منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالجمعة يوليو 26, 2019 8:54 am

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

مقدمة الشارح الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

مقدمة صائن الدين على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
خطبة الشارح الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله مفصّل الآيات في صحائف قوالب قلوب كمّل الكلم بكامل كلامه ، ومبيّن الغايات على تخالف الطريق والطرق في أقوم الأمم بعلائم أعلامه ، وصلَّى الله على مفيض النيّات محمّد  الذي عرج الورى في معارج منعرج دار السلام بسلاليم إسلامه .
أمّا بعد :
فإنّ أجلّ ما تنعطف إليه أعنّة البصائر النقّادة ، وأحقّ ما تمدّ نحوه أعناق الخواطر الوقّادة ، هو الحكمة الحقّة التي لا يخالط خلَّص عيون يقينها آنك الشكوك ولا شبه الشبه ، ولا يشوب صفاء مناهل حقائقها قذر النقوض ولا قتر الردود  ممّا يورث السفه والعمة ، لا سيّما في زماننا هذا إذ سطع تباشير صبح ظهور الحقّ عن أفق إخفائه ، وتبلَّج أنوار أسرار الحقيقة في غياهب دياجير ظلمائه ، ولأمر ما ترى كواكب انتظام ظواهر العلوم وشواكل الرسوم قد انتثرت عن سمائها ، وانحطَّ مراتب أقدارها عن معارج علوّها وسنائها ، بما طلعت شمس إظهار المراد عن مغرب الغيابة والأفول ، وظهرت أسرارها عن مكامن الإنزال والنزول .
بدى لك سرّ طال عنك اكتتامه  ..... ولاح صباح كنت أنت ظلامه
وجاء حديث لا يملّ سماعه      ..... شهيّ إلينا نثره ونظامه

ومن آياته تداول كتاب فصوص الحكم ، المنسوب إلى الإمام الأقدم ، الحبر الأعظم ، والبحر الخضمّ ، محيي الحقيقة والدين : ابن العربي الطائي الأندلسي قدّس الله روحه ، وأفاض علينا برّه وفتوحه الذي هو العلق النفيس ، وعين التحقيق الخالص عن شوائب التلبيس والتدليس.
فإنّه قد انتظم في عقده جواهر خصائص مكاشفات الأنبياء ، وطرائف لطائف أذواق خلَّص الأولياء .
ثمّ لمّا وفّقني الله تعالى للتطلَّع والاستكشاف ممّا فيه من كوامن الكنوز وخزائن الرموز صادفته على ما علَّق عليه من الشروح والحواشي انفا لم ترتع وبكرا لم تفترع فحرّضني قهرمان الزمان وما عليه في هذه الأوان أن أكشف القناع عن مخدّرات إشاراته ، وابيّن حقائق ذوقياته ، ودقائق مكاشفاته بما سمح الوقت بإملائه.
وأخذ الزمان في منحه وإعطائه من القواعد العدديّة والحكم الحرفيّة ، التي هي عند أهلها وأرباب عقدها وحلَّها كالحجج القاطعة لإدراك تلك الذوقيات وإثباتها ، والبراهين الساطعة لتيقّنها واستنباطها ، مترشّحا من ذوارف عوارف الختمي الأكملي السيّدي ، ومقتبسا من مشكاة نوره الأتمّ ، سلام الله على آبائه الكرام ، وعليه وعلى أصحابه أجمعين .
فلا بد إذن من تصدير مقدّمة كاشفة عن امّهات مقاصد القوم مبيّنة لتأسيس تلك الأصول ، وتنسيق ذلك النظم وهي منطوية على عدّة توشيحات وعقود :
في معنى الوجود
اعلم أنّ أظهر المفهومات نسبة وأبينها لزوما للإطلاق الحقيقي والوحدة الذاتيّة التي هي أقرب المدارج للعقول عند العروج في مسالكها الخاصّة بها ، وأعلاها لدى التطلَّع بقواها إلى حقيقة الحقائق هو الوجود فحريّ بنا أن نصدّر الكلام بالفحص عن معناه وعمّا يلحقه لذاته ، وبحسب المدارك من الأحكام واللوازم ، تقريبا لأذهان المسترشدين وتنزّلا إلى مدارك أفهامهم وذلك لأنّه أبين المعاني تصوّرا ، وأشملها وأعمّها تحقّقا .
أمّا الأوّل فلأنّ ظهور المفهومات وبداهتها لدى الإمعان ليس إلَّا قرب النسبة بينها وبين أحد أنواع الوجود في لحوقه إيّاها وعدم تخلَّل الواسطة بينهما ، فلذلك كلَّما كانت الوسائط أقلّ ترى المفهوم أظهر ، وكلَّما كانت أكثر تراه أخفى وأبطن .
وأمّا الثاني فلأنّ العموم إنّما يرجع معناه عند التأمّل إلى أنّ ملحوقيّة العامّ لأحد نوعي الوجود أكثر وأشمل بالنسبة إلى ما هو خاصّ له ، كما أنّ ملحوقيّة الخاصّ أقلّ وأنزر بالنسبة إليه ، فالعموم والشمول أيضا منوط بالقرب من الوجود والبعد عنه ، ولا يخفى أنّ ما يفيد نسبة القرب منه أمرا يتفاوت بحسب زيادة تلك النسبة ونقصها ، لا بدّ وأن يكون ذلك الأمر فيه أتمّ وأكمل .
ثمّ إنّ معناه بمحوضة إطلاقه ، ما لم تنضمّ إليه نسبة أو تلحقه إضافة لا يمكن وصول العقل إليه بإدراك مشاعره الجزئيّة ، المحاطة لأحكام مرتبته ، ولذلك ترى المتأخّرين من الحكماء والمتكلَّمين يفسّرونه بـ : « الكون في الأعيان » ويلزمه حينئذ كثير من الأحكام ، ممّا لا دخل له في حقيقته :
منها : مقابلة العدم له ، ضرورة أنّ الوجود في الدار مثلا يقابله العدم فيها .
ومنها : أنّه يلزم أن يكون مفهومه راجعا إلى مجرّد النسبة ومحض الإضافة ولذلك يصحّ أن يستجمع مع مقابله في ذات ، إذا اختلف المنتسب إليه ، كما يقال للموجود في الذهن : " إنّه معدوم في الخارج " .
لا يقال : كيف يتصوّر ذلك ، والإضافة من الأعراض التي لا بدّ وأن يكون لها محالّ موجودة قبلها ؟
إذ ما يوجد به الأشياء إنّما هو الوجود الحقيقيّ على ما سيجيء تحقيقه وهو الموجود بنفسه ، الموجد لغيره لا العرضيّ الذي لا وجود له في الخارج .
ومنها : أنّه لا عين له في الخارج ولا تحقّق له هناك أصلا ضرورة أنّ النسب أنفسها إنّما توجد في العقل ، ولذلك تراهم ذهبوا إلى أنّه من الأمور الواقعة في الدرجة الثانية من التعقّل .
ومنها : أنّه من الأمور الزائدة على الماهيّات الحقيقيّة ، اللاحقة إيّاها في الذهن ضرورة أنّ النسب والاعتبارات لا يمكن أن يكون لها دخل في الحقائق الخارجيّة ، ولذلك جعلوه مقولا بالتشكيك على أفراد بها توجد الماهيّات ، لئلَّا يمتنع تقوّم بعضها بها على ما ذهبوا إليه في الواجب .
هذا إذا أضيف إلى حقيقة الوجود ضرب من النسبة والإضافة ، ولم نبقها على إطلاقها بما هي عليه ، فإنّ تلك الحقيقة في نفسها معرّاة عن النسب كلَّها لا يمكن أن يدلّ عليها بدلالة ، ولا أن يشار إليها بنوع من الإشارة .
ومن ثمة قيل : إنّه غيب الغيب الذي فيه العنصر الأعظم ، وذلك لأنّ أوّل ما يلزمها من المعاني الكاشفة عنها هو الوحدة الحقيقيّة التي لا يعتبر فيها شيء من لوازم التغاير والتقابل أصلا ، ممّا يشوب به صرافة إطلاقها ومحوضة إحاطتها ، فلو دلّ عليها بشيء من الإشارات أو العبارات لما بقيت على ما عليه من الإطلاق والوحدة .
ثمّ إنّها حينئذ تستدعي أحكاما تلزمها لنفس حقيقتها .
منها : أنّه لا يمكن أن يكون لها مقابل أصلا فإنّ الواحد هذا لا يشذّ منه شيء هو ثاني له يقابله. فإن قلت : الذي يقابلها لا شيء صرف ، وهو خارج عن ذلك الواحد ؟
قلت :  كلّ ما يشعر بالثنويّة والتغاير ولو بمجرّد الفرض والاعتبار ينافي حقيقة تلك الوحدة  على ما حقّق أمره وبسط الكلام فيه في كتاب التمهيد والتعبير عن ذلك بـ «الشيء» وما يجري مجراه لضيق مجال الألفاظ وحصر الأوضاع .
ومنها : استجماعها للأضداد والنقائض وسائر الأطراف ، بحيث يكون هو الكلّ بعينها ، وإلَّا يلزم أن يكون للثنويّة والتغاير فيها حكم ، وهي المسمّاة بالهويّة المطلقة ، على ما صرح به العبارة الختميّة القرآنيّة المرسل بها بقوله تعالى : " هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ ".
ومنها  : أنّ طريان وجوه التقيّدات لا ينافي ظهور أحكامها الإطلاقيّة ، بل إنّما يتمّ سلطانها عند تضاعف تلك الوجوه ، والإحاطة بصنوف أطوارها جملة ، وهذا سبيلها في سائر المتقابلات ، فإنّ أشعّة أضواء ظهورها إنّما تتشعشع في غياهب دياجير البطون ، كما أنّ ظلمات غواسق البطون إنّما ادلهمّت في انتشار أنوار الظهور ، كما أشار إليه الشيخ المؤلف  :
باطن لا يكاد يخفى    ..... وظاهر لا يكاد يبدو
ولكن المسترشد الفطن ربّما يحتاج في تحقيق هذا المعنى إلى تخليص لذائقة فطانته عن مألوفات العوائد التقليديّة ، ومحصولات الدلائل النظريّة .
عقد منه :
اعلم أنّ المانع من الشركة إنّما هو تمام معنى الجمعيّة الوجوديّة ، وكمال كلَّيّته الإحاطيّة التي ليس في الخارج عنها ما يشاركها أصلا ، وذلك إنّما يتصوّر في الواحد الحقيقي على ما عرفت ولذلك ترى مراتب تنزّلات الأنواع بالغا ما بلغ لا تنتهي بتراكم القيود إلى الشخص ما لم تظهر في أضواء ظلاله ، ولم تتبيّن منه آثار وحدته وسطوة سلطان جلاله .
توشيح تفصيليّ على عرف الصوفيّة
"تعريف بعض الاصطلاحات " :
ثمّ إنّ لتلك الوحدة لوازم مترتّبة متنزّلة ، متصاعدة تسمّى في عرفهم بالتجلَّيات والتعيّنات والعوالم والكائنات .
أولها : معنى الإطلاق وهو عدم لحوظ ما يخرج الشيء عن صرافة وحدته ويكثّره بوجوه القسمة والنسبة ، وذلك إنّما يكون عند انتفاء سائر النسب والإضافات ، وهو المسمّى : ب « الحضرة الأحديّة » و « حضرة الجمع والوجود » و « التعيّن الأوّل » ، وتجلَّيه ، و « الحقيقة المحمّديّة » و « مقام " أَوْ أَدْنى " » على اختلاف العبارات بحسب الاعتبارات  .
وثانيها : ما يلزم ذلك المعنى وهو شمول تلك الوحدة للكلّ واندراج الكلّ تحتها وهاهنا تتميّز الوحدة عن الكثرة ، ويتحقّق التغاير والتقابل ، وهو المسمّى ب "الحضرة الواحديّة" و «النفس الرحماني» و « التعيّن الثاني » وتجلَّيه ، و "البرزخ الجامع " و " الحقيقة الآدميّة " و " مقام قاب قوسين " و « حضرة الأسماء » و « منشأ السوي » و « منزل التدلَّي » و « موطن التداني » و " مستند المعرفة " بحسب ظهور معنى التطوّرات في مدارج التنزّلات .
ثمّ إنّه قد استتبع حكم معنى الشمول والكليّة ، هاهنا ظهور سلطان النسبة ، وقهرمان أمر الأسماء ، وبيّن أنّ النسبة الواقعة بين الواحد الكلّ وما يشمله من الكثرة والتعدّدات ، لها وجوه من الاعتبارات :
منها ما الغالب عليه حكم الوحدة ، ومنها ما الظاهر فيه  حكم الكثرة فإن اعتبر المنتسبان قيل : «حقّ وخلق » ، وإن اعتبر الوجه الأول من النسبة قيل :
"أوصاف الحقّ وأسماؤه" ، وإن اعتبر الوجه الثاني منها قيل : «الكون» و «حقيقة العالم» ، وعينه الثابتة .
فأوّل ما يظهر في هذه الحضرة أمر الأسماء ، كما أنّ أوّل ما يظهر أحكامه منها العلم المثبت للمعلومات ، المستلزم للااستحقاقيّة الوجود لها لذاتها يعني الإمكان فهو أوّل ما يلزم العلم ، كما أنّ الوجوب وهو استحقاقيّة الوجود لذاته أوّل ما يلزم الوجود ، وهو المراد بما قيل : "إن الوجوب والإمكان ظاهرا الوجود والعلم".
ويلزم الإمكان وجوه من التقسيم : ككونه جوهرا ، أو عرضا ، وحالَّا أو محلَّا ، ومجرّدا أو ذا مادّة على ما بيّن في صناعة الحكمة .
تلويح لوحي :
الذي ينبّهك على هذه الأصول من شواكل الرقوم أن الألف في الجلالة قبل ظهوره بتمام الدائرة الإحاطيّة العينيّة وهاء الهويّة التعيّنيّة  ، له تنزّلان في لامي الجمعيّة العلمية ، مختفيا في الأوّل منهما ، مندمجا فيه ، وظاهرا في الثاني منبسطا ممتدا إلى الهاء ، امتداد النفس الرحماني والمدد الوجودي على التعيّنات .
عقد نظم فيه :
إذ قد بان لك ما تفرّق به بين الذات وشئونها وأحكامها المسمّاة بالإمكان ، فاعلم أنّ توجه الذات على جميع الممكنات أنفسها يسمّى «الوهيّة» كما أنّ تعلَّقها بنفسها وبجميع الحقائق على ما هي عليه يسمّى ب "العلم" .
ثمّ ذلك التعلَّق إن اعتبر على الممكنات خاصّة بما هي عليه في نفسها يسمّى بـ  "الاختيار" وإن اعتبر ذلك بما هي عليه في الحضرة العلميّة من سبق تخصيصها بأحد الجائزين يسمّى بـ «المشيّة» ، كما أنّ تعلَّقها بنفس ذلك التخصيص يسمّى " إرادة " كما أفصح عن  ذلك لفظ «الشيء» و «المراد» عند اللبيب ، فإنّ الشيء هو ذات الممكن ، كما أنّ المراد إنّما هو وجوده ، فالمشيّة لها تقدّم اعتباري وتعلَّقها بإيجاد الكون يسمّى "قدرة" ، وتعلَّقها بإسماع المكوّن لكونه يسمّى "أمرا".
ثمّ إنّ ذلك إن توجّه إلى تحصيل أعيان الأكوان يسمّى بـ «الخلق» ، وإن توجّه إلى تحصيل أحكامها بما يفيد ما عليه أمر الوجود يسمّى بـ "الكلام" .
والأوّل ينتهي إلى أعراض وكيفيّات تحملها الأضواء . والثاني أيضا إلى أعراض كذلك يحملها الهواء.
فتعلَّقها بالأوّل يسمّى بـ «البصر» ، كما أنّ تعلَّقها بالثاني يسمّى بـ "السمع" .
ثمّ إنّ تعلَّقها بإدراك كلّ مدرك الذي لا يصحّ تعلَّق من هذه التعلَّقات كلَّها الَّا به يسمّى «حياة» ، والعين في ذلك كلَّه واحدة ، وتعدّد التعلَّقات إنّما هي لتمايز المتعلَّقات ، فلا تغفل عن هذا النظم وترتيبه .
توشيح ونظم على نسو الشيخ المؤلف :
مراتب الوجود في قوسي النزول والرجوع  ثمّ إنّ العلم مع باقي أئمّة الأسماء وسدنتها لما توجّهوا إلى إيجاد عالم التدوين والتسطير ، وإبراز المعلوم في ملابس التشكيل والتصوير إذ الأسماء ما دام في الموطن الجلائي والتعيّن الإطلاقي لا تتمكَّن من إنفاذ أحكامها كان أوّل ما ظهر من ذلك جوهرا بسيطا من غير مادّة ولا مدّة ، يسمّى ب «العقل الأوّل» من حيث أنّه الخازن الحفيظ الأمين على اللطائف الإنسانيّة التي هي الغاية للحركة الإيجاديّة .
و «القلم الأعلى» من حيث التدوين والتسطير ، و «الروح» من حيث التصرّف ، و «العرش المجيد» من حيث الاستواء ومن ذهب إلى أنّه هو التعيّن العلمي بعينه ، فكأنّه لم يفرّق بين التعيّن الاستجلائي الَّذي فتح فيه أبواب لام التفصيل ، المعبّر عنه ب « العالم » وبين التعيّن الجلائي الذي انخفض فيه ذلك الباب المسمى بـ «العالم» أو لم يظهر له بحسب القوانين الحكميّة أن كلّ ما انختم به خزائن الكمال من الحقيقة الإحاطيّة الجامعة بين ما يختصّ به العقل من القدسيّات وما يقابله من الهيولانيّات.
 بل أجمع وأكثر إحاطة من ذلك لا بدّ وأن يكون بحسب حقيقته هو الفاتح لأقفال الظهور ، وبيده مقاليد تلك الأبواب ، كما صرّح به معلَّم المشّاءين في صدر كتابه المسمى بـ « أثولوجيا »  :" إنّ أوّل البغية آخر الدرك ، وآخر الدرك أوّل البغية " .
وأمّا ما وقع في كلام الشيخ ممّا يمكن أن يفهم منه الدخيل ذلك ، كما في قوله
في رسالة المسائل : « فأوّل موجود ظهر فقير مقيّد موجود يسمّى العقل ، ويسمّى الحق المخلوق به ، ويسمّى الحقيقة المحمّدية ، ويسمّى روح الأرواح ويسمى الإمام المبين . . . " .
فهو عين ما ذكرناه من أنّه أوّل سلسلة العوالم ، فإنّ العالم هو الذي له الفقر والقيد والظهور ، دون الحضرات الجلائيّة .
وكذلك حكم سائر الأوائل الواقعة في جميع المراتب ، فإنّها مظهر التعيّن الأوّل في تلك المرتبة ، فيصدق عليه أحكامه وأسماؤه ولكن مقيّدا وباعتبار .
ثمّ إنّه لغلبة حكم الإجمال والإطلاق الذي هو مقتضى التعيّن الأوّل في هذا الجوهر ما كان له أن يثبت فيه ذلك التصوير إلَّا بضرب من الإجمال فظهر جوهر آخر قابل لتسطير القلم به تفصيل ذلك التصوير كما هو مقتضى التعيّن الثاني ولذلك يسمّى بـ « اللوح المحفوظ » و «النفس الكلَّيّة» باعتبار ظهور حكم النفس الرحماني فيها و «العرش الكريم» للاستواء عليه .
ثمّ إنّ هذه المرتبة لتروّحها ما كانت قابلة لظهور تلك التفاصيل بأعيانها وبروز هيئاتها بأكوانها وألوانها ، إذ ليس للتفصيل في هذه النشأة حكم إلَّا بنوع من الانطباع ، فاقتضى الأمر التنزّل نحو مادّة قابلة لبروز تلك التفاصيل فيها بأعينها وذواتها ، وهو " الهباء " ، المسمّى في عرف المشّاءين بـ "الهيولى" .
وهي لذاتها وبما جبّلت عليه من القبول تصوّر فيها من العقل بعد هو الطول ، ومن النفس آخر هو العرض ، ومن المركز الذي هو متوجّه هذه الحركة الظهوريّة الإيجاديّة آخر هو العمق فحصل الجسم الكلّ وتشكَّل بما هو مقتضى الحقائق أولا.
يعني الكرويّة فكان الفلك المسمّى بـ «عرش الرحمن» لاستوائه سبحانه عليه به ، من حيث أنّ الوجود تمّ ظهوره به ، وبلغ كماله فيه ، واستقرّ سلطانه وجلاله عليه .
ثمّ أنّه قد غلب فيه حكم الإجمال بناء على ما تقرّر من سريان حكم التعيّن الأوّل على كل ما تعيّن أولا في أيّ مرتبة كانت ،على ما نبّهت عليه في مرتبة الأمر فظهر فلك آخر يسمّى بـ "الكرسي" ، وفيه تفصيل  كما في سائر الثواني من المراتب ، وهو أنّ الكلمة فيه انقسمت إلى الأمر والنهي .
ولذلك يقال له : « موضع القدمين » ، لأنّ الكلمة آخر المراتب والتنزّلات على ما ستقف عليه إن شاء الله .
ثمّ ظهر فلك آخر فيه تفصيل البروج الاثني عشر وتقسيمها الفرضي ، وهو المسمى بـ " فلك البروج " و « الفلك الأطلس » ، إذ لا كوكب فيه ، ثمّ " فلك الكواكب الثابتة " الذي ظهر فيه التفصيل بكماله وبرز الكثرة بصورها المحسوسة في العالم على صحائف العيان وهذه الأربع هي الأفلاك الثابتات وبرابعها بلغ أمر الكثرة منتهاها .
وبذلك استعدّ لظهور الوحدة التي هي مقتضاها ، ولذلك انصرف التوجّه الإيجادي والحركة الحبيّة من حيث النفس منحدرا بالتدبير في عمق الجسم إلى أقصاه ، وذلك نقطة المركز الذي هو محل نظر العنصر الأعظم  ، الذي خلق العقل من التفاتته ، وحصل من تلك الحركة مرتقية الأركان والسماوات على الترتيب من المركز إلى المحيط .
وممّا يدلّ على أنّ الأمر كلَّه دوريّ : هو أنّ أوّل الأركان يعني الأرض وآخر السماوات يعني السماء السابعة على طبيعة واحدة وهي البرودة واليبوسة فبينهما اتّصال من ذلك البعد .
ثمّ لمّا كملت الأركان والأفلاك على ما ذكر ودارت الأفلاك كلَّها وهي :
الآباء العلويات وتحرّكت الأركان بتحريكها وهي القوابل والحوامل امّهاتنا السفليّات
فأوّل ركن قبل الأثر : ركن النار وهو الأثير فظهرت الكواكب ذوات الأذناب ، وأنشأ في هذا الركن عالم الجانّ ، فإنّ مادّة أجسادهم هي الطبائع الدخانيّة القابلة للاشتعال والتنوّر .
فمنهم من غلب على نشأته بساطة الناريّة ولطافة خفّتها وعلوّها وهي الأبالسة والشياطين  ومنهم من غلب عليها أمر تركَّبها النوريّة وهم المؤمنون منهم ولغلبة الخفيفين على نشأتهم هذه جعل بأيديهم عالم الخيال ، وما عليه أمره من التصوّر بالأشكال والأمثال من كلّ شيء في العالم الحقيقي .
وما زال التكوين ينزل إلى أن نزل إلى الأرض كرة تعانق الأضداد وموطن الاعتدال والانحراف ، والكون والفساد فأوّل ما يكوّن فيها :
المعادن ، ثمّ النبات ، ثمّ الحيوان .
وجعل آخر كلّ صنف من أجناس هذه المواليد أولا للذي يليه :
فجعل آخر المعادن
وأوّل النبات الكمأة. وآخر النبات
وأوّل الحيوان النخلة ، وآخر الحيوان وأوّل الإنسان القرد .

