مشتمل عليه باطنا ، وإن لم تكن الخصوصية فيه ظاهرا .
( فيعلم أنه أعلى من الولي الذي لا نبوة تشريع عنده ولا رسالة . ) أي ، إذا كانت النبوة والرسالة خصوصيتين زائدتين على الولاية ، فيعلم أن النبي أعلى من الولي الذي ليس عنده نبوة تشريع ، ولا عنده رسالة . وكذلك الرسول أعلى من النبي لما فيه خصوصية أخرى زائدة على النبوة التشريعية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن اقترنت عنده حالة أخرى تقتضيها أيضا مرتبة النبوة ، تثبت عنده أن هذا وعد لا وعيد ، وأن سؤاله ، عليه السلام ، مقبول ، إذ النبي هو الولي الخاص .)
 الحالة التي تقتضيها مرتبة النبوة هي أن النبي لكونه وليا واصلا عارفا بالحقائق الإلهية مشاهدا لظهور الحق في جميع مراتبه ، لا يمكن أن يسأل عنه ما لم يمكن حصوله . فإذا سأل ، لا بد أن يجاب دعوته ويقبل سؤاله .
واعلم أن قبول السؤال ليس معناه أن الله تعالى أعطى ما سأل من الاطلاع على سر القدر ، لأنه قال أولا ، فسأل عن القدر الذي لا يدرك إلا بالكشف للأشياء حال ثبوتها في عدمها ، فما أعطى ذلك . بل معناه أنه أراه كيفية الإحياء عيانا .
والوعد محمول على الآخرة ليكشف فيها عن سر القدر بإشهاد الأعيان أنفسها في حال عدمها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويعرف بقرينة الحال أن النبي من حيث ماله في الولاية هذا الاختصاص محال أن يقدم على ما يعلم أن الله يكرهه منه ، أو يقدم على ما يعلم أن حصوله محال . )
أي ، يعرف الذي اقترنت عنده حالة أخرى أن النبي من حيث إنه ولى عارف بحقه وأسمائه وصفاته ، محال أن يقدم على طلب ما يكرهه الحق ، أو يقدم على طلب ما يعلم أن حصوله محال .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا اقترنت هذه الأحوال عند من اقترنت عنده وتقررت ، أخرج هذا الخطاب الإلهي عنده في قوله : "لأمحون اسمك من ديوان النبوة " فخرج الوعد فصار ) أي ، هذا الخطاب الإلهي .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( خبرا يدل على علو مرتبة باقية . وهي المرتبة الباقية على الأنبياء والرسل في الدار الآخرة التي ليست بمحل لشرع يكون عليه ) أي ، على ذلك الشرع .

( أحد من خلق الله في جنة ولا نار بعد الدخول فيهما) .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( تلك المرتبة الباقية على الأنبياء والرسل إنما هي الولاية لا غير ، فإن النبوة التشريعية والرسالة منقطعة في دار الدنيا ، وعند خرابها يرتفع التكليف ، فلا يبقى لهم إلا الولاية .
( وإنما قيدناه بالدخول في الدارين : الجنة والنار ، لما شرع يوم القيامة لأصحاب الفترات والأطفال الصغار والمجانين . فيحشر هؤلاء في صعيد واحد لإقامة العدل والمؤاخذة بالجريمة والثواب العملي في أصحاب الجنة . فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل عن الناس ، بعث فيهم نبي من أفضلهم وتمثل لهم نار يأتي بها هذا النبي المبعوث في ذلك اليوم . فيقول لهم : أنا رسول الله إليكم . فيقع عندهم التصديق به ، ويقع التكذيب عند بعضهم .
ويقول لهم : اقتحموا هذه النار بأنفسكم ، فمن أطاعني نجى ودخل الجنة ، ومن عصاني وخالف أمري ، هلك وكان من أهل النار . فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها ، سعد ونال الثواب العملي ، ووجد تلك النار بردا وسلاما . ومن عصاه ، استحق العقوبة فدخل النار ونزل فيها بعمله المخالف ، ليقوم العدل من الله في عباده . )

أي ، إنما قيدنا بالدخول في الجنة والنار ، لأن يوم الفصل قبل الدخول في المقامين تكلف بعض الناس فيه كأصحاب الفترات . وهم أهل زمان ما بعث فيهم نبي مشرع لهم ، واندرس شريعة من كان قبلهم ، وكالأطفال الذين توفوا قبل البلوغ الذي هو أوان التكليف وشرطه ، وكالمجانين لعروض مزاج ينافي وجود التكليف معه في الدنيا .
وإنما كلفوا لاقتضاء حكم العدل ذلك ، فإن الثواب أو العقاب يترتب كل منهما على أسباب توصل إليه .

والنار التي يأتي نبيهم بها ، هو النور الإلهي الذي تناسبه النفوس النورانية أزلا ، فكانت نوريتهم مختفية فيهم لعوارض النشأة الدنيوية ، فإذا زالت ، ظهرت النورية ، فمالت إلى جنسها ، فدخلوا فيها فنجوا .
والنفوس التي كانت ظلمانية ، تنفروا منها ، فعصوا أمر نبيهم ، فحق عليهم القول .
وقوله : ( فاقتحموا هذه النار بأنفسكم ) . أي ،أدخلوا أنفسكم في هذه النار . ف‍ ( الباء ) للتعدية.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك قوله : " يوم يكشف عن ساق " . أي ، عن أمر عظيم من أمور الآخرة . " ويدعون إلى السجود " . فهذا تكليف وتشريع فيهم . فمنهم من يستطيع ، ومنهم من لا يستطيع . وهم الذين قال الله تعالى فيهم : " ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون " كما لا يستطيع في الدنيا امتثال أمر الله بعض العباد ، كأبي جهل وغيره . فهذا قدر ما يبقى من الشرع في الآخرة يوم القيامة قبل دخول النار والجنة ، فلهذا قيدناه . والحمد لله رب العالمين . )

وإنما يدعون إلى السجود يوم يكشف عن ساق بالأمر الإلهي ، وإلى الانقياد لله مع عدم إمكان صدوره ممن لم يسجده في الدنيا ، ولم ينقد لأمر رب السماوات العلى ، إلزاما لهم وحجة عليهم
وتذكرا لهم أنهم ما قدروا أن يسجدوا في الدنيا ، كما لم يستطيعوا أن يسجدوا في العقبى ، فلا يستحقون الجنة .
ومن يسجد في الدنيا وانقاد ، يسجد في الآخرة وأجاد ، فاستحق الجنة وأخلص من النار نجى من عذاب ( المنتقم ) و ( القهار ) .
اللهم اجعلنا من الفائزين بجنتك والناجين من عذابك .

والحمد لله وحده ، والصلاة على خير خلقه بعده  .

.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:44 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
إنما نسب الحكمة النبوية إلى الكلمة ( العيسوية ) لأنه عليه السلام نبي بالنبوة العامة أزلا وأبدا ، وبالنبوة الخاصة حين البعثة .
لذلك أنبأ عن نبوته في المهد بقوله : ( وآتاني الكتاب وجعلني نبيا ) . وأنبأ في بطن أمه عن سيادته الأزلية بقوله : ( لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ) . أي ، سيدا على القوم ، ولذلك غلب عليه الأنبياء عن أحوال الروحانيين ، وكانت دعوته إلى الباطن أغلب .
وقيل إنها من ( نبا ، ينبوا ) - غير مهموز - بمعنى ارتفع ، لارتفاعه إلى السماء ،
كما قال تعالى : ( بل رفعه الله إليه ) .
 
وليس المراد بالنبوة التشريعية التي هي مشتركة بين الأنبياء ، ليلزم اشتراكهم فيها ، بل المراد بها النبوة العامة الأزلية .
ولا اشتراك لأحد من الأنبياء والأولياء فيها ، لأن النبوة العامة نتيجة الولاية ، والأنبياء والأولياء لا يأخذون الولاية إلا من مشكوته ، وهو صاحب هذا المقام أزلا وأبدا لخاتميته كما مر في الفص الثاني ، فله النبوة العامة الأزلية بالأصالة .
وغيره لا يتصف بالولاية والإنباء إلا عند تحصيل شرائطها ، كما أن نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، نبي أزلا بالنبوة التشريعية وغيره من الأنبياء لا يكون إلا عند البعثة .
 
ولهذا السر جعل هذه الحكمة بعد الحكمة القدرية ، لأنه بين الولاية فيها ، وجعل لها النبوة العامة ، وتكلم عليها بما قدر الله ، فأردفها ليتكلم على بعض خواصها في الكلمة العيسوية . والله أعلم .
شعر :
( عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين  ... في صورة البشر الموجود من طين)
(تكون الروح في ذات مطهرة   ...... من الطبيعة تدعوها بسجين )
استفهام على سبيل التقرير .
تقديره : أعن ماء مريم أو عن نفخ جبرئيل ، أو عنهما معا ، تكون هذا الروح ؟
ف‍ ( أو ) بمعنى ( الواو ) .
و ( جبرين ) لغة في جبرئيل كجبرئيل . أي ، يكون روح الله عن ماء مريم ونفخ جبرئيل معا حال كونه متمثلا في صورة البشر الذي خلق من الطين ، كما قال تعالى : ( فتمثل لها بشرا سويا ) .
فجسمانيته من ماء مريم ، وروحانيته من نفخ جبرئيل ، فإنه تلقاها من الله بغير واسطة وألقاها إلى مريم .
وإنما قال : ( في صورة البشر ) لأنه ملك ظاهر في الصورة البشرية وليس ببشر .
و ( الذات المطهرة ) يجوز أن يكون مريم ، عليها السلام ، التي تطهرت من غلبة أحكام الطبيعة المطلقة عليها ، أو من الطبيعة المسماة ب‍ ( السجين ) .
فالمراد الطبيعة الخاصة التي هي في المرتبة السفلى ، وهو عالم الكون والفساد ، لا مطلق الطبيعة ، لذلك سميت بالسجين ، إذ الأملاك السماوية والسماوات كلها عنده طبيعة عنصرية ، وما فوقها طبيعة غير عنصرية . كما سنذكره في هذا الفص .
 
وتطهرها منها خروجها عن أحكام عالم التضاد لغلبة النورية عليها .
ويجوز أن يكون الذات العيسوية  التي تعلقت به الروح العيسوي . فالتكون بمعنى الظهور ، لا الحدوث .
 
ويؤيد الثاني قوله : ( لأجل ذلك قد طالت إقامته ) وإن كان الأول أسبق في الذهن .
و ( تدعوها ) صفة ( الطبيعة ) . أي ، من الطبيعة المدعوة بالسجين .
و ( تاء ) هـ للخطاب إلى العارف المحقق ، أي بتسميها . أو ب‍ ( الياء ) المنقوطة من تحت .
أي ، يدعوها الله في كلامه بالسجين . وفيه إشارة إلى أن عالم الكون والفساد عين الجحيم ، كما قال ، عليه السلام : ( الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر ) .
أو مآله إلى الجحيم عند قيام الساعة . و ( من الطبيعة ) متعلق ب‍ ( مطهرة ) و ( السجين ) مأخوذ من السجن .
وإنما جعل عالم الكون والفساد سجينا ، لأن كل من هو فيها مسجون محبوس مقيد بالتعلقات الجسمانية والقيود الظلمانية ، محجوب عن الأنوار الروحانية ، إلا العارفون الذين قطعوا تعلقاتهم الجسمانية ، وخلصوا عن القيود الظلمانية ، ورفعوا الحجب ، وتنور بواطنهم بأنوار الروح ، فخرجوا إلى فضاء عالم القدس .
فهم الذين فازوا بالنعيم بعد ورودهم إلى الجحيم ، كما قال الصادق ، عليه السلام ، حين قرئ عنده : وإن منكم إلا واردها : ( جزناها وهي خامدة ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (لأجل ذلك قد طالت إقامته ... فيها فزاد على ألف بتعيين  )
أي ، لأجل أن الذات المنفوخ فيها الجسم العيسوي ، وهي مريم عليها السلام ،
كانت مطهرة عن غلبه أحكام الطبيعة عليها ، طالت إقامته في السماء ، فإن طهارة
بدن الوالدين - مما يوجب النقص - توجب طهارة بدن الولد أيضا منه هذا على الأول
.
وأما على الثاني ، فمعناه : ولأجل أن الذات المنفوخ فيها الروح العيسوي وهو بدنه - كانت مطهرة من أدناس الطبيعة وأرجاسها ومن أحكامها المتضادة المقتضية للانفكاك وخراب البدن سريعا - طالت إقامته فيها .
أي ، إقامة الروح في تلك الذات حتى زاد ألف سنة .
فإنه ، عليه السلام ، بعث قبل نبينا ، صلوات الله عليهما ، بخمسمائة وخمس وخمسين سنة . وهذا مبنى على أنه ببدنه في السماء ومن ولادة نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، إلى زماننا هذا سبعمأة وأحد وثمانون سنة ، فالمجموع ألف وثلاثمأة وست وثلاثون سنة .
 
وتحقيقه : أن البدن الحاصل من الجسم الكثيف الظلماني مشارك في الحقيقة والجوهرية مع الجسم اللطيف النوراني الذي منه أجسام الأفلاك ، بل لا يمكن أن يتعلق الروح المجرد بهذا الجسم الكثيف أيضا إلا بواسطة ذلك الجسم اللطيف .
 
ولذلك يتعلق أولا بالروح الحيواني الذي هو الجسم اللطيف البخاري الحاصل من امتزاج لطائف الأركان الأربعة بعضها مع بعض ، ثم بواسطته يتعلق بالقلب ، ثم الكبد ، ثم الدماغ . على ما هو مقرر عند الحكماء . وفي قوة هذه الجسم الكثيف أن تبدل بذلك الجسم اللطيف وبالعكس ، عند تعلق القدرة الإلهية بذلك ، إذ الكثافة واللطافة من عوارض حقيقة الجسم ، خصوصا إذا تنورت النفس بالنور الرباني ، فتنورت بدنها ، كما قال : ( وأشرقت الأرض بنور ربها ) .
وحينئذ يشارك صاحبه الملائكة ويرتفع إلى مقامهم . فارتفاع عيسى ، عليه السلام ، إلى السماء من هذا القبيل . وسيجيئ بيانه أكثر من هذا ، كما سنذكره في ( الفص الإلياسي ) .
والسماء ، عند أهل الحقيقة ، عنصري ، قابل للخرق والالتيام ، كما سنذكره ، وقوله تعالى عن لسانه : ( فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ) .
حينئذ يكون محمولا على أن ( التوفي ) عبارة عن رفعه إلى السماء ، لا على المفارقة
بين الروح وبدنه .
قيل : إن حقيقة عيسى ، عليه السلام ، ظهرت بالصورة المثالية المتجسدة في هذا العالم . كما صرح هذا القائل بقوله : ( فإنه روح متجسدة في بدن مثالي روحاني ، لذلك بقي مدة مديدة ) . وفيه نظر .
لأن الصورة المتجسدة لا يحتاج إلى الأكل والشرب في دار الدنيا ، وقد قال الله فيه وفي أمه : ( وكانا يأكلان الطعام ) .
وأيضا ، إنما يتجسد الأرواح بالصورة الحسية بأمر الله تعالى لمقاصد تتعلق بالعباد ، فإذا انقضت ، رجعوا إلى ما كانوا عليه .
وذلك مدة يسيرة بين العباد الذين في دار الدنيا ، لا مدة ألف سنة وفي السماء .
والظهور ثانيا لا يحتاج إلى بقاء الصور المتجسدة مدة طويلة ، لأن لهم قوة الظهور والتجسد في كل آن  ( روح من الله لا من غيره فلذا  ..... أحيا الموات وأنشأ الطير من طين )
واعلم ، أن الأرواح المهيمة التي منها العقل الأول وأرواح الأفراد والكمل كلها
 
صف واحد ، حصل من الله ليس بعضها بواسطة بعض ، وإن كانت الصفوف  الباقية من الأرواح بواسطة العقل الأول ، فإنه واسطة التدوين والتسطير للكمالات الوجودية .
والروح العيسوي من الصف الأول ، لذلك قال : ( روح من الله لا من غيره . )
أي ، الروح العيسوي فائض من الحضرة الإلهية مقام الجمع بلا واسطة اسم من الأسماء وروح من الأرواح ، كما قال تعالى : ( وروح منه ) .
 
أي ، من الله . لذلك أحيا الأموات وخلق الطير من الطين ، وهو الخفاش .
قال تعالى حاكيا عنه : "إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير " . فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله . وأبرء الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله .
فهو مظهر للإسم الجامع الإلهي ، كنبينا ، صلى الله عليه وسلم .
لذلك كمل نسبته إليه في كونه صاحب الاسم الأعظم ، وقرب ظهوره بظهوره ، وينزل من السماء مرة أخرى ، ويدعو الخلق بدين نبينا ، صلى الله عليه وسلم .
( حتى يصح له من ربه نسب .... به يؤثر في العالي وفي الدون )
( النسب ) بفتح النون ، وبالكسر ، وهم . أي ، إحياء الأموات وخلق الطير ، ليصح نسبه ، ونسبته إلى الله بكونه صادرا منه مظهرا للإسم الجامع الإلهي ، لا  بأنه ابنه ، كما يقول الظالمون . تعالى عنه علوا كبيرا .
 
( به يؤثر ) أي ، بذلك النسب يؤثر في العالي ، أي فيمن له العلو المرتبي كالإنسان ، وفيمن له السفل المرتبي وهو الدون كالطير ، بإحياء الموتى وخلق الطير ، أو يؤثر ويتصرف في العالم العلوي السماوي والسفلى الأرضي كلها .
(الله طهره جسما ونزهه ..... روحا وصيره مثلا بتكوين )
 وفي بعض النسخ : ( لتكوين ) .
أي ، الله طهر جسمه وبدنه من الأدناس الطبيعية التي بواسطتها يتصرف الشيطان في الإنسان ، كما شق جبرئيل صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطهره ونزه روحه عما يوجب النقائص والمذام ، وحلاه بجميع الكمالات والمحامد .
 
( وصيره مثلا ) أي ، متماثلا لربه في إحياء الأموات وخلق الطير وتكوينه لكونه مخلوقا على صورته .
وإطلاق المثلية هنا مجاز ، إذ لا مثل له ولا نظير ، لكون الكل منه . أو صيره مماثلا لآدم في كونه تكون من غير أب ، كما تكون آدم من غير أب .
قال تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ) .
وتقديم اسم ( الله ) يفيد التعظيم - كما يقال : السلطان أمر بهذا الحكم - واحصر ، على أنه طهر جسمه من غير واسطة لا غيره ، كما أوجد روحه من غير واسطة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم ، أن من خصائص الأرواح أنها لا تطأ شيئا إلا حيى ذلك الشئ وسرت الحياة فيه . ولهذا قبض السامري قبضة من أثر الرسول الذي هو جبرئيل ، عليه السلام ، وهو الروح . وكان السامري عالما بهذا الأمر . فلما عرف أنه جبرئيل ، عرف أن الحياة قد سرت فيما وطئ عليه ، فقبض قبضة من أثر الرسول - بالصاد أو بالضاد . أي ، بملء ء يده ، أو بأطراف أصابعه فنبذها في العجل ، فخار العجل ، إذ صوت البقر إنما هو خوار . ولو أقامه صورة أخرى ، لنسب إليه اسم الصوت الذي لتلك الصورة ، كالرغا للإبل والثؤاج للكباش واليعار للشاة والصوت للإنسان ، أو النطق أو الكلام).
 
اعلم ، أن الأرواح مظاهر اسم ( الرب ) . فإن الحق بها يرب مظاهره .
و ( الحياة ) بحسب الوجود أول صفة يلزمها ، وهي أصل جميع الصفات الوجودية ، لذلك جعل الاسم ( الحي ) إمام الأئمة السبعة ، فإن العلم والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات لا يتصور وجودها إلا بعد الحياة ، ولكل شئ روح يخصه فائض عليه من ربه ، فله حياة خاصة تناسبه ، تظهر فيه هي وما يتبعها من لوازمها ، كالعلم والإرادة والقدرة وغيرها بحسب مزاج ذلك الشئ.
فإن مزاجه إن كان قريبا من الاعتدال ، كالإنسان ، يظهر فيه جميع خواصه ، أو أكثرها .
وإن كان بعيدا منه ، يختفي نفس الحياة فيه وجميع لوازمه ، كما في الجماد والمعدن .
 
وجبرئيل ، عليه السلام ، هو المتصرف في السماوات السبع والعناصر وما يتركب منها ، إذ هو روحانيتها ومقامه ( السدرة ) كما قال تعالى : ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) .
 
فإذا تجسد بصورة مثالية أو جسمية ووطأ أرضا من الأراضي ، يهب ذلك المقام حياة زائدة على حياة ما لم يطأ بخصوصيته منه . وجميع الأرواح العالية بهذه المثابة .
فلما عرف السامري هذا المعنى وعرف جبرئيل حين تجسده بنور باطنه وقوة استعداده ، فقبض قبضة من أثرها ، فنبذها على صورة العجل المتجسدة من حلي القوم ، فحيى ، فخار .
ولو كان صورة أخرى ، لكان صوتها بحسب تلك الصورة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء يسمى " لاهوتا " . ) لأن ( الحياة ) صفة إلهية ، و ( الحي ) اسم من أسمائه وإمام الأئمة السبعة .
( و " الناسوت " هو المحل القائم به ذلك الروح . ) أي ، البدن هو المسمى ب‍ ( الناسوت ) ، كما تسمى الروح المجردة ب‍ ( اللاهوت ) .
( فيسمى " الناسوت " روحا بما قام به . ) والمراد ب‍ ( الروح ) هنا ، الروح المنطبعة في البدن ، إذا الروح قد تكون مجردة ، وقد تكون منطبعة وتسمى بالنفس المنطبعة ، وقد تسمى ( البدن ) باشتماله على الروح روحا مجازا ، كما يقال لبائع الخبز : يا خبز .
ف‍ ( الباء ) في ( بما قام ) للسببية . ويجوز أن يكون بمعنى ( مع ) أي ، البدن مع ما قام به من الروح يسمى روحا ، لذلك سمى الله تعالى عيسى ( روحا ) بقوله : ( وروح منه ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما تمثل الروح الأمين الذي هو جبرئيل لمريم ، عليها وعليه السلام ، بشرا سويا ، تخيلت أنه بشر يريد مواقعتها ، فاستعاذت بالله منه استعاذة بجمعية منها . )  أي ، بجميع همها وقواها الروحانية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ليخلصها الله منه لما تعلم أن ذلك مما لا يجوز ، فحصل لها حضور تام مع الله وهو الروح المعنوي . )
أي ، ذلك الحضور التام هو الروح المعنوي .
لذلك يجعل ( الحضور ) في الصلاة بمثابة الروح لها ، والصلاة مع عدم الحضور ، كالبدن الذي
لا روح فيه .
وفي بعض النسخ : ( فحصل لها حضورا تاما ) . - من ( التحصيل ) .
أي ، حصل جبرئيل لمريم ، عليهما السلام ، الحضور التام بتمثله عندها في الصورة
البشرية مريدا مواقعتها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلو نفخ فيها في ذلك الوقت على هذه الحالة ، لخرج عيسى ، عليه السلام ، لا يطيقه أحد لشكاسة خلقه كحال أمه . ) لأن الولد إنما يكون بحسب ما غلب على الوالدين من الصفات والهيئات النفسانية والأعراض الجسمانية . و ( شكاسة الخلق ) ردائته .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما قال لها : " إنما أنا رسول ربك جئت لأهب لك غلاما زكيا " . انبسطت عن ذلك القبض وانشرح صدرها ، فنفخ فيها في ذلك الحين عيسى ، عليه السلام . ) وإنما انشرح صدرها وانبسطت من ضجرها ، لأن الله تعالى كان بشرها بعيسى ، كما
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ) .
فتذكرت ذلك وزال انقباضها ، فخرج عيسى ، عليه السلام ، منبسطا منشرح الصدر ( وكان جبرئيل ناقلا " كلمة الله " لمريم ، كما ينقل الرسول كلام الله لأمته . )
أي أخذ الكلمة العيسوية جبرئيل من الله ، فنقلها إلى مريم من غير تصرف فيها ، كما ينقل الرسول كلام الله لأمته من غير تغير وتبديل .
وفي هذا التشبه إيماء إلى تشبيه الكلمة الإلهية الروحانية بالكلمة اللفظية الإنسانية ، لأن كلا منهما إنما يحصل بواسطة التعين اللاحق على النفس في مراتبه التي تعبر النفس عليها .
والفرق أن هذه الكلمة تعينها يعرض على النفس الإنساني ، والكلمة الروحانية تعينها يعرض على النفس الرحماني . وبهذا الاعتبار تسمى الأرواح ، بل الموجودات كلها ، بكلمات الله . كما مر بيانه في صدر الكتاب .


( وهو قوله : " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " . ) الضمير عائد إلى ( كلام الله ) أي ، ذلك الكلام المنقول مثل قوله تعالى : ( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) .
وإنما أتى بالآية المعينة ، لكونها دالة على ما هو في صدد بيانه .
وتلك الكلمة المنقولة هو الذي قال تعالى عنه : ( وكلمته ألقاها إلى مريم ) .
وتذكير الضمير باعتبار المعنى وهو عيسى ، عليه السلام . أو يكون عائدا إلى ( النقل ) الذي يتضمنه قوله : ( ناقلا ) . أي ، وذلك النقل ثابت بقوله تعالى : ( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) . وهذا أنسب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فسرت الشهوة في مريم وخلق جسم عيسى من ماء محقق من مريم ومن ماء متوهم من جبرئيل . سرى في رطوبة ذلك النفخ من الجسم ، لأن النفخ من الجسم الحيواني رطب لما فيه من ركن الماء . )
اعلم ، أن للشهوة روحا معنويا  وهي المحبة الذاتية التي كانت سببا لوجود العالم ، كما قال : ( فأحببت أن أعرف ) .
فلما تعلق إرادة الله بإيجاد عيسى عليه السلام ، من مريم ، تحرك الشهوة الكامنة فيها بأمر الله ، ونفخ الروح الأمين حين تمثله بالصورة البشرية فيها ماء يشبه البحار ، فإن في النفس أجزاء صغارا مائية مختلطة بالأجزاء الهوائية ، فخلق جسم عيسى من ماء محقق من مريم ، ومن ماء متوهم من جبرئيل .
 
وإنما جعله متوهما ، لأن النافخ روح متمثل ، والمنفوخ أيضا معنى جزئي تمثل بصورة بخار الحسى في العالم المثالي ، ومن شأن الوهم إدراك المعاني الجزئية ، فكان متوهما : لا محسوسا محضا ولا معقولا صرفا .
وأيضا ، أن مريم لما شاهدت عرفا أن الإنسان لا يتولد إلا من منى الرجل والمرأة ، توهمت أن لهذا المتمثل ماء كماء المولد للولد ، فتأثرت تأثرا تاما بوهمها ، فحصل جسم عيسى .
فعلى الأول تكون جسمه منهما ،
وعلى الثاني تكون من الماء المحقق ، والماء والمتوهم كالشرط لذلك التكون . وأطلق التكون منهما مجازا .
 
فإن قلت : كيف يمكن حصول الولد من ماء الأنثى وحده ، وليس لها حرارة تامة صالحة للتولد وهي من شروط التكوين ؟
وأيضا ، منى الرجل كالبذر الذي به يتولد الولد ، فعند عدمه لا يمكن حصول الولد .
قلت : لم لا يجوز أن يفيض عليها عند ظهور الروح الأمين عندها من الله تلك الحرارة الغريزية الصالحة للتوليد ؟ خصوصا عند إرادة الحق تعالى منها ذلك .
وقد قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله بعبد خيرا هيأ أسبابه ) .
بل في قدرة القادر المطلق أن يوجد من غير وجود الوالدين ، كآدم وعزير ، ومن غير وجود المرأة ، كايجاد حوا من آدم .
 
وكون منى الرجل كالبذر لا ينافي أن يكون منى المرأة أيضا ذلك البذر .
ولا دليل لأحد على عدمه ، بل الدليل ثابت على وجوده .
وهو أن لنفس كل منهما قوة ما يولد المثل ، فالمني الذي حصل منها إن لم تكن صالحا لتوليد المثل ، لا يكون فيها تلك القوة .
غاية ما في الباب ، أن تلك القوة في نفس الرجل أقوى ، وقد يكون نفس المرأة أقوى تأثيرا من نفوس كثيرة من الرجال ، خصوصا إذا صارت مرأة للتجليات الإلهية .
فإذا أرادت النفس التي هذا شأنها حصول النتيجة ، أثرت في بدنها ، فحصلت الحرارة الغريزية الصالحة للتوليد .
كما مر أن العارف بهمته يخلق ما يشاء ، لكونه متصفا بالصفات الإلهية ، والعادة التي هي السنة الإلهية لا تمنع القدرة الخارقة لها .
فبولادة عيسى من غير أب ثبت الأقسام الأربعة التي للولادة : وهو حصول الولد من غير أبوين ، وحصوله بهما ، وبالذكر وحده ، وبالأنثى وحدها .
( فسبحان الذي هو على كل شئ قدير . فتكون جسم عيسى من ماء متوهم وماء محقق ).
 
قوله : ) وخرج على صورة البشر من أجل أمه ومن أجل تمثل جبرئيل في صورة البشر حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني إلا على الحكم المعتاد .
) جواب سؤال مقدر . وهو قول القائل : لما كان النافخ جبرئيل ، والولد سر أبيه ، كان الواجب أن يظهر عيسى على صورة الروحانيين . فقال : إنما كان على صورة البشر ، لأن الماء المحقق كان من أمه وهي بشر ، ولأجل تمثل جبرئيل عند النفخ بالصورة البشرية والصور التي يشهدها المرأة ويتخيلها حال المواقعة ، لها تأثير عظيم في صورة الولد .
حتى قيل : إن امرأة ولدت ولدا صورته صورة البشر وجسمه جسم الحية . ولما سئل عنها ، أخبرت بأنها حين المواقعة رأت حية .
 
ثم علل الشيخ تمثل جبرئيل بصورة البشر بقوله : ( حتى لا يقع التكوين )
أي ، الإيجاد في هذا النوع ، إلا على السنة المعتادة . وأيضا ، الصورة الإنسانية هي أشرف الصور . وأيضا ، لو كان على صورة غيرها ، لما حصلت المناسبة بينه وبين العباد المبعوث إليهم ، لكنه واجب أن يخلق عليها للدعوة ، كما قال : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ) .
(فخرج عيسى يحيى الموتى ، لأنه روح إلهي ، وكان الإحياء لله والنفخ لعيسى ،
كما كان النفخ لجبرئيل والكلمة لله . )
لما كان وجود عيسى ، عليه السلام ، بالنفخ الجبرئيلي بلا واسطة أب بشرى وروحه فائضا من الحضرة الإلهية بلا واسطة روح من الأرواح أو اسم من الأسماء ، حصل في الوجود الخارجي متصفا بالصفة  الإلهية ، وهو إحياء الموتى ، لغلبة لاهوته على ناسوته وروحانيته على جسمانيته حتى قيل فيه إنه ( روح الله ) . ولذلك ارتفع إلى السماء مقام الملائكة .
 
وإنما أضاف ( الإحياء ) إلى ( الله ) و ( النفخ ) بعيسى ، وإن كان في الظاهر لا يحصل إلا منه ، لأن الصفات الكمالية بالأصالة لله وبالتعبية لغيره ، لذلك أضاف ( النفخ ) إلى جبرئيل ، وأضاف ( الكلمة ) إلى الله .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان إحياء عيسى ، عليه السلام ، للأموات إحياء محققا من حيث ما ظهر عن نفخة ، كما ظهر هو عن صورة أمه . وكان إحياؤه أيضا متوهما أنه منه ، وإنما كان لله .
فجمع بحقيقته التي خلق عليها . كما قلناه أنه مخلوق من ماء متوهم ومن ماء محقق ، ينسب إليه الإحياء بطريق التحقيق من وجه ، وبطريق التوهم من وجه . )
أي ، الإحياء تارة ينسب إلى عيسى ، عليه السلام ، من حيث إنه يظهر من نفخه وحصل من مظهره ، وكان هو السبب القريب فيه على سبيل الحقيقة .
فمن هذه الحيثية يكون إحياؤه إحياء محققا ، كما كان في أصل خلقته ماء محقق وهو ماء مريم ، لأنه منها ظهر بحسب الصورة الحسية .
وأخرى نسب إلى الله على الحقيقة ، لأن الفاعل الحقيقي وصاحب الصفات الكمالية هو الله لا غيره .
فإحياؤه إحياء متوهم ، كما كان في أصل خلقته ماء متوهم . فجمع عيسى بما في حقيقته التي خلق عليها من الماء المحقق والماء المتوهم هذين الوجهين فيما حصل منه من الإحياء وخلق الطير ، فينسب إليه الإحياء تارة على سبيل الحقيقة ، وأخرى على سبيل المجاز .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقيل فيه من طريق التحقيق : " ويحيى الموتى " ، وقيل فيه من طريق التوهم " فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله " . فالعامل في المجرور ، " فيكون " لا " تنفخ " . و يحتمل أن يكون العامل فيه " تنفخ " ، فيكون طيرا . )
أي ، قال تعالى في حقه : "ويحيى الموتى " . ونسب الإحياء إليه وأضافه بطريق التحقيق ، وإن كان من حيث إنه آلة والفاعل على الحقيقة والمحيي للأموات هو الله ، فنسبة الإحياء إليه بطريق التوهم ، وخلق الطير ينسب إليه بطريق التحقيق ، وبطريق التوهم .
كما قال أيضا في حقه : ( فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ) ومتعلق بإذن الله .
والعامل فيه يجوز أن يكون ( فيكون ) ، ويجوز أن يكون ( فتنفخ ) . وعلى الأول ، فيكون النفخ من عيسى والكون من الطير بإذن الله وأمره . كما مر في ( الفص اللوطي ) أن الأمر من الله والتكون من نفس المأمور ب‍ ( كن ) . أو من أمر الله . وعلى التقديرين ، لا يكون من عيسى إلا النفخ فقط . وعلى الثاني ، يكون الخلق منه حين كونه مأذونا به . فاجتمع فيما صدر منه من الإحياء والخلق جهتا التحقيق والتوهم ، كما اجتمع فيما خلق منه .
 
وقوله : ( من حيث صورته الحسية الجسمية ) قيل معناه : إنه يكون من حيث صورته طيرا ، ولا يكون طيرا بالحقيقة وفيه نظر .
لأن المخلوق الطير بالحقيقة وهو الخفاش لا صورة الطير ، وليس جعل صورة الطير مجردا عن روحه مما يعد من المعجزات .
بل معناه : فيكون طائرا محققا صادرا من عيسى من حيث صورته المحققة في الحس ، لأن كلامه حينئذ في إثبات كونه محققا .
كما قال هذا القائل : ( وإن جعلنا العامل ينفخ ، كان الموجب لكونه طيرا هو نفخ عيسى بإذن الله ) .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:45 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية

وإذن الله لعبده في الإتيان بخوارق العادات قسمان : ذاتي قديم ، وعرضي حادث أما الأول .
فهو جعل الحق عين العبد مستعدا قابلا للتصرف  في الوجود العيني على سبيل الخرق عند تجليه بفيضه الأقدس الموجب لتعين الأعيان في العلم أزلا . وأما الثاني ، فهو تمكين العبد من التصرف مع إلهام قلبي أو وحى نازل لذلك التصرف حين حصول الوقت المقدر ، وجميع شرائطه بفيضه المقدس .
فلا ينبغي أن يتصور أن الإذن هو الأمر بالتصرف ، سواء كان مستعدا له أولا . فإن روح ذلك الأمر أيضا هو الاستعداد الذاتي الذي يستدعى بلسان الحال من الله إظهار كماله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وكذلك " تبرئ الأكمه والأبرص " وجميع ما ينسب إليه وإلى إذن الله . )
وكذلك جميع ما ينسب إلى عيسى من خوارق العادات من إبراء الأكمه والأبرص وغيرهما ، يشتمل على الجهتين المذكورتين ، أي ، جهة التحقق وجهة التوهم .
لذلك جاء في الكل ( بإذن الله ) أو ( بإذني ) كما قال : ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني ) .
وهو المراد بقوله : ( أو إذن الكناية في مثل قوله تعالى : " بإذني وبإذن الله " فإذا تعلق المجرور ب‍ ( تنفخ ) فيكون النافخ مأذونا له في النفخ ، ويكون ) أي ، تحصل .
( الطائر على النافخ بإذن الله . ) هذا إشارة إلى الجهة المحققة كما مر بيانها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا كان النافخ نافخا لا عن الإذن ، فيكون التكوين للطائر طيرا بإذن الله . ) أي ، يكون عين الطائر نفسه في الخارج . كما مرت الإشارة إليه من أن الأمر من الله ، والتكوين من نفس الشئ المكون .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيكون العامل عند ذلك "فيكون" . فلولا أن في الأمر توهما وتحققا ، ما قبلت هذه الصورة هذين الوجهين . ) أي ، ولولا أن في أصل الخلقة العيسوية - وهو المراد ب‍ ( الأمر ) - جهتا التوهم والتحقق ، ما قبلت صورة عيسى لهذين الوجهين .
( بل لها هذان الوجهان ، لأن النشأة العيسوية تعطى ذلك . ) ظاهر مما مر .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (وخرج عيسى من التواضع إلى أن شرع لأمته أن " يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " ، وأن أحدهم إذا لطم في خده ، وضع الخد الآخر لمن يلطمه ، ولا يرتفع عليه ولا يطلب القصاص منه . هذا له من جهة أمه ، إذ المرأة لها السفل ، فلها التواضع ، لأنها تحت الرجل حكما وحسا.)

إنما قال : ( شرع لأمته ) على صيغة الماضي ، والمشرع لها رسول الله ، عليه السلام ، لأنه حين نزوله من السماء لا بد أن يقرر أمر الجزية ، كما شرع عليهم رسول الله ، صلى الله عليه وآله ، فهو بمعنى المضارع .
ومثله قوله تعالى : ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ) . أي ، ينادى في الآخرة . وذلك لأن ما هو ثابت في علم الله لا بد أن يكون ، فهو بمنزلة ما كان وتحقق .

وفيه سر آخر يظهر لمن عرف أحوال الكمل ودرجاتهم . والمراد أنه لما كان عيسى ، عليه السلام ، من ماء مريم ، وهي الجهة المتحققة في أصل خلقته ، خرج في غاية التواضع إلى أن يشرع لأمته ، أي ، تقرر حكم الشريعة المحمدية لأمته عند نزوله أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون متواضعون جاعلون لأنفسهم حقيرا منقادا ، كما قرر لأمته أنه إذا لطم أحدهم في خده ، يدير الخد الآخر ليلطمه ، و لا يطلب الارتفاع على اللاطم ولا القصاص منه ، لأن المرأة تحت الرجل ( حكما ) .
كما قال تعالى : ( الرجال قوامون على النساء وللرجال عليهن درجة وللذكر مثل حظ الأنثيين ) . و ( حسا ) كما يتصرف الرجل فيها تصرف الملاك في أملاكهم ، فسرى أحكامها في ابنها وأمته  

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما كان فيه من قوة الإحياء والإبراء، فمن جهة نفخ جبرئيل في صورة البشر، فكان عيسى يحيى الموتى بصورة البشر . ).
أي ، قوة الإحياء والإبراء التي كانت في عيسى ، عليه السلام ، هي مستفاد من نفخ جبرئيل في مريم ، عليها سلام الله ، حين تمثل في صورة البشر ، كما استفاد التواضع من مريم ، فإن الهيئات الغالبة على نفوس الوالدين حال اجتماعهما مؤثرة في نفس الولد وسارية فيها .
فكذلك ظهر عيسى بحيث يحيى الموتى وتبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، كما ظهر
من جهة أمه متواضعا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولو لم يأت جبرئيل في صورة البشر وأتى في صورة غيرها من صور الأكوان العنصرية ، من حيوان أو نبات أو جماد ، لكان عيسى ، عليه السلام ، لا يحيى الموتى إلا حين يتلبس بتلك الصورة ويظهر فيها . )
أي ، ولو أتى جبرئيل على صورة غير الصور الإنسانية ، لكان عيسى يظهر بتلك الصورة ، إذ الولد أكثر مشابهة لوالده من غيره .
أو حين الإحياء ، كما يظهر بتلك الصورة ، ليؤثر ويتصرف في غيره ، لأن للصورة أيضا مدخلا في العلية . لذلك يخلق من نطفة الإنسان من هو على صورته ، ومن نطفة الحمار ما هو على صورته . فيتحفظ صور الأنواع بمراعاة الصور .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولو أتى جبرئيل بصورته النورية الخارجة عن العناصر والأركان - إذ لا يخرج عن طبيعته - لكان عيسى لا يحيى الموتى إلا حين يظهر في تلك الصورة الطبيعية النورية ، لا العنصرية . )
أي ، لو ظهر جبرئيل بصورته النورية التي له في السدرة الخارجة عن طبيعة السماوات والعناصر - فإن كلها عنصرية - لكان عيسى لا يحيى الموتى إلا حين تظهر في تلك الصورة الطبيعية النورية لا العنصرية ، لأن تلك الصورة أيضا جزء للعلة ، وهي له طبيعية ، والشئ لا يخرج عن طبيعته بمجرد تنزله إلى مرتبه ما هو تحته . ففي الكلام تقديم وتأخير .
هذا على أن ( إذ ) للتعليل . ويجوز أن يكون بمعنى ( حين ) ، فيكون إذ لا يخرج في موضعه . ومعناه
حينئذ : لو أتى جبرئيل بصورته النورية حين لا يخرج عن طبيعته النورية ولا يتمثل بالصورة العنصرية ، لكان عيسى لا يحيى الموتى إلا حين يظهر في تلك الصورة .

(مع الصورة البشرية من جهة أمه ، فكان يقال فيه عند إحيائه الموتى : هو لا هو . )
أي ، كان يظهر عيسى حين الإحياء في الصورة الطبيعية النورية مع الصورة البشرية المستفادة من جهة أمه ، فكان يقال فيه حينئذ : بشر وليس ببشر . كما قال الناظرون في يوسف ، عليه السلام : ( ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) . لغلبة النورية عليه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويقع الحيرة في النظر إليه ، كما وقعت في العاقل عند النظر الفكري إذا رأى شخصا بشريا من البشر يحيى الموتى ، وهو من الخصائص الإلهية إحياء النطق لا إحياء الحيوان ، بقي الناظر حائرا . إذ يرى الصورة بشرا بالأثر الإلهي . )
( الباء ) في قوله : ( بالأثر ) باء الملابسة . أي ، ملتبسا بالأثر الإلهي . ومعناه : أنه لو كان
كذلك ، لوقع الناظر إليه في الحيرة ، كما تحير أرباب العقل عند النظر الفكري في حاله . لأنهم رأوا شخصا بشريا بالصورة أحيا الموتى بقوله : ( قم بإذن الله ) . أو : قم باسم الله .

( إحياء النطق ) أي ، إحياء للميت الناطق مع نطقه ، فقام الميت ناطقا ملبيا مجيبا لدعوته . لا إحياء كحياة الحيوان حتى يتحرك الميت في قبره ، أو يقوم منه ويمشي بحيث يعلم أنه حي مجردا عن النطق ، إذ لو كان كذلك ، لنسبوه إلى السيميا من النيرنجات والطلسمات وغيرهما .
فلما قام ونطق - كما جاء في قصته أنه أحيا سام بن نوح : فقام وشهد بنبوته ، ثم رجع على ما كان تحيروا في إحيائه ، لأنه من الخصائص الإلهية .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأدى بعضهم فيه إلى القول بالحلول ، وأنه هو الله بما أحيا به الموتى . ولذلك نسبوا إلى الكفر وهو الستر ، لأنهم ستروا الله الذي أحيا الموتى بصورة بشرية عيسى ، عليه السلام . )
أي ، فأدى نظر بعضهم فيه إلى القول بالحلول ، فقالوا : إن الله حل في صورة عيسى ، فأحيى الموتى . وقال بعضهم : إن المسيح هو الله . ولما ستروا الله بالصورة العيسوية المقيدة فقط ، نسبوا إلى الكفر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال الله تعالى : " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم " . فجمعوا بين الخطأ والكفر في تمام الكلام كله . ) أي ، جمعوا بين الكفر ، وهو ستر الحق بالصورة العيسوية ، وبين الخطأ ، وهو حصر هوية الله في كلمة العيسوية .
والمراد بقوله : ( في تمام الكلام ) أي ، بمجموع قولهم ، ( إن الله هو المسيح بن مريم ) .
جمعوا بين الكفر والخطأ .

( لا بقولهم هو الله ، ولا بقولهم ابن مريم . ) لأن قولهم : ( هو الله ) أو ( الله هو ) صادق من حيث إن هوية الحق هي التي تعينت وظهرت بالصورة العيسوية ، كما ظهرت بصورة العالم كله.
وقولهم : ( المسيح بن مريم ) أيضا صادق ، لأنه ابن مريم بلا شك ، لكن تمام الكلام ومجموعه غير صحيح ، لأنه يفيد حصر الحق في صورة عيسى ، وهو باطل ، لأن العالم كله غيبا وشهادة صورته ، لا عيسى فقط . "بل احدي تجلياته في صوره تعالي اللانهائية "

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعدلوا بالتضمين من الله من حيث أحيا الموتى إلى الصورة الناسوتية البشرية بقولهم :" ابن مريم " وهو " ابن مريم " بلا شك ) .
( من الله ) متعلق بقوله : ( فعدلوا ) . و ( الباء ) في قوله : ( بالتضمين ) بمعنى ( مع ) . أي ، فعدلوا من الله إلى الصورة البشرية مع تضمينه فيها من حيث إنه إحياء الموتى ، فقالوا : ( المسيح بن مريم ) .
وهو ابن مريم بلا شك ، كما قالوا ، لكن جعلوا الله في ضمن صورته ، وهو القول بالحلول 

(فتخيل السامع أنهم نسبوا الألوهية للصورة وجعلوها عين الصورة . وما فعلوا ، بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء في صورة بشرية هي ابن مريم ، ففصلوا بين الصورة والحكم . )
أي ، تخيل السامع أن الذين قالوا بالحلول ، نسبوا الألوهية إلى الصورة العيسوية وجعلوا الألوهية عين تلك الصورة . وليس كذلك .
بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء حالة في الصورة البشرية التي لعيسى ، وتلك الصورة هي ابن مريم ، فالقائلون بالحلول فصلوا أولا بين الصورة وبين الإلهية في الحكم ، أي ، بين الحكم عليها بأنها إله .
أو بين الحكم ، أي ، بين المحكوم عليه وهو الهوية الإلهية . ف‍ ( الحكم ) مستعمل بمعنى المحكوم عليه ، كما يستعمل بمعنى المحكوم به .

( إلا أنهم جعلوا الصورة عين الحكم ) أي ، فصلوا بين الصورة وبين الهوية الإلهية ابتداء ، إلا أنهم جعلوا الصورة في ثاني الحال عين تلك الهوية في الحمل بقولهم : ( إن الله هو المسيح بن مريم ) . لأن المحمول عين الموضوع في الحمل بالمواطاة .
فتخيل السامع أنهم نسبوا الألوهية إلى الصورة العيسوية ، فحصروها في تلك الصورة . وهو الخطاء .
وقوله : ( عين الحكم ) أي ، جعلوا الصورة عين ما وقع الحكم عليه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما كان جبرئيل في صورة البشر ولا نفخ ، ثم نفخ ففصل بين الصورة والنفخ ، وكان النفخ من الصورة ، فقد كانت ولا نفخ . )
أي ، كانت الهوية الإلهية وما كانت الصورة العيسوية ، وكانت الصورة العيسوية ، وما كان الإحياء .
كما كان جبرئيل متمثلا في صورة البشر وما كان النفخ حاصلا ، ثم نفخ ، فحصل الفصل بين الصورة والنفخ بأن كانت الصورة موجودة ولا نفخ ، وإن كان النفخ حاصلا من الصورة .
( فما هو النفخ من حدها الذاتي ) ، ( ما ) بمعنى ( ليس ) . والضمير للفصل .
أي ، فليس النفخ من الحدود الذاتية للصورة وأجزائها ، لتحقق الصورة قبل وجود النفخ .
وكذلك الصورة العيسوية ليست من الحدود الذاتية للهوية الإلهية ، لتحقق الهوية قبل تلك الصورة ، وليس الإحياء أيضا من ذاتيات الصورة العيسوية ، لتحققها مع عدم الإحياء .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى ما هو ؟ فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانية البشرية ، فيقول هو ابن مريم . ومن ناظر فيه من حيث الصورة الممثلة البشرية ، فينسبه لجبرئيل . ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى ، فينسبه إلى الله تعالى بالروحية ، فيقول روح الله ، أي ، به ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه .
فتارة يكون الحق فيه متوهما - اسم مفعول - وتارة يكون الملك فيه متوهما ، وتارة
يكون البشرية الإنسانية فيه متوهمة ، فيكون عند كل ناظر بحسب ما يغلب عليه . فهو كلمة الله ، وهو روح الله ، وهو عبد الله . ) كله ظاهر .
(وليس ذلك في الصورة الحسية لغيره ، بل كل شخص منسوب إلى أبيه الصوري ، لا إلى النافخ روحه في الصورة البشرية . )
أي ، وليس ذلك الخلاف والتوهمات لغير عيسى في الصورة الحسية ، وإن كان النافخ لأرواحهم الحق تعالى أو الملك .
بل كل شخص منسوب إلى أبيه الصوري لا إلى من نفخ أرواحهم في صورهم ، وإن كان وقع الإحياء وغيره من خوارق العادات على أيدي عباد الله من الأولياء والأنبياء أحيانا . أو وليس مثل ذلك النفخ لغير عيسى ليقع فيه الخلاف كما وقع في عيسى .
وتعليله بقوله : ( فإن الله ) يدل على الثاني . وقوله : ( وغيره ، كما ذكرناه ، لم يكن مثله ) تصريح بأن المراد هو الثاني .
(فإن الله إذا سوى الجسم الإنساني ، كما قال : ( فإذا سويته ) ، نفخ فيه هو تعالى من روحه ) تقدير الكلام : فإن الله إذا سوى الجسم الإنساني ، نفخ فيه كما قال : ( فإذا سويته ) - الآية 

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فنسب الروح في كونه وعينه إليه تعالى . وعيسى ليس كذلك ، فإنه اندرجت تسوية جسمه وصورته البشرية بالنفخ الروحي ،وغيره كما ذكرناه لم يكن مثله.)
 تعليل لقوله : ( وليس ذلك في الصورة الحسية لغيره ) لأن الله إذا سوى جسم آدم ، نفخ فيه الروح ، كما قال : ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) .
فنسب ( الروح ) في كونه ، أي وجوده وعينه ، إلى الله تعالى . وجميع أولاد آدم أيضا كذلك : فإن تسوية أبدانهم قبل نفخ أرواحهم . وتسوية جسم عيسى وصورته البشرية ليست كذلك .
فإنها كانت مندرجة في النفخ الروحي بحيث لم يتميز بين أجزاء جسمه ، وهو الماء المحقق من ماء مريم والماء المتوهم من جبرئيل ، والروح المنفوخ في تلك الصورة العيسوية ، ولم يتقدم حصول جسمه على روحه ، فما كانت تسوية جسمه قبل النفخ ، كما كانت لغيره ، فحصل الفرق .
وليس في هذا الكلام إشارة إلى أن بدن عيسى بدن مثالي ، كما توهم بعضهم .
ولو كان اندراج الأجزاء المثالية الروحانية في الأجزاء الجسمانية موجبا لصيرورة البدن بدنا مثاليا ، لكانت أبداننا أيضا أبدانا مثالية ، إذ لا يمكن أن يوجد منها جزء مجرد عن الأجزاء الروحانية التي هي من جنس الجوهر المثالي ، وهي الروح الساري في أجزاء البدن .
 

( فالموجودات كلها كلمات الله التي لا تنفد ، فإنها عن ( كن ) ، و( كن ) كلمة الله . )
لما كان كلامه في عيسى وأنه كلمة من كلماته تعالى الصادرة بقول ( كن ) ، أعقب بأن الموجودات كلها كلمات الله التي لا نهاية لها ، فإنها كلها صادرة عن قول ( كن ) .
كما قال : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون )  و ( كن ) أيضا كلمته ، إلا أنه أصل لتكوين غيرها من الكلمات .
والفرق بينه وبين غيره من الكلمات ، أنه كلمة قولية صادرة من الاسم ( المتكلم ) ، وغيره كلمة
وجودية . وإطلاق الكلمات عليها مجاز ، من قبيل إطلاق اسم السبب على المسبب بهذا الاعتبار.
وإن كان باعتبار آخر على الحقيقة ، وهو : أن كلا من الكلمات القولية والوجودية عبارة عن تعينات واقعة على النفس ، إذا القولية واقعة على النفس الإنسانية ، والوجودية على النفس الرحماني .  كما مر في صدر الكتاب وسيأتي في هذا الفص .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهل تنسب الكلمة إليه بحسب ما هو عليه ، فلا تعلم نفس ماهيتها ؟ أو تنزل هو تعالى إلى صورة من يقول ( كن ) فيكون . قول (كن) حقيقة لتلك الصورة التي نزل إليها وظهر فيها. )
( اللام ) في ( الكلمة ) للعهد ، والمعهود كلمة ( كن ) ، وضمير ( إليه ) عائد إلى الحق .
وقوله : ( فلا تعلم ) وقوله ( فيكون ) جواب للشرط المقدر .
معناه : هل تنسب كلمة ( كن ) إلى الله تعالى بحسب ما هو عليه في مرتبة إلهيته ؟ أو تنسب إليه بحسب تنزله تعالى إلى مرتبة الأكوان .
فإن كان بحسب ما عليه الحق في مقام إلهيته ، فلا يعلم مهية كلمة ( كن ) ، لأن كلامه عين ذاته ومهية الذات غير معلومة لبشر .

وإن كان بحسب تنزله إلى مرتبة الأكوان ، إلى صورة من يقول ( كن ) ، فيكون قول ( كن ) حقيقة ، أي ، حقيقة تابعة لتلك الصورة القائلة ب‍ ( كن ) التي نزل الحق إليها وظهر فيها وتكلم بكن ، فأحيا الأموات وخلق الطير ، لأن الهوية الإلهية هي التي ظهرت في تلك الصورة ،
وأظهرت بعض صفاتها المختصة بمقام الإلهية لا غيرها .

( فبعض العارفين يذهب إلى الطرف الواحد ) وهو أن الله هو المتكلم بكلمة ( كن ) ، وهو المحيى والخالق لا غيره .
( وبعضهم إلى الطرف الآخر ) وهو أن المتكلم بكلمة (كن) والمحيي والخالق هو العبد بإذن الله.
( وبعضهم يحار في الأمر ولا يدرى . ) كالعارف الذي لا يميز بين المراتب ويعلم حقيقة القولين ، فيحار في النسبة ، لأنه يعلم أن الإحياء من خصائص الله ويشاهد صدوره من العبد وهو مؤمن به ، فلا يقدر أن ينسبه إلى الله تعالى ولا إلى العبد ، إذ لا ذوق للحائر منه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذه مسألة لا يمكن أن تعرف إلا ذوقا . كأبي يزيد حين نفخ في النملة التي قتلها ، فحييت ، فعلم عند ذلك بمن ينفخ ، فنفخ فكان عيسوي المشهد . )
إنما كانت المسألة لا تعرف إلا بالذوق ، لأن المدرك لا يدرك شيئا كان ما كان إلا بما منه فيه . ومن لا يكون عنده من قوة الإحياء والخلق ، لا يقدر على إدراكه ذوقا .
فإن التعريفات لا تنتج إلا بالتصور وهو غير كاف في إدراك الحقائق ووجدانها ، خصوصا في الكيفيا ، لأنها لا تحصل إلا بالذوق والوجدان . كما لا يمكن معرفة لذة الوقاع إلا بالذوق .
وإذا حصل إدراكه ذوقا لأحد ، يعلم ذوقا من النافخ : عينه أو ربه .
وفي قوله : ( فكان عيسوي المشهد ) إشارة إلى أن كل من حصل له هذا المقام من الأولياء ، يكون ذلك بواسطة روحانية عيسى ، عليه السلام .

( وأما الإحياء المعنوي بالعلم ، فتلك الحياة الإلهية الذاتية العلية النورية التي قال الله فيها : " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " . فكل من يحيى نفسا ميتة بحياة علمية في مسألة خاصة متعلقه بالعلم بالله ، فقد أحياه بها ، وكانت له نورا يمشى به في الناس ، أي ، بين أشكاله في الصورة . )
إنما جعل الحياة الحاصلة بالعلم حياة إلهية ذاتية ، لأن حقيقة العلم عين الذات ، وكذلك حقيقة الحياة أيضا . فالعلم والحياة في المرتبة الأحدية شئ واحد .

ولما كان العلم أشرف الصفات الإلهية - إذ به تظهر الحقائق الإلهية والكونية - وصفه بالعلو .
ومن حيث إنه يظهر الأشياء ، وصفه بالنورية ، إذ النور هو ما يظهر بنفسه ويظهر لغيره . ووصفه رضي الله عنه  إياها بالصفات الكمالية إشارة إلى أن الحياة العلمية أشرف من الحياة الحسية ، لأنها حياة الروح ، والحياة الحسية حياة الجسد ، والروح أشرف من الجسد ، فحياته أيضا كذلك .
لكن الحسية أوقع في النفوس من العلمية ، لأنها مترتبة على القدرة التامة التي هي أيضا من الخصائص الإلهية ، لذلك صار أعز وجودا وأعظم وقعا .
ولما كان للعلم مراتب ، وأعظمها العلم بالله وأسمائه وصفاته ، خصه بالذكر ، وإن كان بحسب كل منها يحصل حياة مناسبة لها .
وقد أعطى الله أولياءه الكمل نصيبا تاما من الحياة العلمية ، ليفيضوا على نفوس المستعدين المؤمنين بهم منها ، فيحيونهم بالنور الإلهي ويمشون به في الناس .
كما قال : ( أو من كان ميتا ) أي ، بموت الجهل . ( فأحييناه ) أي ، بالحياة العلمية ( وجعلنا له نورا ) وهو العلم .
(يمشى به في الناس) فيدرك ما في بواطنهم من استعداداتهم وخواطرهم ونياتهم ،وما في ظواهرهم من أعمالهم المخفية من الناس بذلك النور.

وقوله : ( أي بين أشكاله في الصورة ) المراد بالشكل ماله التشكل ، وهو البدن . أي ،ذلك النور يسرى بين أبدان الناس ، فيدرك ما فيها من النفوس ولوازمها واستعداداتها التي لا يطلع عليها إلا من شاء الله من الكمل .
ويجوز أن يكون المراد منها الهيئات والأوضاع التي للبدن الظاهرة في الصورة الإنسانية ، إذا المتفرسون يدركون منها ما في نفوسها وقواها وما هي عليها من الأعمال والأفعال .
ولما ذكر إن الإحياء الحسى والمعنوي إما من الله بواسطة الصورة الإنسانية وإما من العبد بإذن الله وأمره ، أعقب بقوله شعر :

(فلولاه ولو لأنا   ...... لما كان الذي كانا )
أي ، فلو لا الحق الذي هو منبع القوى والقدرة ومعدن الكمالات الظاهرة في البشر المفيض بأسمائه وصفاته الأنوار في العالم ، ولولا أعيان الثابتة في العدم ، لما حصل في الوجود ما حصل ، ولا ظهر في الكون ما ظهر .
والمراد بقوله : ( ولولا نا ) ليس الإنسان فقط ، بل أعيان العالم كله .

(فإنا أعبد حقا   ...... وإن الله مولانا )
لقبول ما يفيض علينا وإظهار صفاته الغيبية فينا ، والعبودية تطلب الربوبية ، فربنا ومولانا المفيض علينا الصفا ت الكمالية هو الله لا سواه . وإنما جاء بالاسم ( الله ) دون غيره من الأسماء ، لأنه هو الاسم الجامع للأسماء كلها ، والعالم بأسره مظاهره .

( وإنا عينه فاعلم  ...... إذا ما قلت إنسانا )
أي ، إنا وأعيان العالم عين الله ، لأنها أسماؤه ، والأسماء من وجه عين المسمى ، وهو من وجه ( الأحدية ) . كما مر في المقدمات .
ومعنى ( إذا ما قلت إنسانا ) أي ، إذا جعلت العالم من حيث أحدية جمعه ، مسمى بالإنسان لكبير ، وإنا عين الله ، إذا ما قلت إنه هو الذي ظهر بصورة الإنسان الكامل ، فيسمى باسم الإنسان .

كما قال - شعر :
( سبحان من أظهر ناسوته  ..... سر سنا لاهوته الثاقب )
( ثم بدأ في خلقه ظاهرا  ..... في صورة الآكل والشارب )  
لأنا مشتركون في الحقيقة الإنسانية مع الكامل .
فقوله : ( إنا ) يكون عن لسان أفراد الإنسان ، لا العالم .

( فلا تحجب بإنسان  ...... فقد أعطاك برهانا )
على صيغة المبنى للمفعول . أي ، فلا يحجبنك أحد بأنك مسمى بالإنسان ، والحق مسمى بالله . أو على صيغة المبنى للفاعل . أي ، فلا يحجب نفسك بأن تجعلها مسمى بالإنسان ، وتجعل الحق : مسمى بالله .
( فقد أعطاك ) البرهان الكشفي إنك عينه باعتبار الحقيقة ، وغيره باعتبار التعين والتقيد . وأعطاك البرهان النقلي إنك عينه ، كما قال : ( كنت سمعه وبصره ) - الحديث . وقال : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، وهو بكل شئ عليم ) . وغير ذلك من الأخبار الواردة فيه .

( فكن حقا وكن خلقا  ...... تكن بالله رحمانا )
أي ، فكن حقا باعتبار روحك ، وخلقا باعتبار جسدك . أو فكن حقا باعتبار حقيقتك الجامعة للحقائق كلها الإلهية والكونية ، وكن خلقا باعتبار تعينك وتقيدك وكونك مظهرا للصفات الإلهية . تكن بالله عام الرحمة على العالم ، إذ بواسطتك يحصل له ما فيه من كمالاته دنيا وآخرة ، علما وعينا ، فتكون عين اسم ( الرحمان ) المشتمل على الأسماء .

( وغذ خلقه منه  ...... تكن روحا وريحانا  )
قد مر مرارا أن الحق غذاء الخلق من حيث وجودهم وبقائهم وجميع كمالاتهم ، إذ الحق هو الذي يختفي في صورة الخلق اختفاء الغذاء في المغتذى .
وبقاء الخلق بالحق ، كبقاء المغتذى بالغذاء . والخلق غذاء الحق من حيث إظهار أحكام أسمائه وصفاته ، إذ بالخلق تظهر الأحكام الأسمائية ، وبهم بقاؤها ، ولولا الخلق ، ما كان له أسماء وصفات .

فضمير ( خلقه ) و ( منه ) عائد إلى الله تعالى . أي ، غذاء العالم من وجود الحق بأسمائه وصفاته ، لأنك خليفة في ملكه . تكن ذا روح وراحة ، لأنك حينئذ تكون رحمة للعالمين ، فتستريح من أنفاسك الأرواح وتشم من نفحات عطرك الأشباح ، فتكون ريحانا للعالم بروحك ، وراحة للأكوان بعينك ، وأمانا  للخلق بوجودك ، فإن الدنيا لا تخرب ما دام كونك فيه .
قال تعالى : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) . والخطاب للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، وللوارثين نصيب منه  

( فأعطيناه ما يبدو  ...... به فينا وأعطانا )
أي ، فأعطيناه الحق ما يظهر بوجوده فينا من الحياة والعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات الكمالية . فأعطيناه إياها برجوعنا إليه وفناءنا فيه ذاتا وصفة وفعلا ، كما قال : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) .
وأعطانا ما علم وظهر له من أعياننا من الإمكان والحدوث والفقر والعجز ، وفي الجملة ، ما طلبت استعداداتنا من صفات الكمال والنقصان بإيجادها وإظهارها في الوجود الخارجي  


(فصار الأمر مقسوما   ....... بإياه وإيانا )
أي ، فصار الأمر الوجودي منقسما بما أعطيناه إياه من أحوالنا التي كنا عليها حال كوننا معدومين ، وبما أعطاه إيانا من الوجود والكمالات اللازمة له مع مقتضى أعياننا .

( فأحياه الذي يدرى ....   بقلبي حين أحيانا )

.

يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثالث .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:46 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثالث .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية

أي ، أحيا قلبي بالحياة العلمية الذي هو عالم به واستعداده الحاصل له في الأزل حين أحيا أرواحنا وقلوبنا بالحياة الذاتية الحسية .
تقديره :
( الذي يدرى بقلبي   ..... أحياه حين أحيانا )
( فكنا فيه أكوانا  ..... وأعيانا وأزمانا )
أي ، فكنا في غيب الحق وفي علمه أعيانا ثابتة ، وفي عالم الأرواح أكوانا موجودة
مبدعة ، وكنا عند نزولنا إلى غيوب السماوات والأرض ومرورنا بهذه المنازل
وغيرها من منازل المعادن والنباتات والحيوانات إلى حين الوصول إلى هذه الصورة
الإنسانية أزمانا ودهورا في الغيب حتى ظهرنا في هذه الدار .
ولما ذكر كوننا في علم الحق ومراتب غيوبه وشهاداته دائما ، ذكر ما يتعلق
بطرف الحق أيضا بقوله :
(وليس بدائم فينا  ..... ولكن ذاك أحيانا )
أي ، وليس الحق بحسب ظهوره وتجليه بدائم فينا ، ولكن ذاك أحيانا يحصل لقلوبنا استعداد ذلك التجلي الذي به يحصل الشهود والعلم الحقيقي الموجب للحياة الروحانية ، وبه يصير الحق سمع العبد وبصره وجوارحه ، والعبد سمع الحق وبصره وباقي صفاته .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومما يدل على ما ذكرناه في أمر النفخ الروحاني مع صورة البشر العنصري ، هو أن الحق وصف نفسه بالنفس الرحماني ، ولا بد لكل موصوف بصفة أن يتبع الصفة جميع ما يستلزمه تلك الصفة ، وقد عرفت أن النفس في المتنفس ما يستلزمه ، فلذلك قبل النفس الإلهي صور العالم ، فهو لها كالجوهر الهيولاني ، وليس إلا عين الطبيعة.)
يريد أن يؤكد ما قرره أولا من أن الروح الأمين نفخ الروح العيسوي مع صورة البشر العنصري ، لا أنها كانت مسواة قبل النفخ ، فنفخ ، كما لغيره من آدم وأولاده .
وقد مر مرارا أن ( النفس الرحماني ) هو التجلي الوجودي الذي يتعين ويصير أعيانا موجودة ، أرواحا كانت أو أجساما .
وهو العين الجوهر القابل للصور الروحانية والجسمانية . ولا بد لكل ملزوم إذا استلزم شيئا ، أن يستلزم توابع ذلك الشئ أيضا ، لعدم انفكاك اللازم عن ملزومه ، وقد علمت أن النفس في المتنفس ، أي الإنسان ، ما يستلزمه ، أي أي شئ يستلزمه ، أي ، علمت أنه يستلزم إزالة الكرب ووجدان الراحة ، وظهور الكلمات والكمالات النطقية وغيرها ، فوصف الحق نفسه بالنفس ، وصف منه نفسه بجميع لوازم النفس .

وليس ذلك النفس الذي أصل تلك اللوازم إلا عين الطبيعة في الحقيقة ، إذ بها يحصل الفعل والانفعال في الفواعل والقوابل وما يترتب عليهما ، وهي كالصور النوعية للنفس .
فهي أول تعين عرض على النفس ، ثم بواسطتها تتعين الحروف والكلمات الوجودية ، كما تعرض أولا على النفس الإنسانية الصوت ، ثم تتعين الحروف والكمالات بمرور النفس مع الصوت على مراتب يظهر فيها الحروف وهي المخارج .

فالطبيعة عبارة عندهم عن معنى روحاني سار في جميع الموجودات ، عقولا كانت أو نفوسا ، مجردة وغير مجردة أو أجساما ، وإن كانت عند أهل النظر عبارة عن القوة السارية في الأجسام ، بها يصل الجسم إلى كماله الطبيعي .

فما عند أهل النظر نوع من تلك الطبيعة الكلية . وفي التحقيق نسبة الطبيعة الكلية إلى النفس الرحماني بعينها نسبة الصورة النوعية التي للجسم الكلى إلى الجسم ، فإنه نوع من أنواع الجوهر ، فلا بد له من الصورة النوعية والروحانية المقومة له ، والامتداد المطلق الذي هو الصورة الجسمية مستفاد منها .
فلذلك ، أي فلذلك الاستلزام للطبيعة الكلية ، قبل النفس الإلهي صور الموجودات الروحانية والجسمانية ، كما قيل : النفس صور الحروف ، والكلمات بواسطة الصوت.

( فهو لها ) أي ، فالنفس لصور العالم كالجوهر الهيولاني الذي للأجسام ، لأنها فائضة عليه متعينة فيه ، فليس ما يستلزم النفس الرحماني إلا عين الطبيعة الكلية والصور فائضة عليها ، فالعناصر أيضا صورة من صور الطبيعة كما يذكر ، وكان نفخ الروح الأمين نفسه فيها منضما مع الصورة العنصرية وهو المطلوب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالعناصر صورة من صور الطبيعة وما فوق العناصر وما تولد عنها فهو أيضا من صور الطبيعة . )
أي ، الصور النوعية التي للعناصر ، روحانية كانت أو جسمانية ، هي من جملة الصور الفائضة على الطبيعة الكلية والصور التي فوق العناصر الأربعة ، كصور السماوات السبع ، وما تولد منها من صور الملائكة السماوية أيضا من صور الطبيعية .
فضمير ( عنها ) راجع إلى ما أنثه باعتبار الكثرة التي في معناها ، وهي صور السماوات
وصور الملائكة المتولدة من السماوات . ويجوز أن يكون راجعا إلى ( العناصر ) .
ومعناه ، والصور التي فوق العناصر التي هي السماوات ، وفوق ما تولد من العناصر بعد وجود السماوات ، وهي الصور الملائكة السماوية ، فهي أيضا من صور الطبيعة .

ولما كانت السماوات وما تولد منها عنصرية وما فوقها من صورة العرش والكرسي والملائكة التي فيها طبيعة غير عنصرية ، قال : ( وهي الأرواح العلوية التي فوق السماوات السبع ) فالضمير عائد إلى الصور التي هي فوق العناصر والسماوات المعبر عنها بقوله .
( وأما فوق العناصر وما تولد عنها من صور الطبيعة ) أي ، الصور التي فوق السماوات ، هي صور الأرواح . أي ، الملائكة العلوية التي للعرش والكرسي وما فوقها من العقول والنفوس المجردة .
وإنما جعل السماوات داخلة في العناصر ، لتولدها منها ، كما جاء في الحديث : ( أنها خلقت من دخان ) . العناصر . وقال تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) .
لذلك قال : ( وأما أرواح السماوات السبع وأعيانها فهي عنصرية ، فإنها من دخان العناصر المتولد عنها . ) وإليه ذهب الحكماء الإسلاميون
والمحققون أصحاب الذوق والشهود وكثير من الحكماء الإشراقيين .
وأرواح السماوات نفوسها المنطبعة المدبرة لها ، لا عقولها ونفوسها المجردة ، فإنها من صور الطبيعية النورية العنصرية .
( وما تكون عن كل سماء من الملائكة فهو منها . ) ، ( تكون ) من ( التكون ) .
أو بالياء من ( الكون ). أي وما يكون عن جنس كل سماء ومادتها من الملائكة فهو من العناصر .
ولا ينبغي أن يتوهم أن المراد بالملائكة هنا نفوسها المنطبعة فقط ، فإن لكل سماء نفسا منطبعة ، وملائكة خلقها الله من مادة كل منها بحيث كادت لا يتناهى .

قال رضي الله عنه في الباب الثالث عشر من فتوحاته :
( ثم خلق جوف الكرسي أفلاكا فلكا من جوف فلك . وخلق في كل فلك عالما منه يعمرونه ، سماهم ( ملائكة ) يعنى رسلا .
( فهم عنصريون ومن فوقهم طبيعيون . ) أي ، الملائكة السماوية عنصريون ، ومن فوقهم من ملائكة العرش والكرسي ونفوسهما الناطقة والمنطبعة والعقول المجردة - كلها طبيعيون .
قال رضي الله عنه  في الباب الثالث عشر من فتوحاته :
( إن أول جسم خلقه الله أجسام أرواح الملائكة المهيمة في جلال الله . ومنهم العقل الأول والنفس
الكلية وإليها انتهت الأجسام النورية المخلوقة من نور الجلال .وما ثم ملك من هؤلاء الملائكة من وجد بواسطة غيره إلا النفس التي دون العقل .
وكل ملك خلق بعد هؤلاء ، فداخلون تحت حكم الطبيعة . فهم من جنس أفلاكها التي خلقوا منها وهم عمارها والمراد هاهنا بالطبيعة ، الطبيعة العنصرية .
لذلك قال : فهم من جنس أفلاكها . وبالجسم النوري الجسم الطبيعي الغير العنصري .

(ولهذا وصفهم الله ب‍ " الاختصام " ، " أعني الملأ الأعلى " لأن الطبيعة متقابلة ) أي ، ولأجل أن الملائكة التي فوق السماوات ، وهم الملأ الأعلى ، طبيعية ، وصفهم الله بالاختصام ، لأن الطبيعة متقابلة .

وذلك لأنها محل ولاية الأسماء ومظهر أحكامها . والأسماء الإلهية متقابلة : فإن ( الرحيم ) يقابل ( المنتقم ) ، ( القهار ) و ( المعز ) يقابل ( المذل ) . وكذلك جميع الأسماء .
ولما كانت الصفات المتقابلة التي في المرتبة الإلهية لا يظهر تقابلها إلا في مظاهرها - الموجودة في الخارج ومادة الوجود الخارجي التي منها يتعين الموجودات هو النفس الرحماني .

قال : ( والتقابل الذي في الأسماء الإلهية التي هي النسب ، إنما أعطاه النفس . )
أي ، أظهره النفس بقابليته ، لأن التقابل غير حاصل في الأسماء ، ثم يحصل منه ، فإن التعينات الأسمائية في الحضرة الإلهية والعلمية يقتضى ذلك التقابل .
ولو لم يكن تقابلها في الباطن ، لم يكن أيضا في الظاهر ، إذا الظاهر صورة الباطن ، والوجود الخارجي يخرج ما في الباطن إلى الظاهر .
وكون أعيان السواد والبياض والحرارة والبرودة في الذهن مجتمعة ، لا يمنع تقابلها ، كما لا يمنع التقابل الذي بين النقيضين المجتمعين في العقل ، دون الخارج .
فلا يقال : الأسماء لا يتقابل إلا في صورها التي يتحقق بها حقائق تلك النسب ، ولولا وجوداتها بظهوراتها في الصور ، لم يتقابل ( ألا ترى الذات الخارجة عن هذا الحكم . )
أي ، عن حكم التقابل .

وهي الذات الإلهية من حيث المرتبة ( الأحدية ) . ( كيف جاء فيها الغنى عن العالمين ؟ ) وقد مر في أول الكتاب أن الذات الإلهية من حيث أحديتها موصوفة بالغنى عن العالمين ، ومن حيث إلهيتها وأسمائها موصوفة بالافتقار حيث

قال : ( فالكل مفتقر   ...... ما الكل مستغن )
وهذا أيضا دليل على أن التقابل في الحضرة الأسمائية حاصل    

( فلهذا خرج العالم على صورة من أوجدهم ، وليس إلا النفس الإلهي . )
أي ، فلهذا خرج العالم يتقابل بعضها بعضا ، كما يتقابل الأسماء بعضها بعضا .
فهو موجود على صورة من أوجدهم . وليس ذلك الموجود إلا ( النفس الرحماني ) .
وضمير المفعول في ( أوجدهم ) عائد إلى ( العالم ) . جمعه باعتبار ( الأعيان ) .
واعلم ، أن ظاهر هذا الكلام أن ( النفس الرحماني ) عين المرتبة الإلهية ، وفي الحقيقة هو التجلي الوجودي الظاهر عن المرتبة الإلهية ، وصورتها الحاملة أحكام الأسماء ، ولهذا نسب إلى ( الرحمان ) الذي هو الاسم الجامع .

ولما كان حاملا لما في المرتبة الإلهية من الأسماء وأحكامها وصورة كلية لها ، جعل النفس عين من أوجدهم ، كما يقال لنبينا ، صلى الله عليه وسلم ، الاسم الأعظم . وهو صاحبه ، لكونه مظهرا للإسم ( الله ) .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيما فيه من الحرارة علا ، وبما فيه من الرطوبة والبرودة سفل ، وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل ، فالرسوب للبرودة والرطوبة . ألا ترى الطبيب إذا أراد سقى دواء لأحد ، ينظر في قارورة مائه ، فإذا رآه رسب ، علم أن النضج قد كمل ، فيسقيه الدواء ليسرع في النضج . وإنما يرسب لرطوبته وبرودته الطبيعية . )
ضمير ( فيه ) عائد إلى ( النفس ) . أي ، فيما فيه هذه الكيفيات المتقابلة المتضادة علا
بعض الأعيان لاقتضاء الاسم الحاكم عليه العلو ، كالنار والهواء والملائكة التي فيها ، وسفل بعضها لكون ربه طالبا للمركز في الوجود ، كالتراب . وإنما يحصل الرسوب في الماء المستشهد لأنه مشتمل على الأركان الأربعة .
 
فالأجزاء الصغار الأرضية إذا رسبت ، علم الطبيب أن الأخلاط البدنية استعدت أن ينفصل بعضها عن بعض ، وصارت قابلة للاندفاع ، وهو المراد ب‍ ( النضج ) .
فبالرطوبة يحصل السيلان ، وبالبرودة النزول ، إذ البرودة تكثفها ، فيندفع الطبيعة حينئذ ما زاد على الحاجة ويمسك ما يحتاج إليها .

واعلم ، أن كل من علم هذه المباحث النفسية ، ظهر له كون الخلأ ، محالا ، كما هو مقرر عند الحكماء أيضا ، إذ لو خلا النفس الرحماني عن الصورة ، لاندكت الجبال وانشقت السماء لتجلى الحق بارتفاع تلك الصورة الحجابية ، وظهر له وجود الهيولى الكلى ، وعروض الصور الروحانية والجسمانية عليه ، وكون الصور السماوية قابلة للتبديل والتغير بتجليه واظهاره لها مرة أخرى ، وكون الأبعاد غير متناهية ، إذا النفس الإلهي غير متناه .

كما قال : ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ) . أي ، منقطعا . لكنه ما شاء انقطاعه ، فما انقطع ، وأن فوق الأطلس ، المسمى بالعرش الكريم ، أجسام نورية ، كالعرش المجيد وكرسيه والعرش العظيم ، كما صرح في الفتوحات بها .
ومنتهاها من هذا الطرف فلك الثوابت ومن الطرف الآخر هو الوجود البحت الحق والنور المطلق .
( فسبحان ربك رب العزة عما يصفون ) . وتعالى الله عما يقول الظالمون المحجوبون علوا كبيرا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، إن هذا الشخص الإنساني عجن طينته بيديه ، وهما متقابلتان ، وإن كانت كلتا يديه يمينا ، فلا خفاء بما بينهما من الفرقان . ولو لم يكن إلا كونهما اثنين ، أعني يدين . )

لما ذكر أن الطبيعة متقابلة والأسماء الإلهية متقابلة - وكان عجن طينة آدم بيديه وهما متقابلتان - نقل الكلام إليه . وإنما كانت يداه متقابلتان ، لأنهما عبارة عن الصفات الجمالية والجلالية ، كالرضا والغضب واللطف والقهر .
وكونهما يمينا ، أي ، مباركا رحمانيا موصلا إلى الكمال ومتساويا في القدرة والقوة والتأثير ، والفرقان بينهما باقتضاء كل منهما صفة تقابل مقتضى الآخر ، وأقل مراتب الفرقان بينهما كون تعين أحدهما مغائرا لتعين الآخر ، ولذلك صار اثنين ، أي ( يدين ) .