ليكون الوحدة الاتّصاليّة محفوظة عن التخلَّل والانخرام ، والهيئة الجمعيّة التي بين تلك الأنواع سالمة عن عروض الانقطاع وطروّ الانصرام .
عقد متمّم سر السير من الوحدة إلى الكثرة ، ثم من الكثرة إلى الوحدة
كما أنّ الحروف ورقومها إنّما تتفارق أصنافها المتماثلة ، وتتباين أشخاصها المتشاكلة بالنقط التي هي مبدأ الخط ، الذي هو هيولى الحروف ومادّة النطق كذلك الأعيان والحقائق إنّما تتميّز بالوحدة التي هي العنصر الأوّل للكلّ .
فكما أنّ النقطة هي المبدء لما يقبل التنوّع والتشخّص أوّلا ، وهي المنوّع المشخّص آخرا كذلك الوحدة بعينها هي أصل الاستعداد وامّ القابليّات والمواد .
ومن ثمّة إذا تمّ سير الظهور وبلغ إلى منتهى كماله المحسوس تراه راجعا من محيط الكثرة الكونيّة إلى مركز الوحدة الوجوديّة التي هي أسطقس الاستعدادات يستمدّ منها ما به يتمكَّن أن يتجلَّى ذلك السرّ السائر على مجالي الإظهار ، ويجلو عرائس كماله على منصّات الشعور والإشعار .
وذلك لأنّ السير الأوّل لبساطة حكم الوحدة فيه ومحوضة تأثيرها في القوابل إنّما حصل منه اللطائف النورانيّة ، فما أمكن أن يتحصّل منه ما به يتكثّف القوابل من الأجرام المدلهمّة المظلمة ، بحيث لا تنفذ فيها أشعّة الظهور حتّى يتعاكس من سطوح تلك القوابل والمرايا أضواؤها المظهرة .
وذلك لأنّ كلّ جمعيّة ما لم ينقهر حكم الوحدة الوجوديّة فيها تحت أحكام كثرتها الكونيّة ، لم ينحرف عن شارع الاعتدال الَّذي هو مورد اللطف والنور ، وما لم ينحرف عنه ولم يمل عن جادّته المستقيمة لم تتراكم فيها الأحكام ولم تتكاثف  سطوحها لتتعاكس أشعّة الظهور فيها وتتشعشع أضواؤها النيّرة ، ويتمّ فيها أمر الإظهار وسيجئ لهذا البحث مزيد بسط إن شاء الله تعالى .
توشيح في تحقيق النشأة الإنسانية :
أليس قد لاح ممّا نظم لك آنفا أنّ العالم قد اشتمل بجملته وكلَّيته على مفردات الأعيان ، وحقائق متفرقة عينيّة وهو من هذا الوجه كثرة كونيّة ، ليس إلَّا وعلى النسبة الامتزاجيّة بينها والرقائق الارتباطيّة التي يتّحد بها الكلّ وحدة وجوديّة .
فكما أنّ للجزء الأوّل منه مادّة يظهر فيها ذلك إلى أن يتمّ أمر الظهور ، ويستوي على عرشه ، وهي غاية الحركة الأولى كما مرّ كذلك لا بدّ له في إتمام تلك البنية ، ممّا يصلح لأن يكون مادّة للجزء الآخر منه ، وهي النشأة العنصريّة الإنسانيّة ، التي هي غاية الحركة الثانية ، وهي غاية الغايات ، ومنتهى سائر الحركات .
ثمّ إنّ تلك الرقيقة الاتحاديّة والرابطة الإحاطيّة إنّما يمكن ظهورها فيما يستوعب سائر المراتب ويستجمع جملة الحضرات والعوالم ، فهو الأنزل من الكلّ رتبة ومكانا ، والآخر ظهورا وتكوّنا ، فإنّ الممتزج من أضداد الطبايع المتخالفة وأطراف الصور المتنوّعة المتمانعة ، لا يزال يتدرّج مائلا من مكامن مطامير تلك الكثرة الكونيّة إلى مجالي ظهور الوحدة الوجوديّة ، حتّى تتحصّل منه جمعيّة جنسيّة اعتداليّة وحدانيّة الحكم ، بها يصلح لأن تظهر فيها تلك الوحدة بصفاتها الحقيقيّة ولوازمها الوجوديّة ، كالحياة ، والإرادة ، والقدرة ، والسمع ، والبصر .
ثمّ إنّه وإن انتهى السير في هذه الحقيقة منتهى ظهوره ، واستوى على عرش شعوره ، لكن ما لم يبلغ في ذلك المسلك إلى حدّ يتمكَّن به من توليد المثل ويمكن أن يظهر فيه الكلام ، وتتنزّل به الوحدة في صورة كليّتها ، وتتكسّى بملابس جملها وتفاصيلها ، لم يتمّ لها الكمال.
فإنّه في هذه المرتبة ظهر ملاك سلطان الإظهار ، وبها نفّذت أحكام قهرمان الصورة المظهرة لطائف المعاني ودقائق الأسرار ، فلها في هذه الجمعيّة الاعتداليّة سيران نحو أواسط كمالها وحاقّ ما أمكن فيها من الوحدة والاعتدال ، حتّى يبلغ ذلك الحد الذي هو مصدر الكلام ، وينتهي به السير المذكور غاية الكمال .
ثمّ لها في هذه الوحدة النوعيّة الكماليّة سيران آخر ان على عرض أرضها المزاجيّة ، نحو ما يصدر منه ذلك الكلام بكماله ، ويتمّ به أمر الإظهار يعني وضع الصور الدالة على المعاني والشعائر المشعرة بالحقائق بأفعاله وأقواله وهو الشخص المسمّى بخاتم النبوّة عليه من الصلوات أفضلها ومن التحيّات أتمّها وأكملها.
وموضوع ما في هذا الكتاب من العلوم والأبحاث هو ما في هذين السيرتان من صنوف تنوّعاته الكماليّة ، وبيان ما يختصّ بكليّات تطوراته من العلوم والمعارف كما ستطلع على تفاصيله عند الكلام على ترتيب الكتاب وفهرست فصوصه وأبوابه .
عقد وتميمة  :
لا يخفى على المتفطَّن اللبيب أنّ ارتباط أمر الكمال بالكلام واستتباع أحكام تمام الإظهار لبلوغه إلى نقطة التمام ، ليس إلَّا باحتوائه على الحقائق كلَّها واختزانه للطائف العلوم والمعارف على ما عليه الأمر في نفسه ، فإنّ الحرف صورة العلم ، ومظهر بسطه وكشفه على ما لا يخفى عند أهله .
ثمّ إنّ استنباط العلم من صور الحروف ، واستنتاج دقائقه الباطنة من بيّنات أشكالها الظاهرة إنّما يمكن من المشعرين الشاعرين :
أعني السمع والبصر ، إذ بهما يرتبط قوس الظهور من الدائرة الكماليّة الوجوديّة بقوس البطون منها ، وبذلك الارتباط حصلت الرقيقة الاتحاديّة التي تستبع العلم والشعور .
وممّا يؤيّد هذا الكلام ما ورد في التنزيل : "وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ"
فإنّ من تدبّر في نظمه بعض التدبّر ظهر له الحقّ من أفق إشراقه .
قوسا النزول والعروج في العالم الإنسانية وتطور الحروف والكلام
وتمام تلخيص ذلك الكلام أنّك قد عرفت آنفا أنّ السير الوجودي لم يزل متدرّجا في كثائف الكثرة الكونيّة ، إلى أن يبلغ منتهى ثخائن الأجرام ثمّ إذ قد تمّ هذه الحركة بحصول ما هو الغاية لها ، عاد يتلطَّف مصوّرا بأعراضها القائمة بها من الألوان والأوضاع ، والأبعاد والأعداد إلى ما يخفّ عن تلك الكثافة الجرميّة وغلظها الأرضيّة خفّة ما .
حتّى يمكن أن يحملها الهواء والضياء ويبلغها إلى مبادي تينك القوّتين ، ثمّ يخلع ما عليها من آثار صورتها النوعيّة الخارجيّة .
ويتدرج في التبطَّن إلى الحسّ المشترك ، ثمّ إلى الخيال ، ثمّ يضع جملة ما عليه من آثار الصور ويدركه الوهم ، ثمّ الذكر ، ثمّ ينفضّ بقايا ما عليه من اللواحق الخارجيّة المشخّصة والعوارض المعيّنة ، ويتعقّله الفكر منزّها عن المواد المشخّصة والعوارض المخصّصة إيّاه .
ثمّ يصل إلى القلب ويعلمه مقدّسا عمّا يشوب به الإطلاق جملة ، وبه يتمّ الدائرة بكمالها ، وينطبق قوس الإظهار على قوس الظهور منها ، ولذلك يقال لمرتبته هذه : "مقام قاب قوسين" .
فعلم بذلك إنّ في الإنسان من تلك الدائرة الكماليّة قوسا ينطبق بأحد طرفيه على أوّل مراتب الظهور ، ومبدأ فتح أبوابه وهو القلب وبالآخر على آخرها  ومنتهاها وهي مشاعره الحسّية الظاهر أمر تمامها في السمع والبصر ولما كان البصر أقوى حكما في موطن الظهور ، ونفوذ أمره أعني الصورة ، ولذلك تراه قد انسحب حكمه على مدركات السمع ، يعني الكلام في صورته الرقميّة جعله غاية للمشيّة بصريح عبارته في صدر الكتاب كما ستطَّلع عليه إن شاء الله تعالى .
توشيح من شواكل الرقوم وقواعد العقود خصائص حرف السين  :
كما أنّ الإنسان بين الأكوان له فضائل يفتخر بها عليها ومزايا تفوق بها على الكلّ منها أنّ خصوصيّته الفارقة التي بها يمتاز عن المسمّى ومنها يتحقّق اسميّته ، إنّما هي أحديّة الجمعيّة الإحاطيّة التي بها يماثله وبدون الإجمال والتفصيل لا يباينه ولا يفارقه .
ومنها أنّ صورته الظاهرة وبنيته البيّنة المحسوسة نسخة جامعة للكلّ بأشكاله ودلائله.
ومنها أنّ حقيقته جامعة بين العوالم الكيانيّة التي هي مواطن كمال التفصيل ، والحضرات الإلهيّة التي هي مجالي جمال الإجمال كذلك للسين بين الحروف وجوه من الخصائص الكماليّة :
منها أنّ اسمه عين المسمّى إذا اعتبر ذلك مستقلا بنفسه لا تزيد عليه ولا تنقص منه فبينهما المطابقة التامّة والمثليّة الكاملة .
ومنها أنّ كل حرف من حروف أسمائه له فيه رقم بإزائه .
ومنها أنّ عدده التامّ الجامع وعقده الفاتح لأقفال حقيقته لا يزيد على اسمه إلَّا بتاء التفصيل والتبيين ، إذ هو معنى شمس الإظهار التي يخرج بأشعّة أضوائها خبايا مكامن الإمكان على أعلام العيان ، وأيضا صورته هي الأربعة المعربة عن الكلّ إجمالا  ، كما أنّ باقي حروفه معرب عنه تفصيلا ، فهو الجامع بين الإجمال والتفصيل ، فإذا فحّصت عمّا يدلّ على الإنسان بين بسائط الحروف ومفرداتها بالمطابقة الحقيقيّة الطبيعيّة دون الجعليّة الوضعيّة هو هذا الحرف .
ولذلك تجد قلبه هو الاسم الدالّ عليه وضعا مع زيادة معنى الجمعيّة ، كما ورد في الأثر الختمي " لكلّ شيء قلب ، وقلب القرآن يس " .
فلئن قيل : إنّه مركَّب من « الياء » و « السين » فلا اختصاص له به .
قلنا : إنّ « يا » صورة كمال « السين » وقلبه ، ولذلك ذهب صاحب المحبوب إلى أنّه إشارة إلى الختمين .
وكذلك في كلام السيّد سلام الله على آبائه الكرام وعليه ما يشير إلى هذا ، حيث نصّ في تحقيق اسم « عيسى » : أنّ " ي " صورته ، و "س "  مادّته ، والبيّنات تبيانه ، و « ع » زمانه يس سى إلى هنا نصّه الشريف .
وكذلك إن تأمّلت في « موسى » و آياته ، ويونس وبطن « ن » وجدت الكلّ متطابقا .
وأيضا فإنّه السبب الواصل والواسطة الرابطة بين القوسين يعني الإنّيات الإلهيّة والإنيّات الكيانيّة بسني حسّه على ما نبّهت على تفاصيله بأنّ التفرقة التي في القوسين وإنيّاتهما إنّما تنتظم في سلك الجمعيّة بالناس كما لا يخفى .
وإن تأمّلت في لفظ « الإنسان » واقفا على عبارات أهل الإشارات ، وجدت ما يشير إلى أنّ « السين » هو المتكلَّم الواحد .
كما أنّه إن أمعنت فيما نودي به موسى 
"من شاطِئِ الْوادِ الأَيْمَنِ في الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ من الشَّجَرَةِ " [ 28 / 30 ] رأيته بموادّ أشكالها وجواهر أرقامها هو ذلك الاسم بعينه ، وهذا الكلام إنّما يفهمه أهل الحقائق الَّذين يستنبطون المعاني من الصور المنزلة بدون توسّط وضع جعلي ولا تخصيص خارجي .
ثمّ اعلم أنّ الإنيّة والأنانيّة بين الأسماء لهما العلوّ الذاتيّ المقدّس عن مقابلة نسبة السفل والتحت ، ولذلك سمّاها صاحب المحبوب سلام الله عليه أرض الأسماء التي ينزل منها الحق إلى سماء أسمائه ، وهي الأسماء الإلهيّة والأسماء الربوبيّة على ما هو الظاهر من مطاوي قوله تعالى : "إِنِّي أَنَا الله رَبُّ الْعالَمِينَ"[28/30]
ولهذا تقدّم الأرض على السماء في قوله: "ما وسعني أرضي ولا سمائي" .
ثمّ ليعلم أنّ العقد التامّ من العدد قد تثلَّث في هذا الاسم ( 51 60 51 ) تثلَّث الكامل المتسع منه في تمام الصورة الكلاميّة المنزلة على الحضرة الختميّة صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله صورة ومعنى ، وأنّ التفرقة التي في ضلعيه وطرفيه قد انتظم في حاقّ وسط أرض عرضه المزاجي ، وسرّة بطحاء اعتداله النوعي ، وهو شخص الخاتم كما وقفت عليه في صورته الرقمية آنفا .
عقد منتظم من نفائس هذه الجواهر كيفيّة دلالة الحروف على المعاني :
وإذ قد لوّح في طيّ هذه التعليقات على ما يستدلّ به على الدقائق الذوقيّة واللطائف من نفائس ما انطوى عليه كنوز الحروف برموز رقومها وأشكالها ، وجلائل ما احتوى عليه ذلك بنسب معانيها وعقود أعدادها المشتمل عليها تلك الحروف بأساميها ومسمّياتها تلميظا  للطالبين ذوي التيقّظ والتفطَّن ، من يوانع ما أثمرت شجرة الزمان على أفنان مواقيت وقته ، وأغصان مواعيد سعة ساعته ، لا بدّ من الإشارة إلى أصول هادية إلى واضح طريقها ، فاتحة لأقفال إدراكها وختوم تحقيقها :
اعلم أنّ الحروف وهي على ما نبّهت عليه صور اجتلاء الحقائق العليّة والعلوم الإليّة على منصّات العيان وملابس بروز الأسرار الغيبيّة من زوايا غيابة جبّ الكمون على شواهق أعلام الإعلان .
وإن كان لها في تأدية تلك المعاني وإبانة أسرارها ممّا سوى الأوضاع الجعليّة المبنيّة على التخصيصات العهديّة المتخالفة بحسب لغات الأقاليم ومعهودات أرباب الصنائع والشرائع طرق شتّى وأنحاء كثيرة لا يعدّ شعبها ولا يحصى ، ولكن مرجع الكلّ فيما يعتد به ويعوّل عليه منها إلى أصول ثلاثة :
أحدها : الأصوات النطقيّة المتمايزة بحسب اعتمادها على المخارج اللفظيّة والمقاطع السمعيّة ، وصاحب الصورة الكماليّة ودائرتها التماميّة فيه هو " الواو " .
وثانيها : الأشكال الرقميّة المتخالفة بحسب الخطوط والنقط وتباين دوائرها وقسيّها ذوات الزوايا منها والأضلاع وصاحب الصورة التماميّة فيه « الهاء » فهو الجامع بين التامّين هذا ما لها بحسب الصورة المحسوسة الظاهرة منها على السمع والبصر .
وثالثها : المراتب العدديّة ، المنطوي عليها في صورتيها النطقيّة السمعيّة والرقميّة البصريّة ، فله رتبة الإحاطة القلبيّة ، وتحته من العلوم العليّة واللطائف الجليّة ما لا يخفى .
وذلك لأنّ الأعراض الكونيّة والأحكام الجسمانيّة التي هي غاية الحركة الوجوديّة ومنتهى سيرها الكمالي لانغمارها في الغواشي المظلمة الهيولانيّة والحجب الكثيفة الماديّة ، لا يصلح شيء منها لاستنتاج الحقائق العلميّة واقتناص اللطائف النوريّة المقدّسة صلوح الكمّ .
فإنّ الكيفيّات الانفعاليّة والانفعالات والملكات والقوة واللاقوّة من المقولات التسع إنّما تكون لذوات الانفعالات من الماديات  وأمّا الإضافة :
فما يتعلَّق بأمثالها إنّما يعقل بها ، فهي من المادّيات  وأمّا الانفعال والفعل :
فمادّي أيضا فيبقى الأين والوضع والمتى ، وهي كلَّها كمّيات .
هذا لمن سلمت ذائقة فطانته الأصليّة عن رسوم المصطلحات التقليديّة .
فعلم أنّ سائر ما ليس بكمّ هي ماديّات منغمسة فيها ، لا يناسب المعاني المجرّدة ولا يطابق أحكامها ، فلا يصلح لاستعلام تلك المعاني المجرّدة منها صلوح الكمّ ، فإنّه لجامعيّته بين التجرّد والتعلَّق وعدم تقيّده بشيء منهما وإحاطته وعلوّه على الكل يصلح لذلك سيّما الأعداد منه .
وهذا ما ذهب إليه الصدر الأوّل من الحكماء ، كالفيثاغوريين وأرباب التعاليم والمثل .
فإنّهم ذهبوا إلى أنّ جميع ما ليس بكمّيّ فهو متعلَّق بالمادّة ، ويكون مبدؤه التعليميات التي ليست بمتعلَّقة بالمادّة ، ويكون هي المعقولات بالحقيقة .
وأمّا غير ذلك فليس من المعقولات في شيء ، ولذلك لا يمكن أن يحدّ اللون والطعم حدّا يعبأ به ، بل إنّما هو نسبة إلى قوّة يدركها ، ولا يعقلها العقل ، بل يتخيّلها الخيال تبعا للحسّ .
وأمّا الأعداد والمقادير وأحوالها فهي معقولة لذواتها .
هذا حكاية مذهبهم فمنهم من ذهب إلى تجرّدها ، ومنهم من ذهب إلى غير ذلك كالفيثاغوريين.
وأيضا قد تبيّن لك فيما سلف من القواعد أنّ الكثرة هي ظاهر العلم وبيّنات لوازمه ، فالمراتب العدديّة التي هي صور تفاصيل الكثرة هي الصالحة لأن تكشف عن الحقائق كلَّها بحسب إحاطة الحروف بها واختصاص كلّ حقيقة منها بطائفة من الحروف ، يعبّر عنها بها .
وقد احتاج استقصاء الكلام في هذا المرام والفحص عن تفاصيل طرقه ، إلى علوم متطاولة الأذيال ، وقواعد متباعدة الجيوب والأردان ، قد ألَّف ربائب الأئمة وأهل البيت فيها الكتب ، وصنّفوا لترتيبها الزبر ، ولكن لعزّة شأنها وعلوّ مسالكها قصرت أفهام عامّة العلماء عن إدراكها فإنّها من خصائص خلَّص الخواصّ الختميّة .
فاقتصرنا في هذا الكتاب على تلويحات منها ظاهرة ، وتلميحات غير خفيّة عن أنظار المتفطَّنين باهرة تقريبا لأذهانهم ، وتحريصا لهم على التوجّه نحو ذلك المسلك القويم ، والتعرّض بجوامع القوى والمشاعر لاستنشاق نفحات ذلك النوع من التعليم والتفهيم مما سمح الزمان بإفاضته ولاح على صفحات الدهر آيات ظهوره وإشاعته .
ولعمري انّ الباعث الأوّل لتحرير هذا الكتاب في صورة الشرح وتعليقه على هذا المتن ، إنّما هو هذا إذ رأيت أعنّة نيّات أرباب التفطَّن من الطلبة منعطفة عليه ، متشوّقين نحو استكشاف حقائقه ، معرّجين عليها ، علما منهم أنّها غاية المرام ، وأنّها القدح المعلى من أقاديح هذه السهام ذاهلا عمّا أثمرت رياض أطوار أدوار الزمان وجنانها من طرائف بدائع الأزهار ، ولطائف يوانع الأثمار .
ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا .....   ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
أصول العدد تسعة ومناسبة آدم معها
فنقول : إنّ أصول مراتب العدد على كثرتها وعدم تناهيها قد انحصرت في تسع من الصور هي موادّ الكلّ ، فإنّ سائر مراتبه الباقية إنّما يستحصل منها بضرب من الامتزاج والتركيب ، ونوع من النسب العارضة لها على ما لا يخفى ، ولذلك ترى الأرقام الهندسيّة ما جاوزت التسعة ، وهي صورة السعة الإحاطيّة التي تشمل الكل من تلك المراتب أصولها وفروعها اشتمال آدم على سائر المراتب الوجوديّة والكيانيّة .
فلذلك ترى عدد تلك المرتبة بما انطوت عليه هو عدد آدم يعني 45 وذلك أيضا إذا جرّدته عمّا طرأ عليه بحسب المراتب من النسب وجدته ذلك العدد بعينه ، فلذلك صار معنى « آدم » على عرف أهل الشرح الحرفي .
ومن ثمّة ترى عدد « حوّا » 15 ، وهي ثلثه اليسير الذي في مقابلة ثلثيه الكثير ، فهو المستخرج من جنبه الأيسر .
ومن أراد زيادة بيان لهذا الاصطلاح وتحقيق أحكام له فعليه بتصفّح كتاب « المفاحص .
وينبغي أن تعلم أنّ لآدم وزوجه بحسب كلّ عرف معنى يناسبه وأحكام يخصّ به ، فلا تغفل عن الدقائق .
طرق استخراج المعاني من الحروف
ثمّ إنّ استخراج الحقائق من الحروف وأعدادها له طرق عدّة :
منها الردّ والتحليل على ما نبّهت عليه والذي يدلّ على صحّة هذا الطريق وإيصاله إلى المطلوب ، أنّ قوله تعالى " ألم ذلِكَ الْكِتابُ "  إذا حوسب تلك الحروف بأساميها ذلك الحساب يستحصل منه معنى .
ومنها طريق البسط والتركيب ، بأن يفصّل فضل أسامي الحروف وأعداده ، وأسامي حروفها مجملا ومفصّلا ، بطنا بعد بطن إلى سبعة أبطن ويفتّش في ذلك البسط عمّا هو المعنى ، ويستنبط منه المغزى ، وهو البيّنات على ما أشير إليه . وممّا يدلّ على أنّه من الخصائص الختميّة ما ورد في الحديث: " أنا أوّل من تكلَّم بالضاد  " .
وقد ورد أيضا  : " أوّل من تكلَّم بالعربيّة إسماعيل " .
وذلك كما يفصّل مثلا من « بسم » ( ااا ) : ( اين يم ) ، ويستعلم سبب اختفاء الألف فيه  ، أو يستخرج من بائه عدد تمام الأسماء .
ومنها أن يستخرج المعنى من فضل حروف العدد ، كما لو تأمّلت في قوله تعالى: " وَلِلَّه ِ الأَسْماءُ الْحُسْنى " استنبطت بهذا الطريق من : " وَلِلَّه " عدد الأسماء : ( 71 ) « 5 » : ( لف ين ) : ( ا م ا ا ون ) 99  .
وتعلم منه أيضا تحقيق إثبات معنى « الحمد لله » ( 83 ) : ا م ا م ا  .
ومن أراد زيادة تحقيق لهذه الطرق ، فعليه بتحصيل كتاب : الخصائص الختميّة وفقنا الله لإتمامه بالخير .
وإذ كان الغرض من ايراد هذا الكلام والخوض في تيّار بحره الخضم إنّما رشّ رشحة منه على الطلَّاب ، ووميض قبس من مشكاة الكمال الختميّ يهديهم إلى سواء الصواب فلنكتف منه بهذا القدر ، ونشرع في حلّ الكتاب حامدا لله  ومستعينا منه ، ومصلَّيا على محمّد وآله خير آل .

.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة أغسطس 02, 2019 3:46 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:36 pm

25 - فصّ حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
25 - فصّ حكمة علوية في كلمة موسوية
النفس الرحماني
قال رضي الله عنه  : ( ألا تراه )  يعني الهوية المطلقة  ( كيف نفّس عن الأسماء الإلهيّة ما كانت تجده ) في غيبه ( من عدم ظهور آثارها في عين مسمّى العالم ) ، فإنّه نفّس في عين العالم عن الأسماء الإلهيّة - المعبّر عنها جملة بالرحمن - مالها من الكرب الذي لها في عينه ولهذا يقال له النفس الرحماني (فكانت الراحة محبوبة له ، ولم يوصل إليها إلا بالوجود الصوري ، الأعلى والأسفل ) يعني الحضرات والعوالم .

العلم بالحركة الحبيّة وعدمه سبب اختلاف الصوفيّة وأهل النظر
قال رضي الله عنه  : ( فثبت أنّ الحركة كانت للحبّ ، فما ثمّ حركة في الكون إلَّا وهي حبّية فمن العلماء من يعلم ذلك ) فينسب سائر ما يظهر في المراتب الكونيّة من الآثار إلى الحبّ ، باعتبار المحبيّة والمحبوبيّة ، كبعض المتأخّرين من الصوفيّة ، الذين يجعلون موضوع كلامهم العاشق والمعشوق ، ويثبتون سائر الأحكام بهما
قال رضي الله عنه  : ( ومنهم من يحجبه السبب الأقرب ) كأكثر أهل النظر من الحكماء والمتكلمين ( بحكمه في الحال واستيلائه على النفس ) ، فإنّ أعيان المراتب المحسوسة منها الآثار والأحكام ، لظهور حكمها على مدارك العامّة ، هي أقرب ما ينسب إليه تلك الآثار - ومما يتفرّع على ذلك الأصل الاختلاف بين أهل النظر في أنّ اللذة والراحة من دفع المنافي وإدراك الملائم .

ذكر سبب فرار موسى
قال رضي الله عنه  : ( فكان الخوف لموسى مشهودا له لما وقع من قتله القبطي ) ، فهو صورته الكونيّة ، ( وتضمّن الخوف حبّ النجاة من القتل ) ، تضمّن الصور الكونيّة حقائقها الوجوديّة ، ( ففرّ ) عندما هو الظاهر عند العامّة ( لمّا خاف وفي المعنى : ففرّ لمّا أحبّ النجاة من فرعون وعمله به فذكر السبب الأقرب المشهود له في الوقت الذي هو كصورة الجسم للبشر ) ، فإنها الصورة الكونية للشخص ( وحبّ النجاة متضمن فيه تضمين الجسد للروح المدبّر له ) وهو صورة حقيقته الوجوديّة .

الأنبياء يتكلمون بلسان العموم ، والخاصة يفهمون منهم الإشارات
ثمّ إنّه يمكن أن يقال : « لو كان الأمر كذلك ، كان منطوق التنزيل على طبقه ، والواقع على خلاف ذلك فإنّ منطوق التنزيل في هذا الأمر أنّ سبب الفرار إنما هو الخوف ، بقوله : " فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ".

فأشار إلى دفع ذلك بقوله : ( والأنبياء لهم لسان الظاهر به يتكلَّمون لعموم الخطاب ) ، فإنّ بعث الأنبياء للعامّة أولا ، وكلامهم في ظاهر ما فهم منه معهم ، والخواصّ إنما يفهمون الحقائق منه بضرب من الإشارات الخفيّة والدلالات الطبيعيّة ، دون الجعليّة الوضعيّة ،
( واعتمادهم ) في اخفاء الحقائق ( على فهم العالم السامع ، فلا يعتبر الرسل ) عند إظهار الأحكام في الصور الكلاميّة

قال رضي الله عنه  : ( إلَّا العامّة ، لعلمهم بمرتبة أهل الفهم ، كما نبّه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على هذه المرتبة في العطايا ، فقال : " إنّي لاعطى الرجل - وغيره أحبّ إليّ منه - مخافة أن يكبّه الله في النار " ) ، فعلم أنّه في إحكام رقيقة الأبعدين ، مخافة أن يبعدوا عنه كلّ البعد ، فيكبّوا في النار .
 

قال رضي الله عنه  : (فاعتبر الضعيف العقل والنظر ، الذي غلب عليه الطمع و ) هو عين ( الطبع ) الذي طبع على قلوبهم - بميم التمام ، بدل باء الإبانة والظهور - ( فكذا ما جاؤوا به من العلوم ، جاؤوا به وعليه خلعة أدنى الفهوم ) أي صورة قبول من كان في أوائل درجات الفهم الذي يختصّ بنوعه ( ليقف من لا غوص له ) في الصور القشريّة التي هي لشخص المعنى - وبدن الأب بمنزلة الخلقة للشخص من الأبعدين .
قال رضي الله عنه  : ( عند الخلعة ) كعلماء الرسوم المتدبّرين فيه بما عندهم من العلوم الأدبيّة المميّزة بين الفاخرة من تلك الخلع التركيبيّة وغيرها ، والعلوم الاعتقاديّة العلميّة والعمليّة أصولا وفروعا .

قال رضي الله عنه  : ( فيقول : ما أحسن هذه الخلعة ) عند مطابقتها أصل عقيدتهم وعلى قدر نيّتهم وامنيّتهم فيما يحسنونه من العلوم ، ( ويراها غاية الدرجة ) حيث يقول صاحب علم الأدب : « إنّه حد الإعجاز » .

 قال رضي الله عنه  : ( ويقول صاحب الفهم الدقيق ، الغائص على درر الحكم ) عند الخوض في بحور معانيه ولطائف حقائقه ( بما استوجب هذا ) القول ( « هذه الخلعة  - الفاخرة التي على قدر جملة النيّات والعقائد -  من الملك » ) الذي إنما يخلع على كل أحد بقدّ قابليّته .
(  فينظر في قدر الخلعة ) من الصفاء والخلوص المعبّر عندهم بالفصاحة والبلاغة  (وصنفها من الثياب ) المعمولة هي منها ، ككونها في كسوة العربيّ أو السريانيّ ، أو غير ذلك .


قال رضي الله عنه  : ( فيعلم منها قدر من خلعت عليه ) من المعاني اللطيفة الذوقيّة المستنبطة تارة من قدر تلك الخلعة وصورتها التركيبيّة وخواصّ هيئاتها الجمعيّة ، وأخرى من أصل كسوتها وموادّ حروفها ، رقميّة ولفظيّة ، ( فيعثر على علم لم يحصل لغيره ممن لا علم له بمثل هذا ) الانتقال والاستنباط .

 قال رضي الله عنه  : ( ولما علمت الأنبياء والرسل والورثة أنّ في العالم وفي امّتهم من هو بهذه المثابة ) في الفهم عن الكلام المنزل إليهم ، الظاهر عنهم ، ( عمدوا في العبارة إلى اللسان الظاهر الذي يقع فيه اشتراك الخاصّ والعامّ ، فيفهم منه الخاصّ ما فهم العام منه وزيادة ، مما صحّ له به اسم أنّه خاصّ ، فيتميّز به عن العامّي فاكتفى المبلَّغون ) في إبلاغهم ( العلوم بهذا ) القدر من الإيماء والإشارة .


لا منافاة بين فهم أهل الخصوص والعموم من القرآن الكريم
ثم إنّه ممّا علم في طيّ هذه المقدّمات من الحكم أنّ فهم أهل الخصوص يشارك فهم العامّة عند الاحتظاء من الكلام النبوي ويوافقونهم عند الاغتذاء من نوال كمالهم غير أنّ الخواصّ يفهمون مع ذلك غيره من اللطائف الذوقيّة ، فلا منافاة بين المفهومين أصلا ،
والذي تسمعه من المعزوّين إلى الصوفية " إنّ ما في التفاسير من المعاني غير مراد من القرآن ، وإنّ المراد منه أمر آخر " .

فمما لا أصل له في التحقيق ، فإنّ كل ما فهم منه عند الأذكياء على أصل من أصول ، لا بدّ وأن يكون من المراد نعم - الحصر في معنى معيّن ومفهوم خاصّ من ذلك المعاني ينافي التحقيق ، كما علم أنّ غير الأنبياء من ورثتهم ، الذين لهم استحقاق إبلاغ العلوم ، لا بدّ وأن يكون كلامهم أيضا جامعا بين الطرفين ، محيطا بالفهمين .

) قال رضي الله عنه  : فهذا حكمة قوله : “ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ “ ) حيث عبر عن مبدأ فراره وحركته بالخوف ، تنزّلا إلى مدارك فهوم العامّة ، وممّا يؤيّد هذا تكرر الخطاب بصورة الجمع والتفرقة الكونيّة ( ولم يقل : « ففررت منكم حبّا في السلامة والعافية » ) .

ارتباط سقي موسى للجاريتين وإقامة خضر للجدار
قال رضي الله عنه  : ( فجاء إلى مدين ) - الدين الجمعي والكمال الإظهاري وإفاضة علمي الظاهر والباطن الإنبائي والتشريعي ، العامّي والخاصّي - ( فوجد الجاريتين( القابلتين لتينك الإفاضتين بوثاقة نسبة القرب والجارية ، ( فسقى لهما من غير أجر ) من النقود الفعليّة المعدّة لهما في استفاضة ذلك النوع من صنفي الكمال والأعمال الصالحة ، المورّثة لهما تلك العلوم والمعارف .

قال رضي الله عنه  : ( " ثُمَّ تَوَلَّى " ) من التفرقة الكونيّة ( " إِلَى الظِّلِّ " الإلهيّ ) والجمع الإجمالي ، فإنّ « الظلّ » هو لام الجمعيّة الإلهيّة وشجرة كليّتها التي أصلها ثابت وفرعها في السماء - كما عرفت من تلويحاته - إذا ظهر به ظاء الظهور وبيّن أنّ هذا الظلّ مستقرّ الكلمات الكاملة ومقيل استراحتهم وقربهم إلى أصل تلك الشجرة ، وموطن مناداتهم ومناجاتهم معه .

قال رضي الله عنه  : ( " فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ " ) مما سقيته لهما ( "من خَيْرٍ") - يعني إفاضة اللطائف الكماليّة الوجوديّة فإنّ الخير هو الوجود - ( " فَقِيرٌ " ) إليك ، محتاج لأن تفيض علي من ذلك الخير ، ويشفي به غلَّة طلبي وشوقي ، ويكفي ذلك في إشباع غاذية استعدادي .

قال رضي الله عنه  : ( فجعل عين عمله السقي عين الخير الذي أنزله الله إليه ، ووصف نفسه بالفقر إلى الله في الخير الذي عنده ، فأراه الخضر إقامة الجدار من غير أجر ) ، يعني جدار الإظهار في مقابلة سقيه وإفاضته ، ( فعتبه على ذلك ، فذكَّره بسقايته من غير أجر ) تنبيها لظهور مثل ذلك منه ، على ما هو مقتضى تقابل كلمتيهما وتعاكس الأمر فيهما ، كما في الصورة المشار إليها ، ( إلى غير ذلك مما لم يذكر ) .

 النبوّة سلطان الاسم الظاهر ، والولاية سلطان الاسم الباطن
ثمّ هاهنا نكتة حكميّة لها كثير دخل في استكشاف أسرار هذا الموضع ووجوه لطائفه ، وهي أنّ طرف النبوّة - من حيث هي هي - لغلبة حكم الصورة فيها سلطنة للاسم الظاهر ،
كما أن سلطنة طرف الولاية - من حيث هي - لغلبة حكم المعنى فيها للاسم الباطن ومن ثمّة ترى الآثار المترتّبة على النبوّة ليست إلَّا إظهار الشرائع والنواميس ، وأحكامها الخصيصة بها إنّما هي الصور المنبئة عن الحقائق والأمور في نفسها والآثار المترتّبة على الولاية من حيث هي ليست إلَّا العلم بما انطوى عليه تلك الشرائع والنواميس من الحقائق ، وحكمها المختصّة بها إنّما هو كشف تلك الصور عن وجوه حقائقها .

  وجه اختفاء بعض الحكم على صاحب النبوّة
ويتفرّع عن هذا الأصل وجوه من الحكم :
منها : ما سبق الإيماء به من أنّ النبوّة - من حيث أنّها نبوّة - قد يظهر منها أحكام وصور ذوات حكم وإيقان على ذهول من صاحبها ، بل قد يشتبه عليه وجه حقيقتها مع كمال عصمته ، فضلا عن عثوره على وجوه حكمتها ، إلى أن يبلغ مجمع بحري الولاية والنبوّة ،

ويظهر حكم قهرمان الجمعيّة بمصاحبة الصاحبين هنالك وحينئذ ينكشف لصاحب النبوّة ما اشتبه عليه وذهل عنه كما اشتبه على الكلمة الموسويّة ما جرى عليها ، ذاهلة عنه من الأمور المعدّة لها في نشوء تلك المرتبة الرفيعة ،
إلى بلوغها الحافظة لها عمّا يعوقها عن كمالها الموصلة إيّاها ، لتمام أمرها من إفاضة مدرار الإنباء والإظهار - يعني صورة إلقاء موسى في التابوت ، وقتله القبط ، وسقيه الجاريتين - إلى أن عاين وجوه حكمة تلك الصور عندما بلغ مجمع البحرين وبه صاحب خضر .

وجه اختصاص الكلمة الموسويّة بهذه الخصوصيّات
ومنها : وجه اختصاص الكلمة الموسويّة بين الأنبياء بهذا الاشتباه والذهول وذلك لأنّ النبوّة قد ظهر فيها بخصوصيّات أحكامها المنفردة بها عمّا يقابلها من العلوّ والظهور بالقهر والقوّة ، وسائر مقتضيات الكثرة ولوازم الصورة - كما نبّهت عليه في مطلع الفصّ - ومن شأن الحكم الإلهيّة أنّه إذا ظهر أحد المتقابلين بخصوصيّته الفارقة ، لا بدّ وأن يستعدي ذلك الظهور إلى الآخر ، بل يوجب ظهور الآخر بما اختصّ به .

كما عرفت تحقيق ذلك آنفا عند الكلام في حكمة إلقاء موسى في التابوت ، وإلقائه في اليمّ ، من أنّ ظهور المقابل إنّما يتمّ ويكمل بظهور ما يقابله فلا بدّ وأن تظهر الولاية بخصوصيّتها المميّزة إيّاها من العلوم والحكم الفائضة من بطون الوحدة وحضرات القرب في كلمة خضريّة ، عند ظهور الكلمة الموسويّة بخصوصيّة النبوّة وأحكامها الفارقة من الصور والأوضاع الناشئة من ظهور الكثرة فإنّ منها ما اختصّ به تلك الكلمة من الظهور بالآيات التسع ، وهي أنهى مراتب الكثرة ، وأقصى غاية الصور .

ومن هاهنا ترى حكم الكثرة والتقابل سارية في سائر مدارج ظهورها :
حيث لا يحصل لها كمال في مرتبة إلَّا عند مقابلة الآخر لها في تلك المرتبة كالمنجمّين عند حكمهم على قتلها .
أول ما يدخل في المراتب الاستيداعية
ثمّ مقابلتها القبطي قبل دعوتها ،
ثمّ مناظرتها السحرة عند دعوتها وإظهار معجزتها ،
ثمّ معاداة فرعون إيّاها عند ظهور نبوّتها ،
ثمّ مباحثة خضر معها عند كمال نبوّتها
ولذلك قد امر عند طيّها طوى الغرب وبساط الخطاب بخلع نعلي التقابل .


الولاية والنبوّة في زمان الخاتم صلَّى الله عليه وآله
ثمّ إذا تقرّر هذا تبيّن لك أن ظهور الولاية والنبوّة بخصوصيّتهما الفارقتين ، المميّزتين إيّاهما ، المنبئتين عن قصص ما بينهما من تفاصيل الأحكام ، إنّما يتوقع بلوغهما إلى مرتبة التمام في أيّام موسى ، وظهور كلمته العليا ،
فإنّ زمان خاتم النبوّة صلَّى الله عليه وسلَّم - لظهوره بأحديّة جمع الخصائص الكماليّة كلَّها - قد غلب فيه حكم الجمعيّة والوحدة ، ولا مجال للكثرة والتقابل .

على أنّ الولاية مندمجة مغلوبة تحت حكم نبوّته الختميّة في ذلك الزمان ، فما كان لها أن يظهر فيها خصوصيّتها الامتيازيّة ، ولذلك تراه طالبا عند الإنباء عن تينك الخصوصيّتين والإفصاح عمّا نطق به لسان الولاية والنبوّة بخصوصيّتيهما أن يظهر لسان الولاية بأحكامها الخاصّة بها أكثر مما ظهر ،

قال رضي الله عنه  : ( حتى تمنّى صلَّى الله عليه وسلَّم أن يسكت موسى عليه السّلام ) عن مقتضيات خصوصيّة النبوّة والغلبة التي من جهتها - كما ورد في الآثار الصحيحة منه : « لو صبر لرأى العجب ، ولكن أخذته من صاحبه ذمامة » ، ضرورة أنّ أحكام الباطن التي هي من خصوصيّات الولاية موطن عجائب الآثار وغرائب الأطوار .

"" أضاف الجامع :
حديث مسلم : رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " رحمة الله علينا، وعلى موسى لولا أنه عجل، واستحيا وأخذته ذمامة من صاحبه، فقال: "إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني" [الكهف: 76] لرأى من صاحبه عجبا ". رواه مسلم وابن حبان وابي داود والنسائي وابن ماجة واحمد ابن حنبل والحاكم في المستدرك وغيرهم. ""

 حكمة نسيان موسى وعدم سكوته عند خضر عليهما السّلام
فلو أنّ موسى يسكت ( ولا يعترض حتى يقصّ الله عليه ) بلساني موسى وخضر اللذين هما وجها النبوّة والولاية  ( من أمرهما ، فيعلم بذلك ما وفّق إليه موسى من غير علم منه ) فإنّه وجه النبوة .

وبيّن أن ذلك الوجه وإن صدر عنه الأفعال المتقنة والأوضاع المحكمة ذوات نظم وحكم ، ولكن لا علم له من هذا الوجه بها ، ( إذ لو كان عن علم ) فيما صدر منه ( ما أنكر مثل ذلك على الخضر ، الذي قد شهد الله له عند موسى ) بالعلم - حيث قال : " وَعَلَّمْناه ُ من لَدُنَّا عِلْماً " " وزكَّاه".

(وعدّله ) حيث قال " آتَيْناه ُ رَحْمَةً من عِنْدِنا " ( ومع هذا غفل موسى عن تزكية الله وعمّا شرط عليه في اتّباعه ) ، على ما هو المستفاد من قوله تعالى :
( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً . قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً . وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً . قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ الله صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً . قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْه ُ ذِكْراً ) .

ثم إنّ موسى مع هذه التنبيهات والتعريكات قد غفل عمّا شرط عليه حتى سأل مع كمال تيقّظه وتفطَّنه  ( رحمة بنا إذا نسينا أمر الله ولو كان موسى عالما بذلك ما قال له الخضر : " ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً ")  
بعد قوله : " إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً " ( أي إنّي على علم لم يحصل لك عن ذوق ) ، فإنّ الخبرة هو العلم الحاصل من الذوق ، كما أنّ الإحاطة بالشيء يستلزم العلوّ عليه ، ( كما أنت على علم لا أعلمه أنا - فأنصف ) .

 
حكمة فراق خضر وموسى
قال رضي الله عنه  : ( وأمّا حكمة فراقه ) - مع إمكان الاستفادة من الطرفين والإفاضة من آثارهما على العالمين ( فلأنّ الرسول يقول الله فيه ) إنباء لحكم مرتبته الرفيعة ، وتنبيها لمبلغ تعظيم الناس إيّاها : ( " وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه ُ وَما نَهاكُمْ عَنْه ُ فَانْتَهُوا "  فوقفت العلماء باللَّه - الذين يعرفون قدر الرسالة والرسول - عند هذا القول وقد علم الخضر ) في طيّ ما علَّمه الله من لدنه .

قال رضي الله عنه  : ( أنّ موسى رسول ، فأخذ يرقب ما يكون منه ، ليوفى الأدب حقّه مع الرسل ) توفية لعبوديّة الله حقّها .
( فقال له ) موسى الخضر فيما شرط معه : ( " إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي")
ووجه ذلك أنّ موسى له أن يسأل عن المواطن الثلاثة التي نبّهت عليه من مبدأ أمر النبوّة وأوسط ظهورها وكمال إظهارها
وأمّا الرابع منها - وهو موطن ختمها - فلا حقّ له في ذلك ،

فلذلك قال : " فَلا تُصاحِبْنِي "  بعد الثالثة ، ( فنهاه عن صحبته فلمّا وقعت منه الثالثة : قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ " ، ولم يقل له موسى : "لا تفعل " ، ولا طلب صحبته )
على كمال اهتمامه بما يترتّب على تلك الصحبة من العلوم ، كما استفاد من سوابق الشروط ووثائق العهود مرّة بعد أخرى .

 قال رضي الله عنه  : ( لعلمه بقدر الرتبة التي هو فيها ) وهي الرسالة العليا ( التي أنطقته بالنهي عن أن يصحبه ) بعد الثالثة من المواطن المذكورة ( فسكت موسى ) عند إخبار الخضر إيّاه بالفراق وإجازته ذلك عنه ، ( فوقع الفراق ) من قبل موسى وسكوته عند الإخبار والاستجازة .
 

الكلام متعلق بالنبوّة والكتاب بالرسالة
ثمّ هاهنا نكتة جليلة لا بدّ من التلويح إليها ، وهي أنّك قد عرفت فيما بيّن لك أنّ ما يرسل به الرسل من الحروف له طرف ظاهر كلامي يتعلَّق بخصوصيّته النبويّة ، وطرف باطن كتابيّ يتعلَّق بخصوصيّته الولائيّة .
وكما أنّ الأول إنّما يظهر عند تموّج الهواء وتكيّفه بالكيفيّات المسموعة ، كذلك الثاني لا تظهر إلَّا بتوسّط الضياء وتكيّفه بالكيفيّات المبصرة .
وإذا تقرّر هذا فاعلم إنّ موسى بناء على الأصل الممهّد آنفا له استحقاق الظهور بالخصوصيّة النبويّة ، فلذلك عيّن له منصب الكليميّة وفاز به ، فلا بدّ أن يتحقّق بإزائه في زمانه من له استحقاق الظهور بالخصوصيّة الولائيّة وتعيّن بصورته الكتابيّة - وهو الخضر - فمن تأمّل في هذه التلويح ظهر له وجوه من الحكم منها سبب تسميته « خضرا » ودوام حياته وخوضه في الظلمات - إلى غير ذلك .

 
مراعاة موسي وخضر عليهما السّلام كمال الأدب الإلهي في التعليم والتعلَّم
قال رضي الله عنه  : ( فانظر إلى كمال هذين الرجلين في العلم ) بشرائط التعليم والتعلَّم وانتهاج طريق الأدب فيهما خالصا عن شائبتي الرعونة والاستنكاف ، وهو الأدب الإلهيّ المنزّه عن حكم الكون ،
ولذلك قال رضي الله عنه  : ( وتوفية الأدب الإلهيّ حقّها ) ، وهو القيام بحقوق كلّ ذي رتبة من الاتّضاع له على قدر ما عليه من الارتفاع ، كسؤال موسى مع علوّ شأنه في الرسالة والخلافة : "هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً " .

 قال رضي الله عنه  : ( وإنصاف الخضر فيما اعترف به عند موسى ، حيث قال : " أنا على علم علَّمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علَّمك الله لا أعلمه أنا " ، فكان هذا الإعلام من الخضر ) الذي له رتبة التعليم والإرشاد في هذه الصحبة .

 
""أضاف الجامع :
حديث الحميدي: ( .... قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوبا فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا، قال: (إنك لن تستطيع معي صبرا)، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، فقال موسى: "ستجدني إن شاء الله صابرا، ولا أعصي لك أمرا" [الكهف: 69]، فقال له الخضر: "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا" [الكهف: 70]، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر....) صحيح البخاري و ابن حبان والبيهقي و مسند احمد ومسند الحميدي و الجامع الصغير للسيوطي ومسند ابي عوانه . ""

 
قال رضي الله عنه  : ( لموسى دواء لما جرحه به في قوله : " وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً ") كما هو مقتضى حكم الإرشاد والتسليك من تمكين السالك الطالب أولا في مقام التخلية مطلقا ، عمّا هو بصدد طلبه من الكمالات ،
وتنبيهه آخرا على ما هو المتحلَّى به في نفسه فمكَّن الخضر موسى في مقام التخلية أولا ( مع علمه بعلوّ مرتبته بالرسالة ، وليست تلك المرتبة للخضر ) وفاء بما له من الرتبة وتعليما للعباد من الأمم الآتية .

 
قال رضي الله عنه  : ( وظهر ذلك ) الإنصاف ( في الامّة المحمّديّة ) بالنسبة إلى محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم على كماله الأتمّ
قال رضي الله عنه  : ( في حديث إبار النخل ، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابه : « أنتم أعلم بمصالح دنياكم » ) واعترف بأعلميّة الامّة في المصالح الجزئيّة ،

 قال رضي الله عنه  : ( ولا شكّ أنّ العلم بالشيء ) مطلقا جزئيّا كان أو كليّا ( خير من الجهل به ) والاتّصاف به هو الكمال ، ( ولهذا مدح الله نفسه بأنّه :"  بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " فقد اعترف صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابه بأنّهم أعلم بمصالح الدنيا منه ، لكونه لا خبرة له بذلك ، فإنّه علم ذوق وتجربة ) يحتاج إلى تكرّر مباشرة لذلك الفعل الذي هو مبدأ استعلامه ،

 
قال رضي الله عنه  : ( ولم يتفرّغ عليه السّلام لعلم ذلك ) الجزئيات المستحصلة من الأفعال ( بل كان شغله بالأهمّ فالأهمّ ) مما له دخل في أمر كماله الختميّ .

 قال رضي الله عنه  : ( فقد نبّهتك على أدب عظيم تنتفع به إن استعملت نفسك فيه ) وهو أن لا يحجبك الكمال الذي أنت به عن الاستفادة وتمكين غيرك ممن هو دونك في الرتبة في مقام الفيض والإفادة .
ومما نبّه عليه من الأدب هو أنّه نسب هذا إلى الامّة أوّلا ثمّ بيّن أنّ من هو في مقام الإفادة والتعليم بالنسبة إلى الخاتم إنّما هو أصحابه لا غير وذلك في أمر جزئيّ لا دخل له في الكمال الإنسانيّ من حيث هو .

 
الخلافة والرسالة
قال رضي الله عنه  : ( وقوله " فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً " يريد الخلافة " وَجَعَلَنِي من الْمُرْسَلِينَ " يريد الرسالة).
 ولأنّ الخلافة التي له من الخصائص الإلهيّة  التي ليس للعبد من حيث أنّه عبد قوّة قبول واستعداد لها وعمل يوازيها ويورثها - نسبها إلى الوهب ، دون الرسالة ( فما كل رسول خليفة فالخليفة صاحب السيف والعزل والولاية ) بالظهور والغلبة ، ( والرسول ليس كذلك ، إنّما عليه البلاغ لما أرسل به ) على ما هو الظاهر من نصّ “ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ “ من الخضر ،
قال رضي الله عنه  : ( فإن قاتل عليه وحماه بالسيف ) وفرّق بين أهل نسبته بالعزل والولاية ( فذلك الخليفة الرسول فكما أنّه ما كلّ نبيّ رسولا ، كذلك ما كلّ رسول خليفة أي ما أعطي الملك والتحكَّم فيه ) .
 

الحكم في محاورة موسى وفرعون
ثمّ إنّ موسى لما انساق كلامه مع فرعون إلى أن يظهر ما عليه من الكمالين رسالة وخلافة في ذلك الوقت ، اقتضى الأمر أن يظهر فرعون ما عليه من الكمال ، فلذلك سأله عن الله بمطلب « ما » الحقيقة .

 
وهاهنا نكتة حكميّة لا بدّ من الوقوف عليها والتدبّر فيها ، وهي أنّ المادّة الجنسيّة التي هي مستقرّ سلطان الكثرة الكونيّة والتفرقة الشيطانيّة - على ما عرفت تحقيقه آنفا - لها من الكمال الإنساني - عند بلوغ أمرها إلى النوع العيني واستواء قامة تماميّتها في الشخص الخارجي - حظَّ خاصّ فيه ، هو منتهى مراقي ظهورها ،

 وغاية صورة جمعيّتها وتماميّتها فإنّها إنّما ظهرت فيه بصورة الأثر ، وأثرها الظاهر هي به وصورتها البائنة من الشخص هي القوّة العقليّة النظريّة التي بها يستخرج جميع الحقائق من مكمن الخفاء الغيبي إلى مجلى الظهور العلمي تأمّل في هذه النكتة ثمّ تلطَّف ، فإنّه يستكشف به كثير من الدقائق :
منها ما وجد في بعض تصانيف صاحب المحبوب أنّ رئيس أهل النظر ابن سينا هو عكس صورة إبليس في عالمه الإنساني .

ومنها وجه ما جلس فرعون على ركبتي المناظرة عند مقابلته لموسى في إظهار كماله الخاصّ به ، كما أظهر له موسى فإنّه قد أظهر ذلك في صورة المباحثة ، وتكلَّم بلسان تلك القوّة ومصطلحات أهلها .

"" قال تعالى : قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) سورة الشعراء ""
 

فإنّه " قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ " عندما قال موسى " فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي من الْمُرْسَلِينَ ".
ثمّ إنّه يمكن أن يقال هاهنا : إنّ لسان أهل النظر ومقتضى أصولهم أن لا يسأل عن الواجب بـ « ما هو » ، فإنّ جوابه عندهم يجب أن يكون هو الحدّ الذاتي المشتمل على جزئين :
تمام المشترك وكمال المميّز وليس للواجب شيء منهما ، فلا يطابق سؤال فرعون هذا عرف تخاطبهم ولسان اصطلاحهم ، فقال مستشعرا منه دفع ذلك :

 
حكمة سؤال فرعون بـ « ما » الحقيقة
قال رضي الله عنه  : ( وأمّا حكمة سؤال فرعون عن الماهيّة الإلهيّة ) مع تنزّهه عنها ، ( فلم يكن عن جهل ، وإنّما كان عن اختبار ، حتى يرى جوابه مع دعواه الرسالة عن ربّه ، وقد علم فرعون ) بقوة كماله الخاصّ به ( مرتبة المرسلين في العلم ، فيستدلّ بجوابه على صدق دعواه ) .
هذا بما له في نفسه ، وله ملاحظة ما حوله من أصحابه وأصحابه موسى في
هذا السؤال ، حيث لا يظهر عليهم أمر موسى قبله ، فلذلك أبهم في السؤال ( وسأل سؤال إيهام ) يحتمل الوجهين ، ظاهرا وخفيّا ، فإنّه سأل بمطلب الماء بحسب الحقيقة ، وهو في الظاهر إنّما يطلب به عن الجهتين والحد المشتمل عليهما وإن كان هاهنا ما طلب به فرعون إلا الحقيقة مطلقا ، كما سيتبيّن ذلك .


فسأل سؤالا يكون ذا جهتين مختلفتين بالتوجيه وعدمه ( من أجل الحاضرين ) من الطائفتين ( حتى يعرّفهم ) ما يوافق مصالحه ويناسب ما له من المنصب ( من حيث لا يشعرون بما شعر هو في نفسه ) من أمر موسى ( في سؤاله ) إيّاه وجوابه له ( فـ ) لذلك تراه ( إذا أجابه جواب العلماء بالأمر ) - كما ستطلع عليه - ( أظهر فرعون إبقاء لمنصبه ) في نظر الحاضرين ( أنّ موسى ما أجابه على طبق سؤاله فيتبيّن عند الحاضرين ) المعوّدين برسوم أهل النظر والتزام معهوداتهم - فإنّ ذلك هو الغالب في زمان موسى ، فهم كسائر المقيّدين برسوم زمانهم ومستحسنات أبنائه ،

فإنّهم ما داموا على عادتهم المعهودة من آبائهم بمعزل عن أهليّة الكمال في أيّ زمان كانوا وأيّ طريقة سلكوا - ( لقصورهم فهمهم ) عن إدراك الأمر على ما عليه في نفسه ، حتّى أظهر لهم من جواب موسى ذلك ( أنّ فرعون أعلم من موسى ولهذا لما قال له في الجواب ما ينبغي ) أن يجاب به سؤاله على ما سيبيّنه

قال رضي الله عنه  : ( وهو في الظاهر غير جواب على ما سأل عنه ) بناء على ما عهد من التخاطب والتقاول الذي بينهم ( وقد علم فرعون أنّه لا يجيبه إلَّا بذلك ، فقال لأصحابه : " إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ " أي مستور عنه علم ما سألته عنه ، إذ لا يتصوّر أن يعلم أصلا ) ، فإنّ المستور عن المدارك لا يتصوّر أن يعلم .

 قال رضي الله عنه  : ( فالسؤال صحيح ، فإنّ السؤال عن الماهية ) على ما هو مؤدّى " ما " الحقيقة ( سؤال عن حقيقة المطلوب ، ولا بدّ أن يكون على حقيقة في نفسه ) فإنّ لكلّ شيء حقيقة هو بها هو ، سواء كان بسيطا لا يمكن تفصيل مفهومها ، أو مركَّبا يفصّل ذلك ، ويسمى بالحد ،
ويقال في جواب « ما هو » ، على عرف تخاطبهم ولسان اصطلاحهم ، وبيّن أنّ القول الكاشف عن الحقيقة يصلح لأن يقال في جواب ما هو ، سواء كان فيه تفصيل المفهوم وتبيين جهتي الاشتراك والتمييز ، أو لم يكن - لغنائه عنه .

قال رضي الله عنه  : ( وأما الذين جعلوا الحدود مركَّبة من جنس وفصل ، فذلك في كلّ ما يقع فيه الاشتراك ) ، وقد عرفت أنّ الواحدة بالوحدة الحقيقيّة ممّا يمتنع أن تقع فيه الشركة ، فلا جنس له بالضرورة ، ( ومن لا جنس له لا يلزم أن لا يكون على حقيقة في نفسه لا يكون لغيره ) بل الذي لا جنس له ولا شركة مع غيره أحرى بذلك .


الجواب الحقّ ما أجاب موسى
قال رضي الله عنه  : ( فالسؤال صحيح على مذهب أهل الحقّ ) وسواء سبيلهم الذي ليس فيه عوج الرسوم الاصطلاحية ، ( والعلم الصحيح ) الذي هو عن أصله خالص عن سقامة ما يستتبع النظر من الشبه والشكوك المدهشة ، ( والعقل السليم ) بفطرته الأصليّة عن تطرّق الآفات وطريان العوائق والعاهات ( والجواب عنه لا يكون إلَّا بما أجاب به موسى ) ظاهرا وباطنا .


أما الأول فلأنّه سأل عن ربّ العالمين بـ « ما » الحقيقة ، والجواب ظاهرا هو تفصيل ما دلّ عليه الاسم إجمالا ، والحدّ ليس إلَّا ذلك التفصيل وبيّن أنّ التثليث في متعلَّق الربوبيّة الذي أفصح عنه في الجواب هو غاية التفصيل فيه .
وأمّا الثاني فلأنّ الجواب هو الكاشف عن المسؤول بأبين ما له من الأحكام المظهرة له ، المحمولة عليه بهو هو وأبين الأحكام لما سأل عنه فرعون هو الفعل العينيّ الظاهر هو فيه بصورة الأثر - كما عرفت غير مرّة.
 وإليه أشار بقوله : ( وهنا سرّ كبير : فإنّه أجاب بالفعل لمن سأل عن الحد الذاتي ) ، الذي يسأل عنه بـ « ما » ، ( فجعل الحد الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم ) وتلك الإضافة هي الفعل الظاهر في الحقّ بصورة أثره المسمّى بالعين .


تأمّل في جواب موسى
ثمّ إنّك قد عرفت أنّ العالم إذا نسب إلى الحقّ في مشهد الكمّل له صورتان يعبّر عنهما بقربي النوافل والفرائض فإنّه إمّا أن يكون العالم آلة ظهور الحقّ والظاهر هو الحق أو يكون على العكس ، والظاهر هو العالم والجواب يشمل الصورتين لذلك قال : ( أو ما ظهر فيه من صور العالم ) تنبيها إلى وجه تماميّة الجواب وجامعيّة كلمته .

ثمّ إنّ هذه الإضافة التي وقعت جوابا وحدا فيها إجمال ، فإنّها هو الكلام الكامل الذي هو صورة جمعيّة الكل من العلو والسفل ، وما بينهما من النسبة ، ومنه يظهر السرّ الكبير ، فلذلك بيّن تحقيقه سرّا بقوله: ( فكأنّه قال له في جواب قوله : " وَما رَبُّ الْعالَمِينَ  قال : الذي يظهر فيه صور العالمين و « القال » لغة هو المنتشر من "القول" ، فهو نصب على المصدر ، أو فعل هو بجملته مقول القول .