ثم ، قال الشيخ رضي الله عنه : ( لأنه لا يؤثر في الطبيعة إلا ما يناسبها ، وهي متقابلة ، فجاء باليدين)
تنبيها على أن المناسبة ثابتة بين العلة ومعلولها . فلما كان المعلول مقتضيا للتقابل بقابليته ، كانت العلة أيضا مقتضية له بفاعليتها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما أوجده باليدين ، سماه ( بشرا ) للمباشرة اللائقة بذلك الجناب باليدين المضافتين إليه. )
أي ، سماه ( بشرا ) في قوله : ( إني خالق بشرا من طين ) . لما باشره بيديه في خلقه .
وفيه إشارة إلى أن ( البشر ) مأخوذ من ( المباشرة ) ، كما يقال : يسمى ( الخمر ) خمرا لتخميره للعقل .
ولما علم أن المحجوب يتوهم من ( اليدين ) العضو الخاص ، ومن المباشرة المباشرة الحسية ، نزه بقوله : ( للمباشرة اللائقة بجنابه ) . و ( باليدين ) الممكنة إضافتهما إلى حضرته .
والمباشرة اللائقة بجنابه اقتضاء عنايته الذاتية ومشيئته الأصلية ومحبته الأزلية إظهار موجود جامع لصفاته المتقابلة ، ومحل لائق لسلطنة أسمائه المتعالية ، كما أشار إليه في صدر الكتاب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وجعل ذلك من عنايته بهذا النوع الإنساني ، فقال لمن أبى عن السجود له : " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت " على من هو مثلك ، يعنى عنصريا . " أم كنت من العالين ؟ " عن العنصر ؟ ولست كذلك . ونعني ب‍ " العالين " من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النورية عنصريا وإن كان طبيعيا . )
المراد ب‍ ( العالين ) الملائكة المهيمون في أنوار جمال الذات ، المتجلية لها بالتجلي الجبالي . وهم الكروبيون والملائكة المقربون ، كجبرئيل وميكائيل وغيرهم من طبقتهم . لذلك وصفهم بأنهم نوريون طبيعيون لا عنصريون .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فما فضل الإنسان غيره من الأنواع العنصرية إلا بكونه بشرا من طين ، فهو أفضل نوع من كل ما خلق من العناصر من غير مباشرة . )
أي ، فما فضل الإنسان غيره من الموجودات إلا بما باشر الحق بيديه في خلقه ، ليجمع بين الصفات المتقابلة ، وباشر غيره بيد واحدة ، ليظهر بصفة واحدة بلا واسطة ، كالصنف الأول ، أو بواسطة كالصفوف التي بعده .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالإنسان في الرتبة فوق الملائكة الأرضية والسماوية ، والملائكة العالون خير من هذا النوع الإنساني بالنص الإلهي . ) النص الإلهي قوله تعالى : ( أم كنت من العالين ؟ )
وقال في الفتوحات : ( إني رأيت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فسألته أن الإنسان أفضل أم الملائكة ؟ فقال ، عليه السلام : " أما سمعت بأن الله يقول : من ذكرني في نفسه ، ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ، ذكرته في ملأ " . ففرحت بذلك .
فالملأ الذي خير منهم هم العالون . وهذه الخيرية إنما هي بحسب عموم أفراده ، لا بحسب الخصوص .

وتحقيقه : أنك قد علمت أن لكل موجود من الموجودات وجها خاصا لربه لا يشاركه فيه غيره ، والإنسان جامع لجميع تلك الوجوه ، لأنه جامع لجميع الحقائق الكونية والإلهية ، كما هو مقرر عند جميع المحققين ، فالإنسان من حيث حقيقته خير من جميع الموجودات ، لذلك صار خليفة عليها . ومن حيث خلقيته أيضا الإنسان الكامل والأقطاب والأفراد خير من جميعها ، لظهور الحق فيهم بجميع كمالاته وصفاته دون غيره .

وغيرهم من الأناسي لا يخلو إما أنه وقع في النصف الأعلى من دائرة حقيقة الإنسان ، أي وقع في الطرف الكمالي ، أو في النصف الأسفل ، أي الطرف النقصاني .
الأول خير من الملائكة الأرضية والسماوية جميعا ، لتسبيحهم للحق وتقديسهم له بألسنة أكثرهم ، بل كلهم كالمتوسطين في الكمال المتوجهين إلى حضرة ذي الجلال .
والنصف الثاني أدنى مرتبة من الملائكة السماوية ، دون الأرضية ، إلا من وقع في أسفل سافلين من الإنسان ، فإنه شر من كل حيوان وأدنى مرتبة من كل شيطان .
وهذا مجمل شأنا ، فعليك تفصيله بيانا . والله أعلم بالمراتب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أراد أن يعرف النفس الإلهي ، فليعرف العالم ) لأن العالم صورته ، فإذا عرفت العالم بحقيقته ، عرف النفس الإلهي ونفسك أيضا .
( فإنه من عرف نفسه ، فقد عرف ربه ) لأن نفسه صورة ربه ومظهره ، فمن عرف نفسه معرفة تامة ، عرف ربه الذي ظهر فيه ضرورة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( الذي ظهر فيه ، أي ، العالم ظهر في النفس الرحماني الذي نفس الله تعالى به عن الأسماء الإلهية ما تجده من عدم ظهور آثارها بظهور آثارها . فامتن على نفسه بما أوجده في نفسه .)

قوله : ( الذي ظهر فيه ) صفة ( للعالم ) وإن كان صالحا أن يكون صفة للرب ، لذلك فسر بقوله : ( أي ، العالم ظهر في النفس الرحماني ) فالحديث اعتراض بين الصفة والموصوف ودليل للحكم .

والمقصود ، أن أعيان العالم هي التي ظهرت على النفس الرحماني ، وبظهورها نفس الله تعالى عن الكرب الذي كان يجده في نفسه ، لأن الأسماء التي هي النسب كانت طالبة لظهورها وأحكامها ، والأعيان الثابتة كانت طالبة لكمالاتها ، فكانت كرب الرحمان ، فبظهورها وظهور آثارها زال ذلك الكرب ، فامتن الله بنفسه على نفسه بما أظهره في نفسه من صور أعيان الموجودات .
ولما كان التنفيس للحق من حيث الأسماء ، لا من حيث الذات الغنية عن العالمين ، قال : ( نفس الله ) من الأسماء . و(ما) في (ما تجده) بمعنى (الذي) ،وضمير الفاعل عائد إلى (الأسماء) .

( فأول أثر كان للنفس الرحماني ، إنما كان في ذلك الجناب ، ثم لم يزل الأمر ينزل بتنفيس الغموم إلى آخر ما وجدا . ) أي ، فأول أثر حصل من النفس الرحماني ، كان في الجناب الإلهي ، أي ، أول ما نفس من الاسم ( الله ) ، ثم من باقي الأسماء الكلية ، ك‍ ( الرحمان ) و ( الرحيم ) ، ثم من الأسماء التالية لها إلى أن نفس من الأسماء الجزئية التي يقتضى أعيان الموجودات الشخصية وتوابعها من الجزئيات المضافة إليها والتابعة لها .

وفيه إشارة إلى ما مر في المقدمات من أن أول ما تعين من الأعيان والمهيات في العلم ، عين الإنسان الكامل التي هي المظهر للإسم ( الله ) ، ولكونها جامعا للأسماء له أشد الكرب ، فوجب أن يكون أول التنفيس من جنابه ، ثم من غيره من الحضرات .

(فالكل في عين النفس ...... كالضوء في ذات الغلس )
( الغلس ) ظلمة آخر الليل . إنما شبه حصول جميع الأعيان الموجودة والأكوان الظاهرة والآثار الصادرة منها في عين النفس الرحماني بالضوء الحاصل في ظلمة الليل.
إشارة إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق الخلق في ظلمة ، ثم رش عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور ، اهتدى ، ومن أخطأ ، ضل وغوى " .
وفي هذا التشبيه إيماء أيضا إلى كون العالم بأسره أعراضا ، فإن الضوء عرض والنفس عرض ، لأنه عبارة عن انبساط التجلي الوجودي وامتداده وظهوره ، ومعروضه حقيقة الوجود الحقيقي الذي هو الحق المطلق .


(والعلم بالبرهان في   ..... سلخ النهار لمن نعس )
( النعاس ) النوم . ( سلخ ) النهار آخره . أي ، إدراك هذه المعاني إنما هو بالكشف العياني ، لا بالدليل البرهاني ، فمن وجده كشفا وعيانا ، فقد أصاب ، لأنه أدرك الأمر على ما هو عليه ، ومن حصله بالنظر والبرهان من وراء ستور الحجب مع أن شمس الحقيقة طالعة ويوم الكشف الإلهي قد لاح صباحه بوجود العين المحمدي في هذه النشأة الدنياوية وبقى على حجابه إلى سلخ هذا اليوم الذي مقداره ألف سنة ، فهو ناعس في نوم الغفلة .
كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( الناس نيام ، فإذا ماتوا ، انتبهوا ) .

( فيرى الذي قد قلته  ...... رؤيا تدل على النفس )
أي ، الناعس المحجوب يرى ما قررته وأشرت إليه من النفس الرحماني وآثاره بنظر عقله ، كما يرى النائم رؤيا تعبيره وجود النفس المذكور .
وإنما شبهه بالرؤيا التي يجب التعبير عنها ، لأن الرائي صورة ما في نومه ، يدرك نفسه معنى ما من وراء حجابية تلك الصورة المتجسدة ، وقد يعلم حقيقة ما يراه وقد لا يعلم ، وكذلك صاحب النظر يحكم بعقله على ما يجد من وراء الحجاب ،وقد يكون على يقين من ربه ،وقد لا يكون .

( فيريحه من كل غم  ..... في تلاوته عبس )
أي ، فيريحه العلم الحاصل بالبرهان عن كل غم وعبوس كان يجده حال عدم إدراكه وحين جهله . فكأنه كان تاليا ( عبس وتولى ) بلسان الحال ، إذ كانت نفسه في عبوس الفكر وضيق الجهل ، ثم زال ذلك عنه بالبرهان الذي حصل له لا بالقال .

( ولقد تجلى للذي  ...... قد جاء في طلب القبس )
أي ، العالم بالبرهان لو اجتهد وطلب من روحه القدسي نورا يرى به الأشياء كما هي ، يحصل له ذلك . كما حصل لمن سافر في ظلمة ليل طبيعته ، وطلب من قواه الروحانية نارا ينور بها بيت قلبه واجتهد في ذلك صادقا وتوجه إلى ربه ، فكشف له الحق وتجلى ، فعلم يقينا مطلوبه .
 
(فرآه نارا وهو نور   ...... في الملوك وفي العسس)
أي ، أراه نارا ، وهو في الحقيقة نور إلهي متجل به للكمل والأقطاب الذين هم ملوك الطريقة وسلاطين الولاية ، وعلى المتوسطين في السلوك ، الذين لا وصول لهم إلى عين الكمال الحقيقي بحسب مقاماتهم ودرجاتهم في العالم المثالي المطلق والخيال المقيد .
وإنما أطلق عليهم ( العسس ) ، لأنه له السلطنة في ظلمة الليل ، كما لهم التصرف في الوجود مع عدم الوصول إلى مقام الجمع الإلهي .

( فإذا فهمت مقالتي  ...... تعلم بأنك مبتئس )
( المبتئس ) الفقير . و ( إذا ) بمعنى ( إن ) . أي ، إن علمت ، يا عالم بالبرهان ، مقالتي في النفس الرحماني ولوازمه المدركة بالكشف ، تعلم بأنك مبتئس فقير مفلس ، فلا تدعى أنك عالم بالحقائق ، كما لا يليق بالمفلس أن يدعى الغنى ، حتى لا يكون كمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيه : ( المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور ) . وفي بعض النسخ : ( فاعلم فإذا بمعناه ) .
وقد يجزم ب‍ ( إذا ) في الشعر ضرورة ، كقول الشاعر :
(وإذا تصبك من الحوادث نكبة فاصبر ، فكل غيابة فستنجلي) فيكون ( تعلم ) مجزوما للضرورة .

(  لو كان يطلب غير ذا  ...... لرآه فيه ومانكس )
أي ، لو طلب موسى ، عليه السلام ، غير النار ، لرأى الحق في صورة مطلوبه كان ما كان ، وما نكس الحق وجهه عن المطلوب الحقيقي لقوة صدقه في الطلب وكثرة توجهه إلى الحق ، فلو طلب ما طلب ، لظهر له الحق فيه وما قلب وجهه عن حضرته . فطوبى لمن لا يتوجه إلا إليه ، ولا يضع رأسه إلا بين يديه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما هذه الكلمة العيسوية لما قام لها الحق في مقام " حتى نعلم " ويعلم ، استفهمها عما نسب إليها هل هو حق أم لا ، مع علمه الأول بهل وقع ذلك الأمر أم لا ؟ ) .
لما تكلم في الإحياء الحسى الجسماني والإحياء المعنوي الروحاني في حكمة الكلمة العيسوية ، شرع في بيان مطلعات ما جاء في كلمته من الآيات .
ومعناه : أن الحق لما قام لها ، أي للكلمة العيسوية في مقام : ( حتى نعلم ويعلم ) الأول بالنون للمتكلم والثاني بالياء للغائب أي في مقام الفرق .
كما قال تعالى :( حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ) . وقد تقدم بأنه كلمة محققة المعنى ، أي حتى نعلم ما تعطيه ذاته المعينة لنا من أحوالها ويعلم هو ما تعطيه تلك الذات له من حيث تعينها الموجب للفرق بيننا وبينه ، استفهم عن كلمته عما نسب إليها من الألوهية ، هل هو حق ؟ أي ، فهل ذلك المنسوب إليك ثابت في نفس الأمر ، أم لا . وهل وقع منك الأمر به ، أم لا.

.
يتبغ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الرابع .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:47 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الرابع .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الرابع
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
( فقال له : " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " . ) ولما كان الاستفهام بقوله : ( أأنت قلت ) مفيدا معنى قوله : ( حتى نعلم ) ، قال أولا : ( قام لها الحق في مقام "حتى نعلم " )
( فلا بد في الأدب من الجواب للمستفهم ) أي ، يجيبه من مقام التفرقة لا مقام الوحدة ، فإن فيها نوعا من دعوى الألوهية . والأنبياء والأولياء الكمل لا يزالون مختارون مقام العبودية لما فيه من مراعا ت الأدب مع الله .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأنه لما تجلى له في هذا المقام وفي هذه الصورة ، اقتضت الحكمة الجواب في التفرقة بعين الجمع . )
أي ، لأنه تعالى يتجلى في مقام التفرقة ، فاستفهم على صورة الإنكار بقوله : ( أأنت قلت ؟ ) بضمير الخطاب مرتين ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يجب في مقام التفرقة التي هي في عين الجمع . فإن الكمل لا تحجبهم التفرقة عن مقام الجمع ، ولا الجمع عن التفرقة .
( فقال وقدم التنزيه : ( سبحانك ) . فحدد ب‍ ( الكاف ) التي يقتضى المواجهة والخطاب . )
أي ، نزه الحق أولا عن مقام هو فيه ، وهو العبودية المنعوتة بالإمكان ونقائصه اللازمة له ، وميز بين مقام الألوهية والعبودية - بكاف الخطاب - والمواجهة ، كما خاطبه الحق بضمير الخطاب ، وذلك التنزيه والتميز هو التحديد .
كما مر في ( الفص النوحي ) . لذلك قال : ( فحدد بالكاف ) . (
( ما يكون لي ) من حيث أنا لنفسي دونك ( أن أقول ما ليس له بحق ) . أي ، ما يقتضيه هويتي ولا ذاتي . ) قد مر مرارا أن لكل موجود جهتين : جهة الربوبية وجهة العبودية ، والثاني متحقق بالأول .
فقوله : ( ما يكون لي ) أي ، لنفس من جهة العبودية والأنانية مجردة عن جهة الربوبية والهوية الإلهية أن أقول ما ليس لنفسي بحق ثابت في نفس الأمر .
 
وقوله : ( أي ، ما يقتضيه هويتي ولا ذاتي . ) ، تفسير لقوله : ( ما يكون لي ) .
ومعناه : ما يقتضيه عيني وهويتي أن يظهر بدعوى الألوهية من حيث نفسها المتعينة ، كالفراعنة ، وإلا ما كانت نبيا ولا من المرسلين .
( إن كنت قلته فقد علمته ) لأنك أنت القائل في صورتي ، ومن قال أمرا ، فقد علم ما قال .
(وأنت اللسان الذي أتكلم به ) أي ، أنت القائل في صورتي ، وأنت اللسان الذي أتكلم به بحكم أنك متجل في هويتي وعيني ومحل لها بتلك الكمالات ، فهي لك في الحقيقة ، ومالي إلا العدم .
فإن قلت : ذلك تكون أنت القائل ، والقائل لا بد أن يعلم القول الذي صدر منه .
فإن قلت قوله : ( لأنك أنت القائل ) يدل على أن الحق هو المتكلم ، وقوله : ( وأنت اللسان الذي أتكلم به ) تدل على أن العبد هو المتكلم لا الحق ، فبينهما منافاة .
قلت : الأول إشارة إلى نتيجة قرب الفرائض .
والثاني إلى نتيجة قرب النوافل .
وفي الأول ، المتكلم هو الحق بلسان العبد ، وفي الثاني ، المتكلم هو العبد بلسان الحق ، فتغايرت الجهتان .
ولما فسره بما هو مناسب الحديث الرباني ، قال : ( كما أخبرنا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عن ربه في الخبر الإلهي فقال : "كنت لسانه الذي يتكلم به " . فجعل هويته عين لسان المتكلم ونسب الكلام إلى عبده . )
أي ، قال الله في حق عبده : ( فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه . فبي ينطق وبي يبصر وبي يسمع ) . فالمتكلم والسميع والبصير هو العبد ، لكن بالحق .
وذلك لأن هذا المقام ، أي مقام الفناء في الصفات ، مقام نتيجة النوافل لا مقام الفناء في الذات مقام نتيجة الفرائض .
( ثم ، تمم العبد الصالح الجواب بقوله : " تعلم ما في نفسي " . ) أي ، تعلم ما في نفسي من هويتك وكمالاتك المستترة في هويتي ، وما يخطر في خاطري .
( والمتكلم الحق . ) أي ، والحال أن المتكلم بهذا الكلام هو الحق من مقام تفصيله بلسان عيسى ، عليه السلام . و ( التاء ) للخطاب إلى مقام جمعه ، فهو السامع ، كما أنه هو المتكلم .
( ولا أعلم ما فيها . فنفى العلم عن هوية عيسى من حيث هويته ،لا من حيث إنه قائل وذو أثر.) أي ، نفى الحق المتكلم بلسان عيسى العلم عن هوية عيسى حتى لا يكون له العلم بها . وذلك النفي من حيث هويته العدمية ، لا من حيث إنه قائل أو قادر ، فإنه من هذه الحيثية حق لا غيره.
وإنما قال : ( ولا أعلم ما فيها ) ولم يقل : ( ما في نفسك ) . كما في القرآن ، تنبيها على أن نفسه عين نفس الحق في الحقيقة ، وإن كانت غيره بالتعين )  . (إنك أنت ) . فجاء بالفصل والعماد تأكيدا للبيان ، واعتمادا عليه ، إذ لا يعلم الغيب إلا الله . ) أي ، فقال : ( إنك أنت علام الغيوب ) . فجاء بضمير الفصل والعماد ، وهو ( أنت ) ، تأكيدا للبيان ، وأنه هو علام الغيوب لا غيره . أو تأكيدا لبيان الفرق في عين الجمع ، وتحقيقا لفردانية الحق ووحدانيته ، ليكون هو علام الغيوب جمعا وتفصيلا .
( ففرق وجمع ووحد وكثر ووسع وضيق ) إنما جاء بالتشديد في الكل للمبالغة .
كما يقال ( قطع ) للمبالغة في القطع . ومعناه : فرق بإفراد الحق وجعله مخاطبا ، وجمع بجعله ظاهرا في صورته وصورة كل العالم .
ووحد من حيث ذاته الأحدية ، وكثر من حيث مظاهره التفصيلية . ووسع من حيث شمول هويته
للكل ، وضيق في كل من مظاهره الشخصية ، إذ لا يسعه فيها غيره .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثم ،قال متمما للجواب : "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به" فنفى أولا مشيرا إلى أنه ما هو ثمة) لما كان ( ما ) في ( ما قلت ) للنفي ، قال : ( نفى أولا ) .
وهذا النفي إشارة إلى نفى وجوده وفناء تعينه في وجود الحق وتعينه الذاتي ، فما كان الوجود
العيسوي باقيا ليقول قولا .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، أوجب القول أدبا مع المستفهم . ولو لم يفعل كذلك ، لا تصف بعدم علم الحقائق حاشاه عن ذلك ، فقال : " إلا ما أمرتني به " . وأنت المتكلم على لساني وأنت لساني )
أي ، أثبت أمر الحق وهويته . وقوله بلسان الصورة العيسوية بقوله : ( إلا ما أمرتني به ) بعد نفى هويته العدمية .
 
ولو لم يفعل كذلك ، لكان غير عالم بالحقائق ، إذ نفى الهوية العيسوية بلا إثبات الهوية الإلهية يكون نفيا مطلقا ، وليس ذلك من شأن العلماء الراسخين . ولما أثبت القول لعيسى والقائل هو الحق .
قال رضي الله عنه عن لسان عيسى ، عليه السلام : ( وأنت المتكلم وأنت لساني . )
( فانظر إلى هذه التنبئة الروحية الإلهية ما ألطفها وأدقها . ) ( التنبئة ) تفعلة من ( نبأ ) . وأكثر الناظرين فيه قرأوا ( تثنئة ) من الثنى .
وهو تصحيف منهم ، إذ هذه الحكمة حكمة نبوية ولا يحتاج لتثنئة ، بالثاء ، إلى الوصف الروحية والإلهية أي ، فانظر إلى هذا الإنباء الروحاني الإلهي ما ألطفها ، أي عبارة ، وما أدقها ، أي إشارة .
وما جعلني الله مطلعا إلى مثل هذه الإشارات اللطيفة في هذا الكتاب إلا بعون ومدد من روحانية هذا الكامل ، رضي الله عنه ، وأرضاه منه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ("أن اعبدوا الله " . فجاء بالاسم ( الله ) لاختلاف العباد في العبادات واختلاف الشرائع ، ولم يخص اسما خاصا دون اسم ، بل جاء بالاسم الجامع للكل. )
أي ، جاء بالاسم ( الله ) الجامع للكل ، فإن لكل من العباد ربا خاصا من هذه الحضرة الإلهية ، ولكل شريعة اسما حاكما عليه من مطلق الشريعة الرحمانية .
( ثم ، قال له : "ربى وربكم " . ومعلوم أن نسبته إلى موجود ما بالربوبية ،ليست عين نسبته إلى موجود آخر ) لأن عبد ( المنعم ) ليس عبد ( المنتقم ) وعبد ( الرحيم ) ليس عبد ( القهار).
 
( فلذلك فصل بقوله : "ربى وربكم" بالكنايتين : كناية المتكلم وكناية المخاطب ) ظاهر .
("إلا ما أمرتني به " فأثبت نفسه مأمورا ، وليست سوى عبوديته ، إذ لا يؤمر إلا من يتصور منه الامتثال وإن لم يفعل . ) نقل الكلام إلى ما مر ، ليقرر ما يتعلق بمقام العبودية .
أي ، قال : ( ما أمرتني به ) فجعل نفسه مأمورا .
وليست هذه الحالة ، أو المأمورية ، سوى مقام العبودية ، إذ لا يؤمر إلا من يمكن أن يمتثل
بالأمر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما كان الأمر يتنزل بحكم المراتب ، لذلك ينصبغ كل من ظهر في مرتبه ما ، بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة . ) جواب ( لما ) محذوف ، يدل عليه ( لذلك ينصبغ ) .
تقديره : لما كان الأمر بحيث ينزل في المراتب الإلهية والكونية ، كان منصبغا بحكم كل من تلك المراتب .
والمراد ب‍ ( الأمر ) هنا الأمر المكلف ، أي ، أمر الحق بالتكليف يتنزل من مقام الجمع الإلهي ، فيتصف بالصفات الكونية ، كالحدوث والإمكان كباقي صفاته : فإن الأمر المضاف إلى القديم قديم واجب الإتيان به ، والأمر المضاف إلى المحدث حادث غير واجب الإتيان به . وأمر الشرع أمر الحق ، لذلك يجب الإتيان به.
 
ولأجل هذا الانصباغ تنصبغ وجود كل من ظهر في مرتبة من المراتب الوجودية بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة . ألا ترى أن الانسان قبل أن يولى له القضاء ، لا يسمع كلامه ولا ينفذ أحكامه ، وبعد التولي يسمع كلامه في دماء الناس وفروجهم وأموالهم ، والشخص الشخص في الحالتين .
فالحكم نتيجة القضاء . وكذلك غيره من المراتب .
( فمرتبة المأمور لها حكم يظهر في كل مأمور . ) وذلك الحكم هو الانقياد للأمر والطاعة للحكم والإجابة للدعاء .
( ومرتبة الآمر لها حكم يبدو في كل آمر . ) وهو التكليف للمأمور والحكم عليه .
( فيقول الحق : "أقيموا الصلاة" . فهو الأمر ، والمكلف والمأمور العبد .  
 
ويقول العبد : ( رب اغفر لي ) . فهو الأمر ، والحق المأمور . فما يطلب الحق من العبد بأمره
هو بعينه ما يطلب العبد من الحق بأمره . ) ( ما ) بمعنى ( الذي ) . وضمير ( بأمره ) الثاني عائد إلى ( العبد ) . أي ، الذي يطلبه الحق من العبد بالأمر هو الذي بعينه يطلبه العبد من الحق بأمره وقوله : ( رب اغفر لي ) وذلك المطلوب هو الإجابة .
أي ، كما يطلب الحق من العبد إجابة ما أمره ، كذلك العبد يطلب من الحق إجابة ما يأمره ويطلبه .
( ولهذا كان كل دعاء مجابا . ) ولأجل أن العبد أجاب الحق وأتى بأوامره ، أجاب الحق أيضا كل دعاء للعبد ، لتحصل المجازاة الموعودة .
لذلك قال عليه السلام : ( رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله
لأبره ) وذلك لكونه مطيعا لله في جميع أوامره ، فصار الحق أيضا مطيعا له في مطالبه بحكم ما أمره . كما قال تعالى : ( من أطاعني ، فقد أطعته ، ومن عصاني ، فقد عصيته ) .
واعلم ، أن قوله : ( كل دعاء مجاب ) مع أنه حديث نبوي محمول على الدعاء بلسان الاستعداد والحال ، لا بلسان النفس والقال ، ولذلك لا يحصل كثير من مطالب المحجوبين والكفرة لا في الدنيا ولا في الآخرة . وعدم الحصول للرحمة عليهم ، فإن أكثر مطالبهم مما تضرهم ولا تنفعهم .
( ولا بد وإن تأخر ) أي ، حصول الإجابة . ( كما يتأخر بعض المكلفين )
 
أي ، كما تتأخر الإجابة عن بعض المكلفين ، ( ممن أقيم مخاطبا بإقامة الصلاة ، فلا تصلى في وقت ، فيؤخر الامتثال ، ويصلى في وقت آخر ، إن كان متمكنا عن ذلك ، فلا بد من الإجابة ولو بالقصد . ) أي ، فلا بد من الإجابة من العبد ، ولو كان تأخير العبد ذلك المأمور بالقصد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم قال : ( وكنت عليهم ) ولم يقل : على نفسي معهم . كما قال : " ربى وربكم شهيدا ما دمت فيهم " . لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم.)
أي ، قال : "وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم " .
ولم يقل : وكنت شهيدا على نفسي ، وأنفسهم المشهود عليهم . كما فصل بين ربه وربهم بقوله : ( ربى وربكم ) لأن الأنبياء شهداء على أممهم ، و ( الشهيد ) اسم من أسماء الحق ، فهم مظاهره ، فالحق هو الشهيد عليهم بأعيان الأنبياء ، لا غيره
 .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ("فلما توفيتني " أي ، رفعتني إليك وحجبتهم عنى وحجبتني عنهم "كنت أنت الرقيب عليهم" في غير مادتي ، بل في موادهم . )
أي ، كنت أنت الرقيب عليهم في عين موادهم الروحانية والجسمانية بحكم المعية وبحكم الهوية الظاهرة فيهم المتسترة بهم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذ كنت بصرهم الذي يقتضى المراقبة . فشهود الإنسان نفسه شهود الحق إياه وجعله بالاسم الرقيب . ) أي ، جعل عيسى ذلك الشهود للحق بالاسم الرقيبي .
( لأنه جعل الشهود له . ) أي ، لأن عيسى ، عليه السلام ، جعل الشهود للحق بقوله : " كنت أنت الرقيب عليهم " . ومعناه : أن الحق يرقبهم ويشاهدهم من عين أعيانهم وهم لا يشعرون  
 
( فأراد أن يفصل بينه وبين ربه حتى يعلم أنه هو ) أي ، ليعلم أن عيسى هو العبد .
( لكونه عبدا ) في الواقع . ( وأن الحق هو الحق ، لكونه ربا له ، فجاء لنفسه بأنه شهيد ، وفي الحق بأنه رقيب . ) أي ، أراد عيسى ، عليه السلام ، أن يفصل بينه وبين ربه ، فجاء لنفسه بالشهيد ، وللحق بالرقيب .
و ( الشهيد ) تارة يؤخذ بمعنى المشاهد ، فيكون بمعنى الرقيب . وتارة يؤخذ بمعنى الشاهد الذي
يشهد على الشخص والحاضر عنده .
ولما كانت الأنبياء شهداء على أممهم يوم القيامة بالمعنى الأخير ، أتى في حق نفسه بالشهيد وفي الحق بالرقيب ، لأنه يشهد عليهم ما دام فيهم لا غير ، والحق رقيب عليهم أزلا وأبدا حيث كانوا دنيا وآخرة .
( وقدمهم في حق نفسه ، فقال : "عليهم شهيدا ما دمت فيهم " . إيثارا لهم في التقدم وأدبا ، وأخرهم في جانب الحق عن الحق في قوله : "الرقيب عليهم " لما يستحقه الرب من التقدم بالرتبة . ) أي ، قدم ضمير ( هم ) على الاسم ( الشهيد ) الذي جاء لنفسه بقوله : (عليهم شهيدا) وأخر ضمير ( هم ) عن الاسم ( الرقيب ) في قوله : ( كنت أنت الرقيب عليهم ) لما يستحق الرب من التقديم في المرتبة ، وتأخير ما جاء لنفسه ، لإيثار التقدم ولمراعاة الأدب بين يدي الحق ، إذ الكلام معه ، أو الأدب معهم ، لأنهم أيضا مظاهره ، وليتعلموا منه ذلك فيتأدبوا.
 
وأيضا ، التقديم يفيد الحصر فهو في حق الحق صادق ، إذ معناه : أنت الرقيب عليهم لا غيرك ، وفي حق نفسه لم يصدق ، لأنه ليس هو الشهيد عليهم فقط .
 
( ثم ، أعلم ) على صيغة الماضي من ( الإعلام ) . ( أن للحق " الرقيب " الاسم الذي جعله عيسى لنفسه وهو ( الشهيد ) في قوله : ( عليهم شهيدا ) فقال : "و أنت على كل شئ شهيد" . فجاء بكل للعموم ، وبشئ ، لكونه أنكر النكرات . وجاء بالاسم (الشهيد) فهو الشهيد على كل مشهود بحسب ما يقتضيه حقيقة ذلك المشهود . )
أي ، ثم أخبر إن الاسم ( الشهيد ) الذي قال في حق نفسه : "وكنت عليهم شهيدا " أيضا للحق بقوله : ( وأنت على كل شئ شهيد ) فجاء بلفظ ( الكل ) الذي هو للعموم ، وبلفظ ( الشئ ) الذي هو أنكر النكرات ، تفريقا بين كونه شهيدا وبين كون الحق شهيدا ، فإنه شهيد لقومه مدة بقائه فيهم ، والحق شهيد عليهم وعلى كل شئ أزلا وأبدا بحسب ما يقتضيه حقائقهم .
( فنبه على أنه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى حين قال : "وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم". فهي شهادة الحق في مادة عيسوية ، كما ثبت أنه لسانه وسمعه وبصره . )
أي ، نبه بقوله : "وأنت على كل شئ شهيد " أنه هو الشهيد أيضا في الصورة العيسوية ، لا غيره .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، قال : كلمة عيسوية ومحمدية . أما كونها عيسوية ، فإنها قول عيسى بإخبار الله عنه في كتابه . وأما كونها محمدية ، فلوقوعها من محمد ، صلى الله عليه وسلم ، بالمكان الذي وقعت منه ، فقام بها ليلة كاملة يرددها ، لم يعدل إلى غيرها حتى طلع الفجر : "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" . )
أي ، ثم قال عيسى كلمة ينسب إليه وإلى محمد ، صلى الله عليه وسلم ، وهي : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك . . . ) أما نسبتها إلى الكلمة العيسوية ، فبإخبار الله في كتابه عنه ، وأما نسبتها إلى المحمدية ، فيكونه ، عليه السلام ، قام بها ليلة كاملة يقرأها ويكررها حتى طلع الفجر . ولما قال : ( وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) . وكان الفقر سترا - وضمير الغائب أيضا يدل عليه فإن الغائب عن الحس مستور عنه - نبه عليه بقوله : ( و ( هم ) ضمير الغائب ، كما أن ( هو )
ضمير الغائب ، كما قال : ( هم الذين كفروا ) بضمير الغائب . فكان الغيب سترا لهم عما يراد بالمشهود الحاضر ، فقال : ( إن تعذبهم ) بضمير الغائب )
أي ، ( هم ) في قوله : "إن تعذبهم وإن تغفر لهم " ضمير الغائب . كما أنه ( هو ) في قوله : " قل هو الله أحد " . و (هو الذي في السماء اله وفي الأرض إله ) و (هو الله الذي لا إله إلا هو).
 
وأمثاله ضمير الغائب . فيكون الغيب الذي يدل عليه ضمير ( لهم ) و ( هم ) سترا وحجابا لهم عما يراد بالمشهود الحاضر . كما قال : ( هم الذين كفروا ) بضمير ( هم ) ووصفهم بالكفر الذي هو الستر . ففي الكلام تقديم وتأخير .
تقديره :
فكان الغيب سترا لهم عما يراد بالمشهود الحاضر ، كما قال هم الذين كفروا .
والمراد ب‍ ( المشهود الحاضر ) هو الحق الذي ظهر بنفسه الرحماني ، وصار مشهودا في مراتب عالم الأرواح المجردة بالصور النورية ، وفي عالم المثال والحس بالصور الحسية ، وذكر أيضا مرارا أن الأعيان ما شمت رائحة الوجود بعد ، وكل ما في الوجود هو تعينات وصور طارية على الوجود ، مثالا لها وعكسا ، فإن الأعيان لا تشاهد إلا في مرآة الوجود ، والوجود هو الحق ، فالمشهود الحق لا غير .
 
( وهو عين الحجاب الذي هم فيه عن الحق . ) أي ، ذلك الستر هو عين الحجاب الذي حجبهم عن الحق ، أي ، ذلك الغيب الذي يدل ضمير الغائب عليه ، عين الحجاب الذي هم فيه عن الحق ، فإن الغيب من حيث هو غيب شئ واحد ، وهو غيب الحق الذي يتستر الكاملون من العباد فيه عند فنائهم من صفاتهم ، وهو الغيب الذي يحصل من التقرب بالنوافل .
كما قال الشاعر المحقق :
( تسترت عن دهري بظل جناحه .... فعيني ترى دهري وليس يراني)
(فلو تسأل الأيام ما اسمى ما درت .... وأين مكاني ما درين مكاني )  
 
لذلك قال رضي الله عنه  : ( فذكرهم الله قبل حضورهم حتى إذا حضروا ، تكون الخميرة قد تحكمت في العجين ، فصيرته مثلها . ) أي ، ذكرهم الله بقوله : ( وإن تغفر لهم ) .
وبالضمير الذي في ( لهم ) على أنهم في ستر من أستار الله في هذه الحياة الدنيا قبل حضورهم بين يدي الحق يوم القيامة الكبرى وانبعاث الخلائق من القبور التي ستروا بها وفيها ، وهي الأبدان والجثث التي هي القبور المعنوية ، وهذه القبور الصورية صورتها .
حتى إذا حضروا الحق وفنوا فيه وقامت قيامتهم وشاهدوا بعين الحق ما كانوا عليه قبل ذلك تكون الخميرة ، أي ، خميرة ما جعل في طينة أعيانهم من استعداد الكمال والقابلية للوصول إلى الفناء في حضرة ذي الجلال ، قد تحكمت في عجين أعيانهم وطينة استعداداتهم ، فصيرته مثل نفسها .
أي ، أوصلتهم إلى الكمال المراد منهم . وهو مقام الفناء المذكور والستر المطلوب المنبه عليه بقوله : " وإن تغفر لهم فإنهم عبادك " .
فأفرد الخطاب للتوحيد الذي كانوا عليه ولا ذلة أعظم من ذلة العبيد ) أعاد قوله : (فإنهم عبادك) ليذكر ما فيه من الأسرار .
ومن جملتها الإفراد ب‍ ( الكاف ) ، فإنه يدل على التوحيد الذي كانوا عليه ، وإن لم يكن لهم شعور به . فإن العابد لكل معبود - كان ما كان - لا يعبد إلا لكونه إلها أو شفيعا عند الله ، كما قال : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) .
وفي الحقيقة لا يعبد إلا الحق الذي يظهر بتلك الصور . كما قال : ( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ) . وإطلاق ( العباد ) يدل على ذلة من يعبد ، ولا ذلة أعظم من ذلة العبيد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأنهم لا تصرف لهم في أنفسهم ، فهم بحكم ما يريده بهم سيدهم ، ولا شريك له فيهم ، فإنه قال : ( عبادك ) فأفرد .
والمراد بالعذاب إذ لا لهم . ولا أذل منهم ، لكونهم عبادا ، فذواتهم يقتضى أنهم أذلاء . فلا تذلهم ، فإنك لا تذلهم بأدون مما هم فيه من كونهم عبيدا .
( وإن تغفر لهم ) أي ، تسترهم عن إيقاع العقاب الذي يستحقونه بمخالفتهم ، أي ، تجعل لهم غفرا يسترهم عن ذلك ويمنعهم منه . ) استعمل ( الغفر ) بمعنى الغافر ، وهو الساتر . كما يستعمل ( العدل ) بمعنى العادل . يقال : رجل عدل . أي عادل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "فإنك أنت العزيز " أي ، المنيع الحمى ) تمنع ما تحميه عن أن يتسلط سلطان القهر عليه . ف‍ ( المنيع ) بمعنى المانع . و ( الحمى ) هو الممنوع . أو بمعنى الممنوع . أي ، ممنوع حماك عن أن يكون للغير وجود فيه . وحماه أحدية ذاته التي جميع الأشياء فانية فيها متلاشية عندها . أو عين العبد المحمى عن أن ينصرف فيه غيره .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا الاسم إذا أعطاه الله لمن أعطاه من عباده ) أي ، إذا جعله عزيزا .
( يسمى الحق ب‍ ( المعز ) والمعطى له هذا الاسم ب‍ " العزيز " ( لكونه مظهر العزة ( فيكون منيع الحمى عما يريد به ( المنتقم ) و ( المعذب ) من الانتقام والعذاب . )
أي ، فيكون الحق مانعا حماه ، وهو عين العبد الذي جعله الحق عزيزا ، عما يريد به ( المنتقم ) و ( المعذب ) من التسلط عليه . أو يكون العزيز ممنوع الحمى ، أي ، لا يكون للإسم ( المنتقم ) و ( المعذب ) عليه حكم . وذلك إما للعفو عن ذنوبه ، أو للمغفرة بهيئة ماحية للذنوب ، كقوله : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ، ولتكون الآية على مساق واحد في قوله : ( إنك أنت علام الغيوب ) . وقوله : ( كنت أنت الرقيب عليهم ) فجاء أيضا : "إنك أنت العزيز الحكيم " فكان ) أي ، تردد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قرائته ليلته الكاملة .
( سؤالا عن النبي ، عليه السلام ، وإلحاحا منه على ربه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر يرددها طلبا للإجابة . فلو سمع الإجابة أول سؤال ، ما كرر .فكان الحق يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب ) أي ، في كشفه أعيان العباد حال القراءة .
 
قوله : ( كان ) يجوز أن يكون ناقصة ، ويجوز أن يكون النون مشددة ( كأن ) لتكون من أخوات ( ان ) . والأول يفيد الجزم ، والثاني يفيد الظن والشك .
( عرضا مفصلا ) أي ، كان الحق يعرض عليه ، صلى الله عليه وسلم ، كل واحد واحد من أعيان العباد وذنوبهم . ( فيقول النبي ، عليه السلام له ) ، أي للحق .
( في كل عرض عرض وعين عين : ) أي ، في عرض فصل فصل وعرض عين عين .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " . فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه ) أي ، ولو علم النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في ذلك العرض أن الحق لا يريد العفو والمغفرة لهم ويريد القهر والانتقام منهم . ( لدعا عليهم لا لهم . ) لأن الأنبياء واقفون مع إرادة الحق ، ولا يشفعون للأمم إلا بإذن الله تعالى .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما عرض عليه إلا ما استحقوا به ما تعطيه هذه الآية من التسليم لله والتعريض لعفوه . ) .
أي ، ما عرض الحق تعالى على رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، ليلته الا شيئا استحقت أعيان العباد بذلك الشئ العفو والمغفرة ، وليس ذلك الشئ إلا ذنوبهم ، فإن الذنب هو الذي يطلب المغفرة ، وبه يصير الحق غفورا .
فما استحق العفو إلا الأعيان التي استحقت العفو والمغفرة في الأزل ، إلا الأعيان التي سبق العلم فيها بأنها داخلة في حكم ( المنتقم ) و ( المعذب )  فيجب تعذيبهم والانتقام منهم .
 
ف‍ ( ما ) في قوله : ( ما استحقوا ) بمعنى الشئ ، أو بمعنى الذي . أي ، ما عرض الحق عليه ، صلوات الله عليه ، إلا الذين استحقوا ما تعطيه ، إلا به من العفو وتسليم أمور العباد إلى الله . ف‍ ( ما تعطيه ) . مفعول ( استحقوا ) .
و ( ما ) فيما ( تعطيه ) بمعنى الذي ، أو بمعنى الشئ . و ( من التسليم ) بيانه .
ويجوز أن يكون ( ما تعطيه ) بدلا من ( ما استحقوا ) . أي ، ما عرض عليه إلا ما تعطيه إلا به في حقه ، وهو العفو والمغفرة . فمفعول ( استحقوا ) وهو ( العفو ) ، محذوف لوجود القرينة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد ورد أن الحق إذا أحب صوت عبده في دعائه إياه ، أخر الإجابة عنه حتى يتكرر . ذلك منه حبا فيه ، لا إعراضا عنه . ولذلك جاء بالاسم ( الحكيم ) . و ( الحكيم ) هو الذي يضع الأشياء في مواضعها ولا يعدل بها عما تقتضيه وتطلبه حقائقها بصفاتها . ).
 
( الباء ) في ( بها ) للصلة . يقال : عدل به فلان عن فلان . أي ، تجاوز عنه . أي ، ولأجل أن الحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها - التي يستحقها بذواتها وأعيانها - ولا يعدل عن مقتضى طبائعها ، جاء بالاسم ( الحكيم ) هنا .
فتأخير إجابة دعاء رسول الله ، صلى الله عليه وآله ، وشفاعته في حق الأمة أيضا من جملة الحكمة . وهي محبته فيه وإرادته لدعائه وشفاعته في حق أمته .
قوله : ( وقد ورد . . . ) . أقول : أراد الشيخ رضي الله عنه  أن يبين أن تأخير الإجابة بواسطة
عرض الفصول إنما هو من مقتضيات عنايته به ، لا الإعراض عنه .
وقد ورد أن ضجيج التائبين خير من تسبيح المسبحين . قوله : حقائق الأشياء . أي ، حقائقها حال كونها متلبسة بصفاتها ، أو مع صفاتها ، فإنه للصفات أيضا مدخلية في اقتضاء خصوصيات المواضع ، فوضع تأخير إجابة دعائه ، صلى الله عليه وآله ، في موضع يكون تكرار الدعاء فيه مطلوبا من جملة الحكمة .
قوله في المتن : ( بالاسم الحكيم ) حيث أجراه أولا على لسان عيسى ، كذلك ليترتب عليه إجرائه على لسان محمد ( ص ) كذلك ، فيكون حين يجرى على لساني مبنيا على تلك الحكمة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالحكيم هو العليم بالترتيب . فكان صلى الله عليه وسلم ، بترداده هذه الآية على علم عظيم من الله . فمن تلا هذه الآية هكذا يتلو ، وإلا فالسكوت أولى به.)
هذا تحريض على التدبر والتفكر في معاني الآيات والحضور بين يدي الحق .
(وإذا وفق الله عبدا إلى نطق بأمر ما ، فما وفقه إليه إلا وقد أراد إجابته فيه وقضاء حاجته.) وهذا أيضا سر إجابة الدعاء . فإن الله تعالى لا يمكن العبد في الدعاء إلا للإجابة .
( فلا يستبطئ أحد ما يتضمنه ما وفق له وليثابر مثابرة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ) . (ما يتضمنه) مفعول ( يستبطئ ) و ( ما ) موصولة ، أو بمعنى شئ .
و ( ما وفق له ) فاعل ( يتضمن ) وهو الدعاء . أي ، فلا يستبطئ أحد الإجابة التي يتضمنها الدعاء . وتذكير ضمير المفعول باعتبار لفظة ( ما ) .
ويجوز أن يكون ( ما ) في ( ما وفق ) بمعنى المدة . وفاعل ( يتضمن ) ضميرا راجعا إلى (الدعاء) ، إذ الكلام فيه . أي ، لا ينبغي أن يستبطئ أحدكم في دعائه الإجابة ما دام موفقا للدعاء ، وليواظب على دعائه وطلبه مواظبة رسول الله ، عليه السلام ، بتكراره ليلته . ( على هذه الآية في جميع أحواله حتى يسمع بأذنه أو بسمعه . )
أي ، حتى يسمع الداعي بأذنه التي هي آلة السماع . ( أو بسمعه ) أي ، بسمع قلبه . فإن السمع روحاني ، والأذن جسماني .
( كيف شئت ، أو كيف أسمعك الله الإجابة . فإن جازاك بسؤال اللسان ، أسمعك بأذنك ، وإن جازاك بالمعنى ، أسمعك بسمعك . ) لما كانت المجازاة في
مقابلة العمل والطلب من الله ، والدعاء عمل من الأعمال ، قال : ( فإن جازاك ) أي ، فإن جازاك الحق بسؤال لسانك وجارحتك ، أسمعك بأذنك التي من الجوارح قوله : (لبيك يا عبدي).
 
وإن جازاك بالعمل القلبي ، أسمعك بسمعك القلبي قوله : ( لبيك يا عبدي ) ورزقك مطلوبك ، إن كان الوقت وقته ، وإلا يؤخر مطلوبك إلى وقته المقدر له أزلا .

ولا يتأخر قوله : ( لبيك ) عن وقت الدعاء أبدا . كما مر في ( الفص الشيثي ) .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:10 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
المراد بالحكمة ( الرحمانية ) ، بيان أسرار الرحمتين الصفاتيتين الناشئتين من الرحمتين الذاتيتين المشار إليهما بقوله تعالى : ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) 
قوله : ( المشار إليهما بقوله تعالى . . . ) .
ولما كان اسم ( الرحمن ) عام الحكم شامل الرحمة بجميع الموجودات بالرحمة الوجودية العامة والرحمة الرحيمية الخاصة ، وكان سليمان ، عليه السلام ، مع اتصافه بنعمة النبوة والرسالة ورحمة الولاية سلطانا على العالم السفلى بل على العالم العلوي .
إذ التأثير في عالم الكون والفساد لا يكون إلا بتأييد من العالم الأعلى والعون .
وذلك باستنزال روحانيته إياه وبكونه خليفة عمن لا إله إلا هو وكان عام الحكم في الإنس والجن نافذ الأمر في أعيان العناصر .
لذلك كان يتبوء من الأرض حيث يشاء وكانت الجن يغوصون له في الماء بحكمه مع أنهم من النار وسخر له الريح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب وكان يتصرف في جميع ما يتولد منها ويعلم ألسنة الجمادات ويفهم منطق الحيوانات - ناسب أن يذكر حكمته في كلمته .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "إنه" يعنى الكتاب "من سليمان" . و "أنه" أي ، مضمونه : " بسم الله الرحمن الرحيم " . فأخذ بعض الناس في تقديم اسم "سليمان" على اسم "الله" . ولم يكن كذلك . وتكلموا في ذلك بما لا ينبغي مما لا يليق بمعرفة سليمان ، عليه السلام ، بربه . وكيف يليق ما قالوه وبلقيس تقول فيه : "إني ألقى إلى كتاب كريم " أي ، يكرم عليها .
وإنما حملهم على ذلك تمزيق كسرى كتاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وما مزقه حتى قرأه كله وعرف مضمونه .
فكذلك كانت تفعل بلقيس لو لم توفق لما وفقت له ، فلم يكن يحمى الكتاب عن الإحراق بحرمة صاحبه تقديم اسمه ، عليه السلام ، على اسم الله تعالى ولا تأخيره . )
 
قال بعض أصحاب التفسير : إن سليمان ، عليه السلام ، قدم اسمه على اسم الله تعالى في الكتاب ، لئلا تخرق بلقيس بحرمته بالمزق وغيره ، كما فعل كسرى بكتاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
والشيخ ذهب إلى أنه ، عليه السلام ، ما قدم اسمه على اسم الله تعالى وما أوهم التقديم إلا حكاية بلقيس مع حواشيها . 
أي ، قالت لهم : "إني ألقى إلى كتاب كريم . إنه " أي ، أن ذلك الكتاب . ( من سليمان ) .  
و ( أنه ) أي ، وأن مضمون الكتاب "بسم الله الرحمن الرحيم . ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين " . وما قالوه لا يليق
بحال النبي العالم بالله ومراتبه ، وبأن اسمه واجب التعظيم . وكيف يليق ما قالوه وبلقيس قالت فيه : ( إني ألقى إلى كتاب كريم ) .
أي ، مكرم عليها ومعظم عندها . ولو أن بلقيس كانت مريدة للخرق وما كانت موفقة لإكرام الكتاب ، لم يكن تقديم اسمه حاميا له من الخرق ولا تأخيره ، بل كانت تقرأ الكتاب وتعرف مضمونه ، كما فعل كسرى ، ثم كانت تمزقه لو لم تكن موفقه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأتى سليمان بالرحمتين : رحمة الامتنان ، ورحمة الوجوب اللتان هما " الرحمن الرحيم " . فأمتن بالرحمن وأوجب بالرحيم ، وهذا الوجوب من الامتنان ، فدخل "الرحيم " في "الرحمن " دخول التضمن . )
اعلم ، أن الرحمة صفة من الصفات الإلهية ، وهي حقيقة واحدة ، لكنها ينقسم بالذاتية وبالصفاتية ، أي ، يقتضيها أسماء الذات وأسماء الصفات عامة . وكل منهما عامة وخاصة ، فصارت أربعة ، ويتفرع منها إلى أن يصير المجموع مائة رحمة .
وإليه أشار رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ( إن لله مائة رحمة ، أعطى واحدة منها لأهل الدنيا كلها ، وادخر تسعة وتسعين إلى الآخرة يرحم بها عباده ) فالرحمة العامة والخاصة الذاتيتان ما جاء في البسملة من ( الرحمن الرحيم ) .
 
والرحمة الرحمانية عامة ، لشمول الذات جميع الأشياء علما وعينا ،
والرحيمية خاصة ، لأنها تفصيل تلك الرحمة العامة الموجب لتعين كل من الأعيان بالاستعداد الخاص بالفيض الأقدس .
والصفاتية ما ذكره في الفاتحة من ( الرحمن الرحيم ) ، الأولى عامة الحكم ، لترتبها على ما أفاض الوجود العام العلمي من الرحمة العامة الذاتية ، والثانية تخصيصها بحسب الاستعداد الأصلي الذي لكل عين من الأعيان .
وهما نتيجتان للرحمتين الذاتيتين :
العامة والخاصة فإذا علمت  ذلك ، فاعلم أن سليمان أتى بالرحمتين ، منها رحمة الامتنان . وهي ما حصل من الذات بحسب العناية الأولى .
 
وإنما سماها ب‍ ( الامتنان ) لكونها ليست في مقابلة عمل من أعمال العبد ، بل منة سابقة من الله في حق عبده . ورحمة الوجوب أي رحمة في مقابلة العمل .


وأصل هذا الوجوب قوله تعالى : ( كتب على نفسه الرحمة ) . أي ، أوجبها على نفسه ( فامتن ) أي ، الحق تعالى . ( بالرحمن ) العام الحكم على جميع الموجودات بتعيين أعيانها في العلم وإيجادها في العين ، كما قال : ( رحمتي وسعت كل شئ ). 
 
وقال : ( ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما ) . أي ، وجودا وعلما .
فإن الرحمة العامة هو الوجود العام لجميع الأشياء ، وهو النور المذكور في قوله تعالى : ( الله نور السماوات والأرض ) . الذي به يظهر كل شئ من ظلمة العدم .
(وأوجب بالرحيم) المخصص على نفسه أن يوصل كلا من الأعيان إلى ما يقتضيه استعداده .
 
ولما كان هذا الإيجاب أيضا منة منه تعالى على عباده ، قال : ( وهذا الوجوب من الامتنان ) أي ، من الرحمة الامتنانية ، إذ ليس للمعدوم أن يوجب شيئا على الحق فيما يوجده ، ويمكنه من الطاعات والعبادات . فدخل الرحمة الرحيمية في الرحمة الرحمانية دخول الخاص تحت العام .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه كتب على نفسه الرحمة سبحانه ، ليكون ذلك للعبد بما ذكره الحق من الأعمال التي يأتي بها هذا العبد حقا على الله أوجبه له على نفسه يستحق بها هذه الرحمة ، أعني رحمة الوجوب.) هذا تعليل لقوله : ( وهذا الوجوب من الامتنان ) .
وذلك إشارة إلى وجوب الرحمة على نفسه .
 
و ( حقا ) منصوب بقوله : ( ليكون ) . أي ، إيجاب الحق على نفسه الرحمة للعباد من الامتنان ، لأنه كتب وفرض على نفسه الرحمة ، ليكون ذلك حقا على الله للعبد في مقابلة أعماله التي كلفه بها مجازاة له وعوضا عن عمله ، وذلك على سبيل الامتنان .
فإن العبد يحب عليه طاعة سيده والإتيان بأوامره ، فإذا أعطاه شيئا آخر في مقابلة أعماله ، يكون ذلك رحمة للعبد وامتنانا منه عليه .
فقوله : ( أوجبه ) أي ، أوجب ذلك الوجوب الحق للعبد على نفسه ، ليستحق العبد بها ، أي بتلك الأعمال ،الرحمة التي أوجبها الحق على نفسه امتنانا.
 
( ومن كان من العبيد بهذه المثابة ، فإنه يعلم من هو العامل منه ) وفي بعض النسخ : ( به ) . أي ، ومن كان من العبيد بمثابة أن يكون الحق موجبا على نفسه الرحمة له ، يكون ذا نور من الله منور القلب به محبوبا .
كما قال تعالى : ( فسأكتبها للذين يتقون ) . ومن كان كذلك ، يكون الحق سمعه وبصره ، كما نطق به الحديث .
فيعلم يقينا أن العامل الحقيقي من نفس العبد هو الحق الذي معه .
أو العامل في الحقيقة هو الحق ، لكن بالعبد ليكون العبد كالآته له .
( والعمل ينقسم على ثمانية أعضاء من الإنسان ) وهي : اليدان ، والرجلان ، والسمع ، والبصر ، واللسان ، والجبهة . إذ باليدين يتمكن من التوضي والتطهر ، وعلى الرجلين يقوم في الصلاة ويسعى ويحج ، وبالسمع يتمكن من سماع كلام الله وكلام رسول الله ، وبالبصر يتمكن من المشاهدة في جميع أعماله ، وباللسان يثنى على الله تعالى ويسبحه ويقرء كلامه ، وبالجبهة
يسجد في صلاته .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد أخبر الحق تعالى أنه هوية كل عضو منها ، فلم يكن العامل فيها غير الحق . والصورة للعبد والهوية مندرجة فيه ، أي في اسمه ، لا غير . ) أي ، أخبر الحق تعالى بأنه عين كل عضو .
 
بقوله : ( كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها ) .
والعامل بحسب الظاهر الشخص وأعضاؤه - والحق عينها - فلا يكون العامل غير الحق ، غير أن الصورة صورة العبد والهوية الإلهية مندرجة في العبد لما كانت الهوية إنما تندرج في أسمائه.
فسر بقوله : ( أي في اسمه ) ليعلم أن عين العبد هو أيضا اسم من أسمائه . ( لا غير ) ليلزم اندراج الحق في غيره مطلقا ، فيتوهم منه الحلول .
وبيان أن الموجودات بأسرها أسماء الله الداخلة تحت الاسم "الظاهر"  قد مر في المقدمات   
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (لأنه تعالى عين ما ظهر ، وسمى خلقا وبه  كان الاسم "الظاهر" و "الآخر" للعبد ، وبكونه لم يكن ، ثم كان )
هذا تعليل قوله : ( الهوية مندرجة في العبد ) أي ، في اسمه لا غير .
 
وذلك لأنه تعالى عين ما ظهر ، وسمى بالاسم الخلقي ، كما مر أن صور الموجودات كلها طارية على النفس الرحماني ، وهو الوجود ، والوجود هو الحق ، فالحق هو الظاهر بهذه الصور ، وهو المسمى بالخلق .
وبما ظهر في صور الموجودات ، حصل الاسم "الظاهر"، ويكون العبد ، أي الخلق ، لم يكن ثم كان ، حصل الاسم "الآخر" للحق الظاهر في صورة العبد ، فإنه اسمه "الآخر" ، لأنه آخر الموجودات التي هي الأسماء ظهورا في العين الحسية ، وإن كان أول الأسماء حقيقة في العلم والمرتبة الروحية .
فالاسم "الآخر" بعينه هو الاسم "الأول" ، وكذلك "الظاهر"بعينه هو "الباطن" .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وبتوقف ظهوره عليه وصدور العمل منه ، كان الاسم "الباطن " و "الأول " )
أي ، بسبب توقف وجود العبد وظهوره على الله وبسبب صدور العمل من الله حقيقة من باطن العبد ، وإن كان من العبد ظاهرا ، حصل الاسم "الباطن" و "الأول".
أو بتوقف ظهور الحق على العبد وبتوقف صدور العمل من الحق عليه ، حصل بالعبد الاسم "الباطن" و "الأول". وهذا أنسب من الأول .
لأنه قال : (وبه ) أي بما ظهر . ( وسمى خلقا ) حصل الاسم "الظاهر" و "الآخر" ، فكذلك
هنا بالعبد يحصل "الباطن" و "الأول".
لذلك قال : ( فإذا رأيت الخلق رأيت " الأول " ) أي ، رأيت الهوية الموصوفة بالأولية .
( و "الآخر " و " الظاهر " " والباطن ") .
لأن الخلق المرئي آخر مراتب الوجود ، فهو "الآخر" و "الظاهر""الباطن"
أي ، ورأيت "الباطن" من حيث روحه وجميع ما في عينه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذه معرفة لا يغيب عنها سليمان ، عليه السلام ، بل هي من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، يعنى ، الظهور به في عالم الشهادة . )
أي ، لا تفوت مثل هذه المعرفة عن سليمان ، لأنه من المرسلين لكافة الخلائق جنا وإنسا ، ومن الخلفاء المتصرفين في الرعية .
وقد علمت أن الخليفة لا بد وأن يكون متحققا بالأسماء الإلهية ومعرفتها ، ليمكن له التصرف بها في العالم .
وإنما جعل المعرفة من الملك ، لأن الملك دولة الظاهر وسلطنته ، وهي لا تحصل إلا بروحها التي هي الدولة الباطنة ، وروح هذه الدولة هي المعرفة بالله وأسمائه التي بها يتصرف في الأكوان ، فالمعرفة روح دولته ، كما أن الولاية باطن نبوته وروحها .
 
وقوله : ( يعنى الظهور به ) تفسير ( لا ينبغي لأحد ) أي ، لا ينبغي لأحد أن يظهر بهذا لملك في الشهادة ، لا أنه لا يؤتى لأحد . فإن الأقطاب والكمل متحققون بهذا المقام قبله وبعده ، ولكن لا يظهرون به .
 
( فقد أوتى محمد ، صلى الله عليه وسلم ، ما أوتيه سليمان وما ظهر به ) أي ، فلم يظهر به ( محمد ، عليه السلام : فمكنه الله تعالى تمكين قهر من العفريت الذي جاء بالليل ليضل به . )
وفي نسخه : ( ليفتك به ) ( فهم بأخذه وربطه بسارية من سواري المسجد ) أي ، بعمود من عمد المسجد .
( حتى يصبح فيلعب به ولدان المدينة فذكر ) أي ، رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
( دعوة سليمان ، عليه السلام ، فرده الله خاسئا ) أي ، رد العفريت خاسئا عن الظفر عليه .
( فلم يظهر ، عليه السلام ، بما أقدر عليه ) على المبنى للمفعول . أي ، جعله الله قادرا . (
وظهر بذلك سليمان .
ثم قوله : ( ملكا ) ، فلم يعم ، فعلمنا أنه يريد ملكا ما ) من الأملاك المتعلقة بالعالم ، أي ملكا خاصا .
( ورأيناه قد شورك في كل جزء جزء من الملك الذي أعطاه الله ، فعلمنا أنه ) أي ، إن سليمان . ( ما اختص إلا بالمجموع من ذلك وبحديث العفريت ) أي ، وعلمنا بحديث العفريت .
( إنه ما اختص إلا بالظهور . وقد يختص سليمان بالمجموع والظهور . ) ( وقد ) هاهنا للتحقيق .
كقوله تعالى : ( قد يعلم الله ) . أي ، سليمان اختص بمجموع أجزاء الملك وبالظهور بالتصرف فيها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولو لم يقل ، صلى الله عليه وسلم ، في حديث العفريت : "فأمكنني الله تعالى منه " لقلنا إنه لما هم بأخذه ، ذكره الله دعوة سليمان ، ليعلم رسول الله أنه لا يقدره الله)
بسكون القاف من ( الإقدار ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( على أخذه ، فرده الله خاسئا . فلما قال : "فأمكنني الله منه " علمنا أن الله تعالى قد وهبه التصرف فيه . ثم إن الله ذكره ، فتذكر دعوة سليمان ، فتأدب معه ، فعلمنا من هذا أن الذي لا ينبغي لأحد من الخلق بعد سليمان الظهور بذلك في العموم . )
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وليس غرضنا من هذه المسألة إلا الكلام والتنبيه على "الرحمتين " اللتين ذكرهما سليمان في الاسمين اللذين تفسيرهما بلسان العرب : "الرحمن الرحيم " . )
نبه بهذا الكلام على أن الأسماء اللفظية أسماء الأسماء الإلهية .
وهي عبارة عن الحقائق الإلهية وأعيانها التي هي مظاهرها . كما مر بيانه في المقدمات .
( فقيد رحمة الوجوب . ) كما قال : ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) .
وقال : "سأكتبها للذين يتقون " .


( وأطلق رحمة الامتنان في قوله : " ورحمتي وسعت كل  شئ " . حتى الأسماء الإلهية ، أعني ، حقائق النسب . )
وإنما فسره بقوله : " أعني حقائق النسب " لأن الأسماء تدل على الذات الإلهية مع خصوصيات تتبعها ، وبها تصير الأسماء متكثرة ، فإن الذات الواحدة لا تكثر فيها ، والذات لا تدخل في  حكم الرحمة ، لتكون مرحومة ، فتعينت الخصوصيات وهي النسب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فامتن عليها بنا ، فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء الإلهية والنسب الربانية . )
أي ، فامتن على الأسماء بوجودنا ، فإنها مظاهر أحكامها ومجاري أقدارها ومرائي أنوارها ، فنحن نتيجة تلك الرحمة الامتنانية ، فلزم وجودنا منها أولا في العلم ، وثانيا في العين . كما مر تحقيقه في المقدمات .
ولا ينبغي أن يتوهم أن قوله ( بنا ) و ( نحن ) مخصوص بالكمل ، كما ذهب إليه بعض العارفين ، فإن الكمل منا مظاهر كليات الأسماء ، وغير الكمل مظاهر جزئياتها التالية لها . بل قوله : ( بنا ) إنما هو من لسان العالم كله ، شريفا كان أو حقيرا ، فإن لكل منها ربا يربه ، وهو الاسم الحاكم عليه .
والحق رحم جميع الأسماء لا بعضها دون البعض .
( ثم ، أوجبها على نفسه بظهورنا لنا ) أي ، أوجب الرحمة على نفسه ، ليرحمنا بالرحمة الرحيمية الموجبة للكمال عند معرفتنا أنفسنا وظهور حقائقها علينا .
( وأعلمنا أنه هويتنا ، لنعلم أنه ما أوجبها على نفسه إلا لنفسه ، فما خرجت الرحمة عنه ، فعلى من أمتن ، وما ثم إلا هو . ) هذا عن لسان غلبه حكم الأحدية  . ومعناه ظاهر .
( إلا أنه لا بد من حكم لسان التفصيل ) لأن الكثرة واقعة لا يمكن رفعها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم ، حتى يقال أن هذا أعلم من هذا مع أحدية العين ) وهذا التفاضل من تفاوت الأعيان واستعداداتها بحسب القوة والضعف والظهور والخفاء والقرب والعبد من الاعتدال الحقيقي الروحاني والجسماني ، مع أن الذات الظاهرة بهذه الصور واحدة لا تكثر فيها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومعناه معنى نقص تعلق الإرادة عن تعلق العلم ، فهذه مفاضلة في الصفات الإلهية وكمال ) بالجر عطف على ( تعلق الإرادة ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وفضلها وزيادتها على تعلق القدرة . وكذلك السمع والبصر الإلهي ، وجميع الأسماء الإلهية على درجات في تفاضل بعضها على بعض . كذلك تفاضل ما ظهر في الخلق من أن يقال هذا أعلم من هذا مع أحدية العين . ) 
أي ، ومعنى تفاضل بعض الخلق على البعض ، كمعنى تفاضل بعض الصفات والأسماء على البعض ،
ونقص بعضها عن البعض بحسب الإحاطة والتعلق ، فإن ( العليم ) يتعلق بالمعلومات ، ولا شك أن الذات الإلهية وجميع أسمائه وصفاته وجميع الممتنعات والممكنات جواهرها وأعراضها داخلة في حيطته .
و ( المريد ) لا يتعلق إلا بالممكنات في الإيجاد ، أو في الإيجاد والإعدام إذا كانت الإرادة بمعنى المشيئة .
و ( القادر ) أيضا لا يتعلق إلا بالممكنات لإيجادها وإعدامها .
هذا إن قلنا : إن الأعيان لا يتعلق بها الجعل .
وإن قلنا بجعلها ، فالقدرة متعلقة بها أيضا وكذلك الإرادة ، فصح أن ( العليم ) أكثر حيطة وأرفع درجة من غيره من الأسماء .
وتفاضل الإرادة على القدرة من حيث إنها سابقة على القدرة وشرط لحصول تعلقها ، فظاهر ، وزيادة تعلق الإرادة على تعلق القدرة غير معلوم ،إذ كل ما يتعلق بها الإرادة ، يتعلق بها القدرة.
اللهم إلا أن يقال : إن الإرادة الإلهية قد يكون متعلقة بإيجاد شئ ، فيمحوها قبل الإيجاد ، أو يعدمه ، فيتعلق ثانيا بوجوده ، فيوجده بحكم : " يمحو الله ما يشاء ويثبت " .
فيكون الإرادة متعلقة بدون القدرة .
أو يؤخذ الإرادة مطلقا ، أعم من إرادة الحق والعبد ، والقدرة أيضا كذلك ، فيتعلق الإرادة بكثير من الأشياء مع عدم تعلق القدرة بها ، لمانع يمنع من ذلك ، فتصح زيادة تعلق الإرادة على القدرة . وأما في غير هذه الصور ، فغير معلوم .
فرحم الله لمن عرف مثالا لما يتعلق بها الإرادة دون القدرة وألحق بهذا المقام .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكما أن كل اسم إلهي إذا قدمته سميته بجميع الأسماء ونعته بها ، كذلك فيما ظهر من الخلق فيه أهلية كل ما فوضل به ، فكل جزء من العالم مجموع العالم ، أي ، هو قابل لحقائق متفرقات العالم كله . ) وفي نسخه : ( منفردات العالم ).


( فلا يقدح قولنا : إن زيدا دون عمر وفي العلم أن تكون هوية الحق عين زيد وعمرو ويكون ) أي ، العلم . ( في عمرو أكمل منه ) أي ، من العلم في زيد . ( كما تفاضلت الأسماء الإلهية وليست غير الحق . )  .
أي ، كما أن الأسماء الكلية إذا قدمتها ، صارت مسماة بجميع الأسماء التالية لها ومنعوته بكل توابعها في قولك : ( إن الله هو السميع العليم - إنه هو التواب الرحيم ) فهي متفاضلة ، ومع ذلك هوية الحق مع كل منها ، سواء كان اسما كليا متبوعا ، أو جزئيا تابعا .
وإذا كانت الهوية مندرجة في كل منها ، كان كل واحد منها مجمعا لجميع الأسماء ، كذلك المظاهر الخلقية ، وإن كان بعضها أفضل من البعض.
لكن المفضول فيه أهلية كل فاضل عليه ، لأن الهوية الإلهية مندرجة فيه ، فهو بحسب ذلك الاندراج مجمع لجميع الأسماء ، فخصائصها أيضا مندرجة فيه ، فله الأهلية لجميع الكمالات ، فكل جزء من العالم فيه مجموع ما في العالم   
ثم ، فسر بقوله : ( أي ، هو قابل لحقائق متفرقات العالم ) أي ، قابل لظهور المعاني والخواص التي هي في العالم متفرقة ، دفعا لوهم من يتوهم أنه قائل بكون تلك الأهلية ظاهرة بالفعل في كل جزء من العالم . والباقي ظاهر .


وفي بعض النسخ ( يكون في عمرو أكمل وأعلم منه في زيد ) . فمعناه : ويكون الحق من حيث الظهور في عمرو أكمل وأعلم من الحق في زيد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو تعالى من حيث هو ( عالم ) أعم في التعلق من حيث ما هو ( مريد ) و ( قادر ) وهو هو ليس غيره ) ، ظاهر مما مر .
( فلا تعلمه يا وليي ) بالإضافة إلى ياء المتكلم . ( هنا وتجهله هنا وتنفيه هنا وتثبته هنا ) أي ، فلا تعلم الحق في مظهر وتجهله في مظهر ، أو تنفيه في مظهر وتثبته في مظهر ، بل شاهد الحق في كل المظاهر لتكون مؤمنا به في كل المقامات ، عالما به في كل المواطن ، متأدبا معه في كل الحالات ، فيتجلى لك من كلها ، ويرحمك ويرزقك من صفاته ، فيغفر لك ويثني عليك بألسنتها ويحمدك ، فتكون وليا حميدا لا شيطانا مريدا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إلا أن أثبته بالوجه الذي أثبت نفسه ونفيته عن كذا بالوجه الذي نفى نفسه ، كالآية الجامعة للنفي والإثبات في حقه حين قال : "ليس كمثله شيء" . فنفى ، "وهو السميع البصير" فأثبت بصفة تعم كل سامع بصير من حيوان . )
أي ، إلا أن أثبت الحق كما أثبت نفسه ، ونفيت عنه كما نفى عن نفسه ، فحينئذ لا يكون المثبت
والنافي إلا الحق ، لا أنت ، فتكون عبدا متأدبا مع الحق . والباقي ظاهر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما ثم إلا حيوان ، إلا أنه بطن في الدنيا عن إدراك بعض الناس ، وظهر في الآخرة لكل الناس ، فإنها الدار الحيوان . وكذلك الدنيا ، إلا أن حياتها مستورة عن بعض العباد ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد الله بما يدركونه من حقائق العالم ) .
واعلم ، أن سريان الهوية الإلهية في الموجودات كلها أوجب سريان جميع الصفات الإلهية فيها ، من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها ، كليها وجزئيها ، لكن ظهر في بعضها بكل ذلك ، كالكمل والأقطاب ، ولم يظهر في البعض ، فظن المحجوب أنها معدومة في البعض ، فسمى البعض حيوانا والبعض جمادا .
فالشيخ رضي الله عنه  نبه أن الكل حيوان ، ما ثم من لا حيوة له .
ثم نبه بقوله : ( إلا أنه بطن عن إدراك بعض الناس ) على أن كونه حيوانا .
ليس باطنا في نفس ذلك الشئ حتى تكون له الحياة بالقوة لا بالفعل ، كباقي الصفات ، بل هو
حيوان بالفعل ، وإن كان باقي صفاته بالقوة وظهر في الآخرة كونه حيوانا لكل الناس ، فإنها الدار الحيوان .
لذلك تشهد الجوارح بأفعال العبد في الآخرة . وكذلك الدنيا حيوان وحياتها ظاهرة ، لكن للكمل . 


كما قال أمير المؤمنين ، كرم الله وجهه :
( كنا في سفر مع رسول الله ، صلى الله عليه وآله ، ما استقبلنا حجر ولا شجر إلا سلم على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ) .
فظهر بإدراك الحقائق ولوازمها وصفاتها الاختصاص والمفاضلة بين عباد الله .
 
(  فمن عم إدراكه ، كان الحق فيه أظهر في الحكم ممن ليس له ذلك العموم).
لأن الظهور بالعلم ، وهو النور الإلهي الذي به تظهر الأشياء ، ولولاه ، لكانت في ظلمة العدم وخفائه .
( فلا تحجب ) على صيغة المبنى للمفعول . و ( لا ) للنهي . ( بالتفاضل وتقول ) أي ، والحال إنك قائل . ( لا يصح كلام من يقول إن الخلق ) أي ، مهيتة الخلق ، هي عين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( هوية الحق بعد ما أريتك التفاضل في الأسماء الإلهية التي لا تشك أنت أنها هي الحق ومدلولها المسمى بها ليس إلا الله تعالى )
أي ، لا تكن محجوبا ولا تقل : إن هوية الخلق مغائرة لهوية الحق لاتحادها وتكثر هويتهم
ووقوع التفاضل فيهم . لأنا بينا لك أن الأسماء الإلهية متفاضلة ، وبعضها أتم حيطة من البعض ، وأنها متكثرة مع أحدية عين الحق ، وليس مدلولها ومسماها إلا الله الواحد الأحد .


ولما فرغ من تقرير المفاضلة بين الأسماء ومظاهرها ، رجع إلى المقصود من الفص
 فقال : ( ثم إنه كيف يقدم سليمان اسمه على اسم الله كما زعموا ، وهو من جملة من أوجدته الرحمة ) أي ، الرحمة الرحمانية ، والرحمان الذي هو الموجد له متأخر عن اسم الله ، فمعلوله ومرحومه بالطريق الأولى أن يتأخر عنه .
( فلا بد أن يتقدم ) الرحمن الرحيم ( ليصح إسناد المرحوم ) أي ، فلا بد أن يتقدم الاسم ( الله ) و ( الرحمن ) الذي يوجد سليمان على ( الرحيم ) ، والرحيم الذي يخصه بالكمالات على المرحوم الذي هو سليمان ، لأن العلة بالذات متقدمة على معلولها ، ليصح الإسناد المرحوم إلى راحمه وموجده .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:11 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( هذا عكس الحقائق : تقديم من يستحق التأخير وتأخير من يستحق التقديم في الموضع الذي يستحقه . )
أي ، هذا القول الذي قيل في سليمان ، عكس ما يقتضيه علوم الحقائق من تقديم من يستحق التأخير ، وهو سليمان ، وتأخير من يستحق التقديم ، وهو الله وأسماؤه ، في موضع لا يستحق إلا التقديم .
فإن العادة في ابتداء الأمور تقديم اسم الحق عليها .
كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم ، فهو أبتر ) .
فقوله : ( تقديم ) يجوز أن يكون خبر للمبتدأ المحذوف ، أي ، هو تقديم . أو عطف بيان لهذا .
( ومن حكمة بلقيس وعلو علمها ) أي ، ومن جملة معارفها وعلو مرتبة علمها .
( كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب ، وما عملت ذلك إلا لتعلم أصحابها ) من ( الإعلام ) . أي ، عملت بلقيس ذلك لتعلم وتخبر توابعها .
( أن لها اتصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها ) أي ، إلى أسرار ومعاني من عالم الجبروت والملكوت ، لا يعلمون طريق الوصول إليها .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا من التدبير الإلهي في الملك ، لأنه إذا جهل طريق الإخبار الواصل للملك ، خاف أهل الدولة على أنفسهم في تصرفاتهم ، فلا يتصرفون إلا في أمر إذا وصل إلى سلطانهم عنهم ، يأمنون غائلة ذلك التصرف . فلو تعين لهم على يدي من يصل الأخبار إلى ملكهم ، لصانعوه وأعظموا له الرشى ) "الرشى " جمع رشوة .
فلو تعين لهم أن الأخبار على يدي من يصل إلى الملك ، لخدموه وأعظموا له أنواعا من الرشوة.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حتى يفعلوا ما يريدون ولا يصل ذلك إلى ملكهم . فكان قولها : ( ألقى إلى ) ولم تسم من ألقاه سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواص مدبريها ، وبهذا استحقت التقدم عليهم . ) كله المعنى كله ظاهر 
( وأما فضل العالم من الصنف الإنساني . ) وهو ( آصف بن برخيا ) .
( على العالم من الجن ) وهو الذي قال : أنا أتيك به قبل أن تقوم من مقامك وهو المتصرف ( بأسرار التصريف وخواص الأشياء ) أي ، التصرفات النفسانية مع معاونة من التأثيرات الفلكية وخواص طبائع الأشياء . ( فمعلوم ) أي ، في هذه الصورة 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بالقدر الزماني : فإن رجوع الطرف إلى الناظر به أسرع من قيام القائم من مجلسه لأن حركة البصر في الإدراك إلى ما يدركه ، أسرع من حركة الجسم فيما يتحرك منه ، فإن الزمان الذي يتحرك فيه البصر ، عين الزمان الذي يتعلق بمبصره مع بعد المسافة بين الناظر والمنظور .
فإن زمان فتح البصر زمان تعلقه بفلك الكواكب الثابتة ، وزمان رجوع طرفه إليه هو عين زمان عدم إدراكه .
والقيام من مقام الإنسان ليس كذلك ، أي ، ليس له هذه السرعة . فكان قول آصف بن برخيا
أتم في العلم من الجن . )
لأنه تصرف في عين العرش بالإعدام والإيجاد في واحد حتى أعدمه في موضعه وأوجده عند سليمان ، عليه السلام .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان عين قول آصف بن برخيا عين الفعل في الزمن الواحد ، فرأى في ذلك الزمان بعينه سليمان ، عليه السلام ، عرش بلقيس مستقرا عنده )
لأن القول من الكمل كقول الحق للشئ المطلوب وجوده : ( كن ) فيكون ذلك الشئ بإذن الله . وذلك لأن الحق صار عين جوارحهم وعين قواهم الروحانية والجسمانية . وبهذه النسبة كان هذا الكامل وزيرا لسليمان ، عليه السلام ، الذي كان قطب وقته ومتصرفا وخليفة على العالم .
 
وخوارق العادات قل ما يصدر من الأقطاب والخلفاء ، بل من وزرائهم وخلفائهم بقيامهم العبودية التامة واتصافهم بالفقر الكلى ، فلا يتصرفون لأنفسهم في شئ . ومن جملة كمالات الأقطاب ومنن الله عليهم أن لا يبليهم بصحبة الجهلاء ، بل يرزقهم صحبة العلماء الأمناء ، يحملون عنهم أثقالهم وينفذون أحكامهم وأقوالهم .

( لئلا يتخيل أنه أدركه وهو في مكانه من غير انتقال ) تعليل لقوله : ( فرآه مستقرا عنده في الحال ) لئلا يتخيل - على صيغة المبنى للمفعول - أن سليمان ، عليه السلام ، أدرك العرش وهو في مكانه ، أي العرش في مكانه ، من غير انتقال .
وذلك بأن ارتفع الحجاب من البين ، فرأى سليمان ذلك وشاهده .

( ولم يكن عندنا باتحاد الزمان انتقال . ) أي ، لا يمكن أن يكون مع اتحاد زمان القول والفعل انتقال ، لأن الانتقال حركة ، والحركة لا بد أن تكون في زمان ، والقول أيضا واقع في زمان ، وزمان القول لا يمكن أن يكون عين زمان الانتقال ، ( وإنما كان إعدام وإيجاد من حيث لا يشعر أحد بذلك إلا من عرفه . )
أي ، أعدمه في سبا وأوجده عند سليمان ، عليه السلام ، بالتصرف الإلهي الذي خصه الله وشرفه به بحيث لا يشعر بذلك إلا من عرف الخلق الجديد الحاصل في كل آن ( وهو قوله تعالى : "بل هم في لبس من خلق جديد" . )
أي ، عدم شعورهم بذلك ، هو معنى قوله : ( بل هم في لبس من خلق جديد )  

( ولا يمضى عليهم وقت لا يرون فيه ما هم راؤون له ) أي ، إنما كانوا في اللبس من الخلق الجديد ، لأنه لا يمضى عليهم زمان لا يرون في العالم ما كانوا راؤون له وناظرون إليه ، إذ كل ما يعدم يوجد ما هو مثله في آن عدمه ، فيظنون أن ما هو في الماضي هو الذي باق في المستقبل .  وليس كذلك .

( وإذا كان هذا كما ذكرناه ) أي ، إذا كان حصول العرش عند سليمان بطريق الإعدام والإيجاد. ( فكان زمان عدمه أعني عدم العرش من مكانه ، عين وجوده ) أي ، عين زمان وجوده

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( عند سليمان من تجديد الخلق مع الأنفاس . ولا علم لأحد بهذا القدر . بل الإنسان لا يشعر به من نفسه أنه في كل نفس لا يكون ثم يكون . )
قيل : ذلك لاقتضاء إمكانه عدمه كل وقت على الدوام ، واقتضاء التجلي الدائم الذاتي وجوده وفيه نظر .
لأن الممكن هو الذي لا يقتضى ذاته الوجود ولا العدم عند قطع النظر عما يقتضى الوجود أو العدم ، وكونه بهذه المثابة هو الإمكان ، فالإمكان لا يقتضى العدم كمالا يقتضى الوجود ، وإلا لا فرق بينه وبين الامتناع .

وتحقيقه أن الذات الإلهية لا تزال متجلية من حيث أسمائه وصفاته على أعيان العالم ، وكما يقتضى بعض الأسماء وجود الأشياء ، كذلك يقتضى بعضها عدمه ، وذلك ك‍ ( المعيد ) و ( المميت ) و ( القهار ) و ( الواحد ) و ( الأحد ) و ( القابض ) و ( الرافع ) و ( الماحي ) وأمثال ذلك .

وإن كان لبعض هذه الأسماء معان آخر غير ما قلنا ، لكن ليس منحصرا فيها . فالحق تارة يتجلى للأشياء بما يظهرها ويوجدها ويوصلها إلى كمالاتها ، وتارة يتجلى بما يعدمها ويخفيها . ولما كان الحق كل يوم ، أي كل آن ، في شأن ، وتحصيل الحاصل محال ، كان متجليا لها دائما بالأسماء المقتضية للإيجاد ، فيوجدها ، ومتجليا عليها بالأسماء المقتضية للإعدام ، فيعدمها ، فيكون متجليا لها في زمان واحد بالإيجاد والإعدام .


وبهذا الإعدام تم حكم قوله تعالى : ( وإليه يرجع الأمر كله ) . وبه تحصل أنواع القيامات المذكورة في المقدمات .
ولما كانت ذاته تعالى مقتضية لشؤونه دائما ، يكون تجلياته دائمة وظهوراته مستمرة ، وشؤونه وتعيناته متعاقبة .

وإنما قلنا ( في زمان واحد ) كما قال الشيخ أيضا ، فكان زمان عدمه عين زمان وجوده ، لأن أقل جزء من الزمان منقسم بالآنين ، فيحصل في آن منه إيجاد وفي الآخر إعدام .

( ولا تقل "ثم " يقتضى المهلة ، فليس ذلك بصحيح . ) أي ، لا تقل لفظة ( ثم ) الواقعة في قولك : ( بل الإنسان لا يشعر أنه في كل نفس لا يكون ، ثم يكون ) مقتضى المهلة ، فعدم الكون والكون لا يكون في زمان واحد .
لأن ( ثم ) قد تجئ للتقدم كقوله : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) . وقوله : ( ثم كان من الذين آمنوا ) .
إذ لا مهلة بين خلق الأرض وخلق السماء ، ولا بين إطعام المسكين وبين كونه من المؤمنين . 
وإليه أشار بقوله : ( وإنما هي يقتضى تقدم الرتبة العلية عند العرب في مواضع مخصوصة ، كقول الشاعر(كهز الردينى ، ثم اضطرب) .
وزمان الهزعين زمان اضطراب المهزوز بلا شك ، وقد جاء ب‍ ( ثم ) ولا مهلة . ) يجوز أن يكون ( العلية ) بفتح العين ، من العلو .
أي ، العالية الشريفة . وبكسرها ، مع تشديد اللام ، من العلة .
لأن ( ثم ) يقتضى الترتيب والتراخي ، والترتيب يقتضى تقدم البعض على الآخر .
وذلك قد يكون بالزمان ، وقد يكون بالرتبة والشرف ، وقد يكون بالذات ، كما في العلية المعلولية . لكن الأول أنسب ، لأن التقدم بالرتبة والشرف أعم من التقدم بالعلية ، فهو أكثر وجودا ، وإن كان المثال الذي ذكره الشيخ فيه العلية والمعلولية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كذلك تجديد الخلق مع الأنفاس زمان العدم زمان وجود المثل ، كتجديد الأعراض في دليل الأشاعرة . ) أي ، كما أن زمان ( الهز ) عين زمان اضطراب المهزوز ، وكذلك زمان العدم عين زمان وجود المثل في تجديد الخلق .
وإنما شبه بقول (الأشاعرة) في الأعراض ، لأن قوله بالتبدل في جميع الجواهر والأعراض لا في الأعراض وحدها . وقد مر تحقيقه من قبل.

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن مسألة حصول عرش بلقيس من أشكل المسائل إلا عند من عرف ما ذكرناه آنفا في قصته) من الإيجاد والإعدام .
( فلم يكن لآصف من الفضل في ذلك إلا حصول التجديد في مجلس سليمان . )
إما منه بأمر الله تعالى ، أو من الحق في صورته وصورة قوله ، كما مر في الإحياء من الاعتبارات . والكل صحيح .
( فما قطع العرش مسافة ، ولا زويت ) أي ولا طويت . ( له أرض ولا خرقها ) أي ، ولا خرق آصف الأرض ، ( لمن فهم ما ذكرناه . وكان ذلك ) أي ، وحصل ذلك .

( على يدي بعض أصحاب سليمان ليكون أعظم لسليمان ) أي ، ليكون صدور مثل ذلك الفعل العظيم والتصرف القوى من أصحاب سليمان وحواشيه أكثر إعظاما لسليمان ، عليه السلام .
( في نفوس الحاضرين من بلقيس وأصحابها وسبب ذلك . ) أي ، وسبب ذلك الاختصاص الحاصل لسليمان وأصحابه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كون سليمان ، عليه السلام ، هبة الله تعالى لداود من قوله تعالى : "ووهبنا لداود سليمان" . و" الهبة "عطاء الواهب بطريق الإنعام لا بطريق الجزاء الوفاق . )
مستفاد من قوله تعالى : ( جزاء وفاقا ) . أي ، جزاء موافقا لأعمال العابد . ( أو الاستحقاق ) أي ، بحسب استحقاق العمل . ولا يتوهم أنه يريد بالاستحقاق الاستعداد الذي عليه جميع ما يفيض من الله .
والمراد أن وجود سليمان حصل من العناية الإلهية السابقة في حق داود ، عليه السلام ، بحسب اقتضاء أعيانهما الثابتة ذلك ، لذلك خصه الله بالخلافة والملك الذي لا ينبغي لأحد من التصرف في الأكوان .

( فهو ) أي ، ذلك التصرف في مجلس سليمان . ( هو النعمة السابقة ) المتممة للنعم التي قبلها في حق سليمان . أو وجود سليمان هو النعمة السابقة في حق داود ، عليه السلام .
( والحجة البالغة ) أي ، على عينه يوم القيامة وأعيان أمته . ( والضربة الدامغة . ) أي ، الواصلة إلى الدماغ . في حق أعدائه من المخالفين والكفار .

( وأما علمه ) أي ، وأما اختصاص سليمان بالعلم . ( فقوله تعالى : " ففهمناها سليمان " مع نقيض الحكم . ) أي ، وجود الحكم المناقض في المسألة الصادرة من داود ، عليه السلام . ( وكلا ) من الأنبياء ، عليه السلام .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أتاه الله حكما وعلما . فكان علم داود علما مؤتى أتاه الله ، وعلم سليمان علم الله في المسألة ، إذ كان هو الحاكم بلا واسطة . )
أي ، كان علم داود علما عطائيا ، صادرا من الحضرة الوهاب والمعطى ، وكان علم سليمان علما ذاتيا ، لذلك علم المسألة كما في علم الله.
وفي التعليل بقوله : ( إذ كان . . . ) إشارة إلى فناء بشريته في حقيته بحصول التجلي الذاتي . 
أي ، فنيت بشرية سليمان وحكم الحق بالمسألة كما يعلمها ، لكن في الصورة السليمانية ، كما تجلى لموسى ، عليه السلام ، في صورة الشجرة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فكان سليمان ترجمان حق في مقعد صدق ، كما أن المجتهد المصيب لحكم الله الذي يحكم به الله في المسألة لو تولاها بنفسه أو بما يوحى به إلى رسوله ، أجران ، والمخطئ لهذا الحكم المعين ، له أجر . )
أي ، فله أجران من حيث إنه ترجمان الحق في المسألة بحسب مقامه ومرتبته ، كما أن المجتهد المصيب له أجران .
أو هو ترجمان الحق ، كما أن المجتهد المصيب في الحكم ترجمان الحق وإن لم يعلم ذلك .
وكلا الوجهين صحيح . ويدل على صحتهما ما قال في أمة محمد ، صلى الله عليه وسلم : " وإنما كان للمصيب أجران " .
لكونه أصاب في الحكم وبذل جهده فيه ، فصار في مقابلة الإصابة أجر ، وفي مقابلة بذل الجهد أجر . لذلك جعل للمخطئ أجر واحد ، لأنه بذل جهده فاستحق أجره ( مع كونه حكما وعلما ) أي ، مع كون حكم المخطئ فيما اجتهد فيه علما بحسب الشرع ، وحكما واجب العمل به إلى
حين ظهور خطائه وهو زمان المهدى ، عليه السلام .
لذلك ترتفع المذاهب فيه ويصير مذهبا واحدا .

قال رضي الله عنه :  ( فأعطيت هذه الأمة المحمدية رتبة سليمان في الحكم ورتبة داود ، عليهما السلام . فما أفضلها من أمة . ) أما رتبة سليمان ، فبالإصابة في الحكم ،كما أصاب فيه.
وأما رتبة داود ، فبالاجتهاد ، وإن وقع خلاف ما في علم الله   ولما رأت بلقيس عرشها مع علمها ببعد المسافة واستحالة انتقاله في تلك المدة عندها ،

قالت : ( "كأنه هو" . ) أي ، حكمت بالمغايرة والمشابهة ، فإن التشبيه لا يكون الا بين المتغائرين . ( وصدقت بما ذكرناه من تجديد الخلق بالأمثال . )
ومثل الشئ لا يكون عينه من حيث التعين . ( وهو هو وصدق الأمر . ) أي ، هو هو بحسب الحقيقة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما أنك في زمان التجديد عين ما أنت في الزمن الماضي . ثم إنه من كمال علم سليمان التنبيه الذي ذكره في الصرح ، فقيل لها : ( ادخلي الصرح ) وكان صرحا أملس لا أمت فيه ) أي ، لا عوج فيه ولا نتو . ( من زجاج . ) بيان (صرحا ).

قال رضي الله عنه :  ( فلما رأته حسبته لجة ، أي ماء ، "فكشفت عن ساقيها " حتى لا يصيب الماء ثوبها . فنبهها بذلك على أن عرشها الذي رأته من هذا القبيل . وهذا غاية الإنصاف .
فإنه أعلمها بذلك إصابتها في قولها : "كأنه هو " ) . أي ، نبهها على أن حال عرشها كحال الصرح في كون كل منهما مماثلا مشابها للآخر : أما العرش ، فلأنه انعدم ، وما أوجده الموجد مماثل لما انعدم .
وأما الصرح ، فلأنه من غاية لطفه وصفائه صار شبيها بالماء الصافي مماثلا له ، وهو غيره .
فنبهها بالفعل على أنها صدقت في قولها : ( كأنه هو ) .

فإنه ليس عينه بل مثله . وهذا غاية الإنصاف من سليمان ، فإنه صوبها في قولها : ( كأنه هو ) . وهذا التنبيه الفعلي كالتنبيه القولي الذي في سؤاله بقوله : ( أهكذا عرشك ) . ولم يقل : أهذا عرشك .
( فقالت عند ذلك : "رب إني ظلمت نفسي " ) أي ، بالكفر والشرك إلى الآن .
( "وأسلمت مع سليمان " أي ، إسلام سليمان لله رب العالمين ) أي ، والآن أسلمت مع سليمان ، أي ، كما أسلم سليمان لله رب العالمين . و ( مع ) في هذا الموضع ك‍ ( مع ) في قوله هو : ( لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه ) .
وقوله : ( وكفى بالله شهيدا محمد رسول الله والذين معه ) .

ولا شك أن زمان إيمان المؤمنين ما كان مقارنا لزمان إيمان الرسول .
وكذلك إسلام بلقيس ما كان عند إسلام سليمان .
فالمراد : كما أنه آمن بالله ، آمنت بالله ، وكما أنه أسلم ، أسلمت لله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فما انقادت لسليمان ، وإنما انقادت لرب العالمين ، وسليمان من العالمين . فما تقيدت في انقيادها ، كما لا يتقيد الرسل في اعتقادها في الله . )
أي ، انقيادها كان لله حيث قالت : ( أسلمت لرب العالمين ) .
وما قالت : أسلمت لسليمان . ولا تقيدت في انقيادها لله برب دون رب ، بل بالرب المطلق ، وهو رب العالمين ، رب سليمان وغيره من أهل العالم ، كما لا يتقيد الرسل برب دون رب .

وهو المراد بقوله : ( في اعتقادها في الله ) . وذلك لأنهم أولياء كاملون عارفون بمراتب الحق
وظهوراته في المظاهر وبربوبيته بجميع الأسماء .
وتقيدهم بالشرائع المقتضية للربوبية ببعض الأسماء ، إنما هو بأمر الحق وتقييده .
فهم مقيدون بما يقتضى ظواهر الشرائع بحسب ظواهرهم وكونهم أنبياء مرسلين .
وأما بحسب بواطنهم وكونهم أولياء ، فلا تقيد لهم ، لشهودهم الحق في جميع المقامات وربوبيته في كل المواطن.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بخلاف فرعون ، فإنه قال : "رب موسى وهارون" . وإن كان يلحق بهذا الانقياد البلقيسي من وجه ، ولكن لا يقوى قوته ، فكانت أفقه من فرعون في الانقياد لله . )
أي ، فرعون قيد إيمانه في قوله : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل برب موسى وهارون . لأن الذي آمنت به بنو إسرائيل هو رب موسى وهارون ، كما قالت السحرة : ( رب موسى وهارون ) .
فقول الشيخ رضي الله عنه   : ( فإنه قال ) مجاز ، إذ لم يقع هذا القول منه صريحا .
وهذا الانقياد وإن كان يلحق بانقياد بلقيس من حيث إن ربهما رب العالمين ، لكن لا يقوى بتلك القوة ، لنوع من التقييد الواقع في قوله : ( فكانت أفقه ( وأعلم ) من فرعون ) بدقائق الكلام .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان فرعون تحت حكم الوقت حيث قال : "آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل " . فخصص . وإنما خصص لما رأى السحرة قالوا في إيمانهم بالله : " رب موسى وهارون " . ) 
هذا اعتذار من جهة فرعون في التخصيص والتقييد .
أي ، كان فرعون وقت إيمانه بحكم ما يقتضى وقته من الغم والغرق والهلاك .
وكان السحرة قالوا في إيمانهم بالله : ( رب موسى وهارون ) ، وخصصوا ، لذلك خصص فرعون بقوله : ب‍ "الذي آمنت به بنوا إسرائيل وهو رب موسى وهارون " .
تذكارا لما سبق ، وعدم اعطاء وقته غير ذلك .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان إسلام بلقيس إسلام سليمان ، إذ قالت : "مع سليمان" فتبعته . ) 
أي ، كان إسلام بلقيس كإسلام سليمان غير مقيد برب مخصوص ، بل مطلقا ، لذلك قالت : ( أسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) . فتبعته في الإسلام .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما يمر بشئ من العقائد إلا مرت به معتقدة ذلك ، كما كنا نحن على الصراط المستقيم الذي الرب تعالى عليه ، لكون نواصينا في يده ، وتستحيل مفارقتنا إياه . )
أي ، ما يمر سليمان بشئ من المراتب ولا يعتقد في الحق عقيدة بحسب ما يدركه من الحق ذوقا وشهودا وعلما ووجودا ، إلا مرت بلقيس معه بذلك العقد واعتقدت في الحق كذلك ، لأنه ، عليه السلام ، كان متبوعها ، والتابع للشخص في عقائده لا يكون إلا على تلك العقائد ، وإلا لا يكون تابعا فيها .
فذلك ، أي  ذلك المرور والمتابعة ، كمتابعتنا للرب في قوله تعالى : ( وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم ) .
وامتناع مفارقتنا منه لكون نواصينا في يده .

فقوله : ( ذلك ) مبتدأ ، خبره : ( كما كنا نحن ) . ولا يتوهم أنه مفعول لقوله : ( معتقدة ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فنحن معه بالتضمين ، وهو معنا بالتصريح . فإنه قال : "وهو معكم أينما كنتم" . ونحن معه لكونه آخذا بنواصينا . )

لما كان كل ما هو مشهود ومحقق عين الوجود الحق ، والأعيان باقية على حال عدمها ، أو موجودة بالوجود ، وكان الحق معنا ظاهرا صريحا ، وأعياننا معه باطنا وضمنا . هذا في التحقق .

وكذلك في المشي على الصراط المستقيم : فإنه يكون على الصراط صريحا ، ونحن عليه بالتبعية ، لأنه ليس في الوجود غيره ، وأعياننا العدمية على ذلك الصراط بتبعيته وفي ضمن وجوده ، لكونه آخذا بنواصينا .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو تعالى مع نفسه حيث ما مشى بنا من صراطه . فما أحد من العالم إلا على صراط مستقيم ، وهو صراط الرب تعالى . )
أي ، إذا كان كل ما هو مشهود عين الحق ، فالحق مع نفسه حيث ما كان ، إذ ليس هويتنا إلا وجودا متعينا ، والوجود عين الحق ، فهو مع نفسه لا مع غيره ، وهو على صراط مستقيم ، فما أحد من العالم إلا وهو على صراط مستقيم .
وهو صراط الرب أي ، صراط اسم ( الرب ) ، إذ لكل اسم صراط خاص موصوف بالاستقامة بالنسبة إلى ذلك الاسم ، وصراط الله هو المستقيم المطلق الجامع للطرق كلها ، وله الربوبية الكاملة .


لذلك قال تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) .
( وكذا علمت بلقيس من سليمان ،فقالت : "لله رب العالمين". وما خصصت عالما من عالم.) أي ، علمت بلقيس أن سليمان مع الله بالتبعية ، فتبعته لتكون مع الله بالتبعية .
وما خصت في قولها : ( رب العالمين ) عالما من عالم ، ليكون لها نصيبا من الربوبية في العوالم كلها ، فإن الله يرب جميع العالمين وهي بالتبعية معه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما التسخير الذي اختص به سليمان ، عليه السلام ، وفضل به غيره و جعله الله له من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، فهو كونه عن أمره . ) أي ، فهو وجود الشئ حاصلا بأمره .


( فقال : "فسخرنا له الريح تجرى بأمره " . فما هو ) أي ، فليس ذلك الاختصاص .
( من كونه تسخيرا ، فإن الله يقول في حقنا كلنا من غير تخصيص : ) بأحد منا ، سليمان كان أو غيره .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " . وقد ذكر تسخير الرياح والنجوم وغير ذلك ، ولكن لا عن أمرنا بل عن أمر الله . فما اختص سليمان إن عقلت إلا بالأمر من غير جمعية ، ولا همة ، بل بمجرد الأمر .
وإنما قلنا ذلك ، لأنا نعلم أن أجرام العالم تنفعل بهمم النفوس إذا أقيمت في مقام الجمعية .
وقد عاينا ذلك في هذا الطريق ، فكان من سليمان مجرد التلفظ بالأمر لمن أراد تسخيره من غير جمعية ولا همة . )
والمقصود هو أن اختصاصه بالتسخير هو التسخير بالأمر المجرد ، من غير جمعية القلب والعزيمة بالهمة ، ولا بالمعاونة بالأرواح الفلكية ، ولا بخواص الأمور الطبيعية والأسماء الإلهية وغيرها .
فأمره في التسخير كان قائما مقام أمر الله . وبذلك اختص .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم ، أيدنا الله وإياك بروح منه ، أن مثل هذا العطاء إذا حصل للعبد ، أي عبد كان ، فإنه لا ينقصه ذلك من ملك آخرته ، ولا يحسب عليه ، مع كون سليمان عليه السلام طلبه من ربه فيقتضى ذوق الطريق أن يكون قد عجل له ما ادخر لغيره
ويحاسب به ، إذا أراد الحق في الآخرة . )

وهذا الاقتضاء إذا كان الطلب من العبد نفسه . أما إذا كان الطلب أيضا بأمر الله ، فلا يكون كذلك .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثالث .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:12 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثالث .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
( فقال الله له : ) أي لسليمان . ( "هذا عطاؤنا" . ولم يقل : لك ولا لغيرك . "فامنن" أي ، أعط . "أو أمسك بغير حساب " . )
أي ، هذا إعطاؤنا ، لا يحاسب عليك في الآخرة .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعلمنا ، من ذوق الطريق ، أن سؤاله ، صلى الله عليه وسلم ، ذلك كان عن أمر ربه . والطلب إذا وقع عن الأمر الإلهي ، كان الطالب له الأجر التام على طلبه .
والباري تعالى إن شاء قضى حاجته فيما طلب منه ، وإن شاء أمسك . فإن العبد قد وفى ما أوجب الله تعالى عليه من امتثال أمره فيما سأل ربه فيه ، فلو سأل ذلك من نفسه ، من غير أمر ربه له بذلك ، لحاسبه به . وهذا ) أي ، وهذا الحكم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( سار في جميع ما يسأل فيه الله تعالى ، كما قال لنبيه محمد ، صلى الله عليه وسلم : "رب زدني علما" . فامتثل أمر ربه ، فكان يطلب الزيادة من العلم حتى كان إذا سيق له لبن ) أي ، في نومه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( يتأوله علما ، كما تأول رؤياه ، لما رأى في النوم أنه أوتى بقدح لبن فشربه وأعطى فضله عمر بن الخطاب قالوا : فما أولته ؟ قال : ( العلم ) . وكذلك لما أسرى به ، أتاه الملك بإناء فيه لبن وإناء فيه خمر ، فشرب اللبن .
فقال له الملك : أصبت الفطرة ، أصاب الله بك أمتك . فاللبن متى ظهر ، فهو صورة العلم ، تمثل في صورة اللبن ، كجبرئيل تمثل في صورة بشر سوى لمريم . )

إنما شبه ظهور العلم في الصورة اللبنية بظهور جبرئيل عليه السلام  في الصورة البشرية لمريم ، عليها السلام ، لأن كلا منهما من عالم الحقائق المجردة المتعالية عن الصورة الحسية .
ظهر بأمر الحق ، ليحصل به مراد الله في العين الخارجية ، وهو تكميل العباد .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما قال ، عليه السلام : "الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا" . نبه على أنه كل ما يراه الإنسان في حياته الدنيا إنما هو بمنزلة الرؤيا للنائم : خيال فلا بد من تأويله . )

( الواو ) في ( ولما ) عطف على ( لما أسرى . ) أي ، نبه ، صلى الله عليه وسلم ، بهذا الحديث على أن الحياة الحسية حياة ظلية للحياة الحقيقية ، والظل خيال . كما نبه في الفص اليوسفي ) 
فكل ما في الحس من الأشياء خيالات وصور لمعان غيبية وأعيان حقيقية ، ظهرت في هذه الصور لمناسبة بينها وبين تلك الحقائق ، فلا بد من تأويل كل ما يسمع ويبصر في العالم الحسى إلى المعنى المراد في الحضرة الإلهية .
ولا يعلمه إلا العالمون بالله وتجلياته وأسمائه وعوالمه ، وهم الراسخون في العلم .
فمن وفق بذلك وهدى ، فقد أوتى الحكمة . "ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا " .

(إنما الكون خيال  ... وهو حق في الحقيقة
كل من يفهم هذا  .... حاز أسرار الطريقة )
يجوز أن يكون المراد ب‍ ( الكون ) عالم الصور . ويجوز أن يكون العالم بأسره ، لأن العالم كله ظل للغيب المطلق وعالم الأعيان .

وقوله : ( وهو حق ) يجوز أن يكون ما يراد في مقابله الباطل . أي ، هذا القول حق في الحقيقة ، وكل من يفهم هذا المعنى وعرف تأويلات ما يشاهد في الكون ، حاز أسرار السلوك إلى الله . ويجوز أن يكون الحق تعالى .


ومعناه : أن الكون وإن كان خيالا باعتبار ظليته ، لكنه عين الحق باعتبار حقيقته ، لأنه عين الوجود المطلق ، تعين بهذه الصور ، فتسمى بأسماء الأكوان ، كما أن الظل باعتبار آخر عين الشخص . 
وكل من يفهم أن الكون باعتبار ظل للحق وسوى وغير مسمى بالعالم ، ويعلم أنه باعتبار آخر عين الحق ، عرف أسرار السلوك والطريقة .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان ، صلى الله عليه وسلم ، إذا قدم إليه لبن ، قال : "اللهم بارك لنا فيه ، وزدنا منه " . لأنه كان يراه صورة العلم ، وقد أمر بطلب الزيادة من العلم .
وإذا قدم إليه غير اللبن ، قال : "اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه" . فمن أعطاه الله ما أعطاه بسؤال عن أمر إلهي ، فإن الله لا يحاسبه به في الدار الآخرة ، ومن أعطاه الله تعالى ما
أعطاه بسؤال عن غير أمر إلهي ، فالأمر فيه إلى الله تعالى : إن شاء حاسبه به ، وإن شاء لم
يحاسبه به . وأرجو من الله في العلم خاصة أنه لا يحاسبه به . ) أي ، وأرجو من الله في العلم أنه لا يحاسب الطالب بالعلم الذي أعطاه في الدنيا .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن أمره لنبيه ، عليه السلام ، بطلب الزيادة من العلم عين أمره لأمته ، فإن الله يقول : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) وأي أسوة أعظم من هذا التأسي لمن عقل عن الله . ولو نبهنا على المقام السليماني على تمامه ، لرأيت أمرا يهولك الاطلاع عليه .
فإن أكثر علماء هذه الطريقة جهلوا حالة سليمان ، عليه السلام ، ومكانته ، وليس الأمر كما زعموا . والله يقول الحق وهو يهدى السبيل . )

أي ، ظنوا من أنه قدم اسمه على اسم الله واختار ملك الدنيا وطلب أن لا يكون ذلك لغيره . 
وهو أعظم مكانة عند الله مما قالوا في حقه ، لأنه مظهر اسم ( الرحمن ) الذي هو جامع الأسماء .
ومطلوبه ملك لا يتعلق بالدنيا ، لذلك نكره وتنكيره للتعظيم .
والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة قد كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . فليس الأمر كما قيل في حقه .

والله الهادي .
 .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:18 am

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الجزء الأول
17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية
المراد بالحكمة الوجودية حكمة وجود العالم الإنساني ، لا مطلق الوجود ،  فإنه غير مختص بشئ من الأشياء فضلا عن أن يكون مختصا بنبي من الأنبياء .
ولما كان آدم ، عليه السلام ، أول الأفراد ولم يظهر فيه إلا ما يقتضيه تعينه من  جمعية الحقيقة الإنسانية ، وما يليق باستعداده واعتدال مزاجه الشخصي ، وما أمكن ظهور مقام الخلافة بتمامه فيه ، كما لم يظهر مقام الرسالة أولا إلا في نوح عليه السلام ، فكان أول المرسلين - ظهرت آثار تلك الجمعية وأحكامها في كل من الأنبياء بالتدريج حتى ظهرت بتمامها في داود ، عليه السلام ، وكملت في ابنه سليمان ، عليه السلام .
ولاشتراكهما في هذه الجمعية ، شركه الحق في ذلك بقوله: (ولقد آتينا داود وسليمان علما ).
وبقوله : ( يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ ) .
 
وقال رضي الله عنه : ( وكلا آتيناه حكما وعلما ) . وقالا شكرا لتلك النعمة :  ( الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) .
ولكون داود ، عليه السلام ، أول من ظهر فيه أحكام الخلافة بتمامها ، صرح الحق بخلافته ، ولم يصرح في آدم مخاطبا
فقال رضي الله عنه  : ( يا داود ، إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ) .
فناسب أن يقرن الحكمة الوجودية الخصيصة بالإنسان بهذه الكلمة الداودية .  والله أعلم .
( اعلم ، أنه لما كانت النبوة والرسالة اختصاصا إلهيا ليس فيها شئ  من الاكتساب ، أعني نبوة التشريع ، كانت عطاياه تعالى لهم ، عليهم السلام ، من هذا  القبيل ) أي ، من قبيل الاختصاص والامتنان : ( مواهب ليست جزاء ولا يطلب عليها منهم جزاء . فإعطاؤه إياهم على طريق الإنعام والإفضال )
قد تقدم مرارا أن الحق تعالى لا يعطى أعيان العالم إلا ما يقتضيه بأعيانها واستعداداتها الثابتة في حال عدمها . 
فالنبوة والرسالة اللتان هما اختصاص إلهي في حق المصطفين من عباده وإن كان بحسب العناية الإلهية ، لكنها أيضا ترجع إلى أعيانهم .
كما قال في  ( الفص الشيثي ) . إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له ، هي من جملة
أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف .
فقوله  رضي الله عنه : ( اختصاصا إلهيا ) لا ينافي اقتضاء أعيانهم ذلك ، بل الاقتضاء علة الاختصاص في الفيض المقدس ، وفي الفيض الأقدس علة اقتضاء الأسماء الأول ، فلا يرد .
والغرض أنهما ليستا مكتسبتين بالأعمال والعبادات ، فهما  موهبتان من الله تعالى من حيث اسمه ( الوهاب ) و ( الجواد ) .
وليستا جزاء لعمل ، ولا يطلب الحق عليهما منهم جزاء ، أي عملا على إزائهما ، أو شكرا وثناء
على عطائهما .
فإعطاؤه ، أي إعطاء الحق ، إياهم النبوة والرسالة على طريق الإنعام عليهم والإفضال في حقهم .  ( فإعطاؤه ) إضافة إلى الفاعل ، وأحد المفعولين محذوف .
وإنما قيد ( نبوة التشريع ) ، لأن النبوة العامة التي تلزم الولاية خارجة عن هذا الحكم ، فإن الولاية في المحبين مكتسبة وفي المحبوبين غير مكتسبة .
وفي الجملة ، للكسب مدخل في الإنباء العام . ومعنى ( الكسب ) تعلق إرادة الممكن بفعل ما دون غيره ، فيوجده الاقتدار الإلهي عند هذا التعلق ، فسمى ذلك ( كسبا ) .
هذا كلام الشيخ رضي الله عنه  : ذكره في الجلد الأول من فتوحاته في المسائل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فقال : " ووهبنا له إسحاق ويعقوب " يعنى لإبراهيم الخليل ، عليه السلام ، وقال في أيوب ، عليه السلام : " ووهبنا له أهله ومثلهم معهم " . وقال في حق موسى ، عليه السلام : " ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا " إلى مثل ذلك . فالذي تولاهم  أولا ، هو الذي تولاهم آخرا في عموم أحوالهم أو أكثرها . )
أي ، الذي تولاهم أولا وأوجدهم من غير عمل سابق وكسب ، وجعلهم أنبياء مرسلين وتمم عليهم نعمة ، تولاهم آخرا بحفظ تلك النعم عليهم وإيصالهم إلى كمالاتهم المقدرة  لهم .
أو تولاهم أولا حال إفاضة أعيانهم الثابتة بحيث كانت مستعدة لهذه النعم  وقابلة طالبة لها ، تولاهم آخرا بإيجادهم على مقتضى تلك الأعيان .
وإنما قال رضي الله عنه : ( في عموم أحوالهم أو أكثرها ) لئلا يلزم وجوب كونهم في جميع الأحوال كذلك .
( وليس ) ذلك المتولي .
( إلا اسمه "الوهاب" . وقال في حق داود ، عليه السلام : "ولقد آتينا داود منا فضلا " . فلم يقرن به جزاء منه يطلبه منه ) أي ، فلم يقرن الحق ما أعطاه لداود جزاء ، أي عملا ، يطلب الحق إياه من داود ، عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا أخبر أنه أعطاه هذا الذي ذكره جزاء . ولما طلب الشكر على ذلك  بالعمل ، طلبه من آل داود ولم يتعرض لذكر داود ، ليشكره الآل على ما أنعم به على داود . )
لأن الإنعام على نبي أمة في الحقيقة أيضا إنعام على تلك الأمة ، فأوجب الشكر عليهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو في حق داود عطاء نعمة وإفضال ، وفي حق آله على غير ذلك لطلب المعاوضة . فقال تعالى : " اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور " . وإن كانت الأنبياء ، عليهم السلام ، قد شكروا الله تعالى على ما أنعم به عليهم ووهبهم ، فلم يكن ذلك عن طلب من الله ، بل تبرعوا بذلك من نفوسهم ، كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، حتى تورمت قدماه ، شكرا لما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
فلما قيل له في ذلك ، قال : "أفلا أكون عبدا شكورا " . وقال في نوح : " إنه كان عبدا شكورا " . والشكور من عباد الله قليل . فأول نعمة أنعم الله بها على داود ، عليه السلام ، أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتصال . )
أي ، ليس فيه حرف يتصل بما بعده واتصال ما قبله من الحروف به .
واتصال ما قبله في غير هذا الاسم ، لا يوجب كونه من حروف الاتصال مطلقا  ( فقطعه عن العالم بذلك إخبارا لنا عنه بمجرد هذا الاسم ، وهي "الدال " و " الألف " و " الواو " ) ( إخبارا ) منصوب بفعل مقدر .
تقديره : أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتصال ، وجعله إخبارا لنا عنه .
أو ، فأخبر ذلك الاسم إخبارا لنا . أو حال من ( الاسم ) . أو من ضمير الفاعل في ( قطعه ) ، أي مخبرا .
ولما كان بين الاسم والمسمى عند أهل الحقيقة مناسبة جامعة ، أشار بأن كون اسمه من حروف منقطعة بعضها عن البعض في الوجود الكتابي ، إشارة من الله وإخبار لنا أنه تعالى قطعه عن العالم ، إذ الحروف متكثرة ، والكثرة للعالم ، كما أن الوحدة للحق .
فانقطاع بعضها عن البعض يوجب اتصال كل منها إلى  نفسه وحقيقته التي هو بها هو ، فالمنقطع عن العالم والكثرة ، واصل إلى حقيقته الواحدة ، وهو الحق .
لذلك قيل : ( الاستيناس بالناس يوجب الإفلاس ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسمى الله محمدا صلى الله عليه وسلم  بحروف الاتصال والانفصال ، فوصله به ) أي ، بالحق .
 ( وفصله عن العالم ، فجمع له بين الحالتين في اسمه ، كما جمع لداود بين الحالين من طريق المعنى ) أي ، طريق المسمى .
( ولم يجعل ذلك في اسمه ، فكان ذلك اختصاصا لمحمد على داود ، صلوات الله عليهما ، أعني ، التنبيه عليه باسمه . فتم له الأمر ) أي ، لمحمد ، صلى الله عليه وسلم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( من جميع جهاته ، وكذلك في اسمه "أحمد" . فهذا من حكمة الله . )
قوله : ( هذا ) إشارة إلى ما ذكره من التنبيه بالاسم : من قطعهما عن العالم ووصلهما بالحق . أي ، هذا المعنى من جملة حكم الله الحاصلة في الوجود ، لا يخلو عن حكمة إلهية .
( ثم قال في حق داود ، عليه السلام ، فيما أعطاه ) أي ، في جملة ما أعطى داود .
( على طريق الإنعام عليه ، ترجيع الجبال معه التسبيح ) بالنصب ، على أنه مفعول لقوله ( ترجيع ) . وهو منصوب على أنه مفعول ثان ( إعطاه ) .
أو  بنزع الخافض المبين ( ما ) ، أي من ( ترجيع الجبال ) . والمفعول الثاني الضمير . أي ، فيما أعطاه إياه .
( فتسبح لتسبيحه ، ليكون له عملها . وكذلك الطير . ) بالجر . أي ، ترجيع الطير وتسبيحه . أو بالنصب . أي ، وكذلك سخر له الطير يسبح معه تسبيحه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأعطاه القوة ونعته بها ، وأعطاه الحكمة وفصل الخطاب . ) "بإيضاح غوامض الأمور وإزالة الإتباس وكشف حقيقتها " .
أي ، قال في حقه : ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب ) .
وقال : ( يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد ) . فجعل ترجيع الجبال معه التسبيح ، فكانت تسبح بتسبيحه لتكون له ذلك التسبيح أيضا .
وكذلك تسخير الطير لتسبح معه ليكون تسبيحه معه أيضا تسبيحا له .
وأعطاه القوة ونعته بها بقوله : ( واذكر عبدنا داود ذا الأيد أنه أواب وأعطاه الحكمة ) .
بأن جعله عالما بالحقائق ، عارفا بالله ومراتبه وأسمائه ، عاملا بمقتضى علمه ، وجعله
( فصل الخطاب ) . أي ، واسطة بين الله وعباده .
كما قال رضي الله عنه  : ( ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ) . فعينه ذلك الحجاب الذي يتجلى الحق من ورائه على العباد .
واعلم ، أن روحه ، عليه السلام ، لما توجه بكليته إلى الحضرة الإلهية بالتسبيح والتحميد ، انعكس منه النور الإلهي الفائض عليه إلى قواه وأعضائه ، فسبحت تسبيح الروح بالمتابعة ، غير التسبيح المخصوص بكل منها ، فكان كل ذلك للروح أصالة ولغيرها تبعية .
" التسبيح المخصوص قوله تعالى : "وإن من شئ إلا يسبح بحمده " "
ولما كانت الجبال الظاهرة والطير المحشورة مثالا للأعضاء والقوى الروحانية والجسمانية - وصورا ظاهرة في الخارج لهذه الحقائق التي في العالم الإنساني وكانت الأعضاء والقوى يسبحن معه بالعشي والإشراق.
حصل ذلك التأثير الروحاني أيضا في روحانية الجبال والطيور ، فيسبحن ذلك التسبيح بعينه ، فكان ذلك التسبيح له "داود" عليه السلام  بالأصالة ، ولهن بالتبعية ،
كما قال الشاعر :
فلو قيل مبكاها بكيت صبابة  .... بسعدى شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكاء  .... بكاها ، فقلت : الفضل للمتقدم
فقال الشيخ رضي الله عنه  : ( ثم ، المنة الكبرى والمكانة الزلفى التي خصه الله تعالى بها ، التنصيص على خلافته ، ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه ، وإن كان فيهم خلفاء .
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ) .
 
أي ، ما يخطر لك في حكمك من غير وحى منى . ( فيضلك عن سبيل الله ) أي ، عن الطريق الذي (أوحى به . ) بسكون ( الياء ) للمتكلم . ( إلى رسلي ) .
قوله : ( ثم المنة ) مرفوع على الابتداء ، وخبره : ( التنصيص ) .
أو بكسر الميم ، من المنة ، عطفا على ( الإنعام ) . أي ، أعطاه على طريق الإنعام عليه . ثم ، المنة الكبرى والمكانة الزلفى . أو بفتحها ، عطفا على المفعول الثاني لأعطاه .
أو مرفوع على الابتداء ، وخبره ( التنصيص ) ، و ( ثم ) هنا للرتبة ، كقوله تعالى : ( ثم كان من الذين آمنوا ) .
وإنما كانت الخلافة المنة الكبرى والمكانة الزلفى ، لأنها صورة مرتبة الألوهية المعطاة لمن هو خليفة على العالم بالتبعية ، ولا مرتبة أعلى منها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، تأدب سبحانه معه ، فقال : "إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " . ولم يقل له : فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد . ) ظاهر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن قلت : وآدم ، عليه السلام ، قد نص على خلافته . قلنا ما نص مثل التنصيص على داود . وإنما قال للملائكة : " إني جاعل في الأرض خليفة " . ولم يقل : إني جاعل آدم خليفة في الأرض . ولو قال أيضا مثل ذلك ، لم يكن مثل قوله : " إنا جعلناك خليفة " . في حق داود .  فإن هذا محقق وليس ذلك كذلك .
وما يدل ذكر آدم في القصة بعد ذلك على أنه عين ذلك الخليفة الذي نص الله عليه . فاجعل بالك لإخبارات الحق عن عباده إذا أخبر . وكذلك في حق إبراهيم الخليل ، قال : " إني جاعلك للناس إماما " . ولم يقل : خليفة . وإن كنا نعلم أن الإمامة هنا خلافة ، ولكن ما هي مثلها ، لأنه ما ذكرها بأخص أسمائها وهي الخلافة . ) كله غنى عن الشرح .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، في داود من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم . وليس ذلك إلا عن الله تعالى ، فقال : "فاحكم بين الناس بالحق" . وخلافة آدم قد لا تكون من هذه المرتبة ، فتكون خلافته أن يخلف من كان فيها قبل ذلك ، لا أنه نائب عن الله في خلقه بالحكم الإلهي فيهم . وإن كان الأمر كذلك وقع ، ولكن ليس كلامنا إلا في التنصيص عليه والتصريح به . )
أي ، اختص داود ، عليه السلام ، بالخلافة في الحكم ، ليحكم على العالمين بالحق .
وليست هذه الخلافة إلا عن الله ، فإن الله هو الحاكم على عباده لا غيره .
وخلافة آدم وإن كانت أيضا واقعة من الله ، لكن لما لم يكن منصوصا عليه بالخلافة من الله في الحكم ، يمكن أن يتوهم متوهم أنه خليفة ممن سبقه من الملائكة أو غيرها .

( وانه ) وفي بعض النسخ عوض ( وإنه ) : " ولله في الأرض" ( خلائف عن الله هم الرسل . وأما الخلافة اليوم فعن الرسل لا عن الله . ) الضمير للشأن .
أي ، والشأن أنه في الأرض خلفاء عن الله ظاهرا وباطنا .
أما ظاهرا ، فهم الرسل ومتابعوهم من العلماء بالشرائع والأحكام الإلهية ، كالأئمة والمجتهدين في الأمة المحمدية
وأما باطنا ، فكالكمل والأقطاب ، وسنذكره .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنهم لا يحكمون إلا بما شرع لهم الرسول ، لا يخرجون عن ذلك . غير أن هاهنا دقيقة لا يعلمها إلا أمثالنا ، وذلك في أخذ ما يحكمون به مما هو شرع للرسول . )
الدقيقة هي أن الأولياء الكمل لغاية صفاء بواطنهم وظهور الحق و تجليه فيهم ، يعلمون بعض أحكام الله ويأخذونه منه ، كما يأخذ الرسول أو الملك منه ، فيحكمون به . وذلك إما بانكشاف الأعيان الثابتة وأحكامها ، وإما بإخبار الله عن تلك الأحكام . كما مر في ( الفص الشيثي ) .
وقوله رضي الله عنه   : ( ذلك ) إشارة إلى الدقيقة ، ذكره باعتبار المعنى . و ( شرع ) على صيغة المبنى للمفعول .
و ( من ) في ( مما ) بيان ما يحكمون به . أي ، وتلك الدقيقة في صورة أخذ ما يحكمون به من الحق سبحانه من حكم ما هو شرع للرسول .
ويجوز أن يكون مبنيا للفاعل . و ( من ) صلة ( الأخذ ) ، و ( ما ) عبارة عن الحق .
أي ، ذلك في أخذ ما يحكمون به من الحق الذي هو شرعه للرسول .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالخليفة عن الرسول من يأخذ الحكم بالنقل عنه ، عليه السلام ، أو بالاجتهاد الذي أصله أيضا منقول عنه ، عليه السلام . وفينا من يأخذه عن الله ، فيكون خليفة عن الله بعين ذلك الحكم ، فتكون المادة له من حيث كانت المادة لرسوله ، صلى الله عليه
وسلم فهو ) أي ، ذلك الآخذ من الله .
 
( في الظاهر متبع لعدم مخالفته في الحكم ، كعيسى ، عليه السلام ، إذا نزل فحكم . ) بما حكم به رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
(وكالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده".)
أمر نبينا ، عليه السلام ، باتباع هدى الذين سبقوا عليه من الأنبياء والرسل . لا باتباعهم ، بل باتباع هداهم ، ليكون
آخذا من الله ، كما أخذوا منه . فكذلك من له التأسي به في جميع أحواله ، يأخذ
الحكم من الله تأسيا برسل الله ، صلوات الله عليهم أجمعين ، مع أنه في الظاهر
متبع له وتحت حكمه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهو في حق ما يعرفه من صورة الأخذ مختص موافق ، هو فيه بمنزلة ما قرره النبي ، صلى الله عليه وسلم ، من شرع من تقدم من الرسل ، بكونه قرره.)
( هو ) مبتدأ ، خبره ( مختص ) ، ( موافق ) خبر ثان .
قوله : ( هو فيه ) مبتدأ آخر بمنزلة خبره .
ومعناه : هذا الولي الآخذ من الله ، عين الحكم الذي قرره الرسول الشارع ، مختص بالإختصاص الإلهي في حق ما يعرفه من صورة الأخذ ، أي مخصوص بهذا المعنى ، موافق لشريعة الرسول المشرع في ذلك الحكم .
( هو فيه )  أي ، هذا الآخذ فيما أخذه من الله وقرره في شرع رسول الله بمنزلة ما قرره رسول الله من أحكام شريعة من تقدم عليه من الرسل .
( فاتبعناه من حيث تقريره ، لا من حيث إنه شرع لغيره قبله . ) أي ، فاتبعنا ما قرر رسول الله ، صلى الله عليه وآله ، من شرع من تقدم عليه من حيث إنه ، عليه السلام ، قرره وجعله من شريعته وأخبر أن الحكم كذلك عند الله ، لا من حيث إنه شريعة غيره . فإنا لسنا مأمورين بشريعة الغير .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك أخذ الخليفة عن الله عين ما أخذه منه الرسول . فنقول فيه بلسان الكشف "خليفة الله " ، وبلسان الظاهر "خليفة رسول الله " . ولهذا مات رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وما نص بخلافة عنه إلى أحد ولا عينه لعلمه أن في أمته من يأخذ الخلافة عن ربه ، فيكون خليفة عن الله مع الموافقة في الحكم المشروع . فلما علم ذلك رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، لم يحجر الأمر . )
 أي ، لما
علم النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أن لله تعالى عبادا من أمته ، وفي قوتهم أن يأخذوا الخلافة من الله سبحانه ، ما عين من يخلفه وجعل التعيين إلى الله  ولما كان في تعيينه ، عليه السلام ، منعا للبعض الذي ما عين ذلك المقام ،
قال الشيخ رضي الله عنه :  رضي الله عنه : ( ولم يحجر الأمر ) أي ، لم يمنع أحدا من هذا الأمر ، يعنى أمر الخلافة .
(فلله خلفاء في خلقه يأخذون من معدن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ) "اللام " للعهد ، والمعهود نبينا ، صلى الله عليه وسلم . "والرسل " . أي ، يأخذون من معدن نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، أو من معدن الرسل الذين تقدموا عليه . ( ما أخذته الرسل ، عليهم السلام . ) من أحكام الشرائع والعلوم والمعارف وغيرها .
والمراد ب‍ ( المعدن ) عين الذات الإلهية وأسماؤه والأعيان التي لا يأخذ الحق أيضا إلا منها ، كما مر في ( الفص العزيري ) و ( الشيثي ) . فهؤلاء الكمل محكومون معه بذلك الحكم المأخوذ من الله بالجهتين : من جهة الرسول ، ومن جهة الحق المكلف بذلك .
فصدق في حقهم ما قاله الشاعر"ابن نباته المصري ":
لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من دونهم وحدي
الغوث يا من إليه قد مددت يدي ... ثم اقتدحت فاوْرى بالثنا زندي
 ( ويعرفون فضل المتقدم هناك ، لأن الرسول قابل للزيادة ، وهذا الخليفة ليس بقابل للزيادة التي لو كان الرسول قبلها . )
( الرسول ) منصوب على أنه خبر ( كان ) . و ( قبلها ) على صيغة الماضي . أي ، الأولياء الخلفاء لله ، يعرفون فضل المتقدم من الرسل عليهم عند الله هناك ، أي في ذلك الأخذ .
والمراد بالتقدم ليس التقدم الزماني ، بل التقدم الرتبي ، لذلك علل بقوله : ( لأن الرسول قابل للزيادة ) والنقصان .
فالتقدم بالرتبة هو الذي يكون أرفع درجة وأعلى مرتبة وأكثر أخذا وأشد علما بالله وأسمائه .
وله فضيلة على غيره من الرسل .
وأما الخليفة فليس لقابل للزيادة التي لو كان هو رسولا لقبل تلك الزيادة ، فإن من جعله الله خليفة على العالم ، هو الذي جعله متحققا بأسمائه كلها ، فلا يمكن الزيادة فيه .
وأما من يكون خليفة على بعض العالم ، كخلفاء الأقطاب ، فيقبلون الزيادة والنقصان ، كما مرت الإشارة إليه من أن لكل إنسان نصيبا من الخلافة الكبرى والنيابة العظمى على حسب استعداده وقربه من الخلافة المطلقة .
 
( فلا يعطى من العلم والحكم فيما شرع إلا ما شرع للرسول خاصة . ) أي ، لا يعطى الله هذا الولي الأخذ من الله شيئا من العلم والحكم فيما شرع له ، إلا مثل ما
شرع للرسول خاصة .
( فهو في الظاهر متبع غير مخالف ، بخلاف الرسل ) فإن الله شرع لكل منهم أحكاما يوافق بعضها شريعة من قبله ، ولا يوافق بعضها إلا بزيادة حكم ، أو نسخه.   
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا ترى عيسى ، عليه السلام ، لما تخيلت اليهود أنه لا يزيد على موسى - مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرسول - آمنوا به وأقروه ، فلما زاد حكما أو نسخ حكما - كان قد قرره موسى لكون عيسى رسولا - ثم يحتملوا ذلك ، لأنه خالف اعتقادهم فيه ، وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه . )
أي ، أمر الرسالة . فإنها يقتضى الزيادة والنقصان بحكم الوقت واستعداد قوم أرسل الرسول إليهم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فطلبت قتله . وكان من قصته ما أخبرنا الله تعالى في كتابه العزيز عنه وعنهم . فلما كان رسولا قبل الزيادة ، إما بنقص حكم قد تقرر ، أو بزيادة حكم ، على أن النقص زيادة حكم بلا شك . )
لأن نقص الحكم المقرر في الشرع رفع ذلك الحكم ، ورفع الحكم حكم بالرفع زائد على ما قرر.
( والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب . ) أي ، منصب الزيادة والنقصان .
( وإنما ينقص أو يزيد على الشرع الذي قد تقرر بالاجتهاد ، لا على الشرع الذي شوفه به محمد ، رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . ) أي ، خوطب به مشافهة .
وفي بعض النسخ : ( شرعه محمد ، عليه السلام ) .
وإنما يدخل الزيادة والنقصان على الشرع المتقرر بالاجتهاد ، لأنه حكم من
وراء الحجاب ، فإذا ظهر من يكون عالما بنفس الأمر مكشوفا بالحقائق ، غير ما ليس في نفس الأمر كذلك . وأما في المشروع المنصوص عليه ، فلا يدخل فيه الاجتهاد ولا التغيير أصلا . لأنه في نفس الأمر كذلك .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقد يظهر من الخليفة ) الآخذ من الله الحكم . ( ما يخالف حديثا ما في الحكم ، فيتخيل أنه من الاجتهاد ، وليس كذلك . وإنما هذا الإمام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ) لعله بطريق الكشف ما قال النبي ، صلى الله عليه وسلم
( ولو ثبت لحكم به ، وإن كان الطريق فيه العدل عن العدل ، فما هو ) أي ، فليس ذلك العدل.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( معصوم من الوهم ولا من النقل على المعنى . فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم ، وكذلك يقع من عيسى ، عليه السلام ، فإنه إذا نزل ، يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرر فيتبين برفعه صورة الحق المشروع الذي كان عليه النبي ، صلى الله عليه وسلم . ) أي ، يبين صورة الحكم المشروع برفعه كثيرا من شرائع الاجتهاد . فالحق هنا مقابل الباطل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا سيما إذا تعارضت أحكام الأئمة في النازلة الواحدة ، فيعلم قطعا أنه لو نزل وحى ، لنزل بأحد الوجوه ، فذلك هو الحكم الإلهي . وما عداه وإن قرره الحق ، فهو شرع تقرير لرفع الحرج عن هذه الأمة واتساع الحكم فيها . )
كما قال تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) .
وقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) . فتقريره لرفع الحرج إلى أن يبين الله أحكامه .
والحاصل ، أن الولي الآخذ من الله لا يرفع ما نص الرسول عليه من الأحكام ، بل يرفع الأحكام الاجتهادية التي اختلفت فيها ، ويحكم بما عليه الأمر في نفسه وعند الله ، فيرتفع الخلاف .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما قوله ، صلى الله عليه وسلم : "إذا بويع لخليفتين ، فاقتلوا الأخير منهما " . فهذا في الخلافة الظاهرة التي لها السيف . وإن اتفقا فلا بد من قتل أحدهما ، بخلاف الخلافة المعنوية ، فإنه لا قتل فيها . )
لما ذكر أن لله خلفاء يأخذون الحكم من الله ، ثم جعلهم ظاهرا وباطنا ، أورد الحديث وبين محل الحكم جوابا عن اعتراض مقدر .
وهو قول القائل : كيف يكون لله خلفاء ظاهرا وباطنا ، وقد قال نبيه ، صلى الله عليه وآله : ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الأخير منهما ) .
وإنما لم يكن القتل في الخلافة المعنوية ، لأن الخليفة في الباطن هو القطب ، ولا يمكن أن يكون أكثر من واحد ، وباقي الخلفاء المعنوية تحت حكمه وتصرفه .
 
وجواب ( ما ) قوله من بعد : ( فمن حكم الأصل ) .
( وإنما جاء القتل في الخلافة الظاهرة ، وإن لم يكن لذلك الخليفة ) أي ، الخليفة الأولى الذي لا يقتل . ( هذا المقام . ) أي ، مقام الخلافة ، أو أخذ الأحكام من الله .
 
( وهو خليفة رسول الله إن عدل . ) أي ، الذي قرر على الخلافة خليفة رسول الله إن عدل في الحكم بين الناس . وإن لم يعدل فهو خليفة ظاهرا ، لكن لا خليفة رسول الله ( فمن حكم الأصل الذي به يخيل وجود إلهين . ) هذا جواب ( أما ) .

أي أما قوله : ( إذا بويع لخليفتين ، فاقتلوا الأخير منهما ) . فمن حكم الأصل الذي هو وجوب كون الله تعالى واحدا . والثاني الذي به يخيل جواز وجود إلهين واجب القتل ، لئلا يكونا خليفتين ، كما لا يكون إلهين .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:18 am

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الجزء الثاني
17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية
وإنما كان بالخليفة الثانية تخيل ذلك ، لأن الخليفة مظهر الحق في الظاهر ، فكونها اثنين ، يكون دليلا وعلامة على الهين ظاهرين فيهما .
فيخيل أن الأمر كذلك ، لكن الثاني منتف بحكم الأصل ، فكذلك مظهره أيضا

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " . وإن اتفقا ) يعنى الإلهين . قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنحن نعلم أنهما لو اختلفا ، تقديرا ، لنفذ حكم أحدهما ، فالنافذ الحكم هو الإله على الحقيقة ، والذي لم ينفذ حكمه ليس بإله . ) غنى عن الشرح .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن هاهنا نعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم فإنه حكم الله - وإن خالف الحكم المقرر في الظاهر المسمى شرعا - إذ لا ينفذ حكم إلا لله في نفس الأمر ، لأن الأمر الواقع في العالم إنما هو على حكم المشيئة الإلهية ، لا على حكم الشرع المقرر . )

لما كان الإله في الوجود واحدا ، علم أن جميع الأحكام النافذة في العالم لا ينفذ إلا بحكم الله وإرادته وتنفيذه بين عباده ، وإن وقع ذلك الحكم مخالفا لما قرره الشرع ، لأن كل ما يقع في العالم إنما هو بحكم المشيئة الإلهية ، لا بحكم غيره .
فما شاء الحق وقوعه ، يقع البتة ، وما لم يشأ لم يقع ، سواء كان قرره الشرع أو لا .
( وإن كان تقريره من المشيئة ، ولذلك نفذ تقريره خاصة . ) ( إن ) للمبالغة .
أي ، وإن كان تقرير الشرع المقرر أيضا واقعا بالمشيئة الإلهية ، فإن الحق شاء أن يقرر ، ( لذلك نفذ تقريره خاصة ) أي وقع التقرير ، لا العمل به عند من لم يعمل بذلك .

( وأن المشيئة ليست لها فيه إلا التقرير ، لا العمل بما جاء به )
( وأن ) بالفتح ، معطوف على قوله : ( ومن هاهنا نعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم فإنه
حكم الله . ) أي ، فعلم أن المشيئة ليست لها فيه ، أي في ذلك الشرع المقرر ، إلا  التقرير ، لا العمل بما جاء به ذلك الشرع ، إلا ما تعلقت المشيئة أيضا بعمله .
( فالمشيئة سلطانها عظيم ، ولهذا جعلها أبو طالب " عرش الذات " )
أي ، مظهرا به يظهر مقتضيات الذات في الوجود العلمي والعيني ، ( لأنها لذاتها تقتضي الحكم ، فلا يقع في الوجود شئ ولا يرتفع خارجا عن المشيئة ، فإن الأمر الإلهي إذا خولف هنا بالمسمى "معصية " ) أي ، بما يسمى معصية .

( فليس إلا الأمر بالواسطة . لا الأمر التكويني ) أي ، الأمر قسمان : أمر بواسطة المظاهر ، كالأنبياء والأولياء والمجتهدين ، وأمر بغير الوسائط . وما لا واسطة فيه ، وهو الأمر التكويني ، لا يمكن المخالفة فيه.
كقوله تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) . وما كان بالواسطة ، فقد يقع المخالفة فيه . لذلك آمن بعض الناس بالأنبياء وكفر بعض ، وممن آمن أتى بجميع أوامرهم بعضهم ، ولم يأت بعضهم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما خالف الله أحد قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشية . ) لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ( فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة . فافهم . )
أي ، فالمخالفة ما وقعت إلا في أمر الواسطة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنما يتوجه إلى إيجاد عين الفعل ، لا على من ظهر على يديه فيستحيل أن لا يكون ، ولكن في هذا المحل الخاص ) .
أي ، لا يتعلق أمر المشيئة على الحقيقة إلا بإيجاد عين الفعل ، لكن في هذا المحل الخاص ، لا على فاعله ليلزم أن يكون عدم الفعل منه مستحيلا .
فالمحل شرط صدور الفعل ، وتعلق أمر المشيئة بالمشروط لا الشرط ، والتعلق به بأمر آخر وبمشيئة أخرى .
كما وقع الخلاف بين العلماء أن الأمر بالشئ أمر بما لا يتم ذلك الشئ إلا به ، أو لا .
كالوضوء للصلاة . فذهب بعضهم إلى أن الأمر به ليس بعينه أمرا بما لا يتم إلا به ، بل بأمر آخر .
أما لو نازع فيه منازع ، لكان في موضعه ، لأن المشيئة تعلقت بالإيجاد في ذلك المحل ، فتعلقت المشيئة به أيضا .
ولما كان التوجه هاهنا متضمنا معنى الحكم ، عداه ب‍ ( على ) في قوله : ( لا على من ظهر ) .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فوقتا يسمى به مخالفة لأمر الله ، ووقتا يسمى موافقة وطاعة لأمر الله ، ويتبعه لسان الحمد والذم على حسب ما يكون . )
أي ، يسمى الفعل الصادر بسبب تعلق أمر المشيئة بعين ذلك الفعل ، عند كونه غير موافق لأمر الشارع ، ( معصية ) ومخالفة لأمر الله .
وعند كونه موافقا ، موافقة وطاعة ، وحينئذ يتبعه لسان الحمد في الطاعة ، والذم في المعصية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما كان الأمر في نفسه على ما قررناه ، لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة على اختلاف أنواعها . ) أي ، لما كانت الأفعال كلها بمشيئة الله كما قررناه - من أنه لا يقع شئ إلا بالمشيئة الإلهية ولا يرتفع إلا بها - كان مآل الخلق في الآخرة إلى السعادة على اختلاف أنواع الخلائق وسعاداتهم .

( فعبر عن هذا المقام بأن الرحمة وسعت كل شئ وأنها سبقت الغضب الإلهي . ) أي ، عبر الحق عن لسان هذا المقام ب‍ ( أن الرحمة وسعت كل شئ ) .
فإن المشيئة الإلهية وسعت جميع الأشياء أعيانها وأحوالها ، لأنها بها وجدت في العلم ، وبها ظهرت في العين .
وقال أيضا : ( إن رحمتي سبقت غضبي ) . فرحمته السابقة مشيئته الذاتية العامة السابقة على كل شئ ، ( 23 ) أسماء كانت أو أعيانا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والسابق متقدم ، فإذا لحقه هذا الذي حكم عليه المتأخر ، حكم عليه المتقدم ، فنالته الرحمة إذ لم يكن غيرها سبق ) أي ، إذا لحقه حكم الغضب الذي هو المتأخر بواسطة المخالفة ، حكم عليه المتقدم بالرحمة السابقة ، فأخذته من يد ( المنتقم ) .
وحكم الغضب إما قبل أخذ المنتقم حقه منه ، أو بعده ، أو حال الانتقام ، لأن السابق على الغضب هو الرحمة ، فالمآل أيضا إليها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهذا معنى سبقت رحمته غضبه ) اعلم ، أن ( السبق ) يستعمل على معان : منها التقدم بالوجود ومنها قولهم : سبق الفرس الفرس . أي ، لحقه وتعداه .
ومنها سبقه فلان في الصنعة ، أو في الكرم . أي ، زاد عليه وغلبه .
وفي قوله تعالى : ( سبقت رحمتي غضبي ) . جميع هذه المعاني مرعية:
 أما الأول ، فإنه لو لم تكن رحمته ، لما وجد شئ من الأشياء فضلا عن الغضب .
وأما الثاني ، فلأنه يلحق الرحمة فتأخذ المجرم من يد المنتقم .
وأما الثالث ، فعند توجه ( المنتقم ) إليه من الانتقام ، قد يتوجه ( الرحمن ) بالمغفرة والرحمة إليه ، فلا يبقى له حكم عليه .

فقوله رضي الله عنه  : ( هذا ) إشارة إلى قوله : ( والسابق متقدم ) إلى آخره . وهو يجمع المعاني الثلاث .
لذلك قال : ( فهذا معنى سبقت رحمتي غضبي ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لتحكم على من وصل إليها ، فإنها في الغاية وقفت ) أي ، لتحكم الرحمة على كل من وصل إليها ، أي ، إلى الرحمة . وفاعل (وصل) ضمير عائد إلى (من) .
فإن الرحمة السابقة على كل شئ لا يقف إلا في الغاية والنهاية ، ليكون ( الأول ) عين ( الآخر ) . فالرحمة الإلهية أول الأشياء وآخرها .
( والكل سالك إلى الغاية فلا بد من الوصول إليها ) أي ، إلى الغاية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا بد من الوصول إلى الرحمة ومفارقة الغضب . ) أي ، وكل العباد ، بل وكل الأشياء ،
سالك بقطع مراتب الوجود العلمي والعيني بالحركة الدورية الوجودية ، فلا بد من الوصول إلى غاياتها وكمالاتها ، فلا بد من الوصول إلى الرحمة ومفارقة الغضب وأحكامه ، لأن غايات الأشياء وكمالاتها لا يكون إلا مرغوبا فيها ، لا مهروبا عنها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيكون الحكم لها في كل واصل إليها بحسب ما يعطيه حال الواصل إليها . )
أي ، فحينئذ يكون الحكم للرحمة في كل عين من الأعيان التي وصلت إلى الغاية ، فتعم الرحمة عليها جميعا ، لكن على حسب درجاتهم وتفاوت طبقاتهم : فيكون للبعض نعيم في عين الجحيم ، ولبعض آخر في الجنة ، ولآخر في ( الأعراف ) الذي بينهما .

( فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا ....  وإن لم يكن فهم فيأخذه عنا )
أي ، فمن كان ذا بصيرة وعرفان مكشوف القلب ، فيشاهد ما قلنا في الوجود شهودا أعيانيا . ومن لم يكن كذلك ، ويكون مؤمنا بالأنبياء والأولياء ، فيأخذه عنا تقليدا ايمانيا .

(فما ثم إلا ما ذكرناه فاعتمد  .... عليه وكن بالحال فيه كما كنا )
أي ، فما في نفس الأمر إلا ما ذكرناه وبيناه لك . فاعتمد على قولنا وكن مشاهد أصحاب الحال في هذا الوجود الدنياوي ، كما كنا ، ليكون لك أرفع الدرجات ، لأنك لا تحشر إلا كما تنشر حال المفارقة .

( فمنه إلينا ما تلونا عليكم  ..... ومنا إليكم ما وهبنا كم منا )
أي ، فمن الحق نزل إلينا ما تلونا عليكم وبينا عندكم . ومنا نزل إليكم ما وهبناكم من المعارف والعلوم .
وفي بعض النسخ : ( وليس إليكم ما وهبناكم منا )
. أي ، ليس ما ورد إليكم مما وهبناكم منا ، بل من الله . والظاهر تصحيف من الناسخ .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما تليين الحديد ، فقلوب قاسية يلينها الزجر والوعيد تليين النار الحديد . )
أي ، وأما كونه بحيث يلين الحديد ، فإشارة إلى تليينه بالمواعظ والحكم والتصرفات الروحانية القلوب القاسية الجافية كتليين النار الحديد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما الصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة ، فإن الحجارة تكسرها وتكلسها النار ولا تلينها.) أي ، تليين الحديد أمر سهل ، وإنما الصعب تليين قلوب هي أشد قساوة وصلابة من الحجارة التي هي أشد من الحديد .
فإن النار تلين الحديد ولا تلين الحجارة ، بل تكسرها وتكلسها ، أي تجعلها كليسا وهو النورة .
فالقلوب القاسية أصعب تليينا من كل شئ . "الكلس : الجص "

( وما ألأن ) أي الحق ( له ) أي لداود عليه السلام ( الحديد إلا لعمل الدروع الواقية ) أي ، الحافظة من العدو . ( تنبيها من الله إذ لا يتقى ) على صيغة المبنى للمفعول .
(الشئ إلا بنفسه فإن الدرع يتقى به السنان والسيف والسكين والنصل فاتقيت الحديد بالحديد.) أي ، فاتقيت أنت من الحديد بالحديد .
( فجاء الشرع المحمدي ب‍ "أعوذ بك منك " . فافهم . ) أي ، كما يتقى بالحديد من الحديد ، لذلك قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : "أعوذ بك منك " .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهذا روح تليين الحديد ، فهو "المنتقم الرحيم" . والله الموفق . ) أي ، هذا الذي ذكرته من أن تليين الحديد إشارة إلى تليين القلوب القاسية ، وأنه تعالى ألأن الحديد الصوري ، ليندفع الحديد بالحديد .
كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( أعوذ بعفوك من عقابك ، وأعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بك منك ) .
فهو روح تليين الحديد ومعناه ، فإن الحق هو (المنتقم) وهو (الرحيم) ، فينبغي أن يستعاذ من الاسم ( المنتقم ) بالاسم ( الرحيم ) ، لتكون الاستعاذة بالله من الله ، والله الموفق لهذه الاستعاذة والاطلاع لأسرارها ، لا غيره .

تم الفص الداودي
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالأحد يناير 19, 2020 6:20 pm

18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص اليونسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية
اعلم ، أن النفس الناطقة الإنسانية مظهر الاسم الجامع الإلهي ، فهي من  حيث إنها كذلك ، برزخ للصفات الإلهية والكونية والمعاني الكلية والجزئية ، ولهذا البرزخية تعلقت بالأبدان ، إذ البرزخ لا بد أن يكون فيه ما في الطرفين ،
فجمعت بين ما هو روحاني محض ومعنى صرف مقدس عن الزمان والمكان منزه عن التغير والحدثان ، وبين ما هو جسماني طلق محتاج إلى المكان والزمان ، متغير بتغيرات الأزمان والأكوان ، فتم لها العالم العلوي الروحاني  والسفلى الجسماني ، فصارت خليفة في ملكها مدبرة لرعاياها .
ولهذا المعنى أورد الشيخ ، رضي الله عنه ، بعد الحكمة ( السليمانية ) و ( الداودية ) : تتميما لما يتعلق به الخلافة .
 
وإنما قارنها بالكلمة ( اليونسية ) ، لأنه كما ابتلاه الله بالحوت في اليم ، كذلك ابتلى النفس بالتعلق في الجسم . وكما أنه نادى في الظلمات : ( أن لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) . قال تعالى فيه : ( ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ) .
كذلك توجهت النفس أيضا في عين ظلمات الطبيعة والبحر الهيولاني والجسم الظلماني إلى ربها ، فانكشف لها وحدانية الحق وفردانيته ، فأقرت بها واعترفت بعجزها وقصورها ، فأنجاها الله من مهالك الطبيعة ، وأدخلها في أنوار الشريعة والطريقة والحقيقة في مقابلة الظلمات الثلاث ،  ورزقها النعيم الروحاني في عين الجحيم الجسماني .
ولمناسبات أخر بين النفس وبينه من ابتلاع حوت الرحم النطفة المشتملة على روحانية النفس المجردة وأنوارها وكونها في الظلمات الثلاث التي هي الرحم والمشيمة والجلد الرقيق الذي فيه الجنين وغيرها من المعاني الجامعة بينهما التي لا يعلمها إلا الراسخون في العلم .
 
فهذه الحكمة حكمة ( نفسية ) ، بسكون ( الفاء ) . وقيل : نفسية ، بفتح ( الفاء ) ، لما نفسه الله بنفسه الرحماني من كربه الذي لحقه من جهة قومه وأولاده ، وغير ذلك مما جرى له في بطن الحوت . وليس في تقرير هذه الحكمة ما يدل عليه . والله أعلم بالمراد
 
( اعلم ، أن هذه النشأة الإنسانية بكمالها ) أي ، بجمعها ظاهرا وباطنا ) روحا وجسما ونفسا ، خلقها الله على صورته . ) أي ، صورته المعنوية التي هي صفاتها الكمالية .
( فلا يتولى حل نظامها إلا من خلقها ) أي ، لا يتولى حل نظام هذه النشأة الإنسانية ولا يباشرها إلا من خلق له هذه النشأة . وذلك ( إما بيده )
كما قال تعالى : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) . ( وليس إلا ذلك . أو بأمره . ) أي ، وليس حل نظامها إلا بيده من غير واسطة ، أو بواسطة أمره وهو الملك .
 
فسمى الملك ( أمرا ) ، لكونه موجودا بالأمر كما يسمى عالم الأرواح ب‍ ( الأمر ) .
) ومن تولاها بغير أمر الله ، فقد ظلم نفسه وتعدى حد الله فيها وسعى في خراب ما أمر الله تعالى بعمارته . ) ضمير ( تولاها ) ( النشأة ) . أي ، من تولى حل نظام هذه النشأة الإنسانية بغير أمر الله ، أي بغير الأمر الشرعي - لا أمر المشيئة ، فإن ذلك محال إذ لا يقع شئ إلا بالمشيئة - وتعدى حدود الله التي وضعها في محافظة النشأة الإنسانية وسعى في خراب هذه النشأة التي أمر الله بعمارتها ، فقد ظلم نفسه .
 
كما قال : ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) . فجواب الشرط مقدر بعد الجمل الثلاث .
( واعلم ، أن الشفقة على عباد الله أحق بالرعاية من الغيرة في الله . ) أي ، من القتل بالغيرة في الله .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ) أراد داود بنيان البيت المقدس ، فبناه مرارا . فكلما فرع منه تهدم فشكى ذلك إلى الله ، فأوحى الله إليه أن بيتي هذا ، لا يقوم على يدي من سفك الدماء . فقال داود : يا رب ، ألم يكن ذلك ) أي ، ذلك القتل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( في سبيلك ؟ قال : بلى ، ولكنهم أليسوا عبادي ؟ فقال : يا رب ، فاجعل بنيانه على يدي من هو منى . فأوحى الله إليه : إن ابنك سليمان يبنيه . فالغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الإنسانية ، وأن إقامتها أولى من هدمها .
ألا ترى عدو الدين قد فرض الله في حقهم الجزية والصلح ، إبقاء عليهم ، وقال : “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله “ . ) أي ، إن مالوا إليك للإنقياد والصلح معك ، فمل إليهم وأعطهم ما سألوك .
وضمير ( لها ) عائد إلى ( السلم ) لأنه مؤنث سماعي .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ألا ترى من وجب عليه القصاص ، كيف شرع لولى الدم أخذ الفدية أو العفو ، فإن أبى فحينئذ يقتل .
ألا تراه سبحانه ، إذا كان أولياء الدم جماعة ، فرضي واحد بالدية أو عفى وباقي الأولياء لا يريدون إلا القتل ، فكيف يراعى من عفى و يرجح على من لم يعف فلا يقتل قصاصا . ألا تراه ، عليه السلام ، يقول في صاحب النسعة : " إن قتله كان مثله " . )
( النسعة ) حبل عريض ، كالحزام . وكان في زمن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قتل واحد ، فوجد وليه نسعته ، أي حبله على يد شخص ، فقصد قتله .
فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( إن قتله كان ظالما مثله ) .
فإن مجرد وجود النسعة لا يوجب القتل ولا يثبت القصاص .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ألا تراه تعالى يقول : "وجزاء سيئة سيئة مثلها " . فجعل القصاص سيئة ، أي ، يسوء ذلك القتل مع كونه مشروعا . " فمن عفا فأصلح ، فأجره على الله " لأنه على صورته . )
أي ، لأن المعفو عنه ، على صورة الحق . ( فمن عفا عنه ولم يقتله ، فأجره على من هو . ) أي ، المعفو عنه . ( على صورته ) وهو الحق .
( لأنه أحق به ، إذ أنشأه له . ) أي ، لأن الحق أحق بالعفو من عبيده ، إذا أنشأ العبد لأجل نفسه
حتى يظهر أسماؤه وصفاته به ، كما قال : ( يا بن آدم خلقت الأشياء لأجلك ، وخلقتك لأجلي ) . فلما لم يعف عنه وأمر بالقصاص منه ، مراعاة للنسل وبقائه ، وقع أجر من عفا عنه عليه ليعطيه الجنة ويعفو عن ذنوبه ويغفر سيئاته .
( وما ظهر بالاسم الظاهر إلا بوجوده . ) أي ، وما ظهر الحق بالاسم ( الظاهر ) إلا بوجود العبد ، فمن عفا عنه وأحسن إليه ، وجب أجره على الله .
( فمن راعاه ) أي ، راعى الإنسان . ( فإنما يراعى الحق . ) لأنه مظهره واسمه الظاهر .
 
( وما يذم الإنسان لعينه ، وإنما يذم لفعله ، وفعله ليس عينه ، وكلامنا في عينه . ) أي ، ليس الإنسان مذموما من حيث إنه إنسان ، بل من حيث أفعاله الذميمة يذم ، وفعله ليس عينه ، فلا يبطل عينه ولا يخرب وجوده لفعله .
 
( ولا فعل إلا لله ، ومع هذا ذم منها ما ذم وحمد منها ما حمد . ) لأن الفعل مبدأه الصفات ، ومبدأ الصفات هو الذوات ، والذوات ليست إلا عين الوجود المتعين ، والوجود هو الحق . فالكل مستهلك في عين ذاته تعالى ، فهو الفاعل الحقيقي ، ومع هذا ذم بعض الأفعال وحمد بعضها .
وقيل معناه : ذم من الأعيان ما ذم ، وحمد ما حمد إذا أضيف إليها الفعل .
والأول أنسب لما نفى الفعل عن العبيد .
 
( ولسان الذم على جهة الغرض مذموم عند الله . ) أي ، إذا ذم أحد شيئا لا يوافق غرضه وجعله مذموما ، فذلك الذم مذموم عند الله ، لأن صاحبه واقف عند غرضه وحظ نفسه ، بخلاف ما يذمه الشرع ، فإنه إخبار عما في نفس الأمر على ما هو عليه ، ولا غرض للشارع في ذلك .
 
( فلا مذموم إلا ما ذمه الشرع ، فإن ذم الشرع لحكمة يعلمها الله ، أو من أعلمه الله . )
وهذا تصريح منه على أن الحسن والقبح شرعي لا عقلي (كما شرع القصاص للمصلحة إبقاء لهذا النوع وإرداعا للمتعدي حدود الله فيه ) أي ، في هذا المعنى نزل : "ولكم في القصاص حيوة يا أولى الألباب " . وهم ) ، أي ، أولوا الألباب . ( أهل لب الشئ الذين عثروا ) أي ، اطلعوا .
( على أسرار النواميس الإلهية ) أي ، الشرائع الإلهية ( والحكمية . ) أي ، الأحكام التي
يقتضيها العقل . أي ، أولو الألباب هم الذين عرفوا أسرار الوجود وحكم الأحكام الشرعية والعقلية كلها .
 
( وإذا علمت أن الله راعى هذه النشأة ) وراعى ( إقامتها ، فأنت أولى بمراعاتها ، إذ لك بذلك السعادة ) أي ، لأن مراعاتها توجب لك السعادة .
( فإنه ما دام الإنسان حيا ، يرجى له تحصيل صفة الكمال الذي خلق له . ) فإذا راعيته وأعنته ليصل إلى كماله ، تجازى بأحسن الجزاء .
( ومن سعى في هدمه ، فقد سعى في منع وصوله لما خلق له . ) فيجازى من الحق بمثله ، فيمنع من وصوله إلى كمال نفسه ، لأن الوجود مكاف .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما أحسن ما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : "ألا أنبئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربون رقابكم ؟ ذكر الله " . )
أي ، ذكر الله أفضل من الغزو في سبيل الله ومن الشهادة فيه ، لأنه موجب لهدم بنيان الرب من الطرفين ، وإن كان فيه إعلاء كلمة الله ورفع أعلام الله وثواب الشهادة ، لكن كل ذلك لا يقابل لما في هدم بنيان الله من الشر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وذلك أنه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانية إلا من ذكر الله الذكر المطلوب منه . فإنه تعالى جليس من ذكره . والجليس مشهود للذاكر . ومتى لم يشاهد هذا الذاكر الحق الذي هو جليسه ، فليس بذاكر . )
ذلك إشارة إلى كون الذكر أفضل من الغزو والشهادة في سبيل الله . وإنما كان كذلك لأن ثوابهما حصول الجنة ، والذاكر جليس الحق تعالى - كما قال : ( أنا جليس من ذكرني ) .
والجليس لا بد أن يكون مشهودا ، فالحق مشهود الذاكر ،وشهود الحق أفضل من حصول الجنة.
لذلك كانت الرؤية بعد حصول الجنة وكمال تلك النعمة .
 