وعلى التقديرين هو الفعل الذي أجاب به لمن سأل عن حدّه الذاتيّ فإنّ القول هذا هو الذي اومي به إلى منتهى مراتب الفعل والإضافة ، وآخر تنزّلاته التي فيه يظهر صور العالمين بتفاصيلها ، إيماء خفيّا على ما هو مقتضى صورة السرّ فإنّه إذا ظهر إنّما يتصوّر بما لا يطَّلع عليه إلا أهله - وهو أولو الأيدي والأبصار من ذوي الإيقان والغالب على ذوقهم من الصورتين هو الثانية منهما ، وهو أنّ الظاهر العالم ، كما قيل : " ظاهر لا يكاد يبدو ".
.
يتبع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:36 pm

25 - فصّ حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الرابع .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الرابع
25 - فصّ حكمة علوية في كلمة موسوية
فلذلك قدّمه ذكرا وقال : « الذي يظهر فيه صور العالمين » ( من علو ) ، وهو طرف اللطائف من الوجوبيّات الروحانيّات (وهو السماء - ومن سفل ) وهو طرف الكثائف من الإمكانيات الجسمانيات (وهو الأرض " إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ " ) لما عليه الأمر نفسه بدون تقيّده بالمدارك ، وحصره بما يعطيه المشاعر ، ( أو يظهر هو بها ) ، على أنّ الظاهر إنّما هو الحقّ ، والعالم آلة لظهوره ، وهو الغالب على ذوق أرباب العقول والحكم .

ثمّ إنّ كلام فرعون في طيّ هذه المقاولة لقومه وإن كان بحسب الظاهر لارتفاع شأن منصبه في نظرهم وحطَّ مرتبة موسى ، ولكن في نفس الأمر يفيد لهم قوّة الترقّي إلى كمالهم وذلك لما لهم من الرقيقة الإخلاصيّة بالنسبة إليه
ولذلك لما قال لهم فرعون عندما قال موسى: "أَلا تَسْتَمِعُونَ " استحقّوا للخطاب ، فعدل موسى من الغيبة إلى الخطاب لهم
مبيّنا لما ذكر في جواب الـ "ما" بحسب الحقيقة : " رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الأَوَّلِينَ " فإنّ قوله : " رَبُّكُمْ " هو بيان ما بينهما بإضافة ربّه الخاص به إليه ، تبيينا لما هو أظهر صور تنوّعاته عندهم وقوله : " رَبُّ آبائِكُمُ الأَوَّلِينَ " هو بيان السماوات والأرض ولذلك ما جعل هذا جوابا مستقلا وما تعرّض له المصنّف .

تطبيق بين قول موسى وما انزل على الخاتم صلَّى الله عليه وآله

فهذا الجواب بما قبله عند التحقيق هو مؤدّى ما صدر من الخاتم بقوله :
" هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ " على ما لا يخفى . كما أن الجواب الآخر يعني : " رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ "  مؤدّى قوله " الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ " ، ولكن ما أعرب عن المقصود إعراب كلام الخاتم وإفصاحه .
ثمّ إنّ بسط الكلام في مثل هذا المرام يحبّ مجالا آخر ، يسع لتفصيل أطواره وبسط جوامع أسراره - حقّقنا الله تعالى به ووفّقنا إليه - وأما فيما نحن بصدده إذ قد انعطف أعنّة البيان نحو استكشاف ما في هذا الكتاب المتن ، فإنما نتعرّض لما له فيه أثر عنه ، محتذيا حذو المؤلَّف في طريق التأويل ومسلك الخوض في حقائق التنزيل .

فرق بيان الحقائق عند أهل الإيقان وأهل العقل
ثمّ إنّ بيان الحقائق له مسلكان :
أحدهما مسلك أهل الإيقان ، وهو إظهار الحقائق بصورها الكاشفة لها في نفسه مطلقا ، أعني الصور الوجوديّة الظاهرة لأهل الكشف والوجود - كما سبق بيانه –
والآخر مسلك العقل ، وهو إظهارها بصورها المتبيّنة بها لدى العقل ومشاعره
ويكفي في الأول نفس الصور الوجوديّة كما ظهر من الجواب الأول ،
والثاني يحتاج مع ذلك إلى ما يبيّنها ويظهرها عند العقل من الأدلَّة النظريّة وصورها الكونيّة وما يجري مجراها وهذا المسلك أبين ظهورا وأتمّ إبانة لدى المدارك المتعاورة للعامّة .
ولذلك لما أتى موسى عند الجواب على المسلك الأول بما أتى من البيان التامّ ،
 قال فرعون خوفا من عثور الأصحاب عليه : « إِنَّه ُ لَمَجْنُونٌ » .

رجوع إلى تحليل محاورة فرعون وموسى
قال رضي الله عنه  : ( فلمّا قال فرعون لأصحابه : « إِنَّه ُ لَمَجْنُونٌ » كما قلنا في معنى كونه مجنونا ) بأنّه مستور ، محجوب عن ربّه لا يكاد يتصوّره ، ( زاد موسى في البيان ) بأخذه في المسلك الثاني ( ليعلم فرعون رتبته في العلم الإلهي ) بإحاطته وجمعه بين الطريق الكشفيّ الإيقانيّ والحكميّ العقليّ ، وتمّ به الكلام ، ( لعلمه بأنّ فرعون يعلم ذلك ، فـ  ( قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) فجاء بما يظهر ويستتر ) ، وبيّن أنّ ذلك إنما يتصوّر بحسب المدارك والمشاعر ، فإنّ الحقّ في نفسه لا يطلق عليه الظهور ولا الاستتار .

قال رضي الله عنه  : ( وهو ) مؤدّى ما صدر من الخاتم - صلوات الله وسلامه عليه - بقوله : ( " الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ " كما عبّر في المسلك الأول عن مؤدى قوله : " الأَوَّلُ وَالآخِرُ ".
وأمّا قوله في المسلكين : ( " وَما بَيْنَهُما " ) فهو أيضا ممّا أشعر به الكلام الختميّ مع زيادة من الحقائق


 قال رضي الله عنه  : ( وهو قوله : " بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " ، "إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ " أي إن كنتم أصحاب تقييد ، فإنّ العقل يقيّد ) مداركه كما عرفت في المقدمة .
قال رضي الله عنه  : ( فالجواب الأول جواب الموقنين ، وهم أهل الكشف والوجود ) وهم المطَّلعون على الأمر بما عليه في نفسه من الصورة الوجوديّة الشارحة له شرح علم وإيقان 

قال رضي الله عنه  : ( فقال له : " إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ " أي أهل كشف ووجود ، فقد أعلمتكم بما تيقّنتموه في شهودكم ووجودكم ، فإن لم تكونوا من هذا الصنف فقد أجبتكم في الجواب الثاني إن كنتم أهل عقل وتقييد ) ، وهم المدركون للأمر بما عليه لدى المدارك من الصور الكونيّة الحاجبة له ، العاقدة عليه عقد حصر وتقييد ، فهم أرباب العقود الاعتقاديّة الحاصرة ،
ولذلك قال : ( وحصرتم الحقّ فيما تعطيه أدلَّة عقولكم ) .

صحّة جواب موسى
قال رضي الله عنه  : ( فظهر موسى بالوجهين ) إظهارا للكمالين ( ليعلم فرعون فضله وصدقه ) في ادّعائه الرسالة والخلافة ، ( وعلم موسى أنّ فرعون علم ذلك ) البيان ( أو يعلم ذلك ) من كلامه ( لكونه سأل عن الماهيّة ، فعلم ) موسى ( إنّه ليس سؤاله على اصطلاح القدماء في السؤال بـ « ما » ) حيث أنّهم ذهبوا إلى أنّه إنّما يسأل به عن الحدّ المشتمل على جزئي المسؤول عنه ،
وهما الكاشفان عن جهتي تمام الاشتراك وكمال التمييز ،
والأمر عند المحقّقين على خلاف ذلك ، فإنّه إنّما يسأل بـ « ما » عن الحقيقة مطلقا ، ( فلذلك أجاب ) بما يكشف عنها بوجهها الشهوديّ والعقليّ .


تأويل ما قاله فرعون
قال رضي الله عنه  : ( فلو علم منه غير ذلك لخطَّأه في السؤال ) فإنّ تمكين المخطئ للجواب في قوّة الخطأ - حاشاه من ذلك - فعلم من تمكين موسى له أنّ له علما بذلك ، ( فلما جعل موسى المسؤول عنه ) في جوابه إيّاه ( عين العالم ) التي يظهر فيها صور تفاصيله ، أو يظهر بها تلك التفاصيل ( خاطبه فرعون بهذا اللسان ) الخاصّ بهما ( والقوم لا يشعرون ) ، فإنّهم إنّما يعرفون لسان التخاطب الاصطلاحي ، وموسى على طبق ذلك مخطئ مجنون ، كما نبّههم فرعون بذلك ( فقال له ) بلسانه الخاصّ : ( " لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ من الْمَسْجُونِينَ " ) وهو الجنون الذي عليه موسى بزعمه ، بزيادة سين الستر والسرّ ،

قال رضي الله عنه  : ( والسين في « السجن » من حروف الزوائد ، أي ) إن اتّخذت على ما أجبتني به من التصريح بالعينيّة إلها غيري ( لأسترنّك ) إنيّتك الموسويّة ، لأنّ جوابك على طبق ما أنا عليه ، فلم يمكن لك أن تظهر عليّ ، فإنّ الظاهر هو قولي ، وأنت مختف تحت ظهوري ، ( فإنك أجبت بما أيّدتني به أن أقول لك مثل هذا القول ) من الخفاء والستر الذي هو مقتضى ذاتك ، فكيف تتمكَّن حينئذ من الظهور بالخلافة والرسالة .

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ فرعون في هذا الموطن صورة القوّة النظرية ، التي بلغت كمالها في الإنسان الكامل بها ، فاقتضى المقام أعني مقام المقابلة والمناظرة - على ما عليه القوّة المذكورة - أن يتعرّض من جهة موسى وعلى لسانه ما يمكن أن يورد بطريق تلك القوّة ، توفية للمقام وإتماما للكلام


فلذلك قال من جهة موسى :
قال رضي الله عنه  : (فإن قلت ) بلسانك هذا ( لي : « فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إيّاي ، والعين واحدة فكيف فرّقت ) بيننا بحيلولة الحاجب سترك إيّاي به » ؟
( فيقول فرعون : « إنّما فرّقت المراتب العين ) عند تخصيصها بأحكامها التعيّنية التي تفرّد بها كلّ مرتبة ، والحكم إنّما هو للمرتبة والتمييز والتفرقة منها ( ما تفرّقت العين ولا انقسمت في ذاتها ) ، كما مرّ بيان ذلك غير مرّة ( ومرتبتي الآن التحكَّم فيك يا موسى ) والظهور عليك ( بالفعل ) ، فلي أن أسترنّك وأسجننّك بحسب المرتبة الحاكمة ( وأنا أنت بالعين ، وغيرك بالرتبة » ).


جواب موسى
قال رضي الله عنه  : ( فلما فهم ذلك موسى منه ) في قوله : " لأَجْعَلَنَّكَ من الْمَسْجُونِينَ " فهم العارف بلسان إشارة أهل الخصوص ( أعطاه حقّه ) ، فإنّ لكلّ مقابل ومناظر حقّا إذا أعطي سكن عن المقابلة ،

فلذلك أفحم فرعون بهذا وما ناظر بعد ذلك ، بل ظهر سلطان موسى عليه وذلك ( في كونه يقول له : لا تقدر على ذلك ، والرتبة تشهد له بالقدرة عليه ، وإظهار الأثر فيه ، لأنّ الحقّ في رتبة فرعون من الصورة الظاهرة ) بيان للحقّ في رتبة السلطنة .
وفيه إشارة غير خفيّة  ( لها التحكَّم على الرتبة التي كان فيها ظهور موسى في ذلك المجلس ، فـ " قالَ " له  يظهر له المانع من تعدّيه عليه )
 في صورة الستر والسجن ( " أَوَ " ) يفعل ذلك ( " لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ " ) أي مظهر لي عليك من الآيات .


قال رضي الله عنه  : ( فلم يسع فرعون إلَّا أن يقول : " فَأْتِ به إِنْ كُنْتَ من الصَّادِقِينَ " حتى لا يظهر فرعون عند ضعفاء الرأي من قومه بعدم الإنصاف ، فكانوا يرتابون فيه ، وهي الطائفة التي استخفّها فرعون فأطاعوه ، " إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ".

قال رضي الله عنه  : ( أي خارجين عما يعطيه العقول الصحيحة من إنكار ما ادّعاه فرعون باللسان الظاهر في العقل ) فإنّهم خارجون عن مقتضى العقل ، وهو إنكار ما ادّعاه فرعون باللسان الظاهر فيه ،

قال رضي الله عنه  : ( فإنّ له حدا يقف عنده ) وهو مقتضى نشأته التنزيهيّة الرسميّة المقتضية للتقابل بين مشرق الظهور ومغرب الاختفاء على ما عرفت ( إذا جاوزه صاحب الكشف واليقين ) بمقتضى الجمعيّة القلبيّة .

فلصاحب العقل حد خاصّ مقيّد من هذه الجمعيّة الإطلاقيّة التي هو مشهد القلب وكشفه ، ( ولهذا جاء موسى في الجواب بما يقبله الموقن ) أولا بإطلاقه عموما ، ( والعاقل ) يتقيّده في مشارقه المظهرة ومغاربه المخفية ( خاصّة ) .

تأويل انقلاب العصي حيّة
ثمّ إنّ موسى إذ أعطى حقّ فرعون في أمر مقابلته له ومناظرته معه سكن عنها ( " فَأَلْقى عَصاه  ") وهو مما يستلزم إعطاء حقّه ، ولذلك أسند الإلقاء أيضا إلى موسى ، مع أنّ العصا هي صورة ما عليه فرعون ،
على ما أشار إليه قوله: (وهي صورة ما عصى به فرعون موسى في إبائه عن إجابة دعوته)، وهي على سياق ما سبق من التأويل إشارة إلى النظر الذي بيد العقل ، يعتمد عليه في جملة أعماله عند تبيين أحكامه وتمييز أحواله ، ويتوكَّأ عليه عند التجلَّي
بجميل أفعاله وأقواله ، ويهشّ به أوراق شجرة الجمعيّة الكماليّة القلبيّة من البراهين الباهرة المقوّية على غنم غنائمه وأمواله ، ممّا يميل إليه ويغنم به عند المقابلة والمناظرة مع الموافقين والمخالفين ،
من الصور الاعتقاديّة والمحسّنات الإدراكيّة التي ترعي وتغتذي بتلك الحجج وبها يقوم أو على مراعي تلك المزارع ممن هو تحت حيطة رعية ورعايته من تلامذته وأصحابه من المستفيدين منه ، المستفيضين من مشرب كماله وله فيه " مَآرِبُ أُخْرى " عند بلوغه إلى رتبة كماله في الإنسان الكامل ،
ولذلك تراه إذا ألقى موسى إلقاء إظهار خصائصه الكمالية (" فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ") تنثعب منه وتنفجر عيون علم وكشف من : ثعبت الماء ، فانثعب : أي فجرت فانفجر فإنّ النظر من صاحب الكمال إذا ألقى وأظهر انفجر من عيون قوّته المفصّلة فنون علم وفيض (" مُبِينٌ ") .
ثم إنّك قد عرفت أنّ الحياة الحقيقيّة هي الحياة العلميّة الفائضة من معدن كماله أبدا ، من غير نقص انقراض وتوهّم انصرام ،

وإلى ذلك أشار في تفسيره الثعبان بقوله ( أي حيّة ظاهرة فانقلبت المعصية التي هي السيّئة ) وهي التي عليها من التنزيه الذي هو مقتضى نشأة صاحبه - يعني العقل – ( طاعة - أي حسنة - كما قال : " يُبَدِّلُ الله سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ "  يعني في الحكم ) ،
فإنّ الأعيان أنفسها لا تتبدّل ولكن تتقلب أحكامها عند العروج في مراقي كمالها ، كما فيما نحن فيه إذا نقلت العقل قلبا ( فظهر الحكم عينا متميّزة )
أي ظهور عين متميزة بحسب الاسم والأثر ( في جوهر واحد ) .

قال رضي الله عنه  : ( فهي العصا ) للعوام باعتبار الاعتماد عليها في الآراء المبيّنة للمبدإ والمعاد ( وهي الحيّة ) أيضا للخواصّ ، باعتبار فيضان ماء حياة العلم منها ( والثعبان الظاهر ) أيضا باعتبار انفجار عيون انبساطه وكماله على مزارع قلوب القابلين من أهل الطلب ، المحاطين تحت حيطته ( فالتقم أمثاله من الحيّات ، من كونها حيّة ، والعصيّ من كونها عصا).

والذي يدلّ على تطبيق هذا التأويل وإصابة سهامه مرامي قصد صاحب الكتاب قوله في تأويل الالتقام : ( فظهرت حجة موسى على حجج فرعون في صورة عصىّ وحيّات وحبال ) ،
وهي باعتبار جذب القلوب بها واقتناص خواطر أهل القرب والنيّة منها ( فكانت للسحرة الحبال ، ولم يكن لموسى حبل ) ، فإنّه العلم الذي هو مبدأ التخيّل والإيهام ، مما يشوّق ويجذب إلى العالم به ، ويوهم وينفّر عن غيره وليس لموسى من ذلك العلم شيء ، لعلوّ قدره عن أمثال تلك الحيل ،
ولذلك قال رضي الله عنه  : ( والحبل : التلّ الصغير ) ، وهو الممتدّ من الرمل المستطيل الذي به يهتدي الساري إلى بيته ، فلذلك استعير به للوصل ، ولكل ما يتوصّل به ، قوله تعالى : " اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله ".

 موسى والسحرة
قال رضي الله عنه  : (أي مقاديرهم بالنسبة إلى قدر موسى بمنزلة الحبال من الجبال الشامخة فلما رأت السحرة ذلك علموا رتبة موسى ) وعلوّ قدره ( في العلم ، وأنّ الذي رأوه ليس من مقدور البشر ) من حيث أنّه بشر ، ( وإن كان من مقدور البشر ) مطلقا ( فلا يكون إلَّا ممن له تميّز في العلم المحقّق عن التخيّل والإيهام ) اللذين بهما تنجذب القلوب من عوام الناس ، ( فآمنوا " بِرَبِّ الْعالَمِينَ " ) ،

وهذا القول عند القوم فيه إجمال ، لادّعاء فرعون أنّه ذلك ، فينبّه بقوله : ( " رَبِّ مُوسى وَهارُونَ" أي الرب الذي يدعوا إليه موسى وهارون )  .
إفصاحا بالمقصود ، وإزالة للإجمال بحسب أفهام القوم ( لعلمهم بأنّ القوم يعلمون أنّه ما دعا لفرعون ، ولما كان فرعون في منصب التحكَّم ) على مسند الخلافة والظهور بها في ذلك.
( صاحب الوقت ، وأنّه الخليفة بالسيف ) الذي عليه مبنى أمر الظهور ، وبحكمه يتمّ القطع والفصل عند تأمير الوقت أحدا من أبنائه ، فهو آية سلطانه على غيره وقهرمانه على الكلّ
، فصاحب السيف هو صاحب الوقت ، كما قيل " الوقت سيف " .
 
قال رضي الله عنه  : ( وإن جار في العرف الناموسي ) ومقتضى شريعته ، كما ورد من الخاتم صلَّى الله عليه وسلَّم : « أطيعوا أميركم ولو جار » . ""لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف""

 ""أضاف الجامع :
حديث مسلم : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا، وأمر عليهم رجلا، فأوقد نارا، وقال: ادخلوها، فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: «لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة»، وقال للآخرين قولا حسنا، وقال: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» ) رواه البخاري و مسلم و أحمد بالمسند و ابن حبان و النسائي ومسند البزار و البيهقي والشريعة للآجري وغيرهم. ""

فرعون والسحرة
قال رضي الله عنه  : ( ولذلك ) السلطنة وكونه صاحب الوقت ( قال : " أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى " أي وإن كان الكلّ أربابا بنسبة ما ) وإضافة إلى ما يتعلَّق به تعلَّق تصرّف وتربية - كما يقال : « ربّ العبد ، وربّ البيت » ( فأنا الأعلى بما أعطيته في الظاهر من التحكَّم فيكم ) بالسيف ، والإحاطة عليكم بالغلبة .

قال رضي الله عنه  : ( ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله لم ينكروه وأقرّوا له بذلك ) وأذعنوا أمره ( فقالوا له : " إِنَّما تَقْضِي هذِه ِ الْحَياةَ الدُّنْيا " ) والصورة الظاهرة المبتنية أمرها على الغلبة بالسيف ،
 ( " فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ " ) فيه وحاكم عليه من الصورة الجسمانيّة ، ( فالدولة ) التي عليها مدار أمر الصورة ( لك ) .

قال رضي الله عنه  : ( فصحّ قوله ) لهم : ( " أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى "  وإن كان ) الربّ الذي هو أعلى الأرباب على الإطلاق لا يكون إلا ( عين الحقّ فالصورة ) المتعيّنة به ذلك ( لفرعون فقطع الأيدي والأرجل وصلب بعين حقّ في صورة باطل ) فإنّ من جملة ما تعيّنت به ذلك العين وتصوّرت هو الباطل.

كما قال شيخ الشيخ المؤلف أبو مدين :
لا تنكر الباطل في طوره .... فإنّه بعض ظهوراته
وأعطه منه بمقداره ... .... حتى توفّي حقّ إثباته
فالحقّ قد يظهر في صورة .... ينكرها الجاهل في ذاته
ومما يؤيّد ما تلونا عليك في تأويل فرعون من مبدأ أمر تربيته لموسى إلى منتهى مقام مقابلته له واستكماله منه تخصيص قهره مع عموم قدرته على الكلّ بأعوانه وأصحابه ،
من قطع آلات القوّة والسير ، وتفريقهم عن مستقرّهم الأصلي وما هم عليه بحسب نشأتهم النظريّة بتعليقهم على صليب الإفناء عن تعيّناتهم وآثارهم الخاصّة بهم - فلا تغفل .

ترتيب الأمور بالأسباب ، ولا سبيل إلى تعطيلها
ثمّ إنّه إذا بيّن أن لمبدإ هذا الفعل جهتي حقّ وباطل من حيثيّتي عين وجوديّة وصورة كونيّة ، ولا بدّ أن يكون لسائر ما يتفرّع عنه أثر من تينك الجهتين أشار إلى جهة حقيّة القطع المذكور لوضوح الأخرى منهما بقوله : ( لنيل مراتب لا تنال إلَّا بذلك الفعل ) من طرف فرعون في تحقيق سياسته وقوّة سلطانه ، ومن طرف السحرة وآله في وصولهم إلى درجات الشهادة والشهود التي لا يمكن لهم الوصول إليها إلا به ،

قال رضي الله عنه  : ( فإنّ الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها ، لأنّ الأعيان الثابتة اقتضتها ) بحسب النظام العلمي والربط الأسمائي ، والسلسلة الكماليّة التي في الحضرات الجلائيّة وهو المعبّر عنها في صناعة الحكمة بالعناية الأزليّة .

قال رضي الله عنه  : ( فلا يظهر ) الأعيان بهيئاتها الجمعيّة الارتباطيّة ( في الوجود إلَّا بصورة ما هي عليه في الثبوت ، إذ " لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ الله "، وليست كلمات الله سوى أعيان الموجودات ، فينسب إليها القدم من حيث ثبوتها ) في الحضرة العلميّة الجلائيّة ،

قال رضي الله عنه  : ( وينسب إليها الحدوث من حيث وجودها ) في العوالم الاستجلائية ( وظهورها ) فيها ، ( كما تقول : « حدث اليوم عندنا إنسان أو ضيف » . ولا يلزم من حدوثه أنّه ما كان له وجود قبل هذا الحدوث لذلك قال تعالى في كلامه العزيز - أي في إتيانه ) أي في إثبات الحدوث لإتيان الكلام ، كما في المثال

قال رضي الله عنه  : ( مع قدم كلامه : " ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوه ُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ " )  أي محدث عندهم إتيانه ،
وكذلك في قوله : (" ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْه ُ مُعْرِضِينَ ").

قال رضي الله عنه  : (والرحمن لا يأتي إلَّا بالرحمة ) التي هي الحياة والعلم ( ومن أعرض عن الرحمة ) العلميّة التي بها يتفطَّن بمثل هذه الدقائق ( استقبل العذاب الذي هو عدم الرحمة ) .

إيمان فرعون ونجاته
ثمّ إنّ من تلك الدقائق ما أثبت لفرعون من نيل المراتب العلميّة الكماليّة التي أشار إليها ، وهي التي لم يتفطن لها أكثر أهل الظاهر ، مع دلالة الآيات عليها :
قال رضي الله عنه  : ( وأمّا قوله : " فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبادِه ِ " )
وكذلك قوله مع الاستثناء في سورة يونس :" فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ " أي في وقت رؤيتهم العذاب .
" فَنَفَعَها إِيمانُها "، (" إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ " فلم يدلّ على ذلك أنه لا ينفعهم في الآخرة بقوله في الاستثناء " إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ") .
فإنّ سياق الآية دالّ على أنّ النفع المنفي من إيمانهم هو النفع الآجل ، ( فأراد أنّ ذلك لا يرفع عنهم الأخذ في الدنيا ، فلذلك أخذ فرعون مع وجود الإيمان منه ) ما نفعه في ذلك .

قال رضي الله عنه  : ( هذا ) على تقدير التنزّل مع المجادل ( إن ) سلم أنّه ( كان أمره أمر من تيقّن بالانتقال في تلك الساعة ) ، حتّى يكون داخلا في عموم مفهوم الآية المذكورة ( وقرينة الحال تعطي أنّه ما كان على يقين من الانتقال لأنّه عاين المؤمنين يمشون في الطريق اليبس الذي ظهر بضرب موسى بعصاه البحر ، فلم يتيقّن فرعون بالهلاك إذا آمن ) ، بل آمن من الهلاك بإيمانه ومشاهدته المؤمنين قد نجوا به ، ( بخلاف المحتضر ) الذي تيقّن بالهلاك فآمن ( حتى لا يلحق ) فرعون ( به ) ، فإنّه ما كان الإيمان منه مسبوقا بتيقّن الهلاك سبق إيمان المحتضر فإنّه رأى المؤمنين بموسى من بني إسرائيل قد نجوا ،

قال رضي الله عنه  : ( فآمن بالذي  "آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ " على التيقّن بالنجاة فكان كما تيقّن ، ولكن على غير الصورة التي أراد ) ، وذلك لأنّ إيمانه وتيقّنه على غير الصورة التي أراد موسى منه ، بأن يكون في محضر من قومه حتّى يعمّ به الخبر ، وإذا لم يكن إيمانه على ما أريد ، فلم يكن نجاته كما أراد .

قال رضي الله عنه  : ( فنجّاه الله من عذاب الآخرة في نفسه ، ونجّى بدنه ) أيضا من الغرق في البحر وأن يكون غائبا عن نظر قومه ( كما قال : " فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً "  لأنّه لو غاب بصورته ربما قال قومه ) من المعتقدين فيه اعتقاد صدق : « إنّه ( احتجب ) بصورته » ( فظهر بالصورة المعهودة ميتا ليعلم ) قومه ( أنّه هو فقد عمّته النجاة حسّا ) ببدنه ( ومعنى ) بروحه ، لإيمانه قبل أن يظهر عليه من آيات الآخرة شيء ،

قال رضي الله عنه  : ( ومن حقّت عليه كلمة العذاب الأخروي ) بظهوره فيه  آيته أن ( لا يؤمن ) في الدنيا ( ولو جاءته كل آية " حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الأَلِيمَ " ) عند حضوره الموت وتيقّنه به ، فإنّه من العذاب الأخروي ، ولذلك فسّر الرؤية المذكورة بقوله : ( أي يذوقوا العذاب الأخروي فخرج فرعون من هذا الصنف ) لما مرّ من عدم تيقّنه بالموت ، وإيمانه قبل رؤيته العذاب الأليم .