وقوله : ( أنه لا يعلم قدر هذه النشأة . . . إلا من ذكر الله الذكر المطلوب ) اعتراض إنما جاء به تنبيها على حقيقة الذكر ومراتبه ، ليعلم متى يكون الحق جليسا للذاكر .
والمراد بالذكر المطلوب من العبد أن يذكر الله باللسان ويكون حاضرا بقلبه .
وروحه وجميع قواه بحيث يكون بالكلية متوجها إلى ربه ، فينتفى الخواطر وينقطع أحاديث النفس عنه .
ثم ، إذا داوم عليه ، ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه ، ولا يزال يذكر بذلك حتى يتجلى له الحق من وراء أستار غيوبه ، فينور باطن العبد
 
بحكم ( وأشرقت الأرض بنور بها ) .
ويعده إلى التجليات الصفاتية والأسمائية ثم الذاتية ، فيفنى العبد في الحق ، فيذكر الحق نفسه بما يليق بجلاله وجماله ، فيكون الحق ذاكرا ومذكورا وذكرا بارتفاع الإثنينية وانكشاف الحقيقة الأحدية .
واعلم ، أن حقيقة ( الذكر ) عبارة عن تجليه لذاته بذاته من حيث الاسم (المتكلم ) إظهارا للصفات الكمالية ووصفا بالنعوت الجلالية والجمالية في مقامي جمعه وتفصيله ، كما شهد لذاته بذاته في قوله : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) .
وهذه الحقيقة لها مراتب : أعلاها وأولاها في مقام الجمع من ذكر الحق نفسه باسمه ( المتكلم ) بالحمد والثناء على نفسه . وثانيتها ، ذكر الملائكة المقربين ، وهو تحميد الأرواح وتسبيحها لربها . وثالثتها ، ذكر الملائكة السماوية والنفوس الناطقة المجردة . ورابعتها ، ذكر الملائكة الأرضية والنفوس المنطبعة مع طبقاتها .
وخامستها ، ذكر الأبدان وما فيها من الأعضاء . وكل ذاكر لربه بلسان يختص به .
 
وإليه أشار بقوله : ( فإن ذكر الله سار في جميع أجزاء العبد ) أي ، لا يعلم قدر هذه النشأة إلا من ذكر الله الذكر المطلوب ، فإن ذكر الله سار في جميع أجزاء العبد : روحه وقلبه ونفسه وجميع قواه الروحانية والجسمانية ، بل في جميع أعضائه .
وذلك السريان نتيجة سريان الهوية الإلهية الذاكرة لنفسها بنفسها .
وإن جعلنا الإضافة إلى الفاعل ، فمعناه : أن ذكر الحق لنفسه ومظاهره سار في جميع أعضاء العبد ، وذلك الذكر سبب وجودها وحصول كمالاتها . فينبغي أن يذكره العبد أيضا بجميع أجزائه أداء لشكر نعمه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لا من ذكره بلسانه خاصة . فإن الحق لا يكون في ذلك الوقت إلا جليس اللسان خاصة ، فيراه اللسان من حيث لا يراه الإنسان بما هو راء ) أي ، يراه اللسان بالبصر الذي يخصه ، ولا يراه الإنسان من حيث روحه وقلبه لغفلته .
وفيه إشارة إلى أن لكل شئ نصيبا من الصفات السبعة الكمالية : يسمع به ويبصر به وينطق . ولما كان الحيوان يبصر بالبصر ويسمع بالسمع - وليس رؤية اللسان وسمعه بالبصر والسمع بل بروحانية مختصة به وليس هذا المقام موضع بيانه - أجمل فقال : ( بما هو راء )
 
( فافهم هذا السر في ذكر الغافلين . ) تحريص للسالك الطالب لأسرار الوجود ، ليتنبه من هذا القول ويعلم أن لوازم الوجود موجودة في كل ماله وجود ، إلا أنها ظاهرة الوجود في البعض ، وباطنة في الآخر .
 
قال رضي الله عنه :  ( فالذاكر ) الذي هو اللسان . ( من الغافل حاضر بلا شك ، والمذكور جليسه ، فهو يشاهده . ) أي ، فالذاكر يشاهد الحق .
قال رضي الله عنه :  ( والغافل من حيث غفلته ليس بذاكر ، فما هو ) أي ، فليس الحق ( جليس الغافل . )
وقوله : ( فان الإنسان كثير ، ما هو إحدى العين ، والحق إحدى العين ، كثير بالأسماء الإلهية  كما أن الإنسان كثير بالأجزاء ، وما يلزم من ذكر جزء ما ، ذكر جزء آخر . ) تعليل لجعله اللسان ذاكرا والإنسان غافلا . ومعناه : أن الإنسان من حيث إنه مركب من حقائق مختلفة ، روحانية وجسمانية ، كثير ليس إحدى العين ، وإن كان من حيث كليته المجموعية أحديا .
وما يلزم من ذكر جزء ما ، ذكر جزء آخر .
 
وقوله : ( والحق أحدي العين . ) إلى قوله : ( بالأجزاء ) اعتراض أورده للمناسبة الرابطة بين الإنسان وربه . وهي : إن كلا منهما أحدي من وجه ، كثير من وجه آخر .
قال رضي الله عنه :  ( فالحق جليس الجزء الذاكر منه ، والآخر . ) أي ، والجزء الآخر من الإنسان .
( متصف بالغفلة عن الذكر . ولا بد أن يكون في الإنسان جزء يذكر به ويكون الحق جليس ذلك ، فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية . ) كما يحفظ العالم بوجود الكامل الذي يعبد الله في جميع أحواله - ولذلك لا تخرب الدنيا ولا يستأصل ما فيها ما دام الكامل فيها - أو من يقول : ( الله ، الله ) . كما جاء في الحديث الصحيح : ( لا يقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول : الله ، الله ) .
فكذلك وجود العالم الإنساني لا يخرب ولا يفنى ويكون محفوظا بالعناية الإلهية ما دام جزء منه ذاكرا لله .
ولما ذكر أن العبد محفوظ ما دام جزء منه ذاكرا ، أجاب عن سؤال مقدر .
وهو أن يقال : كيف يكون محفوظا وقد يطرء عليه الموت ؟
 
فقال : ( وما يتولى الحق هدم هذه النشأة بالمسمى "موتا " فليس بإعدام ) كلي وإفناء لعينه مطلقا . ( وإنما هو تفريق ، فيأخذه إليه . ) أي ، فيأخذ الحق روح الإنسان إليه .
 
قال رضي الله عنه :  ( وليس المراد ) أي ، المطلوب بالنسبة إلى الإنسان . ( إلا أن يأخذه الحق إليه . ) ليوصله إلى كماله ويخلصه من عالم الكون والفساد ونقائصه .
( "وإليه يرجع الأمر كله " . فإذا أخذه إليه ) أي ، الحق إذا أخذ الإنسان بالموت .
( سوى له مركبا غير هذا المركب من جنس الدار التي ينتقل إليها ، وهي دار البقاء لوجود الاعتدال . ) أي ، لوجود الاعتدال الحقيقي في الأبدان المسواة في العالم البرزخي . أو لوجود الاعتدال للمزاج الروحاني الحاصل من اجتماع القوى الروحانية بعضها مع بعض ، ومن الهيئات الحاصلة في النشأة الدنياوية ، فإنه لا يبطل ببطلان المزاج الجسماني ، كما لا يوجب فناء تعين البدن فناء النفس الناطقة .
 
وإنما قال : ( من جنس الدار التي ينتقل إليها ) لئلا يلزم القول بالتناسخ والمركب المسوى هو البدن المثالي البرزخي . وهو لكل من أهل الكمال بحسب درجاته ومناسباته مع الملأ الأعلى وأرواح السماوات وغيرها ، فيتنعمون .
ولكل من أهل النقصان بحسب دركاته ونقائصه ، فيتعذبون .
ولا يتوهم ( العودة ) أو التعلق بجسم من الأجسام الكوكبية أو السماوية والأرضية كما هو رأى بعض الإشراقيين من الحكماء - إذ لا مدخل للعقل فيه .
قال رضي الله عنه :  ( وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا ) . والنصوص الشرعية حاكمة بعدم العود إلى يوم القيامة . اللهم إلا أن يكون العائد من المسرحين في العوالم ، وعوده بالأمر الإلهي لتكميل الناقصين وإخراج المؤمنين وإنجائهم من نيران عالم التضاد ، أو لتكميل نفسه بما قدر له في الأزل ( ولم يحصل ذلك له في النشأة السابقة ) كظهور عيسى ، عليه السلام ، في النشأة الأولى بالنبوة ، وفي الثانية بختم الولاية .
ولهذا المقام أسرار لا يمكن هنا إظهارها . والله الهادي
 
( فلا يموت أبدا ، أي لا تفرق اجزاؤه . ) أي ، أجزاء البدن الأخراوي لكونه أبديا .
قال تعالى : ( خالدين فيها أبدا ) . وقال : ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما أهل النار ، فمآلهم إلى النعيم . ولكن في النار أزلا ، إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب أن يكون بردا وسلاما على من فيها ، وهذا نعيمهم . ) أي ، ومآل أهل النار أيضا إلى النعيم المناسب لأهل الجحيم .
إما بالخلاص من العذاب ، أو الالتذاذ به بالتعود أو بتجلي الحق لهم في صورة اللطف في
عين النار كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم ، عليه السلام .
ولكن ذلك بعد انتهاء مدة العقاب ، كما جاء : ( ينبت في قعر جهنم الجرجير ) .
وما جاء نص بخلود العذاب ، بل جاء الخلود في النار ، ولا يلزم منه خلود العذاب .
 
( فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق ) أي ، بعد استيفاء ( المنتقم ) حقوق الله وحقوق الخلق منه .
( نعيم خليل الله حين ألقى في النار . فإنه ، عليه السلام ، تعذب برؤيتها وبما تعود في علمه ويقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان ، وما علم مراد الله فيها ومنها في حقه.) أي ، ما علم أن الحق يريد أن يريه الراحة في عين العذاب والنعيم في عين الجحيم .
( فبعد وجود هذه الآلام ، وجد بردا وسلاما مع شهود الصورة النارية في حقه . ) أي ، وجد بردا وسلاما في حقه مع أنه كان مشاهدا للصورة النارية على لونها .
( وهي نار في عيون الناس . ) ونور وراحة لإبراهيم .
( فالشئ الواحد يتنوع في عيون الناظرين ، هكذا هو التجلي الإلهي . ) فإنه واحد ، لكنه يختلف بحسب القوابل والاستعدادات ، فيظهر متنوعا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن شئت قلت إن الله تجلى مثل هذا الأمر . وإن شئت قلت إن العالم في النظر إليه وفيه مثل الحق في التجلي . )
أي ، بعد أن علمت أن الشئ الواحد يتنوع و يظهر أنواعا مختلفة ، فإن شئت قلت المتجلي هو الله في مرآيا الأعيان بالصور المختلفة .
كما صارت النار بردا وسلاما على إبراهيم وكانت نارا على أعين الناظرين .
وإن شئت قلت أن أعيان العالم هي المتجلية في مرآة وجود الحق بصور مختلفة عند النظر إليه . فالعالم مثل الحق في الظهور والتجلي بالصور .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيتنوع في عين الناظر بحسب مزاج الناظر ، أو يتنوع مزاج الناظر لتنوع التجلي . وكل هذا سائغ في الحقائق . )
أي ، فيتنوع التجلي في عيون الناظرين بحسب أمزجتهم الروحانية واستعداداتهم ، فتظهر بصورها ، لكن يتنوع الاستعدادات والأمزجة أيضا على حسب التجلي  وذلك بحكم الغلبة : فإن كان حكم المتجلى له غالبا على حكم المتجلي ، فيظهر المتجلي ويتنوع بحسب ذلك الحكم ، فيغلب أحكام الكثرة على الوحدة .
وإن كان حكم المتجلي غالبا على حكم المتجلى له يهبه الاستعداد ويجعله مناسبا لأحكامه ، فتغلب
أحكام الوحدة على الكثرة .
وقد مر في ( الفص الشيثي ) من أن لله تجليين : تجلى غيب ، وتجلى شهادة . فبالتجلي الغيبي يهب للقلب الاستعداد ، فيتسع ، فيتجلى بالشهود على حسب ذلك الاستعداد .
( فلو أن الميت والمقتول - أي ميت كان وأي مقتول كان - ) أي ، سواء كان مقتولا بالظلم ، أو بالحق ، أو ميتا سعيدا أو شقيا .
 
( إذا مات أو قتل ، لا يرجع إلى الله ، لم يقض الله بموت أحد ولا شرع قتله ) لأن العدم شر محض والأعدام بالكلية يوجب فناء الربوبية ، لأنها بالمربوب يتحقق ولا يمكن ذلك فعند خروجه من محل سلطنة الاسم ( الظاهر ) وربوبيته ، دخل في ولاية سلطان ( الباطن ) وعبوديته فما خرج عن كونه عبدا .
 
( فالكل في قبضته ، فلا فقدان في حقه . ) إذا الوجود محيط به ، لا يمكن أن يخرج شئ منه .
وضمير في ( حقه ) للحق . أي ، فلا فوت بالنسبة إليه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فشرع القتل وحكم بالموت ، لعلمه بأن عبده لا يفوته ، فهو راجع إليه ، على أن في قوله تعالى : "وإليه يرجع الأمر كله " . أي ، فيه يقع التصرف وهو المتصرف . )
لما كان رجوع الشئ إلى الشئ متصورا بمعنيين : أحدهما ، كقولنا : رجع الأمير إلى سلطانه . وهذا لا يوجب أن يكون الراجع عين المرجوع إليه .
والآخر ، كقولنا : رجع أجزاء البدن إلى أصولها ، فسر قوله : "وإليه يرجع الأمر" بأنه هو المتصرف والمتصرف فيه .


فاسم ( أن ) محذوف . أي ،على أن هذا القول إشارة إلى أن المتصرف والمتصرف فيه واحدا .
(فما خرج عنه شئ لم يكن عينه . ) أي ، فما ظهر منه شئ لم يكن ذلك الشئ عين الحق .
( بل هويته ) أي ، هوية الحق .
(هو عين ذلك الشئ .) إنما ذكر الضمير الراجع إلى ( الهوية ) تغليبا للمعنى .
( وهو الذي يعطيه الكشف في قوله : "وإليه يرجع الأمر كله " . ) أي ، الكشف الحقيقي لا يعطى إلا ما ذكرنا من أن هوية الحق عين هوية الأشياء .

وبهذا المعنى قال تعالى : ( وإليه يرجع الأمر كله ) . لا بالمعنى الآخر الذي يفهم منه أهل الظاهر . وهو الهادي .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 27, 2020 4:33 pm

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص الأيوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية
لما كان الحق تعالى غيب الغيوب كلها وكانت هويته سارية في جميع الأشياء العلوية والسفلية المكانية والمرتبية وقال تعالى في أيوب عليه السلام :
( أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) . فاظهر له ماء الحياة الحقيقية من الغيب وطهره به من الأمراض الحاصلة من مس الشيطان ، أي من البعد عن جانب الرحمن ، كما سنبينه - يسمى هذه الحكمة ( غيبية ) لأن الماء المطهر له كان مستورا تحت رجله ، وغيبا فيما يمشى عليه بكله .
وهو في الحقيقة إشارة إلى الماء الذي قال تعالى فيه : ( وكان عرشه على الماء ) . ولذلك طهر باطنه عن ملاحظة الأغيار ، كما طهر ظاهره من الأمراض الموجبة للنفار . ومن جنس هذا الماء كان ما غسل به جبرئيل صدر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
 
وإضافتها إلى الكلمة ( الأيوبية ) لنزول الخطاب في حقه . فالمراد بالحكمة ( الغيبية ) ظهور الحق له بالسلوك والرياضة والطاعة والعبادة ، وحصول ماء الحياة التي هي في عين الظلمات بالصبر في أنواع البلايا والمحن الواقعة في نفسه وأهله وأمواله وأولاده ، فكان كلها رفعا لدرجاته وتحصيلا لكمالاته وترقيا في حالاته وتجلياته ، لشهوده المبلى والممتحن في عين البلايا والمحن ، وصبر به على مقاساة الشدائد ومتاعبها ، ولم يشتغل بإزالتها ومداراتها حتى وصل في عين القرب من الرب وحصل في مقام الأنس برفع وحشة الطلب ، فنادى : ( إني مسني الشيطان بضر ) . فكشف الله عنه ضره وطهر عن أدناس الموانع سره .
لا يقال : إنما سمى حكمته ( غيبية ) لأن أموره كلها ما ظهرت إلا من الغيب أولا وآخرا .
لأن أهل العالم كلهم لا يظهر أمورهم إلا من الغيب ، فلا اختصاص  حينئذ   
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (واعلم ، أن سر الحياة سرى في الماء ، فهو أصل العناصر والأركان ، ولذلك جعل الله من الماء كل شئ حي . وما ثم شئ إلا وهو حي ، فإنه ما من شئ إلا وهو يسبح بحمد الله ولكن لا نفقه تسبيحه إلا بكشف إلهي . ولا يسبح إلا حي . )
 
سر الحياة هو الهوية الإلهية السارية في جميع الأشياء بظهورها في ( النفس الرحماني )
أولا ، وبسريانها بواسطته في كل شئ حصل منه ثانيا . وذلك لأن سر الشئ غيبه
المستور فيه ومعناه الظاهر بصورته .
ويجوز أن يراد به نفس الحياة وحقيقتها .
أي ، حقيقة الحياة سارية في الماء وكلاهما متقاربان ، لأن الهوية الإلهية هي المتجلية بالصفة الحياتية لا غيرها .
وإنما جعل الماء أصلا لغيره من العناصر والأركان ، لما نطق به الحديث النبوي من
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ان الله خلق درة بيضاء ، فنظر إليها بنظر الجلال والهيبة ، فذابت حياء ، فصار نصفها ماء ونصفها نارا ، فحصل منهما دخان ، فخلق السماوات من دخانها والأرض من زبدها ) .
 
قيل : ( الدرة ) هي ( العقل الأول ) . وفيه نظر . لأن ما ذاب وصار شيئا آخر لا يكون باقيا على تعينه الذاتي ، والعقل الأول باق على تعينه ، لا تقبل التغيير أصلا . بل المراد بها ما قبل
صور العناصر من الهيولى العنصرية ، والله أعلم
 ولأجل سريان هذه الحياة الذاتية في الماء ، جعل الله من الماء كل شئ حي .
أي ، كل ماله حياة خلق من الماء ، إذ النطف التي تخلق الحيوان منها ماء ، وما يتكون بغير توالد فهو أيضا بواسطة المائية المتعفنة .
وكذلك النباتات أيضا لا تنبت إلا بالماء .
ولما كان كل ما هو في الوجود مسبح لربه تعالى بالنص الإلهي ، ولا يسبح إلا الحي ،
 
قال : ( فكل شئ حي ، وكل شئ الماء أصله . ألا ترى العرش كيف كان على ( الماء ) لأنه منه تكون فطفا عليه . ) أي ، علا وارتفع عليه .
والمراد بالماء الذي هو أصل كل شئ ( النفس الرحماني ) الذي هو الهيولى الكلى والجوهر الأصلي ، كما تقدم أن صور جميع الأشياء حاصلة عليه ، لا الماء المتعارف .
فهو الماء الذي كان عرش الله عليه ، إذ العرش كما يطلق ويراد به ( الفلك الأطلس ) ، كذلك يطلق ويراد به ( الملك ) .
كما قال الشيخ رضي الله عنه في الباب الثالث عشر من الفتوحات :
( إن العرش ) في لسان العرب يطلق على ( الملك ) يقال : ثل عرش الملك . أي ، دخل خلل في ملكه . ويطلق ويراد به ( السرير ) .
 
"" قال الشيخ رضي الله عنه في الباب الثالث عشر من الفتوحات :
اعلم أيد الله الولي الحميم أن العرش في لسان العرب يطلق ويراد به الملك يقال ثل عرش الملك إذا دخل في ملكه خلل ويطلق ويراد به السرير
فإذا كان العرش عبارة عن الملك فتكون حملته هم القائمون به وإذا كان العرش السرير فتكون حملته ما يقوم عليه من القوائم أو من يحمله على كواهلهم والعدد يدخل في حملة العرش وقد جعل الرسول حكمهم في الدنيا أربعة وفي القيامة ثمانية
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ".
ثم قال وهم اليوم أربعة يعني في يوم الدنيا وقوله يومئذ ثمانية يعني يوم الآخرة .أهـ
و قال الشيخ رضي الله عنه في الباب الثالث والسبعون من الفتوحات :
فلا بقاء للعالم إلا بالله السلطان ظل الله في أرضه العرش
ظل الله يوم القيامة العرش عين الملك
يقال ثل عرش الملك إذا اختل ملكه عليه الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى
أي على ملكه سجود القلب إذا سجد لا يرفع أبدا
لأن سجوده للأسماء الإلهية لا للذات فإنها هي التي جعلته قلبا
فهي تقلبه من حال إلى حال دنيا وآخرة...أهـ ""
 
غيره أيضا ، من أكابر الأولياء بعد هذا الكلام ، تعليل أن ( العرش ) الذي على ( الماء ) هو الملك . ولكون العرش الجسماني صورة من الصور الفائضة على الهيولى ، يصدق عليه أيضا أنه على الماء ، كما أشار قوله تعالى : ( والبحر المسجور ) أي ، الممتلئ من الموجودات . وهو البحر الذي موجه صور الأجسام كلها  .
وإنما أطلق اسم ( الماء ) عليه ، لأن الماء العنصري مظهر له ، لذلك اتصف بصفاته ، فصار مادة لجميع ما في العالم الجسماني من السماوات والأرض والنبات والحيوان .
وأيضا ، لما أطلق عليه ( النفس ) مجازا ، تشبيها بالنفس الإنساني ، أطلق اسم ( الماء ) عليه مجازا ، لأن ( النفس ) بخار ، والبخار أجزاء صغار مائية مختلطة بأجزاء هوائية .
فحصل أن ( الماء ) كما يطلق على الماء المتعارف ، كذلك يطلق على الهيولى وعلى ( النفس الرحماني ) الذي هو هيولى جميع العالم وأصله .
 
ولا يقال : إن المراد ب‍ ( الماء ) الذي عليه العرش والذي هو أصل العناصر هو ( العلم ) ، وإن كان يتجسد في المثال بصورة الماء ، لأن المراد بيان أصل الموجودات في الخارج ، لا في العلم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو يحفظه من تحته ، كما أن الإنسان خلقه الله عبدا ، فتكبر على ربه وعلا عليه ، فهو سبحانه مع هذا يحفظه من تحته بالنظر إلى علو هذا العبد الجاهل بنفسه . )  وفي بعض النسخ : ( بربه ) . وكلاهما صحيح .
 
لأن الجاهل بالنفس جاهل بالرب وبالعكس . أي ، فالماء الذي هو النفس الرحماني ، يحفظ هذا الملك وتعيناته من تحته ، أي باطنه .
كما أن الحق سبحانه يحفظ الإنسان الجاهل بنفسه وعبوديته من باطنه وغيبه ، نظرا إلى علو مرتبته من حيث حقيقته ومكانته الزلفى عند الله ، وهو يدعى الربوبية ويتكبر على الله من جهله بنفسه وعبوديتها ، إذ لو لم يكن حفظ الحق تعالى له وللعالم كله من الباطن ، لانعدم في الحال ، فإنه بلا وجود عدم .
 
(وهو قوله ، عليه السلام : " لو دليتم بحبل لهبط على الله " . فأشار إلى أن نسبة التحت إليه ، كما أن نسبة الفوق إليه . " وفي بعض النسخ : كما نسبة الفوق إليه ) .
ف‍ ( ما ) زائدة . كقوله : " فبما رحمة من الله " .
( في قوله : " يخافون ربهم من فوقهم " ) وهو القاهر فوق عباده " . فله الفوق والتحت . " أي ، هذا المعنى المذكور هو معنى قوله ، صلى الله عليه وسلم : " لو دليتم بحبل لهبط على الله " .
وإنما كان نسبة الفوقية والتحتية إليه سواء ، لأن الحق محيط بالظاهر والباطن على العالم ، فكما
تنسب إليه الفوقية ، تنسب إليه التحتية . فله الفوق والتحت جميعا ، لأنهما من جملة مراتبه الوجودية .
 
( ولهذا ما ظهرت الجهات الست إلا بالإنسان ، وهو على صورة الرحمان . )
أي ، ولكون نسبة الفوقية والتحتية ، بل نسبة جميع الصفات المتقابلة ، إلى الله تعالى سواء ، ما ظهرت الجهات الست إلا بالإنسان ، لكونه هو المخلوق على صورة الرحمان الجامع للصفات المتقابلة .
واعلم ، أنه لو كان المراد بالظهور العلم بالجهات ، لكان غير منحصر في الإنسان ، لأن النفوس الفلكية أيضا عالمة بها ، بل جميع الحيوانات . فالأنسب أن نقول : المراد بالظهور ، التحقق .
أي ، لا يتحقق بهذه الجهات المتقابلة بحسب المقام إلا الإنسان ، لأن جميع مراتب الوجود مقاماته ، بخلاف غيره .
 
فإن لكل منها مقاما معلوما لا يتعداه ، كما قال تعالى : "وما منا إلا له مقام معلوم" . فهو الذي في السماء له ظهور ، وهو الذي في الأرض له ظهور.
كما أن أصله الذي ظهر الإنسان على صورته : "هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله " . وكذلك باقي الجهات . وقد مر تحقيقه في المقدمات من أن الحقيقة الإنسانية هي التي ظهرت في جميع صور العالم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولا مطعم إلا الله . وقد قال في حق طائفة : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل " ثم نكر وعمم ، فقال : " وما أنزل إليهم من ربهم " . فدخل في قوله : " وما أنزل إليهم من ربهم " كل حكم منزل على لسان رسول أو ملهم ، " لأكلوا من فوقهم " وهو المطعم من الفوقية التي نسبت إليه الحق " ومن تحت أرجلهم " وهو المطعم من التحتية التي نسبها إلى نفسه على لسان رسوله المترجم عنه ، صلى الله عليه وسلم . )
لما قال : إن نسبة الفوقية والتحتية إليه سبحانه سواء ، أراد أن يبين أنه تعالى يربي عباده منهما.
فقوله : ( لا مطعم إلا الله ) مأخوذ من قوله تعالى : ( وهو يطعم ولا يطعم ) .
وإنما جاء به ، لأنه تعالى قال في حق قوم موسى وعيسى ، عليهما السلام : ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ) ، أي ، أحكامهما .  ( وما أنزل إليهم من ربهم )
 
من الكتب الإلهية على لسان أي رسول كان ، أو على قلوب عباده بطريق الإلهام ، ( لأكلوا ) أي ، الرزق المعنوي من العلوم والمعارف والحكم . ( من فوقهم ) أي ، من ربهم الذي يطعمهم ويربيهم من الجهة الفوقية . ( ومن تحت أرجلهم ) ، أي ، لأكلوا رزق الوجدانيات ولذاقوا ذوق التجليات ونالوا الحالات الذوقية والواردات الإلهية التي تحصل بالسلوك بالأرجل والحق هو المطعم والمربى من جهة التحتية أيضا ، كما نسبها رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ،
بقوله : " لو دليتم بحبل لهبط على الله " .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولو لم يكن العرش على الماء ، ما انحفظ وجوده ، فإنه بالحياة ينحفظ وجود الحي . ألا ترى الحي إذا مات الموت العرفي ، تنحل أجزاء نظامه وتنعدم قواه عن ذلك النظم الخاص . )
أما العرش الجسماني ، فإنه لولا الهيولى القابلة للصورة الجسمانية ، لما كان للصورة العرشية وجود ضرورة .
وأما العرش بمعنى ( الملك ) فإنه لولا النفس الرحماني القابل لصور حقائق العالم ، لما كان شئ منها موجودا ، فضلا عن دوامها .
وأما السماوات والأرض التي كل منها عرش لاسم من الأسماء ، فلأنه لولا وجود الماء المتعارف ، لما كان شئ منها موجودا .
وقد تقدم أن الهيولى والنفس الرحماني يسمى في اصطلاح أهل الله ب‍ ( الماء ) ، كما يسمى الماء
المتعارف به .
ولما كان الماء مظهرا للإسم ( الحي ) وكل شئ حي قال : ( فإنه بالحياة ينحفظ وجود الحي . ) والباقي ظاهر .
 
ولما كان ما ذكره من أول الفص إلى هاهنا تمهيدا للمقدمات في بيان حال أيوب عليه السلام ،
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال تعالى لأيوب : " أركض برجلك هذا مغتسل بارد" ، يعنى ماء بارد . ولما كان عليه من إفراط حرارة الألم ، فسكنه الله ببرد الماء . )
ولما كان  عليه من إفراط حرارة الألم ، ( فسكنه الله ببرد الماء . ) أي ، قال تعالى لأيوب ، عليه السلام : اضرب برجلك الأرض ، ليظهر لك ماء تغتسل به ، بارد مسكن حرارة الألم ، مطهر لبدنك من الأمراض والأسقام . فلما أتى بالمأمور به ، سكن الله إفراط الحرارة ببرودة الماء .هذا ظاهره.
وأما باطنه ، فهو أمر بالرياضة والمجاهدة بضرب أرض النفس ، ليظهر له ماء الحياة الحقيقة متجسدا في عالم المثال : فيغتسل به ، فيزول من بدنه الأسقام الجسمانية ومن قلبه الأمراض الروحانية . فلما جاهد وصفا استعداده وصار قابلا للفيض الإلهي ، ظهر له من الحضرة الرحمانية ماء الحياة ، فاغتسل به ، فزال من ظاهره وباطنه ما كان سبب الحجاب والبعد من ذلك الجناب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولهذا كان الطب النقص من الزائد والزيادة في الناقص . والمقصود طلب الاعتدال . ولا سبيل إليه إلا أنه يقاربه . )
أي ، أزال الحق منه إفراط الحرارة الذي كان سبب الآلام ، لا الحرارة مطلقا . ولهذا المعنى كان الطب والتداوي بالتنقيص من الكيفية الزائدة ، والازدياد من الناقصة ، ليحصل المقصود وهو القرب من الاعتدال ، إذ لا سبيل إلى الاعتدال الحقيقي إلا أن الطبيب يجعل المزاج قريبا من الاعتدال .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإنما قلنا : ولا سبيل إليه ، أعني الاعتدال ، من أجل أن الحقائق والشهود يعطى التكوين مع الأنفاس على الدوام . ولا يكون التكوين إلا عن ميل في الطبيعة ،
يسمى انحرافا أو تعفينا ، وفي حق الحق إرادة ، وهي ميل إلى المراد الخاص دون غيره .
والاعتدال يؤذن بالسواء في الجميع . وهذا ليس بواقع . فلهذا منعنا من حكم الاعتدال ) أي ،
وإنما قلنا : لا سبيل إلى الاعتدال الحقيقي ، لأن معرفة  الحقائق والشهود اليقيني ، يعطى للعارف المشاهد أن الأشياء لا تزال تتكون في كل آن ونفس على الدوام ، كما قال تعالى : ( بل هم في لبس من خلق جديد ) .
 
والكون لا يكون إلا بعد الانعدام ، وكل منهما لا يمكن بلا ميل أما الانعدام ، فلأنه لا يحصل إلا بالميل إلى الباطن .
وهذا الميل في الحيوان يسمى ( انحرافا ) في الطبيعة ، وفي غيره من المركبات يسمى ( تعفينا ) ، كما إذا تغير مزاج فاكهة أو لبن أو عصير ، أو غير ذلك ، يقال : عفن . وذلك الميل بالنسبة إلى جناب الحق يسمى ( إرادة ) .
وذلك لأنها المخصصة والمرجحة في حق الممكنات ، إما إلى الوجود ، أو العدم ، والتخصيص والترجيح عين الميل بأحد الحكمين المتساويين نسبتهما إلى ذات الممكن ، وإذا كان التكوين لا يحصل إلا بالميل ، فلا يمكن الاعتدال الحقيقي ، لأنه الجمع بين الشيئين على السواء ، فلا يمكن وقوعه   .
 
واعلم ، أن الاعتدال وعدمه لا يكون إلا بالنسبة إلى المركب من الشيئين المتغائرين ، وليس بين الوجود والعدم تركيب حتى يعتبر فيه الاعتدال أو عدمه .


وغرض الشيخ رضي الله عنه ، من هذا الكلام إثبات أن العالم وجد عن الميل المسمى ب‍ ( الإرادة ) ، فلا يزال الميل متحققا فيه ، سواء كان المائل بسيطا أو مركبا .
 
ومع وجود الميل لا يمكن الاعتدال ، لأنه إنما يتصور إذا كان الشئ مركبا بحيث لا يكون لشئ من أجزائه بحسب الكمية والكيفية زيادة على الآخر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد ورد في العلم الإلهي النبوي اتصاف الحق بالرضا والغضب وبالصفات . ) أي ، المتقابلة . ( والرضا مزيل للغضب . ) أي ، عن المغضوب عليه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والغضب مزيل للرضا عن المرضى عنه . والاعتدال أن يتساوى الرضا والغضب ، فما غضب الغاضب على من غضب عليه وهو عنه راض . ) أي ، ويرضى عنه أبدا ، كما يذكر من بعد من أنه زعم المحجوبين .
( فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه . ) أي ، فقد اتصف الغاضب الذي هو الحق بأحد الحكمين ، وهو الغضب في حقه ، أي في حق المغضوب عليه السلام.
(وهو ميل ) أي ، فقد اتصف الراضي وهو الحق بأحد الحكمين ، وهو الرضا في حقه ، أي في حق المرضى عنه .
( وما رضى الحق عمن رضى عنه وهو غاضب عليه.) أي ، يغضب عليه أبدا .
( فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه . ) أي ، فقد اتصف الراضي الذي هو الحق بأحد الحكمين ، وهو الرضا في حقه ، أي في حق المرضى عنه . ( وهو ميل . )
فليس فيها أيضا اعتدال ، لأن كلا منهما موجب لعدم الآخر . وهذا بالنسبة إلى القوابل . وأما بالنسبة إلى أعيان تلك الصفات الحاصلة في الجناب الإلهي والحضرة الأسمائية ، فليس كذلك ، لأنه مقام الجمع ولا غلبة لأحدهما على الآخر ، وإن كان يسبق بعضها بعضا ، كسبق الرحمة الغضب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإنما قلنا هذا من أجل من يرى أن أهل النار لا يزال غضب الله عليهم دائما أبدا في زعمه . فما لهم حكم الرضا من الله ، فصح المقصود . ) .
أي ، إنما قلنا لا يتعلق حكم الرضا على من يتعلق به حكم الغضب عليه ، وبالعكس ، بناء على زعم أهل الحجاب من أن أهل النار لا يزال حكم الغضب جار عليهم دائما أبدا ، ولا يتعلق بهم حكم الرضا من الله . فإن كان الأمر كما زعموا ، فصح المقصود .


فقوله : ( فصح المقصود ) جواب الشرط المحذوف يدل عليه قوله : ( فإن كان كما قلنا ، مآل أهل النار إلى إزالة الآلام ، وإن سكنوا النار ، فذلك رضا ، فزال الغضب لزوال الآلام ، إذ عين الألم عين الغضب إن فهمت ) .
أي ، فإن كان مآل أهل النار إلى إزالة الآلام والنعيم المناسب لأهل الجحيم ، كما قررناه من قبل في مواضع وذلك عين الرضا منهم ، لأن زوال الألم عين زوال الغضب ، وإذا زال الغضب ، حصل الرضا .
 
وإنما قال : ( فإن كان كما قلنا ) مع أنه على يقين من ربه أن الأمر كما قال إلزاما للمحجوبين . وذلك كما قال أمير المؤمنين ، كرم الله وجهه في بعض أشعاره :
قال المنجم والطبيب كلاهما  .... لن تحشر الأجسام ، قلت إليكما  
إن كان قولكما فلست بخاسر  .... أو كان قولي فالخسار عليكما
 
مع أنه عليه السلام ، قال : " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا " .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن غضب فقد تأذى ، فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه ، إلا ليجد الغاضب الراحة بذلك ، فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه .
والحق إذا أفردته عن العالم ، يتعالى علوا كبيرا عن هذه الصفة على هذا الحد .
وإذا كان الحق هوية العالم ، فما ظهرت الأحكام كلها إلا فيه ومنه )
أي ، الغاضب والمنتقم إنما يغضب وينتقم ليجد الراحة بذلك الانتقام ، وينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه .
والحق تعالى من حيث ذاته وانفراده عن العالم غنى عن العالمين ، متعال عن هذه الصفة علوا كبيرا .
ومن حيث إن هوية العالم عين هوية الحق ، فما ظهر أحكام الرضا والغضب كلها إلا من الحق وفي الحق .
فإن خطر ببالك أن هذا الكلام مبنى على أن الغضب والانتقام المنسوب إليه تعالى كالغضب والانتقام المنسوب إلينا ، وأما إذا كان بمعنى آخر فلا يكون كذلك .
 
فعليك أن تتأمل في قوله ، صلى الله عليه وسلم : ( إن الله خلق آدم على صورته ) .
ليندفع ذلك الوهم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهو قوله : "وإليه يرجع الأمر كله " . حقيقة وكشفا " فاعبده وتوكل عليه " حجابا وسترا . ) أي ، قولنا : ( فما ظهرت الأحكام إلا فيه ومنه ) .
 
وهو معنى قوله تعالى : " وإليه يرجع الأمر كله " . أي ، مآل الأمور ، حسنها وقبيحها ، نعيمها وجحيمها ، كلها يرجع إليه تعالى حقيقة وكشفا ، كما قال تعالى : " قل كل من عند الله " .
فإذا كان الأمر كذلك ، فاعبده بما أمرك به وما استطعت عليه ، وتوكل على الله حال كونه محجوبا مستورا عن نظرك . أو حال كونك في الحجاب والستر عن الله . والمعنى واحد .
 
( فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، لأنه على صورة الرحمن . ) أي ،
فإذا كان هويته تعالى هوية العالم ، ويرجع جميع ما في العالم من الأمور إليه تعالى ، فليس في الإمكان أبدع وأحسن من نظام هذا العالم ، لأنه مخلوق على صورة الرحمن .
 
وإنما جعل العالم مخلوقا على صورة الرحمن ، لأنه تفصيل ما تجمعه الحقيقة الإنسانية المخلوقة على صورة الرحمن ( أوجده الله ، أي ، ظهر وجوده تعالى بظهور العالم ، كما ظهر الإنسان بوجود الصورة الطبيعية . ) أي ، أوجد الحق العالم .
 
ثم ، لما كان وجود العالم مستدعيا لوجود الحق - لأنه محدث ولا بد له من محدث أحدثه وهو الحق سبحانه - فسر ( أوجده الله ) تعالى بقوله : ( أي ظهر ) .
وذلك لأن الحق غيب العالم وباطنه ، فظهر بالعالم ، كما أن الحقيقة الإنسانية غيب هذه الصورة الطبيعية ، فظهرت بها .
( فنحن ) أي ، أعيان العالم مع جميع الصور الروحانية والجسمانية
( صورته الظاهرة ، وهويته تعالى روح هذه الصورة المدبرة لها ، فما كان التدبير إلا
فيه . ) أي ، في الحق . ( كما لم يكن ) أي ، التدبير .
( إلا منه . فهو " الأول " بالمعنى ، و " الآخر " بالصورة . وهو " الظاهر " بتغير الأحكام والأحوال ، و " الباطن " بالتدبير . ) .
 
أي ، الحق هو " الظاهر " بهذه الصورة المتغيرة وأحكامها وأحوالها ، و " الباطن " بحسب التدبير والتصرف ، كما قال تعالى : " يدبر الأمر من السماء إلى الأرض" .
 
( "وهو بكل شئ عليم " . وهو على كلي شئ شهيد . ) أي ، حاضر مشاهد ، ( ليعلم عن شهود ، لا عن فكر . ) و ( العليم ) محيط بمعلومه ، مشاهد له شهودا أعيانيا ، فعلمه شهودي لا مستفاد عن القوة الفكرية .
هذا إذا قرئ ( ليعلم ) مبنيا للفاعل . أما إذا قرئ مبنيا للمفعول ، فمعناه : "فهو على كل شئ شهيد " أي ، حاضر ليعلم ، أي ليعلمه كل شئ عن شهود ، لا عن فكر ، إذا الفكر لا يكون إلا
للغائب . والأخير أنسب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلذلك علم الأذواق لا عن فكر وهو العلم الصحيح . وما عداه فحدس وتخمين ، ليس بعلم أصلا . ) ظاهر .

يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالإثنين يناير 27, 2020 4:34 pm

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص الأيوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، كان لأيوب ، عليه السلام ، ذلك الماء شرابا لإزالة ألم العطش الذي هو من النصب والعذاب الذي مسه به الشيطان ، أي ، البعد عن الحقائق أن يدركها على ما هي عليه . )
( النصب ) بفتحتين وضمتين وضمة وسكون ، وهي لغات فيه . والمعنى من الضر في البدن .
والعذاب الذي مسه به الشيطان ، هو عذاب الحجاب من الجناب الإلهي والبعد والحرمان من النعيم الأبدي .
لذلك فسر ( الشيطان ) بالبعد عن الحقائق وإدراكها ، لأنه ( فيعال ) من ( شطن ) ، و (الشطن) هو البعد عن الحقائق وإدراكها  .

وإن كان معذبا بالعذاب الجسماني ، لكن لما كان العذاب الروحاني أشد ايلاما ، قلنا هو عذاب الحجاب مسمى ب‍ ( نصب ) وعذاب .
فلما شرب ماء الحياة وحيى به ظاهره وباطنه وتنور قلبه بإدراك الحقائق ، زال منه ألم الفراق ونار الشوق والاشتياق .
( فيكون بإدراكها في محل القرب ) لأن المدرك قريب من مدركه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكل مشهود قريب من العين ، ولو كان بعيدا بالمسافة ، فان البصر متصل به من حيث شهوده ، ولولا ذلك ) الاتصال .
( لم يشهده . ) إشارة إلى مذهب من يقول بخروج الشعاع من البصر في زمان الإبصار .
( أو يتصل المشهود بالبصر . ) إشارة إلى مذهب من يقول بالانطباع .
(كيف كان ، فهو قرب بين البصر والمبصر.) أي ، سواء كان الأول حقا أو الثاني ، كيف ما كان ، فلا بد من القرب بين البصر والمبصر.

 
( ولهذا كنى أيوب في المس ، فأضافه إلى الشيطان مع قرب المس . ) أي ، ولأجل هذا القرب أتى أيوب ، عليه السلام ، بكناية المتكلم وضميره في فعل ( المس ) .
أي ، جعل المس قريبا من نفسه ، مع أنه نسبه إلى الشيطان بقوله : ( إني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) . وهو البعد .
( فقال ) أيوب ، عليه السلام بلسان الإشارة في هذا القول : ( البعيد منى قريب لحكمه في . ) أي ، البعيد قريب منى لمعنى ركزه الله في عيني ، وهو الحجاب الذي حصل من التعين ، فإن الشيطان لا يدخل على أحد ولا يتصرف فيه إلا لمعنى له فيه .
فهذا الكلام شكاية إلى الله من نفسه وتعينه الموجب للثنوية والبعد من الرحمن والقرب من الشيطان .

ويمكن أن يحمل على معنى آخر . وهو أن البعيد ، الذي هو الشيطان ، قريب منى لحكمة في . أي ، لمعنى حاصل في باطني ، وهو أن الشيطان أيضا مظهر من المظاهر الحقانية ، والمظهر قريب من الظاهر فيه .
فالبعيد الذي هو الشيطان في نظري قريب من الحق الذي هو ظاهر في صورتي .
ولما قال البعيد منى قريب - كأن القائل يقول : كيف يكون البعيد قريبا منه ؟

فقال : ( وقد علمت أن القرب والبعد أمران إضافيان ، فهما نسبتان ، لا وجود لهما في العين مع ثبوت أحكامهما في القريب والبعيد ) .
ألا ترى أن الحق تعالى إذا تجلى لعين من الأعيان ، يقرب منه كل بعيد، فيشاهده شهودا عيانيا ، كما يقرب البعيد بالمسافة من عين الناظر إليه.
وإذا خفى عن عين ، يبعد منه كل قريب لغلبة الظلمة واستيلائها عليها ، مع أن هويته تعالى في هوية كل عين . فالقرب والبعد أمران إضافيان بالنسبة إلى الأعيان واستعداداتها .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  (واعلم ، أن سر الله في أيوب الذي جعله الله عبرة لنا وكتابا مسطورا حاكيا ، تقرؤه هذه الأمة المحمدية لتعلم ما فيه ، فتلحق بصاحبه تشريفا لها . )
أي ، السر في  قصة أيوب ، عليه السلام ، الذي جعل الله عينه مع أحوالها ، عبرة لنا وكتابا
مسطورا مقروا بلسان الحال ، ما كتب فيها يقرؤه عرفاء هذه الأمة المحمدية ، لتعلم ما فيه من الأسرار .
وهو إظهار الماء المطهر للظاهر والباطن من أرض نفوسهم ، وطلب الفناء في الله وتحمل المشاق والصبر على المجاهدات ، فتلحق بمقامه ، فيكون هذا الإخبار تشريفا لها.

(فأثنى الله عليه ، أعني على أيوب عليه السلام ، بالصبر مع دعائه في رفع الضر عنه . فعلمنا أن العبد إذا دعا الله في كشف الضر عنه ، لا يقدح في صبره . ) بل عدم الدعاء بكشف الضر مذموم عند أهل الطريقة ، لأنه كالمقاومة مع الله ودعوىالتحمل بمشاقه .
كما قال الشيخ المحقق ، ابن الفارض ، رضي الله عنه :
(ويحسن إظهار التجلد للعدى  .... ويقبح غير العجز عند أحبة )
( وأنه صابر وأنه نعم العبد ، كما قال تعالى : ) أي ، كما قال الله في حقه ، ( نعم العبد ) و ( ( إنه أواب ) . أي ، رجاع إلى الله ، لا إلى الأسباب ، والحق يفعل عند ذلك بالسبب ) أي ، الحق يعطى ما يطلبه على يد عبد من عبيده فيجعله سببا .

( لا أن العبد يسند إليه ) أي ، إلى السبب . وفي بعض النسخ : ( لأن العبد يسند إليه ) .
أي ، لأن وجود العبد مستند إلى الله تعالى ، فينبغي أن يرجع إلى مستنده .
( إذ الأسباب المزيلة لأمر ما ) أي ، من المضار .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كثيرة ، والمسبب واحد العين ، فرجوع العبد إلى الواحد العين المزيل بالسبب ذلك الألم أولى من الرجوع إلى سبب خاص ربما لا يوافق ذلك علم الله فيه ، فيقول : إن الله لم يستجب لي . وهو ما دعاه ) .
( ما ) نافيه . أي ، والحال أن العبد الداعي لم يدع الحق ، بل دعا ما يطلق عليه اسم الغيرية ومال إليه ، وهو السبب القريب في الصورة .

 وهذا معنى قوله : ( وإنما جنح إلى سبب خاص لم يقتضه الزمان ولا الوقت . فعمل أيوب بحكمة الله ، إذ كان نبيا ، لما علم أن الصبر هو حبس النفس عن الشكوى عند الطائفة . )
أي ، عند علماء الظاهر وأهل السلوك الذين لم يصلوا إلى مقام التحقيق بعد .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وليس ذلك بحد للصبر عندنا . وإنما حده حبس النفس عن الشكوى لغيره الله ، لا إلى الله . )
لأن الشكاية إلى الغير يستلزم الإعراض عن الله وعدم الرضا أيضا بأحكامه ، وذلك يستلزم ادعاء العبد بالعلم بالأولوية ، وكلها مذمومة .
والشكاية إلى الله تستلزم إظهار العجز والمسكنة والافتقار إلى الله ، وإظهار أن الحق قادر على إزالة موجبات الشكوى ، وكلها محمودة .
( فحجب الطائفة نظرهم في أن الشاكي يقدح بالشكوى في الرضا بالقضاء .
وليس كذلك . فإن الرضا بالقضاء لا يقدح فيه الشكوى إلى الله ، ولا إلى غيره ، وإنما يقدح في الرضا بالمقضى .
ونحن ما خوطبنا بالرضا بالمقضى ، والضر هو المقضى ، ما هو عين القضاء )
أي ، وإنما منع هذه الطائفة عن الشكاية نظرهم في أن من يكون شاكيا لا يكون راضيا بالقضاء ، سواء كانت الشكاية إلى الله ، أو إلى غيره .

ووليس كذلك . لأن القضاء حكم الله في الأشياء على حد علمه تعالى بها ، وما يقع في الوجود المقضى به ، الذي يطلبه عين العبد باستعداده من الحضرة الإلهية ، ولا شك أن الحكم غير المحكوم به والمحكوم عليه ، لكونه نسبة قائمة بهما .
فلا يلزم من الرضا بالحكم الذي هو من طرف الحق الرضا بالمحكوم به ، ومن عدم الرضا بالمحكوم به لا يلزم عدم الرضا بالحكم .
وإنما لزم الرضا بالقضاء ، لأن العبد لا بد أن يرضى بحكم سيده .
وأما المقضى به فهو مقتضى عين العبد ، سواء رضى بذلك ، أو لم يرض .


كما قال : ( من وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
ولو قال قائل : المقضى به لازم للقضاء ، وعدم الرضا باللازم الذي هو المقضى به يوجب عدم الرضا بملزومه الذي هو القضاء .
نقول : إن القضاء هو الحكم بوجود مقتضيات الأعيان وأحوالها ، فوجودها لازم للحكم لأنفسها.

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وعلم أيوب أن في حبس النفس عن الشكوى إلى الله في رفع الضر مقاومة القهر الإلهي . وهو جهل بالشخص إذا ابتلاه الله بما تتألم منه نفسه ، فلا يدعو الله في إزالة ذلك الأمر المولم ، بل ينبغي له عند المحقق أن يتضرع ويسأل الله في إزالة ذلك عنه ، فإن ذلك إزالة عن جناب الله عند العارف صاحب الكشف . )
لأنه هويته هوية الحق ، فالإزالة عن نفسه إزالة عن الحق تعالى ما يؤذيه .
( فإن الله تعالى قد وصف نفسه بأنه يؤذى به ) على المبنى للمفعول .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال : "إن الذين يؤذون الله ورسوله " . وأي أذى أعظم من أن يبتليك ببلاء عند غفلتك عنه ؟ أو عن مقام إلهي لا تعلمه ؟ ) أي ، الابتلاء إنما يحصل للعبد بسبب الغفلة عن الله ، أو عن حضرة من حضراته الكلية ، وذلك من غيرته على عبده ، فابتلاؤه إياك من محبته فيك ، لأن المحبوب يحب من يحبه ويغار عليه إذا اشتغل بغيره .
فإذا رأى أنك اشتغلت عنه بغيره ابتلاك ببلاء .

( لترجع إليه بالشكوى ، فيرفعه عنك ، فيصح الافتقار الذي هو حقيقتك . ) إنما جعل الافتقار الذي هو صفة العبد عين حقيقته ، لكونه لازما ذاتيا له وبه يتميز العبد عن ربه .
( فيرتفع عن الحق الأذى بسؤالك إياه في رفعه عنك . ) وذلك لأن حقيقتك هوية الحق الظاهر في صورتك ، فإذا سألت رفع الأذى عنك ، سألت رفع الأذى عنه .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذ أنت صورته الظاهرة . كما جاع بعض العارفين ، فبكى .
فقال له في ذلك من لا ذوق له في هذا الفن معاتبا له .
فقال له العارف : إنما جوعني لأبكي . فيقول :" أي صاحب البلاء .
" إنما ابتلاني بالضر لأسأله في رفعه عنى ، وذلك لا يقدح في كوني صابرا . فعلمنا أن الصبر إنما هو حبس النفس عن الشكوى لغير الله . ) ظاهر .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأعنى بالغير وجها خاصا من وجوه الله . وقد عين الحق وجها خاصا من وجوه الله ، وهو المسمى وجه الهوية ، فيدعوه من ذلك الوجه في رفع الضر عنه ، لا من الوجوه الأخر المسماة أسبابا . وليست إلا هو من حيث تفصيل الأمر في نفسه . )هذا جواب عن سؤال مقدر .
وهو قول القائل : جميع الموجودات مظاهر الحق وليس للغير وجود ، فكيف يتصور الشكوى لغير الله ؟
فأجاب بأن المراد بالغير هو الهوية المتعينة بتعينات مقيدة ، جزئية كانت أو كلية ، وهي الوجوه الخاصة .
والحق سبحانه قد عين وجها خاصا ، وهي المرتبة الإلهية الأحدية الجامعة ،  لتكون قبلة الحاجات ، فيطلب المطالب من ذلك الوجه الجامع لجميع الوجوه والتعينات بأحدية جمعه .

 (وهو المسمى وجه الهوية) أي وجه الهوية المطلقة التي يجمع الوجوه كلها، وهو الاسم (الله) . فيدعوه الداعي من ذلك الوجه ، لا من الوجوه الأخر التي هي منعوتة بالسوى والغيرية والأسباب .
وإن كانت هذه الوجوه أيضا ليست إلا تفصيل ذلك الوجه الجامع ، فهي هو في الحقيقة لكن من حيث التفصيل ، لا من حيث الجمع ، كما قيل :
كل الجمال غدا لوجهك مجملا  ..... لكنه  في العالمين  مفصلا


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالعارف لا يحجبه سؤاله هوية الحق في رفع الضر عنه عن أن تكون جميع الأسباب عينه من حيثية خاصة .
وهذا لا يلزم طريقته إلا الأدباء من عباد الله ، الأمناء على أسرار الله .
فإن لله أمناء لا يعرفهم إلا الله ويعرف بعضهم بعضا. وقد نصحناك فاعمل وإياه سبحانه فاسأل.)
أي ، العارف إذا سأل عن الوجه الجامع الإلهي في رفع الضر عنه ، لا تحتجب به عن الوجوه الأخر التي هي الأسباب في كونها عينه من حيثية أخرى خاصة ، كما احتجب به غيره وحكم بالمغايرة بين ذلك الوجه وبين الوجوه الآخر مطلقا ، بل يحكم بأن الوجوه كلها مجتمعة في حقيقة
واحدة هي يجمعها .

والوجه الذي صار قبلة الحاجات في الشرع، مجمل تلك الوجوه ومجمعها ، وهي تفصيله ، فبالجمع والتفصيل وقعت المغايرة بينهما لا بالحقيقة.
وهذا المعنى لا يلزم طريقته ولا يعرف حقيقته إلا الأدباء من عباد الله ، الأمناء على أسرار الله ، لا يعرفهم حق المعرفة الا الله والعارفون .
وقد نصحناك في أن لا تسأل في البلوى والضراء إلا من الله .
فاعمل بمقتضاه ، ومن الحق سبحانه فاسئل لا من غيره وسواه .
والله الموفق للخير وهو يهدى السبيل .
.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:23 am

20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص اليحيوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية
قد مر أن ما يختص بالقهر من الصفات الإلهية والأسماء الربانية يسمى ب‍ ( الجلال ) ، وكل ما يختص باللطف والرحمة يسمى ب‍ ( الجمال ) .
والأول يعطى القبض والخشية والتقى والورع ، 
والثاني يعطى البسط والرجاء والأنس واللطف والرحمة .
فلما كان يحيى ، عليه السلام ، لا يزال منقبضا خاشعا من الله ، جاعلا الحزن والبكاء عادة بحيث صار أخاديد من دموعه في وجهه .
وقد أخبر عنه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال يحيى لعيسى ، عليه السلام ، معاتبا له حين ضحك : ( كأنك قد آمنت مكر الله وعذابه ) .
فأجابه عيسى عليه السلام : ( كأنك قد آيست من فضل الله ورحمته ) .
فأوحى الله إليهما ( أن أحبكما إلى أحسنكما ظنا بي ) .
وكان عاقبة أمره أنه قتل ، فلا يزال فار دمه حتى قتل من الكفار سبعون ألفا ، قصاصا منه ، فسكن فورانه ، خصت الحكمة ( الجلالية ) بكلمته . " فلا يزال دمه فائرا حتى قتل من الكفار سبعون ألفا ".
 
"" أضاف الجامع :
" قيل: (كان يحيى عليه السلام الغالب عليه الحزن والقبض، وكان عيسى عليه السلام الغالب عليه الفرح والسرور والبسط فتحاكما في هذه الواقعة إلى حضرة رب العزة، فأوحى الله تعالى إليهما إن أقربكما إلي أحسنكما ظنا بي). " السفيري الشافعي المجالس الوعظية في شرح صحيح الإمام البخاري
(وقيل: إن يحيى بن زكريا لقي عيسى عليه السلام. فقال يحيى: ما لي أراك لاهيا كأنك آمن؟ فقال له عيسى: ما لي أراك عابسا كأنك آيس؟ فقال: لا نبرح حتى ينزل علينا الوحي فأوحى الله إليهما أن أحبكما إلي أحسنكما ظنا بي، ويروى أن أحبكما إلي الطلق البسام.)  تنقيح القول الحثيث في شرح لباب الحديث ".  ""
 
وأيضا ( الجلال ) يفنى الموجودات ليرجع إلى الأولية - كما قال : ( لمن الملك اليوم ؟ لله الواحد القهار ) . وهما من أسماء الجلال - وكان ليحيى أولية في الأسماء ، فاختص حكمته بها . ولهذا السر افتتح الفص بقوله رضي الله عنه  ( هذه حكمة الأولية في الأسماء ، فإن الله سماه " يحيى " أي ، يحيى به ذكر زكريا ، ولم يجعل له من قبل سميا . )
( الأول ) في الأكوان هو الذي لم يسبق عليه شئ من جنسه . فلما لم يكن ليحيى ، عليه السلام ، سميا قبله ، كان أول من سمى بهذا الاسم .
وما سمى الله ( يحيى ) بيحيى إلا ليحيى به ذكر أبيه ، وزكريا ، فإنه طلب من الله بقوله : ( فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ، واجعله رب رضيا ) .
( فجمع بين حصول الصفة التي فيمن غبر ممن ترك ولدا يحيى به ذكره ، وبين اسمه بذلك . فسماه " يحيى " . ) . غبر :أي مضى " .
ومعناه : أنه جمع بين الاسم والصفة التي بها يحيى ذكر من ترك ولدا من الغابرين ، إذ حيى به ذكر زكريا وسمى عينه بيحيى . ( فكان اسمه يحيى ) من ( الإحياء ) .
( كالعلم الذوقي . ) أي ، كما أن العلم الذوقي يحيى به النفوس الجاهلة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن آدم حيى ذكره بشيث ، ونوحا حيى ذكره بسام ، وكذلك الأنبياء ، عليهم السلام . ولكن ما جمع الله لأحد قبل يحيى بين الاسم العلم منه ، وبين الصفة ، إلا لزكريا ، عناية منه . )
أي ، كل من الأنبياء حيى ذكرهم بأبنائهم ، لكن ما رزقهم الله تعالى من يحيى ذكرهم ويكون صفة الإحياء في اسمه وعلمه كما في يحيى .
فموهبة الحق له من يجمع بينهما ، عناية من الله في حقه .
 
( إذ قال : ) أي ، حين قال . ( "هب لي من لدنك وليا ") . فقدم الحق  :ب‍ كاف الخطاب " على ذكر ولده ، كما قدمت آسية ذكر الجار على الدار في قولها :" عندك بيتا في الجنة" فأكرمه الله بأن قضى حاجته وسماه بصفته ) ضمير ( بصفته ) عائد إلى ( يحيى ) . أي ، سمى يحيى بصفته التي هي الإحياء .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حتى يكون اسمه تذكارا لما طلب منه نبيه زكريا، لأنه، عليه السلام، آثر بقاء ذكره في عقبه، إذ الولد سر أبيه، فقال : "يرثني ويرث من آل يعقوب ". وليس ثم موروث في حق هؤلاء الأنبياء إلا مقام ذكر الله والدعوة إليه. )
وإنما آثر بقاء ذكر الله في عقبه ، لأن الأنبياء ، عليهم السلام ، رحمة على العالمين ، فطلب الولد ليكون ظاهرا على سره ، فيذكر الله ويدعو الخلق إليه - كما كان قلبه ذاكر الله دائما - وداعيا إلى الله عباده . فالعلة الغائية من طلب الولد إظهار أعلام الله وإفشاء أحكامه وإظهار أسمائه وصفاته ، والقيام بتكميل الخلائق وإيصال المستعدين إلى حقيقة الحقائق التي هي منبع الرحمة .
لذلك قال : "يرثني ويرث من آل يعقوب ". وميراثهم النبوة والولاية والدعوة إلى الهداية والإبعاد عن الضلالة   
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثم ، إنه تعالى بشره بما قدمه من سلامه عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا . فجاء بصفة "الحياة " ، وهي اسمه . وأعلم بسلامه عليه ، وكلامه صدق ، فهو مقطوع به . )
( اعلم ) من ( الإعلام ) . أي ، بشر الحق زكريا بأن ابنه موصوف ب‍ ( السلامة ) في أوليته وآخريته . أو يحيى عليه السلام ، بما قدمه من السلام عليه .
" يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) سورة مريم"
أي ، بما جعل في عينه الفائضة بالفيض الأقدس من الاستعداد والقابلية ليتجلى له الحق سبحانه باسم ( السلام ) ليسلم من الاحتجاب بالأنانية وظهور النفس بما يوجب البعد من الله يوم ولد ،
أي في أوليته ، ويوم يموت ، أي في آخريته ، ويوم يبعث حيا ، أي يوم تحققه بالوجود الحقاني الباقي بعد الوجود الفاني .
( فجاء ) أي ، الحق سبحانه . ( بصفة الحياة ) في قوله : ( يوم يبعث حيا ) .
وإنما قال : ( وهي اسمه ) أي ، اسم الحق ، أو اسم يحيى ، لأن الاسم والصفة باعتبار كونهما نسبا مترادفين ، وإن كان باعتبار آخر بينهما عموم وخصوص .
والإعلام ب‍ ( السلام ) يوم القيامة موجب لكماله ورفع درجاته في الآخرة ، لأن كلامه صدق مقطوع به .
 
قال رضي الله عنه :  ( وإن كان قول الروح . ) أي ، قول عيسى ، عليه السلام . ("والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " . أكمل في الاتحاد ، فهذا أكمل في الاتحاد والاعتقاد ، وأرفع للتأويلات) . اعلم ، أن في هذا الكلام تقديما وتأخيرا.
تقديره : فهذا أكمل في الاتحاد والاعتقاد وأرفع للتأويلات ، وإن كان قول الروح أكمل في الاتحاد .
وإنما كان هذا أكمل في الاتحاد ، لأن قول الحق سبحانه : " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا " .
عبارة عن تجليه له بما يوجب السلامة من أحكام الكثرة ونقائض الإمكان ، وارتفاع اللازم موجب ارتفاع الملزوم .
وإذا ارتفعت الكثرة والإمكان ظهرت الوحدة والوجوب الذاتي، فحصل الاتحاد من قول الحق. وهو أكمل مما لزم من قول العبد من الاتحاد هذا بالنسبة إلى أرباب الكشف والعرفان .
وأما بالنسبة إلى أهل الحجاب ، وهو أكمل بالاعتقاد ، لأن سلام الحق أقبل على النفوس من سلام العبد على نفسه . وأيضا أرفع للتأويلات .
بخلاف قول عيسى عليه السلام : فإنه يحتاج إلى أن يأول بأن لسانه لسان الحق بحكم الحديث المشهور ، فبالحق نطق وسلم على نفسه ، أو الحق سلم على نفسه في حجابية عيسى وتعينه


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن الذي انخرقت فيه العادة في حق عيسى ، إنما هو النطق ، فقد تمكن عقله وتكمل في ذلك الزمان الذي أنطقه الله فيه . ولا يلزم للمتمكن من النطق ، على أي حالة كان . ) أي، المتمكن.
( الصدق فيما به ينطق . ) لإمكان أن يتكلم بكلام لا يكون مطابقا لما في نفس الأمر .
( بخلاف المشهود له ، كيحيى . ) حيث قال فيه الحق : ( وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فسلام الحق على يحيى من هذا الوجه أرفع للإلتباس الواقع في العناية الإلهية به من سلام عيسى على نفسه ، وإن كانت قرائن الأحوال تدل على قربه من الله في ذلك وصدقه ، إذ نطق في معرض الدلالة على براءة أمه في المهد . فهو أحد الشاهدين . ) أي ، على براءة أمه وقربه من الله وكونه نبيا
 
 ( والشاهد الآخر هز الجذع اليابس ، فسقط رطبا جنيا ) أي ، الشاهد الآخر على البراءة وكونه نبيا من عند الله ، قوله لها : ( وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ) .
فهزت الجذع اليابس ، فتساقط التمر حال كونه رطبا جنيا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (من غير فحل ولا تذكير ، كما ولدت مريم عيسى من غير فحل ولا ذكر ولا جماع عرفي معتاد ، لو قال ) أي ، حتى لو قال :
( نبي : آيتي ومعجزتي أن ينطق هذا الحائط . فنطق الحائط ، وقال في نطقه : تكذيب قد ما أنت رسول الله ، لصحت الآية وثبت بها أنه رسول الله . ولم يلتفت إلى ما نطق به الحائط . فلما دخل هذا الاحتمال في كلام عيسى بإشارة أمه إليه وهو في المهد ، كان سلام الله على يحيى أرفع من هذا الوجه . )
أي ، لما دخل احتمال عدم الصدق في قول عيسى ، عليه السلام ، عند الجاهل بالحقائق والأسرار الإلهية ، حين تكلم بإشارة أمه إليه في براءة ذمتها عما نسبوها إليه ، كان سلام الله على يحيى أرفع من سلام عيسى على نفسه من هذا الوجه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فموضع الدلالة أنه عبد الله ، من أجل ما قيل فيه إنه ابن الله . وفرغت الدلالة بمجرد النطق . وأنه عبد الله عند الطائفة الأخرى القائلة بالنبوة ، وبقى ما زاد في حكم الاحتمال في النظر العقلي حتى ظهر في المستقبل صدقه في جميع ما أخبر به في المهد . فتحقق ما أشرنا إليه . ) أي ، متعلق الدلالة في قوله : ( إني عبد الله ) .
أنه عبد الله لينفى ما يقال فيه : إنه ( ابن الله ) . كأن روحه استشعر بأن أكثر أمته يذهبون إلى أنه ابن الله ، فبدأ بقوله : ( إني عبد الله ) . نفيا لما عندهم .
وذلك لأن الأرواح الكاملة قد يكون بحيث لا يخفى عليها جميع ما يجرى في هذا العالم قبل ظهورها فيه ، لما يشاهد إياه في ألواح كتب السماوات وأرواحها عند المرور عليها .
ويكون ما يشاهد مستصحبا معه باقيا في حفظه ، كما سئل بعضهم : أتذكر عهد (ألست بربكم)؟
قال : كأنه الآن في أذني .
وقال آخر : كأنه كان أمس . فقال بعضهم : أذكر ست مواطن آخر للعهد .
 
( وفرغت الدلالة بمجرد النطق . ) أي ، تمت الدلالة على أنه عبد الله عند الطائفة الأخرى من أمته القائلة بنبوته .
وإن لم يقل إني عبد الله ، فإنه بمجرد إتيانه بالنطق حصلت الدلالة على كونه عبد الله ونبيا من أنبيائه ، صادقا فيما قال الشيخ رضي الله عنه : "إني عبد الله آتاني الكتاب والحكم والنبوة ".
وقوله : ( وبقى ما زاد في حكم الاحتمال ) أي ، عند الجاهلين بحسب نظر عقولهم المشوبة بالوهم ، إذ يتوهم الجاهل أنه يمكن أن يكون كاذبا في قوله : "آتاني الكتاب والحكم والنبوة " .
وفي قوله : ( والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) .
ويبقى الاحتمال مستصحبا معهم إلى أن يظهر عندهم نور الإيمان به ويرتفع عندهم حجاب الكفر.
لا بحسب نظر عقول المنورة ، فإن نطقه في المهد وفي جميع قرائن أحواله براهين لائحة وآيات واضحة ودلائل شاهدة على صدقه في كل ما يقول ويخبر به ، وهو في المهد .
( فتحقق ما أشرنا إليه . ) أي ، من الأسرار واللطائف فيما قال الحق في يحيى وقال عيسى في نفسه من السلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ، تهتدي بلطائف أخر .
والله الهادي .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:24 am

21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  

الفص الزكرياوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
( المالك ) مأخوذ من ( الملك ) وهو الشدة والقوة . و ( المليك ) الشديد القوى .
و ( ملك ) الطريق وسطه . ويطلق على القدرة والتصرف أيضا .
ولما كانت الكلمة ( الزكرياوية ) مؤيدة من عند الله ب‍ ( القوة ) التامة والهمة المؤثرة والصبر على مقاساة الشدائد - حتى نشر بالمنشار وقد بنصفين ولم يدع الله أن يفرج عنه ويدفع البلاء منه مع كونه مستجاب الدعوة - اختصت بالحكمة ( المالكية ) .
ولما كان وجود الآلام والمحن من الغضب ، وكان وجوده من رحمة الله ابتداء ويرجع إليه انتهاء ويصير سببا للوصول إلى الكمالات وواسطة لرفع الدرجات وغفرانا للخطيئات ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( البلاء سوط من سياط الله تعالى يسوق به عباده ) .
 
شرع لبيانها فقال رضي الله عنه  : ( اعلم ، أن رحمة الله وسعت كل شئ وجودا وحكما ، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب ، فسبقت رحمته غضبه ، أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه . )
اعلم ، أن الحق سبحانه رحم الأعيان الطالبة للوجود وأحكامها ولوازمها ، فأوجدها في العين ، كما أوجدها أولا في العلم ، فالرحمة سابقة على كل شئ ومحيطة بكل شئ ،
كما قال تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شئ ) . وقوله : ( وجودا وحكما ) أي من جهة الوجود والاستعداد والقابلية له التي هي في حكم الوجود ، فإن الوجود عين الرحمة الشاملة على جميع الموجودات ، أعراضا كانت أو جواهرا .
وكذلك القابلية محيطة وشاملة عليها . ومن جملة الأعيان عين الغضب وما يترتب عليه من الآلام والأسقام والبلايا والمحن ، وأمثالها مما لا يلائم الطباع ، فوسعت الرحمة لها كما وسعت لغيرها ، فوجود الغضب من رحمة الله على عين الغضب ، فسبقت نسبة الرحمة إليه ، تعالى نسبة الغضب إليه ، وذلك لأن الرحمة ذاتية للحق تعالى ، وعين الغضب ناشئة من عدم قابلية بعض الأعيان للكمال المطلق والرحمة التامة ، فيسمى شقاوة وشرا .
وإليه أشار رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( إن الخير كله بيديك والشر ليس إليك ) .
ومن أمعن النظر في لوازم الغضب من الأمراض والآلام والفقر والجهل والموت وغير ذلك ، يجد كلها أمورا عدمية .
فالرحمة ذاتية للوجود الحق ، والغضب عارضية ناش من أسباب عدمية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله ، لذلك عمت رحمته كل عين . )
( يطلبه ) يجوز أن يكون ب‍ ( الياء ) المنقوطة من تحت ، وب‍ ( التاء ) المنقوطة من فوق .
وقد مر في فصل الأعيان : أن لله تعالى أسماء ذاتية مسماة ب‍ ( مفاتيح الغيب ) التي لا يعلمها إلا هو .
وهي بذواتها تطلب من الله ظهور أنفسها في العلم ، ثم في العين .
والأعيان الثابتة عبارة عن صور تلك الأسماء وتعيناتها ، وليست الأسماء إلا وجودات خاصة ، فكل عين مستندة إلى وجود معين ، وهو الاسم الخاص الإلهي .
فإذا علمت هذا ، يجوز أن يكون فاعل ( يطلب ) ضميرا عائدا إلى ( الوجود ) ، وضمير المفعول عائدا إلى ( كل عين ) أو إلى ( عين ) .
ذكره باعتبار اللفظ ، أو الشئ . ومعناه : لما كان لكل عين مستند ، وهو وجود خاص
و اسم من الأسماء الذاتية يطلب ذلك الوجود بذاته كل واحد من الأعيان ليكون مظهره ومستواه في العلم والعين ، عمت رحمته تعالى كل عين لأجل ذلك الطلب .
 
فقوله رضي الله عنه  : ( لذلك ) متعلق بقوله : ( عمت ) . و ( عمت ) جواب ( لما ) .
ويجوز أن يكون الفاعل ضميرا عائدا إلى (كل عين) . وضمير المفعول عائدا إلى (الوجود) .
ومعناه : لما كان لكل عين وجود في خزانة غيبه تعالى مقدر أن يفيض عليه وكان يطلب كان عين ذلك الوجود من الله ، عمت رحمته كل عين ، فأفاضت على كل منها وجودها لأجل ذلك الطلب الذي من الأعيان .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه برحمته التي رحمه بها قبل ) بكسر (الباء) . (رغبته في وجود عينه ، فأوجدها.) تعليل لعموم الرحمة .
أي ، فإن كل عين برحمة الله التي رحمه الحق بها أزلا ، فأعطاه الوجود العلمي قبل رغبته في الوجود العيني ، أي ، صار قابلا طالبا للوجود الخارجي ، ( فأوجدها ) الله ، أي الأعيان فيه .
فضمير ( فإنه ) و ( قبل ) عائد ان إلى ( كل عين ) .
ويجوز أن يكونا عائدين إلى ( الله ) . وضمير ( رحمه ) إلى ( كل عين ) .
ذكره باعتبار لفظ ( الكل ) ، أو باعتبار الشئ ، إذ في بعض النسخ : ( كل شئ ) .
 
ومعناه : فإن الله برحمته التي رحم الكل بها قبل رغبته كل شئ في وجود عين ذلك الشئ .
أي ، قبل الله سؤاله وأجاب ندائه ورغبته في وجوده العيني، فأوجدها، أي الأعيان فيه ،كما يقال : تقبل الله منك . و (قبل) على التقديرين خبر ( إن ).
 
وقرأ بعض العارفين ( قبل ) ، بسكون ( الباء ) ، وقال : أي ، فإن الله برحمته التي رحم الشئ بها سابق رغبته في وجود عينه . أي ، طلبه ( فأوجدها ) أي الرغبة . وفيه نظر .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلذلك قلنا : إن رحمة الله وسعت كل شئ وجودا وحكما . ) أي ، فلأجل قبول الحق طلب الأعيان ورغبتها في أن تكون موجودة في الخارج ، قلنا : إن رحمة الله وسعت كل شئ وجودا وحكما . أما ( وجودا ) فظاهر .
وأما ( حكما ) ، فلأنه رحم وقبل سؤال كل شئ ، فأعطاه الاستعداد والقابلية للوجود العيني ، فوجد في العين ، فذلك القبول وإعطاء الاستعداد رحمة من الله على الأعيان حكما ،
لذلك قال تعالى : ( وآتاكم من كل ما سألتموه ) . أي ، بلسان الاستعداد والحال والقال .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (والأسماء الإلهية من الأشياء وهي ترجع إلى عين واحدة . فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة ، فأول شئ وسعته الرحمة نفسها ، ثم الشيئية المشار إليها ، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة ، عرضا وجوهرا ومركبا وبسيطا . )
لما كانت الأسماء من حيث تكثرها مغائرة للذات الأحدية ورحمة الله وسعت كل شئ ، جعل الأسماء أيضا داخلة تحت الرحمة الذاتية ، لأنها من الأشياء المتكثرة ، مع أنها راجعة إلى عين واحدة وهي الذات الإلهية . فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة ، وهي عين اسم ( الرحمن ) من حيث تميزها بتعينها الخاص عن الاسم ( الله ) .
 
وإنما وسعت الرحمة الذاتية للعين الرحمانية ، لأنها من حيث امتيازها عن الذات الإلهية إنما حصلت بالتجلي الذاتي والرحمة الذاتية على تلك العين ، إذ لولا التجلي الذاتي والرحمة الذاتية على تلك العين لما كان لشئ وجود أصلا ، اسما كان أو صفة أو عينا ثابتة .


وإذا كان الأمر كذلك ، فأول ما تعلقت به الرحمة الذاتية هو نفس الرحمة الظاهرة في العين الرحمانية ، ثم الشيئية المشار إليها ، أي العين الرحمانية .
وإنما جعل الرحمة الرحمانية أول متعلق الرحمة الذاتية ثم العين الرحمانية ، لأن عين الاسم ( الرحمن ) ذات مع صفة الرحمة ، والمجموع من حيث هو مجموع متأخر عن كل من أجزائه . ثم شيئية كل موجود ، أي عين كل موجود .
 
يوجد إلى ما لا يتناهى مفصلا ، دنيا وآخرة ، عرضا وجوهرا ، مركبا وبسيطا ، لأن جميعها أخلة تحت العين الرحمانية إجمالا .
فالأولية في قوله : ( فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجودة ) أولية بالنسبة إلى باقي أعيان الأسماء التي بعدها ، كقوله عن لسان إبراهيم عليه السلام : ( وأنا أول المسلمين ) وإن كان من قبله من الأنبياء أيضا مسلمين .
 
ويجوز أن يكون المراد ب‍ ( الشيئية ) وجودات الأعيان لا أعيانها .
( ولا يعتبر فيها ) أي ، في إفاضة الرحمة على كل شئ .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (حصول غرض ولا ملائمة طبع . بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا.)
إذ لو كان حصول الغرض وملائمة الطباع معتبرا في الإيجاد ، لما كان للعالم وجود ولا
للأسماء الإلهية ظهور وتعين أصلا ، لأن الأسماء متقابلة ، فمظاهرها أيضا كذلك ، وطبيعة أحد المتقابلين لا تلائم طبيعة الآخر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد ذكرنا في " الفتح المكي " أن الأثر لا يكون إلا للمعدوم لا للموجود . وإن كان للموجود فبحكم المعدوم . وهو علم غريب ومسألة نادرة لا يعلم تحقيقها ) في بعض النسخ : ( حقيقتها ) . ( إلا أصحاب الأوهام ، فذلك بالذوق عندهم . وأما من لا يؤثر الوهم فيه ، فهو بعيد عن هذه المسألة . )
لما ذكر أن الرحمة وسعت كل شئ وجودا وحكما ، وذكر أن شيئية كل شئ ، حتى الأسماء الإلهية والأعيان الكونية ، كلها من الرحمة - والرحمة لا عين لها في الخارج فهي معقولة المعنى معدومة العين ،
وكأن قائلا يقول : كيف يؤثر الرحمة في أعيان الأشياء وهي في نفسها معدومة فقال قد ذكرنا في الفتوحات أن الأثر لا يكون إلا للمعدوم .
ولا يريد بالمعدوم المعدوم مطلقا ، لاستحالة التأثير منه ، بل المعدوم في الخارج الموجود في الباطن ، وذلك لأن جميع ما في الظاهر لا يظهر إلا من الباطن ، فالباطن المطلق هو الذات الإلهية ، فإن الحق غيب الغيوب كلها ، وقد علمت أنه من حيث ذاته غنى عن العالمين ومن
حيث أسمائه يطلب وجود العالم ،
فالعالم مستند إما إلى الحق من حيث الأسماء ، وإما إلى الأسماء ، وأياما كان ، يلزم المقصود ، لأن الأسماء ذات مع الصفات ، والصفات لا أعيان لها في الخارج لكونها نسبا ، فالمؤثر إن كان الذات ، فتأثيرها بحسب النسب التي لا أعيان لها في الخارج .
وإن كانت الصفات فلا أعيان لها فيه ، ومظاهر الأسماء التي هي الأعيان ثابتة في الحضرة العلمية ، ما شمت رائحة الوجود الخارجي بعد ، والموجود هو الوجود المتعين على حسبها ، لا الأعيان . فصح أن المؤثر في الوجود هو الذي لا عين له في الخارج .
 