قال رضي الله عنه  : ( هذا هو الظاهر الذي ورد به القرآن ) كما عرفت في هذه الآية وغيرها ، مما يمكن أن يتمسّك به أهل الظاهر على ما اعتقدوه في فرعون من أنّه غير نصّ فيه ولا ظاهر ، بل الظاهر منها خلافه ، ولذلك قال : ( ثمّ إنا نقول بعد ذلك ) البيان الذي ظهر من الآيات القرآنية : ( والأمر فيه ) أي في فرعون وكفره ( إلى الله ) لعجزنا عن الإبانة عن ذلك الأمر بما هو عليه  ( لما استقرّ في نفوس عامّة الخلق من شقائه ، وما لهم نصّ في ذلك يستندون إليه ) كما في غيره من الصور الاعتقاديّة الرسميّة التي لهم .

حكم آل فرعون
وأما النصوص الواردة في آل فرعون ، كقوله تعالى : " وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ " ، "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ".
 فلا دخل لها فيما نحن فيه ، وإليه أشار بقوله : ( وأما آله ، فلهم حكم آخر ليس هذا موضع ذكره ) فإنّ النسبة الارتباطيّة التي بينه وبين قومه ليست حقيقيّة وجوديّة ، كما للأنبياء مع أصحابهم ، بل كونيّة [ . . ] كما عرفت من طيّ ما جرى بينه وبين موسى .
وتحقيق هذا يحتاج إلى بسط لا يليق بهذا الموضع ، كما أشار إليه في التفرقة بين الكافر المحتضر والكافر المقتول غفلة أو الميّت فجأة بقوله :

كلّ محتضر مؤمن ، وليس كذلك المقتول غفلة والميت فجأة
قال رضي الله عنه  : ( ثمّ ليعلم أنّه ما يقبض الله أحدا إلَّا وهو مؤمن - أي مصدّق بما جاءت به الأخبار الإلهيّة) لظهور الأمر عليه عند رفعه الحجب المانعة عن ذلك ، وهي القوى الإدراكية وما يترتّب عليها ، كما قال الشيخ رضي الله عنه  :
وأما  المسمى آدما ، فمقيّد   ... بعقل وفكر أو قلادة إيمان
بذا قال سهل والمحقق  مثلنا ... لأنا وإياهم  بمنزل إحسان
فمن شهد الأمر الذي قد شهدته ... يقول بقولي في خفاء وإعلان
ولا تلتفت قولا يخالف قولنا ... ولا تبذر السمراء في أرض عميان
( وأعني ) بذلك ( من المحتضرين ) أي من حضره الموت ، وهو واقف عليه حاضر ، ( ولهذا يكره موت الفجأة ) حيث استعيذ منه في الدعوات المأثورة ( وقتل الغفلة ) .
ثمّ إنّه يشير إلى مبدأ ذلك الإكراه وبيان لمّيته ، وذلك أن الإنسان ينبغي أن يكون عند خروجه من دار الدنيا في جمعيّة فطرته الأصليّة وإحاطته الذاتيّة ولو بمجرّد الاعتبار وصورة ذلك جمع ما تفرّق وشذّ عنه ، وهو بإدخال ما لم يكن داخلا في الوجود أو في العلم ، كالنفس الداخل مثلا ، وإثبات العقائد وامتياز الصور العلميّة ، وليس ذلك في موت الفجأة وقتل الغفلة .

أمّا الأول : فإليه أشار بقوله : ( فأمّا موت الفجأة : فحدّه أن يخرج النفس الداخل ، ولا يدخل النفس الخارج ، فهذا موت الفجأة وهذا غير المحتضر ) فإنّه في حضور من تصوّر الموت وما يترتّب عليه ، وفيه جمعيّته .
وأمّا الثاني : فإليه أشار بقوله : ( وكذلك قتل الغفلة بضرب عنقه )
صاحبه ( من ورائه وهو لا يشعر ) ، فإنّه لو لم يكن من ورائه ، أو يكون له شعور بذلك ، كان له صورة جمعيّة في الجملة ، بإدخال الخارج فيه وتصوّره ، ( فيقبض على ما كان عليه من إيمان ) وهو ظهور فطرته الأصليّة وجمعيّته الكماليّة له ( أو كفر ) وهو خفاء ذلك عليه وستره عنه (ولذلك قال عليه السّلام :" ويحشر على ما عليه مات " كما أنّه يقبض على ما كان عليه").

قال رضي الله عنه  : (والمحتضر لا يكون إلَّا صاحب شهود) وحضور ، لارتفاع الحجب الإدراكيّة عنه حينئذ بتعطيل القوى عمّا يشغله عن شهود ما عليه الأمر في الآخرة ، ( فهو صاحب إيمان بما ثمّ ، فلا يقبض إلَّا على ما كان عليه ) في ذلك الوقت ، ولا يختصّ بذلك الوقت من الزمان الماضي ، ويزول عند حلول الحال على ما هو مؤدّى صيغة « كان » ،

( لأنّ « كان » حرف وجوديّ لا ينجرّ معه الزمان إلَّا بقرائن الأحوال ) الخارجة عن نفس مفهومه ، ( فتفرق بين الكافر المحتضر في الموت ، وبين الكافر المقتول غفلة أو الميّت فجأة ، كما قلنا في حد الفجأة ) ، وبه يعرف ما بين فرعون وآله من البينونة والفرق .


حكمة التجلي لموسى في صورة النار
قال رضي الله عنه  : ( وأما حكمة التجلَّي ) الظهوريّ عليه ( والكلام ) وهو الإظهاريّ منه ( في صورة النار ) التي لها العلوّ في الأسطقسات : ( لأنّها كانت بغية موسى ) بحسب المناسبة الأصلية ، وبما ساق إليه حكم الوقت ، ( فتجلَّى ) الله تعالى

قال رضي الله عنه  : (له في ) صورة ( مطلوبة ليقبل عليه ولا يعرض عنه ) لغلبة حكم الصورة عليه ( فإنّه لو تجلَّى له في غير صورة مطلوبه ، أعرض عنه لاجتماع همّته على مطلوب خاصّ ) حسب ما حكم عليه الوقت من التفرقة التي ظهرت قهرمانها عليه في ذلك الزمان ، على ما هو مقتضى كلمته العليّة الموسويّة ، على ما نبّهت إلى بعض حكمها الكاشفة عنها .

قال رضي الله عنه  : ( ولو أعرض لعاد عمله عليه ) بناء على تحقّق مجازاة العمل على وفق معادلته وطبق موازاته ، كما هو مؤدّى قوله تعالى : " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ "  ( فأعرض عنه الحقّ وبالا لعمله وهو مصطفى ) ،  بقوله تعالى : " اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ " (مقرّب ) لقوله : " قَرَّبْناه ُ نَجِيًّا " ( فمن قربه ) وتقريب الله إيّاه نجيّا ( أنّه تجلَّى له في مطلوبه وهو لا يعلم ) :

( كنار موسى ، يراها عين حاجته  .... وهو الإله ولكن ليس يدريه )
وفيه إشارة إلى أن المطلوب والمحتاج إليه عينه هو الحقّ إذا توجّه إليه بجمعيّة من الهمّة ، وإن لم يكن يعلم المتوجّه ، كما وقع لموسى مع كماله في العلم .
.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:37 pm

26 - فصّ حكمة صمديّة في كلمة خالديّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الخالدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
26 - فصّ حكمة صمديّة في كلمة خالديّة
تسمية الفصّ
ووجه اختصاص هذه الكلمة بحكمتها هو أنّ الصمد : السيد المصمود إليه في الحوائج - من صمد : إذا قصد - فلا بدّ أن يكون جامعا لخصوصيّات الكلّ ، حتى يتمكَّن من تفصّي مقتضيات الجمع ففيه معنى أحديّة جمع الخصوصيّات والحكمة الخالديّة لو ظهرت وتمّت كان أمرها أن ينبئ عن تصديق نبوّة جميع الأنبياء وتحقيق خصوصيّاتهم ، فالحكمة هاهنا مشتملة على أحديّة جميع الحكم كلَّها ، كما أنّ الكلمة كذلك .
وأيضا بيّنات « الصمد » بنفسها هو « الدائم » بموادّها ، وهو « الخالد » مفهوما ومعنى .

النبوّة البرزخيّة
ثمّ إنّ الصورة التي هي أصل قواعد النبوّة وأساس بنائها لها مجليان في العوالم :
 أحدهما في عالم الشهادة ، والصورة فيه هيولانيّة جسمانيّة ، تامّة في مصدريّة أحكامها وآثارها ، كاملة بالكمال الجمعيّ والإحاطة الذاتيّة ، ولكن لا دوام لها
والأخرى عالم المثال ، والصورة فيه شبحانيّة جسدانيّة ، غير تامّة في مصدريّة الخواصّ والآثار ، ولكن لها الجمعيّة البرزخيّة ، بحسب احتياز الأوصاف وجمع الأطراف فإنّ من شأن البرزخ أن يحيط بطرفيه ويحوي أوصافهما ويظهر بهما . 

والمثال هو البرزخ بين عالم الأرواح والأجسام ، ولها الخلود والدوام بالنسبة إلى الشهاديّة .
ثمّ إذا تقرّر لك هذا فاعلم إنّه كما أنّ النبوّة الشهاديّة في الصورة التماميّة قد اقتضت ظهور الأنبياء عليهم السّلام بالإنباء عمّا عليه أمرها والإظهار بجملة أحكامها وآثارها ،

كذلك النبوة البرزخيّة اقتضت أن يكون لها كلمة مستقلَّة بين الأنبياء ينبئ عما عليه تلك الصورة في حدّها ، تتميما لأحكام النبوّة المطلقة واستيفاء لمقتضى الصورة التي أصلها بطرفيها ، واستقصاء لأمر الإظهار الذي هو غايتها بعالميها .
وحكمتها هو المشار إليها بقوله : 
خالد بن سنان أراد أن يخبر عن البرزخ
"" أضاف المحقق :
اسمه خالد بن سنان بن غيث بن عبس علي ما ذكره المسعودي في مروج الذهب و أيضا أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير و الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني""

قال رضي الله عنه :  ( وأما حكمة خالد بن سنان ، فإنّه أظهر بدعواه النبوّة البرزخيّة ) والظهور بها في عالم البرزخ ، ( فإنّه ما ادّعى الإخبار بما هنالك إلَّا بعد الموت ) وتحقّقه بالصورة البرزخيّة ، خالصة عمّا يخالفها من الأحكام المزاجيّة التي هناك ، حتى يتمكَّن عن الإنباء بما عليه أمر ذلك العالم بخصوصه ، متحقّقا به . 

قال رضي الله عنه :  ( فأمر أن ينبش عليه ، ويسأل ، فيخبر ) بعد تحقّقه بها ( أنّ الحكم ) بجمله وتفاصيله  ( في البرزخ على صورة الحياة الدنيا ، فيعلم بذلك صدق الرسل كلَّهم فيما أخبروا به في حياتهم الدنيا ) فإنّ الصور البرزخيّة غير متحيّزة بالمكان ، ولا مقترنة بالزمان ، فلا اختصاص لأحكامها والإنباء عنها بامّة زمانه ، بل تشمل العالمين ، وإذ لم يكن تلك الرقيقة بينه وبين امّة زمانه خاصّة في البرزخ ، لم يتمّ له ذلك الأمر وما سمعوا كلامه .

قال رضي الله عنه :  ( وكان غرض خالد إيمان العالم كلَّه بما جاءت به الرسل ، ليكون رحمة للجميع ) من العالمين ، ولكن في البرزخ ، فإنّ ذلك العالم لتقدّمه على الشهادة لا يظهر أمر من الأمور بالصور الشهاديّة قطَّ ، إلَّا بعد ظهوره بالصور المثاليّة في البرزخ فإذا ظهر بالصور المثاليّة يكون آية ، لقرب ظهوره بالصور الشهاديّة .


ومن هذا الأصل تتفرّع معرفة الرؤيا واستعلام الأحوال المستقبلة عن تعبيرها ، وإلى ذلك أشار بقوله رضي الله عنه  : ( فإنّه تشرّف بقرب نبوّته من نبوّة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وعلم ) بميامن ذلك القرب أيضا ( أنّ الله أرسله رحمة للعالمين ، ولم يكن خالد برسول ) حتى يصحّ له النسبة الكاملة بامّة زمانه ، ويترتّب عليها البلاغ وسماعهم منه سماع قبول وتربية ، ( فأراد أن يحصّل من هذه الرحمة ) الشاملة

 
قال رضي الله عنه :  ( التي في الرسالة المحمديّة على حظَّ وافر ، ولم يؤمر بالتبليغ ) حتى يتحقّق بذلك الحظَّ في عالم الشهادة .
( فأراد أن يحظى بذلك في البرزخ ، ليكون ) ذلك من خوارق العادات والمعجزات المختصّة به ، وحينئذ يكون ( أقوى في العلم في حقّ الخلق ) ، لأنّه إعلام أمر مع الإعجاز المؤيّد له ، وهو الدليل الواضح عند العامّة.


خصائص الأمور البرزخيّة وسبب عدم توفيق خالد بن سنان
قال رضي الله عنه :  ( فأضاعه قومه ) لعدم وثاقة النسبة وتصحيحها المترتّب عليه أحكامها ، ولأنّ الصورة البرزخيّة - من حيث هي كذلك - إنّما تقتضي ظهورا ما في مرتبتها على ما اقتضته ، غير كامل النظام ولا متّسق الترتيب فإنّ مبنى أمر النظام والترتيب الزمان والمكان ، وقد عرفت أنّ هذه الصورة في هذه المرتبة غير متحيّزة ولا مقترنة مكانا وزمانا ، وبيّن أنّ نسبة السيّد والنبيّ إلى قومه إنّما استوثقت من الصور الترتيبيّة والهيئة التأليفيّة الشهاديّة ، التي لا بدّ له من نظام حتى يتمّ .

فالنسبة بين خالد وامّته وثيقة حيث كان في الصور الشهاديّة ، وإذا انتقل إلى البرزخ ما بقي النسبة على ما كانت عليه فلذلك قال النبي : « قومه » ، لا : " امّته" .

وإذا لم يكن خالد برسول مأمور بالتبليغ ، بل ذلك إنما هو غرضه المختصّ به أن يحتظي من الرحمة العامّة الختميّة من دون وحي إلهيّ ، ولذلك قال : " أضاعه قومه " .
( ولم يصف النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قومه بأنهم ضاعوا ) ، ولو كان رسولا مأمورا بالتبليغ
كانوا هم الضائعين أولا ، ( وإنّما وصفهم بأنهم أضاعوا نبيّهم ، حيث لم يبلغوا مراده ) وهو النبش على ما وصّاهم به  

تفصيل قصّة خالد بن سنان
وقصّته أن خالدا رجل من العدن ، ظهر به داعيا إلى الله ومبدأ أمره أنّه خرجت في أيّامه نار عظيمة من مغارة ، فأهلكت الزرع والضرع ، والتجأ إليه قومه ، فأخذ خالد يضرب تلك النار بعصاه حتى رجعت هاربة منه إلى حيث خرجت عنه ، ثمّ وصّى لأولاده أنّي أدخل المغارة خلف النار لاطفئها ، وأمرهم أن يدعوه بعد ثلاثة أيّام . 

فلما دخل صبروا يومين فاستفزّهم الشيطان ولم يصبروا تمام الثلاثة وصاحوا فخرج خالد وعلى رأسه ألم من صياحهم ،
وقال رضي الله عنه : « ضيّعتموني وأضعتم قولي ووصيّتي » ، وأخبرهم بموته ، وأمرهم أن يقبروه ويرقبوه أربعين يوما ، فإنّه يأتيهم قطيع من الغنم ، يقدمها حمار أبتر مقطوع الذنب ، فإذا حاذى قبره ووقف فلينبشوا عليه قبره ، فإنّه يقوم لهم ويخبرهم بأحوال البرزخ والقبر عن يقين .
فانتظروا أربعين يوما فجاء قطيع كذلك ، فهمّ مؤمنو قومه أن ينبشوا ، فأبى أولاده خوفا من العار عند العرب أن يقال لهم : " أولاد المنبوشين " ، فضيّعوا وصيّته وأضاعوه . 
فلما بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جاءته بنت خالد ، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم : « مرحبا بابنة نبيّ أضاعه قومه » .
"" أضاف المحقق :
عن المسعودي في مروج الذهب ( 1 / 75 ) : « وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم  فقال : ذلك نبي أضاعه قومه » .
وفيه ( 2 / 370 ) : « وردت ابنة له عجوز قد عمّرت على النبيّ ص ، فتلقاها بخير وأكرمها ، فأسلمت وقال لها : مرحبا بابنة نبيّ ضيّعه أهله » . "" 

تأويل قصّة خالد
ثمّ إنّ لهذه القصّة تأويلا لطيفا يمكن حملها عليه ، ولكن يحتاج فهمه إلى مقدمة :
وهي أن الولاية أقسام ثلاثة :
ولاية هي باطن النبوة المطلقة ، وهي شاملة لولايات جميع الأنبياء ، وولاية هي باطن النبوة الخاصّة بكل من النبيّين ، وكمالها ما هو باطن النبوّة المحمديّة ، وولاية مطلقة لا اختصاص لها بالنبوّة . 
ولكل من هذه الأقسام خاتم ظهر به تمامها ، وخاتم الولاية منهم هو الذي ختم به القسم الثالث ، أعني الولاية المطلقة الشاملة للكلّ .
وأما القسم الثاني ، فخاتمه الشيخ المؤلَّف ، كما علم من تصفّح كلامه أنّه خاتم الولاية المحمديّة وأما القسم الأول ، فخاتمه علىّ عليه السّلام ، ولذلك قال ما معناه : " لو اجتمع أهل الكتب الأربعة لحكمت علي كلّ منهم بكتابه " .

ثمّ إنّ خالدا صورة باطن نبوّة الأنبياء ، وباطنها هو الولاية المختصّة بها ، ولذلك ما امر بالتبليغ ، واقتضى النبوّة البرزخيّة التي هي باطن هذه المرتبة ، وبه سمّي بـ « الخالد » واقتضى « الحكمة الصمدانية » التي لها الدوام كما عرفت فإنّ الولاية لا انقطاع لها كما سبق بيانه .

وإذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الولاية التي هي باطن نبوّة الأنبياء قد ظهر بعد ختم النبوّة بمحمد  صلوات الله وسلامه عليه - في أهل بيته ، فمن قرب إليه زمانا غير خاتم الولاية ، فإنّه مظهر الولاية المطلقة ، والكلام هاهنا في الولاية التي هي باطن النبوّة . 

ثمّ إنّه لا يخفى على المتفطَّن أنّ الرجل الذي ظهر من عدن معدن الكمال والظهور من هو ؟
فإنّه قد ظهر في أيّامه نار فتنة عظيمة من مغارة الغيرة والتنافس ، فأهلكت زرع أحكام النبوّة وأوضاعها العمليّة ، وضرع الحقائق وكمالاتها العلميّة التي في أيّام الخاتم فانطفت النار بقوّة رأيه ونظره الثاقب المشار إليها بعصا ، 

واختفى في تلك المغارة ، ووصّى أولاده وأتباعه أن لا يدعوه إلى الظهور والخروج إلَّا بعد انقضاء ثلاثة أيام من الظهورات الكاملة ، فما صبروا إلى أن يتمّ الثالث ، بل استفزّهم الشيطان وجعلوه تامّا ، وصاحوا عليه ليخرج ، فخرج وعلى رأس رياسته ألم لمخافة الناس ، وتفرّقهم عن اتّصال كمال ظهوره . 

وأمّا صورة وعدهم بالنبش - عند وصول القطيع الذي تقدمه حمار أبتر حذاء قبره ، حتى يظهر تلك الولاية ، ويخبرهم عن أحكام البرزخ التي بين الخاتمين - هو صورة ما ظهر في أيّام أبي مسلم الخراساني ، فهو الحمار الأبتر ، لخيرته وانقطاع ذنب أمره ، وباقي الصور ظاهر للفطن إذا تأمّل فيه . 

ومن آيات تطبيق هذا التأويل هو أنّ الواسطة في نسبة هذا الرجل إلى محمد - صلوات الله وسلامه عليه - هو البنت ، حيث قال عند رؤيته إياها : مرحبا بابنة نبيّ أضاعه قومه " . 

أجر النيّة
ثمّ إنّه قد علم أن أمة خالد ما بلغته مراده ، وفي عبارته هذه لطيفة كاشفة عن أصل هذه الحكمة وخصوص كلمتها ، حيث أنّ قوم خالد هو المبلغ إيّاه ، كما أنّه هو المضيّع له ، على خلاف ما عليه كلمة النبيّين بأجمعهم . 

ثمّ أخذ يشير في طيّ هذه اللطيفة إلى أصل كلَّي وقانون جملي يتعلَّم منه كثير من الأحكام الجزئية عند استخراج فروعه ، وذلك أنّ المتوجّه إلى أيّ نحو من طرق الكمال إذا وقع له في الطريق قبل وصوله إلى ما جعله قبلة امنيّته ومقصد توجّهه ما يقطع رابطته التي له بحسب هذه النشأة الجمعية - هل يمكن له الوصول إليه في العوالم البرزخيّة والنشآت الآتية ،

حيث قال رضي الله عنه: ( فهل بلغه الله أجر امنيّته ؟ فلا شكّ ولا خلاف أنّ له أجر امنيّته وإنّما الشك والخلاف في أجر المطلوب : هل يساوي تمنّى وقوعه نفس وقوعه بالوجود أم لا فإنّ في الشرع ما يؤيّد التساوي في مواضع كثيرة ) ظهوريّة غير متعدّية وإظهاريّة متعدّية :
فالأوّل ( كالآتي للصلاة في الجماعة ، فتفوته الجماعة ، فله أجر من حضر الجماعة )
وأمّا الثاني ( كالمتمنّي مع فقره ما هم عليه أصحاب الثروة والمال من فعل الخير فيه ، فله مثل أجورهم ) في نيّاتهم . 

فهذا ما يدلّ في الشرع على التساوي بين الأجرين : أجر المتمنّي الفائت منه العمل ، وأجر العامل ولكن فيه إجمال ، فإنّ العامل له أجر التمنّي أيضا ، فالمساواة المشار إليها في الشرع هل هو ما بين أجري التمنّي للفائت والعامل ، أو بين أجريهما مطلقا ؟


وإليه أشار بقوله رضي الله عنه  : ( ولكن مثل أجورهم في نيّاتهم أو في عملهم ، فإنّهم جمعوا بين العمل والنيّة ) وليس في كلام النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ما يرجّح أحد الاحتمالين ( ولم ينصّ النبيّ عليهما ولا على واحد منهما ، والظاهر أنّه لا تساوي بينهما ) ، فإنّ النسبة بينهما نسبة الكل إلى الأجزاء والجمع إلى أفراده .

قال رضي الله عنه :  ( ولذلك طلب خالد بن سنان الإبلاغ ، حتى يصحّ له مقام الجمع بين الأمرين ، فيحصّل على الأجرين ).

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:38 pm

27 - فصّ حكمة فرديّة في كلمة محمديّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
27 - فصّ حكمة فرديّة في كلمة محمديّة
 تسمية الفصّ وبيان خصوصيّات الفرد
اعلم إنّ الفرد هو العدد الجامع بين الواحد والكثير ، فأحديّته أحديّة جمع من تلك الكثرة المنطوي عليها ذلك العدد ، انطواء منبئا عن التفصيل والتمييز ، فإنّ الزوج منه وإن كان له الجمعيّة المذكورة ، ولكن الغالب فيه حكم الوحدة الوجوديّة والإجمال ، والفرد منه هو الغالب فيه ، الظاهر عليه حكم الكثرة العلمية والتفصيل العددي .
فإنّك قد عرفت في المقدّمة أنّ العدد هو الكاشف عن الحقائق بصورها الظاهرة سمعا وبصرا ، كشفا ختميّا منبئا عن التفصيل كنهه وهو المعبّر عنه بإراءة الأشياء كما هي - على ما هو مؤدّى دعائه في قوله : « أرنا الأشياء كما هي » 
فالفرد الذي له الوحدة الحقيقيّة الجامعة والأحديّة الذاتيّة الكاشفة هو الصالح لأن يوصف ويتبيّن به الحكمة التي في الكلمة الختميّة المحمديّة ، على ما يلوّحك على ذلك ما نبّهت عليه عند الكلام على فهرست الكتاب ونضد فصوصه .
 
وجه اختصاص الحكمة الفردية بالخاتم صلَّى الله عليه وآله
وأيضا الفرد في أصل اللغة هو الذي لا يختلط به غيره ، فهو أخصّ من الواحد ، فإنّه الواحد الخاصّ الذي له الإحاطة الكلَّية ، بحيث لا يمكن أن يختلط به ما هو غيره من أحديّة جمعيّته الذاتيّة ، فالحكمة التي تتّصف بالفرديّة هو الذي لأكمل الموجودات ،
وإليه أشار بقوله : ( إنما كانت حكمته فرديّة لأنّه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني ) الذي هو أكمل الأنواع ، فإنّ الكمال بحسب الجمعيّة الأسمائيّة ، فكلّ ما هو أجمع آثارا وأحكاما للأسماء فهو أقرب إلى الذات وأكمل وبيّن أنّ الجمعيّة التي في الإنسان ليست لغيره من الأنواع وكذلك شخص الخاتم منه ، فإنّ نسبته إلى غيره من الأشخاص كنسبة نوعه إلى الأنواع ، كما عرفت تحقيقه في المقدّمة ، فهو لجمعيّته الكماليّة أكمل الموجودات وأقربها نسبة إلى الذات .
 
( ولهذا بدء به الأمر وختم ) فإنّك قد عرفت في غير موضع من هذا الكتاب أنّ الآخر لا بدّ وأن يكون عين الأول بالذات ووجه تحقيقه هاهنا وتطبيقه على ما نحن فيه ، أنّ الخاتم بحقيقته التي هي البرزخ الجامع بين الواحد والأحد ، يظهر به سائر الموجودات بخصائصها وتعيّناتها ، وكأنّك قد اطَّلعت على ذلك مرارا وبيّن أنّ النبيّ إنّما هو مظهر للأشياء بخصوصيّاتها وأحكامها.
 
خاتم وآدم
( فكان ) الخاتم ( نبيّا ) مظهرا للأشياء على ما هي عليه ، آتيا بجوامع مسمّياتها ، ( وآدم ) حينئذ في تفرقة الأسماء ، ما تمّ مزاجه الجمعيّ بعد ، بل إنّما ظهرت منه نسبة ( بين الماء ) الذي هو صورة معلوميّته في حضرة العلم ، الذي عبّر عن ظاهره بالإمكان ، ( والطين ) الذي هو صورة عنصريّته الأصليّة ، وقابليّته الذاتيّة ، التي صورتها الوجود المعبّر عن ظاهره بالوجوب .
فآدم بين قاب قوسي الوجوب والإمكان ، وخاتم بنقطة النطق الإنبائي أقرب وأدنى من أن يسع فيه التمايز والتقابل ، وبذلك القرب تمكَّن أن يكون في كنه البطون منبئا عن غاية الظهور والإظهار .
هذا بأحد الاعتبارين منه . فأما بالآخر منها فيكون فيه كاشفا عن تمام الشعور والإشعار .
والأول مقتضى خصوص النبوّة والثاني خصوص الولاية ومن ثمّة قيل :
إنّ خاتم الولاية يقول : "كنت وليّا وآدم بين الماء والطين " - كما صرّح به صاحب المحبوب - وفي لفظ المصنف إشعار بهذا التفصيل ، حيث أورد الخاتم بإطلاقه .
( ثمّ ) إذا استعدّت الطينة العنصريّة الآدميّة بكمال الامتزاج الوحداني الاعتدالي لأن يظهر فيها تلك الحقيقة ، ظهرت بها ، و ( كان بنشأته العنصريّة خاتم النبيّين ) فالنبوّة له في الطرفين ، أولا وآخرا ، وما بينهما مما ينطوي تحت برزخيّة الجامعة من الحقائق الأسمائيّة الدالة هو آدم ، الذي هو مصدر صارت تسعة ، وهي منتهى الأفراد ،
 
وحصولها إنّما هي عنها عند دورانها بنفسها على نفسها ، وهي منطوية على ما دونه من الأفراد ( فظهر أنّ ) الثلاثة بين الأفراد والأعداد لها الأكمليّة الختميّة باستجماعها صورتي بدء الكثرة التفصيليّة وختمها وبيّن أنّ هذه الأكمليّة للثلاثة إنّما هي من وصف أوليتها المستتبعة للآخريّة ، ولذلك أشار إليه في عبارته حيث قال : « وما زاد على هذه الأوليّة » علم أنّ الثلاثة - من الأفراد والأعداد الدالَّة على الحقائق بخصائصها - هو أوضح دليل على الواحد الحقيقي ، الذي هو الأول والآخر .
 