ثم تنزل بقوله : فإن كان للموجود حكم وأثر فهو أيضا بحكم المعدوم ، و هو المرتبة التي بها يحكم الوجود على الشئ . ألا ترى السلطان ما دام متحققا بالسلطنة تجرى أحكامه وينفذ أوامره في رعاياه ولو كان صبيا ، وعند انعزاله من السلطنة ، لا ينفذ له حكم أصلا مع أنه موجود ، وكذا الوزير والقاضي وجميع أصحاب المناصب .
 
ولما كان هذا المعنى غير مشعور به مع وضوحه وحقيته ، قال : ( وهو علم غريب ومسألة نادرة . ) قوله : ( ولا يعلم تحقيقها إلا أصحاب الأوهام . )
أي ، الذين يتوهمون أمورا لا وجود لها ، وتنفعل نفوسهم منها ويتأثر انفعالا عظيما وتأثرا قويا ، هم الذين يدركون بالذوق الأمور المعدومة المتوهمة كيف تؤثر فيهم .
 
وأما من لا يتأثر من الوهم ، أي ما يدركه الوهم من الأمور المعدومة المتوهمة ، فليس له نصيب من هذه المسألة بحسب الذوق .
 
وقيل معناه : أي ، الذين يؤثرون في الأشياء بالوهم فيوجدونها ، فإنهم يعلمون ذلك علم ذوق . وفيه نظر .
لأن الكلام في أن المعدوم يؤثر في الموجود ، لا أن الموجود يؤثر في المعدوم ، والوهم قوة موجودة في الخارج . والله أعلم .
"" أضاف المحقق :
قال الشيخ الكبير مولانا صدر الملة والدين صدر الدين القونوي في المفتاح والنصوص :
( كما أنه من ذاق هذا المشهد وقد كان علم أن الأعيان الثابتة هي حقائق الموجودات وأنها غير مجعولة ، وحقيقة الحق منزهة عن الجعل والتأثر ، وما ثم أمر ثالث غير الحق والأعيان ، فإنه يجب أن يعلم أن إن صح ما ذكرنا أن لا أثر لشئ في شئ ، وأن الأشياء هي المؤثرة في أنفسها ، وأن المسمات عللا وأسبابا مؤثرة شروط في ظهور الأشياء في أنفسها ، لا أن ثمة حقيقة تؤثر في حقيقة غيرها ) . ""


(فرحمة الله في الأكوان سارية  .... وفي الذوات وفي الأعيان جارية )
ولما كان الإيجاد باختفاء الهوية الإلهية في الصور الكونية الخلقية ، والأشياء ما وجدت إلا بالرحمة - والرحمة عين تلك الهوية في المرتبة الأحدية وإن كانت غيرها في المرتبة الواحدية - جعل الرحمة سارية في أعيان الأكوان ، كسريان الهوية فيها ، لأنها لازمة للهوية .
ولسريان الرحمة في الأكوان والأعيان يعطف بعضهم على بعض و يحن بعضهم بعضا .
 
(مكانة الرحمة المثلى إذا علمت  .... من الشهود مع الأفكار عالية) المكانة المرتبة العلية والمنزلة الرفيعة، و ( المثلى ) الفضلي ، تأنيث (الأفضل).


كما قال تعالى : ( ويذهبا بطريقتكم المثلى ) . أي ، إذا علمت مكانة الرحمة بطريق الشهود ، كانت عالية على الأفكار ، أي ، كانت بحيث لا تدركها الأفكار .
 
ف‍ ( عالية ) خبر المبتدأ . و ( مع ) بمعنى ( على ) . ولو قلنا معناه ، إذا علمت من الشهود والأفكار على سبيل الجمع بينهما ، أي إذا علمت عين الرحمة بالشهود ولوازمها بالأفكار ، ظهر علوها ومنزلتها الرفيعة ، ف‍ ( مع ) على معناه
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  (فكل من ذكرته الرحمة فقد سعد، وما ثمة إلا من ذكرته الرحمة . وذكر الرحمة الأشياء عين إيجادها إياها . فكل موجود مرحوم فلا تحجب يا وليي عن إدراك ما قلناه بما تراه من أصحاب البلاء، وما تؤمن به من آلام الآخرة التي لا تفتر عمن قامت به. )
أي ، عمن قامت الآلام ووجوداتها به .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فاعلم أولا ، أن الرحمة إنما هي في الإيجاد عامة ، فبالرحمة بالآلام أوجد الآلام . ثم ، إن الرحمة لها الأثر بوجهين : أثر بالذات ) وهو أثر الرحمة الرحمانية العامة المتعلقة بإيجاد كل الأعيان مطلقا .
 
وإليه أشار بقوله رضي الله عنه  : ( وهو إيجادها كل عين موجودة . ولا تنظر ) الرحمة . ( إلى غرض ولا إلى عدم غرض ولا إلى ملائم ولا إلى غير ملائم ، فإنها ناظرة إلى عين كل موجود قبل وجوده . ) ( قبل ) على صيغة الماضي . أي تنظر الرحمة في كل عين حال كونها قابلة للوجود .
( بل تنظره في عين ثبوته . ) فاعل ( تنظره ) ضمير ( الرحمة ) .
 
وضمير المفعول عائد إلى ( كل عين ) . لذلك ذكره تغليبا للفظ ( الكل ) . أو باعتبار الشئ . أي ، بل ناظرة فيها ، أي في عين كل موجود منهما ، حال ثبوتها في العدم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولهذا رأت الحق المخلوق في الاعتقادات عينا ثابتة في العيون الثابتة ، فرحمته بنفسها بالإيجاد .)
( الحق المخلوق ) هو تجلى الحق سبحانه على حسب اعتقاد المعتقدين فيه . وإنما سمى ( مخلوقا ) لأنه مجعول متكثر ، وكل مجعول مخلوق .
ويسمى ( حقا ) ، لأنه حق في اعتقاد المعتقد . ومجلى الحق في نفس الأمر . ومعناه : ولكون الرحمة تنظر في الأعيان حال ثبوتها في العدم فترحم عليها ، شاهدت أعيان الموجودات ورأت عين الحق المخلوق ثابتة في اعتقاد كل عين في جملة العيون الثابتة . ( فرحمته بنفسها ) .
أي ، فرحمت الرحمة الحق المخلوق بنفس الرحمة الذاتية ، فأوجدته .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك قلنا : إن الحق المخلوق في الاعتقادات أول شئ مرحوم بعد رحمتها بنفسها في تعلقها بإيجاد المرحومين . ) أي ، ولأجل أن الحق المخلوق بحسب الاعتقادات أول شئ مرحوم بعد تعلق الرحمة الذاتية بنفسها بالإيجاد ،
قلنا من قبل : إن أول ما وسعت الرحمة الذاتية شيئية تلك العين الموجدة للرحمة الصفاتية ، وهي عين الاسم ( الرحمن ) . ولما كان ( الرحمن ) هو الذي يتجلى بحسب اعتقاد المعتقدين ، ويصير حقا مخلوقا فيدخل في جملة ما يتعلق الرحمة بإيجاده من الأعيان المرحومة ، جعله مقول القول بحسب المعنى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولها أثر آخر بالسؤال ، فيسأل المحجوبون الحق أن يرحمهم في اعتقادهم . وأهل الكشف يسألون رحمة الله أن تقوم بهم ، فيسألونها باسم "الله" ، فيقولون : يا الله ارحمنا . ولا يرحمهم إلا بقيام الرحمة بهم . )
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( الأثر الآخر ) هو أثر الرحمة الرحيمية المعطية لكل عين ما يوصل إلى كمالها ، إما بسؤال لسان الاستعداد ، أو بسؤال لسان الحال والقال ، كما مر من قبل فيسأل المحجوبون أن يرحمهم الحق الذي هو معتقدهم ، ويغفر لذنوبهم ويتجاوز عنهم رغبة في الجنة وهربا من النار .
وأهل الكشف يسألون أن يتصفوا بالرحمة ، فيقومون بها من الحضرة الإلهية المطلقة ، لا من الإلهية المقيدة، فيقولون : يا الله ارحمنا بلسان استعداداتهم.


ولا يرحمهم إلا بأن يجعل قيام الرحمة بهم ، فيكونوا راحمين لأنفسهم ولغيرهم من المستعدين بإيصالهم إلى الكمال .
هذا بالنسبة إلى بعض المكاشفين ، لا بالنسبة إلى المحققين ، فإنهم يختارون مقام العبودية على الربوبية ويجوز أن يكون بالنسبة إلى جميع المكاشفين ويكون المراد الاتصاف بها ، لا الظهور بها ، فإن الكمل لا يطلبون الظهور بالصفة الرحمانية .


( فلها الحكم ، لأن الحكم إنما هو في الحقيقة للمعنى القائم بالمحل ، فهو الراحم على الحقيقة . ) أي ، فللرحمة الحكم في كل مرحوم ، لأن المعنى القائم بالمحل ، هو الحاكم في الحقيقة على نفس المحل ، أو على من دونه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( المعنى ) هو الحاكم ، لا نفس السلطان . ولكون المعنى قائما بالمحل يظن أنه هو الحاكم . وكذلك جميع المعاني . ويظهر حقيقة هذا الكلام في أصحاب المناصب ، كالسلطان والقاضي والوزير وغيرهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا يرحم الله عباده المعتنى بهم إلا بالرحمة . ) أي ، بقيام الرحمة بهم ، ليكونوا راحمين .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا قامت بهم الرحمة ، وجدوا حكمها ذوقا . فمن ذكرته الرحمة ) أي ، الرحيمية لقيامها به ، كما في الكاملين ، أو بالمغفرة وإعطاء الجنة ، كما في العابدين الزاهدين المحجوبين عن معرفة الحقائق . ( فقد رحم . ) بما يناسب استعداده وتقبل عينه ذلك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واسم الفاعل هو "الرحيم " و "الراحم " . ) أي ، الحاكم هو الرحمة ، وإن كان اسم الفاعل هو ( الرحيم ) و ( الراحم ) . أي ، وإن أضيفت الرحمة إلى الذات الموصوفة بالرحمة في "الرحيم" و "الراحم "  .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (والحكم لا يتصف بالخلق لأنه أمر توجيه المعاني لذواتها. فالأحوال لا موجودة ولا معدومة.)
لما قال : ( وجدوا حكمها ذوقا ) قال : والحكم أيضا غير موصوف بأنه مخلوق ، لأنه لا عين له في الخارج ليكون موصوفا بالمخلوقية ، بل هو أمر معنوي يستلزمه المعاني المعقولة لذواتها ، وهي المعاني الكلية المذكورة في الفص الأول من أنها باطنة ولا تزول عن الوجود الغيبي بحسب الحكم .
فالأحوال والأحكام كلها لا موجودة في الأعيان ، بمعنى أن لها أعيانا في الخارج ، ولا معدومة ، بمعنى أنها معدومة الأثر في الخارج .
ولو قال قائل : إن الأحوال لا أعيان لها في الخارج أعيانا جوهرية ، ولم لا يجوز أن يكون لها أعيانا عرضية موجودة في الخارج ، لأتجه . وتحقيقه أن الأعيان العرضية بعضها محسوسة ، كالسواد والبياض ، وبعضها معقولة ، كالعلم والقدرة والإرادة وأمثالها ،
 
والمعقولات من حيث إنها معقولات ليس لها وجود إلا في العقل ولا عين لها في الخارج غيره ، ومن حيث إنها هيئات روحانية مرتسمة في الذات الموصوفة بها ،
لها أعيان عرضية غير أعيان محالها ، واتحاد عين الصفة مع عين الموصوف وعدم اتحادها ، مستفاد من المرتبة الأحدية والواحدية التي للحق ، وقد علمت أن الصفات كلها عين الذات في المرتبة ( الأحدية ) ، وغيرها من وجه في ( الواحدية ) ،  فكذلك حال الصفات الروحانية مع محالها. والله أعلم.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أي ، لا عين لها في الوجود ، لأنها نسب ، ولا معدومة في الحكم ، لأن الذي قام به العلم يسمى عالما ، وهو الحال ) أي ، ذلك القيام هو ( الحال ) الذي به يسمى صاحبه عالما .
أو هذا هو المسمى ب‍ ( الحال ) في مذهب المعتزلة ، الذي هو واسطة بين الوجود والعدم
 
واعلم ، أن النفس الإنسانية البالغة إلى التجرد التام ، لا سيما إذا بلغت إلى المقامات القلبية ، لها مقام ( أحدية ) ظلية ، أي ، مقام مشاهدة علومه وإدراكاته وأسمائه وصفاته في غيب وجوده ، شهودا تاما .


وإذا أراد إظهار ما هو الموجود في غيب وجوده بالاستجنان العلمي ، يتجلى في الصور المفصلة ، لأن العقل البسيط الإجمالي خلاق للصور المفصلة .


وإذا تأملت فيما حررناه وتلوناه عليك ، يعرف أن النفس في مقام إجمال الصور وتحققها لوجود واحد جمعي أحدي إذا أراد إظهار ما في ذاته الأحدي ، يظهر الصور بعلم ومشيئة وإرادة وقضاء تكون كلها عين ذات النفس .


وأما المرتبة ( الواحدية ) ، المسمات ب‍ ( الألوهية ) ومقام تفاصيل العلوم والأسماء والصفات ، ليست فيها كثرة خارجية ، لأن الحق بسيط ، ليس فيه شائبة التركيب إلا في المفهوم .
وأهل الفن صرحوا بأن الحق باعتبار اتصافه بالألوهية واحد .
وإن شئت قلت إن الحق باعتبار تعينه باسمه ( الواحد ) واحد بسيط لا تركيب فيه يقتضى مظهرا واحدا مشتملا على جميع القابليات .
ونسمي هذا الواحد ب‍ ( الحقيقة المحمدية البيضاء ) المشتملة على جميع الموجودات من الأزل إلى الأبد .  
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعالم ذات موصوفة بالعلم . فما هو ) أي ، فليس ذلك الحال ، أي كونه عالما 
( عين الذات ، ولا عين العلم ، وما ثمة إلا علم وذات قام بها هذا العلم . وكونه عالما "حال"  لهذه الذات باتصافها بهذا المعنى . فحدثت نسبة العلم إليه وهو المسمى عالما . )
أي، حدثت من اجتماع الذات والصفة العلمية هذه النسبة وصار الموصوف بها مسمى بالعالم.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والرحمة على الحقيقة نسبة من الراحم . ) أي ، من جملة الراحم . ( وهي ) أي ، الرحمة .
( الموجبة للحكم ) على صاحبها بأنه راحم . ( فهي الراحمة ) أي ، الجاعلة لصاحبها راحما ، وهي الراحمة في الحقيقة للأشياء المرحومة ، وإن كانت في الظاهر مستندة إلى صاحبها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (والذي أوجدها في المرحوم ، ما أوجدها ليرحمه بها ، وإنما أوجدها ليرحم بها من قامت به.) 
أي ، الحق الذي أوجد الرحمة في المرحوم ، ما أوجدها ليرحمه بها ، فيكون مرحوما ، وإنما أوجدها فيه ليكون راحما ، لأنه بمجرد ما وجد أولا ، صار مرحوما بالرحمة الرحمانية ،وعند الوصول إلى كمال يليق بحاله ، صار  مرحوما بالرحمة الرحيمية . فإيجاد الرحمة فيه وإعطاء هذه الصفة له بعد الوجود والوصول إلى الكمال ، إنما هو ليكون العبد موصوفا بصفة ربه ، فيكون راحما بعد أن كان مرحوما .
 
وإنما كان كذلك ، لأن الصفات الفعلية إذا ظهرت فيمن ظهرت تقتضي ظهور الفعل منه . ألا ترى أن الحق إذا أعطى لعبده صفة القدرة وتجلى بها له ، كيف تصدر منه خوارق العادات وأنواع المعجزات والكرامات .
والرحمة مبدأ جملة الصفات الفعلية ، إذ بها توجد أعيانها . فنسأل الله تعالى أن يرحمنا بالرحمة التامة الخاصة والعامة .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهو سبحانه ليس بمحل للحوادث ، فليس بمحل لإيجاد الرحمة فيه . وهو الراحم ، ولا يكون الراحم راحما إلا بقيام الرحمة به . فثبت أنه عين الرحمة . ) أي ، الحق سبحانه هو الذي يرحم جميع الأسماء والصفات والأعيان والأكوان ، فهو الراحم ، وليس محلا للحوادث ، ليكون له صفة زائدة عليه حادثة بالذات ،
فرحمته عين ذاته غير زائدة عليها وبها رحم الرحمة الصفاتية فأوجدها والعين التي هي قائمة بها ليرحم الأشياء كلها بها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن لم يذق هذا الأمر ولا كان له فيه قدم ) أي ، من لم يحصل له هذا الأمر بالذوق ليكون راحما بالفعل مالكا لهذه الصفة متمكنا فيها ، ولا له قدم بوجه من الوجوه في هذا المقام .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ما اجترأ أن يقول إنه عين الرحمة ، أو عين الصفة ، ولا غيرها . فقال ) أي ، الأشعري .
( ما هو عين الصفة ولا غيرها . فصفات الحق عنده
لا هي هو ولا هي غيره ، لأنه لا يقدر على نفيها ، ولا يقدر أن يجعلها عينه ، فعدل إلى
هذه العبارة . وهي عبارة حسنة ، وغيرها ) أي ، وغير هذه العبارة .
( أحق بالأمر منها ) أي ، أحق بما في نفس الأمر منها . ( وأرفع للإشكال . ) وهو أن يكون الذات ناقصة بالذات مستكملة لنفسها بالصفات .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهو القول بنفي أعيان الصفات وجودا قائما بذات الموصوف ) ( هو ) عائد إلى قوله : ( وغيرها ) . أي ، القول بنفي أعيان الصفات الزائدة على الذات القائمة بها أولى وأليق بما في نفس الأمر وأرفع للإشكال من أن يجعل له صفات زائدة على ذاته تعالى قائمة بها ، وهي لا عينها ولا غيرها .
والقول بالنفي مذهب أكثر الحكماء والمعتزلة .
(وإنما هي نسب وإضافات بين الموصوف بها وبين أعيانها المعقولة . ) أي ، وإنما الصفات نسب وإضافات ، تلحق بالذات الإلهية ، حاصلة بين الذات
الموصوفة بها وبين الأعيان المعقولة لها ، إذ لكل صفة حقيقة يمتاز بها عن غيرها ،
فتلك الحقائق أعيانها
.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:25 am

21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  

الفص الزكرياوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإن كانت الرحمة جامعة ، فإنها بالنسبة إلى كل اسم إلهي مختلفة . فلهذا يسأل سبحانه أن يرحم بكل اسم إلهي ، فرحمه الله . ) ( يسأل ) على المبنى للمفعول .
و ( أن يرحم ) على المبنى للفاعل . أي ، الرحمة الذاتية ، وإن كانت جامعة لجميع أنواع الرحمة ، لكنها يختلف بالنسبة إلى الأسماء المختلفة ، إذ كل منها يرحم مظهره وداعيه بما يخصه ، ويعطى حقيقته .
( فلهذا ) أي ، فلأجل هذا الاختلاف يسأل الحق سبحانه أن يرحم بكل واحد من أسمائه ، فيرحم الله ذلك السائل بالاسم الذي سأل .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فرحمه الله ) بمعنى يرحمه الله ، كما يقال في الدعاء : رحمه الله . ويجوز أن يكون ب‍ ( التاء ) والإضافة إلى ( الله ) . أي ، فرحمها الله .
( والكناية هي التي وسعت كل شئ . ) ( الكناية ) هي ضمير المتكلم في قوله : ( ورحمتي وسعت كل شئ ) . والمخاطب في قوله : ( ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما ) أي ، رحمة الله والذات التي ( الكناية ) تدل عليها ، هي التي وسعت كل شئ إذ رحمته عين ذاته كما مر آنفا .
( ثم ، لها شعب كثيرة تتعدد بتعدد الأسماء الإلهية . فما تعم بالنسبة إلى ذلك الاسم الخاص الإلهي في قول السائل : رب ارحم . وغير ذلك من الأسماء .
حتى ( المنتقم ) ، له أن يقول : ( يا منتقم ، ارحمني ، ) ( ما ) في قوله : ( فما تعم ) للنفي .
أي ، ثم للرحمة الإلهية شعب كثيرة يتعدد بتعدد الأسماء الإلهية . أي ، إذا قال
السائل : رب ارحمني . أو : يا الله ارحمني . أو غير ذلك من الأسماء ، حتى للسائل
أن يقول : يا منتقم ارحمني . فما تعم الرحمة وإن كان الاسم المدعو من الأسماء الجامعة ، كالاسم ( الله ) و ( الرحمن ) و ( الرب ) . أي ، ليس المطلوب بالرحمة من جميع الأسماء معنى عاما شاملا للكل ، بل معنى خاصا .
فإنك إذا قلت : يا رب ارحمني . تريد أن يجعلك موصوفا بالكمالات . وإذا قلت : يا منتقم ارحمني . تريد أن يخفف عنك العذاب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وذلك لأن هذه الأسماء تدل على الذات المسماة ، وتدل بحقائقها على معان مختلفة ، فيدعو بها في الرحمة ) أي ، فيدعو الداعي بتلك الأسماء في طلب الرحمة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( من حيث دلالتها على الذات المسماة بذلك الاسم لا غير ، ) ( ذلك ) إشارة إلى قوله : ( فما تعم ) . أي ، فما تعم الرحمة . لأن الأسماء تدل على الذات وتدل بحقائقها .
أي ، بما تتميز به عن غيرها على المعاني المختلفة ، فدعاء الداعي بتلك الأسماء في طلب الرحمة ، إنما هو من حيث إنها تدل على الذات المسماة بها لا غير . أي ، نظر الداعي في دعائه إنما هو إلى الذات المسماة بالأسماء فقط ، أي اسم كان .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لا بما يعطيه مدلول ذلك الاسم الذي ينفصل به عن غيره ويتميز . ) أي ، لا بالخصوصيات المتكثرة المتميزة بعضها عن بعض .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه لا يتميز عن غيره وهو عنده دليل الذات . ) أي ، فإن الاسم الخاص لا يتميز عن غيره من حيث إنه يدل على الذات الواحدة وهو عنده ، أي ذلك الاسم الخاص عند السائل ، دليل بالذات ، وليس نظره إلا إلى الذات ، فإنها قبلة الحاجات ، وإن كان المسؤول لا يصدر من الذات إلا على يدي الاسم الخاص من حيث خصوصيته .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما يتميز بنفسه عن غيره لذاته ، إذ المصطلح عليه ، بأي لفظ كان ، حقيقة متميزة بذاتها عن غيرها . ) 
أي ، وإنما يتميز الاسم الخاص بنفسه عن غيره لذاته ، إذ الحقيقة المصطلحة عليها بالألفاظ ، أي لفظ كان ، متميزة بذاتها عن غيرها .
ألا ترى أن ( العليم ) متميز عن ( القادر ) بعين العلم ، و ( القادر ) متميز عنه بعين القدرة ، والكل في الدلالة على الذات الإلهية غير متميزة . وإليه أشار بقوله :

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن كان الكل قد سبق ليدل على عين واحدة مسماة . ولا خلاف في أنه لكل اسم حكم ليس للآخر ، فذلك أيضا ينبغي أن يعتبر ، كما تعتبر دلالتها على الذات المسماة . ) 
أي ، ولا خلاف أن لكل اسم حكما يختص به ، وليس ذلك للآخر ، فذلك الحكم أيضا ينبغي أن يعتبره السائل كما اعتبر الذات ، وذلك لأن السائل لا بد له من مطلوب يطلبه ، فينبغي أن يطلب ذلك من الذات باسم يعطى بخصوصية مطلوبه ، كما لمريض إذا دعا ( يا الله ) أو ( يا رحمان ) ينبغي أن يعتبر الشفاء ليقتضي الله حاجته على يد ( الشافي ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا قال أبو القاسم بن القسي في الأسماء الإلهية : إن كل اسم على انفراده مسمى بجميع الأسماء الإلهية كلها ، إذا قدمته في الذكر ، نعته بجميع الأسماء . وذلك لدلالتها على عين واحدة ، وإن تكثرت الأسماء عليها واختلفت حقائقها . ) أي ، حقائق تلك الأسماء . 
أي ، ولأجل أن الأسماء كلها في دلالتها على الذات لا يختلف ، قال أبو القاسم بن القسي - وهو صاحب خلع النعلين ، وذكر الشيخ في الفتوحات أنه كان من أكابر أهل الطريق - : إن أي اسم من الأسماء إذا قدمته في الذكر ، نعته بجميع الأسماء لأنه دليل الذات ، والذات منعوته بجميع الأسماء والصفات

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، إن الرحمة تنال على طريقين : طريق الوجوب ، وهو قوله تعالى : "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة " . وما قيدهم به من الصفات العلمية والعملية . ) ( وهو قوله تعالى ) أي ، ذلك الوجوب مستفاد من قوله تعالى :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فسأكتبها . . . ) - إلى آخر الآية . ومستفاد من الوعد الذي وعدهم في مقابلة ما قيدهم به وكلفهم .

ف‍ ( ما قيدهم ) معطوف على قوله : ( وهو قوله ) . و ( ما ) بمعنى ( الذي ) أو ( الشئ ) . أي ، الرحمة من الله تعالى تنال على طريقين : طريق الوجوب . أي ، على طريق الذي أوجب الحق على نفسه أن يرحم عباده إذا أتوا به في مقابلة ما قيدهم به وكلفهم من العلم والعمل .

كما قال الشيخ رضي الله عنه :  رضي الله عنه : ( فسأكتبها ) أي ، أفرضها ( للذين يتقون ويؤتون الزكاة ) . لا أن العبد بحسب عمله يوجب على الله أن يرحمه ، بل ذلك الإيجاب على سبيل الفضل والمنة أيضا منه على عباده .

قال الشيخ رضي الله عنه:  (والطريق الآخر الذي تنال به هذه الرحمة على طريق الامتنان الإلهي الذي لا يقترن به عمل، وهو قوله : "ورحمتي وسعت كل شئ" . ومنه قيل : "ليغفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر". ومنها قوله : "إعمل ما شئت فقد غفرت لك ". فاعلم ذلك.)

 ( الرحمة الامتنانية ) قد تكون عامة ، وهو الرحمة الذاتية الشاملة لجميع العباد ، كقوله تعالى : ( رحمتي وسعت كل شئ ) .
وقد تكون خاصة كما قيل : ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) . في حق نبينا ، صلى الله عليه وسلم ،
وكما قال لبعض عباده : ( إعمل ما شئت ، فقد غفرت لك ) فلا يتوهم أنها شاملة لجميع الأشياء مطلقا . والله الرحيم المنان ومنه الفضل والإحسان .
.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:26 am

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم  

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية            الجزء الأول
اعلم ، أن للقوى الروحانية بحسب الفعل والانفعال واجتماعاتها امتزاجات روحانية ، يحصل منها هيئة وحدانية ، ليكون مصدرا للأحكام والآثار الناتجة منها . والصورة الملكية تابعة لها ، كما أن الصورة الطبيعية تابعة للمزاج الحاصل من العناصر المختلفة والكيفيات المتقابلة ، والأحكام الظاهرة عليها إنما هي بحسب ذلك المزاج . فإذا علمت هذا :
 
فاعلم أن إلياس عليه السلام ، ناسب بحسب مزاجه الروحاني مزاج الصور الملكية ، وبحسب مزاجه الجسماني مزاج الصور البشرية ، فآنس من حيث الصورة الروحانية الملائكة ، فصاحبهم بحكم الاشتراك الواقع بينهم في مراتبهم الروحانية ، وآنس من حيث الصورة الجسمانية الأناسي ، وخالطهم بحسب الاشتراك معهم في الصورة الطبيعية العنصرية ، فصار جامعا للصورتين وظاهرا بالبرزخية بين العالمين .
لذلك اختصت الحكمة ( الإيناسية ) بهذه الكلمة ( الإلياسية ) .
ولتلك الصورة الملكية الموجبة للاعتدال الحقيقي فاز بالحياة الدائمة ، كالخضر وعيسى ، عليهما السلام .
فإنهما أيضا كانا ظاهرين بالصورة الملكية ، إلا أن الخضر ، عليه السلام ، غلبت صورته الملكية على صورته البشرية ، فاختفى عن أعين الناس ولم يطرأ عليه الموت، وعيسى ، عليه السلام، ارتفع إلى السماء مع الصورة البشرية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إلياس وهو إدريس عليه السلام ، كان نبيا قبل نوح ، عليه السلام ، ورفعه الله مكانا عليا ، فهو في قلب الأفلاك ساكن ، وهو فلك الشمس . ثم ، بعث إلى قرية "بعلبك " . و "بعل" اسم صنم و " بك " هو سلطان تلك القرية . وكان هذا الصنم المسمى " بعلا " مخصوصا بالملك . وكان إلياس ، الذي هو إدريس ، قد مثل له انفلاق الجبل المسمى ( لبنان ) من ( اللبانة ) ، وهي الحاجة عن فرس من نار وجميع آلاته من نار . فلما رآه ركب عليه ، فسقطت عنه الشهوة ، فكان عقلا بلا شهوة ، فلم يبق له تعلق بما يتعلق به الأغراض النفسية.)
قد مر في ( الفص الشيثي ) أن الكامل له السراح المطلق في العوالم الملكوتية والعنصرية بحكم الظهور بالقدرة خصوصا عند الأمر الإلهي بالبعثة ودعوة الخلق إلى الله .
والحكم بأن ( إلياس ) عين ( إدريس ) ، عليه السلام ، مستفاد من الشهود للأمر على ما هو عليه ، فإنه ، رضي الله عنه ، كان يشاهد جميع أرواح الأنبياء ، عليهم السلام ، في مشاهده ، كما صرح في ( فص هود ) ، عليه السلام ، وباقي كتبه .
 
فنزوله كنزول عيسى ، عليهما السلام ، على ما أخبر عنه نبينا ، صلوات الله عليه . وإنما كان قبل نوح ، لأنه كان جده ، لأنه ابن لملك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس ، عليه السلام . ولا يتوهم أنه على سبيل التناسخ ليستدل على حقيته - كما يظن به بعض من يميل إليه - لأنه عبارة عن تعلق الروح بالبدن بعد المفارقة من بدن آخر ، من غير تخلل زمان بين التعلقين ،  للتعشق الذاتي بين الروح والجسد ، ويكون تعلقه بالبدن الجسماني دائميا.
وهذا ليس كذلك . و(انفلاق الجبل عن فرس ناري) كان في العالم المثالي .
 
فإنه شاهد فيه أن جبل لبنان وهو من جبال الشام انفلق وخرج منه فرس على هيئة نارية . ولا شك أن كل ما يتمثل في العالم المثالي بصورة من الصور هو معنى من المعاني الروحانية وحقيقة من الحقائق الغيبية .
لذلك أثرت في حيوانيته حتى سقطت عنه الشهوة وغلبت قواه الروحانية عليه ، حتى صار عقلا مجردا على صورة إنسان .
 
وقيل : إن ( الجبل ) هو جسمانيته ، وانفلاقه انفراج هيآتها وغواشيها .
و ( الفرس ) هي النفس الحيوانية . وكونها من نار غلبة حرارة الشوق واستيلاء نور القدس عليه ، وكون آلاته من نار تكامل قواه وأخلاقه . وفيه نظر .
 
لأن المتمثل له الحكم على من يتمثل له . فلو كان المتمثل بالجبل حقيقته الجسمانية ، وبالفرس حقيقته الحيوانية ، لكان حكم الحيوانية غالبا على الروحانية ، لا عكسه .
وكونها على الصورة النارية لا يخرج الحيوانية عن مقتضاها .
غايتها أن يجعل النفس منورة منقادة للروح ، ليكون مقتضاها على وجه الشرع .
 
وطريق الحل أن حملنا النارية على النورية. وإن حملناها على حقيقتها المحرقة، يكون سببا للتوغل في الشهوة والانحطاط في الدركات، لغلبة نار الشهوة على نور الروح. والله أعلم بالصواب.
 
قال رضي الله عنه : (فكان الحق فيه منزها) أي، كان الحق في المقام العقلي منزها على اسم المفعول .
(فكان) أي إلياس . (على النصف من المعرفة بالله، فإن العقل إذا تجرد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره، كانت معرفته بالله على التنزيه، لا على التشبيه.)
 
لأنه لا يدرك مدرك ما شيئا إلا بحسب ما منه فيه . كما هو مقرر في قواعد التحقيق . ومقامه تنزيه ربه ، لذلك قال الملائكة : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) . فكان على النصف من المعرفة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلي ، كملت معرفته بالله ، فنزه في موضع وشبه في موضع . )
أي ، نزه في موضع التنزيه ، تنزيها حقانيا ، وشبه في موضع التشبيه ، تشبيها عيانيا ، فيكون تنزيهه تنزيه الحق ، وتشبيهه تشبيه الحق .
(ورأى سريان الحق بالوجود في الصور الطبيعية والعنصرية ، فما بقيت له صورة إلا ويرى عين الحق عينها . ) كما هو الأمر عليه في نفسه .
( وهذه هي المعرفة التامة ) أي ، هذه المعرفة هي المعرفة التامة ( التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله ) لأن الشرائع كلها تحكم بالتشبيه والتنزيه ، ولا ينفرد بأحدهما .
 
( وحكمته بهذه المعرفة الأوهام كلها . ) لأن ( الوهم ) يلبس المعاني ، كلية كانت أو جزئية ، نوعا من الصور المتخيلة في الذهن . وهذا تشبيه في عين التنزيه ،
لأن المعاني من حيث تجردها عن المواد ، منزهة عنها وعن الصور التابعة لها . ومن حيث إنها موجودة مصورة في الذهن ، مشبهة بها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولذلك كانت الأوهام أقوى سلطانا في هذه النشأة من العقول ، لأن العاقل ولو بلغ ما بلغ في عقله ، لم يخل عن حكم الوهم عليه والقصور فيما عقل . ) 
وأي ،لأجل أن الوهم حاكم على المدركات العقلية ، بالتنزيه والتشبيه ، كانت الأوهام أقوى سلطانا في هذه النشأة العنصرية من العقول ، لأن العاقل ولو بلغ في عقله كما لا ينتهى العقول إليه ، لا يخلص عن أحكام الوهم عليه ، ولا مدركاته العقلية يتجرد عن الصور الوهمية .
 
قال رضي الله عنه :  ( فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه الصورة الكاملة الإنسانية ، وبه جاءت الشرائع المنزلة فشبهت ونزهت ، شبهت ) أي ، الشرائع .
( في التنزيه ) أي مقام التنزيه ( بالوهم ) أي ، بلسان الوهم . إذ الوهم لا يعطى إلا إدراك المعاني الجزئية في الصور الحسية ، فهو يتصور موجودا ما في الخارج ، مشخصا مفارقا عن
غيره ، منزها عن كونه جسما أو جسمانيا أو زمانيا أو مكانيا . وذلك عين التشبيه .
 
قال رضي الله عنه :  ( ونزهت في التشبيه بالعقل ) أي ، نزهت الشرائع في مقام التشبيه بلسان العقل ، إذ العقل يجرد المعاني الكلية عن الغواشي الحسية التي يثبتها الوهم . ( فارتبط الكل بالكل . ) أي ، التشبيه والتنزيه .
قال رضي الله عنه :  ( فلا يمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه ، ولا تشبيه عن تنزيه . ) وذلك لأن كلما نزهته عنه من النقائص ، فهو ثابت له عند ظهوره في المراتب الكونية وهو التشبيه .
وكلما شبهته وأثبت له من الكمالات ، فهو منفى عنه في مرتبة أحديته وهو التنزيه .
 
قال رضي الله عنه :  ( قال الله تعالى : "ليس كمثله شئ " فنزه وشبه . ) أما تنزيهه فظاهر ، لأنه نفى المماثلة على تقدير زيادة ( الكاف ) . وعلى عدم زيادته أيضا يلزم المطلوب ، لأن نفى المماثلة عن المثل ، يوجب نفى المماثلة عن نفسه بطريق الأولى .
وأما تشبيهه ، فإنه أثبت له مثلا ونفى عنه المماثلة . وإثبات المثل تشبيه .
وليس ذلك المثل إلا الإنسان المخلوق على صورته ، المتصف بكمالاته إلا الوجوب الذاتي الفارق بينهما . كما مر في ( الفص الآدمي ) .
قال الشيخ ، رضي الله عنه ، في كتاب الأسرار والصلاة : على أول مبدع كان ولا موجود ظهر هنالك ولا نجم فسماه مثلا . وقد أوجده فردا لا ينقسم في قوله : "ليس كمثله شئ " . وهو العالم الفرد العلم .
 
قال رضي الله عنه :  ( "وهو السميع البصير " فشبه . ) لأنه أثبت له ما هو ثابت لغيره . ونزه أيضا في هذا القول ، لأن تقديم الضمير يوجب حصر السمع والبصر فيه ، فنزه عن المشاركة مع الغير فيهما.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وهي أعظم آية تنزيه نزلت ، ومع ذلك لم تخل عن تشبيه ، ب‍ ( الكاف ) . فهو أعلم العلماء بنفسه ، وما عبر عن نفسه إلا بما ذكرناه . ثم ، قال : " سبحان ربك رب العزة عما يصفون " . ) أي ، عما يصفونه بحسب مبالغ عقولهم .
( وما يصفونه إلا بما تعطيه عقولهم . فنزه نفسه عن تنزيههم إذ حددوه بذلك التنزيه.) لأن التميز عن كل شئ محدود بتمايزه عنها .
( وذلك لقصور العقول عن إدراك مثل هذا.) أي ، وذلك التحديد يحصل من قصور العقول عن إدراك الحقائق الإلهية وشؤونها على ما هي عليها . وما استفادت العقول المنورة هذه المعاني أيضا إلا بإعلام الله والاطلاع على أسرار آياته ، لا بأنفسهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثم ، جاءت الشرائع كلها بما تحكم به الأوهام ، فلم تخل الحق عن صفة يظهر فيها . ) " لم تخل " من " الإخلاء " .
أي ، جاءت الشرائع كلها بمقتضى القوة الوهمية على التشبيه والتنزيه ، فلم تجعل الحق خاليا عن صفة يظهر الحق فيها وهو عين التشبيه .
 
قال رضي الله عنه :  (كذا قالت) أي الشرائع . (وبذا جاءت فعملت الأمم على ذلك) أي بمقتضى ذلك .
(فأعطاها) أي ، أعطى الحق الأمم . فأنث الضمير باعتبار تأنيث الجمع (الحق التجلي) أي ، تجلى عليهم بتلك الصفات الموجبة للتشبيه .
(فلحقت) أي الأمم . (بالرسل وراثة) أي، من جهة الوراثة . (فنطقت) أي، الأمم. (بما نطقت به رسل الله.) من التنزيه والتشبيه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (الله أعلم حيث يجعل رسالاته . ف‍ "الله أعلم " موجه : له وجه بالخبرية إلى ( رسل الله ) . وله وجه بالابتداء إلى أعلم حيث يجعل رسالاته . وكلا الوجهين حقيقة فيه . ولذلك قلنا بالتشبيه في التنزيه ، وبالتنزيه في التشبيه . ) لما جعل الأمة ملحقة بالرسل بحكم الوراثة .
 
وقال رضي الله عنه  : ( فنطقت بما نطقت به رسل الله ) - أدرج قوله تعالى : ( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله . الله أعلم حيث يجعل رسالته ) . ليبين التنزيه والتشبيه فيه .
فقوله رضي الله عنه : ( الله أعلم ، موجه ) أي ، موجه بالوجهين : الخبرية ، والابتدائية .
أما خبريته ، فلأن قوله تعالى : ( لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى ) . كلام تام ، لأن المفعول الذي أقيم فيه مقام الفاعل ضمير عائد إلى ( الرسول ) .
أي ، لن نؤمن بالآية حتى نؤتى مثل ما أوتى الرسول المبلغ إياها .
 
ف‍ ( رسل الله ) ، " الله " جملة أخرى . أي ، رسل الله هم مظاهر الله . و ( أعلم ) خبر مبتداء محذوف . أي ، هو أعلم حيث يجعل رسالاته .
والثاني ، ( الله ) مبتدأ و ( أعلم ) خبره . فهو كلام مستأنف .
والوجه الأول وإن كان فيه تعسفات كثيرة ، لكن لما كان في نفس الأمر كلاما حقا ، التزمه . ويظهر حقيته لمن يعرف سر قوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله . يد الله فوق أيديهم . ومن يطع الرسول فقد أطاع الله " . وأمثال ذلك .
 
وكلا الوجهين حقيقة فيه . أي ، حق مطابق لما في نفس الأمر ، لا مجاز ، كما زعم أهل الظاهر في آية ( المبايعة ) و ( الطاعة ) وأمثالها . وإذا كان هوية الحق عين هوية الرسول ، ( 9 ) كان التشبيه الذي في الرسل ثابتا للتنزيه الذي في هوية الحق وبالعكس .
 
وذلك معنى قوله : ( ولذلك قلنا . . . ) - إلى آخره . أي ، ولأجل أن كلا الوجهين حقيقة في هذا الكلام ، قلنا بالتشبيه في عين التنزيه ، إذ هوية الحق
المنزه هي التي ظهرت في صورة الرسل المشبهة ، والهوية الظاهرة في الصور المشبهة
هي التي كانت منزهة في المرتبة الأحدية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وبعد أن تقرر هذا ، فنرخي الستور ونسدل الحجب على عين المنتقد والمعتقد ، وإن كانا من بعض صور ما تجلى فيها الحق . ) .
أي ، وبعد أن تقرر أن التنزيه لا يخلو عن التشبيه وبالعكس ، نرخي الستور ونسدل الأغطية على عين المنتقد .
وهو المحقق الذي يعلم خلاصة المعاني والحقائق ، إما بالكشف والعيان أو بالنظر والبرهان ، وعلى عين المعتقد المؤمن بأهل الحقائق والعرفان.
(وإن كانا ) "من بعض صور ما تجلى فيها الحق"  .. أي ، المنتقد والمعتقد ، من بعض المظاهر التي تجلى الحق فيها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولكن قد أمرنا بالستر ليظهر تفاضل استعداد الصور، وإن المتجلي في صورة بحكم استعداد تلك الصورة، فينسب إليه ما تعطيه حقيقتها ولوازمها لا بد من ذلك.)
أي ، أمرنا بالستر ليظهر تفاضل استعدادات الأعيان في المظاهر ، فإن التجلي لا يقع على عين من الأعيان إلا بحسب استعداد تلك العين ، فيعلم الفاضل من المفضول ، ويتميز المراتب ( فينسب إليه ) أي ، إلى الحق المتجلي ، ما تعطيه حقيقة العين التي هي المجلى .
( ولوازمها ) أي ، حقيقة أعراضها الذاتية من اللوازم الحاصلة فيها عند المتجلي ، كما مر مرارا من أن المرايا لها أحكام لا تظهر إلا عند التجلي من الصغر والكبر والاستطالة والاستدارة ، وأمثالها .
( مثل من يرى الحق في النوم ولا ينكر هذا . ) أي ، رؤية الحق في النوم كما لا ينكر رؤيته في الآخرة ( وأنه لا شك الحق عينه ) أي ، وأن المرئي هو الحق عينه بلا شك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيتبعه لوازم تلك الصورة وحقائقها التي تجلى فيها في النوم . ثم ، بعد ذلك يعبر أي يجاز عنها إلى أمر آخر يقتضى التنزيه عقلا . فإن كان الذي يعبرها ذا كشف أو إيمان ، فلا يجوز عنها إلى تنزيه فقط ، بل يعطيها حقها من التنزيه ومما ظهرت فيه.) أي ، الهوية الإلهية فيه .
 
لما ذكر أن المتجلي إنما يتجلى بحسب استعداد المتجلي له ، وجعل منسوبا إليه ما تعطيه حقيقة المتجلي له من الصور ولوازمها ، ذكر له مثالا :
وهو أن الإنسان يرى الحق في نومه على صورة من الصور ، ولا شك أن الحق هو المتجلي في تلك الصورة لروح النائم ، فلوازم تلك الصورة من الشكل والوضع واللون كلها تلحق الحق بتبعية الصورة وهذا عين التشبيه .
ثم ، المعبر إن كان من أصحاب النظر والعقل ، يعبر عنها ويقول ، إن الحق منزه عن الصورة . فالمراد بهذه الصورة كذا وكذا ، من المعاني المناسبة للتنزيه المجردة عن الصورة .
ويلزمه التحديد بل التشبيه بما لا صورة له ، كالعقول والمعاني المجردة .
 
وهو لا يشعر يدرك المعاني الجزئية في المحسوسات وأحكامه في المعاني الجزئية أكثرها صحيحة ، ويحكم في المعقولات والمعاني الكلية بأحكام كلها فاسدة إلا ما شاء الله ، غير مناسب لما ذكره الشيخ  ) رضي الله عنه .
 
لأنه ذكر أن الوهم هو السلطان الأعظم في هذه الصورة الإنسانية وبه جاءت الشرائع المنزلة ، فهو في صدد تصويب أحكام الوهم ، تخطئته. (فالله على التحقيق عبارة لمن فهم الإشارة.)
لما نقل كلامه ، رضي الله عنه ، إلى قوله تعالى رسل الله : الله أعلم حيث يجعل رسالاته ، وذكر أن لها وجها إلى الخبرية ووجها إلى الابتدائية ، وبين التنزيه والتشبيه في المثال،
قال منتجا عما ذكره : ( فالله على التحقيق عبارة ) أي ، فلفظ ( الله ) في ( الله أعلم ) في الحقيقة عبارة عن حقيقة ظهرت في صور الرسل لمن فهم ما أشرنا إليه من جعلنا ( الله ) خبرا (الرسل) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وروح هذه الحكمة وفصها أن الأمر ينقسم إلى مؤثر ومؤثر فيه . وهما عبارتان : فالمؤثر بكل وجه وعلى كل حال وفي كل حضرة هو "الله " . والمؤثر فيه بكل وجه وعلى كل حال وفي كل حضرة هو "العالم " . ) هذا كلام مستأنف .
أي ، روح هذه الحكمة ( الإيناسية ) وخلاصتها أن الأمر الإلهي وشأنه منقسم إلى مؤثر ومؤثر فيه (وهما عبارتان) أي ، لفظا (المؤثر) و (المؤثر فيه) عبارتان بحسب الظهور في مراتب الكثرة عن الحقيقة الواحدة الظاهرة فيها ، إذ حقيقة المؤثر والمؤثر فيه واحدة .
 
قال رضي الله عنه : ( فالمؤثر بكل وجه وعلى كل حال هو "الله " ) أي ، سواء كان التأثير حاصلا من مظهر من المظاهر الكونية ، أو اسم من الأسماء الإلهية ، فإن (المؤثر) هو الذات الإلهية بحسب أسمائها وصفاتها ، لأنها علة العلل ومبدأ كل شيء في الأزل .
 
و( المؤثر فيه ) هو أعيان العالم ، لأنها محل ولايات الأسماء ومظهرها . وإنما جعل انقسام الأمر إليهما روح هذه الحكمة ، لأن بين العلة والمعلول لا بد من مناسبة رابطة بينهما ، وتلك المناسبة هي المؤانسة الثابتة بين الحق والعالم .
 
قال رضي الله عنه : ( فإذا ورد ) الوارد الإلهي ( فألحق كل شئ بأصله الذي يناسبه . ) أي ، إن كان الوارد عن الحضرة الإلهية ، كالوجود والعلم والقدرة وأمثال ذلك من الكمالات الإلهية ، فألحق إليها . وإن كان عن حضرة أعيان العالم ، كالفقر والاحتياج والإمكان وغير ذلك من النقائص الكونية ، فأسند إلى العالم .
 
قال رضي الله عنه :  ( فإن الوارد أبدا لا بد أن يكون فرعا عن أصل ) وأصل كل شئ هو الكلى الذي يناسبه جزئية المتفرع عليه ، لذلك قال : ( كما كانت المحبة الإلهية عن النوافل من العبد . )
إذ النوافل من العبد هي الكمالات التي ظهر بها العبد وأقامها ، فلا جرم استلزمت المحبة الإلهية التي هي أيضا كمال وسبب لحصول باقي الكمالات .
 
فهو كالمثال لقوله : (فإن الوارد . . . لا بد أن يكون فرعا عن أصل.) أي ، كما كانت المحبة الإلهية متفرعة عن النوافل الصادرة من العبد . لا يقال إنه مناقض لما ذكره ، إذ جعل المؤثر نوافل العبد والمتأثر المحبة الإلهية ، لأن النوافل وإن كانت ظاهرة من العبد ، لكنها في الحقيقة كمالات صادرة من الهوية الإلهية الظاهرة في الصورة العبدانية ، فلا يكون المؤثر في نفسه إلا الله .
 
قال رضي الله عنه : (فهذا أثر) أي ، هذا الحب أثر . (بين مؤثر) وهو الحق . (ومؤثر فيه.) وهو العالم .
وفي بعض النسخ : (من مؤثر ومؤثر فيه) . أي ، فهذا أثر حاصل من مؤثر ومؤثر فيه .
وعلى هذا الأثر وبواسطته ( كان الحق سمع العبد وبصره وقواه عن هذه المحبة.) أي ، المحبة الإلهية .
قال رضي الله عنه : (فهذا أثر مقرر ، لا تقدر على إنكاره لثبوته شرعا إن كنت مؤمنا.) أي ، هذا أثر من المؤثر الذي هو الله ، لأن المحبة الإلهية هي التي أوجبت أن يكون الحق سمع عبده وبصره ويده ورجله ، وغير ذلك . ولا يمكن أن ينكر المؤمن بالشريعة لهذا الأثر .
 
فالسامع لهذا المعنى لا يخلو إما أن يكون صاحب العقل السليم، أو صاحب العقل المشوب بالوهم.
والأول وهو قوله : ( وأما العقل السليم ، فهو إما صاحب تجل إلهي في مجلي طبيعي ، فيعرف ما قلناه . وإما مؤمن مسلم يؤمن به . كما ورد في الصحيح . ) "العقل السليم " هو القلب الساذج من العقائد الفاسدة ، الباقي على الفطرة الأصلية . فهو إما صاحب تجلى إلهي ، أي ، ذو كشف وعيان في هذه النشأة العنصرية والصورة الطبيعية .
 
وإما مؤمن بالرسل وأهل الكشف ، مسلم أمره إليهم منقاد بأوامرهم : فإن كان صاحب تجل ، فهو عارف بشهوده حقيقة ما قلناه من أن الأمر ينقسم إلى مؤثر ومؤثر فيه . والمؤثر في جميع الحضرات الكونية والإلهية هو الله ، والمؤثر فيه في كلها هو الأعيان ، ولا بد أن يسند كلا منهما إلى أصله .
وإن كان مؤمنا بالرسل والأولياء ، فيؤمن به كما ورد في الصحيح : (أن العبد لا يزال يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه. . .) . الحديث
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولا بد من سلطان الوهم أن يحكم على العاقل الباحث فيما جاء به الحق في هذه الصورة لأنه مؤمن بها).
المراد ب‍ ( الصورة ) الصورة التي تجلى بها الحق في النوم . أو صورة الرسل . أي، ولا بد أن يحكم الوهم بحقيقة ما أدركه وشاهده من الصورة المرئية في النوم ، أو اليقظة ، على العاقل المؤمن بالرسل ، الطالب تحقيق ما أتاه الحق من هذه الصورة المثالية ، أو الصورة الكاملة الإنسانية ، من الآيات والأخبار الدالة على تجليات الحق بالصور الحسية والمثالية .
لأن هذا العاقل مؤمن بأن تلك الصورة المرئية صورة الحق . أو بالرسل والشرائع المنزلة بالتنزيه الذي يحكم به العقل ، والتشبيه الذي يحكم به الوهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما غير المؤمن ، فيحكم على الوهم بالوهم فيتخيل بنظره الفكري أنه قد أحال على الله ما أعطاه ذلك التجلي في الرؤيا ، والوهم في ذلك لا يفارقه من حيث لا يشعر لغفلته عن نفسه.)
أي ، وأما العاقل الذي لا إيمان له بالرسل والشرائع ، وهو صاحب العقل المشوب بالوهم ، فيحكم على بطلان ما حكم به الوهم من إثبات الصور على الله بالوهم الذي هو مشوب بعقله .
لأن العقل إذا تنور بنور الكشف ، أو الإيمان ، يدرك ما هو الأمر عليه ، وعند عدم الإيمان بالشرائع لا يخلص عن حكم الوهم ، فيتخيل أن ما أعطاه التجلي في الرؤيا من الصورة مستحيل ، لما أعطاه نظره الفكري ذلك ، فأبطل حكم الوهم بتوهمه الفاسد ، وهو لا يشعر بذلك لعدم علمه بنفسه وأحكامها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ومن ذلك قوله تعالى : "أعدوني أستجب لكم ". قال الله تعالى : "وإذا سألك عبادي عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني" . إذ لا يكون مجيبا إلا إذا كان من يدعوه.)
 
أي ، ومن ذلك القبيل المذكور - وهو قوله : إن الأمر منقسم إلى مؤثر ومؤثر فيه - قوله تعالى : ( أعدوني أستجب لكم ) و ( أجيب دعوة الداع ) . لأن أمر الوجود منقسم إلى مؤثر ومتأثر : والداعي هو القابل المتأثر ، والمجيب هو الفاعل المؤثر .
وكما أن الفاعل لا يكون فاعلا إلا بالقابل ، كذلك لا يكون المجيب مجيبا إلا إذا حصل من يدعوه . وذلك إشارة إلى قوله : إن الأمر منقسم . و(كان) في قوله : (إلا إذا كان من يدعوه.) تامة .
 
قال رضي الله عنه : (وإن كان عين الداعي عين المجيب، فلا خلاف في اختلاف الصور، فهما صورتان بلا شك.)  أي ، لا شك أن الإجابة والاستجابة لا يمكن إلا بين عينين متغائرين بالحقيقة ، أو بالصورة .
فإن كان عين الداعي بعينها عين المجيب في الحقيقة ، فلا بد من اختلاف الصور ليكون أحدهما داعيا والآخر مجيبا .
فهما ، أي الداعي والمدعو صورتان بلا شك ، فوحدتهما حقيقة مستندة إلى الواحد الأحد والغنى الصمد ، وكثرتهما صورة مستندة إلى كثرة أسماء الأعيان الواقعة في حظيرة الإمكان .
 
قال رضي الله عنه : ( وتلك الصور كلها كالأعضاء لزيد.) أي ، وتلك الصور التي في المظاهر الإلهية والكونية كلها كصور الأعضاء للحقيقة الجسمية الظاهرة في شخص زيد ، إذ الحقيقة الجسمية واحدة ، وصورها الحاصلة عليها متعددة .
 
قال رضي الله عنه : (فمعلوم أن زيدا حقيقة واحدة شخصية ، وأن يده) أي ، صورة يده ( ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبه . فهو الكثير الواحد : الكثير بالصور ، الواحد بالعين وكالإنسان بالعين.) عطف على قوله : ( كالأعضاء ) .
أي الصور التي يظهر الحق فيها كثيرة مع أحدية عينه ، كتكثر صور أفراد الإنسان مع أن عين الإنسان (واحد بلا شك . ولا شك أن عمروا ما هو زيد) صورة ، ولا صفة .
 
قال رضي الله عنه : (ولا خالد ولا جعفر، وأن أشخاص هذه العين الواحدة لا يتناهى وجودا. فهو ) أي، الإنسان (وإن كان واحدا بالعين) أي ، بالحقيقة والعين الثابتة الإنسانية .
(فهو كثير بالصور والأشخاص. وقد علمت قطعا، إن كنت مؤمنا، أن الحق عينه.) (عينه) تأكيد (للحق) . أي ، الحق عينه
قال رضي الله عنه : (يتجلى يوم القيامة بصورة ، فيعرف ، ثم يتحول في صورة ، فينكر . ثم يتحول عنها في صورة ، فيعرف.) كما جاء في الحديث الصحيح .
 
قال رضي الله عنه : (وهو هو المتجلي ليس غيره في كل صورة.) أي ، والحق هو المتجلي في هذه الصور المعروفة المقبولة والمنكرة المجهولة .
قال رضي الله عنه : (ومعلوم أن هذه الصورة ما هي تلك الصورة الأخرى : وكأن) بتشديد (النون) . وفي بعض النسخ : ( فكانت ) ( العين الواحدة ) التي هي الذات الأحدية (قامت مقام المرآة) التي يظهر فيها الصور المختلفة باختلاف صور الناظرين .
 .
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:27 am

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم  

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية            الجزء الثاني

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقده في الله ، عرفه وأقر به . وإذا اتفق أن يرى فيها معتقد غيره ، أنكره . كما يرى في المرآة صورته وصورة غيره : فالمرآة عين واحدة ، والصور كثيرة في عين الرائي ، وليس في المرآة صورة منها جملة واحدة ) أي ، والحال أنه ليس في المرآة صورة أصلا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( مع كون المرآة لها أثر في الصور بوجه ، وما لها أثر في الصور بوجه . فالأثر الذي لها كونها ترد الصور متغيرة الشكل من الصغر والكبر والطول والعرض، فلها أثر في المقادير ، وذلك) الأثر (راجع إليها.) أي، إلى المرآة .


قال رضي الله عنه : ( فإنما كانت هذه التغيرات منها ) أي ، من المرآة . ( لاختلاف مقادير المرآئي . ) هذا تصريح بوجه التشبيه .
وتقريره : أن المرآة مع أنها خالية عن الصور التي يظهر فيها لها أثر في الصور الظاهرة فيها.
وذلك ردها إياها متغيرة الشكل في الصغر والكبر والطول والعرض والاستدارة وغيرها .
فكل من الرائي والمرآة مؤثر من وجه ومتأثر من آخر . فكذلك للحق أثر في الصور الظاهرة في مرآة ذاته ، وذلك بواسطة تجلياته الغيبية وشؤونه الذاتية .
ولصور العالم أثر، وهو بواسطة تفاوت أعيانهم واختلاف استعداداتهم الموجبة لاختلاف عقائدهم .
فلا بد للعارف أن يلحق الأثر الإلهي إلى حضرته ، والأثر الكوني إلى حضرته.

قال رضي الله عنه : (فانظر في المثال مرآة واحدة) أي، حال كونه مرآة واحدة (من هذه المرائي لاينظر الجماعة) أي ، بنظرك الكامل الجامع للعقائد ، لا بنظر الجماعة من المعتقدين بالاعتقادات الجزئية.

ويجوز أن تقرأ : (لا تنظر الجماعة) . بتاء الخطاب . ومعناه : فانظر في مرآة واحدة ، ولا تنظر في جماعة المرآيا التي هي الأسماء ، فإنها تفرق خاطرك وتخرجك عن الصراط المستقيم . كما قال تعالى : (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) .
قال رضي الله عنه : ( وهو نظرك من حيث كونه ذاتا. ) أي ، أنظروا لشأن نظرك في الحق من حيث كونه ذاتا واحدة غنية عن العالمين .
ويجوز أن يعود الضمير إلى مصدر ( فانظر ) . أي ، وذلك النظر شهودك إياه من حيث ذاته ، لا من حيث أسمائه .
قال رضي الله عنه : ( فهو ) أي ، الحق من حيث ذاته ( غنى عن العالمين ، ومن حيث الأسماء الإلهية فذلك الوقت يكون كالمرآتي . ) أي ، وإذا كان نظرك فيه من حيث أسمائه وصفاته ، يكون كالمرآئي المتكثرة .

والخلاصة : 
أنك إذا نظرت إلى الحقيقة الواحدة المرآتية ، لا إلى المرايا المتعددة التي هي أشخاصها بنظرك الكامل ، وجدت الحقيقة المرآتية مثالا للذات الغيبية الإلهية ، وإذا نظرت إلى المرايا المتعددة ، وجدتها أمثلة لمرآيا الأسماء المتكثرة ، فتكون عقيدة الناظر في الذات من حيث هي هي ومن حيث الأسماء والصفات ، كالهيولي بجميع العقائد ، بخلاف أصحاب العقائد الجزئية ، فإنه يقر بما يعرفه ، وينكر بما يجهله .

قال رضي الله عنه : ( فأي اسم إلهي نظرت فيه نفسك ) بتاء الخطاب ، ونصب ( نفسك ) على المفعولية . ( أو من نظر ، فإنما يظهر للناظر ) وفي بعض النسخ : ( في الناظر ) .
( حقيقة ذلك الاسم . ) أي ، أي اسم إلهي شاهدت نفسك في مرآته وأدركت صورة عقيدتك ، أو نفس من نظر فيها وعقيدته ، فإنما يتجلى لنظر الناظر حقيقة ذلك الاسم ، فتصير كالمرآة المظهرة صورة كل ناظر فيها .
أو : أي اسم إلهي نظرت بسكون ( التاء ) فيه نفسك ، أو نفس من نظر فيه ترفع ( نفسك ) على الفاعلية فإنما يظهر في الناظر حقيقة ذلك الاسم بظهور لوازمه فيه .

والأول أنسب ، لأنه جعل ( الاسم ) مرآة . وهي لا يشاهد ، وإنما يشاهد الصورة فيها . كما مر مرارا من أن عين المرآة لا ترى ، ولا يمكن أن يراها أحد .
قال رضي الله عنه : ( فهكذا هو الأمر ، إن فهمت . ) أي ، الشأن الإلهي في تجلياته وفي ظهوراته كالشأن في المرآة ، إن فهمت ما أشير إليك من أن الذات الأحدية غير مدركة ، ولا صورة فيها من حيث هي ، وهي مظهرة لجميع صور العالم ( فلا تجزع ولا تخف ) عند احتجابك عن شهود نفسك ، ولا تخف عند إقدامك بطلب شهود حقيقتك من الفناء .

قال رضي الله عنه : ( فإن الله يحب الشجاعة ) وأعلى مراتب الشجاعة هو إفناء نفسه وذاته مع صفاتها وأفعالها في عين ذات الحق وصفاته وأفعاله . وإنما كانت الشجاعة محبوبة لاستلزامه عين البقاء الأبدي وتحققه بالوجود المحض الحقاني .


قال رضي الله عنه : (ولو على قتل حية) هذا تضمين لقوله صلى الله عليه وسلم : (إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية ).
(وليست الحية سوى نفسك.) أي ، الحية التي هي عدو لك وينبغي قتلها ليست في الحقيقة إلا نفسك . كما قال ، صلى الله عليه وسلم : (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك).
(والحية حية لنفسها بالصورة والحقيقة. والشئ لا يقتل عن نفسه. وإن أفسدت الصورة في الحس ) ( لا يقتل . وإن أفسدت ) هما على البناء للمفعول .
أي ، الذات الحية حية لنفسها ، وذاتها باقية بصورتها النوعية وحقيقتها الكلية .
والشئ لا يفنى عن نفسه ولا يزال . وإن دخل الفساد فيه ، لا يدخل في حقيقته وصورته النوعية بل في صورته الحسية .


وإنما نقل الكلام في هذه الحكمة ( الإيناسية ) إلى بيان البقاء وكشف المعاد ، لأن إلياس ، عليه السلام ، كان إدريس ، فارتفع إلى السماء ، وبقى فيها وفني صورته الشخصية ، ثم عاد إلى صورته الإلياسية .
فنبه ، رضي الله عنه ، المحجوبين عن العود ، الجاهلين بالبقاء السرمدي ، بحال إدريس عليه السلام .

(فإن الحد يضبطها ، والخيال لا يزيلها.) تعليل للبقاء . والمراد ب‍ (الحد) حقيقة المحدود . إذ الحد والمحدود لا يختلفان إلا بالإجمال والتفصيل فقط .
أي ، فإن الحقيقة الثابتة في العلم ، المعبر عنها ب‍ (الحد) ، يضبط حقيقة ما أفسدت صورته عن التفرق والفناء ، والخيال الحافظ للمثال يحفظها عن الفناء ولا يزيلها .
ويجوز أن يكون المراد ب‍ (الحد) الصورة العقلية المثبتة في ألواح الكتب السماوية واللوح المحفوظ .


قال الشيخ رضي الله عنه : (وإذا كان الأمر على هذا ، فهذا هو الأمان على الذوات والعزة والمنعة . فإنك لا تقدر على إفساد الحدود ، وأي عزة أعظم من هذه العزة . ).
أي ، وإذا كان الشأن الإلهي على هذا الطريق ، بحيث لا يفنى شئ ولا ينعدم ذات أصلا بحسب الحقيقة ، فهذا هو الأمان من الله على الذوات . والعزة عين لا يقهرها بالإفناء والإعدام .
ويجعل لها منعة ، أي حرسة تحرسها وتمنعها من طريان الهلاك والفساد عليها . وهي حقائقها وصورها التي في العوالم غير الحسية .

وإذا قتلت نفسا ، فإنك لا تقدر على إفناء حقيقتها ، بل تقدر على إفناء صورتها الحسية .
وتلك الحقيقة باقية مع صورها التي لها في جميع العوالم . وإن أراد الخالق ، يعطيها أيضا صورة أخرى حسية بحيث لا تشعر ، فيجعلها موجودة مرة أخرى .

قال رضي الله عنه : (فتتخيل بالوهم إنك قتلت ، وبالعقل والوهم لم تزل الصورة موجودة في الحد.) .
أي ، فتتوهم أنك قتلت ، والقاتل في الحقيقة هو الله . والمقتول هو باق في العالم العقلي ، وصورته موجودة في العالم المثالي . وتشاهد بالعقل المنور والوهم المدرك للمعاني الجزئية أن صورتها العقلية موجودة في الحقيقة ، وما أفسدت إلا صورتها الحسية .


قال رضي الله عنه : ( والدليل على ذلك ) أي ، على أن القاتل هو الله ، لا أنت ، هو قوله تعالى :(" وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" . والعين ما أدركت إلا الصورة المحمدية التي ثبت لها الرمي في الحس، وهي) أي، الصورة المحمدية (التي نفى الله الرمي عنها أولا، ثم أثبته لها وسطا) بقوله: (إذ رميت).



قال رضي الله عنه : (ثم عاد بالاستدراك : أن الله هو الرامي في صورة محمدية. ولا بد من الإيمان بهذا.)
( فانظر إلى هذا المؤثر ) وهو الاسم ( الرامي ) كيف تنزل لإظهار فعله في المظاهر . (حتى أنزل الحق ) هذا المعنى المذكور . (في صورة محمدية. أخبر الحق نفسه.) بالنصب . أي، عن نفسه . ويجوز أن يكون بالرفع ، فيكون تأكيدا (للحق) .


قال رضي الله عنه : (عباده بذلك . فما قال أحد منا عنه ذلك ، بل هو قال عن نفسه. وخبره صدق والإيمان به واجب ، سواء أدركت علم ما قال ) ، أي ، أحطت بعقلك بسر ما قال وجعل نفسه راميا في صورة محمدية بعقلك ( أو لم تدركه . فإما عالم )
أي ، فالناس إما عالم . ( وإما مسلم مؤمن . ) بالإيمان التقليدي .


قال رضي الله عنه : (ومما يدلك على ضعف النظر العقلي من حيث فكره ، كون العقل يحكم على العلة أنها لا تكون معلولة لمن هي) أي، العلة.
قال رضي الله عنه :  (علة له. هذا حكم العقل، لإخفاء به . وما في علم التجلي إلا هذا، وهو أن العلة يكون معلولة لمن هي علة له).
أي ، فإن لم تحط بعقلك بسر ما سمعت ، فاعلم أن العقل المشوب بالوهم من حيث نظره الفكري ضعيف في إدراك الأشياء على ما هي عليه . ويدل عليه كون العقل يحكم على العلة أنها لا تكون معلولة لما هو معلول لها .

وما في علم التجلي إلا هذا ، أي التجلي الإلهي يعطى للعارف المكاشف أن العلة معلولة لمعلولها . وذلك لأن عين المعلول حال ثبوتها في العدم تطلب من عين العلة أن تجعلها موجودة معلولة لها ، كما تطلب عين العلة وجود معلولها . والطلب من الطرفين رابطة بينهما.
وأيضا ، علية العلة كمال من كمالاتها ، ولا يتم إلا بالمعلول ، فمعلولية المعلول سبب لعلية العلة . هذا إذا أخذنا وجود كل منهما مجردا عن العلية والمعلولية .
وأما إذا أخذنا هما مع الصفتين ، فلا بد من أن يتوقف كل منهما على الآخر ، كما أن معلولية المعلول لا تحصل إلا بعلية العلة بكونهما متضايفين .
وكذلك حكم جميع المتضايفين . فالعلة من حيث إنها علة معلولة لمعلولها .
وأيضا ، المكاشف يجد الكشف أن ذاتي العلة والمعلول شئ واحد ، ظهر في مرتبتين مختلفتين ، والعلية والمعلولية من المتضايفين اللذين كل منهما علة للآخر، فيحكم على العلة من حيث إمتيازها عن المعلول أنها معلولة لمعلولها .
وهو حق ، إذا لم يكن الامتياز بينهما إلا بما يقتضى التضايف ، وإلا فلا

قال رضي الله عنه : (والذي حكم به العقل صحيح مع التحرير في النظر.) وفي بعض النسخ: (مع التحرر في النظر) . أي ، إذا حرر المكاشف نظره فيما حكم به العقل ، يجد ذلك صحيحا .
لأن ذات العلة ووجودها مجردا عن العلية سابقة على وجود المعلول وذاته ، سبقا ذاتيا لا زمانيا . فلو كان وجود المعلول وذاته علة لعلته ، بطل ذلك السبق الذاتي . وأيضا ، يلزم الدور لتوقف وجود كل منهما في الخارج على وجود الآخر .
هذا إذا أخذنا وجود كل منهما مجردا عن العلية والمعلولية . وأما إذا أخذنا هما مع الصفتين فلا بد من أن يتوقف كل منهما على الآخر .
ومعنى ( التحرر ) هو أن الناظر تحرر في نظره عما يوجب التضايف ، أي، يأخذ ذات كل منهما مجردا عما يوجب التضايف .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وغايته في ذلك أن يقول : إذا رأى الأمر على خلاف ما أعطاه الدليل النظري إن العين بعد أن ثبت أنها واحدة في هذا الكثير ، فمن حيث هي علة في صورة من هذه الصور لمعلول ما ، فلا تكون معلولة لمعلولها في حال كونها علة ، بل ينتقل الحكم بانتقالها في الصور ، فتكون معلولة لمعلولها ، فتصير معلولها علة لها . هذا غايته إذا كان قد رأى الأمر على ما هو عليه ، ولم يقف مع نظره الفكري . )
أي ، وغاية العقل أنه إذا شاهد الأمر لا على ما يعطيه نظره العقلي ، بل على ما هو عليه ، كما يعطى التجلي للمكاشف ، أن يقول مصححا لما يعطى التجلي وموجها له : أن العين بعد أن ثبت وحدتها ، أي بعد تسليم أن الذات الظاهرة في هذه الصور الكثيرة واحدة ، فهي علة في صورة من الصور لمعلول ما .

ومن حيث إنها علة ليست معلولة لمعلولها ، بل من حيثية أخرى ، وهي باعتبار ظهورها في صورة المعلول أيضا ، فينتقل حكم العلية إلى الصورة المعلولية بانتقال تلك العين إليها .
أي ، بظهور تلك العين في صورة المعلول ، فيصير معلولها علة لها .
هذا غاية ما يقدر العقل عليه عند شهوده الأمر على ما هو عليه . وهو ضعيف .
لأنه لا انتقال للذات من صورة العلة إلى صورة المعلول لينتقل العلية معها .
وأنت تعلم أن الجهات المختلفة التي يعتبرها العقل والنسب التي يضيفها إلى الذات الأحدية كلها متحدة في عين الوجود مستهلكة في الذات الأحدية.
فما في الوجود إلا ذاته تعالى الظاهرة في صورة بالعلية وفي أخرى بالمعلولية .
- بل الذات حال ظهورها بالعلية ظاهرة فيها بالمعلولية لما هو معلول لها . فإنها في حالة واحدة متصفة بالضدين وجامعة للنقيضين ، إذ لا يشغلها شأن عن شأن ، فهي حال كونها باطنة ظاهرة ، وحال كونها ظاهرة باطنة ، واعتبار الجهات والمغايرة بينهما من خصائص العقل ، وأما
في الحقيقة فليس إلا الوجود المحض وتجلياته لا غير .
فلا عاقل ولا معقول ، ولا الجهات التي يفرضها العقل .


ولهذا المعنى قال أولا : ( ومما يدلك على ضعف النظر العقلي ) ونسب الضعف إليه .
قال رضي الله عنه :  (وإذا كان الأمر في العلية بهذه المثابة ، فما ظنك باتساع النظر العقلي في غير هذا المضيق ) أي ، إذا كان الأمر الإلهي وشأنه عند التجلي بهذه المثابة في العلية ، حيث يجعل المعلول علة لعلته ، فما ظنك في غير هذا المضيق من المواضع التي يكون مجال التعقل فيها واسعا ، ويجوز عليها أمورا شتى .


قال رضي الله عنه :  (فلا أعقل من الرسل ، صلوات الله عليهم) ، لأنهم يشاهدون الأمر على ما هي عليه بالتجلي الإلهي .
(وقد جاءوا بما جاءوا به في الخبر) أي ، جاءوا بما جاءوا من المعاني الغيبية في صورة الخبر المروى عنهم .

قال رضي الله عنه :  ( من الجناب الإلهي ، فأثبتوا ما أثبته العقل وزادوا فيما لا يستقل العقل بإدراكه ، وما يحيله العقل رأسا ويقر به في التجلي الإلهي. ) وإنما كانوا أعقل الخلائق وأكملهم ، لأنهم كانوا منورون بالأنوار الإلهية ، مشاهدون للحقائق على ما هي عليها ، لذلك أخبروا عن الجناب الإلهي بما لا يستقل العقل بإدراكه وما يحيل نسبته إلى الله عقلا لإعطاء التجلي ذلك وإقراره لحقيقته .

قال رضي الله عنه :  ( فإذا خلا بعد التجلي بنفسه ، حار فيما رآه . ) لأنه رجع إلى بشريته بارتفاع حكم التجلي عنه وغلب عليه عقله المانع من ذلك ، وهو لا يشك فيما رآه ، فتحصل الحيرة .

قال رضي الله عنه :  (فإن كان عبد رب ، رد العقل إليه ، وإن كان عبد نظر ، رد الحق إلى حكمه . )
أي ، فإن كان المتجلى له عبد الحق ، رد عقله إليه ، وإن كان عبد العقل ، رد الحق إلى حكم العقل ويؤوله . كما نشاهده اليوم في العلماء الظاهريين أنهم إذا سمعوا آية من الآيات ، أو خبرا من الأخبار الدالة على طور فوق العقل ، يؤولون ذلك وينزلونه إلى ما يحكم به عقولهم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا لا يكون إلا ما دام في هذه النشأة الدنياوية محجوبة عن نشأته الأخراوية في الدنيا . فإن العارفين يظهرون هنا كأنهم في الصورة الدنياوية لما يجرى عليهم من أحكامها ، والله تعالى قد حولهم في بواطنهم في النشأة الأخراوية لا بد من ذلك . فهم بالصورة مجهولون إلا لمن كشف الله عن بصيرته فأدرك . )
أي ، وهذا الرد إلى العقل لا يكون إلا ما دام المتجلى له في هذه النشأة الدنياوية محجوبا عن نشأة الأخراوية ، فإن ارتفع عنه الحجاب واطلع على ما في نشأته الأخراوية اطلاعا شهوديا ، وهو في الدنيا ، فحينئذ لا يبقى للعقل معه نزاع فيما أدرك من التجلي ، ولا يحتاج إلى الرد إلى مقامه ، ولا تحصل الحيرة .

فإن العارفين المكاشفين للحقائق بالتجليات الإلهية ظاهرون في الدنيا بالصورة ويجرى عليهم أحكام ما يتعلق بموطن الدنيا ، والله تعالى حول قلوبهم إلى النشأة الأخراوية . فهم بالصورة في الدنيا وبالباطن في الآخرة .
ولا يعرفهم إلا من كشف الله عن بصيرته الغطاء ورفع عن عينه الحجاب .
كما قال تعالى : ( أوليائي تحت قبابي ، لا يعرفهم غيري )

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما من عارف بالله من حيث التجلي الإلهي إلا وهو على النشأة الأخراوية : قد حشر في دنياه ونشر من قبره ، فهو يرى ما لا يرون ، ويشهد ما لا يشهدون ، عناية من الله ببعض عباده في ذلك . )
وإنما قال رضي الله عنه : (من حيث التجلي الإلهي) لأن العارفين لهم مراتب بحسب سيرهم في الملكوت والجبروت والمثال المقيد والمطلق .

وأدناهم صاحب العرفان العلمي المجرد . والحشر والنشر يقع لكل منهم أبدا بحسب مقامهم مع أهل ذلك الموطن الذي حصلوا فيه ، فيشاهدون أنهم حشروا فيه ونشروا من قبور أبدانهم ورفع عنهم الحجب ووضع لهم الميزان والصراط ، وحكم الحق العدل بالفصل والقضاء .
كل ذلك على سبيل الشهود ، فيروا ما لا يراه المحجوبون ويشهدوا ما لا يشهده المنغمسون في الهيئات الجسمانية والصفات الظلمانية ، عناية من الله ببعض عباده حيث عجل له ما أجل لغيره ليتدارك باقي عمره ويحصل ما به حصول الدرجات العالية ، فإن الدنيا مزرعة الآخرة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أراد العثور على هذه الحكمة الإلياسية الإدريسية الذي أنشأه الله تعالى نشأتين فكان نبيا قبل نوح، عليه السلام، ثم رفع فنزل رسولا بعد ذلك، فجمع الله له بين المنزلتين فلينزل من حكم عقله إلى شهوته، ويكون حيوانا مطلقا حتى يكشف ما تكشفه كل دابة ما عدا الثقلين، فحينئذ يعلم أنه قد تحقق بحيوانيته . )

أي ، فمن أراد أن يطلع على حكمة إلياس ، الذي كان إدريسا نبيا قبل نوح ، فرفع إلى السماء ، ثم نزل رسولا ليجمع بين النبوة والرسالة وهو المراد ب‍ ( المنزلتين ) فلينزل عن حكم عقله الذي هو السماء ، إلى محل نفسه وشهوته الذي هو الأرض ، بالنسبة إليها ليناسبه في التنزل .

قال رضي الله عنه :  ( ويكون حيوانا مطلقا ) أي ، كالحيوان الذي لا يزاحمه عقله بالتصرف في الأشياء ، بل منقادا للواردات الرحمانية من المقام الحيوانية حتى يشاهد روحانية ( إلياس ) ومقامه المختص به ، فيطلع على الحكم
الخصيصة به ، وينكشف له ما تكشفه كل دابة سوى الثقلين من الاطلاع على أحوال الموتى بالتنعيم والتعذيب وغيرهما ، وعند هذا الانكشاف يعلم أنه قد تحقق بالمقام الحيوانية .


وينبغي أن ينتقل مرة أخرى إلى المقام العقلي المجرد بالانقطاع من الشهوات الجسمانية واللذات الطبيعية ، كما سقطت شهوة إلياس ، عليه السلام ، ليصير ما أدركه عين اليقين ، ويكون متحققا وذائقا لما عاينه وشاهده .
كما أشار إليه من بعد بقوله رضي الله عنه  ( إذا تحقق بما ذكرناه ، انتقل إلى أن يكون عقلا مجردا). (وعلامته) أي ، وعلامة التحقق بهذا المقام على ما أعطانا

(علامتان: الواحدة هذا الكشف) المذكور (فيرى من يعذب في قبره ومن ينعم ، ويرى الميت حيا) بالحياة البرزخية (والصامت متكلما) بالكلمات الروحانية الملكوتية ، (والقاعد ماشيا) بالحركات المعنوية والمثالية . (والعلامة الثانية الخرس) أي، البكم.

قال رضي الله عنه :  (بحيث إنه لو أراد أن ينطق بما رآه، لم يقدر، فحينئذ يتحقق بحيوانيته.) أي ، بمقام الحيوانية ، لأن الحيوان لم يقدر أن يتكلم حسا بما يراه ، وإن كان متكلما في عالمه المثالي بروحه ومعناه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان لنا تلميذ قد حصل له هذا الكشف غير أنه لم يحفظ عليه الخرس ، فلم يتحقق بحيوانيته . ولما أقامني الله في هذا المقام ، تحققت بحيوانيتي تحققا كليا ، فكنت أرى وأريد أن أنطق بما أشاهده فلا أستطيع ، فكنت لا أفرق بيني وبين الخرس الذين لا يتكلمون).

قال رضي الله عنه :  ( فإذا تحقق بما ذكرناه ) أي ، بالمقام الحيوانية وانكشف له أسرار عالم الطبيعة وشاهد الأحوال البرزخية وعلم حقيقة ما جاء به الشريعة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( انتقل إلى أن يكون عقلا مجردا في غير مادة طبيعية ، فيشهد أمورا هي أصول لما يظهر في الصورة الطبيعية فيعلم من أين يظهر هذا الحكم في صورة الطبيعة ، علما ذوقيا. )
وإنما ينتقل إلى مقام العقل المجرد مرة أخرى بعد شهود الأمر على ما هو عليه في البرزخ ، لأنه إذا صار عقلا مجردا ، شارك العقول المجردة والأرواح المطهرة ، واطلع على عالم


الجبروت وما فيه من الأنوار القاهرة ، فحينئذ يشاهد أمورا كلية وحقائق مجردة ، هي أصول لما يظهر في عالم الطبيعة ، فيعلم ذوقا أن الأمور الكلية كيف تنزل وتصير جزئية محسوسة مصورة بالصورة الطبيعية العنصرية ، من غير تنزل روحه المجردة إلى هذه الصورة الإنسانية والمقام الحيوانية .
وبرجوعها إلى مقامها الأصلي وتحققها بالعهد الأول يعرف كيفية تنزلات الذات الإلهية من المقام قال رضي الله عنه :  ( الأحدية ) و ( الواحدية ) إلى المراتب الكونية وظهورها في جميع مراتب العوالم السفلية والعلوية ، شريفها وخسيسها ، عظيمها وحقيرها ، فيشاهد الحق في جميع مراتب الوجود شهودا حاليا ، فيفوز بالسعادة العظمى والمرتبة الكبرى .

رزقنا الله وإياكم السعادة وجعلنا ممن كمل وطهر بالعبادة .

قال رضي الله عنه :  (فإن كوشف على أن الطبيعة عين نفس الرحمن ، فقد أوتى خيرا كثيرا.) أي، فإن علم ذوقا أن الطبيعة هي التي تسمى ب‍ (النفس الرحماني) وليست مغائرة له في الحقيقة ، فقد أوتى خيرا كثيرا .
وتفسير (الطبيعة) و (النفس الرحماني) قد مر في (الفص العيسوي) ومواضع أخر مرارا ، فلا نحتاج إلى ذكرهما هاهنا .

قال رضي الله عنه :  ( وإن اقتصر معه ) أي ، مع مقام الخرس ( على ما ذكرناه ) من شهود الأمور التي هي أصول لما يظهر في الصورة الطبيعية ، ( فهذا القدر يكفيه من المعرفة الحاكمة على عقله ) أي ، النظر الفكري .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فيلحق بالعارفين، ويعرف عند ذلك ذوقا) حقيقة قوله تعالى: ("فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم".) لأنه شهد ظهور الحق في جميع مراتب الوجود وكيفية صدور الأفعال منه في المظاهر الكونية ،
فنفى القتل عنهم، وأضاف إلى الله، كما قال : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ).
( وما قتلهم إلا الحديد والضارب ، والذي خلف هذه الصور) من الهوية الإلهية .
(فبالمجموع وقع القتل والرمي) (فيشاهد الأمور) عطف على قوله : (ويعرف عند ذلك ذوقا ) . ( بأصولها ) وهي الحقائق المجردة الكونية . (وصورها) وهي الصور الطبيعية والعنصرية والمثالية الخيالية . (فيكون تاما.)

قال رضي الله عنه :  (فإن شهد النفس) بفتح (الفاء) . أي ، فإن شهد مع الحقائق المجردة النفس الرحماني. (كان مع التمام كاملا : فلا يرى إلا الله عين ما يرى.) أي، لا يرى في كل عين ما يرى إلا الله، لاغيره.
(فيرى الرائي عين المرئي. وهذا القدر كاف.) أي، في العرفان. 
(والله الموفق والهادي.)

.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالسبت مارس 14, 2020 12:26 am

23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

  الفص اللقماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية
( الإحسان ) لغة فعل ما ينبغي أن يفعل من الخير بالمال والقال والفعل والحال ،
كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب الإحسان على كل شئ ، فإذا ذبحتم ، فأحسنوا الذبحة . وإذا قتلتم ، فأحسنوا القتلة " - الحديث .
وفي ظاهر الشرع : " أن تعبد الله كأنك تراه " . كما في الحديث المشهور .
وفي باطنه : والحقيقة شهود الحق في جميع مراتب الوجودية . إذ قوله ، عليه السلام : " كأنك تراه " ، تعليم وخطاب لأهل الحجاب .
فللإحسان مراتب ثلاث :
أولها اللغوي وهو أن تحسن على كل شئ ، حتى على من أساء إليك وتعذره ، وتنظر على الموجودات بنظر الرحمة والشفقة .
وثانيها ، العبادة بحضور تام كأن العابد يشاهد ربه .
وثالثها ، شهود الرب مع كل شئ وفي كل شئ . كما قال تعالى : " ومن يسلم وجهه إلى الله ( وهو محسن ) فقد استمسك بالعروة الوثقى ". أي، مشاهد لله تعالى عند تسليم ذاته وقلبه إليه .
 
وإنما خصت الحكمة ( الإحسانية ) بالكلمة ( اللقمانية ) لأنه صاحب الحكمة بشهادة قوله تعالى : " ولقد آتينا لقمان الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا " .
فهو صاحب الخير ، والخير هو ( الإحسان ) والإحسان فعل ما ينبغي أن يفعل . و ( الحكمة ) وضع الشئ في موضعه . فهما من واد واحد .
وأيضا الحكمة يستلزم الإحسان على كل شئ ، فلذلك قارن ( الإحسان ) بكلمته .
شعر :
( إذا شاء الإله يريد رزقا  ..... له فالكون أجمعه غذاء )
( يريد ) مفعول ( شاء ) تقديره : إذا شاء أن يريد . فحذف ( أن ) ورفع الفعل .
كقول الشاعر طرفة بن العبد البكري في معلقته:
ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي)
( فإن كنت لا  تستطيع منع منيتي  ... فدعني أبادرها بما  ملكت يدي)
المعنى : يا أيها الزاجرى هل تضمن لي البقاء بزجرك إياي ومنعك لي من منازلة الأقران.
أي ، أن أحضر الوغا أو لا أحضره لن يمنع قدر موتى او يجعلني من الخالدين  .
أي ، إذا تعلقت مشيئته بأن يريد له رزقا ، فالكون بأجمعه غذاء له .
وقد تقدم أن الحق من حيث أسمائه وصفاته لا يظهر في الشهادة إلا بأعيان الأكوان ، وإن كان من حيث ذاته ، مع قطع النظر عن الظهور والبطون والأسماء والصفات ، غنيا عن العالمين .
فالأعيان غذاء له من حيث إظهارها إياه ، ومن حيث فناؤها واختفاؤها فيه ، ليظهر بوحدته الحقيقة ، كفناء الغذاء وانعدامها واختفائها في المغتذى ، وإن كان باعتبار آخر هو غذاء للأعيان . وإليه أشار بقوله :
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإن شاء الإله يريد رزقا لنا فهو الغذاء كما يشاء )
( يشاء ) يجوز أن يكون ب‍ ( النون ) للمتكلم ، وب‍ ( الياء ) للغائب .
تقديره : وإن شاء الإله أن يريد رزقا لنا ، فهو غذاؤنا كما نشاء . أو كما يشاء الحق ذلك .
لأن الغذاء هو ما يختفي في عين المغتذى ويظهر على صورته ليقوم به العين ، والهوية الإلهية هي التي تختفي في أعيان الخلائق وتصير ظاهرة بصورها مقومة لها ، فهي غذاء للأعيان .
 
ونسبة الاغتذاء والرزق إليه - مع أنه يطعم ولا يطعم - ونسبة كونه غذاء لنا بعينها كنسبة بعض الصفات الكونية إليه بقوله : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) . و ( مرضت فلم تعدني ) . وأمثال ذلك مما جاء في الشرع . وهذه النسبة أيضا من باطن الشرع ، فإن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أعطى الكتاب وأمر بإخراجه إلى الخلق ، فلا ينبغي أن يسئ أحد ظنه من المؤمنين في حق الأولياء والكاملين في أمثال هذه الأشياء .
 
ولما كانت المشيئة والإرادة يجتمعان في معنى ويفترقان في آخر ، قال : ( مشيئته إرادته فقولوا بها ) أي بالمشيئة . قد شاءها فهي المشاء ) أي ، شاء الإرادة وعينها . فالإرادة هي المشاء ، أي المراد .
ف‍ ( المشاء ) في قوله : ( فهي المشاء ) ، بفتح ( الميم ) ، اسم مفعول من ( شاء ، يشاء ) من غير القياس .
والقياس : ( مشى ) ، إذ أصله : ( مشيوء ) . نقلت ضمة ( الياء ) إلى ما قبلها ، واجتمعت ( الواو ) و ( الياء ) ، وسبقت أحدهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء وأدغمت في ( الياء ) وكسرت ما قبلها للمناسبة ، وحذفت الهمزة تخفيفا .
أو مصدر ميمي بمعنى المشيئة . فعلى هذا التقدير يكون معنى البيت : مشيئته هي عين الإرادة ، فقولوا بالمشيئة ، قد شاء الحق المشيئة المسماة بالإرادة ، فالإرادة هي المشيئة . وعلى هذا ، ضمير ( شاءها ) عائد إلى ( المشيئة ) .
وهذا أنسب من الأول ، لأنه ينافي قوله : ( مشيئة إرادته ) . والله أعلم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (يريد زيادة ويريد نقصا وليس مشاءه إلا المشاء)
 
المشاء بفتح ( الميم ) فيهما ، لأنه المصدر الميمي .
والأول خبر ( ليس ) .
والثاني اسمه . أي ، ليست مشيئه إلا مشيئته .
ومعناه : أن المشيئة بعينها هي الإرادة الذاتية من حيث الأحدية ، لأنهما ، كما ذكرنا ، في كونهما عين الذات شئ واحد .
وأما باعتبار امتيازهما من الذات ونسبتهما إليها كباقي الصفات . فهما حقيقتان متغائرتان يجتمعان ويفترقان من حيث الإلهية .
فنبه بقوله : ( مشيئته إرادته ) إلى آخر البيت ، على أنهما في كونهما عين الذات واحد في عين الأحدية .
وبقوله ( يريد زيادة ) إلى آخره ، على الفرق بينهما . هذا على المعنى الثاني في البيت
السابق .
وأما على الأول ، فيكون قوله : ( فقولوا بها قد شاءها فهي المشاء ) ، بفتح ( الميم ) ، تنبيها على أن الإرادة مترتبة على المشيئة ، كما المشيئة تترتب على العلم ، والعلم على الحياة ، فهي غيرها .
وقوله : ( يريد زيادة ) فارق آخر . وهو أن الإرادة تتعلق بالزيادة والنقصان في الجزئيات ، أي ، يريد أن يكون شئ ناقصا وآخر زائدا ، وليست المشيئة كذلك ، فإنها هي العناية الإلهية المتعلقة بالكليات لا الجزئيات .
 
فحاصل البيت الثاني : أن المتعلقات الإرادة يزيد وينقص ، بخلاف متعلقات المشيئة ، فإنها على حالها أزلا وأبدا ، لأن المشيئة متعلقة بالكليات لا بالجزئيات ، والكلي لا يوصف بالزيادة والنقصان .
ومن تتبع مواضع استعمالات ( الإرادة ) في القرآن يعلم أن الإرادة يتعلق بإيجاد المعدوم ، لا بإعدام الموجود ، بخلاف ( المشيئة ) ، فإنها متعلقه بالإيجاد والإعدام .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهذا الفرق بينهما فحقق ... ومن وجه فعينهما سواء )
"المعنى" ظاهر .
 
(قال الله تعالى : "ولقد آتينا لقمان الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا" ) .
فلقمان بالنص هو ذو الخير الكثير بشهادة الله له بذلك و ( الحكمة ) قد تكون متلفظا بها وقد تكون مسكوتا عنها . ) وذلك لأن المحل قد يقتضى إظهارها ، كالأحكام الشرعية ، وقد يقتضى سترها ، كالأسرار الإلهية التي سترها الحق عن الأغيار .
"" أضاف المحقق :
واعلم ، أن الشيخ رحمه الله ذكره للقمان في جمع الأنبياء ، والتزامه رضي الله عنه بذلك ، يدل
على أنه عليه السلام كان نبيا .
وأكثر أرباب العلم يعتقدون أن لقمان كان وليا ، لأنه أعطاه الله الحكمة .
وقيل إنه عليه السلام كان نبيا ويدل عليه قوله تعالى : "ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا " . أي لا نهاية له .
وهو عليه السلام كان عبدا حبشيا لنبي الله داود عليه السلام ، وأفاض الله عليه الحكمة . ووصوله إلى هذا المقام وهبي ، لا كسبي ، وأعطاه الله الخير الكثير من جهة استحقاقه الذاتي . ومن لا يصدق أو لا يذعن بنبوته ، لا بد أن يعترف بولايته . أهـ ""
 
فالمنطوق بها : ( مثل قول لقمان لابنه : " يا بنى إنها " أي ، أن ( القصة ) ( "إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله " . )
فهذه حكمة منطوق بها .
"" أضاف المحقق :
قوله عليه السلام : ( يا بنى إنها . . . ) هو ضمير ( القصة ) . نظير ضمير الشأن المذكور . وبه صرح العارف الجامي وغيره. وبعضهم أرجع الضمير إلى (الحبة). ولا يخفى بشاعته .""
( وهي أن جعل الله هو الآتي بها . ) أي ، جعل لقمان ، الله آتيا بتلك الحبة .
( وقرر ذلك ) الكلام . ( الله تعالى في كتابه ، ولم يرد هذا القول على قائله . )
( وأما الحكمة المسكوت عنها ، وقد علمت ) تلك الحكمة ( بقرينة الحال .)
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فكونه سكت عن المؤتى إليه بتلك الحبة ، فما ذكره ، ولا قال لابنه : يأت بها الله إليك ، ولا إلى غيرك . فأرسل الإتيان عاما )
أي ، جعل لقمان المؤتى إليه عاما ، ما عين ولا خصص بقوله : إليك ، أو إلى غيرك . كما عين الآتي وهو الله ، والمأتي به وهو الحبة .
( وجعل المؤتى به في السماوات إن كان ) أي ، إن كان ذلك فيها . ( أو في الأرض . ) إن كان فيها . ( تنبيها لينظر الناظر في قوله : " وهو الله في السماوات وفي الأرض " . )
أي ، ليتنبه الناظر من قوله : أو في السماوات أو في الأرض . وينتقل ذهنه من هذا القول إلى قوله : "وهو الله في السماوات وفي الأرض " .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنبه لقمان بما تكلم به وبما سكت عنه أن الحق عين كل معلوم . ) سواء كان ذلك المعلوم موجودا في العين ، أو لم يكن . أي ، نبه بما تكلم به على أن الحق عين كل موجود خارجي ، وبما سكت عنه على أنه عين كل معلوم علمي ، باق في الغيب غير متصف بالوجود العيني .
 
أما الأول ، فلأنه جعل الله آتيا بما في السماوات أو في الأرض ، وهو الله في السماوات والأرض ، كما قال تعالى : ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) . أي ، هويته هي الظاهرة بالألوهية والربوبية في كل ما في الجهة العلوية المسماة ب‍ ( السماوات ) أو السفلية المسماة ب‍ ( الأرض ) . فالحق عين كل ما في العلو والسفل المرتبي والمكاني .
 
وأما الثاني ، فلأن الهوية الإلهية هي التي لا تعين لها ولا تقيد .
وكل ما هو غيرها ، سواء كان موجودا عينيا أو علميا ، فهو متعين .
فعدم التعين المسكوت عنه ، إشارة إلى الهوية الإلهية التي هي غير متعينة بنفسها وتعينت بصور المعلومات العلمية .
ويجمع القسمين قوله تعالى : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم ) .
فشبه ، رضي الله عنه ، الكلام المنطوق بالكلمات الإلهية الموجودة في الخارج ، والمسكوت عنه بالحقائق الغيبية التي لا وجود لها في الخارج .
 
وقوله : ( لأن المعلوم أعم من الشئ . ) ليس دليلا على أنه نبه بالمنطوق ، أو المسكوت عنه ، على أن الحق عين كل موجود ، ولأن كون المعلوم أعم من الشئ ، أو مساويا له ، لا يدل على أن الحق عين كل معلوم بل دليل على قوله : ( فهو أنكر النكرات . ) وقع مقدما عليه .
وضمير ( فهو ) عائد إلى الحق سبحانه . أي ، إذا كان الحق سبحانه عين كل معلوم ، سواء كان موجودا في العين أو لم يكن ، والمعلوم أعم من الشئ ، والشئ أنكر من كل نكرة ، فينتج أن الحق أنكر النكرات ، لذلك لم يعلم حقيقته غيره ،
كما قال أكمل الخلائق : "ما عرفناك حق معرفتك " وإن كان باعتبار آخر أعرف المعارف .
 
وإنما جعل (المعلوم) أعم من (الشئ) بناء على قول من قال : إن المعدوم ليس بشئ، والموجود هو الشئ ، فالمعلوم أعم منه .
لأن علم الحق محيط بكل ما وجد ولم يوجد ، سواء كان ممكنا أو ممتنعا .
وأما على قول من قال : إنه شئ ، فمتساويان . وعلى تقدير التساوي أيضا يكون الحق أنكر النكرات .
( ثم ، تمم الحكمة واستوفاها ، لتكون النشأة كاملة فيها ) أي ، لتكون هذه النشأة اللقمانية كاملة في الحكمة والمعرفة بالله .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال : (إن الله لطيف). فمن لطافته ولطفه أنه في الشئ المسمى بكذا المحدود بكذا عين ذلك الشئ.)
أي ، ومن غاية لطفه صار عين الأشياء المتبائنة ، المسماة  بالأسماء المختلفة ، المحدود بالحدود الخاصة .
( حتى لا يقال فيه ) أي ، في ذلك الشئ المسمى باسم معين . ( إلا ما يدل عليه اسمه بالتواطؤ والاصطلاح . )
(اسمه) عطف بيان (ما). أي وذلك الشئ معين باسم كذا وحد كذا ، حتى لا يطلق عليه ولا يقال فيه إلا ما يدل عليه من الاسم الذي تواطؤوا عليه واصطلحوا به. ف‍ ( التواطؤ ) بمعنى التوافق .
(فيقال : هذا سماء وأرض وصخرة وشجرة وحيوان وملك ورزق وطعام . )
والحال أن ( العين واحدة من كل شئ . ) أي ، من الأشياء الموجودة المسماة بالأسامي المختلفة . ( وفيه ) أي ، في تلك العين الواحدة في كل شئ .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (كما تقول الأشاعرة إن العالم كله متماثل بالجوهر ، فهو جوهر واحد . فهو عين قولنا : العين واحدة . ) أي ، قولهم العالم كله جوهر واحد ، هو بعينه قولنا إن العالم عين واحدة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم قالت ) أي الأشاعرة . (ويختلف بالأعراض. وهو قولنا : ويختلف ويتكثر بالصور والنسب حتى يتميز . فيقال : هذا ليس هذا من حيث صورته أو عرضه أو مزاجه ( كيف شئت فقل ) وهذا عين هذا من حيث جوهره . ) أي ، قول الأشاعرة إن العالم جوهر واحد يختلف بالأعراض ، هو بعينه قولنا إن العالم عين واحدة ، ظاهرة بالصور المختلفة ومتكثرة بالأعراض المتبائنة والأمزجة المتفاوتة ،
فيقول:هذا عين هذا من حيث الجوهر والحقيقة الواحدة. وهذا غير ذلك من حيث الصورة والعرض .
 
( ولهذا يؤخذ عين الجوهر في حد كل صورة ومزاج ) أي ، ولهذا الاتحاد في الجوهرية يؤخذ عين الجوهر في تعريف كل واحد من الموجودات .
فالمراد بالصورة والمزاج ذو الصورة والمزاج ، لا العرض الذي نفهم منهما .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنقول نحن إنه ليس سوى الحق ، ويظن المتكلم أن مسمى الجوهر ، وإن كان حقا ) أي ، أمرا ثابتا . ( ما هو عين الحق الذي يطلقه أهل الكشف والتجلي . ) .
 
هو الله تعالى الخالق لكل شئ ، الرازق لكل حي . ( فهذا حكمة كونه لطيفا . )
أي ، هذا السريان في الأشياء وكونه عينها حكمة كونه تعالى لطيفا .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم نعت وقال : "خبيرا". أي ، عالما عن اختبار وهو ) أي ، العلم الاختباري هو الذي دل عليه ( قوله : "ولنبلونكم حتى نعلم" . وهذا هو علم الأذواق . ) أي ، وهذا العلم هو الذي يحصل بالذوق والوجدان للهوية الإلهية في مظاهر الكمل وأصحاب الأذواق .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (فجعل الحق نفسه مع علمه بما هو الأمر عليه مستفيدا علما . ولا نقدر على إنكار ما نص الحق عليه في حق نفسه . ففرق تعالى ما بين علم الذوق والعلم المطلق )
بقوله : ( حتى نعلم ) الذي هو من حضرة الاسم ( الخبير ) المتميز بالتقيد بالذوق عن حضرة الاسم ( العليم ) .
( فعلم الذوق مقيد بالقوى . ) إذ الذائق لا يذوق ذلك ولا يجده إلا بالقوى الروحانية ، أو الجسمانية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد قال تعالى عن نفسه ) أي ، أخبر عن نفسه ( إنه عين قوى عبده في قوله : "كنت سمعه" . وهو قوة من قوى العبد . "وبصره" وهو قوة من قوى العبد "ولسانه " وهو عضو من أعضاء العبد ، "ورجله ، ويده " . فما اقتصر في التعريف على القوى فحسب ، حتى ذكر الأعضاء ، وليس العبد بغير لهذه الأعضاء والقوى . فعين مسمى العبد هو الحق ، لا عين العبد هو السيد )
أي ، العين الواحدة التي لحقتها العبودية وصارت مسماة بالعبد هو الحق مجردة عن العبودية ، وليس عين العبد مع صفة العبودية عين السيد مع صفة السيادة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن النسب متميزة لذاتها وليس المنسوب إليه متميزا ، فإنه ليس ثمة سوى عينه في جميع النسب ، فهي عين واحدة ذات نسب وإضافات وصفات . )
أي ، فإن المراتب والصفات متمائزة لذواتها ، ولذات التي لها المراتب والصفات واحدة لا تكثر فيها أصلا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ابنه ما جاء به في هذه الآية من هذين الاسمين الإلهيين "لطيفا خبيرا " سمى بهما الله تعالى . فلو جعل ذلك في الكون وهو الوجود فقال : "كان " لكان أتم في الحكمة وأبلغ . فحكى الله تعالى قول لقمان على المعنى كما
قال : "لم يزد عليه شيئا " . ) أي ، جاء لقمان بالإسمين في قوله : "إن الله لطيف
خبير " .
وسمى الحق بهما . فلو جاء بالكلمة الوجودية وقال : وكان الله لطيفا خبيرا . لكان أتم في الحكمة وأبلغ في الدلالة ، لدلالته على أنه تعالى موصوف بهذين الصفتين في الأزل ، وهما من مقتضيات ذاته تعالى ، لكن لما ذكره كذلك ، حكى الله قوله كما قال : (ولم يزد عليه شيئا) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإن كان قوله : إن الله لطيف خبير . من قول الله . فلما علم الله تعالى من لقمان  أنه لو نطق متمما ، لتمم بهذا . ) أي ، وإن كان قوله : ( إن الله لطيف خبير ) .
قول الله ، لا قول لقمان ، كان ذلك أيضا راجعا إلى لقمان ، لأنه تعالى علم منه أنه
لو أراد أن يتمم لتمم بهذا القول .
ومما قيل عذرا من ذلك : إن لقمان لفرط شفقته وتعطفه ورأفته على ابنه قام في مقام التعليم والإرشاد والنصيحة ، مخبرا عن الواقع ، ليتمكن ويتحقق في نفس ابنه "أن الله لطيف خبير"  في الواقع ، فهو أنسب في الحكمة والله أعلم بالحق . " قاله عبد الرزاق الكاشاني "
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأما قوله : "إن تلك مثقال حبة من خردل" . لمن هي له غذاء ، وليس إلا "الذرة" المذكورة في قوله : "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " . فهي أصغر متغذ والحبة من الخردل أصغر غذاء . )
أي ، وأما الحكمة في قوله : " إن تك مثقال حبة من الخردل " . فهي بيان أصغر متغذ وأصغر غذاء ، لأنه في معرض المبالغة في أن حبة خردل من الغذاء لا يفوته الله عمن هي غذاء له .
ثم قال : "وليس إلا الذرة " أي ، وليس ذلك المتغذي إلا "الذرة" المذكورة في قوله
تعالى : "من يعمل مثقال ذرة خيرا يره " . - الآية . وهي النملة الصغيرة . فهي أصغر متغذ والحبة من الخردل أصغر غذاء .
( ولو كان ثمة أصغر ) أي ، من الذرة في المتغذي وأصغر من حبة الخردل من الغذاء .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لجاء به ، كما جاء بقوله : "إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بعوضة " ثم ، لما علم أنه ثمة ما هو أصغر من البعوضة ، قال : " فما فوقها " . يعنى في الصغر . وهذا قول الله والتي في " الزلزلة " قول الله أيضا . فاعلم ذلك . فنحن نعلم أن الله ما اقتصر على وزن الذرة وثمة ما هو أصغر منها ، فإنه جاء بذلك على المبالغة. والله أعلم. )
أي ، نحن نعلم أن الله ما اقتصر على ( الذرة ) إلا لأنه أصغر متغذ ، ولو كان ثمة أصغر متغذ منها ، لجاء به للمبالغة ، كما قال : ( فما فوقها ) . يعنى في الصغر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما تصغيره اسم ابنه ، فتصغير رحمة ، ولهذا أوصاه بما فيه سعادته إذا عمل بذلك . وأما حكمة وصيته في نهيه إياه :" ألا تشرك بالله فإن الشرك لظلم عظيم ")  
 فتنبيه لابنه ، ولكل من يسمع هذا الكلام ، على أن الشريك منتف في نفس الأمر إذ العين الواحدة الأحدية هي الظاهرة في كل من الصور ، فجعل إحدى الصورتين شريكا للأخرى إشراك للشئ مع نفسه . وهو ظلم عظيم .


"" أضاف المحقق :
"والعذر ما ذكرناه من أن لقمان لفرط شفقته وتعطفه ورأفته بابنه قام في مقام التعليم والإرشاد والنصيحة بهذه القرائن ، مخبرا عن الواقع ، إخبارا مؤكدا جازما ، ليتحقق ويتمكن في نفس ابنه مقام الإخبار عن خبرة وجود ولو قال : كان الله لطيفا خبيرا .
وهذا وإن كان كذلك ، فالمبالغة والإتمام على الوجه الأول أنسب في الحكمة . فأخبر الله تعالى عنه صورة ما جرى في الحال الواقع من غير زيادة ونقصان "أهـ  عبد الرزاق الكاشاني. ""
 
ولما ذكر أن الشرك ظلم فلا بد ممن وقع عليه الظلم قال: ( و المظلوم المقام حيث نعته بالانقسام . )
أي، المظلوم هو المحل الذي وصفه المشرك الظالم بالانقسام إلى الإثنينية ( وهو عين واحدة ) أي، والحال أن المحل القابل للصور والإضافات عين واحدة ، لا تكثر فيها ولا انقسام .
( فإنه لا يشرك معه إلا عينه . وهذا غاية الجهل . ) أي ، لأن المشرك إذا أشرك مع الحق إلها أخر ، لا بد أن يكون موجودا ، وكل ماله وجود فهو متحقق بالوجود الذي هو الحق ، فما أشرك معه إلا عينه لا غيره . وهذا عين الجهل بالحقيقة والإله .
( وسبب ذلك ) ( ذلك ) إشارة إلى قوله : ( فإنه لا يشرك معه إلا عينه . ) أي ، وسبب ذلك الإشراك :
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أن الشخص الذي لا معرفة له بالأمر على ما هو عليه ، ولا بحقيقة الشئ ، إذا اختلفت عليه الصور في العين الواحدة ، وهو لا يعرف أن ذلك الاختلاف في عين واحدة ، جعل الصورة مشاركة للأخرى في ذلك المقام فجعل لكل صورة جزءا من ذلك المقام . )
أي ، جعل العين الواحدة الحاملة للصور الوجودية منقسما ، فجعل لكل صورة جزءا منها
 "أي يقصد العين الواحدة ".
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومعلوم في الشريك أن الامر الذي يخصه . ) أي ، القسم الذي يخص الشريك (مما وقعت فيه المشاركة ليس عين القسم الآخر الذي شاركه ، إذ هو للآخر.)
 
لأن الفرض أن ذلك القسم الآخر . ( فإذا ما ثمة شريك في الحقيقة ، فإن كل واحد على حظه مما قيل فيه إن بينهما مشاركة فيه وسبب ذلك الشركة المشاعة ) أي ، وسبب ذلك القول - أي القول بوجود الشريك - هو الاشتراك في العين الواحدة الغير المنقسمة .
فقوله : ( الشركة المشاعة ) خبر للمبتدأ .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن كانت مشاعة ، فإن التصرف من أحدهما يزيل الإشاعة . ) أي ، وإن كانت العين الواحدة مشاعة ، مشتركة بين الشريكين ، أيضا تزول الإشاعة .
أي ، الشركة إذا كان أحدهما مطلق التصرف والآخر لا تصرف له ، ولا شك أن الحق تعالى مطلق التصرف في العالم ، فلا إشاعة ، فلا شركة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ". هذا روح المسألة. ) أي ، قوله تعالى : "قل ادعو الله أو ادعو الرحمن ". هو روح مسألة الشركة وحقيقتها .
وذلك لأن الشئ إنما يتحقق بروحه التي تربه ، والشركة التي يثبتها المشركون أمر وهمي ،
لا روح لها ولا حقيقة في نفس الأمر ، والشركة التي بين الاسم ( الله ) والاسم ( الرحمن ) أمر حقيقي ، لدلالة كل منهما على الذات .
وهو إنما يستفاد من هذه الآية ، فكانت الآية روح مسألة الشركة.
 
وهذا إشارة إلى ما قال الشيخ رضي الله عنه في فتوحاته في فصل الأولياء المشركين بالله : فلا تجزع من أجل الشريك الذي شقي صاحبه ، فإن ذلك ليس بمشرك حقيقة ، وأنت هو المشرك على الحقيقة ، لأنه من شأن الشركة اتحاد العين المشتركة فيها ، فيكون لكل واحد الحكم فيه على السواء ، وإلا فليس بشريك مطلق .
وهذا الشريك الذي أثبته الشقي ، لم يتوارد مع الله على أمر يقع فيه الاشتراك ، فليس بمشرك على الحقيقة ، بخلاف السعيد ، فإنه أشرك الاسم ( الرحمان ) بالاسم ( الله ) وبالأسماء كلها
في الدلالة على الذات ، وفي الجامعية للأسماء والصفات .
فهو أقوى في الشرك من هذا "الشقي" :
فإن الأول شريك من دعوى كاذبة ، وهذا أثبت شريكا بدعوى صادقة .
فغفر لهذا المشرك لصدقه ، ولم يغفر لذلك المشرك لكذبه في دعواه .
فهذا أولى  باسم ( المشرك ) من الآخر . والله هو الغفور الرحيم .


"" أضاف الجامع :
قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات الباب الثالث والسبعون في الإجابة علي السؤال الخامس والخمسون ومائة  للترمذي في المغفرة :- عن الأولياء المشركون
"ومنهم المشركون بالله قال تعالى إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ به وكذا هو لأنه لو ستر لم يشرك به وهذا الاسم الله هو الذي وقع عليه الشرك فيما يتضمنه فشاركه الاسم الرحمن
قال تعالى قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
فجعل للاسم الله شريكا في المعنى وهو الاسم الرحمن
فالمشركون هم الذين وقعوا على الشركة في الأسماء الإلهية لأنها اشتركت في الدلالة على الذات وتميزت بأعيانها بما تدل عليه من رحمة ومغفرة وانتقام وحياة وعلم وغير ذلك
وإذ كان للشرك مثل هذا الوجه فقد قرب عليك مأخذ كل صفة يمكن أن تغفر
فلا تجزع من أجل الشريك الذي شقي صاحبه فإن ذلك ليس بمشرك حقيقة
وأنت هو المشرك على الحقيقة لأنه من شأن الشركة اتحاد العين المشترك فيه
فيكون لكل واحد الحكم فيه على السواء وإلا فليس بشريك مطلق
وهذا الشريك الذي أثبته الشقي لم يتوارد مع الله على أمر يقع فيه الاشتراك فليس بمشرك على الحقيقة
بخلاف السعيد فإنه أشرك الاسم الرحمن بالاسم الله وبالأسماء كلها في الدلالة على الذات
فهو أقوى في الشرك من هذا
فإن الأول شريك دعوى كاذبة وهذا أثبت شريكا بدعوى صادقة
فغفر لهذا المشرك بصدقه فيه ولم يغفر لذلك المشرك لكذبه في دعواه
فهذا أولى باسم المشرك من الآخر.أهـ ""

والله هو الغفور الرحيم
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: 24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالسبت مارس 14, 2020 12:27 am

24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص الهاروني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم  
24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية
( الإمامة ) اسم من أسماء الخلافة ، كما قال في حق نبيه إبراهيم ، صلوات الله عليه : " إني جاعلك للناس إماما " . أي ، خليفة عليهم . وهي إما بواسطة ، أو بلا واسطة . والقسمان ثابتان في هارون ، عليه السلام ، لذلك اختصت بكلمته .
أما الأول ، فلكونه خليفة موسى ، عليه السلام ، كما قال : " اخلفني في قومي " .
وأما الثاني ، فلكونه نبيا رسولا مبعوثا من الحق إلى الخلق بالسيف ، كأخيه موسى ، فقويت نسبة الإمامة إليه ، فكان إماما مطلقا من جانب الحق ، وإماما مقيدا من جانب موسى ، عليه السلام.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم ، أن وجود هارون ، عليه السلام ، كان من حضرة " الرحموت " بقوله)
أي ، بدليل قوله : ( " ووهبنا له من رحمتنا " . يعنى لموسى " أخاه هارون نبيا " . فكانت نبوته من حضرت الرحموت . ) أي ، من حضرة ( الرحمة ) . سميت ب‍ ( الرحموت)
مبالغة ، كما يسمى عالم الملائكة ب‍ ( الملكوت ) ، وعالم المجردات ب‍ ( الجبروت ) .
وإنما كانت نبوته من الرحمة ، لأن موسى ، عليه السلام ، كان خشنا في الخلق ، صلبا في الدين ، ولم يكن فصيحا  في النطق .
فطلب من الله أخاه  هارون ، ليكون معه في الدعوة ، فيعينه بالأخلاق الحسنة ، فينجبر موسى بخلقه وفصاحته ويرغب الناس في طاعته ،
كما قال تعالى : " رب اشرح لي صدري ويسر لي  أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي  أشدد به أزرى وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا " .
فكان وجود هارون معه في الدعوة رحمة من الله وإجابة لدعوته .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه أكبر من موسى سنا وكان موسى أكبر منه نبوة . ولما كانت نبوة هارون من حضرة الرحمة ، لذلك قال لأخيه موسى : " يا بن أم " . فناداه بأمه لا بأبيه ، إذ كانت الرحمة للأم دون الأب أوفر في الحكم . ) أي ، حكم التعطف والشفقة .
( ولولا تلك الرحمة ) الذاتية في الأم ( ما صبرت على مباشرة التربية . ثم ، قال : " لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ولا تشمت بي الأعداء " . فهذا كله نفس من أنفاس الرحمة . وسبب ذلك ) أي ، الغضب والأخذ باللحية ( عدم التثبت في النظر في ما كان في يديه من الألواح التي ألقاها من يديه . فلو نظر فيها نظر تثبت ، لوجد فيها الهدى والرحمة . ) .
 
كما قال تعالى : ( "ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون ". )
( فـ‍ " الهدى " بيان ما وقع من الأمر الذي أغضبه مما هو هارون برئ منه .
والرحمة بأخيه . ) أي ، ( الهدى ) المذكور . وهو المكتوب فيها كيفية ما وقع من عمل العجل وإضلال السامري لهم وبراءة هارون منه .
و ( الرحمة ) المذكورة هي الرحمة على أخيه . فيكون الخبر محذوفا لوجود القرينة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان ) عطف على قوله ( لوجد ) . أي ، لوجد فيها الهدى والرحمة ، فكان موسى ( لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه ) أي ، على نظر قومه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( مع كبره ، وأنه أسن منه ، فكان ذلك من هارون شفقة على موسى ، لأن نبوة هارون من رحمة الله ، فلا يصدر منه إلا مثل هذا . ثم ، قال هارون لموسى : " إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل " . فتجعلني سببا في تفريقهم ، فإن عبادة العجل فرقت بينهم ، فكان منهم من عبده اتباعا للسامري وتقليدا له ، ومنهم من توقف عن عبادته حتى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك ، فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه . فكان موسى أعلم بالأمر من هارون ، لأنه علم ما عبده أصحاب العجل . ) أي ، علم موسى ما الذي عبده أصحاب العجل في الحقيقة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لعلمه بأن الله قضى ألا يعبد إلا إياه . ) كما قال : ( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ) .
( وما حكم الله بشئ إلا وقع . فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه ) أي ، كان عتب موسى أخاه هارون لأجل إنكاره عبادة العجل ، وعدم اتساع قلبه لذلك.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن العارف من يرى الحق في كل شئ بل يراه عين كل شئ . فكان موسى يربي هارون تربية علم . ) واعلم ، أن هذا الكلام وإن كان حقا من حيث الولاية والباطن ، لكن لا يصح من حيث النبوة والظاهر .
 
فإن النبي يجب عليه إنكار العبادة لأرباب الجزئية ، كما يجب عليه إرشاد الأمة إلى الحق لمطلق ، لذلك أنكر جميع الأنبياء عبادة الأصنام وإن كانت مظاهر للهوية الإلهية . فإنكار هارون عبادة العجل من حيث كونه نبيا حق ، إلا أن تكون محمولا على أن موسى ، عليه السلام ، علم الكشف أنه ذهل عن شهود الحق الظاهر في صورة العجل ، فأراد أن ينبهه على ذلك . وهو عين التربية والإرشاد منه .
وإنكاره ، عليه السلام ، على السامري وعجله على بصيرة . فإن إنكار الأنبياء والأولياء لعبادة الأصنام التي هي المظاهر ليس كإنكار المحجوبين ، فإنهم يرون الحق مع كل شئ ، بخلاف
غيرهم ، بل ذلك لتخليصهم عن التقيد بصورة خاصة ومجلى معين ، إذ فيه إنكار باقي المجالي وهو عين الضلال .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن كان أصغر منه في السن . ولذلك ) أي ، ولأجل أنه كان مربيا لهارون ، عليه السلام .
( لما قال له هارون ما قال ، رجع إلى السامري فقال له : " فما خطبك يا سامري ؟ " ) أي ، ما شأنك وما مرادك ؟ أي لذلك رجع موسى إلى السامري .
 
فقوله : ( لما قال له هارون ما قال ) جملة اعتراضية ( يعنى فيما صنعت من عدو لك إلى صورة العجل على الاختصاص ، وصنعك هذا الشيخ من حلي القوم ) وتركك الإله المطلق الذي هو إله العالمين ( حتى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم ، فإن عيسى يقول لبني إسرائيل : يا بني إسرائيل ، قلب كل إنسان حيث ماله ، فاجعلوا أموالكم في السماء ، تكن قلوبكم في السماء . ).
 
والأموال السماوية هي العلوم والمعارف والأعمال الصالحة الكاسبة للتجليات الإلهية والسعادات الأبدية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما سمى "المال" مالا إلا لكونه بالذات تميل القلوب إليه بالعبادة . فهو المقصود الأعظم المعظم في القلوب لما فيها من الافتقار إليه . ) أي، إلى المال.
( وليس للصور بقاء ، فلا بد من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه . فغلبت عليه الغيرة ، فحرقه ثم نسف رماد تلك الصورة في اليم نسفا ، وقال له : "أنظر إلى إلهك" . فسماه إلها بطريق التنبيه للتعليم . ) أي ، نبه أنه مظهر من المظاهر ومجلى من مجاليه . ( لما علم أنه بعض المجالي الإلهية "لأحرقنه" . ) أي ، قال : أنظر إلى إلهك لنحرقنه ولننسفنه في اليم نسفا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن حيوانية الإنسان لها التصرف في حيوانية الحيوان ، لكون الله سخرها للإنسان ولا سيما وأصله ) أي ، وأصل العجل ، ( ليس من حيوان ) أي ، ولا سيما في شئ أصله ليس حيوانا ، لأن العجل المعمول من الحلي ما كان حيوانا أصليا .
( فكان ) أي ، العجل . ( أعظم في التسخير ) أي ، في قبول التسخير . ( لأن غير الحيوان ماله إرادة ) حتى يحصل منه الإباءة والامتناع لما يريد الإنسان . ( بل هو بحكم من يتصرف فيه من غير إبائه . ) أي ، امتناع
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما الحيوان فهو ذو إرادة وغرض ، فقد يقع منه الإباءة في بعض التصريف : فإن كان فيه ) أي ، في الحيوان . ( قوة إظهار ذلك الإباء ، ظهر منه الجموح لما يريده منه الإنسان . وإن لم يكن له هذه القوة أو يصادف ) غرض الإنسان ( غرض الحيوان انقاد ) الحيوان .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( مذللا لما يريده منه كما ينقاد ) الإنسان ( مثله ) من الأناسي . ( لأمر فيما رفعه الله به . ) ضمير ( رفعه الله به ) عائد إلى ( مثله ) أي ، في شئ رفع الله ذلك المثل به ، كالعلم والجاه والمنصب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( من أجل المال الذي يرجوه منه المعبر عنه ) أي ، عن ذلك المال . ( في بعض الأحوال ب‍ " الأجرة " ) وانقياد الإنسان لمثله ورفع بعضه على بعض منصوص عليه
( في قوله : " رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " فما تسخر له من هو مثله إلا من حيوانيته لا من إنسانيته . ) أي ، لا يسخر الإنسان إنسانا مثله إلا بحسب حيوانيته . فالمسخر هو الإنسانية ، والمتسخر هو الحيوانية ، لا الإنسانية .
 
( فإن المثلين ضدان ) ، من حيث إنهما لا يجتمعان .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيسخره الأرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانيته ويتسخر له ذلك الآخر إما خوفا ، أو طمعا ، من حيوانيته ، لا من إنسانيته .  لما كان الإنسان لا يتسخر لمثله إلا من جهة نقصانه عنه وطمعه أن ينجبر ذلك النقصان منه - والنقائص للإنسان من جهة حيوانيته التي هي جهة بشريته ، والكمالات من جهة إنسانيته التي هي من جهة ربوبيته - أضاف التسخر إلى الحيوانية والتسخير إلى الإنسانية .
( فما تسخر له من هو مثله . ) أي ، في المرتبة .
( ألا ترى ما بين البهائم من التحريش ؟ لأنها أمثال ، فالمثلان ضدان ، ولذلك قال : " ورفع بعضكم فوق بعض درجات " . )
أي لأجل أن المتماثلين لا يسخر بعضه بعضا ، قال تعالى:"ورفع بعضكم فوق بعض درجات ". ليحصل التفاوت في المراتب ، فيحصل التسخير والتسخر بحسب المراتب والدرجات .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما هو معه في درجته ) أي ، فليس المتسخر مع المسخر في درجة واحدة ، بل
هو في مرتبة ودرجة أدنى من درجته ( فوقع التسخير من أجل الدرجات قد )   
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (والتسخير على قسمين : تسخير مراد للمسخر - اسم فاعل - قاهر في تسخيره  لهذا الشخص المسخر ، كتسخير السيد لعبده - وإن كان مثله في الإنسانية - وكتسخير  السلطان لرعاياه - وإن كانوا أمثالا له في الإنسانية - فيسخرهم بالدرجة . والقسم
الآخر تسخير بالحال . كتسخير الرعايا الملك القائم بأمرهم في الذب عنهم وحمايتهم
وقتال من عاداهم وحفظ أموالهم وأنفسهم عليهم . وهذا كله تسخير بالحال
من الرعايا ، يسخرون بذلك مليكهم ) أي ، مالكهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويسمى على الحقيقة هذا التسخير تسخير المرتبة . فالمرتبة . ) أي، فمرتبة الرعية .
( حكمت عليه بذلك . فمن الملوك من سعى لنفسه ) وما عرف أن مرتبة رعيته تسخره في ذلك.
( ومنهم من عرف الأمر : فعلم أنه بالمرتبة في تسخير رعاياه ، فعلم قدرهم وحقهم ، فآجره الله على ذلك أجرة العلماء بالأمر على ما هو عليه . ) أي ، أعطاه الله من جنس ثواب العلماء لعلمه بالمسألة .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأجر مثل هذا يكون على الله في كون الله في شؤون عباده . ) أي ، لأن الله هو القائم على شؤون عباده وقضاء حوائجهم ، فإذا قام أحد بذلك لله ، لا لغرض نفسه ، وقع أجره على الله .
( فالعالم كله مسخر بالحال ) على صيغة الفاعل . ( من لا يمكن أن يطلق عليه أنه مسخر ) على صيغة المفعول . ( قال الله تعالى : "كل يوم هو في شأن " . )
وليس ذلك إلا شؤون عباده . ولا يتوهم أن غيره يسخره تعالى عن ذلك ، بل كل ما يطلق عليه اسم الغير ، فهو من حيث الوجود والحقيقة عين الحق - كما عرفت مرارا - وإن كان من
حيث التقيد والتعين مسمى بالغير . فالحق هو المسخر لنفسه بحسب شؤونه
وتجلياته لا غيره .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل ، كما سلط موسى ، عليه السلام ، عليه حكمة من الله ظاهرة في الوجود ليعبد في كل صورة . وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك ، فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية . )
أي ، عدم تأثير هارون في منعهم عن عبادة العجل وعدم تسلطه عليهم ، كما تسلط موسى عليهم ، كان حكمة من الله ظاهرة في الوجود الكوني ، ليكون معبودا في صور الأكوان كلها . وإن كانت هذه الصور ذاهبة فانية ، كان ذهابها وفناؤها إنما هو بعد التلبس بالألوهية عند عابدها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا ) أي ، ولأجل أنه أراد أن يعبد في كل صورة . ( ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد : إما عبادة تأله ، وإما عبادة تسخير . فلا بد من ذلك لمن عقل . )
أما العبادة بالإلهية ، فكعبادة الأصنام وغير ذلك من الشمس والقمر والكواكب والعجل .
وأما العبادة بالتسخير ، فكما يعبدون الأموال وأصحاب الجاه والمناصب .
 
وإنما قال : ( فلا بد من ذلك لمن عقل ) لأن التسخير والتسخر واقع بين جميع مراتب الوجود ، ولا يقع الارتباط بين الموجودات إلا بهما ، بل بين الخلق والحق أيضا بهما ، إذ لا بد من الافتقار ، وهو يعطى التسخير والتسخر لمن يعلم الحقائق .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما عبد شئ من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد والظهور بالدرجة في قلبه ، ولذلك تسمى الحق ) أي ، سمى الحق نفسه ( لنا ب‍ "رفيع الدرجات " ، ولم يقل : رفيع الدرجة . فكثر الدرجات في عين واحدة ، فإنه قضى ألا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة ، أعطت كل درجة مجلي إلهيا عبد فيها . وأعظم مجلي عبد فيه وأعلاه " الهوى " .
كما قال : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) فهو أعظم معبود ، فإنه لا يعبد شئ إلا به ) أي ، بالهوى .
(ولا يعبد هو إلا بذاته . ) أي ، الحق في مرتبة ألوهيته لا يعبد إلا بذاته ، فإنه معبود بالذات لكل ما سواه . وأما في مراتب الصور الكونية ، فليس معبود إلا بواسطة سلطان الهوى على العابد ومحبته في قلب العابد له . فإن جميعها ممكن ليس لأحد منها الوجوب الذاتي المستعبد لغيره بذاته .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وفيه أقول :
وحق الهوى أن الهوى سبب الهوى * ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى )
قال ، رضي الله عنه ، في فتوحاته : شاهدت الهوى في بعض المكاشفات
ظاهرا بالألوهية قاعدا على عرشه ، وجميع عبدته حافين عليه واقفين عنده . وما
شاهدت معبودا في الصور الكونية أعظم منه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله ، كيف تمم في حق من عبد هواه واتخذه إلها . فقال : " وأضله الله على علم " . والضلال الحيرة ، وذلك أنه ) أي ، وذلك القول والتتميم هو أن الحق ( لما رأى هذا العابد ما عبد إلا هواه بانقياده لطاعته )
أي ، بانقياد العباد لطاعة هواه . ( فيما يأمر به من عبادة من عبده من الأشخاص )
جواب ( لما ) قوله فيما بعد : ( فأضله الله على علم ، أي حيره الله على علم ) .
ألا ترى ما أكمل علم الله حيث تمم الكلام هنا بقوله : "وأضله الله على علم " . والضلالة هي الحيرة فيما حير العابد لهواه إلا الله بظهوره وتجليه في الصور الهوائية ومراتبها .
وذلك الإضلال مبنى على علم عظيم حاصل من الله بأسرار تجلياته في تلك الصور وغاياتها . أي ، هذا الإضلال والحيرة ما كان إلا من علم عظيم من الله بمجالي الهوى وأعيان عبدته وطلب استعداداتهم ذلك ليعبد بواسطة الهوى في جميع الصور الوجودية والمراتب الكونية .
فتحير العارفين بكثرة التجليات وتنوع الظهورات ، والمحجوبين بالوقوف فيما عبدوا ، لأنهم يعرفون أن ما عبدوا ليس بإله موجد لهم ، وهو ممكن مثلهم ، ومع ذلك يجدون في بواطنهم
ميلا عظيما إليه بحيث لا يمكنهم الخلاص منه والتعدي عنه ، فيحصل الضلال والحيرة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حتى إن عبادته لله كانت عن هوى أيضا ، لأنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس هوى ، وهو الإرادة بمحبة ، ما عبد الله ولا آثره على غيره ) أي ، الهوى سلط على نفوس العابدين حتى من يعبد الله أيضا ما يعبده إلا عن هوى ، لأنه لو لم يقع في ذلك الجناب هوى من إرادة الجنة والنجاة من النار والفوز بالدرجات العالية ، ما كان يعبده . كما ذكرنا أبياتا في هذا المعنى :
عبدنا الهوى أيام جهل وإننا  ... لفي غمرة من سكرنا من شرابه
وعشنا زمانا نعبد الحق للهوى  ... من الجنة الأعلى وحسن ثوابه
فلما تجلى نوره في قلوبنا  ... عبدنا رجاء في اللقاء وخطابه
فمرجع أنواع العبودية الهوى  ... سوى من يكن عبدا لعز جنابه
ويعبده من غير شئ من الهوى  ... ولا للنوى من ناره وعقابه
 
وقوله : ( هو الإرادة بمحبة ) تفسير للهوى . أي ، الهوى هو الإرادة النفسانية مع المحبة الإلهية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم واتخذها إلها ، ما اتخذها إلا بالهوى فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه ، ثم ، رأى المعبودات تتنوع في العابدين )
( ثم ) عطف على قوله : ( إنه لما رأى هذا العابد ) . أي ، لما رأى الحق هذا العابد ، ما عبد إلا هواه ، ثم رأى المعبودات الكونية والاعتقادية متنوعة عند العابدين إياها ، أضله الله .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكل عابد أمرا ما يكفر من يعبد سواه ، والذي عنده أدنى تنبه يحار لاتحاد الهوى ، بل لأحدية الهوى ، فإنه عين واحدة في كل عابد ) لما كان الاتحاد مشعرا بالإثنينية السابقة على الاتحاد ، أضرب عنه فقال : ( بل لأحدية الهوى ) ليفيد أنه حقيقة واحدة لا تكثر فيها ، وهي عين الأحدية الإلهية . ثم ، صرح بقوله : ( فإنه عين واحدة ظاهرة في كل عابد . )
( فأضله الله ) أي ، حيره الله ( على علم  بأن كل عابد ما عبد إلا هواه ولا استعبده  إلا هواه ، سواء صادف ) هواه ( الأمر المشروع ) كالنكاح بأربع والاستمتاع بالجواري . ( أو لم يصادف . ) كتعلق الهوى بمن يملكه غيره .
 
قيل : إن قوله : ( فأضله الله ) جواب ( لما ) أدخل فيه ( الفاء ) لطول الكلام ، كما مر في أول الكتاب في قوله : ( فاقتضى الأمر جلاء ذلك ) . أي، جلاء مرآة الإنسان وصفاته جهة قابليته.
 
"" أضاف المحقق :
قال الشيخ رضي الله عنه في الفص الآدمي : ( لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها ، و إن شئت قلت أن يرى عينه، في كون جامع يحصر الأمر كله ، لكونه متصفا بالوجود، و يظهر به سره إليه: فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل و لا تجليه له .
و قد كان الحق سبحانه أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلوة.
و من شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا و يقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه، و ما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل و لا يزال. و ما بقي إلا قابل، و القابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس .
فالأمر كله منه، ابتداؤه و انتهاؤه، "و إليه يرجع الأمر كله"، كما ابتدأ منه.
فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة و روح تلك الصورة، و كانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم "بالإنسان الكبير". فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية و الحسية التي في النشأة الإنسانية .أهـ ). ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلي للحق يعبد فيه ) أي ، يعبد الحق في ذلك المجلى . فالحق هو المعبود مطلقا ، سواء كان في صورة الجمع ، أو في صورة التفصيل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي ، ولأجل أن الحق هو الذي ظهر في ذلك المجلى وعبد .
( سموه كلهم إلها مع اسمه الخاص بحجر ) أي ، أطلقوا اسم ( الإله ) عليه مع أنه يسمى بحجر ( أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك . هذا اسم الشخصية فيه ) وهذا الاسم إنما هو باعتبار تعين تلك الحقيقة الكلية بالتعينات الجنسية ، ثم النوعية ، ثم الشخصية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والألوهية مرتبة ) إلهية ( تخيل العابد له ) أي ، لمعبوده . ( أنها مرتبة معبوده الخاص . وهي على الحقيقة مجلي الحق لبصر هذا العابد الخاص المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختص ، ) أي ، ومرتبة معبوده هي على الحقيقة مجلي الحق لنظر العابد وبصره ليشاهد الحق ببعض صفاته وأسمائه في ذلك المجلى الخاص .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا قال بعض من عرف مقالة جهالة : "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " . مع تسميتهم إياهم "آلهة " ) أي ، ولأجل أنه مجلي إلهي ، قال بعض من عرف وحدة الإله ، ولم يعرف أنه مجلي من مجاليه ، قول من جهل بالأمر : "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله " . الواحد الحقيقي قربا ، ومع ذلك ما سموهم إلا "آلهة " .
وفي بعض النسخ : ( من لم يعرف ) . وهو ظاهر أو قال بعض من عرف أنه مجلي إلهي مقالة من لم يعرف . أي ، عرف وتناكر تشبها بالجهال . ونسخة ( من لم يعرف ) تؤيد الأول .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حتى قالوا : " أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا الشئ عجاب " . فما أنكروه ، بل تعجبوا من ذلك ، فإنهم وقفوا مع كثرة الصور ونسبة الألوهية لها . )
( اللام ) في ( لها ) بمعنى ( إلى ) . أي ، سموا المجالي آلهة تعجبوا وقالوا : أجعل الآلهة
وهي المجالي والمعبودات المتعددة إلها واحدا قد فما أنكروا الإله ، وإنما أنكروا وحدته
بقولهم : ( إن هذا لشئ عجاب ) . لأنهم كانوا واقفين مع المجالي المتكثرة بحسب الصورة جاعلين نسبة الألوهية إليها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فجاء الرسول ودعاهم إلى إله واحد ، يعرف ولا يشهد ) على صيغة المبنى للمفعول .
( بشهادتهم أنهم أثبتوه عندهم واعتقدوه في قولهم : " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى".) أي ، دعاهم الرسول إلى إله واحد معروف غير مشهود عندهم بشهادة أنهم أثبتوا إلها واعتقدوه ، وجعلوا الأصنام المشهورة مقربات إلى الله ، فالإله معلوم لهم ، ثابت عندهم ، غير مشهود بنظرهم ( لعلمهم بأن تلك الصور حجارة ، ولذلك قامت الحجة عليهم بقوله : "قل سموهم " فما يسمونهم إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم حقيقة . ) أي ، الأسماء الكونية ، كالحجر
والكوكب وغيرهما .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما العارفون بالأمر على ما هو عليه ) وهم الذين يعرفون وحدة الحق وظهوره في مجالي متعددة ( فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور ) أي ، ينكرون المعبودات المتعينة مع علمهم بأنها مجال الحق .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأن مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت بحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم الذي به سموا مؤمنين . )
أي ، ولأن العلم اللدني الحاصل لهم يعطيهم أن يكونوا بحكم رسولهم ونبيهم لوجوب متابعة النبي ، والنبوة ما يقتضى إلا الإنكار عليهم ، فأنكروا ذلك ، وبذلك الإنكار وبالاتباع للأنبياء سموا مؤمنين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهم عباد الوقت ) أي ، فالعارفون عباد الله بحسب الوقت ، وما يعطيه الحق بتجلي اسم ( الدهر ) في كل حين في صور أنبيائهم .
أو العابدون للأصنام هم عباد الله بحكم أوقاتهم التي يتجلى لهم الحق فيها ( مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها ) أي ، مع أن العارفين يعلمون أن العابدين للمجالي ما عبدوا الأصنام لأجل أعيانها المتكثرة المسماة بالأسماء الكونية . هذا على الأول . وعلى الثاني ، أي مع علم العابدين بأنهم ما عبدوها لأجل أعيانها ، بل لأجل أنها آلهة . والثاني أنسب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما عبدوا الله فيها بحكم سلطان التجلي الذي عرفوه منهم . ) أي ، عباد الأصنام إنما عبدوا الله في تلك المجالي بسبب تسلط سلطان التجلي الذي أدركه العابدون من المعبودين .
فقوله : ( بحكم ) متعلق ب‍ ( عبدوا الله ) . وإن جعلنا فاعل ( عرفوه ) عائدا إلى ( العارفين ) ، وضمير ( منهم ) إلى ( العابدين ) ، فمعناه : مع علمهم بحكم سلطان التجلي الذي عرفوه من العابدين أنهم ما عبدوا تلك الصور أعيانها . ف‍ ( الباء ) يتعلق ب‍ ( العلم ) .
( وجهله المنكر الذي لا علم له بما تجلى ) أي ، وجهله المؤمن المنكر الذي لا علم له بأن الحق يتجلى بالصور الكونية . ( ويستره العارف المكمل من نبي ورسول ووارث عنهم ) عطف على قوله : ( وجهله ) . وفي بعض النسخ : ( ويستره ) . أي ، العارف يعرفه ويستره .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأمرهم ) أي ، أمر العارف المكمل المحجوبين . ( بالانتزاح ) أي ، الاجتناب .
( عن تلك الصور لما انتزح عنها رسول الوقت اتباعا للرسول ، طمعا في محبة الله إياهم بقوله : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ) .
فدعا ) الرسول . "إلى إله يصمد إليه. " يحتاج ويفتقر إليه وهو لا يحتاج ولا يفتقر إلى غيره .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويعلم من حيث الجملة ) أي ، يعلم إجمالا أنه إله خالق لما سواه ، ذو الجلال والإكرام.  ( ولا يشهد ذاته ، كما قال : "لا تدركه الأبصار بل هو يدرك الأبصار" . للطفه وسريانه في أعيان الأشياء . ) تعليل للحكمين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا تدركه الأبصار كما أنها ) أي ، كما أن الأبصار . ( لا تدرك أرواحها المدبرة أشباحها وصورها الظاهرة . ) كما أنها لا تدرك الأرواح المدبرة أشباحها المثالية والصور الظاهرة الحسية .
وفي بعض النسخ : ( كما أنها لا تدركه أرواحها المدبرة ) . فضمير ( أنها ) للقصة . كقوله تعالى : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) . وفاعل ( لا تدركه ) ( الأرواح ) ، وضمير ( أرواحها ) للأبصار .
( فهو "اللطيف" ) عن إدراك البصائر والأبصار . ( الخبير ) على الضمائر والأسرار .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والخبرة ذوق ، والذوق تجل ، والتجلي في الصور . فلا بد منها ولا بد منه )  أي ، الخبرة إنما تحصل بالذوق ، والذوق بالتجلي ، والتجلي يعطى الظهور في صور المظاهر ، فلا بد من الصور التي يتجلى الحق فيها ، ولا بد من الحق المتجلي بها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا بد أن يعبده من رآه بهواه . إن فهمت . وعلى الله قصد السبيل . ) أي ، وإذا كان لا بد من المجالي والمتجلى فيها ، فلا بد من الناظر إليها والعابد لها بحكم سريان المحبة في جميع الأشياء بسريان الهوية الإلهية ، فإنه إنما يتجلى بها ليعبد في جميع المراتب الوجودية ، إن فهمت ما ذكرناه من قبل .
وعلى الله إيضاح الطريق وبيان التحقيق .
والله الهادي .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:00 pm

25 - فص حكمة علية في كلمة موسوية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم 
الجزء الأول
25 - فص حكمة علية في كلمة موسوية
إنما اختص موسى ، عليه السلام ، بالحكمة ( العلوية ) ، لقوله تعالى : ( لا تخف إنك أنت الأعلى ) . فعلى بالحق على من ادعى العلو بقوله : ( أنا ربكم الأعلى ) ولعلو مرتبته عند الله اختص بأمور : منها أنه تعالى كلمه بلا واسطة الملك .
ومنها ما جاء في الحديث الصحيح أنه تعالى كتب له التوراة بيده ، وغرس شجرة طوبى بيده ، وخلق جنة عدن بيده ، وخلق آدم بيديه .
ومنها قرب نسبته من المقام الجامعية التي اختص بها نبينا ، صلى الله عليه وسلم .
ومنها كثرة أمته . كما جاء في حديث ( العرض ) في القيامة الكبرى ومنها قوله ، عليه السلام : " لا تفضلوني على موسى : فإن الناس يصعقون ، فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطشا بقائمة العرش . فلا أدرى أجوزي بصعقة الطور ، أو كان ممن استثنى الله تعالى " . وبكمالات أخرى يظهر لمن يتأمل في قصته في القرآن .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (حكمة قتل الأبناء من أجل موسى ليعود إليه بالإمداد حياة كل من قتل من أجله . لأنه قتل على أنه موسى ، وما ثمة جهل ، فلا بد أن يعود حياته على موسى ، أعني حياة المقتول من أجله . وهي حياة ظاهرة على الفطرة، ولم يتدنسها الأغراض النفسية،
بل هي على فطرة "بلى " ، فكان موسى مجموع حياة من قتل على أنه هو ، فكل ما كان
مهيئا لذلك المقتول مما كان استعداد روحه له ، كان في موسى ، عليه السلام . )
 
اعلم أنه ، قد مر في المقدمات أن الوجود حقيقة واحدة لا تعدد فيها ولا تكثر ، وتتعدد بحسب التجليات والتعينات ، فتتكثر وتصير أرواحا وأجساما ومعاني روحانية وأعراضا جسمانية . والأرواح منها كلية ومنها جزئية .
فأرواح الأنبياء ، عليهم السلام ، أرواح كلية يشتمل كل روح منها على أرواح من يدخل في حكمه ويصير من أمته ، كما أن الأسماء الجزئية داخلة في الأسماء الكلية على ما بينا في فصل الأسماء . وإليه أشار بقوله تعالى : " إن إبراهيم كان أمة قانتا واحدة لله حنيفا " .
وإذا كان الأمر كذلك ، يجوز أن يتحد بعض الأرواح مع بعض بحيث لا يكون بينهما امتياز ، كاتحاد قطرات الأمطار وأنوار الكواكب مع نور الشمس في النهار .
 
فإذا علمت هذا ، فلنرجع إلى المقصود فنقول : الحكمة في قتل الأبناء على يد فرعون هي أن تعود أرواحهم مع الروح الموسوي ويمدونه في الغلبة على فرعون وقومه ، وكل من قتل من الأبناء على أنه موسى رجع مع الروح الموسوي ، وأعانه في هلاك فرعون ، لتحصل المجازاة والقصاص الذي لا بد منه الوجود .
 
وقوله : ( وما ثمة جهل ) معناه أن فرعون كان يقتلهم على أنهم موسى ، وما كانوا عين موسى ، ولا يقتل الشخص لغيره ، كما قال : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) .
والفاعل الحقيقي هو الحق ، وهو العليم الخبير ، لا يجهل على ما يجرى في وجوده ، ولا يفعل إلا ما ينبغي أن يفعل ، فقتل الأبناء في المادة الفرعونية على أنها موسى كان لعلمه في الأزل على أنهم يجتمعون مع الروح الموسوي في هلاك فرعون ،
فما كان الهلاك عن جهل ، بل عن علم متقن بما هو الأمر عليه ، وإن كان لا يشعر فرعون بذلك تفصيلا ، ويشعر به إجمالا ، لذلك أمر بقتلهم .
 
فاجتمعت أرواحهم واتحدت ، فظهرت بالصورة الموسوية استيفاء لحقوقهم وإعانة لربهم ومددا لنبيهم ، إذ كانوا على الفطرة الأصلية والطهارة الأزلية ، ما عملوا شيئا يجب به قتلهم .
فإذا اتحدت وظهرت في الصورة الموسوية ، ظهرت معها جميع ما كانت مهيئا لهم من الاستعدادات والكمالات المترتبة عليها .
 
( وهذا اختصاص إلهي لموسى لم يكن لأحد من قبله ) أي ، هذا الاجتماع للإمداد والاتحاد للأرواح اختصاص إلهي لأجل موسى ، عليه السلام ، ولم يكن ذلك لأحد من الأنبياء ، عليهم السلام ، قبل موسى .
 
ولما كان هذا حكمة من جملة الحكم التي خصه الله بها ، قال : ( فإن حكم موسى كثيرة . وأنا إن شاء الله تعالى أسرد منها في هذا الباب على قدر ما يقع به الأمر الإلهي في خاطري . ) أي ، عينه في قلبي للإظهار .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان هذا أول ما شوفهت به من هذا الباب . ) أي ، أول ما خوطبت به في المكاشفة من الحضرة المحمدية في هذا الفص الموسوي كان هذا المعنى المذكور ، وهو اتحاد أرواح الأبناء المقتولين وعودهم في المادة الموسوية .
فالشيخ ، رضى الله عنه ، مأمور بإظهار هذا المعنى ، والمأمور معذور .
 
قال رضي الله عنه :  (فما ولد موسى إلا وهو مجموع أرواح كثيرة) باتحاد بعضها مع بعض . ويعلم سر هذا الاتحاد من يعلم كيفية تنزل الأرواح والمعاني من الحضرة العلمية في
مراتب الجبروت والملكوت إلى أن يظهر في الصورة المشهودة من عالم الشهادة ( جمع ) على البناء للمفعول .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قوى فعالة ) وإنما قال : فعالة : ( لأن الصغير يفعل بالكبير . ) أي، في الكبير بالتصرف فيه. (ألا ترى أن الطفل يفعل في الكبير بالخاصية فينزل الكبير من رياسته إليه فيلاعبه) الكبير . ( ويزقزق له ) أي ، يتكلم بلسانه .
( ويظهر له بعقله ) أي ، ينزل إلى مبلغ عقله . ( فهو تحت تسخيره ، وهو لا يشعر ) أي، الكبير تحت تسخير الطفل ولا يشعر أنه يسخره أو الطفل لا يشعر أنه يسخره (ثم ، يشغله) أي ، الطفل يشغل الكبير .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بتربيته وحمايته وتفقد مصالحه وتأنيسه حتى لا يضيق صدره . هذا كله من فعل الصغير بالكبير . وذلك لقوة المقام : فإن الصغير حديث عهد بربه ، لأنه حديث التكوين ، والكبير أبعد ، فمن كان من الله أقرب، يسخر من كان من الله أبعد.)
لطهارة نفسه ونسبته إلى منبع القوى والقدر ، ولهذا كانت الأرواح المجردة فعالة في النفوس الناطقة ، وهي في النفوس المنطبعة ، وهي في الأجسام .
( كخواص الملك المقرب منه يسخرون الأبعدين ) كذلك تصرف الكمل من الأنبياء والأولياء في غيرهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (كان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يبرز بنفسه للمطر إذا نزل ، ويكشف رأسه له ) أي ، للمطر ( حتى يصيب منه ، ويقول : إنه حديث عهد بربه . فانظر إلى هذه المعرفة بالله من هذا النبي ما أجلها وما أعلاها وأوضحها . فقد سخر المطر أفضل البشر لقربه من ربه قد فكان مثل الرسول الذي ينزل إليه بالوحي . )
أي ، كان المطر بالنسبة إليه مثل الملك الذي أرسل إليه بالوحي . فإن الكمل يجدون في جميع ما يدركونه بالحواس الظاهرة معاني نزلت إليهم من الحضرة الإلهية في صور المحسوسات وخصوصا المطر ، فإنه صورة العلم النازل من الحضرة والبروز إليه .
هو إشارة إلى تلقى الروح الكامل إلى ما يفيض عليه . و ( كشف الرأس ) إشارة إلى رفعه الموانع عن ظهور الحقائق والعلوم ، وإلى أن محل ظهور المعاني الكلية والجزئية الدماغ ، كما أن محل حصول الوجدانيات هو القلب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فدعاه بالحال بذاته ) أي ، دعا المطر الرسول بلسان الحال وذاته . ( فبرز إليه ليصيب منه ما أتاه به من ربه . ) أي ، فبرز رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إلى المطر ليصيب منه ما أتى المطر به من حضرة ربه من المعاني والأسرار ، كالحياة والعلم والرزق وغير ذلك .
 
وعدى (أتى) بنفسه، كما قال تعالى : (هل أتيك حديث الغاشية) . وب‍ (الباء) كما يقال : أتيت زيدا بفلان .
و(من ربه) متعلق ب‍ (أتى) . كما يقال : أتيتك بزيد من البصرة . وليس بيانا ل‍ ( ما ) .
( فلولا ، ما حصلت له منه الفائدة الإلهية بما أصاب منه ما برز بنفسه إليه . )
( الفائدة ) عطف بيان ( ما ) . أي ، فلولا الفائدة الإلهية التي حصلت له من المطر بواسطة ما أصاب إليه من المطر ، ما برز الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، إليه بنفسه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهذه رسالة ماء ، جعل الله تعالى منه كل شئ حي . فافهم . ) لما كان الماء أصل الأشياء ومظهرا للحياة وحاملا للأسرار الإلهية التي هي فيه بالقوة ، جعله رسولا ونبه على كونه أصل كل شئ حي . فافهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما حكمة إلقائه في التابوت ورميه في اليم : فالتابوت ناسوته ) أي ، التابوت إشارة إلى ناسوته .
( واليم ) إشارة إلى ( ما حصل له من العلم بوساطة هذا الجسم مما أعطته القوة النظرية الفكرية والقوى الحسية والخيالية التي لا يكون شئ منها ) أي ، من تلك القوى .
( ولا من أمثالها لهذه النفس الإنسانية إلا بوجود هذا الجسم العنصري . ) لأن كل واحدة منها حقيقة برأسها ، كالنفس الإنسانية نزلت لخدمتها في هذه النشأة العنصرية وسجدت لها وانقادت بأمر ربها.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :   (فلما حصلت النفس في هذا الجسم وأمرت بالتصرف فيه وتدبيره ، جعل الله لها هذه القوى آلات يتوصل بها إلى ما أراده الله منها ) أي ، من النفس .
( في تدبير هذا التابوت الذي فيه سكينة الرب . ) وإنما كانت السكينة فيه ، لأن الأمور الكلية
والمعاني الحقيقة لا تزال تتحرك بالمحبة الذاتية إلى أن تصل إلى الحضرة الشهادية وتدخل تحت الاسم ( الظاهر ) ، فيجد السالك فيها المعاني بصورها ويسكن إليها .
 
لذلك كانت المحسوسات أجلى البديهيات . فاليقين والعلم الذوقي والإيمان الغيبي والتجلي الشهودي لا يحصل إلا في هذه الحضرة وبواسطتها ، لذلك صارت الدنيا مزرعة الآخرة فصارت سكينة الرب (فرمى به في اليم ليحصل بالقوى) المذكورة (على فنون العلم.) أي ، ليكون بها مستعليا على أنواع العلوم الحاصلة بالحواس الظاهرة والباطنة .
يقال : حصل فلان على عرشه . إذا استعلى عليه .
( فأعلمه ) أي ، الحق. ( بذلك ) أي ، بذلك الرمي موسى بوضعه في التابوت وإلقائه في اليم ( أنه ) أي، الشأن . (وإن كان الروح المدبر له هو الملك ، فإنه لا يدبره إلا به.) أي ، فإن الروح المدبر له لا يدبره إلا بواسطة هذا  التابوت .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فأصحبه هذه القوى الكائنة في هذا الناسوت الذي عبر عنه ب‍ ( التابوت ) في باب الإشارات والحكم.) على صيغة الجمع .
أي ، جعل الله الروح مصاحبا لهذه القوى الحالة في البدن الذي عبر الحق سبحانه عنه ب‍ (التابوت) في باب الإشارة ، أي ، هذا المقول ثابت في باب الإشارة الربانية والحكم الإلهية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (كذلك تدبير الحق العالم : فإنه ما دبره إلا به. أو بصورته.) أي ، بالعالم . إذ لولا الأعيان القابلة للتدبير ، ما كان التدبير ، ومن تدبير الحق العالم بالعالم ، جعل بعضها متوقفا على البعض كتوقف المسببات على أسبابها .
 
والمراد بقوله : ( أو بصورته ) الأعيان الثابتة التي هي الصور العلمية للعالم ، كما فسره من بعد وجعل الأعيان عين الأسماء الحسنى . ولولا تفسيره ، رضي الله عنه ، قوله : ( أو بصورته ) بما ذكر ، لفسرناه بالإنسان الكامل . فإنه على صورة الحق وصورة العالم . وكان حسنا .
 
فشبه تدبير الحق للعالم بتدبير الروح للبدن ، فكما أن الروح يدبر بدنه بعين البدن - إذ لولا الأعضاء البدنية وقواها ما كان يحصل التدبير كذلك الحق روح العالم يدبر العالم بعين العالم  وكما أن الروح يدبر لبدنه بقواه ، كذلك الحق يدبر العالم بأسمائه وصفاته . فنسبة الحق إلى العالم ونسبة العالم إليه كنسبة الروح إلى البدن ونسبة البدن إلى الروح .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فما دبره إلا به) أي ، ما دبر الحق العالم إلا بالعالم . (كتوقف الولد على إيجاد الوالد ، المسببات على أسبابها والمشروطات على شروطها والمعلولات على عللها والمدلولات على أدلتها والمحققات ) على صيغة المفعول ( على حقائقها . وكل ذلك من العالم . ) أي ، جعل بعضها واسطة في تدبير البعض الآخر وسببا .
 
( وهو تدبير الحق فيه ، فما دبره إلا به ) وضمير ( هو ) عائد إلى ( التوقف ) . أي ، جعله
بعض العالم موقوفا على البعض ، تدبير من الحق في العالم ، فما دبر الحق العالم إلا
بالعالم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما قولنا : "أو بصورته" أعني صورة العالم فأعني به ) أي ، بقولنا صورة العالم .
( الأسماء الحسنى والصفات العلى التي تسمى الحق بها واتصف بها ) أطلق الأسماء على الأعيان التي هي صور الأسماء في العلم ، وهي النسب المعنوية ، كما مر مرارا .
فالحق يفيض المعاني على الأعيان القابلة لها بواسطة أسمائه وصفاته
التي هي النسب العقلية ، ويدبر بواسطة الأعيان العلمية الأرواح الخارجية ، وبواسطتها النفوس المنطبعة ، وبها الأبدان الشخصية .
فالأعيان أرواح للأرواح ، وهي لها كالأبدان للأرواح . كما مر في المقدمات . فتظهر ربوبية الرب في جميع مراتب الوجود ، فما دبر العالم إلا بالعالم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فما وصل إلينا من اسم تسمى به وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في العالم . فما دبر العالم أيضا إلا بصورة العالم . ) معنى ( الاسم ) وروحه الصفة التي هي المميزة له عن غيره . وجميع الصفات التي هي أرواح الأسماء الواصلة إلينا ، من الحياة والعلم والإرادة والقدرة وغير ذلك ، حاصلة في العالم ، ثابتة له ، والأسماء والصفات من حيث تكثرها وامتيازها عن الذات الأحدية ملحقة بالعالم ، فصح أنه تعالى ما دبر العالم إلا بالعالم .
 
( ولذلك ) أي ، ولأجل أنه تعالى دبر العالم بالعالم ، جعل آدم خليفة على العالم ودبر العالم به . ( قال في حق آدم الذي هو البرنامج ) ( البرنامج ) فارسي معرب أصله : ( البرنامه ) . و ( بر ) بالفارسية هو ( الصدر ) . أي ، صدر المكتوب .
والمراد به ( الأنموذج ) وهو أيضا معرب ( نمودار ) بالفارسية ( الجامع لنعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال "إن الله خلق آدم على صورته " .
وليست صورته ) أي ، صورة الحق ( سوى الحضرة الإلهية ) وهي حضرة الأسماء
والصفات .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأوجد في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية ) التي هي النسب الذاتية ( وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المنفصل ، وجعله روحا للعالم ، فسخر له العلو والسفل لكمال الصورة . ) التي خلقه الله عليها .
 
وإنما قال رضي الله عنه  : ( وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير ) لأن جميع ما في العالم ليست موجودة في الإنسان بحسب صورها ، بل بحسب حقائقها وأعيانها التي هي بها هي .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكما أنه ليس شئ في العالم إلا وهو يسبح الله بحمده ، كذلك ليس شئ في العالم إلا وهو مسخر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته . )
إنما شبه تسخر العالم للإنسان بتسبيحه وتحميده للحق ، لأن تسخره للإنسان عبادة منه له ، وتلك العبادة يستلزم التنزيه والتحميد ، لأنه بعبادته للإنسان يوصل الهوية الإلهية الظاهرة في الصورة الإنسانية إلى الكمال الحقيقي والمقام الجمعي الإلهي ، وهو عين التنزيه من النقائص والاتصاف بالمحامد .
 
فكأنه قال : فكما أنه يسبح للحق سبحانه ، كذلك هو يسبح الخليفة الذي هو الإنسان .
وفي الحقيقة تنزيهه للإنسان وتسبيحه له ، أيضا تنزيه للحق وتسبيح له . ولا يعطى هذا التسخير إلا حقيقة الصورة الإنسانية ، لأن لها مقام الجمع الإلهي ، وجميع الأسماء سدنة ربه الذي
هو الاسم الأعظم ، فمظاهرها أيضا مسخرة له .
 