كان الخاتم صلَّى الله عليه وآله أول دليل على ربّه
( فكان - عليه الصلاة والسلام - أدلّ دليل على ربّه ) ، فتبيّن وجه اختصاص الكلمة بحكمتها .
وأمّا بيان أنّه صلَّى الله عليه وسلَّم أدل دليل على ربه : ( فإنّه أوتي ) جوامع الكلم ، المعربة عن الإجمال والتفصيل ، الكاشفة عن التنزيه في عين التشبيه ولذلك تراه قد أعرب عن أحديّة الجمع في عين التفرقة التي من أفعاله وأقواله ، وأظهر كنه بواطن الكلّ في ظواهر الكلم ،
 
وهو المشار إليه بقوله : ( جوامع الكلم التي هي مسمّيات أسماء آدم ) فإنّه إنّما ظهر بصور الكلم عند تعليم الأسماء التي لها ظاهرا ، وخاتم إنّما ظهر بحقائقها وخصوصيّاتها الكماليّة التي لسائر الأنواع والأشخاص ، ظهورا وإظهارا ، شعورا وإشعارا ، فهو الآتي بجوامع خصوصيّات الكلم بالإنباء عن خصوصيات مراتب الكمّل منها ، وذلك هو المشار إليه بمسمّيات أسماء آدم ، أي الأسماء الذي تفرّد آدم بتعليمها فالكلم هاهنا على عرفه المعروف من مطلع الكتاب .
 
ثمّ إنّ جامعيّة الكلم على ما ظهر إنّما يتمّ باحتياز الأسماء ومسمّياتها ، والجمعيّة التي هي عبارة عن خصوصيّة كلّ منها بمسمّاه ، ومن هاهنا قال : ( فأشبه الدليل ) أيضا ( في تثليثه ) الذي له في النشأة البدئيّة والختميّة والبرزخية الآدميّة ، كما وقفت عليه .
 
ثم يمكن أن يقال هاهنا : « إذا كان صلَّى الله عليه وسلَّم جامعا بين بدء الوجود وختم الإظهار وما بينهما من الجمعيّة الآدميّة ، فأين المدلول الذي هو دليل عليه » ؟
أشار إلى دفعه بلسان الإجمال قائلا: ( والدليل دليل لنفسه ) لا مجال للتفرقة والتفصيل ، النافيين للجمع والإجمال عند الفحص عما عليه الحقيقة الختميّة ، كما عرفت تحقيقه مرارا .
 
ثمّ هاهنا تلويحا حكميّا ، وهو أنّ أحديّة الجمع التي هي خصوصيّة الكمال الختميّ كما عرفت تقتضي التثليث لذاتها ، وذلك لأنّ الجمع إنّما يتحقّق بالاثنين ، وأحديّته هو الثالث الذي يثّلثه .
ومن هاهنا ترى « الختم » هو صورة « الجيم » بعينه ، غير أنّه ظهر فيه ما بطن في الجيم من النقط الثلاث التي هي صورة أحديّة الجمع - فلا تغفل .
 
ظهور التثليث في الكلام النبويّ
(ولما كانت حقيقته تعطي الفرديّة الأولى بما هو مثلَّث النشء ، لذلك قال : في المحبّة التي هي أصل الوجود : "حبّب إليّ من دنياكم ثلاث " ) فعبّر عن ذلك الأصل ( بما فيه التثليث ) الذي فيه كمال التفصيل وختمه ، وهو لفظ « حبّب » الملوح على الثلاثة عقدا .
وحيث أنّ أصل الوجود يقتضي الإجمال عبّر عنه بصيغة المبنيّ للمفعول الذي فيه ، ثم أوصلها بـ « إلى » و « من » ، الدالتين بحسب أصل الوضع على المبدء والغاية ، الذي عليهما مبنى أمر الوجود ، كما لوّح إليه بقوله : " أجد نفس الرحمن من جانب اليمن " . المعجم الكبير للطبراني
ثم أشار إلى النشأة الجامعة وما يترتّب عليها ويثمر شجرة جمعيّتها ممّا ينبئ عمّا عليه أمره - وهو صورة التفصيل العدديّ - بقوله : " دنياكم ثلاث " .
 
لميّة ذكر النساء والطيب والصلاة في الحديث
( ثم ) بيّن تلك الصورة بتفصيل الأفراد بأعدادها وأحكامها و ( ذكر النساء والطيب ) الذين بهما عبّر عن جملة ما يحتظى به ويستلذّ منه بحسب ظهوره لنفسه من الملاذّ الحسّية المحصورة في الصور الخمسة .
فإنّ النساء قد اشتملت على الثلاثة منها : على مدرك اللمس وما يجري مجراها وهو الذوق ، وعلى مدرك البصر والطيب يشمل على الاثنين منها ، يعني مدرك السمع والشم وذلك لأنّ الطيب في الحقيقة عبارة عن الهواء الحامل لما يستلذّه الحاسّة ، وهو شامل للمدركين .
 
ثمّ إنّ هذه المستلذات الدنياويّة التي بحسب ظهور الشخص لنفسه ممّا اشترك فيه سائر الناس ، بل الحيوانات أيضا ، وما تفرّد به الكمّل من أفراد الإنسان ، كالأنبياء ومن يحذو حذوهم - من مستلذّات الدنيا ، هي التي لهم بحسب الإظهار على الأمم والتابعين من أهل نسبتهم ، وبه قرّت أعينهم وانبسطت ذواتهم وشاعت خصوصيّاتهم ،
وذلك بوضعهم الصور والنواميس المختصّة بهم ومواطأتهم لها ليقتدي بهم الأمم عند التزامهم إيّاها ، ويستوثق بذلك رقيقة النسبة التي بها يتصرّف الكمّل في أصحابهم وأممهم ، حتّى يتمكَّنوا من هدايتهم وتسليكهم مسالك الرشد والتكميل ، كالصلاة مثلا للخاتم وبيّن أنّ هذا النوع من الملاذّ إنّما يتمّ بجعل من الله وإلقاء قبول منه في قلوب الأمم ،
وإليه أشار بقوله : ( وجعلت قرّة عينه في الصلاة ) - من قولهم : « قرّت عينه » : أي سرّ
وانبسط - فإنّه بالصلاة التي هي أتمّ الصور الموضوعة وأكمل النواميس المنزلة ، انبسطت خصوصيّة عينه وذاته ، وذلك الانبساط غاية ما يستلذّ به الإنسان في الدنيا ، سيّما المبعوثين للدعوة والإظهار والخاتم لهم .
 
وقد رأيت في كلام الشيخ المؤلف عند تحقيق معنى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : « آخر ما يخرج من رؤس الصديقين حبّ الجاه » أنّ « يخرج » هاهنا بمعنى يطلع ويبرز ، وهذا مما يؤيّد ما نحن فيه .
 
( فابتدأ بذكر النساء ) التي هي مولد كمال الظهور ( وأخّر الصلاة ) التي هي منتهى أمر الإظهار ( وذلك لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها ) .
 
من عرف نفسه عرف ربّه
(ومعرفة الإنسان بنفسه مقدّمة على معرفته بربّه ، فإنّ معرفة ربّه نتيجة عن معرفته بنفسه ) ومعرفة الإنسان بنفسه هي الدليل على معرفته بربّه ، فإنّ نفس الإنسان لاشتمالها على أول الأشكال - الذي هو أبينها وأجمعها لوجوه المتقابلات والمتناقضات - هي التي يصحّ أن يستنتج منه المعرفة التامّة المنطوية على مقدّمتي التنزيه والتشبيه ، ( لذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : " من عرف نفسه فقد عرف ربّه ").
( فإن شئت قلت بمنع المعرفة في هذا الخبر والعجز عن الوصول ، فإنّه سائغ فيه ) وهي المقدمة الكاشفة عن طرف التنزيه ، ( وإن شئت قلت بثبوت المعرفة ) وهي المقدّمة الكاشفة عن التشبيه وبهاتين المقدّمتين تتمّ المعرفة بطرفيها وبهما يعلم الإطلاق بحقيقته والوحدة الذاتيّة بصرافتها .
 
(فالأول أن تعرف أنّ نفسك لا تعرفها ، فلا تعرف ربّك ) ، وهو مشرع العقل وموطن إدراكه ، وقد قيل فيه : " العجز عن درك الإدراك إدراك " .
( والثاني أن تعرفها ، فتعرف ربّك ) وهو مشهد الذوق وموطن تحقّقه - كما عرفت بيان ذلك سابقا .
 
كان محمّد صلَّى الله عليه وآله أوضح دليل على ربّه
ثمّ إذ قد عرفت أنّ معرفة الإنسان مطلقا دليل على معرفة الربّ ، وقد عرفت أنّ حقيقة محمد هي أقرب الحقائق إلى الحقّ ، وأكملها حيطة ، وأتمّها إنباء وإظهارا ، ولذلك تراه عند الظهور بالتعيّن الشخصيّ المحمديّ ، آتيا بالكلام الكامل والعربيّ المعرب ( فكان محمّد أوضح دليل على ربّه ) لقربه إليه وبيّن أنّ الدليل كلما كان أقرب إلى المدلول كان أبين وأوضح .
 
ووجه قربه منه إنّه كأنّك قد اطَّلعت - فيما بيّنا لك سالفا - أنّ العالم بمجموعه مشتمل على ضربين من الأجزاء : أحدهما تعيّنات فرقيّة كونيّة يجمعها آدم جمعا عينيّا ، والآخر أعيان جمعيّة وجوديّة يجمعها الخاتم جمعا شهوديّا فالخاتم له أحديّة بين التعيّنات الفرقيّة والأعيان الوجوديّة من حيثيّتي آدميّته وخاتميّته ، ولا جمعيّة فوق هذه الكلَّيّة الإحاطيّة ، فله الكمال الأحديّ ، الذي ليس كمثله شيء ، ومن هاهنا يتمّ الدليل عين المدلول ، كما أشار إليه .
 
إذا عرفت هذا فاعلم إنّ لكلّ جزء من العالم - كونيّا كان أو وجوديّا - رقيقة ارتباطيّة إلى أصله ، ( فإنّ كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربّه ) وتتفاوت الأجزاء في دلالته على ذلك الأصل بحسب الحيطة والجمعيّة .
( فافهم ) ، فقد نبّهت على ما به يفهم ، فلا نعيده .
 
شوق الربّ إلى مربوبه
وإذ قد عرفت وجه كلَّية محمد بالنسبة إلى باقي أجزاء العالم ( فإنما حبّب إليه النساء ، فحنّ إليهن لأنّه من باب حنين الكل إلى جزئه ) ، وبيّن أنّ حكم الخاتم كلَّيّ يشمل أحكام سائر المراتب ، فإنّها قوانين كلَّية وأصول راسخة تنطبق على سائر الجزئيّات والفروع ( فأبان بذلك ) البيان ( عن الأمر في نفسه من جانب الحقّ ) بالنسبة إلى العبد ( في قوله في هذه النشأة الإنسانيّة العنصريّة :
" وَنَفَخْتُ فِيه ِ من رُوحِي " فإنّه معرب عن الارتباط المذكور بين الكل والجزء .
( ثمّ وصف نفسه بشدّة الشوق إلى لقائه ، فقال للمشتاقين ) الذين من جملتهم داود ، مخاطبا إيّاه في بساط إيّاه في بساط قربه وحريم مباسطته : ( « يا داود إني أشدّ شوقا إليهم » - يعني للمشتاقين إليه ) .
 
الشوق واللقاء
ثمّ إنّ الشوق في عرف أهله ما يكون للمحبّ في غيبة المحبوب ، كما قيل : "الشوق يسكن باللقاء ، والاشتياق يزيد " .
ففي الكلام هاهنا نوع تدافع حيث أنّه قال من جهة المقرّبين المشتاقين الذين من جملتهم داود :
« إنّي أشدّ شوقا إليهم » ،
ولذلك قال : ( وهو لقاء خاصّ ) دفعا لما يتوهّم من التدافع ، وهو اللقاء الخالص عن شوائب الحجب المحفوفة بها هذه النشأة العنصريّة الإنسانيّة ، ( فإنّه قال في حديث الدجال : " إنّ أحدكم لن يرى ربّه حتّى يموت " ) ويتحقّق بالجمعيّة الكماليّة ، خالصة عن شوائب الحجب والنسب التي له في زمان قربه إيّاه .
 
( فلا بدّ من الشوق لمن هذه صفته ) وهو أن يكون مع كمال القرب منحجبا غير محظوظ عن المشاهدة ، كما قيل :وأبرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الخيام من الخيامفاللقاء الحاصل له بعد الموت ، له صفة خاصة من الجمعيّة الكماليّة التي تتبع رفع الحجاب من كمال العزّة والاستغناء مع البذل والعطاء ، فإنّ الحجاب مقتضى العزة كما أنّ رفعها مقتضى البذل والقبول ،
 
كما قيل :لبسن الوشي لا متجمّلات
ولكن كي يصنّ به الجمالاوتلك الخصوصيّة المرغوبة إليها إنّما نشأت من هذه النشأة الحجابيّة ، لا من الموت ، فإنّ رفع الحجاب عدميّ ، والأثر إنّما هو لما يتبعه من المشاهدة ، فمبدأ تلك الخصوصيّة الكماليّة التي في اللقاء بعد الموت من هذه النشأة أيضا لا من الموت كما قال المتنبي:
فراق ولكن فيه قد جمع الشمل  .... وهجر ولكن منه يكتسب الوصل
 
شوق الحقّ تعالى لماذا ؟
(فشوق الحقّ لهؤلاء المقرّبين ) في الدنيا المنحجبين عنه بسائر الحجب مطلقا وبهذه الجمعيّة والإطلاق استحصل القرب ، ولذلك سمّي هذه النشأة الجمعيّة بالدنيا ، والقرب أيضا من الحجب ، كما قيل :-
وفي القرب تبعيدي عن إدراك ذاته  ..... ومالي سوى الذات النزيهة مطلب
 
""أضاف الجامع :   عن حجاب القرب
القرب حجاب عن الذات ، لأن فيه مشاهدة بقاء الرسم ، ومن بقي رسمه فلا مشاهدة ومن لا مشاهدة له فلا معرفة له بالذات كما قيل .
وفي القرب تبعيد عن إدراك ذاته ..... وما لي سوى الذات النزيهة مطلب
  ص 65 كتاب الحجب الشيخ ابن العربي ""
 
فهذا الحجاب هو الذي منع أهل هذه النشأة أن يروه ( مع كونه يراهم ) وهم في غفلة وذهول عن أنّهم بمرأى منه ومسمع ، ( فيحب أن يروه ، ويأبى المقام ذلك ) ، فإنّ قهرمان الأمر إنّما هو للمقام ، وهو يمنع اللقاء كما عرفت .
 
اللقاء لا يمكن إلا بالموت
وفيه إشارة إلى أنّ الحجاب إنّما هو لأهل المقام ، يختص بهم فإنّ المنخلعين عنه قد ماتوا عنه ، وبما انخلعوا وماتوا عنه حصل لهم اللقاء ، فشوق الحقّ إنّما هو لرؤيتهم له ، وإن كان ذلك أيضا رؤيته ، ( فأشبه ) الرؤية هذه بالعلم المشار إليه في ( قوله ) تعالى : "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ " ( " حَتَّى نَعْلَمَ " ) " الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ " [ 47 / 31 ] ( مع كونه عالما ) .
 
(فهو يشتاق لهذه الصفة الخاصة التي لا وجود لها إلَّا عند الموت ) - إراديّا كان أو طبيعيّا - أو جامعا بينهما فالحيّ الذي لم يتحقّق به لم يكن له نصيب من هذا الشوق ، والمتحقّق بقدر ما تحقّق به يحصل له السهم منه ، فأهل حجاب الدنيا قاصرون في الشوق .
( فنبل ) الحقّ ( بها ) - أي بهذه الخاصيّة - ( شوقهم إليه ) ، أي فضل على شوقهم بهذه الصفة ، من قولهم : « نبل » - بالضم – " ينبل " : إذا فضل وكبر وهو إشارة إلى مؤدّى قوله : " أشد شوقا " فعلم إنّ الأحياء - في أيّ مرتبة كانوا - قاصرين في الشوق .
 
(كما قال تعالى في حديث التردّد - وهو من هذا الباب - : « ما تردّدت في شيء أنا فاعله ، تردّدي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ، ولا بدّ له من لقائي » فبشّره ) بما هو غاية الموت من اللقاء ، ( وما قال له : « ولا بدّ من الموت » ، لئلا يغمّه بذكر الموت ) على ما هو مقتضى مقام الشوق
 
( ولمّا كان لا يلقى الحقّ إلَّا بعد الموت ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " إنّ أحدكم لا يرى ربّه حتى يموت " لذلك قال تعالى :" ولا بدّ له من لقائي " فاشتياق الحق لوجود هذه النسبة ) الجمعيّة التي هي غاية هذه النشأة الكماليّة ومنتهى أمرها .
 
المحبوب والمحبّ هو الحقّ  
ثمّ ليعلم إنّ الحقّ في لسان الظاهر هو المحبوب ، على ما دلّ عليه هذا المساق ، وإن كان نسبة المحبّية والمحبوبيّة إليه على السواء ، كما هو مؤدّى قوله تعالى : " يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه ُ "
ولكن إذا تكلَّمت بلسان الكثرة العبديّة ، وهو بعد استكمال العبد وجودا ، وشرع كذا في طيّ مسالكه شهودا ، فالحقّ هو المحبوب ، ليس إلَّا ، على ما أشار إليه " يُحِبُّونَه ُ ".
وإذا تكلَّمت بلسان الوحدة الحقيقيّة ، متوجّهة في قوس تنزلها الوجودي إلى استكمال العبد ، هو المحبّ ، على ما أومى إليه " يُحِبُّهُمْ " ولذلك تراه إذ قد أفصح عمّا عبّر عنه اللسان الأول بصورة الحديث القدسيّ ، أشار إلى ما نطق به اللسان الثاني بصورة النظم الكونيّ ، جمعا بين اللسانين وإفصاحا عن مؤداهما ، فلا تغفل ، وهو قوله :
( يحنّ الحبيب إلى رؤيتي ... وإنّي إليه أشدّ حنينا )
كما أنّ في اللسان الأول كان الحبيب أشدّ شوقا ، فـ « القاف » هذا قاف « القدس » ظاهرا من شين « شعوره » الذي هو من شعائر شاكلته كما أنّ نون « الحنين » نون « الكون » ظاهرا من حاء « الحيطة » و « الحواية » و" الحيازة " .
 
(فتهفو النفوس و يأبى القضاء ... فأشكو الأنين و يشكو الأنينا)
( فتفهوا النفوس ) أي تخفق ، من « هفا الطير » : إذا خفق للطيران .
( ويأبى القضاء . ويشكو الأنين ) حيث قال أولا : « وإنّي أشدّ شوقا إليهم » ( وأشكو الأنينا ) حيث قال : « وإنّي إليه أشدّ حنينا » . وفي التعبير عن المشتكى عنه بالأنين تلويح إلى مبدأ تلك الشكاية ، يعني الإنيّتين الفارقتين .
 
لمّا كان الروح من الحقّ فما اشتاق إلَّا لنفسه
فمن هذه الحكمة ظهر وجه تسمية محمد صلَّى الله عليه وسلم حبيبا ، وأصل ذلك من قوله :
" نَفَخْتُ فِيه ِ من رُوحِي " [ 15 / 29 ] وستطلع منه على وجه شفاعته أيضا .
( فلمّا أبان أنّه نفخ فيه من روحه ، فما اشتاق إلَّا لنفسه ) فإنّ الروح من كلّ شيء هو نفس ذلك الشيء وعينه ، ( ألا تراه خلقه على صورته )  فإنّ الروح من الشيء ، هو الذي يستجلب صورته الخاصّة به ، كما تراه عند ظهور الاعتدال الهوائي الذي هو روح النبات في الربيع ، كيف يستجلب روح كل واحد منه على التفصيل ما يتصوّر به من الصورة الخاصّة به في الحسّ . وهذا الأصل يقتضي أنّ الإنسان على صورة الله ( لأنّه من روحه ) .
 
للنفخ نسبتان
ثمّ إنّ النفخ - الذي عبّر به في الكلام المنزل الختمي عن إفاضة الروح ، ونسبة تقويمه الأجساد وإخراجها عن مكامن القوّة - نسبتان : له نسبة إلى المنفوخ فيه ، ونسبة إلى النافخ به قد أشار إليهما مفصلا :
أمّا النسبة الأولى فهي المشار إليها بقوله : ( ولمّا كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة ) العنصريّة المتقوّمة بها سائر الأمزجة من المواليد المشكَّلة في كلّ مزاج بصورته ، ( المسماة ) عند تقويمها المزاج الإنساني ( في جسده « أخلاطا » ) فإنّ الأركان الأربعة ما لم يظهر بصور الرطوبات الكيموسيّة ذوات الطبائع المتقابلة القابلة للتشكَّل بالأشكال المتخالفة والصور المتباينة ، لم يتحصّل منه جسد ذو اعتدال حيواني ، فضلا عن الإنسانيّ .
 
ثمّ إنّ من هذه الرطوبات ما غلب عليه الخفيفان ، ومنه ما غلب عليه الخفيف المطلق فلذلك ( حدث ) منه ( عن نفخه اشتعال بما في جسده من الرطوبة ) ، لما تقرّر في القوانين الطبيعيّة وأصولها أنّ الخفيف المطلق إذا أمدّه الرطوبة الدهنيّة - التي غلب فيها حكم الخفيف المضاف - اشتعل بقوّة المناسبة عند النفخ الموجب للاختلاط والامتزاج ، فظهرت تلك الرطوبة بصورة النار المشتعلة .
قال رضي الله عنه :  ( فكان روح الإنسان نارا من أجل نشأته ) أي من حيث روحه الحيوانيّ ، الذي هو صورة جمعيّة الظهور والإظهار ( ولهذا ما كلَّم الله موسى إلا في صورة النار ) ، فإنّ الكلام هو صورة خصوصيّة الإنسان وكماله الخاصّ به في تلك الصورة ، وغايته المطلوبة منه ، ( و ) لذلك ( جعل حاجته فيها ) عند التكلَّم بها .
 
فعلم إنّ نشأته الجمعيّة هذه نشأة عنصريّة جسمانيّة ، لا طبيعيّة روحانيّة ، كما هو نشأة الملائكة قال رضي الله عنه :  ( فلو كانت نشأته طبيعيّة لكان روحه نورا ) لا نارا مشتعلة من رطوبات الأخلاط الجسمانيّة .
هذا بالقياس إلى المنفوخ فيها من النسبة الجمعيّة والجهة الاشتراكية .
 
نفخ الروح من نفس الرحمن
وأمّا بالقياس إلى النافخ : فقد أشار إليها بقوله : ( وكنّى عنه بالنفخ يشير إلى أنّه من نفس الرحمن ) ، والنفخ حقيقة إنّما هو النفس الخارج من الإنسان نحو مادّة ، وهو البخار الدخاني الذي أخرجه القلب بحركته الانقباضيّة ، ليتروّح بجذب الهواء الصافي عند حركته الانبساطيّة .
وذلك لأنّ الهواء مهما لبث في القلب تسخّن من نار الحرارة الغريزيّة ، فتدخن لطيفه ، فينقبض القلب بإعصار أجزائه إخراجا له ، ثمّ ينبسط لأن يجذب به الهواء البارد ، تعديلا لمزاج القلب ، وبيّن أنّ النفخ بهذا المعنى إنّما يطلق على النفس الرحماني بضرب من الشبه والمجاز ، ولذلك قال : " وكنّى عنه " في بيان هذه النسبة .
 
أمّا بيان ذلك الشبه ( فإنّه بهذا النفس - الذي هو النفخة - ظهر عينه ) التي هي الكلمة الجامعة الوجوديّة ، كمًّا أنّ بذلك النّفس الإنسانيّ ظهر عيون الكلمات الكاملة الإظهاريّة .
 
ثمّ إنّه من مؤدّى هذا الوجه يلزم أن يكون نشأته هذه - نوريّة - لا ناريّة - فلذلك استدركه بأنّ هذه الجهة باعتباره إلى النافخ ، والنشأة هي الحاصلة له باعتبار استعداد المنفوخ فيه على ما لا يخفى .
قال رضي الله عنه :  ( وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال نارا ، لا نورا ، فبطن نفس الحق ) الذي هو جهة نسبة النفخ إلى النافخ ( فيما كان به الإنسان إنسانا ) من الجهة التي هي أصل قابليته واستعداده ، وهو جهة نسبة النفخ إلى المنفوخ فيه .
 
سبب محبّة الرجل للمرأة
قال رضي الله عنه :  ( ثمّ اشتق له شخصا ) هذا إفصاح عمّا هو المقصود من هذه المقدّمات ، وهو سبب تحبّب الخاتم للنساء أولا وذلك إنّه إذ قد بطن نفس الحقّ في الإنسان - بما هو إنسان - وقد عرفت أنّ الغاية من هذه الحركة الإيجاديّة إنّما هي الظهور والإظهار ، اشتقّ للإنسان من جهة ظهوره تحصيلا للغاية المطلوبة شخصا ( على صورته ) يظهر به نفسه - ظهور الشيء في المرآة - ولذلك ( سمّاه « امرأة » فظهرت بصورته ، فحنّ إليها حنين الشيء إلى نفسه ، وحنّت إليه حنين الشيء إلى وطنه ) ، واتّصل رابطة النسبة من الطرفين ، ودارت وهي كمال النسبة المعبّر عنها بالمحبّة
 
قال رضي الله عنه :  ( فحبّب إليه النساء ) إذ كمال النسبة إنّما هو بين الشيء وما هو بمنزلة نفسه ، مما ظهر به صورته الشخصية ، وتعاكس النسبة ظاهرة بصورتها الكماليّة الدورية ، ولذلك ظهرت المحبّة بينهما .
 
قال رضي الله عنه :  (فإنّ الله أحبّ من خلقه على صورته ، وأسجد له ملائكة النوريين ) سجود اتّضاع وخضوع ( على عظم قدرهم ومنزلتهم ) في رتبة الوجود ( وعلوّ نشأتهم الطبيعيّة ) من حيث ظهورهم في أنفسهم .
قال رضي الله عنه :  ( فمن هناك وقعت المناسبة ) - أي بالصورة وقعت المناسبة بين الله وآدم وكذلك بين آدم وزوجه - ( والصورة أعظم ) الوجوه ( مناسبة ، وأتمّها ) شبها ، ( وأجلَّها ) قرابة ، ( وأكملها ) حيطة ، لما به الاتحاد والاشتراك ، وذلك لأنّ الصورة من الشيء تماثله في هيأته الجمعيّة ومشخّصاته العينيّة ، ( فإنّها زوج - أي شفّعت وجود الحقّ - ) فالتامّ في تلك الصورة الخاتم لها –
 
يقال له : "الشفيع " ، وقد وعدناك بوجه هذه التسمية عن قريب - فهو شفّع الحقّ ( كما كانت المرأة شفّعت بوجودها الرجل فصيّرته زوجا ) .
 
ظهور التثليث بين الحقّ والرجل والمرأة ، وظهور الحبّ بينهما
قال رضي الله عنه :  ( فظهرت ثلاثة ) في هذه الصورة الشفعيّة : ( حقّ ورجل وامرأة ) وقد استشعر صلَّى الله عليه وسلَّم هذا التثليث من عبارة تحبّبه النساء ( فحنّ الرجل إلى ربّه الذي هو أصله ، حنين المرأة إليه ، فحبّب إليه ربّه النساء كما أحبّ الله من هو على صورته ، فما وقع الحبّ إلَّا لمن يكون عنه ) على ما هو مقتضى أصل المحبّة ( وقد كان ) في ( حبّه ) الأصل ( لمن يكون منه ، وهو الحقّ فلهذا قال :
" حبّب إلىّ " ولم يقل : " أحببت " من نفسه ، لتعلَّق حبه بربّه الذي هو على صورته .
 
قال رضي الله عنه :  (وذلك الحبّ منه هو الأصل الذي ينشعب منه سائر جزئيّات المحبّة ( حتّى في محبّته لامرأته ، فإنّه أحبّها بحبّ الله إيّاه ) حبّ الشخص صورته ونفسه ، ( تخلقا إلهيّا ) يتفرّع على التحقيق الذاتي الذي هو محبّته لربّه وهذا من خصائص العبارات الختميّة ودقائق إشاراته اللطيفة حيث نبّه بقوله :" حبّب إليّ " على ما هو أصل المحبّة - فلا تغفل .
 
النكاح أعظم وصلة في النشأة العنصريّة
قال رضي الله عنه :  ( ولما أحبّ الرجل المرأة طلب الوصلة ، أي غاية الوصلة التي تكون في المحبّة ) ، وهو الاتّحاد في الجهة الإدراكيّة وبيّن أن المدارك البشريّة أتمّها شمولا وأعمّها حيطة وموضوعا هو اللمس الذي ما اختصّ شعوره بعضو دون آخر وأيضا فإنّه هو الذي ظهرت به النسبة الإدراكيّة بصورتها الكماليّة الدوريّة ، فإنّ الملموس هو الذي يصلح لأن ينعكس منه إلى اللامس صورة شعاع اللمس ، الواقع من اللامس على الملموس بعينها ، حتّى يتمّ الصورة الإدراكيّة في دائرتها الكماليّة الاتحاديّة .
 
وهذا من خصائص اللمس ، إذ المسموع لا يتّصل بالسامع من جهة السماع ولا المبصر بالبصر كذلك إلى غيرهما فالاتّحاد الإدراكيّ المستحصل من هذا المنهج أتمّ وأكمل ولذلك ترى الاستغراق الذي فيه والاستلذاذ الذي منه ، لا يوازيه شيء من الإدراكات ، ولا يدانيه غيره من صنوف المستلذّات التي في مرتبة الجسمانيّات .
 
قال رضي الله عنه :  ( فلم يكن في صورة النشأة العنصريّة أعظم وصلة من النكاح ، ولهذا تعمّ الشهوة أجزاؤه كلَّها ) وقد عرفت أنّ الحيطة من آيات الوحدة الإطلاقيّة ، فلذلك يترتّب عليه الاستغراق الكلَّي والفناء التامّ .
 
حكمة وجوب الغسل بعد الملامسة
قال رضي الله عنه :  ( ولذلك امر بالاغتسال منه ، فعمّت الطهارة كما عمّ الفناء فيها عند حصول الشهوة ، فإنّ الحقّ غيور على عبده أن يعتقد أنّه يلتذ بغيره ) ، فإنّ الصور الاعتقاديّة - وإن كانت غير مطابقة للواقع - لها ظهور في مرتبة من مراتب الوجود وسلطان فيها ، فرتّب اعتقاد الالتذاذ بالغير - من المتناكحين على تلك الشهوة الموجبة للالتذاذ المذكور - حدثا لا يتمكَّن العبد معه عن أداء العبادات والتزام التقرّبات .
 
قال رضي الله عنه :  ( فطهّره بالغسل ليرجع بالنظر إليه ) عند التأمّل فيه وفيما يوجبه من تصوّر الالتذاذ بالغير ، والاستغراق فيه ، والفناء ( فيمن فنى فيه ) حقيقة على ما عليه الأمر ( إذ لا يكون إلَّا ذلك ) أي لا يمكن أن يكون فناء العبد إلَّا فيه فإنّ الغير لا حظَّ له من الوجود .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:49 pm

27 - فصّ حكمة فرديّة في كلمة محمديّة الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
27 - فصّ حكمة فرديّة في كلمة محمديّة

شهود الرجل صورة الحقّ في المرأة
فإذا عرفت أنّ الملتذّ منه بهذا المدرك وغيره من المدارك من هو ، فأراد أن ينبّه إلى وجه تعيين الشارع بعض المحالّ بالحلَّيّة - كالنساء وغيرها - بالحرمة قائلا : ( فإذا شاهد الرجل الحقّ في المرأة كان شهوده في منفعل ) فقط ،

قال رضي الله عنه :  ( و إذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه ، شاهده في فاعل ) ، فعلم إنّ الشهود في مشهد استحضر به صورة المرأة كان أكمل وأجمع ، ( وإذا شاهده من نفسه من غير استحضار صورة ما تكوّن عنه ) - كالمرأة بالنسبة إلى الرجل – ( كان شهوده في منفعل عن الحقّ بلا واسطة ) تكون لها منزلة الفاعليّة .

قال رضي الله عنه :  ( فشهوده للحق في المرأة أتمّ وأكمل ) ، ضرورة احتواء مشهدها طرفي الفعل والانفعال ، اللذين قد عبّر عنهما في الحضرات الإلهيّة بطرفي التشبيه والتنزيه ، ( وذلك لأنّه يشاهد الحقّ ) في هذه المجلاة العظمى ( من حيث هو فاعل منفعل ، ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة ) ، وقد علم من هذا وجه كمال الالتذاذ الذي في الوصلة النكاحيّة وفي سائر الازدواجات والمصاحبات الجسمانيّة الموجبة لصنوف الإدراكات وفنون اللذّات .

قال رضي الله عنه :  (فلهذا أحب صلَّى الله عليه وسلَّم النساء ، لكمال شهود الحقّ فيهنّ ، إذ لا يشاهد الحقّ مجرّدا عن الموادّ أبدا ) ، أي في سائر المشاهد والمجالي التي في الحضرات الإطلاقيّة والعوالم التقييديّة ( فإنّ الله بالذات غنيّ عن العالمين ) .
وكأنّك قد اطَّلعت على أنّ الغناء المطلق الذي هو الكمال الذاتي ينفي تغاير الثنويّة والسوائيّة التي لا يمكن الشهود بدونه أصلا .

قال رضي الله عنه :  ( فإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ، ولم تكن الشهادة إلَّا في مادّة ) - وبيّن أنّ الموادّ متفاوتة بحسب الجمعيّة والكمال ، كما أنّ المرائي متفاوتة في صفائها وضيائها ، قال رضي الله عنه :  ( فشهود الحقّ في النساء أعظم الشهود ) لاشتماله على الوجهين حسبما عرفت آنفا ( وأكمله ) لأنّها أكثر جمعيّة من سائر المشاهد المادّية ، لأنّ الجمعيّة الكماليّة التي اختصّ بها الإنسان قد تفرّدت بها على مزيد منها ،

حيث أنّها أنزل أفراده وقد عرفت من قوانين التحقيق أنّ الأنزل أجمع وأكمل ، ولذلك ترى الشهود فيها قد انطوى على أعظم الوصلة ، وهي التي الشاهد يلتذ فيها بجميع الأجزاء الماديّة ( وأعظم الوصلة النكاح ) المنطوي على غاية يلتذّ فيها الناكح بجميع الأعضاء الجسمانيّة ، غير مختصّ بالمشاعر الروحانيّة والبرزخيّة .


اللمس أنزل المراتب الإدراكيّة وأكملها
فإنّك قد عرفت أنّ اللمس أنزل المراتب الإدراكيّة وأكملها ، ولذلك ترى مداركه غير مختصّة بعضو دون آخر ، ولا بظاهر الأعضاء فقط ، فله الإحاطة والجمعيّة بحسب شمول الموضوعات والأفراد ، فإنّه ما من حيوان إلَّا وله هذه القوة - سواء كان تامّ الخلقة أو غير تامّها - وأيضا هو الذي بين سائر المدارك والمشاعر غير محتاج عند إدراكه إلى الواسطة ، كالهواء والضياء في المشعرين الإلهيّين - على ما عرفت - وكذلك كالهواء والرطوبة في الآخرين .

هذا في المشاعر الحسيّة الظاهرة وأما الباطنة منها فمحتاجة أيضا إلى ضرب ما من الصورة - أو ما يجري مجراها - بواسطتها تدرك ذلك ، بخلاف اللمس ، سيّما في الحالة التي هي غاية النكاح ، فإنّك قد عرفت أنّ الإدراك فيها لظهوره بصورته الكماليّة الدوريّة يستتبع لذّة كماليّة لا يوازيها غيرها .

توجيه محبّة النساء بلسان التحقيق
هذا وجه خصوصيّته بلسان الحكمة المتعارفة الظاهرة ( و ) وجه خصوصيّة ذلك بلسان التحقيق - الذي هو منتهى أطوار الحكم - ( هو ) أنّه
قال رضي الله عنه :  ( نظير التوجّه الإلهيّ على من خلقه على صورته ) ، يعني الإنسان الذي هو غاية الحركة التوجّهيّة الإيجاديّة التي بيديه قد توجّه الحق إليها ( ليخلقه فيرى فيه نفسه ) .
ووجه المناسبة بينهما هو أنّ الشاهد - هذا - أخذ مشهوده منفعلا بيديه مقابلا له ( فسوّاه ) تسوية قابل بها كل جزء من الفاعل زوجه من مقابله ، فتحصل منها صورة دائرة ( وعدّله ) عند استواء ميزان التقابل بين جملة أعضائه وأجزائه ، حيث لا يكون لإحدى الكفّتين رجحان عند كمال التوجّه والحركة الشوقيّة التي هي عبارة عن السعي في ذلك التعديل ، إلى أن يترتّب عليه غايته ، ( ونفخ فيه من روحه الذي هو نفسه ) لما عرفت أنّ النفخ هو النفس الرحماني .
فعلم إنّ النكاح له صورة جمعيّة كماليّة ، ( فظاهره خلق ، وباطنه حقّ ) وقد سلف لك مما مهّد من الأصول ، أنّ الباطن هو الذي له الفعل والتأثير .

قال رضي الله عنه :  ( ولهذا وصفه بالتدبير لهذا الهيكل ، فإنّه تعالى وهو العلو ) روحانيّا كان أو جسمانياًّ لطيفا ، فهو الذي له منزلة الرجل (" يُدَبِّرُ الأَمْرَ من السَّماءِ إِلَى الأَرْضِ " [ 32 / 5 ] وهو أسفل سافلين ) فإنّها لو لم يكن كذلك ما كان أسفل مطلقا ، إذ لو كان تحتها أسفل ، كان عاليا بالنسبة إليه ، فما كان أسفل مطلقا ، ولا يترتّب عليها حكمها الخاصّ بها ، وهو حكم الأنوثة والأمومة ، وهو في الأجسام يختصّ به ركن الأرض ( لأنّها أسفل الأركان كلها ) .


وجه التعبير في الحديث بالنساء دون المرأة
ثمّ إنه قد أشار إلى وجه خصوصيّة عبارة " حبّب إليّ " هاهنا ، فأراد أن يبيّن وجه خصوصيّة عبارة « النساء » ، قائلا : ( وسمّاهن بـ " النساء " ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ) ، كما أنّ مرتبة الأمومة هي طرف الكثرة الجمعيّة التي لا يقابلها الواحد ، وتلك الكثرة هي التي باعتبار آخر يقال له الواحد بالوحدة الحقيقيّة ، وهو طرف الابوّة والأول مولد النسب ، والثاني مسقطها - كما عرفت .


قال رضي الله عنه :  (ولذلك قال عليه السّلام : « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : النساء » ) مبيّنا للثلاث به ( ولم يقل : « المرأة » فراعى ) في اعتبار مفهوم الاشتقاق اللغوي ( تأخّرهن في الوجود عنه ، فإنّ « النسأة » : هي التأخير قال تعالى : " إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ في الْكُفْرِ ").
وهو الستر الذي من مقتضى أمر الإظهار والظهور ، وإنّما كان زيادة في الكفر ، لأنّ حكم التعيّن الذي به الكفر ومنه الستر ، قد غلب على النساء بفضل منه وزيادة ، ولذلك ترى   الشرع قد أمر عليهن بزيادة من الستر ، وذلك من مقتضى أمر القبول والانفعال الذي يستتبع التأخّر عن الفاعل وما يقبله منه - على ما دلّ عليه لفظ النساء - وإليه أشار بقوله : ( والبيع بنسية : تقوّل بتأخير ) .

قال رضي الله عنه :  ( فلذلك ذكر النساء ، فما أحبّهن إلَّا بالمرتبة ) ، ولذلك تراهنّ مغلوبة تحت حكم الرجال ، إذ حكم المرتبة له قهرمان في هذه النشأة الجمعيّة وذلك لأنّ مرتبتهن التأخّر ( فإنّهن محل الانفعال ) ممّن هو في صدد النكاح بهن


قال رضي الله عنه :  ( فهنّ له كالطبيعة للحقّ ، التي فتح فيها صور العالم بالتوجّه الإراديّ ، والأمر الإلهيّ )، وازدواجهما عند سراية حكم الجمعيّة فيهما ، وذلك الازدواج هو ( الذي ) في هذه النشأة الجمعيّة له وجوه ثلاثة ، قد عبّر عنها في الحديث المذكور بالصور الثلاث .


وذلك ( هو نكاح في عالم الصور العنصريّة ) وقد عبّر عنه بالنساء  ( وهمّة في عالم الأرواح النوريّة ) - وقد عبّر عنه بالطيب ، باعتبار نشر نفحات الآثار منه ، وهو قوله تعالى : " وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُه ُ بِإِذْنِ رَبِّه ِ " ( وترتيب مقدّمات في المعاني للإنتاج ) وهذا من صور الإظهار . وقد عبّر عنه بالصلاة ، ولانقهار حكم التعيّن في المعاني لظهور سلطان حضرات الإطلاقية فيها طوى عن ذكر العالم في هذه الصورة .

قال رضي الله عنه :  ( وكلّ ذلك نكاح الفرديّة الأولى ) ، التي هي مؤدّى الكلمة الختميّة ومقتضى حكمتها الجمعيّة ، وذلك النكاح هو الساري ( في كل وجه من هذه الوجوه ) الثلاثة ، وأبين الوجوه وأجمعها هو النساء ، لانطوائها على غيرها من الوجهين ، ولذلك قدّمها .

 
حبّ النساء ذو وجهين : إلهيّ وشهوي
قال رضي الله عنه :  ( فمن أحبّ النساء على هذا الحد فهو حبّ إلهيّ ، ومن أحبّهن على جهة الشهوة الطبيعيّة خاصة ) غير عاثر على ذلك الوجه وحدّه ( نقصه علم هذه الشهوة ) ، فشهوته خالية عن معناها ، ( فكانت صورة بلا روح عنده ، وإن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذات روح ، ولكنّها غير مشهودة لمن جاء لامرأته أو لأنثى ، حيث كانت لمجرّد الالتذاذ ، ولكن لا يدري لمن ) ذلك الالتذاذ وممّن ذلك ،

قال رضي الله عنه :  ( فجهل من نفسه ما يجهل الغير منه ، ما لم يسمه هو بلسانه ) الذي هو مصدر الإظهار ( حتى يعلم ) فالحقّ حينئذ في مكمن الجهل والخفاء ظهورا وإظهارا ، فإنّه ما لم يسمّ محل التذاذه لم يظهر ذلك عند الغير ، بقي على ما عليه من الخفاء .
والحاصل أنّ العارف بمحلّ الالتذاذ يظهر ذلك عند نفسه ويظهر للغير ، والجاهل به يخفى عنده ذلك ويخفى للغير ، وإن كان الالتذاذ نفسه ظاهرا له ولغيره ( كما قال بعضهم ) :
( صحّ عند الناس أنّي عاشق ....  غير أن لم يعرفوا عشقى لمن ؟ )
وهذا خفاؤه بالنسبة إلى الغير وأمّا بالنسبة إلى نفسه فكذلك ،


وإليه أشار بقوله : ( كذلك هذا أحبّ الالتذاذ ، فأحبّ المحلّ الذي يكون فيه - وهو المرأة - ولكن غاب عنه روح المسألة ) وهو العلم بالمرأة ، ( فلو علمها لعلم بمن التذّ ، ومن التذّ ، فكان كاملا ) لجمعه بين مرتبتي الظهور والإظهار ، الكاشفين عن الشعور والإشعار .

 
نزول درجة المرأة عن الرجل ، والمخلوق عن الخالق
قال رضي الله عنه :  (وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل - بقوله : " وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ " - نزل المخلوق على الصورة ) - يعني الإنسان الكامل ، الذي صورة تمامه الخاتم - ( عن درجة من أنشأه على صورته ) يعني الحقّ ، وتفاوت الدرجتين في الرتبة يقتضي تباين الحكمين ( مع كونه على صورته ) 
قال رضي الله عنه :  (فتلك الدرجة التي تميّز بها عنه ) - أي عن المخلوق على الصورة بها - ( كان غنيّا عن العالمين ) فإنّ تلك الدرجة هي مبدأ خصوصيّته الامتيازيّة وذلك المبدء هو المعبّر عنه بالغناء المطلق .


ولما كان الغناء إذا اعتبر مقيدا بأن يكون عن العالمين أثبت العالم في مقابلة الحقّ ، ولا يكون غنيّا عنه حينئذ إلَّا به ، فظهر الفاعليّة له أوّلا ، ولذلك قال : ( وفاعلا أولا ، فإنّ الصورة ) أيضا لها الفعل ، إلَّا أنّه ( فاعل ثان ، فما له الأولية التي للحقّ ) وهو التقدّم الرتبي الذي هو مبدأ الخصوصيّة الامتيازيّة .

قال رضي الله عنه :  ( فتميّزت الأعيان بالمراتب ) ، والعارف هو الذي يعلم الأعيان بعلاماتها الخاصّة بها ، وتعرف كلا بسيماهم - على ما عليه أهل الأعراف من الرجال - ( فأعطى كل ذي حقّ حقّه ) ، وهو وجهه الخاص به على ما يراه به ( كلّ عارف ) وقد عرفت أنّ أصل هذه النسبة المؤلفة إنّما هو من الحقّ ، حيث أنّه الفاعل الأول من الصورتين المتماثلتين .
قال رضي الله عنه :  ( فلهذا كان حبّ النساء لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم عن تحبّب إلهيّ ، وإنّ الله " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ُ " وهو عين حقّه ) الذي أعطاه العارف .
وهاهنا نكتة تلويحية حيث أن ذلك الإعطاء إذا نسب إلى العبد العارف يكون حقّه ، وإذا نسب إلى الحق يكون خلقه .

 
قال رضي الله عنه :  ( فما أعطاه إلَّا بما استحقّه بمسمّاه ، أي بذات ذلك المستحقّ ) كما للخاتم بالنسبة إلى الفرد الأول .
قال رضي الله عنه :  ( وإنما قدّم النساء لأنّهنّ محالّ الانفعال ) الذي هو من مقتضى القابليّة الأولى ، فلها رتبة التقدّم ( كما تقدّمت الطبيعة على من وجد منها بالصورة ) إذ لا يتقدّم الطبيعة على الموجود بالمادّة ، فإنّها مادة الكلّ ، علويّات كانت أو سفليّات ، وذلك لأنّ للطبيعة - على عرفه الخاصّ - لها العموم ، وهو المطابق لإطلاق أساطين الحكمة من القدماء - كما عرفت تحقيقه - وإليه أشار بقوله :


ليست الطبيعة إلا النفس الرحماني
( وليست الطبيعة على الحقيقة إلَّا النفس الرحماني ، فإنّه فيه ) أي في النفس الرحماني - المعبّر عنه بالنفخة في بعض موارده القرآنية المعربة - ( انفتحت صور العالم ، أعلاه وأسفله ) أي الأجرام الكثيفة الهيولانيّة ، والأرواح اللطيفة النورانيّة وما بينهما من الأعراض وكذلك ينبغي أن يفهم من عبارة "السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَما بَيْنَهُما " على تخالف صيغها وتباين نسبها ، وإلى ذلك المعنى أشار بقوله : ( لسريان النفخة من الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام ) تعليلا لما ذكر من التعميم الذي للطبيعة ، المعبّر عنها حقيقة بالنفس الرحماني والنفخة أيضا عبارة عنها .

ثمّ إنّ السماوات العلى والأرضين السفلى وإن كان كلَّها مجالي الحقّ ومظاهره بلسان الجمع الوجوديّ ، ولكن بلسان التفصيل الكتابيّ فيه تفرقة وتمييز فإنّ طرف الأجرام الهيولانيّة السفليّة الأرضيّة له جهة اختصاص بتلك المظهريّة، حيث أن الأحديّة الجمعيّة به ظهرت على مجالي العيان،

ولذلك ترى الفاتحة التي هي امّ الكتاب ، الكاشف عن التفصيل بما عليه ، قد ورد فيها - على ما ستطلع عليه - : « إنّه منصّف بنصفين ، أحدهما للحقّ خاصّة ، والآخر للعبد » وإلى ذلك أشار بقوله : ( خاصة ) أي سريان النفخة لظهور الأجرام الهيولانيّة والعوالم الكيانيّة ، له خصوصيّة خاصة به .

( وأما سريانها لوجود الأرواح النوريّة والأعراض ) التي هي الواسطة بين الطرفين - كما قد اطلعت على وجه تحقيقه في المقدّمة ( فذلك سريان آخر ) غير ما له خاصّة .


رجوع إلى التأمّل في لفظ الحديث
قال رضي الله عنه :  ( ثم ) إنّه من جملة غرائب حكم هذا التركيب البديع الختمي ( إنّه عليه السّلام غلَّب في هذا الخبر التأنيث على التذكير ، لأنّه قصد التهمّم بالنساء ) المكنى بها هاهنا عن الطبيعة التي هي أصل صور العالم ، ( فقال : « ثلاث » ولم يقل : "ثلاثة" بالهاء الذي هو لعدد الذكران ، إذ فيها ذكر الطيب - وهو مذكَّر - وعادة العرب أن يغلَّب التذكير على التأنيث ، فتقول : « الفواطم وزيد خرجوا » ولا يقول : « خرجن » فغلَّبوا التذكير - وإن كان واحدا - على التأنيث - وإن كنّ جماعة وهو عربي )
قد أبكم مصاقع الصفحاء ببلاغة عربيّه المبين وبيانه المتين ( فراعى - عليه الصلاة والسلام - المعنى الذي قصد به في التحبّب إليه )  بدون اختيار منه في ذلك ، حيث أسند إليه حبّب ، دون « أحببت » ليدلّ على أنّ ذلك التهمّم والتحبّب بالنساء من أصل الخلقة الإلهيّة

فإنّ ذلك ( ما لم يكن يؤثّر ) بنفسه ( حبّه ) على ما هو مؤدى قوله : " حبّب إليّ " ، ويكون سلطانه مستوليا عليه ، حيث جمع منهن غاية ما يجمع من الكثرة - يعني أنهاها ، وهي التسعة - فلا بدّ وأن يكون من أصل جبلَّته الختميّة ، كما علم تحقيقه ووجه لميّته في المفاحص.

فتأمّل ما استشعر منه الخاتم - صلوات الله عليه - بهذا التركيب المعرب والكلام الكامل ، على ما نبّهت على خصائص مفرديه أولا ، يعني " حبّب " و "النساء" ، وعلى خصوصيّة التركيب والنسبة الإسناديّة بينهما ثانيا من لطائف الحكم الإلهية الختميّة ، الدالَّة على علوّ مرتبة كاشفها في الأكمليّة .


وذلك أيضا من مقتضى أصل الجبلَّة ، كما أشار إليه بقوله : ( فعلَّمه الله ما لم يكن يعلم ، وكان فضل الله عليه عظيما ) وذلك الخصوصيّة أنّه عرف رتبة النساء في أمر الإظهار ، الذي هو بصدد تكميله ، ( فغلَّب التأنيث على التذكير ) ظاهرا ، وما أهمل في ذلك التغليب حكم التذكير أيضا ، حيث عبّر عن صورة التغليب ( بقوله : « ثلاث » - بغير « ها » ) وهو علامة التأنيث في لغة العرب .


تأمّل في ترتيب المذكورات في الحديث
قال رضي الله عنه :  ( فما أعلمه صلَّى الله عليه وسلَّم بالحقائق ) عند الإبانة عن مراتبهم في مدارج الإظهار ومكامن الخفاء ( وما أشدّ رعايته للحقوق ) حيث أعطى كل شيء ما هو حقّه في مراقي كماله عند الإنباء عنه بكلامه .


وجه تقديم ذكر النساء
قال رضي الله عنه :  ( ثمّ إنّه ) من جلائل خواصّ هذا التركيب أنّه ( جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث ) موافقا لما في الوجود من القابليّة الأولى والصورة الخاتمة لها ( وأدرج بينهما المذكر ) إدراج المعنى في الصورة المحيطة به من الطرفين ، وإدراج المتكلم به بين امّه والكلمة الكاملة المنبئة عن الرسالة الختميّة ( فبدأ بالنساء ) التي هي صورة القابليّة الأولى ، التي هن مولد الكلّ ظهورا ( وختم بالصلاة ) التي هي الصورة الخاتمة التي هي مجمع الجميع ، من الفاتحة إلى الخاتمة إظهارا .

قال رضي الله عنه :  (وكلتاهما تأنيث ، والطيب بينهما كهو في وجوده ، فإنّ الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها وبين امرأة ظهرت عنه ، فهو بين مؤنّثين ) ، فإنّ التأنيث قد يكون من نفس الجمعيّة الكماليّة والإحاطة الذاتيّة ، التي لا يمكن أن يكون في مقابلته شيء - فضلا عن الذكر - وهو المعبّر عنه بـ "غير الحقيقي " في عرف النحو وأدب العربيّة ، وقد يكون باعتبار مقابلته للذكر الذي هو من نوعه ، وهو المسمّى بالحقيقيّ في ذلك العرف ،

وذلك لأنّ « النون » الذي هو مظهر العين إذا قورن « بالثاء » الذي منه ثوران موادّ الثنويّة لكثرة تفرقتها ، يقتضي إنفاذ حكم الجمع والكثرة ، وهو أن يتولَّد من أكمام الجمعيّة ذات الكثرة ثمرة جمعيّة  أخرى ، إذ ما من كثرة اجتمعت إلَّا ولا بدّ وأن يتولَّد منها شيء آخر ومن هاهنا قيل : " كلّ جمع مؤنث " .


وقد عرفت أن الكثرة قد تطلق على ما يكون في الوحدة الحقيقيّة ، وهي التي بها تسمى « كلا » ، وبهذا الاعتبار نسب إليه الأنوثة ، وهو كثرة اعتباريّة غير حقيقيّة ، فكذلك الأنوثة التي تتفرّع عنها وقد تطلق الكثرة على ما في مقابلة الوحدة وهي الكثرة الحقيقيّة ،
فكذلك الأنوثة المتفرّعة عليها وعرف العربيّة هاهنا طابق التحقيق ، ولذلك بيّن المؤنثين بقوله : ( تأنيث ذات وتأنيث حقيقي ) ، وجعل التأنيث الحقيقي في مقابلة تأنيث الذات .

قال رضي الله عنه :  ( كذلك النساء ) في العبارة الختميّة التي هي الصورة الكاملة للكلّ ( تأنيث حقيقي ، والصلاة تأنيث غير حقيقي ، والطيب مذكَّر بينهما ) فوقوع الطيب هاهنا في هذه الصورة الإظهاريّة الكلاميّة ( كآدم بين الذات الموجود هو عنها ، وبين حوّا ، الموجودة عنه ) في الصورة الظهوريّة الوجوديّة ، هذا على مذهب من جعل الذات مصدرا بدون توسّط ولا تسبّب .


قال رضي الله عنه :  ( وإن شئت قلت : الصفة ) ، على ما ذهب إليه المتكلَّمون ، ممّن جعل الصفة زائدة على الذات ( فمؤنّثة أيضا ، وإن شئت قلت : القدرة ( على ما هو رأى جمهور العامة ، فمؤنثة أيضا ، ) فكن على أيّ مذهب شئت ، فإنّك لا تجد إلَّا التأنيث يتقدّم ، حتى عند أصحاب العلَّة ) - يعني الفلاسفة - وفي التعبير عنهم بهذه العبارة لا يخلو عن نكتة ، وذلك لأنّهم ( الذين جعلوا الحقّ علَّة في وجود العالم ، والعلَّة مؤنثة ) .

ومن اللطائف الكاشفة عن هذا السرّ أنّه لا يمكن أن يشار إلى الهويّة الإطلاقيّة إلَّا في طيّ الثنويّة التقابليّة وصورتها الكاشفة عنها ، وتلك الثنويّة هي التي بها ظهرت الكثرة بمحوضتها ، بدون نسبة جمعيّة ولا سمة وحدة ، إذ لو اعتبرت النسبة معهما كان ثلاثة بالضرورة ، وذلك كما تراه في عبارة الإله والعبد ، والخالق والخلق ، والحقّ والعالم ، والمعشوق والعاشق ، والعلَّة والمعلول وغير ذلك .


فمن لم يكن له قوّة الوصول إلى المشهد الجمعيّ وطوى الإطلاق الذاتي بما اعتاد عند السلوك في مسالك ترقّيه من التلبّس بنعلي التقابل ، والتوسّل لدى الانتهاج فيها بهما ، فإنّهم قد ضعف أقدام سعيهم على طيّ ذلك الطوى الكماليّ ، مجرّدا عن ذينك النعلين ، فلذلك لا يعبّرون عن مشهدهم إلَّا بصيغة التأنيث ، والتأنيث والتثنّي من واد واحد عند من تصفّح الألواح الحرفيّة وفي قوله تعالى : " إِنْ يَدْعُونَ من دُونِه ِ إِلَّا إِناثاً  "إشارة جليّة إليه لمن تدبّر فيه .