ثم استشهد بالآية تأنيسا للمحجوبين وتنبيها للطالبين : ( فقال : " وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه" ) .
فكل ما في العالم تحت تسخير الإنسان ، علم ذلك من علمه - وهو الإنسان الكامل - ) إذ هو الذي يعلمه بالكشف والعيان والذوق والوجدان ( وجهل ذلك من جهله ، وهو الإنسان ) صورة ( الحيوان ) معنى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكانت صورة إلقاء موسى في التابوت ، وإلقاء التابوت في اليم ، صورة هلاك في الظاهر ، وفي الباطن كانت نجاة له من القتل . ) إذ كان خلاصه من فرعون بذلك .
 
( فحيى ) موسى بالإلقاء في اليم ، ( كما تحيى النفوس بالعلم من موت الجهل . ) إنما شبه الحياة الحسية الموسوية الباقية بواسطة اليم بالحياة العقلية الحاصلة بالعلم تنبيها على أن الماء صورة العلم الذي به حياة النفوس ، كما أن حياة الأبدان بالماء الذي منه كل شئ حي .
 
ثم ، استشهد بالآية وفسرها بمقتضى الباطن
بقوله رضي الله عنه  : ( كما قال تعالى : "أو من كان ميتا" . يعنى بالجهل. " فأحييناه" يعنى بالعلم. "وجعلنا له نورا يمشى به في الناس" وهو الهدى. "كمن مثله في الظلمات" وهي الضلال. "ليس بخارج منها " أي لا يهتدى أبدا .) أي العالم بالحقائق لا يكون كالجاهل بها .
 
ثم علل قوله رضي الله عنه   : (لا يهتدى أبدا) بقوله : (فإن الأمر في نفسه لا غاية له يوقف عندها.) أي، فإن الأمر الإلهي لا نهاية له ليقف عنده. أي، الذي في الظلمات لا يخلص من الضلال ولا يهتدى أبدا. أي ، الضال الحائر من الجهالة لا يحصل له العلم بالحقيقة .
 
ولما فسر (الضلال) في مواضع من قبل ب‍ (الحيرة) والحيرة قد تحصل من العلم ، كما يحصل من الجهل ، فيقع الضلال أيضا للعالم ، كما يقع للجاهل أراد أن يفرق بينهما
 
فقال رضي الله عنه  : ( فالهدى هو أن يهتدى الإنسان إلى الحيرة ، فيعلم أن الأمر حيرة ) وإنما جعل الاهتداء إلى الحيرة عين الهداية ، لأن الحيرة الحاصلة من الهداية والعلم إنما يحصل من شهود وجود التجليات المتكثرة المحيرة للعقول والأوهام وظهور الأنوار الحقيقة العاجزة عن إدراكها البصائر والأفهام ، وذلك عين الهداية .
 
لذلك قال أكمل البشر "رب زدني فيك تحيرا" . أي هداية وعلما .
فإن وجود اللازم يستلزم وجود الملزوم . بخلاف الحيرة الحاصلة من الجهل ، فإنها الحيرة المذمومة .
لذلك جعل الضلال الموجب للحيرة المذمومة في مقابلة الهدى الموجبة للحيرة المحمودة (والحيرة قلق وحركة) أي ، تعطى القلق والاضطراب (والحركة حياة) . أي، يستلزم الحياة . لأن الحركة لا تحصل إلا من الحي .
(فلا سكون، فلا موت) أي، فإذا كانت الحركة حاصلة دائما ، فلا سكون لمن يتحرك ، وإذا لم يكن له السكون ، فلا موت له ، لأن السكون من لوازم الموت . ألا ترى أن سكون النبض كيف يصير علامة للموت .
(ووجود، فلا عدم) عطف على قوله : (حياة) . أي، الحركة حياة ووجود. وإذا كانت الحركة مستلزمة للوجود ، فلا عدم ، لأنهما لا يجتمعان في محل واحد . والحاصل أن الهداية تعطى البقاء الأبدي .
 
قال رضي الله عنه :  (وكذلك في الماء الذي به حياة الأرض) أي، كما أن الحياة العلمية تعطى الهداية والسير في الناس فتؤدى إلى البقاء الأبدي ، كذلك الأمر في الماء الطبيعي الذي به حياة الأرض ، وهي البدن (وحركتها قوله : "واهتزت") أي ،
 
فالإشارة إلى حركتها، أي إلى حركة الأرض التي هي البدن الإنساني، قوله : ( فاهتزت ) في قوله تعالى : ( وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ) .
 
قال رضي الله عنه :  (وحملها قوله : "وربت ".) أي، الإشارة إلى حملها، أي حمل الأرض التي هي البدن ، قوله: ( وربت ) . أي ازدادت .
 
قال رضي الله عنه :  (وولادتها) أي، والإشارة إلى ولادة الأرض المذكورة. (قوله:"وأنبتت من كل زوج بهيج " . أي ، أنها ) أي ، أن الأرض ( ما ولدت إلا من يشبهها ، أي طبيعيا مثلها . فكانت الزوجية التي هي الشفعية لها ) أي ، الأرض البدن .
 
قال رضي الله عنه :  (بما تولد منها وظهر عنها.) أي ، كما حصلت الزوجية التي هي المسماة ب‍ (الشفعية) بواسطة ما تولد منها وظهر عنها (كذلك وجود الحق كانت الكثرة له ، وتعداد الأسماء أنه كذا وكذا بما ظهر عنه من العالم الذي يطلب بنشأته حقائق الأسماء الإلهية.)
أي ، كذلك الكثرة حصلت لوجود الحق بواسطة ما ظهر منه من وجود العالم ، لأنه يطلب بحقيقته ونشأته المرتبية حقائق الأسماء الإلهية ، وهي الأرباب المتكثرة .
(فثبت به وبخالقه أحدية الكثرة.) أي ، فثبت بالعالم والحق الذي هو خالقه ، أي بهذا المجموع ، أحدية الكثرة .
 
كما مر في (الفص الإسماعيلي) أن مسمى الله أحدي بالذات كل بالأسماء والصفات .
وصحف بعض الشارحين قوله : (وبخالقه) وقرأ (يخالفه) من (الخلاف) . وهو خطأ
 
قال رضي الله عنه :  ( وقد كان أحدي العين من حيث ذاته ، كالجوهر الهيولاني أحدي العين من حيث ذاته ، كثير بالصور الظاهرة فيه الذي هو حامل لها بذاته . ) أي ، وقد كان الخالق أحدي العين من حيث ذاته ، كثيرا من حيث أسمائه وصفاته ، كما أن الجوهر الهيولاني الحامل لصور  الأشياء كلها أحدي بالذات ، كثير بالصور الظاهرة فيه.
 
( كذلك الحق بما ظهر منه من صور التجلي . ) أي ، كذلك الحق أحدي من حيث ذاته ، كثير بسبب ما ظهر منه من صور تجلياته التي هي الأسماء والصفات .
 
قال رضي الله عنه :  ( فكان ) الحق . ( مجلي صور العالم مع الأحدية المعقولة . ) وذلك باعتبار أن ذاته مرآة تظهر فيها صور الأعيان العلمية والعينية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فانظر ما أحسن هذا التعليم الإلهي الذي خص الله بالاطلاع عليه من شاء من عباده . ) ( التعليم الإلهي ) إشارة إلى قوله تعالى : ( اتقوا الله يعلمكم الله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) . فمن اتقى ولم يثبت لغيره وجودا ، يستحق بأمثال هذه اللطائف والمعارف .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما وجده آل فرعون في اليم عند الشجرة ، سماه فرعون "موسى" . و"المو" هو "الماء" بالقبطية . و"السا" هو الشجر ، فسماه بما وجده عنده : فإن التابوت وقف عند الشجر في اليم . فأراد قتله . فقالت امرأته وكانت منطقة بالنطق الإلهي )
أي ، كانت ممن أنطقه الله بالنطق الإلهي من غير اختيارها ، كما قال تعالى من لسان الأعضاء : ( أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ ) .
وكانت مؤيدة من الله ( فيما قالت لفرعون إذ كان الله تعالى خلقها للكمال كما قال ، عليه السلام ، عنها حيث شهد لها ولمريم بنت عمران بالكمال الذي هو للذكران ) أي ، بحسب الغلبة . وهو إشارة إلى قوله عليه السلام : ( كملت من النساء أربع : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة
فرعون ، وخديجة ، وفاطمة ، رضى الله عنهن ) . ولهذا الكمال قال تعالى في مريم : ( وكانت من القانتين ) . فجعلها في زمرة الرجال .
وصرح الشيخ في الفتوحات ، في باب الأولياء : ( إن هذه المقامات ليست مخصوصة بالرجال ، فقد تكون للنساء أيضا ، لكن لما كانت الغلبة للرجال ، تذكر باسم الرجال .
( فقالت لفرعون في حق موسى إنه "قره عين لي ولك" . فيه ) أي ، في موسى
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قرت عينها بالكمال الذي حصل لها كما قلناه . وكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله له عند الغرق . ) وذلك لأن الحق تكلم بلسانها من غير اختيارها وأخبر بأنه قرة عين لها ولفرعون ، فوجب أن يكون كذلك في نفس الأمر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقبضه ) أي ، الحق . ( طاهرا مطهرا ، ليس فيه شئ من الخبث ، لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام والإسلام يجب ما قبله وجعله آية على عنايته سبحانه بمن شاء حتى لا ييأس أحد من رحمة الله . فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون . فلو كان فرعون ممن ييأس ، ما بادر إلى الإيمان ).
لما كان إيمان فرعون في البحر ، حيث رأى طريقا واضحا عبر عليه بنوا إسرائيل ، قبل التغرغر وقبل ظهور أحكام الدار الآخرة له مما يشاهدونه عند الغرغرة ، جعل إيمانه صحيحا معتدا به ، فإنه إيمان بالغيب ، لأنه كان قبل الغرغرة .
وهو بعينه كإيمان من يؤمن عند القتل من الكفار . وهو صحيح من غير خلاف  وإنما كان إيمان المتغرغر غير صحيح لظهور أحكام الدار الآخرة له ، من النعيم والجحيم والثواب والعذاب .
 
وجعله ( طاهرا مطهرا ) من الخبث الاعتقادي ، أي ، من الشرك ودعوى الربوبية ، لأن الإسلام يجب ما قبله - كما جاء في الخبر الصحيح - ولم يكتسب بعد الإيمان شيئا من الآثام والعصيان .
وقوله تعالى : "الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين" .
أي ، آمنت الان ، وكنت من العاصين المفسدين من قبل ، نوع من العتاب عند التوجه إلى الحق والإيمان به . وهو لا ينافي صحة إيمانه .
وما جاء من قوله : "يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود" . الضمير "القوم " و "المورد" الذي هو فرعون ، لا يجب دخوله فيهم .
وقوله : "واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود" . 
وقوله : " وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين " . الضمير " القوم " و "اللعنة" ودخول النار لا ينافي الإيمان ، لأن اللعنة هي البعد ، وهي تجتمع مع الإيمان .
 
كما في المحجوبين والعصاة والفسقة من المسلمين .
والورود في النار ليس مخصوصا بهم ، بل عام شامل للكل ، كما قال : "وإن منكم إلا واردها" . فهو لا ينافي الإيمان .
وليس بكفر فرعون بعد إيمانه نص صريح فيه . وما جاء فيه كان حكاية عما قبل .
وقوله رضي الله عنه  : ( وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ) . صريح في آله ، لا في فرعون .
وفائدة إيمانه ، على تقدير التعذيب ، عدم الخلود في النار . والتعذيب بالمظالم وحقوق العباد ، مما لا يرتفع بالإسلام ، لا ينافي أيضا الإيمان والطهارة من الشرك وخبث العقيدة .
فلا ينكر على الشيخ ما قاله مع أنه مأمور بهذا القول ، إذ جميع ما في الكتاب مسطور بأمر الرسول ، صلى الله عليه وسلم فهو معذور .  كما أن المنكر المغرور معذور .
 
وقوله : "وجعله آية على عنايته " إشارة إلى قوله تعالى : "فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية " . وهذا أيضا صريح في نجاته ، لأن (الكاف)
خطاب له . أي ، ننجيك مع بدنك من العذاب ، لوجود الإيمان الصادر منك بعد العصيان . والله أعلم بالسرائر من كل مؤمن وكافر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فكان موسى ، عليه السلام ، كما قالت امرأة فرعون فيه : " إنه قرة عين لي ولك عسى أن ينفعنا " . وكذلك وقع : فإن الله نفعهما به ، عليه السلام ، وإن كانا ) أي ، فرعون وامرأته .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ما شعرا بأنه هو النبي الذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون وهلاك آله . ولما عصمه الله من فرعون : " أصبح فؤاد أم موسى فارغا ". من الهم الذي كان قد أصابها . ) ظاهر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثم إن الله حرم عليه المراضع حتى أقبل على ثدي أمه فأرضعته، ليكمل الله لها سرورها به.) أي ، من جملة الاختصاصات والنعم التي كان في حق موسى وأمه أن الله حرم عليه المراضع حتى لا يقبل إلا ثدي أمه ، فإن الطفل لا يوافقه شئ مثل لبن أمه .
فجعل رضاعته وربوبيته على يد أمه ليكمل الله لها سرورها بولدها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كذلك علم الشرائع ، كما قال تعالى : "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ". أي ، طريقا ومنهاجا من تلك الطريقة جاء . فكان هذا القول إشارة إلى الأصل الذي منه جاء . ) ولما كان اللبن صورة العلم - كما أوله رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في رؤياه به - مثل وشبه تعليم الشرائع بتحريم المراضع .
أي ، كما حرم أن لا يشرب موسى لبن أحد غير أمه التي هي أصله ، كذلك علم الشرائع من لدنه ، وجعله نبيا صاحب شريعة غير متابع لشريعة غيره ، فكان يأخذ الشريعة والعلم من الله منبع العلوم ومحتد الشرائع ، وكان يكلمه كفاحا ، أي ، من غير حجاب .
ثم ، استدل بقوله : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) . وفسر (الشرعة) بالطريق ، و (المنهاج) أيضا هو الطريق . لكن لما يوقف عليه ، يصير منهاجا ،
فشبهه بالكلمتين : إحديهما : ( منها ) ، والآخر : ( جاء ) .
فأخذ عليهما وفسر بقوله : أي من تلك الطريقة جاء . فصار قوله منهاجا إشارة إلى الأصل الذي منه جاء ونزل إلى هذا العالم ، وليس إلا الحق ، فإنه منه بدأ كل شئ وإليه يعود ، فهو المبدأ والمعاد .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:00 pm

25 - فص حكمة علية في كلمة موسوية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم 
الجزء الثاني
25 - فص حكمة علية في كلمة موسوية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو غذاؤه ، كما أن فرع الشجرة لا يتغذى إلا من أصله . ) أي ، فالأصل الذي منه جاء موسى وحصل في هذه النشأة العنصرية هو غذاؤه ، لا يتغذى إلا منه .
أي ، لا يستفيض المعاني وما به قوامه ولا يجد المدد إلا من أصله ، كما أن فرع الشجرة لا يتغذى ولا يجد المدد إلا من أصله .
ولما جعل الأصل غذاءا للفرع ، والغذاء قد يكون حلالا وقد يكون حراما ، نقل الكلام إليهما 

بقوله رضي الله عنه  : ( فما كان حراما في شرع، يكون حلالا في شرع آخر ، يعنى في الصورة : أعني قولي يكون حلالا. وفي نفس الأمر ما هو عين ما مضى، لأن الأمر خلق جديد ولا تكرار . فلهذا نبهناك . ) أي ، الذي كان حراما في شريعة ثم صار حلالا في شريعة أخرى ، أو بالعكس ، ليس إلا بحسب الصورة .
وأما في نفس الأمر ، فليس هذا الحلال عين ما كان حراما ، لأن الخلق لا يزال جديد ولا يقع التكرار في التجلي أبدا .
( فكنى عن هذا في حق موسى بتحريم المراضع . ) ( عن هذا ) إشارة إلى
قوله : ( كذلك علم الشرائع . ) أي ، كنى عن علم الشرائع في حق موسى بتحريم المراضع ، أي ، أرضعته أمه الحقيقي التي ولدته ، لا غيرها .
وإرضاعها إشارة إلى ربوبية الذات الإلهية بإعطائه العلم الشرعي ليجعله نبيا بين عباده .

وتحريم إرضاع غير أمه ، إشارة إلى عدم تحققه بعلوم ما يتعلق بالولاية وأسرار الباطن ، إذ كان الغالب عليه علوم ما يتعلق بالنبوة والظاهر ، لذلك قال له الخضر ، عليه السلام : ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ) .
وقيل : قال له الخضر : إن الله قد أعطاك علما لم يعطني إياه ( وهو علم الظاهر ) ، وأعطاني علما لم يعطك إياه . ( وهو علم الباطن ) .

( فأمه ) أي ، فأم الولد . وليس المراد به موسى ، لأنه ما أرضعته غير أمه ، بل أورده تحقيقا لحق المرضعة على الولد .
لذلك قال : فجعل الله ذلك لموسى في أم ولادته بعد هذا التحقيق ( على الحقيقة من أرضعته لا من ولدته ، فإن أم الولادة حملته على جهة الأمانة ، فتكون فيها وتغذى بدم طمثها من غير إرادة لها في ذلك حتى لا يكون لها عليه امتنان ، فإنه ما تغذى إلا بما أنه لو لم يتغذ به ولم يخرج عنها ذلك الدم ، لأهلكها وأمرضها .
فللجنين المنة على أمه بكونه تغذى بذلك الدم فوقاها بنفسه من الضرر الذي كانت تجده لو امتسك ذلك الدم عندها ولا يخرج ولا يتغذى به جنينها . والمرضعة ليست كذلك ، فإنها قصدت برضاعته حياته وإبقائه .) أي ، قصدت برضاعها للولد حياته . فالإضافة إضافة إلى المفعول.

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فجعل الله ذلك لموسى في أم ولادته ، فلم يكن لامرأة عليه فضل إلا لأم ولادته ، لتقر عينها أيضا بتربيته وتشاهد انتشائه في حجرها ، " ولا تحزن " و نجاه الله من غم التابوت . ) أي ، من هم بدنه للخلاص من الهلاك .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فخرق ظلمة الطبيعة بما أعطاه الله من العلم الإلهي ، وإن لم يخرج عنها ) أي ، خرق حجاب الطبيعة الظلمانية بالعلم الحاصل لروحه من الحضرة الإلهية ، وحصل في العالم النوراني كما أشار إليه بقوله : ( فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ) .  وإن لم يخرج عن الطبيعة بالكلية وأحكامها ( وفتنه فتونا.) إشارة إلى
قوله تعالى : (وفتناك فتونا) . ( أي، اختبره في مواطن كثيرة، ليتحقق في نفسه صبره على ما ابتلاه الله به.ويصير ذلك سببا لكمالاته .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأول ما ابتلاه الله به قتله القبطي بما ألهمه الله ووفقه له في سره وإن لم يعلم بذلك ، ولكن لم يجد في نفسه اكترائا بقتله ) أي ، قتله القبطي إنما كان بأمر الله وإلهامه على قلبه وتوفيقه له بذلك في سره ، ولكن ما علم موسى بذلك ، لذلك نسبه إلى الشيطان بقوله : ( هذا من عمل الشيطان ) .

 
ولكن لم يجد في نفسه اكترائا بقتله ، أي ، مبالاة والتقاتا إليه ( مع كونه ما توقف حتى يأتيه أمر ربه بذلك ) ( ما ) للنفي . أي ، ما صبر حتى يأتيه الأمر الإلهي والوحي في ذلك ، لأنه ما قتله بنفسه ، بل قتله الحق على يده من غير اختياره .
كما قال لنبيه ، صلى الله عليه وسلم : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى )  وقال الخضر ، عليه السلام : ( ما فعلته عن أمري ).


وقوله رضي الله عنه  : ( لأنه النبي معصوم الباطن من حيث لا يشعر حتى ينبأ ، أي ، يخبر بذلك . ) دليل قوله : ( فأول ما ابتلاه الله به قتله القبطي بما ألهمه الله ) أي ، قتله  بالأمر الإلهي ، وإن لم يعلم ذلك ، لأن النبي معصوم من الكبائر في الباطن ، لكنه لا يشعر على أنه قتله بالأمر الإلهي حتى يخبر به .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا ) أي ، ولهذا الشعور والاطلاع ( أراه الخضر ، عليه السلام ، قتل الغلام ، فأنكر عليه قتله ولم يتذكر قتله القبطي . فقال له الخضر : " ما فعلته عن أمري " . ينبهه على مرتبته قبل أن ينبأ أنه كان معصوم الحركة في نفس الأمر ، وإن لم يشعر بذلك . وأراه أيضا خرق السفينة التي ظاهرها هلاك وباطنها نجاة من يد الغاصب . جعل له ذلك في مقابلة التابوت الذي كان له في اليم مطبقا عليه : فظاهره هلاك وباطنه نجاة . ) أي ، الخضر إنما أراده قتل الغلام وقال : ( ما فعلته عن أمري ) .


لينبه موسى عليه السلام ، على أن قتله القبطي أيضا كان كذلك بالأمر الإلهي ، لا من الشيطان ونفسه ، بل هو نبي معصوم عن الكبائر .
وأراه خرق السفينة التي ظاهرها هلاك وباطنها نجاة من الغاصب في مقابلة التابوت الذي كان له في اليم .
فإن خرق ظلمة هذه الطبيعة والبدن بالتوجه إلى الله وقهر النفس في الموت الإرادي ، بالأمراض والمحن في الموت الطبيعي ، وإن كان ظاهره مشعرا بالهلاك ، ولكن باطنه عين النجاة.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما فعلت به أمه ذلك خوفا من يد الغاضب فرعون أن يذبحه ضيرا وهي تنظر إليه )
قوله : "ضيرا " ب‍ "الضاد"المعجمة و "الياء" المنقوطة من تحت بنقطتين ، أي خوفا من أن يذبحه ذبحا مشتملا على الضرر العظيم لأمه ، لأن ذبح الولد على نظر أمه أشد إيلاما للأم من ذبحه على غير نظرها .

في بعض النسخ : ( صبرا ) ويلائمه قوله : ( مع الوحي ) أي ، وإنما فعلت ما فعلت بالوحي ( الذي ألهمها الله به من حيث لا تشعر . فوجدت في نفسها أنها ترضعه ) أي ، علمت بالوجدان بأنها ترضعه وتربيه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا خافت عليه ، ألقته في اليم ، لأن في المثل "عين لا ترى قلب لا يفجع " فلم تخف عليه خوف مشاهدة عين ولا حزنت عليه حزن رؤية بصر، وغلب على ظنها أن الله ربما رده إليها لحسن ظنها به . ) أي بالله .
( فعاشت بهذا الظن في نفسها ، والرجاء يقابل الخوف واليأس . وقالت حين ألهمت لذلك : لعل هذا هو الرسول الذي يهلك فرعون والقبط على يديه . فعاشت وسرت بهذا التوهم والظن بالنظر إليها . )
أي ، كون هذا المعنى توهما وظنا إنما هو بالنظر أي بالنسبة إلى أم موسى ، لا بنفس الأمر ، لذلك قال : ( وهو علم ) أي ، ذلك التوهم والظن كان علما ( في نفس الأمر . ) .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم إنه لما وقع عليه الطلب، خرج فارا خوفا في الظاهر وكان في المعنى حبا في النجاة ، فإن الحركة أبدا إنما هي حبية. ويحجب الناظر فيها بأسباب أخر وليست تلك.) أي ، ومن جملة العناية الإلهية أن موسى خرج فارا من خوف القتل ، وكان ذلك الفرار في الحقيقة حبا في الحياة والنجاة من الهلاك .
ثم بين أن الحركة لا تحصل أبدا إلا عن محبة، وإن كان في الظاهر لها أسباب أخر، كالخوف والغضب وغير ذلك، فيحجب من يعلم الحقائق بالأسباب الظاهرة ويسندها إليها، وليست أسبابها في الحقيقة تلك الأسباب الظاهرة . قوله : ( ويحجب ) مبنى للمفعول .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (وذلك لأن الأصل حركة العالم من العدم الذي كان ساكنا فيه إلى الوجود ولذلك يقال إن الأمر حركة عن سكون فكانت الحركة التي هي وجود العالم حركة الحب. وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك . ) رواية من الله تعالى .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بقوله : "كنت كنزا مخفيا، لم أعرف فأحببت أن أعرف". فلولا هذه المحبة، ما ظهر العالم في عينه . ) أي ، وجوده العيني .
( فحركته من العدم إلى الوجود حركة حب الموجد لذلك ) أي ، لوجود العالم ، إذ به تظهر كمالات ذاته وأنوار أسمائه وصفاته .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولأن العالم أيضا يحب شهود نفسه وجودا ، كما شاهدها ثبوتا ، فكانت بكل وجه حركته من العدم الثبوتي إلى الوجود العيني حركة حب من جانب الحق وجانبه . ) أي ، من جانب العالم : ( فإن الكمال محبوب لذاته ) وهو لا يظهر إلا بالوجود العيني .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعلمه تعالى بنفسه من حيث هو غنى عن العالمين هو له . وما بقي إلا تمام مرتبة العلم بالعلم الحادث الذي يكون من هذه الأعيان أعيان العالم إذا وجدت. فتظهر صورة الكمال بالعلم المحدث والقديم، فتكمل مرتبة العلم بالوجهين.) هذا جواب عن سؤال مقدر.

وهو أن يقال : الحق، سبحانه وتعالى، قديم، عالم بذاته وبكمالاته كلها، فهي حاصلة له قبل الظهور ووجود العالم في العين، فما فائدة الظهور؟
فقال : علمه بذاته من حيث غنائه عن العالمين حاصل له أزلا وأبدا ، لكن تمام مرتبة العلم هو العلم في صور المظاهر الذاتية، وهو العلم الحادث الذي يظهر في الأعيان عند وجودها. وهو المشار إليه بقوله تعالى : " لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ".
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك يكمل مراتب الوجود : فإن الوجود منه أزلي، ومنه غير أزلي، وهو الحادث. فالأزلي وجود الحق لنفسه، وغير الأزلي وجود الحق بصورة العالم الثابت، فيسمى حدوثا لأنه يظهر بعضه لبعضه، وظهر لنفسه بصور العالم. فكمل الوجود، فكانت حركة العالم حبته للكمال . فافهم.)

أي ، كما قلنا في العلم ، كذلك نقول في الوجود وجميع مراتبه ولوازمه ، لأن الوجود أزلي وغير أزلي : والأزلي هو الوجود عينه مع كمالاته ، وغير الأزلي هو الوجود المتعين بتعينات خاصة ظاهرة على صور الأعيان الثابتة . والأول قديم ، والثاني حادث ، فكمل الوجود ومراتبه بالعالم ، فظهر أن حركة العالم حبية .

( إلا تراه كيف نفس عن الأسماء الإلهية ما كانت تجده من عدم ظهور آثارها في عين مسمى العالم ) أي ، ألا ترى الحق كيف نفس عن أسمائه الإلهية ما كانت تجد الأسماء الإلهية من الكرب حين عدم الظهور بكمالاتها في أعيان العالم ( فكانت الراحة محبوبة لها ) أي ، للحق .
( ولم يوصل إليها إلا بالوجود الصوري ) أي ، الظاهر الشهادي (الأعلى والأسفل. فثبت أن الحركة كانت للحب.) أي ، ثبت أن أصل الحركة وحقيقتها حصلت من الحب ( فما ثمة حركة في الكون إلا وهي حبية . ) لأن الجزئي مشتمل على كليه .


( فمن العلماء من يعلم ذلك ) وهو العالم بالحقائق ( ومنهم من يحجبه السبب الأقرب ) وهو العالم بالأحكام ، لا بالحقائق الناظر في الأسباب الظاهرة ( لحكمه في الحال واستيلائه على النفس ) أي ، لغلبة حكم ذلك السبب القريب واستيلائه على نفس المحجوب .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان الخوف لموسى ، عليه السلام ، مشهودا له بما وقع من قتله القبطي ، وتضمن الخوف حب النجاة من القتل . فقر لما خاف ) في الظاهر (وفي المعنى ففر لما أحب النجاة من فرعون وعمله.) لأنه ما كان على طريق الحق ( به ) أي ، بالفرار
حصل النجاة من فرعون وعمله . لذلك قال له شعيب ، صلوات الله عليه : ( لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) . تنبيها لسبب حركته .


( فذكر ) موسى ( السبب الأقرب المشهود له في الوقت ) أي ، في وقت الملاقاة معه ( الذي هو كصورة الجسم للبشر . وحب النجاة تضمن فيه تضمين الجسد للروح المدبر له . )
قوله : ( الذي ) صفة ( السبب الأقرب ) . أي، هو كالصورة، وحب النجاة مدرج فيه كالروح ، كما أن الصورة الجسمية متضمنة لروحها.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والأنبياء ، صلوات الله عليهم لهم لسان الظاهر به يتكلمون لعموم أهل الخطاب ، واعتمادهم على فهم السامع العالم . فلا تعتبر الرسل ، عليهم السلام ، إلا العامة ، لعلمهم بمرتبة أهل الفهم ، كما نبه ، عليه السلام ، على هذه الرتبة في العطايا ، فقال : " إني لأعطي الرجل ، وغيره أحب إلى منه ، مخافة أن يكبه الله في النار " . )
تقديره : أنى لأعطي الرجل مخافة أن يكبه الله في النار ، والحال أن غيره أحب إلى منه . ومعنى ( يكبه ) يدخله فيها 
وقال أيضا : ( لو كان العلم في الثريا ، لناله رجال من فارس ) .

قال رضي الله عنه :  ( فاعتبر ) أي النبي ، صلى الله عليه وسلم : ( الضعيف العقل والنظر الذي غلب عليه الطمع والطبع ) بفتح ( الباء ) ، أي الرين . إشارة إلى قوله : ( وطبع الله على قلوبهم ) . كما قال : ( كلا ، بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) .


قال رضي الله عنه :  ( فكذا ما جاؤوا به من العلوم ) أي ، فكذا حال ما جاء الأنبياء به من العلوم والحقائق ( جاؤوا به ) أي ، جاؤوا بما جاؤوا به (وعليه خلعة أدنى الفهوم.) أي ، وعليه خلعة ولباس يفهمه من له أدنى فهم (ليقف من لا غوص له عند الخلعة) أي ، الصورة الظاهرة .
فلما استعار لها لفظ ( الخلعة ) ، رشح بقوله : ( فيقول : ما أحسن هذه الخلعة قد ويراها غاية الدرجة . ويقول صاحب الفهم الدقيق الغائص على درر الحكم بما استوجب هذا ) أي ، المعطى له .


قال رضي الله عنه :  ( هذه الخلعة من الملك . فينظر في قدر الخلعة وصنفها من الثياب ، فيعلم منها قدر من خلعت عليه ، فيعثر على علم لم يحصل لغيره ممن لا علم له بمثل هذا . ) وهذا مثال لعلماء الظاهر والباطن .
والخلعة مثال لظاهر الآيات والأخبار ، فإن صاحب أدنى الفهوم يقف على ظواهرها ، ولا
يغوص في قعر بحرها ، وصاحب الفهم الدقيق يستخرج منه لآلئ المعاني ودرر الحكم والمعارف .

قال رضي الله عنه :  ( ولما علمت الأنبياء والرسل والورثة أن في العالم وفي أمتهم من هو بهذه المثابة ، عمدوا في العبارة إلى اللسان الظاهر الذي يقع فيه اشتراك الخاص والعام ، فيفهم منه الخاص ما فهم العامة منه وزيادة مما صح له به اسم أنه خاص ، فيتميز به عن العامي . فاكتفى المبلغون العلوم بهذا . ) أي ، بلسان الظاهر .

قال رضي الله عنه :  ( فهذا حكمة قوله عليه السلام : "ففررت منكم لما خفتكم" . ولم يقل ، ففررت منكم حبا في السلامة والعافية ) رعاية لجانب الظاهر ولسان العامة .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فجاء إلى مدين فوجد الجاريتين "فسقى لهما" من غير أجر ، "ثم تولى إلى الظل " الإلهي ، فقال : "رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير" . فجعل عين عمله السقي.) و (السقي) بدل عن ( عمله ) ، أو عطف بيان .

(عين الخير الذي أنزله الله إليه، فوصف نفسه بالفقر إلى الله في الخير الذي عنده.) إنما جعل عين السقي عين الخير الذي أنزل الله إليه ، لأن الخير المنزل إليه كانت النبوة وعلومها .
والماء صورة العلم لذلك فسر ابن عباس رضي الله عنهما، قوله تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماءا ) . أي علما
فأفاض بعلمه على الجاريتين عين ما استفاض من الله تعالى في الحقيقة ، وإن كان في الصورة غيره .
ولأن التوفيق والقدرة بذلك العمل ما كان إلا من الله ، فاستفاض ذلك منه وأفاض أثره عليهما ، ووصف نفسه بالفقر إلى الله في الخير الذي عنده ، لأن الفيض إنما يحصل بحسب الاستعداد ، ومن جملة شروطه خلو المحل عما ينافي المعنى الفائض ، بل عن كل ما سوى الله .
والفقير التام هو الكامل المطلق من النوع البشرى.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأراه الخضر إقامة الجدار من غير أجر ، فعتبه موسى على ذلك ) بقوله : ( لو شئت لاتخذت عليه أجرا ) . فذكره الخضر ( بسقايته من غير أجر إلى غير ذلك مما لم نذكره . ) أي، في، هذا الكتاب واطلعنا عليه في الكشف عند شهود الخضر عليه السلام .

وقد روى عنه أنه اجتمع بالخضر في الكشف . فقال له الخضر : كنت قد أعددت لموسى بن عمران ألف مسألة مما جرى عليه من أول ما ولد إلى زمان الاجتماع بينهما ، فلم يصبر على ثلاثة مسائل منها قد ( حتى تمنى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أن يسكت موسى ، عليه السلام ، ولا يعترض حتى يقص الله تعالى عليه من أمرهما ) .

بقوله رضي الله عنه  : ( رحمة الله علينا وعلى موسى ، ليته صبر حتى يقص علينا من أنبائهما )
وفي رواية أخرى متفق على صحتها أيضا : " لو صبر أخي موسى، لرأى العجب، ولكن أخذ به من صاحبه دمامة " . - الحديث .
( فيعلم بذلك ما وفق إليه موسى ، عليه السلام ، من غير علم منه ) " فيعلم " ب‍ " الياء " عطف على " يقص ". أي ، حتى يقص الله ، فيعلم رسول الله الذي وفق إليه موسى من الأعمال من غير علم منه واختيار منه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذ لو كان عن علم ، ما أنكر مثل ذلك على الخضر الذي قد شهد الله له عند موسى وزكاه وعدله . ومع هذا غفل موسى عن تزكية الله وعما شرطه ) الخضر .
(عليه في اتباعه رحمة بنا إذا نسينا أمر الله.) أي ، تلك الغفلة رحمة من الله بنا إذا نسينا حكم الله ، حتى لا نؤاخذ بالنسيان .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولو كان موسى عالما بذلك، لما قال له الخضر : "ما لم تحط به خبرا" . أي ، إني على علم لم يحصل لك عن ذوق، كما أنت على علم لا أعلمه أنا. فأنصف. ) أي، الخضر .
( وأما حكمة فراقه ، فلأن الرسول يقول الله فيه ) أي ، في حقه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" . فوقف العلماء بالله الذين يعرفون قدر الرسالة والرسول عند هذا القول، وقد علم الخضر أن موسى رسول الله، فأخذ يرقب ما يكون منه ) أي ، ما يصدر منه ( ليوفى الأدب حقه مع الرسول ) أي، وقف العلماء بالله، كالخضر وغيره، عند هذا القول، وهو : ( ما آتاكم الرسول فخذوه ) ليوفى الأدب حقه مع الرسول .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال له : "إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني". فنهاه عن صحبته . فلما وقعت منه الثالثة، قال : "هذا فراق بيني وبينك". ولم يقل له موسى لا تفعل، ولا طلب صحبته، لعلمه بقدر الرتبة التي هو ) أي ، الخضر
( فيها التي أنطقته بالنهي عن أن يصحبه ) أي ، ولكون موسى عالما بالمرتبة التي حكمت عليه وأنطقته بالنهي عن المصاحبة . وتلك المرتبة هي مرتبة النبوة . فضمير ( علمه ) و ( هو ) عائدان إلى ( موسى ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فسكت موسى ووقع الفراق . فانظر إلى كمال هذين الرجلين في العلم وتوفية الأدب الإلهي حقه ) أي ، وتوفيتهما الأدب الإلهي حقه وإلى.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إنصاف الخضر ، عليه السلام ، فيما اعترف به عند موسى ، عليه السلام ، حيث قال : " أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا " فكان هذا الإعلام من الخضر لموسى عليها السلام دواء لما جرحه به في قوله : "وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا " . مع علمه بعلو رتبته بالرسالة ، وليست تلك الرتبة للخضر . وظهر ذلك في الأمة المحمدية ) .

أي ، ظهر مثل ذلك الإنصاف من نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، بالنسبة إلى أمته ( في حديث ( إبار النخل ) : فقال، عليه السلام، لأصحابه : "أنتم أعلم بأمور دنياكم " .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا شك أن العلم بالشئ خير من الجهل به، ولهذا مدح الله تعالى نفسه بأنه بكل شئ عليم .
فقد اعترف، صلى الله عليه وآله، لأصحابه بأنهم أعلم بمصالح دنياهم منه، لكونه لا خبرة له بذلك، فإنه علم ذوق وتجربة، ولم يتفرع، عليه السلام، لعلمه ذلك، بل كان شغله بالأهم فالأهم فقد نبهتك على أدب عظيم تنتفع به إن استعملت نفسك فيه.) وتأديت بين يدي عباد الله بعدم الظهور بالدعوى والأنانية .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقوله : " فوهب لي ربى حكما " يريد الخلافة . " وجعلني من المرسلين" يريد الرسالة . فما كل رسول خليفة : فالخليفة صاحب السيف والعزل والولاية .
والرسول ليس كذلك ، إنما عليه البلاغ لما أرسل به . فإن قاتل عليه وحماه بالسيف ، فذلك الخليفة الرسول . فكما أنه ما كل نبي رسولا ، كذلك ما كل رسول خليفة . )
أي ( ما أعطى الملك ولا التحكم فيه . ) كل غنى عن الشرح .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما حكمة سؤال فرعون عن الماهية الإلهية ) بقوله : ( ما رب العالمين ؟ )
( فلم يكن عن جهل ، وإنما كان عن اختبار حتى يرى جوابه مع دعواه الرسالة عن ربه -
وقد علم فرعون مرتبة المرسلين في العلم ) بالله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيستدل بجوابه على صدق دعواه ، وسأل سؤال إيهام من أجل الحاضرين حتى يعرفهم من حيث لا يشعرون بما شعر هو في نفسه في سؤاله )

من أنه لا بد أن يكون لكل شئ حقيقة يكون بها هو ، فأوهم الحاضرين بقوله : ( ما رب العالمين ؟ ) إن جوابه حينئذ هو الحد المشتمل على الجنس والفصل، لأن الحاضرين كانوا أرباب نظر وعقل ومعتادين أن يعلموا الأشياء بحدودها .
وهو كان عارفا يعلم أن حقيقة الحق لا يمكن أن تكون مركبة من الجنس والفصل ، لكنه تسلط عليه الشيطان فظهر بالأنانية .
( فإذا أجابه جواب العلماء بالأمر ) أي ، فإذا أجابه موسى بما في نفس الأمر


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أظهر فرعون إبقاء لمنصبه أن موسى ما أجابه على سؤاله ، فيتبين عند الحاضرين لقصور فهمهم أن فرعون أعلم من موسى . ولهذا لما قال له في الجواب ما ينبغي.) أن يجاب به .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهو في الظاهر غير جواب على ما سئل عنه ، وقد علم فرعون أنه لا يجيبه إلا بذلك ، فقال لأصحابه : " إن رسولكم الذي أرسل إليكم " على ما يزعم أنه رسول " لمجنون " . مستور عنه علم ما سألته عنه ، إذ لا يتصور أن يعلم أصلا . ) أي ، حقيقة الحق لا يتصور أن تعلم لغيره أصلا .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالسؤال صحيح : فإن السؤال عن المهية سؤال عن حقيقة المطلوب، ولا بد أن يكون على حقيقة في نفسه . وأما الذين جعلوا الحدود مركبة من جنس وفصل، فذلك في كل ما يقع فيه الاشتراك، ومن لا جنس له لا يلزم أن لا يكون على حقيقة في نفسه لا تكون تلك الحقيقة لغيره. فالسؤال صحيح على مذهب أهل الحق والعلم الصحيح والعقل السليم. والجواب عنه لا يكون إلا بما أجاب به موسى.) فإن تعريف البسائط لا يكون إلا بلوازمه البينة.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهاهنا سر كبير . فإنه أجاب بالفعل لمن سأله عن الحد الذاتي ، فجعل الحد الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم ، أو ما ظهر فيه من صور العالم ).
أي ، أجاب لمن سأل عن الحد الجامع لجميع ذاتيات الرب ، بفعله وهو ربوبيته للسموات والأرض .

والمراد ( بالفعل ) المفعول . وهو السماوات والأرض . فجعل إضافة الرب إلى ما ظهر الرب بواسطته . أو إلى ما ظهر فيه من صور العالم عين الحد الذاتي .

( فكأنه قال له في جواب قوله : "وما رب العالمين ؟" قال : الذي يظهر فيه صور العالمين من العلو وهو السماء ، والسفل وهو الأرض " إن كنتم موقنين " . )
وقوله : ( أو يظهر هو بها ) عطف على قوله : ( الذي يظهر فيه ) أي ، كأنه قال في جواب ( ما رب العالمين ؟ ) هو الذي يظهر فيه صور العالمين . أو الذي يظهر هو بصور العالمين .
فضمير ( بها ) ( للصور ) .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (فلما قال فرعون لأصحابه : "إنه لمجنون". كما قلنا في معنى كونه مجنونا) وهو أنه غير عالم بما سألته . ( زاد موسى في البيان ليعلم فرعون مرتبته ) أي ، مرتبة موسى .
( في العلم الإلهي ، لعلمه بأن فرعون يعلم ذلك ) أي ، ذلك المعنى .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال : "رب المشرق والمغرب" . فجاء بما يظهر ويستتر ، وهو الظاهر والباطن وما بينهما ، وهو قوله : "بكل شئ عليم إن كنتم تعقلون". أي، إن كنتم أصحاب تقييد، فإن العقل يقيد).
لما كان المشرق موضع ظهور الشمس والمغرب موضع استتارها وبطونها ،

قال : ( فجاء بما يظهر ويستر ) أي ، جاء به تنبيها على أن كل ما ظهر من عالم الشهادة وعلى كل ما بطن من عالم الغيب ، والحق هو الظاهر والباطن ، كما أخبر عن نفسه بقوله : ( وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم ) .

فيكون عليما بما بين المشرق والمغرب ، وبما بين الظاهر والباطن من لوازمهما وعوارضهما ، كالتأثير والتأثر والفيض والاستفاضة في العلوم وغيرها .
وإنما جاء بقوله : "إن كنتم تعقلون " . لأن العقل يعطى التقييد ، والتقييد إما في الظاهر ، وهو الأجسام ولواحقها ، وإما في الباطن ، فهو المجردات وتوابعها . فإن كنتم تعقلون ، فاعلموا أن الحق هو الذي ظهر بالظاهر والباطن وجميع الصور المقيدة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالجواب الأول جواب الموقنين ، وهم أهل الكشف والوجود . فقال لهم : "إن كنتم موقنين" . أي ، أهل كشف ووجود ، فقد أعلمتكم بما تيقنتموه في شهودكم ووجودكم . ) .


لأن ما لا يكون التركيب في ذاته لا يمكن أن يجاب عنه بالجنس والفصل، فما أجبتكم به ، هو جواب العارفين بالأمر، أصحاب اليقين والعيان .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن لم تكونوا من هذا الصنف ، فقد أجبتكم في الجواب الثاني ، إن كنتم أهل عقل وتقييد وحصر . ثم ، الحق فيما تعطيه أدلة عقولكم . فظهر موسى بالوجهين ليعلم فرعون فضله وصدقه . وعلم موسى أن فرعون علم ذلك ، أو لم يعلم ذلك . ) .
أي ، علم موسى أن فرعون عالم بفضل موسى وصدقه فيما أجاب به . أو سيكون عالما بذلك من الجواب . إذ الجواب الحق ينبه السائل بما ليس عنده .

( لكونه سئل عن المهية . فعلم ) موسى ( أن سؤاله ليس على اصطلاح القدماء في السؤال ب‍ " ما هو " ، فلذلك أجاب . فلو علم ) موسى ( منه غير ذلك ، لخطأه في السؤال . ) اصطلاح القدماء في السؤال ب‍ ( ما ) طلب الجواب بالأجزاء الذاتية .

 
فلما علم موسى منه أنه ما سئل بذلك الاصطلاح ، أجاب بما أجاب . ولو علم أنه سئل عن الاصطلاح ، لخطأ فرعون في سؤاله .
أي ، كان يقول له : كيف تسأل بما عن شئ ليس له أجزاء ذاتية ، فسؤالك ليس بسؤال العالمين بالاصطلاح .


 قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما جعل موسى المسؤول عنه عين العالم ، خاطبه فرعون بهذا اللسان والقوم لا يشعرون ، فقال له : "لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ". ) أي ، فلما جعل موسى عين الحق ظاهرا في أعيان العالمين ، خاطبه فرعون بهذا اللسان . أي ، فإذا جعلت عينه عين العالم ، وأنا نسخة العالم ، فأنا عينه .
وذلك قوله تعالى : "لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين " . والقوم لا يشعرون بما جرى بينه وبين موسى من الأسرار .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:01 pm

25 - فص حكمة علية في كلمة موسوية الجزء الثالث .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم 
الجزء الثالث
25 - فص حكمة علية في كلمة موسوية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( و"السين" في السجن من حروف الزوائد . أي ، لأسترنك : فإنك أجبت بما أيدتني به أن أقول لك مثل هذا القول . ) اعلم ، أن الحروف كلها دالة على المعاني الغيبية في مفرداتها ومركباتها ، كما هو مقرر عند العلماء بالأسرار الإلهية .
ومن عرف أن الكلمات الموضوعة إنما وضعت بإزاء الحقائق الإلهية والكونية ، وعرف أن الواضع الحقيقي في المظاهر الإنسانية هو الحق سبحانه وتعالى ، عرف ذلك .
وبعض علماء الظاهر أيضا وقفوا على ذلك ، وقالوا إن بين الأسماء ومسمياتها مناسبات ووضعت الألفاظ بإزائها .

ف‍ ( السين ) التي في ( السجن ) من حروف الزوائد ، وهي مع أنها من حروف الزوائد يدل على معنى الستر ، لأنه حرف من حروفه . وكونه زائدا أيضا إشارة إلى تعينات الحاصلة على الذات التي هي وجوه العبودية الزائدة على وجوه الربوبية من وجه . فبقى ( الجيم ) و ( النون )
وهو يدل على الستر ، كما قال تعالى : ( فلما جن عليه الليل رأى ) أي ، ستر . فصار معنى قوله : ( لأجعلنك من المسجونين ) لأسترنك . لأنك جعلت عين الحق ظاهرا في صور العالم ، فيكون ظاهرا في صورتي .
وهذا تأييد لي في دعواي ، ولى عليك حكم وسلطنة في الظاهر ، لأني صاحب الحكم ، فقولي لك مثل هذا ، وجعلي لك من المسجونين حق على قولك وعقيدتك .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن قلت لي : قد جهلت يا فرعون بوعيدك إياك والعين واحدة ، فكيف فرقت ؟ فيقول فرعون : إنما فرقت المراتب العين ، ما تفرقت العين ولا انقسمت في ذاتها . ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل ، وأنا أنت بالعين وغيرك بالرتبة . )
أي ، وإن قلت لي يا موسى : كيف فرقتني عنك وأوعدتني بالسجن ، والعين في ذاتها واحدة لا كثرة فيها وتجعلني من الجاهلين ؟
أقول : إنما فرقت المراتب بحسب ظهورات عين الحق فيها ، فالذات وإن كانت واحدة ، لكن
المراتب متفرقة ، ومرتبتي الان يقتضى أن أحكم فيك وفي مرتبتك ، وإن كنت عيني من حيث العين ، لكنك غيري من حيث المرتبة .

( فلما فهم ذلك موسى منه ) أي ، فهم ذلك الحكم والتسلط بحسب المرتبة منه . ( أعطاه حقه في كونه يقول له : لا تقدر على ذلك . ) أي، أعطى لفرعون حقه حال كونه. أي، كون موسى يقول له : لا تقدر على ذلك.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والرتبة ) الفرعونية ( تشهد له بالقدرة عليه وإظهار الأثر فيه، لأن الحق في رتبة فرعون من الصورة الظاهرة لها التحكم على الرتبة التي كان فيها ظهور موسى في ذلك المجلس.) لكن ليس له سلطنة على موسى ورتبته ، لأنه أعلى منه مقاما وأرفع منه درجة ، كما أخبره بقوله : ( لا تخف إنك أنت الأعلى ) أي في العاقبة .
ولما كان له التحكم في ذلك المجلس ، جعل موسى يدافعه ، ( فقال له ) حال كونه ( يظهر له المانع من تعديه عليه : "أو لو جئتك بشئ مبين" . )


قال الشيخ رضي الله عنه :  (فلم يسع فرعون إلا أن يقول له : "فأت به إن كنت من الصادقين". حتى لا يظهر فرعون عند  ضعفاء الرأي من قومه بعدم الإنصاف فكانوا يرتابون فيه، وهي الطائفة التي استخفها فرعون وأطاعوه "إنهم كانوا قوما فاسقين" أي، خارجين عما تعطيه العقول الصحيحة من إنكار ما ادعاه فرعون باللسان الظاهر في العقل، فإن له ).

أي ، للعقل ( حدا ، يقف عنده ، إذا جاوزه صاحب الكشف واليقين . ) أي ، ولأجل أن
للعقل حدا ، يقف عنده ، وصاحب الكشف يتجاوز عنه ، وليس للكشف نهاية ، لأنه بحسب التجلي ولا نهاية للتجلي ( ولهذا جاء موسى في الجواب بما يقبله الموقن ) صاحب الكشف واليقين . وهو الجواب الأول . ( والعاقل خاصة . ) وهو الجواب الثاني .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "فألقى عصاه"  وهي صورة ما عصى به فرعون موسى في إبائه عن إجابة دعوته ، "فإذا هي ثعبان مبين" أي ، حية ظاهرة . ) لما كان ( عصا ) مأخوذا من ( العصيان ) وفرعون هو الذي عصى ربه وأبى، جعل العصا صورة ما تحقق به إباء فرعون وعصيانه عن إجابة الدعوة.
وليس ذلك إلا النفس الأمارة، فالعصا صورة النفس الأمارة . فإذا انقلبت حية ، صارت صورة النفس المطمئنة المفنية للموهومات والمتخيلات .
لذلك قال "هي عصاي أتوكأ عليها" أي ، استعين
بها على مطالبي وسلوكي . ( وأهش بها على غنمي ) أي ، على رعاياي وعلى ما هو تحت يدي من القوى البدنية .

( ولى فيها مآرب أخرى ) أي ، مقاصد لا تحصل إلا بها من الكمالات المكتسبة ( فانقلبت المعصية التي هي السيئة طاعة أي حسنة ، كما قال : "يبدل الله سيئاتهم حسنات " ) أي ، انقلاب العصا حيوانا ايماء إلى انقلاب المعصية طاعة حسنة فإن العصا من المعصية والمعصية إذا انقلبت صارت طاعة ، كما قال تعالى : " أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " ولما كان تبديل السيئة حسنة عبارة عن ترتب حكم الحسنة عليها ، إلا أن عينها تصير حسنة ،
قال : ( يعنى في الحكم . ) كما جاء في الخبر من أن المحبوبين يعد قتلهم بالإحياء وإفسادهم بالإصلاح .


وعلى هذا ( فظهر الحكم هاهنا عينا متميزة في جوهر واحد . ) أي ، ظهر حكم العصيان المنقلب إلى الطاعة على صورة عين الثعبان ، وهي متميزة عن صورة أخرى ، وكلها تظهر في جوهر واحد لا تعدد فيه حقيقة .

( فهي العصا والحية والثعبان الظاهر ) أي ، فتلك العين هي العصا بحكم العصيان ، وهي الحية والثعبان بحكم الطاعة للرحمن .
( فالتقم ) الثعبان ( أمثاله من الحيات من كونها حية ، والعصى من كونها عصا . فظهرت حجة موسى على حجج فرعون في صورة عصى وحيات وحبال . ) .

لأن الحق أراد تصديق نبيه وتغليبه على فرعون ، فظهرت العين الظاهرة بالصورة العصائية على الصورة الثعبانية ، فالتقم أمثالها من الحيات من كونها حية والعصى من كونها عصى في الأصل .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكانت للسحرة الحبال، ولم يكن لموسى حبل. و "الحبل" التل الصغير . أي، مقاديرهم بالنسبة إلى قدر موسى بمنزلة الحبال من الجبال الشامخة. ) .
أي ، حبال السحرة الظاهرة على صورة الحيات إشارة إلى صغر قدرهم بالنسبة إلى قدر موسى ، لأن ( الحبل ) في أصل اللغة التل الصغير . فنسبة مقاديرهم إلى قدر موسى عند الله كنسبة التلال الصغيرة إلى الجبال الشامخة .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما رأت السحرة ذلك ، علموا رتبة موسى في العلم ، وأن الذي رأوه ليس من مقدور البشر ، وإن كان مقدورا لبشر ، فلا يكون إلا ممن له تميز في العلم المحقق عن التخيل والإيهام ، فآمنوا برب العالمين ، رب موسى وهارون . أي ، الرب الذي يدعو إليه موسى وهارون ، لعلمهم بأن القوم يعلمون أنه ما دعا لفرعون . ) .

أي ، لأن السحرة علموا أن موسى ما يدعو الخلق إلى فرعون ، بل إلى الحق المطلق . ف‍
( اللام ) في قوله : ( لفرعون ) بمعنى ( إلى ) .

( ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت وأنه الخليفة بالسيف) أي ، خليفة الدولة الظاهرية . ( وإن جار في العرف الناموسي ، لذلك قال : "أنا ربكم الأعلى" أي ، وإن كان الكل أربابا بنسبة ما ، فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم . ) .

( جار ) من ( الجور ) . وهو إشارة إلى ما قال رسول الله ،
صلى الله عليه وسلم : ( أطيعوا أميركم وإن جار ) أي، وإن ظلم  ولذلك قال : ( في العرف الناموسي). وقوله : ( في العرف ) متعلق بمحذوف. تقديره : كما ثبت في العرف الناموسي .

و ( قال ) جواب ( لما ) : أي ، لما كان في منصب التحكم وخليفة في الظاهر بالسيف ، قال : " أنا ربكم الأعلى " واعلم ، أن الرب المطلق ، بمعنى المالك والمصلح والسيد وغيرها من المعاني التي يطلق ( الرب ) عليها ، هو الله تعالى وحده ، لا اشتراك فيه لأحد . والرب المضاف يطلق على الحق تعالى ،

كقوله : (الحمد لله رب العالمين) ويطلق لغيره أيضا، كقولهم : رب الدار ورب الغلام و رب القوم . وهذا الإطلاق أيضا هو للحق ، لأنه هو الذي يرب عباده في صور مظاهره ومجاليه . فلكل من العباد نوع من الربوبية .
وأعلى أنواعه في صور التفاصيل للخليفة على العالم كله ، ثم للخليفة في الباطن وحده ، ثم للخليفة في الظاهر وحده .

لذلك قال : ( أنا ربكم الأعلى ) فأضاف إليهم وجعل لنفسه ما هو أعلى منهم ، لتحكمه عليهم بالسيف ، وإن كان لكل منهم نصيبا من الربوبية .
وقد مر في المقدمات تنبيه في هذا المعنى ، فليطلب هناك تحقيقه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله ، لم ينكروه وأقروا له بذلك ، فقالوا له: " إنما تقضى هذه الحياة الدنيا فاقض ما أنت قاض " فالدولة لك . فصح قوله: "أنا ربكم الأعلى". ) أي ، من حيث الربوبية الإضافية الحاصلة في المظاهر .

( وإن كان عين الحق ، فالصورة لفرعون . ) جواب عن سؤال مقدر .
تقديره : أنك جعلت الحق عين الأعيان في الكتاب كله ، فصح إطلاق الربوبية المطلقة عليه لأنه عينه . فأجاب بأنه وإن كان عينه عين الحق من حيث الأحدية ، كن الصورة الفرعونية تعينه وتجعله متميزا عنه باعتبار ، فلا يصح ذلك الإطلاق .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقطع الأيدي والأرجل وصلب بعين حق ) وهو الهوية الإلهية الظاهرة بكل شئ وفي كل شئ . ( في صورة باطل ) وهي الصورة الفرعونية الفانية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لنيل مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل . فإن الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها ) يجوز أن يكون تعليلا لقوله : ( فاقض ما أنت قاض ) . أي ، قالوا ذلك لعلمهم بأن تعذيبه إياهم موجب لنيل المراتب الكمالية التي لا تنال إلا بذلك التعذيب .
فإن درجة الشهادة لا تنال إلا بالقتل ظلما ، لأن الأسباب وسائط للوصول إلى المسببات .
ويجوز أن يكون تعليلا لقطع وصلب .

فمعناه : قطع ليظهر تحكمه وسلطنته عليهم ، فينقادوا لحكمه في الدنيا ويصل إلى مقتضى عينه ونتائج طبعه ونشأته العنصرية في الآخرة من العذاب بالنار وغيرها . ويجوز أن يكون تعليلا لهما . ( لأن الأعيان الثابتة اقتضتها ، ) أي ، اقتضت الأسباب والوسائط .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا تظهر ) الأعيان ( في الوجود إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت ، إذ " لا تبديل لكلمات الله " . وليست كلمات الله سوى أعيان الموجودات ، فينسب إليها القدم من حيث ثبوتها ، وينسب إليها الحدوث من حيث وجودها وظهورها ، كما تقول : حدث اليوم عندنا إنسان أو ضيف ، ولا يلزم من حدوثه أنه ما كان له وجود قبل هذا الحدوث . لذلك قال تعالى في كلامه العزيز ، أي في إتيانه مع قدم كلامه : "ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون " ، "وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين " و "الرحمن" لا يأتي إلا بالرحمة ، ومن أعرض عن الرحمة ، استقبل العذاب الذي هو عدم الرحمة . ) ظاهر .


قال رضي الله عنه :  (وأما قوله : "فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده" إلا قوم يونس ، فلم يدل ذلك على أنه لا ينفعهم في الآخرة بقوله في الاستثناء : "إلا قوم يونس".)
ولما ذكر الحكم والأسرار التي تضمنت الآيات في موسى وفرعون ، شرع في بيان أن مثل هذا الإيمان وإن لم يكن نافعا في الدنيا ، نافع في الآخرة ، أعني ، إيمان فرعون وغيره ممن آمن عند اليأس من غير أن يقع في الغرغرة ويرى العذاب الآخرة وبأسها وإن لم يكن نافعا في الدين نافع في الآخرة .

وأما قوله : ( فلم يك ينفعهم إيمانهم ) . الآية فلا يدل على أنه لا ينفعهم في الآخرة مطلقا ، إذ معناه أن إيمانهم لا يدفع عذابنا الذي أنزلنا عليهم في الدنيا .
وقوله تعالى : ( إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ) .
دليل على أن عدم نفعه في الدنيا لا في الآخرة . أي ، ليس هذا حكما كليا أيضا في الدنيا ، لقوله تعالى : "فلولا كانت قرية آمنت" يعنى ، عند رؤية العذاب ،
فنفعها إيمانها ، إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا .

قال رضي الله عنه :  ( فأراد ) أي الحق ( أن ذلك الإيمان لا يرفع عنهم الأخذ في الدنيا ، فلذلك ) أي ، فلأجل أنه لا يرفع العذاب في الدنيا ( أخذ فرعون مع وجود الإيمان منه . هذا إن كان أمره ) أي ، أمر فرعون ( أمر من تيقن بالانتقال في تلك الساعة ) أي ، هذا على تقدير أنه تيقن بالانتقال . وأما على تقدير عدم تيقنه بذلك ، فبالطريق الأولى ينفع إيمانه .


قال رضي الله عنه :  ( وقرينة الحال تعطى أنه ما كان على يقين من الانتقال ، لأنه عاين المؤمنين يمشون في الطريق اليبس الذي ظهر بضرب موسى بعصاه البحر . فلم يتيقن فرعون بالهلاك إذا آمن ، بخلاف المحتضر حتى لا يلحق به . ) أي ، لم يتيقن فرعون بالهلاك إذا آمن ، فلا يلحق بالمحتضر لأنه متيقن بهلاكه ، فاستعمل "حتى" موضع " الفاء" .

قال رضي الله عنه :  ( فآمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل على اليقين بالنجاة ، فكان كما تيقن ) أي، حصل النجاة كما تيقنها .
قال رضي الله عنه :  ( لكن على غير الصورة التي أراد ) لأنه أراد أن ينجو في الحياة الدنيا ( فنجاه الله من عذاب الآخرة في نفسه ، ونجى بدنه كما قال تعالى :"فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية " )

أي، فاليوم ننجي روحك من عذاب التعلق بالبدن وغواشيه الظلمانية من الكفر والشرك والاحتجاب بالحجب المبعدة ، وبدنك بالقذف إلى الساحل ، ليظهر على الصورة المعهودة ميتا .


قال رضي الله عنه :  ( لأنه لو غاب بصورته وبما قالوا قومه ، احتجب ) أي ، عن الأعين فتقوى عقيدتهم بربوبيته ، لكنه أظهر ليكون آية لمن خلفه من الأمم ، فلا يدعى أحد بالربوبية .
( فظهر بالصورة المعهودة ميتا ليعلم أنه هو . فقد عمته النجاة حسا ) من حيث البدن .
( ومعنى ) من حيث الروح .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن حقت عليه كلمة العذاب الأخراوي لا يؤمن ، ولو جائته كل آية ) كأبي جهل وأضرابه ، فإنه قال لقاتله حال القتل : قل لصاحبك ( يعنى محمد ) ما أنا بنادم عن مخالفتك في هذا الحال أيضا .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حتى يروا العذاب الأليم ، أي يذوقوا العذاب الأخراوي ) عند الموت الطبيعي
( فخرج فرعون من هذا الصنف . هذا هو الظاهر الذي ورد به القرآن . ثم ، إنا نقول بعد ذلك : والأمر فيه إلى الله بما استقر في نفوس عامة الخلق من شقائه )

في الآخرة (وما لهم نص في ذلك يستندون الشقاء إليه.) لا إلى الله .
(وأما آله ، فلهم حكم آخر ليس هذا موضعه.) أي، حكم فرعون حكم المؤمنين الطاهرين المطهرين ، إذ ما وقع بعد الإيمان منه عصيان ، والإسلام يجب ما قبله .
وأما حكم آله ، فحكم الكافرين من وجه ، لأنهم جعلوا الرب المطلق
والمعبود الحق مقيدا في صورة فرعونية فستروا الحق في صورته الباطلة ، وحكم
المؤمنين من وجه ، لأنهم ما عبودا في صورته إلا الهوية الإلهية الظاهرة في المجالي
المختلفة . فرضي الله عنهم من هذه الحيثية ورضوا عنه ، وإن كان من حيث
تقيدهم إياه يعذبهم . ولما لم يكن هذا موضع بيانه ، قال : ( ليس هذا موضعه . )

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، ليعلم أنه ما يقبض الله أحدا إلا وهو مؤمن ، أي مصدق بما جاءت به الأخبار الإلهية ) لأنه يعاين ما أخبر به الأنبياء ، عليهم السلام ، من الوعد والوعيد .
( وأعنى من المحتضرين . ) أي ، وأعنى بهذا القول من يكون من المحتضرين لا من يموت مطلقا .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولهذا يكره موت الفجأة وقتل الغفلة . فأما موت الفجأة فحده أن يخرج النفس الداخل ولا يدخل النفس الخارج . فهذا موت الفجأة . وهذا غير المحتضر .
ولما خص المحتضر بالذكر ، أراد أن يفرق بينه وبين غيره فقال : ( كذلك قتل الغفلة بضرب عنقه من ورائه وهو لا يشعر ، فيقبض على ما كان عليه من إيمان أو كفر .
ولذلك قال ، عليه السلام : "ويحشر على ما مات عليه" كما أنه يقبض على ما كان عليه . والمحتضر ما يكون إلا صاحب شهود ، فهو صاحب إيمان بما ثمة . فلا يقبض إلا على ما كان عليه ، لأن "كان" حرف وجودي ) .

أي ، لفظ ( كان ) كلمة وجودية وإطلاق الحرف عليه مجاز ( لا ينجر معه الزمان إلا بقرائن الأحوال . ) أي ، ( كان ) يدل على وجود الصفة المذكورة في موصوفه ، ولا تدل على الزمان ، والاستدلال بالزمان يحصل من قرائن الأحوال . كما تقول : كان زيد صاحب المال والجاه .
فمن شهودك في الحال فقره ، تستدل على أن غناه كان في الزمان الماضي .
وكذلك في قولك : كان فلان شابا قويا . أي ، في الزمان الماضي ، واليوم شيخ ضعيف .
ولعدم دلالته على الزمان ، يطلق على الله في قوله : ( وكان الله عليما حكيما ) وعلى غيره من الأمور الثابتة أزلا وأبدا ، كما قال في قوله : ( وكان ذلك في الكتاب مسطور )

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فيفرق بين الكافر المحتضر في الموت، وبين الكافر المقتول غفلة، أو الميت فجأة. كما قلنا في حد الفجأة . )
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما حكمة التجلي والكلام في صورة النار ، فلأنها كانت بغية موسى ، فتجلى له مطلوبه ليقبل عليه ولا يعرض عنه ، فإنه لو تجلى له في غير صورة مطلوبة ، أعرض عنه لاجتماع همته على مطلوب خاص . )

أي ، وأما حكمة تجلى الحق وكلامه مع موسى ، عليه السلام ، في الصورة النارية ، فلأنه ، عليه السلام ، كان يطلب النار لحاجته إليها ، فتجلى له الحق في صورتها ليقبل موسى ، عليه السلام ، على الحق المتجلي الظاهر على صورة مطلوبه ولا يعرض عنه ، إذ لو تجلى له في
صورة غير الصورة النارية ، لكان يعرض عنه وكان يشتغل على مطلوبه لاجتماع
همته على المطلوب الخاص .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولو أعرض ، لعاد عمله عليه ، فأعرض عنه الحق ) أي ، ولو أعرض ، لعاد حكم عمله الذي هو الإعراض عليه ، فكان يعرض عنه الحق أيضا مجازاة له .
( وهو مصطفى مقرب ، فمن قربه أنه تجلى له في مطلوبه ، وهو لا يعلم . ) 
أي، فمن قربه وكونه محبوبا عند الله تعالى، تجلى له الحق وهو طالب للنار غير طالب للتجلي .
وهذا مخصوص بالمحجوبين المعتنى بهم .
شعر :
(كنار موسى يراها عين حاجته   ..... وهو الإله ولكن ليس يدريه ) ظاهر .
وتذكير الضمير في قوله : ( وهو الإله ) وفي قوله : ( ولكن ليس يدريه ) لتغليب الخبر واعتباره .

والله الهادي .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:02 pm

26 - فص حكمة صمدية في كلمة خالدية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

الفص الخالدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
26 - فص حكمة صمدية في كلمة خالدية
قال رضي الله عنه :  ( الصمد ) يقال على مالا جوف له : تقول ( هذا مصمود ) أي ليس بمجوف ، ويقال للمقصد والملجأ : قال الله تعالى ( الله الصمد ) .
ولما كان خالد ، عليه السلام ، في قومه صمدا محتاجا إليه ، ملجاء لهم ، يستندون إليه في كل حاجة ، وكان مظهرا للإسم ( الصمد ) وذاكرا ربه بالأحد الصمد ، اختصت الحكمة الصمدية بكلمته .
 
قال رضي الله عنه :  (وأما حكمة خالد بن سنان ، فإنه أظهر بدعواه النبوة البرزخية.) أي ، أظهر بدعواه الإنباء عن البرزخ الذي بعد الموت ، وما أظهر نبوته في الدنيا ، لذلك قال نبينا ، صلى الله عليه وسلم : (إني أولى الناس بعيسى بن مريم : فإنه ليس بيني وبينه نبي) . أي ، نبي داع للخلق إلى الله ومشرع .
 
والمراد ب‍ ( البرزخ ) هنا الموطن الذي بين الدنيا والآخرة . وهو غير البرزخ الذي بين عالم الأرواح المثالي ، وبين هذه النشأة العنصرية ، كما مر في المقدمات  في الفصل الكاشف عن أحوال عالم المثال .
 
قال رضي الله عنه :  ( فإنه ما ادعى الإخبار بما هنالك ) أي ، بما في البرزخ ( إلا بعد الموت ، فأمر أن ينبش عليه ويسأل فيخبر أن الحكم في البرزخ على صورة الحياة الدنيا ، فيعلم بذلك )
الإخبار ( صدق الرسل كلهم فيما أخبروا به في حياتهم الدنيا . فكان غرض خالد صلى الله عليه وسلم إيمان العالم كله بما جاءت به الرسل ) من أحوال القبر والمواطن والمقامات البرزخية .
 
قال رضي الله عنه :  ( ليكون ) خالد ( رحمة للجميع ، فإنه تشرف بقرب نبوته من نبوة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، وعلم خالد أن الله أرسله رحمة للعالمين . ولم يكن خالد برسول ، فأراد أن يحصل من هذه الرحمة في الرسالة المحمدية على حظ وافر ولم يؤمر بالتبليغ ، فأراد أن يحظى بذلك ) التبليغ من مقام الرسالة ( في البرزخ ليكون أقوى في العلم في حق الخلق . )
أي ، ليعلم قوة علمه بأحوال الخلائق في البرزخ .
 
قال رضي الله عنه :  ( فأضاعه قومه . ولم يصف النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قومه بأنهم ضاعوا ، وإنما وصفهم بأنهم أضاعوا نبيهم ) أي ، أضاعوا وصية نبيهم ( حيث لم يبلغوه مراده . )
وقصته : أنه كان مع قومه يسكنون بلاد عدن ، فخرجت نار عظيمة من مغارة
فأهلكت الزرع والضرع ، فالتجأ إليه قومه . فأخذ خالد يضرب تلك النار بعصاه
حتى رجعت هاربة منه إلى المغارة التي خرجت منها . ثم ، قال لأولاده : إني أدخل
المغارة خلف النار لأطفئها .
وأمرهم أن يدعوه بعد ثلاثة أيام تامة . فإنهم إن نادوه قبل ثلاثة أيام ، فهو يخرج ويموت ، وإن صبروا ثلاثة أيام ، يخرج سالما .
فلما دخل ، صبروا يومين واستفزهم الشيطان . "" إستفزهم ، أي استخفهم ""
فلم يصبروا تمام ثلاثة أيام ، فظنوا أنه هلك ، فصاحوا به ، فخرج ، عليه السلام ، من المغارة وعلى رأسه ألم حصل من صياحهم .
فقال : ضيعتموني وضيعتم قولي ووصيتي . وأخبرهم بموته ، وأمرهم أن يقبروه ويرقبوه أربعين يوما .
فإنه يأتيهم قطيع من الغنم يقدمها حمار أبتر مقطوع الذنب ، فإذا حاذى قبره ووقف ، فلينبشوا عليه قبره ، فإنه يقوم ويخبرهم بأحوال البرزخ والقبر عن يقين ورؤية .
 
فانتظروا أربعين يوما ، فجاء القطيع ويقدمها حمار أبتر ، فوقف حذاء قبره . فهم مؤمنوا قومه أن ينبشوا عليه ، فأبى أولاده خوفا من العار لئلا يقال لهم أولاد المنبوش قبره قد فحملتهم الحمية الجاهلية على ذلك ، فضيعوا وصيته وأضاعوه .
فلما بعث رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، جاءته بنت خالد فقال عليه السلام : ( مرحبا بابنة نبي أضاعه قومه ) .
قال رضي الله عنه :  ( فهل بلغه الله أجر أمنيته ؟ فلا شك ولا خلاف في أن له أجرا الأمنية ، وإنما الشك والخلاف في أجر المطلوب هل يساوى تمنى وقوعه مع عدم وقوعه بالوجود ، أم لا . ) أي ، هل يساوى مجرد تمنى وقوعه حصول الشئ ، مع أنه لم يكن حاصلا بما هو حاصل في الوجود ، أم لا .
 
فقوله رضي الله عنه  : ( بالوجود ) متعلق ب‍ ( يساوى ) لا ب‍ ( الوقوع ) . يقال : هذا الشئ يساوى درهما ويساوى بدرهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن في الشرع ما يؤيد التساوي في مواضع كثيرة ، كالآتي للصلاة في الجماعة فيفوته الجماعة فله أجر من حضر الجماعة ، وكالمتمني مع فقره ما هو عليه أصحاب الثروة والمال من فعل الخير فيه . فله مثل أجورهم ، ولكن مثل أجورهم في نياتهم ، أو في عملهم فإنهم جمعوا بين العمل والنية ، ولم ينص النبي عليهما ولا على واحد منهما . والظاهر أنه لا تساوى بينهما .
ولذلك الأجر طلب خالد بن سنان الإبلاغ حتى يصح له مقام الجمع بين الأمرين ، فيحصل الأجرين . والله أعلم بالصواب . )
وفي بعض النسخ : ( فيحصل على الأجرين ) . الأمران هما النبوة ، والرسالة .
والأجران ما يترتب عليهما من الكمالات الأخراوية .
ويجوز أن يراد ب‍ ( الأمرين ) العمل والنية . وب‍ ( الأجرين ) ما يترتب عليهما من الثواب .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:02 pm

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
وفي بعض نسخ الشيخ : ( فص حكمة كلية ) . إنما كانت حكمته ( فردية ) لانفراده بمقام الجمعية الإلهية الذي ما فوقه إلا مرتبة الذات الأحدية ، لأنه مظهر الاسم ( الله ) ، وهو الاسم الأعظم الجامع للأسماء والنعوت كلها .
ويؤيده تسمية الشيخ لهذه الحكمة بالحكمة ( الكلية ) ، لأنه جامع لجميع الكليات والجزئيات .
لا كمال للأسماء إلا وذلك تحت كماله ولا مظهر إلا وهو ظاهر بكلمته .
وأيضا ، أول ما حصل به الفردية إنما هو بعينه الثابتة ، لأن أول ما فاض بالفيض الأقدس من الأعيان هو عينه الثابتة ، وأول ما وجد بالفيض المقدس في الخارج من الأكوان روحه المقدس .
كما قال : ( أول ما خلق الله نوري ) .
 
فحصل بالذات الأحدية والمرتبة الإلهية وعينه الثابتة الفردية الأولى ولذلك قال رضي الله عنه :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إنما كانت حكمته فردية لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني ، ولهذا بدئ به الأمر وختم : فكان نبيا وآدم بين الماء والطين . ثم ، كان بنشأته العنصرية خاتم النبيين . ) وإنما كان أكمل موجود في هذا النوع الإنساني ، لأن الأنبياء ، صلوات الله عليهم أجمعين ، أكمل هذا النوع ، وكل منهم مظهر لاسم كلي ، وجميع الكليات داخل تحت الاسم الإلهي الذي هو مظهره ، فهو أكمل أفراد هذا النوع .
 
ولكونه أكمل الأفراد ، بدئ به أمر الوجود بإيجاد روحه أولا ، وختم به أمر الرسالة آخرا بل هو الذي ظهر بالصورة الآدمية في المبدئية ، وهو الذي يظهر بالصورة الخاتمية للنوع . ويفهم هذا السر من يفهم سر الختمية فلنكتف بالتعريض عن التصريح . والله هو الولي الحميد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأول الأفراد الثلاثة ، وما زاد على هذه الأولية ) أي ، على هذه الفردية الأولية التي هي الثلاثة ( من الأفراد فإنه عنها.) وهذه الثلاثة المشار إليها في الوجود هي الذات الأحدية ، والمرتبة الإلهية ، والحقيقة الروحانية المحمدية المسماة ب‍ (العقل الأول).
وما زاد عليها هو صادر منها . كما هو مقرر أيضا عند أصحاب النظر أن أول ما وجد هو العقل الأول .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فكان ، عليه السلام ، أدل دليل على ربه ، فإنه أوتى جوامع الكلم التي هي مسميات أسماء "آدم " ) أي ، وإذا كان الروح المحمدي ، صلى الله عليه وسلم ، أكمل هذا النوع ، كان أدل دليل على ربه ، لأن الرب لا يظهر إلا بمربوبه ومظهره ، وكمالات الذات بأجمعها إنما يظهر بوجوده ، لأنه أوتى جوامع الكلم التي هي أمهات الحقائق الإلهية والكونية الجامعة لجزئياتها . وهي المراد بمسميات أسماء آدم ، فهو أدل دليل على الاسم الأعظم الإلهي ( فأشبه الدليل في تثليثه . )
أي ، صار مشابها للدليل في كونه مشتملا على التثليث . وهو الأصغر ، والأكبر ، والحد الأوسط . (والدليل دليل لنفسه ) اللام  للعهد .
أي ، هذا الدليل الذي هو الروح المحمدي هو دليل على نفسه في الحقيقة ، ليس بينه وبين ربه امتياز إلا بالاعتبار والتعين ، فلا غير ليكون الدليل دليلا له .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما كانت حقيقته تعطى الفردية الأولى بما هو مثلث النشأة ، لذلك قال في باب المحبة التي هي أصل الوجود : "حبب إلى من دنياكم ثلاث " بما فيه من التثليث . )
أي ، لما كانت حقيقته حاصلة من التثليث المنبه عليه ، قال : ( حبب إلى من دنياكم ثلاث ) . وجعل المحبة التي هي أصل الوجود ظاهرا فيه ( ثم ذكر النساء ، والطيب ، و " جعلت قرة عينه في الصلاة " ) أي ، قدم ذكر النساء والطيب ، ثم قال آخرا : " قرة عيني في الصلاة " .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فابتدأ بذكر النساء وأخر الصلاة ، وذلك لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها . ) فيحن إليها حنين الكل إليه جزئه .
 
ولما ذكر أنه ، عليه السلام ، أدل دليل على ربه ، وقال : ( والدليل دليل لنفسه ) وأوقع على سبيل الاعتراض قوله : ( ولما كانت حقيقته تعطى الفردية ) ،
رجع إلى الكلام فقال : ( ومعرفة الإنسان بنفسه مقدمة على معرفته بربه ، فإن معرفته بربه نتيجة عن معرفته بنفسه ). لذلك قال عليه السلام : ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) وهو ظاهر .
فلا يتوهم أنه من تتميم دليل تقديم النساء وتأخير الصلاة ، إذ لا رابطة بينهما . ولو قال ومحبة الإنسان لنفسه مقدمة على محبته لغيره ، لكان كذلك .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن شئت قلت بمنع المعرفة في هذا الخبر والعجز عن الوصول ، فإنه سائغ فيه . وإن شئت قلت بثبوت المعرفة . ) أي ، فإن شئت قلت إن حقيقة النفس لا يمكن معرفتها ، للعجز عن الوصول إلى معرفة كنهها .
فإنه صحيح ، لأن حقيقة النفس عائدة إلى حقيقة الذات الإلهية ، ولا إمكان أن يعرفها أحد سواها . وإن شئت قلت بأن معرفة النفس بحسب كمالاتها وصفاتها ممكنة ، بل حاصلة للعارفين ، فمن يعرفها من حيث كمالاتها ، يعرف ربها من حيث الأسماء والصفات . فإنه أيضا صحيح .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالأول أن تعرف أن نفسك لا تعرفها ، فلا تعرف ربك . والثاني أن تعرفها ، فتعرف ربك . ) أي ، فعلى الأول أن تعرف أن نفسك لا تعرف حقيقة نفسها ، فلا تعرف حقيقة ربك . وعلى الثاني أن تعرف نفسك بصفاتها وكمالاتها ، فتعرف ربك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أوضح دليل على ربه ، فإن كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربه . فافهم . ) أي ، لما كان كل جزء من العالم دليلا على أصله والاسم الذي هو ربه ، كان محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أيضا دليلا واضحا على ربه الذي هو رب الأرباب كلها . وهو الله سبحانه وتعالى .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما حبب إليه النساء فحن إليهن ، لأنه من باب حنين الكل إلى جزئه ، فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحق في قوله - في هذه النشأة الإنسانية العنصرية - : "ونفخت فيه من روحي".)
واعلم ، أن المرأة باعتبار الحقيقة عين الرجل ، وباعتبار التعين يتميز كل منهما عن الآخر . ولما كانت المرأة ظاهرة من الرجل في الأصل كانت كالجزء منه انفصل وظهر بصورة الأنوثة ، فحنينه ، صلى الله عليه وسلم ، إليهن من باب حنين الكل إلى جزئه فأبان النبي صلى الله عليه
وسلم ، وأظهر بذلك القول عن الأمر في نفسه ، وكذلك الأمر في الجانب الإلهي .
 