ومن تلك اللطائف أيضا : أنّ القابليّة الأصليّة - التي هي امّ التعيّنات كلَّها - قد ظهر سلطانها فيمن انتسب إليها من أولادها المتشبّهين بها ، المائلين إليها من جهة سفليّتها ، دون المتشبّهين منهم إلى الآباء العلى ،

وقد عرفت فيما سلف لك إنّ أولاد آدم ، منهم من استفاض من الصور الوجوديّة الكاشفة ، وهم أصحاب الكشف والوجود ، وهم أبناؤه المماثلون لآبائهم ومنهم من استفاض من الصور الكونيّة الحاجبة ، وهؤلاء أهل العقل والبرهان ، وهم بناته المماثلات لامّهاتهم .
وإذا تقرّر هذا ظهر أنّ المنتسبين إلى الامّ إنّما يشيرون أبدا إلى محتد نسبتهم لا يتجاوزون عنه أصلا .


وجه ذكر الطيب بعد النساء
قال رضي الله عنه :  ( وأمّا حكمة الطيب وجعله بعد النساء ) - وهما حكمتان - ( فلما في النساء من روائح التكوين ) والفعل ، فإنّ أصل ما هي عليه إنّما هو التكوّن والانفعال ، والكلمة الجامعة لا بدّ وأن تكون مع جمعيّتها للأطراف متناسبة الأحكام ، والنساء - مع أنّها في أصل طبيعتها لها الانفعال - فيها رائحة الفعل أيضا ، بتلك الرائحة تناسب الطيب ، ( فإنّه « أطيب الطيب عناق الحبيب » ) أي أشدّه تأثيرا ( - كذا قالوا في المثل السائر - ) الذي به يتكلَّم لسان الوقت في كلّ زمان .
فظهر من هذا الكلام وجه المناسبة بينهما، وحكمة التعرّض للطيب ، وهو الأول من الحكمتين .
وأمّا بيان ترتيبه - وهو الثاني منهما - فهو أنّ النساء عبارة عمّا عليه الأصل من القابليّة والانفعال ، المعبّر عنه في لسان الشريعة بالعبوديّة .

قال رضي الله عنه :  ( ولما خلق عبدا بالأصالة ) ، أي قدّره على ما عليه في أصل جبلَّته وخلقته ( لم يرفع قطَّ رأسه إلى السيادة ) التي هي مقتضى الفعل والظهور ، (بل لم يزل ساجدا ) على جهة عبودته ووجهة عبادته ( واقفا مع كونه منفعلا) غير متجاوز عنه أصلا

 
قال رضي الله عنه :   ( حتّى كوّن الله عنه ما كوّن ، فأعطاه ) الله ( رتبة الفاعليّة ) والظهور بها ( في عالم الأنفاس ) ، بصورها المظهرة الكلاميّة ، الكاشفة عن سيماء الكلّ .
فعلم إنّ عالم الأنفاس والمرتبة الكلاميّة ( التي هي الأعراف الطيّبة ) متأخّرة عن العبد ، متكوّنة عنه بالكون الإلهي ، ( فحبّب إليه الطيب ) الذي هو آخر المراتب ، فإنّه إشارة إلى مرتبة النفس الرحماني ، الذي هو مادّة الكلام وهو صورته ، ( فلذلك جعله بعد النساء ) التي هي كناية عن القابليّة الأولى ، فهما صورتا الأول والآخر ، والصلاة هي صورة الجمعيّة التي بها يصل الأول بالآخر .

 

قال رضي الله عنه :  ( فراعى ) صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله هذا ( الدرجات التي للحقّ في قوله : " رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ " ) . فإنّك قد عرفت أنّ النفس الرحماني - الذي قد عبّر عنه في بعض الاعتبارات بالطبيعة - جامع لجميع الدرجات والمراتب ، و " ذُو الْعَرْشِ " إشارة إلى ذلك النفس ، المنتسب إلى الرحمن ( لاستوائه عليه باسمه الرحمن ، فلا يبقى فيمن حوى عليه العرش ) - من الصور الجسمانيّة والجسدانيّة والروحانيّة ، والمعاني الأسمائيّة والحقائق الإلهيّة - ( من لا تصيبه الرحمة الإلهيّة وهو ) الذي أشار إليه ( قوله : " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ  " والعرش وسع كل شيء ، والمستوي الرحمن ) .
فملخص هذا الكلام أنّ الخاتم - صلوات الله وسلامه عليه - هو الذي كان عبدا بالأصالة ، ما فيه غير محض القابليّة وكمال الانفعال حتّى كوّن الله فيه ما كوّن ،


إلى أن ظهر صورة شخصه من العرب ، وأعرب عن الكلّ بكلامه ( فبحقيقته يكون سريان الرحمة في العالم ، كما قد بيّناه في غير موضع من هذا الكتاب ، ومن الفتوح المكي ) . كتاب الفتوحات المكية

قال رضي الله عنه :  ( و ) مما يدلّ على ما ذكرناه في معنى الطيب وأنّه صورة الالتحام الذي في النكاح الساري في جميع الذراري ، إنّه ( قد جعل الطيب تعالى في هذا الالتحام النكاحي ) الذي لشخص الخاتم ( في براءة عايشة ) التي هي أقرب النساء والزوجات إليه ( فقال : " الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ" ). من الخباثة التي قد نسبوها إليهم إذ الطيّب لا يخرج منه إلَّا الطيّب ،


قال رضي الله عنه:  ( فجعل روائحهم طيّبة ) والأقوال المتعلَّقة بهم ، الدالَّة على أحوالهم مبرّأة عن النقص والخبث ( لأنّ القول نفس ، وهو عين الرائحة، فيخرج بالطيّب، وبالخبيث، على حسب ما يظهر به في صورة النطق ) من الدلالة على الأعيان وأحوالها ، صدقا كان أو كذبا .


وجه كون شيء طيّبا أو خبيثا
قال رضي الله عنه :  ( فمن حيث هو إلهيّ بالأصالة ) وأنّه صورة من صور النفس الرحماني ( كله طيّب فهو ) بهذا الاعتبار ( طيّب ، ومن حيث ما يحمد ويذمّ ) بلسان التفصيل ( فهو طيّب وخبيث ) ، وهذا التفصيل لا يتعلَّق بالأعيان أنفسها ، بل إنما يتعلَّق ذلك بأحكامها المترتّبة عليها


قال رضي الله عنه :  ( فقال صلَّى الله عليه وسلَّم في خبث الثوم : « هي شجرة أكره ريحها » ، ولم يقل : " أكرهها " فالعين لا يكره ، وإنما يكره ما يظهر منها ) مما يخالف العرف أو طبعه أو غرضه المطلوب ، أو الشرع الذي في زمانه ، أو يكون ناقصا عن كماله وغايته المطلوبة منه ، فمبدأ الكراهة منحصر في هذه الصور الخمس ، لا مزيد عليها ، كما لا يخفى أمره على الذكيّ ، وإليه أشار بقوله :


مبدأ الكراهة محصور في خمسة  
قال رضي الله عنه :  ( والكراهة لذلك إمّا عرفا ، أو بعدم ملاءمة طبع ، أو غرض ، أو شرع )
والظاهر من السياق أن يكون « الشرع » منصوبا ، ويكون عطفا على قوله :
"عرفا " ، ولكن إنّما جعل كذلك ليدلّ على أنّ العرف إنّما يحكم على الأشياء بما ظهر عنها كراهة وقبولا بمجرّد الاعتياد ، ليست له غاية صحيحة تكون مبدأ لذلك الحكم .

وأمّا غير ذلك ، فلا بدّ وأن يكون ذا غاية صحيحة ، راجعة إلى الحاكم - وهو الكارة هاهنا - أو إلى المحكوم عليه - وهو المكروه - أمّا الأول فمنحصر في الصور الثلاث : أعني الطبع والغرض والشرع فغاية حكم الكراهة ومبدؤه في هذه الثلاثة المذكورة تتعلَّق بصاحب الكراهة ، وهو الكارة .
وقد تتعلَّق مبدأ الكراهة بالمكروه ، وهو الرابع ، وإليه أشار بقوله : ( أو نقص عن كمال مطلوب ) عطفا على عدم ملاءمة .
وهذه الوجوه لها حصر عقلي : وهو أنّ مبدأ ذلك الحكم إمّا أن يكون مما يتعلَّق بالمكروه ، وهو النقص عن الكمال المطلوب منه - وهو القسم الأخير - أو ممّا يتعلَّق بالكاره .

وذلك إنّما يتحقّق في أربع صور : فإنّ ما يتعلَّق بالكاره من مبدأ الكراهة إمّا أن يكون مجرّد الاعتياد ومشاهدة أبناء زمانه من المشاركين له في مرتبته على ذلك الكراهة ، ليس له غاية صحيحة وراء ذلك ، كما هو المشاهد من تلبّس كلّ صنف بضرب من اللباس - يكره غيره .
أو يكون له غاية صحيحة وراء ذلك ،

وهي لا تخلو عن الوجوه الثلاثة ، فإنّه إمّا أن يكون من طبعه كالاستراحات البدنيّة التي تأبى الطبيعة خلافها أو من النواميس المنزلة الشرعيّة كما في المكاره الشرعيّة أو من النفس وعلوّها التجوّهيّة كالقناعة بالأوضاع المتّصفة ، وذلك هو المعبّر عنه بالغرض وإلى ذلك الحصر أشار بقوله : ( وما ثمّ غير ما ذكرناه ) .


تقسيم الخبيث والطيّب إلى ما بالذات وما بالنسبة
قال رضي الله عنه :  ( ولما انقسم الأمر ) بحسب ما يظهر من الأعيان ( إلى خبيث وطيّب - كما قررناه ) من أنّ الأعيان أنفسها لا يكره ، وإنّما يكره ما يظهر منها - ولذلك ( حبّب إليه ) يعني إلى الخاتم ، الذي بيده أزمّة أمر الإظهار ( الطيّب ، دون الخبيث ) ، تحبّبا إلهيّا على ما هو مقتضى ختمه الكماليّ ، وهو غير الحبّ الطبيعي الذي له من حيث أنّه إنسان ، فإنّ طبيعة الإنسان من حيث هي مائلة إلى الطيّب والخبيث .
 
وهذا أيضا من خصائص عبارة « حبّب إليّ » ، فإنّ الإنسان قد يكون الخبيث عنده هو الطيّب ، ويميل إليه ميل حبّ طبيعيّ ، حسبما له من المناسبة الطبيعيّة التي في هذه النشأة العنصريّة الامتزاجيّة التي لا بدّ له من التعفّن ، حتى يحصل المزاج ، والملأ الأعلى - المفارق عن الهيولانيّات - هو المائل إلى الطيّب بالذات .


قال رضي الله عنه :  ( و ) لذلك تراه ( قد وصف الملائكة بأنّها تتأذّى بالروائح الخبيثة ) التي تتبع المزاج الإنساني ، لما ( في هذه النشأة العنصريّة من التعفين ، فإنّه مخلوق " من صَلْصالٍ " ) - وهو الطين الجافّ المنتن - وأشار به إلى المزاج الأول النباتيّ الذي له ، " من حَمَإٍ " وهو الطين المنتن الأسود ، وأشار به إلى المزاج الحيوانيّ الذي له في ثاني الحال ،
وذلك إذا تغيّر بضرب آخر من الطرق المسنونة الواضحة الاعتداليّة حصل المزاج الإنساني الذي هو الثالث من المراتب ، وإليه أشار بقوله : " مَسْنُونٍ ".

وفي سائر المراتب لا بدّ له من التغيير ، وإليه أشار بقوله : ( أي متغيّر الريح ) ، والملائكة لصفاء روحانيتها عن التغيّر المذكور جملة يتنفّر عنها بالطبع ، ( فتكرهه الملائكة بالذات ) ولا يدلّ على كراهته في نفسه فإنّ الطبائع متخالفة، والكراهة بحسب الملاءمة التي مبدؤها الطبيعة.


قال رضي الله عنه :  (كما إنّ المزاج الجعلي يتضرّر برائحة الورد ، وهي من الروائح الطيّبة ) في نفسها ، ( فليس الورد عند الجعل بريح طيّبة ) ، فالذي يكره بطبعه من ميله الذاتي وحبّه المزاجي - لا التحبّب الإلهي - سبيله في كراهة الأشياء سبيل الجعل ، وإليه أشار بقوله : ( ومن كان على مثل هذا المزاج صورة ومعنى ) - يعني في المكاره الحسيّة الجسمانيّة التي تخالف طبعه صورة ، والعقليّة الروحانيّة التي تخالف أغراضه معنى ، كما لذوي العقائد التقليديّة من أصحاب الأغراض النفسانيّة - ( أضرّ به الحقّ إذا سمعه ) - كما أضرّ بالجعل رائحة الورد - ( وسرّ بالباطل ) سروره بالرائحة الخبيثة .


قال رضي الله عنه :  ( و ) الذي يدلّ على ذلك في القرآن ( هو قوله تعالى : "وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِالله " ووصفهم بالخسران فقال : " أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ " ، " الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ " )  في عدم الإدراك والكمال العلمي الذي هو أصل بضاعة السفر الوجوديّ ، والحركة الحبّية ( فإنّه من لم يدرك الطيّب من الخبيث فلا إدراك له ) - إذ من شأن الإدراك التمييز.

 
قال رضي الله عنه :  ( فما حبّب إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ) بالتحبّب الإلهيّ دون حبّه الطبيعيّ والنفسانيّ ( إلَّا الطيّب من كلّ شيء ، وما ثمّ )  في مشهده الختميّ ومقامه المحمود ( إلَّا هو ) ، يعني الطيّب من كلّ شيء بالتحبّب الإلهيّ لا الحبّ المزاجيّ .


هل يمكن رفع الخبيث عن العالم

قال رضي الله عنه :  ( وهل يتصوّر أن يكون في العالم مزاج لا يجد إلَّا الطيّب من كلّ شيء ولا يعرف الخبيث ) من حيث المزاج والطبيعة ، لا بالتحبّب الإلهيّ ، ( أم لا ) ؟

(قلنا : هذا لا يكون ، فإنّا ما وجدناه في الأصل الذي ظهر منه العالم ، وهو الحقّ ، فوجدناه يكره ويحبّ ) بهويّته الإطلاقيّة المحتوية على الأضداد وتعانق الأطراف ، ( وليس الخبيث إلا ما يكره والطيّب إلا ما يحبّ ، والعالم على صورة الحقّ ، والإنسان على الصورتين ) : صورة العالم وصورة الحقّ ( فلا يكون ثمّ ) في الإنسان وعالمه الجمعي ( مزاج لا يدرك إلَّا الأمر الواحد من كلّ شيء ، بل ثمّ مزاج يدرك الطيّب من الخبيث ، مع علمه بأنّه خبيث بالذوق ، طيّب بغير الذوق فيشغله إدراك الطيّب منه عن الإحساس بخبثه ) .

 

قال رضي الله عنه :  ( هذا قد يكون وأما رفع الخبث من العالم - أي من الكون ) الذي هو منشأ حدث الحدوث وخبث الخبث - ( فإنّه لا يصحّ ، ورحمة الله في الخبيث والطيّب ) على السواء من حيث الوجود ( والخبيث عند نفسه طيّب ، والطيّب عنده خبيث ) ، ضرورة أنّ أحد المتقابلين بالقياس إلى مقابله في نقص وخبث عند منعه ظهور أحكامه الخاصّة به ، ( فما ثمّ شيء طيّب إلَّا وهو من وجه في حقّ مزاج ما خبيث ، وكذلك بالعكس ) .

ثمّ إنّ هاتين المرتبتين - المشار بهما إلى القابل والفاعل - قد احتوتا على سائر مراتب الظهور .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:49 pm

27 - فصّ حكمة فرديّة في كلمة محمديّة الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

 شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
27 - فصّ حكمة فرديّة في كلمة محمديّة

الصلاة
قال رضي الله عنه :  ( وأمّا الثالث الذي به كملت الفرديّة ) الختميّة ( فالصلاة ) التي هي الجامعة لأمر الإظهار ، والقائمة بتفصيل أحكامه كلَّها وإذ كان مرتبة الإظهار الكماليّ الفرديّ هي التي انبسط بها عين الحقيقة الختميّة بعد جعل من الخاتم عند وضعه الصور الكاشفة عن ذلك ( فقال « وجعلت قرّة عيني في الصلاة:").
وإنما خصّ انبساط عينه الختميّة بالصلاة ( لأنّها مشاهدة ) وذلك أنهى مراتب الإظهار ، المثبت للعبد المشاهد والحق المشهود ( وذلك لأنّها مناجاة بين الله وبين عبده ، كما قال : " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " ، وما لم يتمّ ظهور الطرفين - كلّ منهما على الآخر - لا يتحقّق الإظهار بكماله .


الصلاة مقسومة بين العبد والمعبود
والصلاة هي العبادة الجامعة بين الظهورين ، المستتبع للإظهارين الكماليّين أعني إظهار العبد والحقّ في المرتبة الكلاميّة الذكريّة ، التي هي أنهى مدارج الإظهار وأتمّها

قال رضي الله عنه :  ( و ) ذلك لأنّها ( هي عبادة مقسومة بين الله وبين عبده بنصفين : فنصفها لله ، ونصفها للعبد ) فإن الإظهار إنّما يتحقّق كذلك ، إذ لا بدّ له من مظهر وظاهر فالصلاة - التي هي الدعوة التامّة للحق ، والصورة الكاملة لإظهاره - لا بدّ وأن تكون منصّفة بنصفين .


قال رضي الله عنه :  (كما ورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى إنّه قال : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل " ) فإنّ أمر الإظهار راجع إلى طلب العبد وسؤاله ، والصلاة هي غاية ذلك الطلب ، وقصارى قصده وحركته فللعبد زيادة نصيب وسهم في هذه القسمة ، حيث أنّه  قد اختصّ فيه بإجابة سؤاله وإنجاح مطلوبه .


هذا لسان الإجمال وأما لسان التفصيل في ذلك التقسيم ، فهو الكاشف عنه قوله : ( يقول العبد : " بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ " . يقول الله : « ذكرني عبدي » ) فإنّه مشتمل على اسم الله الجامع ، مصرّحا فيه بالرحمتين - كما سبق بيانه - وهو غاية الإظهار الذكري .


قال رضي الله عنه :  ( يقول العبد " الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ " يقول الله « حمدني عبدي » ) فإنّ الحمد تعريف للمحمود ، وأتمه ما هو بصفات الالوهيّة والربوبيّة في صورة العالمين ( يقول العبد "الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ "  يقول الله : « أثنى عليّ عبدي » ) فإنّ الثناء ما يذكر من المحامد ، فيثنّى حالا فحالا ذكره ، فهو إشاعة الحمد والتعريف وتكراره ، وبهذا الاعتبار تسمّى سور القرآن « مثاني » ، لأنّها تكرر وتثنّى على مرور الأيّام .


قال رضي الله عنه :  ( يقول العبد : " مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " يقول الله : « مجّدني عبدي ، فوّض إليّ عبدي » ) على ما هو مؤدّى المالكيّة ومقتضاها من العظمة والاختيار ، ( فهذا النصف كلَّه له خالصا ثمّ يقول العبد : " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " يقول الله : « هذا بيني وبين عبدي ")
لما قد تقرّر أن بين كلّ من المتقابلين لا بدّ أن يكون جامع يحويهما ، فهذه الآية من امّ الكتاب هو الجامع بين الله وعبده ، والأول مؤدّى الكاف ، والثاني مؤدّى النون ، وهو " كُنْ " الذي به ظهر ما ظهر - فلا تغفل عن تلويحه . وبيّن أنّ سائر مراتب الظهور - كيانيّة أو إلهيّة - إنّما هو على مقتضى سؤال العبد وطلبه - كما وقفت عليه غير مرّة –
وإليه أشار بقوله  :("ولعبدي ما سأل " فأوقع الاشتراك في هذه الآية ) فهو البرزخ الجامع كما عرفت .


" غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ " ( يقول الله : " فهؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل " . فخلص هؤلاء لعبده ، كما خلص الأول له تعالى ) وجمع بينهما في الآية المشتركة في الوسط .
 

وبيّن أنّ صور العبادات التي وضعها الأنبياء مراقي للعباد ومراصد للمنتهجين إلى مسالك الرشاد ، أكملها وأتمّها نظما هو الذي طابق الجمعيّة الوجوديّة بمبدئها ومعادها ، حتّى يمكن أن يستكشف بتلك الصورة الجعليّة عن الجمعيّة الوجوديّة ويترتّب على الوضع المذكور ما هو غايته المطلوبة منها ، وهو الكشف عن كنه ما عليه الأمر مطلقا ، من المبدء إلى المعاد .


قال رضي الله عنه :   ( فعلم من هذا وجوب قراءة : " الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ " ) في العبادة الكاملة ، يعني الصلاة الختميّة ، لما عرفت من المطابقة التي لها إلى مراتب الوجود ، من الإلهيّة المطلقة والعبديّة المطلقة والجامعة بينهما ، ( فمن لم يقرأها فما صلَّى - الصلاة المقسومة بين الله وبين عبده ) .


الحقّ بمرأى ومسمع المصلي
قال رضي الله عنه :  ( ولما كانت ) الصلاة المذكورة لقسمتها بين الله وبين العبد ( مناجاة ) - على ما ورد : « المصلي يناجي ربّه » - ( فهي ذكر ) ضرورة ، ( ومن ذكر الحقّ فقد جالس الحقّ وجالسة الحقّ ، فإنّه صحّ عن خبر إلهي أنّه تعالى قال : « أنا  جليس من ذكرني » ) وهو الحضور في مستقرّ التمكَّن على مجلى السمع والبصر .
أمّا الأول فظاهر ، لأنّ الذكر إنّما يتحقّق في السمع .
وأما الثاني : فلأنّ ( من جالس من ذكره - وهو ذو بصر - رأى جليسه ) بالضرورة ، وإلَّا لم يكن جليسه ( فهذه مشاهدة ) وهو الحضور بجوامع الحواسّ - ولهذا يسمّى عالم المحسوسات : عالم الشهادة - ( ورؤية ، فإن لم يكن ذو بصر لم يره ) وإن سمع كلامه .
 

قال رضي الله عنه :  ( فمن هنا يعلم المصلَّي رتبته : هل يرى الحقّ هذه الرؤية في هذه الصلاة ، أم لا ؟ فإن لم يره فليعبده بالإيمان كأنّه يراه ) وهو المسمّى بـ "الإحسان " وهو دون المشاهدة وأعلى من الإيمان الغيبي ، لأنّه مشبه بالرؤية ، وهو الصورة الخياليّة ، كما ورد في الحديث : « اعبد ربّك كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك »

قال رضي الله عنه :  ( فيخيّله في قبلته عند مناجاته ) ، فإنّ الصورة الخياليّة هي التي بمنزلة الصورة المبصرة هذا أقلّ ما للعبد في مجلى البصر في صلاته .
وأما السمع ، فقد ظهر أمره في الصلاة أيضا ( و ) ذلك لأنّه ( يلقي السمع لما يرد به عليه الحق ) ، فالصلاة الكاملة هي الجامعة بين المشهدين الكماليّين الختميّين ، على ما نبّهت عليه غير مرّة في معنى قوله تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ".


 المصلَّي في مقام الرسالة  
هذا ما يتعلَّق بباطن الصلاة من أحكام الولاية ، وأمّا ما يتعلَّق بالظاهر منها : ( فإن كان إماما لعالمه الخاصّ به ) من الأشخاص المشتركين معه في ذلك العالم - هذا إن كان إماما - ( وللملائكة المصلَّين معه ) إن لم يكن إماما لعالمه الخاصّ به ، ( فإنّ كل مصلّ فهو إمام بلا شكّ ، فإنّ الملائكة تصلي خلف العبد إذا صلَّى وحده - كما ورد في الخبر - فقد حصل له رتبة الرسول في الصلاة ، وهي النيابة عن الله ) في الإنباء عمّا عليه الحقّ من الصفات الثبوتيّة

التي له عندما حمده الحامدون ، ( إذ قال : « سمع الله لمن حمده » ، فيخبر نفسه ومن خلفه ) - من أهل عالمه والملائكة المصلَّين معه - ( بأنّ الله قد سمعه ، فيقول الملائكة والحاضرون ) عندما بلغهم ذلك النبأ الكريم من المصلَّي : ( " ربّنا لك الحمد " ) تصديقا للمبلَّغ وإيمانا به ، ( فإنّ الله قال على لسان عبده : « سمع الله لمن حمده » ) فلسان العبد في هذا القرب آلة لقول الحقّ الذي به يفصل ، وهو المسمّى بقرب الفرائض .


المصلَّي إذا لم يحصل الدرجة المطلوبة
قال رضي الله عنه :  ( فانظر علوّ رتبة الصلاة ) ظاهرا وباطنا ( وإلى أين تنتهي بصاحبها ) ، حيث أنّه قد أوصله في مواطن الولاية بمشهدي السمع والبصر ، الذي هو أنهى مدارج الكمّل في التقرّب بقرب النوافل ، وفي مواقف النبوّة برتبة الرسالة ، المنطوية على إبلاغ قربي الفرائض والنوافل حقّهما .

أمّا الأول فلما مرّ . وأمّا الثاني فإليه أشار بقوله : ( فمن لم يحصّل درجة الرؤية في الصلاة ) تحصيل جعل منه واختيار ( فما بلغ غايتها ) المطلوبة منها ( ولا كان له فيها قرّة عين ، لأنّه لم ير من يناجيه ، فإن لم يسمع ما يردّ به الحقّ عليه فيها ) - أي في الصلاة من الكلام عند القربين المذكورين - ( فما هو ممن ألقى السمع ومن لم يحضر فيها مع ربّه ) بالمشاهدة الحسّية التي هي مواطن القرب ، وأقلَّها الموطن الخيالي ، المعبّر عنه ب « الإحسان » ، وهو المشهد الذي يحضر فيها العبد مع ربّه ( مع كونه لم يسمع ولم ير فليس بمصلّ أصلا ) ، لعدم وصوله إلى المشهد الخيالي ، المعبّر عنه بقوله : « كأنّك تراه » ، ( ولا هو ممّن ألقى السمع وهو شهيد ) .


الصلاة هي العبادة الكاملة الجامعة
فعلم من هذا أنّ الصلاة - هذه - هي الجامعة في العبادات بين قربي النوافل والفرائض ، ( و ) لذلك تراه ( ما ثمّ عبادة تمنع من التصرّف في غيرها ما دامت ، سوى الصلاة ) التي لا يسع بالقرب الوقتيّ الذي هي تنطوي عليه في الباطن ملك مقرّب ، ولا في الظاهر نبيّ مرسل .
قال رضي الله عنه :  ( وذكر الله فيها ) - وهو الذي قال الله به على لسان عبده المسمى بقرب الفرائض - ( أكبر ما فيها ) من القربات النافلة التي للعبد ، ( لما يشتمل عليه ) الذكر ( من أقوال ) في الذكر اللفظيّ ( وأفعال ) في الذكر الذي يتعلَّق بباقي الجوارح ، باطنة وظاهرة والعبادة الكاملة هي الجامعة بين الأقوال والأفعال باطنة وظاهرة ، على ما عليه الصلاة ، كما حقّق أمره في الرسالة المعمولة في أسرارها .

قال رضي الله عنه :  ( وقد ذكرنا صفة الرجل الكامل في الصلاة في الفتوحات المكيّة ، كيف يكون لأنّ الله يقول : " إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ " لأنّه شرع للمصلَّي أن لا يتصرّف في غير هذه العبادة ما دام فيها ، ويقال له : مصلّ ) ،
فالصلاة بين العبادات هي الحاصرة للعبد أن لا يتصرّف فعلا ولا قولا في غير ما شرّع فيها من الأذكار ، فهو أكبر العبادات ، ما انفكَّت شريعة منها ، وإن اختلفت صورها بحسب شرع فشرع ، "إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً " ،

قال رضي الله عنه :  ( " وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ " يعني ما فيها ) من العبادات والقربات المودعة فيها ( أي الذكر الذي يكون من الله لعبده حين يجيبه في سؤاله والثناء عليه أكبر من ذكر العبد ربّه فيها ، لأنّ الكبرياء لله تعالى