فإن قوله تعالى : "ونفخت فيه من روحي" . يدل على أن نسبة آدم عليه السلام إلى ربه بعينها نسبة الجزء إلى كله والفرع إلى أصله ، وكل كل يحن إلى جزئه ، وكل أصل يحن إلى فرعه ، فحصل الارتباط بين الطرفين ، فصار كل منهما محبا من وجه ، ومحبوبا من آخر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، وصف ) الحق ( نفسه بشدة الشوق إلى لقائه ) أي ، إلى لقاء من هو مشتاق إليه .
ولما كان المحب المشتاق عين المحبوب في الحقيقة ، وإن كان غيره بالتعين، قال : (إلى لقائه)
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال للمشتاقين : ) أي ، خاطب لأجل المشتاقين ( "يا داود ، إني أشد شوقا إليهم " . يعنى للمشتاقين إليه . وهو لقاء خاص . ) أي ، لقاء الحق لنفسه في صورة المحب المشتاق لقاء خاص غير لقائه لنفسه في صورة الإطلاق الكلى والغيب الأصلي بالشهود الأزلي . ولهذا اللقاء خصوصية لا تحصل بدون هذا المجلى المعين . كما مر في أول الكتاب .
لذلك كان أشد شوقا إليهم ، لأن ما لا يحصل إلا بالمرآة المحدثة لا يكون أزليا ، فيشتاق إلى المرآة ليرى صورة نفسه ويبتهج بنفسه ابتهاجا كليا .
وشوق كل مشتاق لا يكون إلا بحسب علمه وإدراكه للمعاني الظاهرة في محبوبه .
والحق تعالى منبع العلم الذاتي والصفاتي ، ومن حضرة علمه نصيب كل عالم من العلم ، فعلمه بحقيقة المحبوب وكمالاته أتم ، فشوقه ومحبته إياهم أعظم وأقوى من محبة كل مشتاق إليه .
قوله رضي الله عنه  (فإنه قال في حديث الدجال: "إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت ".)
تعليل لقوله : ( وهو لقاء خاص . ) فإن قوله ، عليه السلام : ( إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت ) . يدل على أن الملاقاة بين العبد وبين ربه مترتبة على موت العبد وما يكون مترتبا على الأمر الخاص يكون خاصا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا بد من الشوق لمن هذه صفته . ) أي ، إذا كان اللقاء الخاص موقوفا على الموت ، فلا بد من أن يشتاق الحق لمن لا يرى ربه ، حتى يموت فيراه .
أي ، إذا كان اللقاء الخاص موقوفا إلى الموت ، فلا بد أن يكون الشوق حاصلا لمن يكون هذه الحال صفته .
 
ف‍ ( من ) عبارة عن الحق سبحانه . أي ، لا بد من أن يكون الحق مشتاقا إلى مالا يمكن أن يراه العبد إلا به وهو الموت .
وتحقيقه : أن الهوية الإلهية الظاهرة في صورة العبد هي التي تشتاق إلى الموت لتصل إلى مقام جمعه وتخلص عن مضائق الإمكان وعوارض الحدثان ، وذلك لا يحصل إلا بالموت، لأن الملاقاة بين العبد وبين ربه موقوف على الموت، والحق سبحانه يريد هذا النوع من الملاقاة ، فيشتاق إليه.


ويجوز أن يكون الاشتياق من جهة العبد . أي ، لا بد لمن لا يرى ربه إلا عند الموت أن تشتاق إليه .
لكن قوله آخرا( فهو يشتاق لهذه الصفة الخاصة التي لا وجود لها إلا عند الموت ) يؤيد ما ذكرنا أولا ، لأن الضمير في قوله : "فهو يشتاق " للحق ، إذا العبد يكره الموت ، فلا يشتاق إليه ويكره تحققه. والله أعلم .
 
واعلم أن هذا الخطاب أي قوله : ( أحدكم ) للمؤمنين الموحدين ، لا للكافرين المحجوبين . لأن المراد بالموت إما الموت الإرادي ، أو الطبيعي .
والأول الحاصل للعارفين ، موجب للقاء الحق بحسب تجلياته الأسمائية أو الصفاتية أو
الذاتية ، على قدر قوة استعدادهم وسيرهم في السلوك .
والعابدون والزاهدون والصلحاء من عباد الله الذين لا قوة لاستعداداتهم على قطع المنازل والمقامات ، فلا يحصل لهم اللقاء حتى يحصل لهم الموت الطبيعي وينكشف لهم النعيم ، كما
دل عليه حديث ( التحول ) .
وأما المحجوبون الذين طبع الله على قلوبهم وران عليها الهيئات المظلمة والأخلاق المغيمة المكتسبة ، فلا ينظر الحق إليهم ولا يكلمهم يوم القيامة ولا يشتاق إليهم .
 
كما قال رضي الله عنه : " من أحب لقاء الله ، أحب الله لقائه ، ومن كره لقاء الله ، كره الله لقائه ". " ومن كان في هذا أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ".
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فشوق الحق لهؤلاء المقربين مع كونه يراهم ، فيحب أن يروه ) أي ، شوق الحق المحب ثابت في نفس الأمر لهؤلاء المقربين ، مع كون الحق يراهم بالشهود الأزلي ، ويجب أن يروه في صور تجلياته ومظاهر أسمائه وصفاته .
ف‍ ( الفاء ) في قوله : ( فيحب ) عاطفة ، والمعطوف عليه هو قوله : " يراهم " .
( ويأبى المقام ) الدنيوي ( ذلك . ) لأن المقام الدنياوي مقام حجاب فمن لا يخرج عنه ، إما بالموت الإرادي وإما بالموت الطبيعي ، لا يرتفع عنه الحجاب ، فلا يرى ربه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأشبه قوله تعالى : "حتى نعلم" مع كونه عالما . ) أي ، فصار هذا القول شبيها بقوله تعالى : ( حتى نعلم ) لأنه كان يرى أعيان هؤلاء المقربين في الغيب قبل ظهورهم بالوجود العيني وتلك الرؤية لا تتغير أبدا ، ومع ذلك وصف نفسه بالشوق ، هو يقتضى فقدان صورة المحبوب ، فهذا الشوق له لا يكون بحسب مقام الجمع ، بل بحسب مقام التفصيل .
كما مر في قوله تعالى : ( حتى نعلم ) من أن العلم بالمعلومات حاصل له أزلا وأبدا ، فقوله : ( حتى نعلم ) من مقام الاختبار وتجليات الاسم ( الخبير ) .
وهو في صور المظاهر لا غيره  
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو يشتاق لهذه الصفة الخاصة التي لا وجود لها إلا عند الموت ) أي ، فالحق يشتاق في صور مظاهره لحصول هذه الصفة ، وهي الرؤية التي لا تحصل إلا عند الموت بارتفاع الحجاب وشهود الحق في تجلياته . وذلك الذي لا يحصل إلا بالموت .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيبل بها ) أي ، بتلك الصفة . ( شوقهم إليه . ) أي ، يسكن بماء الوصال وارتفاع الحجب نار شوقهم إليه ( كما قال تعالى في حديث " التردد " وهو من هذا الباب ) أي ، من باب الشوق إلى لقائهم (ما ترددت في شئ أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مسائته ) لأن المحب يكره ما يكرهه محبوبه ( ولا بد له من لقائي فبشره ) أي ، بشر المحبوب باللقاء ( وما قال له ولا بد له من الموت لئلا يغمه بذكر الموت) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما كان لا يلقى ) المؤمن ( الحق إلا بعد الموت) كما قال عليه السلام : ( إن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت ) .
لذلك قال الله تعالى : (ولا بد له من لقائي.) جواب (لما) . وقوله (لذلك) متعلق ب‍ (قال) .
(فاشتياق الحق لوجود هذه النسبة.) أي ، فاشتياق الحق إنما هو لحصول هذه الصفة وهي الاشتياق في المظاهر المنقادة لأوامره ونواهيه .
شعر :
(يحن  الحبيب  إلى رؤيتي  .... وإني إليه  أشد حنينا )
(وتهفوا النفوس ويأبى القضا  ... فأشكو الأنين ويشكو الأنينا )
هذا عن لسان الحق من مقام الشوق . أي ، تضطرب النفوس وتطلب رؤيتي ، ولكن يأبى القضاء الإلهي والتقدير الرحماني عن تلك الرؤية إلى أن يحل الأجل فإن القضاء والقدر قدر وعين لكل أجل وقتا معينا ، لا يمكن تقديمه ولا تأخيره .
وإذا كان كذلك ، فأشكو من الأنين إلى وقت الأجل ، ويشكو المحب الأنين .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما أبان أنه نفخ فيه من روحه ، فما اشتاق إلا لنفسه ) أي ، فلما أظهر الحق أنه نفخ في هذا المجلى الإنساني من روحه ، علم أنه ما اشتاق إلا لنفسه وهويته المتعينة بالتعينات الخلقية .
( ألا تراه خلقه على صورته لأنه من روحه ؟ ) أي ، ألا ترى الإنسان كيف خلقه الله على صورته ؟ وإنما خلقه عليها ، لكونه نفخ فيه من روحه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسماة في جسده  أخلاطا ) ، حدث (عن نفخه ) أي ، عن نفخ الحق فيه ( اشتعال بما في جسده من الرطوبة ) إنما جعل الأركان العنصرية أخلاطا ، لأنها أولا تصير أخلاطا ، ثم أعضاء .
والمراد ب‍ ( الاشتعال ) نار الحرارة الغريزية الحاصلة من سريان الروح الحيواني في أجزاء البدن المشتعلة بواسطة الرطوبة الغريزية .
 
وهي له كالدهن للسراج ( فكان روح الإنسان نارا لأجل نشأته . ) أي ، ولما كانت نشأته الجسمانية عنصرية ، كان روحه نارا .
أي ، ظهر روحه الحيوانية ، أو نفسه الناطقة ، بالصورة النارية الموجبة للاشتعال بالحرارة الغريزية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا ما كلم الله موسى إلا في صورة النار ، وجعل حاجته فيها . ) أي ، ولأجل أن الروح تظهر في البدن بالصورة النارية ، تجلى الحق لموسى ، عليه السلام ، فكلمه في صورة النار وجعل مراده فيها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلو كانت نشأته طبيعية ، لكان روحه نورا . ) أي ، لو كانت نشأته غير عنصرية ، كنشأة الملائكة التي فوق السماوات وهي النشأة الطبيعية النورية ، لكان روحه ظاهرا بالصورة النورية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكنى عنه ب‍ "النفخ" يشير إلى أنه من نفس الرحمن ) أي ، وكنى عن ذلك الظهور والحدوث ب‍ ( النفخ ) مشيرا إلى أنه حاصل من النفس الرحماني ( فإنه بهذا النفس الذي هو النفخ ظهر عينه ) أي ، بالوجود الخارجي حصل عين الروح في الخارج ، أو عين الإنسان .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وباستعداد المنفوخ فيه ) وهو البدن ( كان الاشتعال نارا لا نورا . ) لأن بدن الإنسان عنصري لا طبيعي نوري .
( فبطن نفس الحق فيما كان به الإنسان إنسانا . ) أي ، استتر نفس الحق ، أي الروح الحاصل من النفس الرحماني ، في جوهر كان الإنسان به إنسانا .
وهو الروح الحيواني الذي به يظهر هذه الصورة الإنسانية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، اشتق له منه شخصا على صورته سماه امرأة ، فظهرت بصورته ، فحن إليها حنين الشئ إلى نفسه ، وحنت إليه حنين الشئ إلى وطنه . ) أي ، إلى أصله .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فحبب إليه النساء ، فإن الله أحب من خلقه على صورته ، وأسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم ومنزلتهم وعلو نشأتهم الطبيعية . فمن هناك وقعت المناسبة ) أي ، ومن هذا الحنين الذي بين الطرفين وقعت المناسبة بين العبد وربه ، فإنه يحن إلى الرب ، والرب يحن إلى عبده .
 
وقيل أي ، بالصورة بين الرجل والمرأة ، كما بين الحق والرجل . وفيه نظر .
لأنه يذكر الصورة ويجعلها أعظم مناسبة من هذه المناسبة بقوله : ( والصورة أعظم مناسبة ) بالنصب على التمييز . أي ، والحال أن كونه مخلوقا على صورته هو أعظم من جهة المناسبة المذكورة .
أو بالجر على الإضافة . أي ، والحال أن كون الإنسان مخلوقا على صورة الحق أعظم مناسبة من المناسبات الواقعة بين العبد وربه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأجلها وأكملها : فإنها زوج ، أي ، شفعت وجود الحق ، كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرجل فصيرته زوجا . ) أي ، فإن الصورة الإنسانية جعلت الصورة الرحمانية زوجا ، كما جعلت صورة المرأة صورة الرجل زوجا .
( فظهرت الثلاثة : حق ، ورجل ، وامرأة . ) أي ، فحصلت الفردية وبإزائها في النسخة الإنسانية : الروح ، والقلب ، والنفس .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه . فحبب إليه ربه النساء كما أحب الله من هو على صورته . ) فلذلك حن إلى القلب والنفس ، وما يتبعها من عرشها ومستقرها وسدنتها ، وهو البدن وقواه البدنية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما وقع الحب ) أي ، حب الرجل ( إلا لمن تكون عنه ) وهو المرأة .
 ( وقد كان حبه . ) أي ، حب الرجل ( لمن تكون منه وهو الحق . فلهذا قال الشيخ رضي الله عنه : " حبب " ولم يقل : أحببت من نفسه . ) أي ، فلأجل أنه كان محبا لربه لا غير ، وربه
جعله محبا للنساء لظهور هويته فيهن ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : حبب إلى .
ولم يقل : أحببت من نفسه ( لتعلق حبه بربه الذي هو على صورته حتى في محبته لامرأته . ) أي ، حتى أن محبته لامرأته كانت بواسطة المحبة الإلهية التي كانت مركوزة في جبلته وذاته ، لأنها مظهر من المظاهر الكلية التي يتفرع منها جميع المظاهر .
ولما كانت هذه المحبة ظاهرة في رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بواسطة حب الله إياه ،
 
قال رضي الله عنه  : ( فإنه أحبها بحب الله إياه تخلقا إلهيا . ) ولكمال تخلقه بالأخلاق الإلهية ، قال تعالى : ( إنك لعلى خلق عظيم ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما أحب الرجل المرأة ، طلب الوصلة أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة ، فلم تكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح . ) أي ، الجماع .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها ، ولذلك أمر بالاغتسال منه ، فعمت الطهارة ، كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة . ) أي ، ولأجل أن الرجل أحب المرأة والمرأة الرجل ، وطلب كل منهما الوصلة إلى الآخر غاية الوصلة ، عمت الشهوة جميع أجزاء بدنهما .
 
كما قال :
إذا ما تجلى لي فكلي نواظر ...  وإن هو ناداني فكلي مسامع
ولأجل عموم الشهوة إلى ما هو له وجه الغيرية والامتياز من الحق ، أمر كل منهما باغتسال جميع أجزاء البدن ، فعمت الطهارة ، كما عمت الشهوة والمحبة الموجبة لفناء المحب في المحبوب .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن الحق غيور على عبده ) فيغار عليه ( أن يعتقد أنه يلتذ بغيره ) أي ، بما وقع عليه اسم الغيرية والسوى واتصفت بالحدوث والإمكان ، وان كان في الحقيقة عين الرحمن .
 
وإنما قال رضي الله عنه  : ( أن يعتقد أنه يلتذ بغيره ) فإن العارف المعتقد حال التذاذه به أنه يلتذ بالحق الظاهر في تلك الصورة ، هو مشغول بالحق ، لا بغيره ، فلا غيرية حينئذ .
لكن لما كان تلك الصورة متعينة ممتازة عن مقام الجمع الإلهي الكمالي متسمة بسمة الحدوث ، محل النقائص والأنجاس ، أوجب عليه الغسل ليطهره مما اكتسب بالتوجه إليها والاشتغال بها من النقائص .
وإليه أشار بقوله رضي الله عنه  : ( فطهره بالغسل ليرجع ) العبد ( بالنظر إليه ) أي ، إلى الحق فيشاهد الحق . ( فيمن فنى فيه ) وهو المرأة ( إذ لا يكون إلا ذلك . ) أي ، طهره ليرجع إلى الحق ، إذ لا بد من  الرجوع إليه وشهود ذاته ، فإن كان الرجوع إليه في هذه الحياة الدنياوية ، فيحصل الشهود فيها ، وإلا في الآخرة كما مر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة ، كان شهوده في منفعل . ) لأن المرأة محل الانفعال ( فإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه ، شاهده في فاعل . ) أي ، وإذا شاهد الحق في نفسه وشاهد أن المرأة من نفسه ظهرت وهو موجدها ، يكون الرجل مشاهد للحق في صورة الفاعل.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا شاهده من نفسه من غير استحضار صورة ما ، تكون عنه ) أي ، من غير أن يلاحظ ظهور المرأة التي تكونت عن نفس الرجل ( كان شهوده عن منفعل عن الحق بلا واسطة ) لأن نفسه منفعلة عن الحق بلا واسطة .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل ، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل ومنفعل ) أما وجه فاعليته ، فإنه يتصرف ويفعل في نفس الرجل ، تصرفا كليا ، ويجعله منقادا له محبا لنفسه .
وأما وجه انفعاليته ، فإنه في هذه الصورة محل تصرف الرجل وتحت يده وأمره ونهيه .
ويجوز أن يكون وجه فاعليته في المرأة كون حقيقة المرأة بعينها حقيقة الرجل ، إذ الذكورة والأنوثة من عوارضها ، فتلك هي الفاعلة فيها ، وهي بعينها هي المنفعلة . وهذا وجه انفعاليته أيضا .
فصح أن شهود الرجل الحق في المرأة شهود للحق في الصورة الفاعلية والمنفعلية ، فيكون أكمل .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة . ) أي ، وإذا شاهده من نفسه من غير استحضار صورة المرأة ، فيشاهد الحق من حيث إنه منفعل ، فإنه من جمله مفعولات الحق ومخلوقاته . وترك القسم الثاني .
وهو شهود الحق في نفسه من حيث إنه ظهرت المرأة عنه ، وهو شهود الحق في فاعل اكتفاء بذكر الثالث .
فإن شهود الحق من حيث إنه فاعل ومنفعل أتم من شهوده من حيث إنه فاعل وحده ، أو منفعل وحده .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلهذا أحب ، صلى الله عليه وسلم ، النساء لكمال شهود الحق فيهن ، إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا . فإن الله بالذات غنى عن العالمين . ) ولا نسبة بينه وبين شئ من هذا الوجه أصلا ، فلا يمكن شهوده مجردا عنها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ولم تكن الشهادة إلا في مادة ، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله . ) أي وأكمل الشهود في النساء أيضا في حالة النكاح الموجب لفناء المحب في المحبوب .
وكمال الشهود في غير تلك الحالة بالنسبة إلى من يلاحظ جمال الحق في صور الأكوان دائما ، لا يغفل عنه إلا أوقاتا يسيرة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأعظم الوصلة النكاح . ) أي ، الجماع ( وهو نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته ليحلفه ، فيرى فيه صورته بل نفسه . فسواه وعدله ونفخ فيه من روحه الذي هو نفسه . ) أي ، النكاح هو نظير التوجه الإلهي لإيجاد الإنسان ليشاهد فيه صورته وعينه ، لذلك سواه وعدله ونفخ فيه من روحه ، وكذلك الناكح يتوجه لإيجاد ولد على صورته بنفخ بعض روحه فيه الذي يشتمل عليه النطفة ، ليشاهد نفسه وعينه في مرآة ولده ، ويخلفه من بعده . فصار النكاح المعهود نظيرا للنكاح الأصلي الأزلي .
( فظاهره خلق ، وباطنه حق . ) أي ، فظاهر ما سواه . وعدله من الصورة الإنسانية ، خلق موصوف بالمعبودية . وباطنه حق ، لأن باطنه من روح الله الذي يدبر الظاهر ويربه ، بل هو عينه وذاته الظاهرة بالصورة الروحانية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا وصفه بالتدبير لهذا الهيكل الإنساني . ) أي ، ولكون باطنه الذي هو الروح حقا ، جعله الحق مدبرا لهذا الهيكل الإنساني ، ووصفه بالتدبير حيث قال : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) والخليفة مدبر بالضرورة ، والمدبر لا يكون إلا حقا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه تعالى "يدبر الأمر" أي ، أمر الوجود في صور المظاهر ( "من السماء" وهو العلو ، "إلى الأرض" وهو أسفل سافلين ، لأنها أسفل الأركان كلها . ) وفي العالم الإنساني المرأة بالنسبة إلى الرجل كالأرض بالنسبة إلى السماء ، فالروح المدبر لصورة الرجل والمرأة مدبر للسماء والأرض .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسماهن ب‍ "النساء" وهو جمع لا واحد له من لفظه ، ولذلك ) أي ، ولكونهن متأخرة في الوجود عن الرجل ، سماهن بالنساء حين قال ، صلى الله عليه وسلم : ( "حبب إلى من دنياكم ثلاث : النساء" ولم يقل : المرأة . ) أي ، قال "النساء " الذي هو مأخوذ من "النسأة" هي التأخير ، إشارة إلى تأخر مرتبتهن عن مرتبة الرجال وتأخر وجودهن .
( فراعى تأخرهن في الوجود عنه ) أي ، عن الرجل . ( فإن النسأة هي التأخير . ) ( النسأة ) بالسين الغير المنقوطة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال تعالى : "إنما النسئ زيادة في الكفر " ) أي ، التأخير زيادة في الكفر .
وتفسير الآية : أن الكفار ما كانوا يصبرون عن القتل والنهب والفساد إلى أن يخرج الأشهر الحرم - وهي رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرم - وكانوا يؤخرون الحرمة التي فيها إلى أشهر أخر فيقاتلون فيها ، فنزلت .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والبيع بنسئة تقول بتأخير ، فلذلك ذكر النساء . ) أي ، فلأجل تأخرهن في الوجود عن وجود الرجل ، ذكر لفظ ( النساء ) ولم يقل المرأة .
( فما أحبهن إلا بالمرتبة ) أي ، بمرتبتهن عند الله . وهي مرتبة الطبيعة الكلية .
(وإنهن محل الانفعال .) أي ، وبأنهن قابلات للتأثير والانفعال ، عطفا على قوله : (بالمرتبة) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهن له ) أي للرجل ( كالطبيعة للحق التي فتح فيها صور العالم بالتوجه الإرادي والأمر الإلهي الذي هو نكاح في عالم الصور العنصرية ، وهمة في عالم الأرواح النورية ، وترتيب مقدمات في المعاني للإنتاج . وكل ذلك نكاح الفردية الأولى في كل وجه من هذه الوجوه . )
 
واعلم ، أن أول النكاحات هو الاجتماع الأسمائي لإيجاد عالم الأرواح وصورها في النفس الرحماني المسماة ب‍ ( الطبيعة الكلية ) .
ثم ، اجتماع الأرواح النورية لإيجاد عالم الأجساد الطبيعية والعنصرية . ثم ، الاجتماعات الأخر المنتجة للمولدات الثلاثة ولواحقها .
ولكون الاجتماعات الأسمائية واجتماعا الأرواح النورية واجتماعات المعاني المنتجة للنتائج المعنوية في البراهين غير داخلة في حكم الزمان ، جعل كل ذلك ( نكاح الفردية الأولى ) ، أي ، النكاح الذي به حصل الفردية الأولى التي هي الذات الأحدية والأسماء الإلهية والطبيعة الكلية في المرتبة الوجودية ، والاجتماعات الأخر التي هي سبب المواليد ، هي من النكاحات الثانية والثالثة
إلى أن ينتهى إلى النكاح الرابع الذي هو آخر النكاحات الكلية . وليس هذا موضع بيانه .
 
ولما كان تأثير الأرواح النورانية بالتوجه والهمة وتأثير المقدمات بالترتيب الخاص ، قال رضي الله عنه  : ( وهمة في عالم الأرواح . . . وترتيب مقدمات في المعاني ) . والكل تفاريع النكاح الأول وداخل فيه على أي وجه كان من هذه الوجوه التي هي النكاح في الصور العنصرية ، والهمة في عالم الأرواح وترتيب المقدمات في عالم المعاني .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أحب النساء على هذا الحد ) من المعرفة ، والعلم بحقيقة المحبوب وأنواره ( فهو حب إلهي . ومن أحبهن على جهة الشهوة الطبيعية خاصة ، نقصه علم هذه الشهوة ، فكان صورة بلا روح عنده ، وإن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذات روح ، ولكنها غير مشهودة ) أي غير معلومة ( لمن جاء لامرأته - أو لأنثى حيث كانت - لمجرد الالتذاذ ، ولكن لا يدرى لمن . ) أي ، لا يعرف لمن يلتذ ، ومن المتجلي بتلك اللذة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فجهل من نفسه ما يجهل الغير منه ) وهو نفسه وحقيقته الظاهرة في صورة المرأة ( ما لم يسمه ) أي ، ما دام لم يسمه . ( هو بلسانه حتى يعلم ) أنه من هو وما شأنه . فإذا أخبر عن نفسه وشأنه بلسانه فحيث يعلم أنه من هو ، والغرض أنه جهل من نفسه وما عرف أنه مظهر من مظاهر الحق ، فلذلك جهل امرأته التي هي صورة من صور نفسه وليست غيرها في الحقيقة ، فما عرف أن الحق المتجلي بصورته هو الذي يلتذ بالحق المتجلي في صورتها .
كما قال بعضهم شعرا :
( صح عند الناس إني عاشق ... غير أن لم يعرفوا عشقي لمن )
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كذلك هذا ) الرجل الجاهل ( أحب الالتذاذ ، فأحب المحل الذي يكون فيه ) أي ، يحصل الالتذاذ فيه . ( وهو المرأة ، ولكن غاب عنه روح المسألة . فلو علمها ) علما يقينيا ، أو عيانيا شهوديا ، ( لعلم من التذ وبمن التذ ، وكان كاملا . ) لشهوده الحق في صورة نفسه وصورة امرأته .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله : " وللرجال عليهن درجة " نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته . )

أي ، كما أن المرأة نازلة في الدرجة عن الرجل ، كذلك نازل عن درجة الحق مع أنه مخلوق على صورته .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:03 pm

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية الجزء الثاني .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتلك الدرجة التي تميز الحق بها عنه ) أي ، عن الرجل . ( بها ) أي ، بتلك الدرجة ( كان ) الحق ( غنيا عن العالمين وفاعلا أولا ، فإن الصورة ) أي ، الصورة النوعية التي هي الحقيقة الإنسانية المخلوقة على صورة الحق ( فاعل ثان . ) أما كونه فاعلا ، فلأنه خليفة في العالم ، متصرف في أعيانها كلها .
وأما وقوع فعله في ثاني المرتبة ، فلأن فعله على سبيل التبعية والخلافة ، لا الأولية والأصالة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما له الأولية التي للحق ) أي ، فليس للإنسان الأولية الحقيقية التي للحق إذا أوليته غير أولية الأعيان ، كما مر في أول الكتاب .
 
( فتميزت الأعيان بالمراتب ) أي ، تميزت الأعيان الكونية من الحق تعالى بمراتبها التي اتصفت بها في الأزل وتميز بعضها عن بعض بحصة من عين تلك المراتب ، إذ لكل منها مرتبة معينة وحد مخصوص واستعداد مناسب أفاض الحق لها بالفيض الأقدس .
كما قال تعالى : ( أعطى كل شئ خلقه ثم هدى ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأعطى كل ذي حق حقه كل عارف . ) أي ، كل من عرف الحقائق والمراتب ، أعطى كل عين حقها وما نقص عنه ولا زاد عليه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلهذا كان حب النساء لمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، عن تحبب إلهي ، وإن الله "أعطى كل شئ خلقه " ) أي ، ولأجل أن العارف المحقق يعطى حق كل ذي حق ، كان حب النساء في القلب المحمدي عن تحبب إلهي ، أي ، جعل قلبه محبا للنساء لاقتضاء أعيانهن أن تكن محبوبات للرجال واقتضاء أعيانهم حبهن .
 
( وهو عين حقه ) أي ، ذلك العطاء عين حق ذلك الشئ ، فحب محمد صلى الله عليه وسلم ، للنساء عين حق محمد ، لأن أعيان الرجال يقتضى حب النساء ، وان كان من وجه آخر الرجل محبوبا للمرأة ومعشوقا لها ، والمرأة محبة وعاشقة له .
وباجتماع صفتي العاشقية والمعشوقية في كل منهما حصل الارتباط بينهما وسرت المحبة في جميع المظاهر ، فصار كل منهما عاشقا من وجه ، معشوقا من وجه ، كما أن الحق محب من وجه ، محبوب من وجه ، فصارت المحبة رابطة بين الحق والخلق أيضا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما أعطاه ) أي ، فما أعطى الحب لمحمد ، صلى الله عليه . ( إلا باستحقاق استحقه بمسماه ، أي ، بذات ذلك المستحق . ) أي ، عين المستحق طلب ذلك الحب من الله ، فأعطاه إياه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما قدم النساء ، لأنهن محل الانفعال ، كما تقدمت الطبيعة على من وجد منها بالصورة . ) أي ، تقديم النساء في الحديث إشارة إلى تقدم مرتبتهن ، لأنهن محل الانفعال ، ولا بد أن يتقدم القابل على المقبول ، كما يتقدم الفاعل على مفعوله .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفس الرحماني ، فإنه فيه انفتحت صور العالم ، أعلاه وأسفله ، لسريان النفخة في الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام خاصة . ) قد مر في ( الفص العيسوي ) أن الطبيعة نسبتها إلى النفس الرحماني نسبة الصورة النوعية التي للشئ إليه .
 
فقوله رضي الله عنه  : ( على الحقيقة ) إشارة إلى أن العقل وإن كان يميز بين الشئ وبين صورته النوعية ، لكنها في الحقيقة عين ذلك الشئ .
وقوله : ( فإنه فيه ) أي في النفس انفتحت صور العالم ، أي عالم الأجسام أعلاه وأسفله ، تعليل ذلك . أي ، فإن الصور النوعية التي للعالم الجسماني موجودة في النفس . وهي كأفراد مطلق الطبيعة الكلية .
وقد بان أن الصور النوعية التي للشئ عين ذلك الشئ في الوجود ، فالطبيعة الكلية عن النفس الرحماني .
وقوله رضي الله عنه  : ( السريان النفخة ) تعليل لقوله : ( فإنه فيه انفتحت صور العالم . ) أي ، وذلك لسريان النفخة الإلهية في الجوهر الهيولاني الذي هو القابل لصور الأجسام خاصة .
 
وإنما قيدنا العالم بعالم الأجسام ، وإن كان عالم الأرواح أيضا صورا منتفخة في النفس الرحماني ، لقوله : ( وأما سريانها لوجود الأرواح النورية والأعراض ، فذلك سريان آخر . ) أي ، وأما سريان الطبيعة في وجود الأرواح النورية التي هي المجردات وفي الأعراض ، فذلك سريان آخر .
وذلك لأن سريان النفس في الجواهر الروحانية كلها بواسطة سريان الطبيعة الجوهرية فيها ، لا بواسطة الهيولى الجسمية ، وفي الأعراض بواسطة الطبيعة العرضية التي هي مظهر التجلي
الإلهي وظهوره
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، إنه ، عليه السلام ، غلب في هذا الخبر التأنيث على التذكير ، لأنه قصد التهمم بالنساء ، فقال : " ثلاث " ، ولم يقل : ثلاثة . ب‍ " الهاء " الذي هو لعدد الذكران ) ظاهر .
 
قوله رضي الله عنه  : ( إذ وفيها ذكر الطيب ) تعليل . أي ، لأن فيها ذكر النساء وذكر الطيب . ف‍ ( الواو ) في ( وفيها ) للعطف . ( وهو مذكر ) أي ، الطيب مذكر .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعادة العرب أن يغلب التذكير على التأنيث ، فيقول : الفواطم وزيد خرجوا . ولا يقول خرجن . فغلبوا التذكير ، وإن كان واحدا على التأنيث ، وإن كن جماعة . وهو عربي ) أي ، ورسول الله المتكلم بهذا الكلام عربي وأفصح الفصحاء كلهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فراعى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، المعنى الذي قصد به في التحبب إليه ما لم يكن يؤثر حبه ) قوله : ( قصد ) يجوز أن يكون مبنيا للمفعول .
أي ، راعى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في هذا التغليب المعنى الذي قصده الله بالتحبيب إلى الرسول . وقوله ، صلى الله عليه وسلم : ( حبب إلى . . . ) يؤكده .
ويجوز أن يكون مبنيا للفاعل . أي ، راعى المعنى الذي قصده الرسول بهذا التغليب في التحبيب إليه ما دام لم يكن مؤثرا حب ذلك المعنى لنفسه ، بل يختاره ويؤثره لله تعالى ، فيحبهن بحب الله.
 
فضمير ( به ) للتغليب و ( به ) متعلق ب‍ ( راعى ) . وضمير الصلة محذوف . أي ، قصده به . وضمير ( إليه ) للنبي صلى الله عليه وسلم . و ( ما ) للمدة . وضمير ( حبه ) ( المعنى ) والإضافة إلى المفعول .
ويجوز أن يكون ضمير ( حبه ) عائد إلى ( النبي ) صلى الله عليه وسلم ، فيكون الإضافة إلى الفاعل . ومعناه : ما دام لم يكن مؤثرا حبه لهن لنفسه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعلمه الله ما لم يكن يعلم ، وكان فضل الله عليه عظيما . ) أي ، علمه الله المعنى الموجب لمحبة النساء لذلك غلب التأنيث على التذكير . ولولا تعليمه إياه ، لكان كلامه على ما جرت به عادة العرب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فغلب التأنيث على التذكير بقوله عليه السلام : "ثلث" بغير "هاء" . فما أعلمه ، صلى الله عليه ، بالحقائق وما أشد رعايته للحقوق . ثم ، إنه ) أي ، أن النبي .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث ، وأدرج بينهما التذكير ، فبدأ بالنساء وختم بالصلاة . وكلتاهما تأنيث ، والطيب بينهما ك‍ "هو" ) أي ، كالنبي ، عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( في وجوده ، فإن الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها ، وبين امرأة ظهرت عنه ، فهو بين مؤنثين : تأنيث ذات ، وتأنيث حقيقي . كذلك النساء تأنيث حقيقي ، والصلاة تأنيث غير حقيقي ، والطيب مذكر بينهما ، كآدم بين الذات الموجودة هو عنها ، وبين حواه الموجودة عنه . وإن شئت قلت : الصفة فمؤنثة أيضا ، وإن شئت قلت : القدرة فمؤنثة أيضا . فكن على أي مذهب شئت ، فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدم ، حتى عند أصحاب العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم ، والعلة مؤنثة . )
أشار رضي الله عنه ، بلسان الذوق أن الخاتمة نظيرة السابقة الأزلية . وذلك لأن آدم الحقيقي الغيبي وآدم الشهادة كل منهما مذكر ، واقع بين مؤنث غير حقيقي ، وهو لفظة ( الذات ) ، وبين مؤنث حقيقي ، وهي حواء ، عليها سلام الله .
 
إن عبرت عنها بالحقيقة الأصلية أو العين الإلهية ، فكذلك . وإن جعلت السبب لوجود آدم
الصفة ، كالقدرة ، وجعلتها مغائرة للذات كما هو مذهب المتكلمين أو جعلتها عينا كما هو مذهب الحكماء الإلهيين أو جعلت الذات من حيث هي بلا اعتبار الصفة علة لوجود العالم، أيضا كذلك.
ولما كان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أفصح فصحاء العرب والعجم وأعلم علماء أهل العالم ، أشار فيما تكلم به إلى ما عليه الوجود تنبيها لأهل الذوق والشهود .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما حكمة الطيب وجعله بعد النساء ، فلما في النساء من روائح التكوين )
أي ، روائح تكوين أهل العالم . لأن المرأة لها رتبة الأمومة التي بها وجود الأولاد .
وصاحب الكشف يشم روائح وجودهم فيها ويدرك بذوق الشم ، فلذلك جعله بعد ذكر النساء . وتلك الرائحة ألذ الروائح .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه "أطيب الطيب عناق الحبيب" . كذا قالوا في المثل السائر . ) أي ، الشأن أن أطيب الطيب ما يجده المحب من عناق الحبيب ، وذلك لأنه يجد فيه رائحة عينه وحقيقته .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما خلق ) رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . ( عبدا بالأصالة ، لم يرفع رأسه قط إلى السيادة ) مراعاة لما تقتضيه عينه الثابتة من العبودية الذاتية الحاصلة من التعين والتقيد وحفظا للأدب مع الحضرة الإلهية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بل لم يزل ساجدا ) لربه متذللا لحضرته ( واقفا مع كونه منفعلا ) أي ، واقفا في مقام عبوديته ومرتبة انفعاليته . ( حتى كون الله عنه ما كون . ) أي ، حتى وجد الله من روحه جميع الأرواح ومظاهرها .
كما جاء في الحديث : ( إن الله لما خلق العقل ، قال له : أقبل ، فأقبل . ثم قال له : أدبر ، فأدبر . فقال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب إلى منك ، بك آخذ وبك أعطى وبك أثيب وبك
أعاقب ) . - الحديث . و ( العقل ) المذكور هو روحه المشار إليه بقوله : ( أول ما خلق الله نوري ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأعطاه رتبة الفاعلية ) بأن جعله خليفة للعالم ، متصرفا في الوجود العيني ، معطيا لكل من أهل العالم كماله .
 
ولما كان كلامه صلى الله عليه وسلم  في الطيب ، جعل ذلك التصرف في عالم الأنفاس فقال رضي الله عنه  : ( في عالم الأنفاس التي هي الأعراف الطيبة ، فحبب إليه الطيب ، فلذلك جعله ) رسول الله ، صلى الله عليه . ( بعد النساء . ) المراد ب‍ ( عالم الأنفاس ) هو عالم الأرواح المؤثرة بأنفاسهم في الوجود الظاهري ، وب‍ ( الأعراف الطيبة ) الروائح الطيبة الوجودية .
ولما كانت الأرواح مبادئ للموجودات الشهادية التي تحملها الطبيعة الكلية الروحانية ، صارت موصوفة ب‍ ( الأعراف الطيبة ) .
وهي الروائح الوجودية للأعيان الأزلية العلمية . ولكون هذه الروائح حاصلة بعد وجود الطبيعة التي هي أم بالنسبة إلى الكل ، جعل الطيب بعد ذكر النساء .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فراعى الدرجات التي للحق في قوله : "رفيع الدرجات ذو العرش" لاستوائه عليه باسمه "الرحمن ". ) أي ، فراعى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، هذا الترتيب : الدرجات الإلهية والمراتب الكلية التي للحق المشار إليها في قوله : ( رفيع الدرجات ذو العرش ) .
وذلك لأن أول ما وجد هو العقل الأول ، وهو آدم الحقيقي ، ثم النفس الكلية ، منها وجدت النفوس الناطقة كلها ، وهي حواء ثم الطبيعة التي بواسطتها ظهر الفعل والانفعال في الأشياء ، ثم الهيولى الجسمية ، ثم الجسم الكلى ، ثم الفلك الأطلس الذي هو العرش الكريم ، ثم الكرسي ، ثم العنصريات من السماوات والأرض ، على ما مر من أن السماوات متولدة من ( دخان ) الأرض ، ثم حصلت المواليد الثلاث ، وتم الملك والملكوت .
 
وهذه الحقائق كلها درجات إلهية ومراتب رحمانية ، تقدمت عليها النفس الكلية ، وبالتنزل إلى المرتبة الجسمية حصل الاستواء الرحماني .
فالروح المحمدي الذي هو المظهر الرحماني هو الذي استوى على العرش ، فتعم رحمته على العالمين . كما قال : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فلا يبقى فيمن حوى عليه العرش من لا تصيبه الرحمة الإلهية. وهو قوله تعالى: ) أي ، وهذا المعنى المذكور في قوله تعالى : ("ورحمتي وسعت كل شئ ") .
أي ، فليس في كل ما يحيط به هذا الاسم الرحماني ومظهره الذي هو العرش من الموجودات من لا تصيبه الرحمة الرحمانية . وهي كالوجود والرزق وأمثالهما من النعم العامة الظاهرة والباطنة . لذلك قال تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شئ ) .
ولما كان العرش محيطا بكل ما فيه من الموجودات - كما قد مر أن العرش الروحاني الذي هو العقل الأول محيط بجميع الحقائق الروحانية والجسمانية والعرش الجسماني محيط بجميع الأجسام - قال : ( والعرش وسع كل شئ ) .
وقوله رضي الله عنه  : ( والمستوى "الرحمن" ) إشارة إلى قوله تعالى : "الرحمن على العرش استوى" أي ، الحاكم والمستولي على العرش من الأسماء هو الاسم "الرحمن " والعرش مظهره الذي منه وبه يفيض على ما تحته من الموجودات ، فإن الأسماء من حيث إنها نسب الذات لا تصير مصدرا للأنوار الفائضة منها إلا بمظاهرها الروحانية ، ثم الجسمانية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فبحقيقته يكون سريان الرحمة في العالم ) أي ، بحقيقة هذا الاسم الرحماني يحصل سريان الرحمة في العالم ، وهي ما يمتاز الاسم به عن غيره .
وإن شئت قلت : وبحقيقة العرش يكون هذا السريان في العالم . وهي العين الثابتة التي ظهر بها الرحمن في العالم ، كما ظهر بالعقل الأول في عالم الأرواح ، وبالفلك الأطلس في عالم الأجسام ، فإن الظاهر والمظهر بحسب الوجود واحد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما بيناه في غير موضع من هذا الكتاب ومن الفتوح المكي . ) من أن حقيقة الاسم هو ما يمتاز به عن غيره ، وهي الصفة ، فإن الذات مشتركة في الكل .
وحقيقة الرحمة الرحمانية التي هي الرحمة الذاتية يقتضى الرحمة الصفاتية التي تظهر في المظاهر العينية بسريانها فيها سريان الرحمة في العالم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد جعل الطيب الحق تعالى في هذا الالتحام النكاحي ) الواقع بين الرجل والمرأة ، وجعل الطيب ( في براءة عائشة ، فقال : "الخبيثات للخبيثين والخبيثون
للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات" ) لأن الطيب ماله الطيب ، فشهد الحق فيها بأنها طيبة ونفى الخبث عنها بقوله : ("أولئك مبرؤون مما يقولون") لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أطيب الطيبين ، وعائشة وباقي أزواج النبي ، عليه السلام ، أطيب الطيبات .
 
وإنما قلنا إنه أطيب الطيبين ونساؤه أطيب الطيبات ، لأن الأفراد الإنسانية من حيث إن كلا منها إنسان ، ليس فيها خبث ، بل كلها طيب بالطيب الذاتي ، لأن كلا منها مخلوق بيديه وحامل لما عنده من الصفات الإلهية .
وكون بعضها طيبا بالطيب الصفاتي ، وبعضها خبيثا ، إنما هو باتصاف البعض بالكمالات ،
والبعض الآخر بالنقائص ، ولا شك أن أكمل الأفراد الإنسانية من الرجال هو النبي ، وأكملها من النساء أزواجه ، وإذا كان كذلك ، فأولئك مبرؤون عما يقول الظالمون فيهن .
 
( فجعل روائحهم ) أي ، روائح الطيبين ، يعنى ، لوازمهم من الصفات والأفعال طيبة وأقوالهم صادقة ، وروائح الخبيثين خبيثة وأقوالهم كاذبة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأن القول نفس ، وهو عين الرائحة ) المراد ب‍ ( الرائحة ) هنا اللازم ، إذ الرائحة كيفية من الكيفيات الوجودية ، لازمة للجوهر الذي عرضت فيه .
وإنما جعل ( النفس ) عين الرائحة ، لأنه لازم لوجود المتنفس ، كما أن الرائحة لازمة لمحلها .
ولما استعار لفظة ( الرائحة ) على لوازم وجوداتهم والرائحة لا تدرك إلا بواسطة الهواء شبه اتصافها بالطيب والخبيث بمرور الرائحة واتصافها بأحكام ما مر عليه بواسطة الهواء ترشيحا للاستعارة ، فقال : ( فيخرج بالطيب وبالخبيث على حسب ما يظهر به في صورة النطق ) أي ، فيخرج النفس من الطيب بسبب أنه طيب في صورة النطق طيبا ، ومن الخبيث بواسطة أنه خبيث في صورة نطقه خبيثا .
 
فقوله رضي الله عنه  : ( في صورة النطق ) متعلق بقوله : ( فيخرج ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن حيث هو إلهي ) أي ، فمن حيث إن النفس منسوب إلى الله ، ( بالأصالة ، كله طيب ، فهو طيب ، ) أي ، فالقول : كله طيب ، لأنه صفة من الصفات الكمالية الإلهية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن حيث ما يحمد ويذم ، فهو طيب وخبيث . ) أي ، ومن حيث إن القول بعضه محمود وبعضه مذموم ، ينقسم بالطيب والخبيث ويوصف بهما .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال في خبث الثوم : هي شجرة خبيثة أكره ريحها . ولم يقل : أكرهها . فالعين لا تكره ، وإنما يكره ما يظهر منها . والكراهة لذلك ) أي ، لما يظهر منها : ( إما عرفا ، أو بعدم ملائمة طبع ، أو غرض ، أو شرع ، أو نقص ) أي ، بسبب شرع أو بسبب نقص ( عن كمال مطلوب وما ثم غير ما ذكرناه . ) .
 
للاختلاف بحسب الطبائع والأغراض والشرائع قد يكون الشئ محمودا بالنسبة إلى البعض ومذموما بالنسبة إلى الآخر ، حراما في شرع ، حلالا في آخر ، كمالا بالنسبة إلى شئ ، نقصانا
بالنسبة إلى الآخر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما انقسم الأمر إلى خبيث وطيب كما قررناه حبب إليه الطيب دون الخبيث ووصف النبي ، صلى الله عليه ، الملائكة بأنها تنادي بالروائح الخبيثة لما في هذه النشأة العنصرية من التعفين.)
ولما كان الإنسان مخلوقا من النشأة العنصرية وفيه شئ من التعفين ، قال : ( فإنه ) أي ، فإن الإنسان (مخلوق من"صلصال من حمأ مسنون". أي متغير الريح . فتكرهه الملائكة بالذات ) أي ، فتكره الملائكة الإنسان المتغير الريح الذي هو الخبيث بذواتهم ، لطهارة نشأتهم عن العفونات والفضلات المنتنة .
ولذلك أمرنا بطهارة الثوب والبدن ودوام الوضوء .
 
واستحب استعمال الروائح الطيبة لتحصل المناسبة بيننا وبين الملائكة ، فتلحق بالطيبن ( كما أن مزاج الجعل يتضرر برائحة الورد ، وهي من الروائح الطيبة ، فليس ريح الورد عند الجعل بريح طيبة . ومن كان على مثل هذا المزاج معنى وصورة ، أضر به الحق إذا سمعه ، وسر بالباطل ) ( وهو ) أي ، هذا المعنى المذكور .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قوله : "والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله" . ووصفهم بالخسران فقال : "أولئك هم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم" فإنه من لم يدرك الطيب من الخبيث ) أي ، من لم يدرك المعنى الطيب الذي هو مدرج في الخبيث وباطن فيه ولم يميز بينهما ( فلا إدراك له . )
وإنما قال كذلك ، لأن ما هو خبيث الذي هو مشتمل بوجه آخر على المعاني الطيبة في نفسها ، فإنه مظهر من مظاهر الهوية الإلهية ، وهي الطيبة ، وإن كان خبيثا في الظاهر .
وأيضا ، لو لم يكن كذلك ، لما وجد من الطيب الحقيقي ، إذ لا بد من المناسبة بين العلة والمعلول ولو بوجه ما . وفي الحقيقة خبث الخبيث وطيب الطيب أمران نسبيان ، يعودان إلى المدرك ، وليس في نفس الأمر إلا الطيب .
 
( فما حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا الطيب من كل شئ ، وما ثمة إلا هو.) أي ، وما يكون في حضرته إلا الطيب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهل يتصور أن يكون في العالم مزاج لا يجد إلا الطيب من كل شئ ولا يعرف الخبيث ، أم لا ؟ قلنا : هذا لا يكون : فإنا ما وجدناه في الأصل الذي ظهر العالم منه ، وهو الحق ، فوجدناه يكره ويحب ، وليس الخبيث إلا ما يكره ، ولا الطيب إلا ما يحب )
على المبنى للمفعول . ( والعالم على صورة الحق . )
ولا يتوهم أن قول الشيخ : ( فإنا ما وجدناه في الأصل ) ينافي ما ذكرناه ، لأن الحق يحب وجود كل شئ ويريده ، فيوجده ، سواء كان طيبا أو خبيثا . ولو كان يكره شيئا ما مطلقا ، لما أوجده وما يتعلق إرادته به .
 
وقوله رضي الله عنه  : ( فوجدناه يكره ويحب ). محمول على أنه تعالى في المظاهر يحب الشئ ويكرهه ، لا في مقام جمعه ، فإن ( الكراهة ) من الصفات المنسوبة إلى العالم ( الضحك ) و ( الاستهزاء ) وغيرهما ، فما هو منسوب إلى الله في القرآن والحديث كقوله تعالى : (الله يستهزئ بهم) . (وضحك الله البارحة مما فعلتما) .
(والإنسان على الصورتين.) أي ، مخلوق على صورتي الحق والعالم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا يكون ثمة مزاج لا يدرك إلا الأمر الواحد من كل شئ . ) إما الطيب ، وإما الخبيث . ( بل ثمة مزاج يدرك الطيب من الخبيث ) إذ لا خبيث إلا وله نصيب من الطيب ، ولو بالنسبة إلى بعض الأمزجة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( مع علمه بأنه خبيث بالذوق طيب بغير الذوق فيشغله إدراك الطيب منه عن الإحساس بخبثه. ) كما روى عن بعض المشايخ أنه مر مع جمع من المريدين ، فرأى جيفة ملقاة . فقال : ( ما أشد بياض أسنانه )  .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( هذا قد يكون . وأما رفع الخبث من العالم ، أي من الكون ، فإنه لا يصح . )
لأن الطبائع مختلفة : فما يلائم طبيعة هو عندها طيب ، وما لا يلائمها فهو عندها خبيث . والخبيث عند طبيعة أخرى يلائمها طيب . فإن لعاب فم الإنسان طيب عنده ، سم بالنسبة إلى الحية ، وكذا سم الحية سبب الحياة عندها ، قاتل بالنسبة إلى الإنسان .
والعسل نافع بالنسبة إلى مزاج المبرودين كالمشايخ ، ضار بالنسبة إلى مزاج المحرورين كالشبان ، فلا يمكن رفعه من الكون .
فأما أعيان الأشياء وذواتها لكونها راجعة إلى عين الذات الإلهية فليس شئ منها خبيثا .
( ورحمة الله في الخبيث والطيب . ) أي ، ورحمة الله حاصلة فيهما . ولولا تلك الرحمة ، لما وجد شئ منهما ، إذ الوجود عين الرحمة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والخبيث عند نفسه طيب ، والطيب عنده خبيث . ) لأن الشئ لا يحب إلا نفسه وما يناسبه ، لا ما يضاده .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما ثمة شئ طيب إلا وهو من وجه في حق مزاج ما خبيث ، وكذلك بالعكس. ) كما مر .
( وأما الثالث الذي به كملت الفردية فالصلاة . ) وفيه إيماء بقوله ،
صلى الله عليه وسلم : ( حبب إلى من دنياكم ثلاث : النساء ، والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة ) .
تقديره : النساء والطيب والصلاة ، وجعلت قرة عيني في الصلاة . وحذف الثالث اكتفاء بذكر ما بعده .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فقال : "وجعلت قرة عيني في الصلاة" لأنها مشاهدة .) أي ، لأنها سبب المشاهدة ومشاهدة المحبوب قرة عين المحب .
"وذلك لأنها مناجاة بين الله وبين عبده كما قال تعالى : " فاذكروني أذكركم " أي ، لأن الصلاة مناجاة ."
 
كما قال صلى الله عليه وسلم : ( المصلى يناجى ربه ما دام في الصلاة ، فهو في المناجاة ) . ولما كانت مستلزمة للذكر من الطرفين ، استشهد بقوله تعالى : "فاذكروني أذكركم".
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهي ) أي ، الصلاة عبادة مقسومة بين الله وبين عبده بنصفين : فنصفها لله ، ونصفها للعبد ، كما ورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى أنه قال : " قسمت الصلاة  بيني وبين عبدي نصفين : فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل .
يقول العبد : "بسم الله الرحمن الرحيم" يقول الله : ذكرني عبدي .
يقول العبد : الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي . يقول العبد الرحمن الرحيم . يقول الله تعالى : أثنى على عبدي .
يقول العبد : "مالك يوم الدين" يقول الله : مجدني عبدي ، فوض إلى عبدي . فهذا النصف كله له تعالى خالص . ثم يقول العبد : "إياك نعبد وإياك نستعين"
يقول الله :  هذه بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل . فأوقع الاشتراك في هذه الآية .
يقول العبد : " إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم
ولا الضالين" يقول الله تعالى : فهؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل . فخلص هؤلاء لعبده
كما خلص الأول له تعالى . فعلم من هذا وجوب قراءة "الحمد لله رب العالمين" . فمن لم
يقرأها ، فما صلى الصلاة المقسومة بين الله وبين عبده .  ) كما قال صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) . ولزم من هذا الحديث أيضا ( الفردية ) .
 
فإن القسم الأول خالص لله ، والثاني مشترك بين العبد وبين الله ، والثالث خالص للعبد . ولزم أيضا إن البسملة من ( الفاتحة ) .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما كانت ) الصلاة ( مناجاة ، فهي ذكر ، ومن ذكر الحق فقد جالس الحق وجالسه الحق . فإنه صح في الخبر الإلهي أنه تعالى قال : "أنا جليس من ذكرني" . ومن جالس من ذكره وهو ذو بصر )
 
كقوله رضي الله عنه  : ( فبصرك اليوم حديد ) ( رأى جليسه . فهذه ) أي ، الصلاة ( مشاهدة ورؤية ) أي ، يحصل للمصلى الشهود الروحي والرؤية العينية في مواد الأعيان الموجودة الروحانية والجسمانية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن لم يكن ذا بصر ) وعرفان أنه هو المتجلي لكل شئ وهو المتجلي عن كل شئ . ( لم يره . فمن هناك يعلم المصلى رتبته : هل يرى الحق هذه الرؤية ) العيانية
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( في هذه الصلاة، أم لا. فإن لم يره، فليعبده بالإيمان كأنه يراه ) كالمؤمنين المحجوبين . ( فيخيله في قبلته عند مناجاته ، ويلقى السمع لما يرد به عليه من الحق ) من الواردات الروحانية والمعاني الغيبية ( فإن كان إماما لعالمه الخاص به ) أي ، للأناسي .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وللملائكة المصلين معه - فإن كل مصل فهو إمام بلا شك ، فإن الملائكة تصلى خلف العبد إذا صلى وحده كما ورد في الخبر - فقد حصل له رتبة الرسل في الصلاة . ) لأن إمامة الناس من مراتب الرسول .
وقوله : ( فقد حصل ) جواب الشرط . أي ، فإن كان إماما للناس ، فقد حصل له رتبة الرسول .
ولما كانت الإمامة قياما بحقوق العباد وهي من جملة شؤون الحق ، قال : ( وهي النيابة عن الله . وإذا قال : "سمع الله لمن حمده" فيخبر نفسه ومن خلفه بأن الله قد سمعه ) أي ، يخبر الإمام نفسه لمن اقتداه بأن الله سمع حمد من حمده ومناجاة من ناجاه . وذلك لأنه مشاهد ربه وعالم بأنه سمع حمد الحامدين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتقول الملائكة والحاضرون : ربنا ولك الحمد . فإن الله تعالى قال على لسان عبده : "سمع الله لمن حمده ". فانظر علو رتبة الصلاة وإلى أين تنتهي بصاحبها . فمن لم يحصل درجة الرؤية في الصلاة ، فما بلغ غايتها ، ولا كان له فيها قرة عين ، لأنه لم ير من يناجيه . فإن لم يسمع ما يرد من الحق عليه فيها ) أي ، في الصلاة من الواردات الغيبية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما هو ممن ألقى سمعه . ومن لم يحضر فيها مع ربه مع كونه ، لم يسمع ولم ير ، فليس بمصل أصلا ولا هو ممن ألقى السمع وهو شهيد . ) أي ، أدنى مرتبة الصلاة الحضور مع الرب .
 
فمن لا يرى ربه فيها ولا يشهد شهودا روحانيا أو رؤية عيانية قلبية أو مثالية خيالية أو قريبا منه المعبر عنه بقوله ، عليه السلام : " أعبد الله كأنك تراه " .
ولا يسمع كلامه المطلق بغير واسطة الروحانيات وبواسطة منهم ولا يحصل له الحضور القلبي المعبر عنه : "فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك" . أي فاعلم أنه يراك ، فليس بمصلي . وصلاته أفادت له الخلاص من القتل ، لا غير .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما ثمة عبادة تمنع من التصرف في غيرها ما دامت ) أي ، ما بقيت وثبتت .
ف‍ ( ما دامت ) تامة لا ناقصة ، كقوله تعالى : ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) .
( سوى الصلاة ، وذكر الله فيها أكبر ما فيها لما تشتمل ) الصلاة ( عليه من أقوال وأفعال ) ( اللام ) في ( لما تشتمل ) ، مستعمل بمعنى ( من ) للبيان . أي ، مما يشتمل عليه الصلاة من الأقوال والأفعال .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد ذكرنا صفة الرجل الكامل في الصلاة في الفتوح المكية كيف يكون . )
هذا اعتراض وقع بين المدلول ودليله وهو قوله : ( لأن الله يقول : "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء" أي ، عن المناهي "والمنكر" . ) أي ، عن الاشتغال بغيره . سواء كان مباحا في غير الصلاة ، أو لم يكن . فالمنكر أعم من الفحشاء .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأنه ) الضمير للشأن ( شرع للمصلى ألا يتصرف في غير هذه العبادة ما دام فيها و ) ما دام ( يقال له مصل . ) هذا تعليل أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر .
وبيان أن الإنسان إذا اشتغل في الصلاة بالقراءة والذكر والأفعال المخصوصة ، لا يمكن أن يشتغل بغير هذه الأشياء ، فبالضرورة ينتهى عما سواها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( "ولذكر الله أكبر" . يعنى فيها . ) من تتمة الدليل الأول على أن ذكر الله أكبر ما فيها .
ولما كان هذا القول أعلى ولذكر الله أكبر إشارة إلى معنيين ، أحدهما ذكر الحق العبد وثانيهما عكسه ، والأول من تتمة الدليل ، أراد أن يشير إلى المعنى الثاني ، لأن ذكر العبد ربه نتيجة ذكر الرب عبده ،
فقال رضي الله عنه  : ( أي ، الذكر الذي يكون من الله لعبده حين يجيبه في سؤاله . والثناء عليه أكبر من ذكر العبد ربه فيها ، لأن الكبرياء لله تعالى . )
لما قال إن الذكر في الصلاة أكبر شئ فيها ، وكان الذكر من الطرفين ، قال الذكر الذي من طرف الحق هو أكبر من الذي من طرف العبد ، لأن الكبرياء حقيقة الحق سبحانه وتعالى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك قال : "والله يعلم ما تصنعون" ) أي ، ولأجل أن الصلاة مشتملة على الأقوال والأفعال ، قال الله تعالى : ( والله يعلم ما تصنعون )
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقال :"أو ألقى السمع وهو شهيد" فإلقاؤه السمع هو لما يكون من ذكر الله إياه فيها.) أي إلقاء السمع أن يسمع ذكر الله إياه في صلاته ، ويفهم المراد منه بسمع قلبه وفهم روحه .

 
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر   شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:03 pm

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية الجزء الثالث .شرح داود القيصري فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن ذلك ) أي ، ومما يشتمل عليه الصلاة من الأسرار ( أن الوجود لما كان عن حركة معقولة نقلت العالم من العدم ) الإضافي ( إلى الوجود ) الخارجي (عمت الصلاة جميع الحركات . وهي ثلاث:
حركة مستقيمة ، وهي حال قيام المصلى ،
وحركة أفقية ، وهي حال ركوع المصلى ،
وحركة منكوسة ، وهي حال سجوده .
فحركة الإنسان مستقيمة ، وحركة الحيوان أفقية ، وحركة النبات منكوسة وليس للجماد حركة محسوسة من ذاته : فإذا تحرك حجر ، فإنما يتحرك بغيره).

لما كان الإنسان متحركا بحركة طبيعية عند نموه إلى جهة العلو ، وحركة الحيوان إلى الأفق ، أي جهة رأسه ، وحركة النبات إلى السفل ، فإن رأسه هو الأصل الذي في الأرض ، جعل حركة الإنسان مستقيمة ، وحركة الحيوان أفقية ، وحركة النبات منكوسة ، وإن كانت حركة النبات من وجه آخر إلى السماء مستقيمة ، وحركة الانسان والحيوان عند الإرادة قد تكون دورية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما قوله : "وجعلت قرة عيني في الصلاة" . ولم ينسب الجعل إلى نفسه فإن تجلى الحق للمصلى إنما هو راجع إليه تعالى لا إلى المصلى ) لأنه من عنايته الأزلية في حق بعض عباده ، وما يرجع إلى العبد فيه هو الاستعداد .
وذلك أيضا راجع إلى الله تعالى وفيضه الأقدس . كما مر في الفص الأول .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه لو لم يذكر هذه الصفة عن نفسه ، لأمره بالصلاة على غير تجلى منه له . )
أي ، فإن الحق سبحانه لو لم يخبر عن نفسه بلسان نبيه ، صلى الله عليه وسلم ، بأنه يقر عينه في الصلاة بالمشاهدة ولم يكن له ذلك ، لكان أمر الله بالصلاة واقعا مع عدم التجلي من الله لنبيه ، عليه السلام ، لأن الصلاة مما فرضه الله على عباده ، فهي واجبة على العبد ، والتجلي منه ليس بواجب ، بل موقوف على عنايته تعالى .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما كان منه ذلك بطريق الامتنان ، كانت المشاهدة بطريق الامتنان . فقال :"وجعلت قرة عيني في الصلاة ".) أي ، فلما حصل ذلك التجلي من الله لنبيه على طريق الامتنان عليه ، كانت المشاهدة من جانب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أيضا بطريق الامتنان من الله ، إذ لولا توفيقه لتلك المشاهدة ، ما كانت حاصلة .

فلذلك قال رضي الله عنه  : ( جعلت ) على المبنى للمفعول ، ولم يقل : جعلت . على المبنى للفاعل .
( ليس ) قرة عينه ( إلا مشاهدة المحبوب التي تقربها عين المحب من الاستقرار ، فيستقر العين عند رؤيته ، فلا ينظر معه إلى شئ غيره ) قوله : ( تقر ) بفتح ( القاف ) وبكسرها  والأول للسرور ، والثاني للقرار .

وقوله  رضي الله عنه  : ( من الاستقرار ) أي ، مأخوذة من الاستقرار ، لأن عين المحب الطالب إذا رأت محبوبه ومطلوبه ، تستقر ولا تلتفت إلى غيره ، ويكون صاحبه مسرورا قرير العين .
ولو كانت ( القرة ) من ( القر ) بمعنى ( البرد ) ، كانت أيضا دليلة على المسرة ، فإن عين المسرور تبرد لقرار باطنه فيما وجده ، وعين المغموم تسخن لاضطراب باطنه وحصول الحركة فيه إلى رفع ما يجده .
 
وقوله رضي الله عنه  : ( في شئ وغير شئ . ) متعلق ب‍ ( الرؤية ) . أي تستقر عين المحب عند رؤية محبوبه في صورة من صور المجالي ، كما تجلى لموسى ، عليه السلام ، في صورة النار ، ولنبينا صلى الله عليه وسلم ، في صورة أمرد - كما جاء في الخبر الصحيح .
وفي غير صورة ، كالتجلي الذاتي الذي لا يرى المتجلى له فيه شيئا إلا صورته لا غير . كما مر في الفص الثاني . فلا يتوهم أنه متعلق بقوله : ( فلا ينظر ) .
ويجوز أن يكون متعلقا بقوله : ( فلا ينظر ) . أي ، فلا ينظر معه في شئ موجود تعلقت المشية بوجوده ، وغير شئ أي ، فيما لم يتعلق بوجوده المشية من الأعيان والنسب إلى شئ غيره ، أي ، إلى جهة الغيرية . وفيه نظر

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولذلك نهى عن الالتفات في الصلاة ، وأن الالتفات شئ يختلسه الشيطان من صلاة العبد فيحرمه) الشيطان ، أو الالتفات ( مشاهدة محبوبه . ) سواء كان الالتفات قلبيا ، أو حسيا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بل لو كان محبوب هذا الملتفت ، ما التفت في صلاته إلى غير قبلته بوجهه . )
بل لو كان الحق محبوب هذا الملتفت إلى الغير وكان هو محبا له ، ما التفت في صلاته إلى غيره ، لأن وجه المحبوب مشاهده في قبلته ، فالإعراض عنه حرام .
واعلم ، أن الالتفات قد يكون بالوجه ، وقد يكون بالعين والوجه إلى القبلة . ولما كان الإعراض بالوجه أشد كراهة ، قال : ( بوجهه ) ، ولم يقل : بعينه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والإنسان يعلم حاله في نفسه هل هو بهذه المثابة في هذه العبادة الخاصة ، أم لا . فإن "الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره" فهو يعرف كذبه من صدقه في نفسه ، لأن الشئ لا يجهل حاله ، فإن حال له ذوقي . ) أي ، وجداني .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم ، إن مسمى الصلاة له قسمة أخرى ، فإنه تعالى أمرنا أن نصلي له ، وأخبرنا أنه يصلى علينا . ) بقوله : ( هو الذي يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما) .
قوله رضي الله عنه  : ( إن مسمى الصلاة له قسمة أخرى ) ليس أنه معنى واحد ينقسم إلى معنيين ، كما أن معنى الكلمة ينقسم إلى اسم وفعل وحرف ، وهو في كل منها موجود . بل معناه : أن الصلاة لها مسمى ، وهو الأفعال المخصوصة ، ولها مسمى آخر ، وهو التجلي والإيجاد والرحمة . كما قيل : ( إن الصلاة من الله الرحمة . . . ) .
فصدق أن مسمى الصلاة منقسم ، أي متعدد . ( فالصلاة منا ومنه . )

ولما كان ( المصلى ) لغة يطلق على الفرس التابع للمجلى ، وهو الفرس السابق في حلبة السباق قال : ( فإذا كان هو المصلى ، فإنما يصلى باسمه " الآخر" ) أي ، فإذا كان الحق هو المصلى ، أي المتجلي لنا بصور استعداداتنا ، فإنما يصلى ويتجلى لنا باسمه ( الآخر ) ، لأن الآخرية مستفادة منه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيتأخر ) الحق ( عن وجود العبد ، وهو عين الحق الذي يتخيله العبد في قلبه بنظره الفكري أو بتقليده وهو إله المعتقد . ) وفي بعض النسخ : ( وهو الإله المعتقد ) . الأول بكسر ( القاف ) ، والثاني بفتحها . ولا شك أن الاعتقاد تابع لوجود المعتقد ، فيتأخر عن وجوده .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويتنوع بحسب ما قام بذلك المحل من الاستعداد ، كما قال الجنيد حين سئل عن المعرفة بالله والعارف ، فقال : "لون الماء لون إنائه" . وهو جواب ساد أخبر عن الأمر بما هو عليه . ) أي وتتنوع صور إله الاعتقادات بحسب الاستعدادات القائمة بمحالها وأعيانها ، لأن الحق المطلق لا تعين له ولا تقيد أصلا ، بلا اسم له ولا نعت ولا صفة من هذه الحيثية ، وكل ما ينسب ويضاف إليه فهو عينه .
كما قال أمير المؤمنين كرم الله وجهه : ( كمال الإخلاص نفى الصفات عنه ) .
وعند التجلي يتجلى بحسب استعداد المتجلى له على صورة عقيدته - كما يدل عليه حديث ( التحول ) - يوم القيامة .
لذلك أجاب الجنيد حين سئل عن المعرفة بالله والعارف بقوله : ( لون الماء لون إنائه ) . أي ، تجلى الحق بصورة المعرفة ، إنما هو بحسب استعداد المتجلى له . وهو جواب محكم مطابق لما في نفس الأمر : فإن الماء لا لون له ويتلون بألوان ظروفه ، فكذلك الحق لا تعين له يحصره ويتعين على حسب من يتجلى له .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهذا هو الله الذي يصلى علينا . ) أي ، هذا المتجلي بصور الاستعدادات في العقائد هو الذي يصلى علينا ويتأخر عنا . كما جاء في الآية المذكورة على لسان المتجلي بصور الاعتقادات .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا صلينا نحن ، كان لنا الاسم "الآخر" ) أي ، كنا نحن المتحقق بالآخرية حينئذ فلنا الاسم ( الآخر ) .
( فكنا فيه ) أي ، في هذا المقام والتجلي ( آخرا ) . ( كما ذكرناه في حال من له هذا الاسم ) من أنه يتأخر عن وجود العبد .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتكون عنده ) أي ، عند الحق ( بحسب حالنا . ) وصفاتنا التي فينا ( فلا ينظر إلينا ) ولا يتجلى لنا ( إلا بصورة ما جئناه بها ) كمالا ونقصا . ( فإن المصلى هو المتأخر عن السابق في الحلبة . ) أي ، وإذا صلينا نحن ، كان لنا الاسم "الآخر" ، فإن المصلى متأخر عن المجلى في ميدان السباق .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقوله تعالى : "كل قد علم صلاته وتسبيحه " . أي ، رتبته في التأخر في عبادة ربه ، وتسبيحه الذي يعطيه من التنزيه استعداده . ) لما فسر المصلى بالمتأخر ، جعل صلاته رتبته في التأخر في العبادة .
أي ، كل منا ومن الحق الظاهر بصور عقائدنا ( قد علم صلاته ) أي ، مرتبته في التأخر وتسبيحه لربه :
أما صلاتنا له وتسبيحنا إياه وتحميدنا وثنائنا عليه بالوجه المشروع لنا وتنزيهنا إياه عما لا يليق بحضرته .
وأما صلاته لنا وتسبيحه إيانا فتكميله إيانا وجعله لنا موصوفا بالصفات الجمالية والجلالية وتطهرنا عن دنس النقائص ورين الحجب الإمكانية .
هذا لسان إشارته ، وهو لسان الباطن المعرب عن مطلع الآية .

وأما لسان عبارته الذي هو لسان الظاهر ، معناه : كل من الأعيان الموجودة وقد علم رتبته في عبادة ربه وتسبيحه الذي يعطيه استعداده ، وهو تنزيه كل من الأعيان ربه على حسب استعداده من النقائص اللازمة لعينه ، وعلم أن رتبة عبادته متأخرة عن صلاة ربه ، فإنه لولا صلاته ورحمته الوجودية وإخراجه للأعيان من ظلمات العدم إلى نور الوجود وظلمات الضلالة إلى نور الهداية ، ما كان أحد منهم يصلى .

فقوله رضي الله عنه   : ( في عبادة ) متعلق ب‍ ( رتبته ) لا ب‍ ( التأخر ) . أي ، علم رتبته في عبادة ربه . وضمير ( يعطيه ) عائد إلى ( كل ) وفاعله ( استعداده ) .
وفي بعض النسخ : ( عن عبادته ربه ) . فحينئذ يكون متعلقا ب‍ ( التأخر ) .
وفي بعض النسخ أيضا : ( عن عبادة ربه ) . فمعناه : كل قد علم صلاته ، أي رتبته
في عبادته ، أنها متأخرة عن صلاة ربه له ، وعبادة ربه إياه بالإيجاد والإيصال إلى
الكمال والرحمة والمغفرة . كما قال في مواضع أخر : (فيعبدني وأعبده) .
لكن الأولين أنسب إلى الأدب بين يدي الله تعالى .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فما من شئ إلا وهو يسبح بحمد ربه الحليم الغفور.) أي ، الذي لا يعاجل بالعقوبة ويعفو عن كثير من السيئات ، الغفور الذي يستر ذنوب الذوات وقد يجعلها للمحبوبين من الحسنات .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولذلك لا نفقه تسبيح العالم على التفصيل واحدا واحدا.) أي ، ولأجل أن لكل شئ تسبيحا خاصا ونحن لا نقدر على الاطلاع على تفاصيل الوجود وأسراره كلها ، لا نفقه تسبيح العالم كله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وثم مرتبة يعود الضمير) أي ، ضمير (بحمده) . (على العبد المسبح فيها) أي ، في تلك المرتبة .
ويجوز أن يعود ضمير ( فيها ) إلى ( الصلاة ) . وهي : ( في قوله : "وإن من شئ إلا يسبح بحمده ".) أي ، بحمد ذلك الشئ .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالضمير الذي في قوله : "بحمده" يعود على "الشئ" أي ، بالثناء الذي يكون عليه) أي ، كما أن كل شئ يسبح ربه المطلق ويحمده ، كذلك في مرتبة أخرى يسبح نفسه ويحمده ، فتنزيهه لربه تنزيه لنفسه وحمده له حمد لنفسه .
فيعود ضمير ( بحمده ) إلى نفس الشئ المسبح . وذلك لأن الهوية الأحدية كما هي ظاهرة بالمرتبة الإلهية وصارت معبودة للكل ، كذلك ظاهرة في المراتب الكونية ، فحينئذ إذا سبح شئ من الأكوان نفسه ، يسبح الهوية الظاهرة على صورته ، وهي عينه ، فهو المسبح المسبح ، وهو الحامد والمحمود .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما قلناه في المعتقد إنه إنما يثنى على الإله الذي في معتقده ويربط به نفسه ).
ولكن ( ما كان من عمله فهو راجع إليه ، فما أثنى إلا على نفسه . فإنه من مدح الصنعة ، فإنما مدح الصانع بلا شك ، فإن حسنها وعدم حسنها راجع إلى صانعها . وإلى المعتقد مصنوع للناظر فيه ، فهو صنعه ، فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه . )
شبه ثناء الأشياء على أنفسها بالثناء على ما هو مجعول لها . أي ، الإنسان يثنى على الإله الذي هو في اعتقاده إله ، وهو في الحقيقة مجعول له مصنوع ، وهو جاعله وصانعه . لأن الإله المطلق لا ينحصر بتعين خاص ولا بعقد معين .
فكل ثناء يثنى عليه فهو ثناء على نفسه ، وهو لا يشعر بذلك . لأن كل من أثنى على الصنعة ، أثنى على صانعها . لأن حسنها وعدم حسنها راجع إليه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا يذم معتقد غيره . ولو أنصف ، لم يكن له ذلك ) أي ، ولأجل أنه يعينه فيما أدركه ، يذم ما عين غيره ، وجعل معتقد نفسه محمودا . ولو أنصف ، لم يكن له أن يذم معتقد غيره ، فإنه أيضا مثله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إلا أن صاحب هذا المعبود الخاص جاهل بلا شك في ذلك ، لاعتراضه على غيره فيما اعتقده في الله . ) أي ، فثناؤه على ما اعتقده ثناء على نفسه ، إلا أنه جاهل لا يشعر بذلك . ولو كان له شعور به ، لما اعترض على غيره فيما اعتقده ، وأثنى عليه .
لأنه لو علم أن معبوده مجعول لنفسه ، وهو يثنى على نفسه ، لعلم أن ما جعله غيره أيضا مجعول له وثناؤه عائد إليه . والذوات مجبولة على الثناء على أنفسها .
ولو علم أن معبوده المعين هو الإله المطلق الذي تجلى في قلبه وتعين بحسب استعداده ، لعلم هذا المعنى في إله غيره أيضا ، فلم ينكر عليه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذ لو عرف ما قال الجنيد : "لون الماء لون إنائه" . لسلم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده ، وعرف الله في كل صورة وكل معتقد . ) أي ، إذ لو عرف أن الحق هو الذي يتجلى بصور الأعيان وصور الأذهان بحسب الاستعدادات وقابلياتها ، يسلم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده ، وعرف الله في كل صورة يظهر بها ، وآمن بالحق فيها ، وكان من أصحاب السعادة العظمى .

وقوله : ( وكل معتقد ) بالاعتقاد الخاص ( فهو ظان ، ليس بعالم . ) إذ لو كان عالما عارفا ، لعرف الله في كل الصور والعقائد . ف‍ ( كل ) مبتدأ ، ( فهو ظان ) خبره .
ويجوز أن يكون معطوفا على قوله : ( في كل صورة ) . أي عرف الله في كل صورة وكل عقيدة . فيفتح ( القاف ) .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلذلك قال تعالى : "أنا عند ظن عبدي بي" . أي ، لا أظهر له إلا في صورة معتقده : فإن شاء أطلق . ) وعبد الإله المطلق الظاهر في كل المظاهر والمجالي .
(وإن شاء قيد ) بصورة معينة يعطيها استعدادها . ( فإله المعتقدات تأخذه الحدود . ) لأنه مقيد معين .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهو الإله الذي وسعه قلب عبده ، فإن الإله المطلق لا يسعه شئ ، لأنه عين الأشياء وعين نفسه ، والشئ لا يقال فيه يسع نفسه ، ولا لا يسعها . فافهم ذلك . والله يقول الحق وهو يهدى السبيل . )
أي ، القلب لما كان معينا مقيدا مكتنفا بعوارض تعينه وحدود تشخصه ، لا يدرك إلا مثله ، ولا يسعه إلا ما هو معين محدود مثله . والإله المطلق جل عن الحدود وعز عن الإحاطة ، فلا يسعه شئ .
فكيف يسعه وهو عين الأشياء ، ولا شئ غيره ؟ ولا يوصف الشئ بأنه يسع لنفسه ، ولا بأنه لا يسعها . فافهم ترشد .

لا يقال قوله : ( فإن الإله المطلق لا يسعه شئ ) . يناقض ما ذكره من قبل من أن قلب العارف يسع الحق . لأن ذلك بحسب التجلي ، والتجلي أبدا لا يكون إلا على قدر استعداد المتجلى له ، والمتجلى له عين مقيد ، فلا يمكن أن يتجلى له الحق المطلق من حيث إطلاقه ، إذ هذا النوع من التجلي لا يبقى للمتجلى له وجودا وتعينا ، للمنافاة بينهما .

ولا يمكن أن يتجلى لشئ بجميع أسمائه وصفاته دفعة وهذا هو المراد وإن كان قلب الكامل العارف قابلا لجميع التجليات الأسمائية ، لكن لا يتجلى له الحق دفعة بالجميع ، ولا له قابلية ذلك .
والله يقول الحق بلسان الكاملين، ويهدى سبيله للمتوجهين إليه والطالبين، وهو الموفق للرشاد، ومنه المبدأ وإليه المعاد. وهذا آخر ما أردنا بيانه.
والحمد لله على التوفيق والشكر لولى الحقائق.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 2انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» كتاب شرح كلمات فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربى الطائي الحاتمي أ.محمود محمود الغراب
» شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
» شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: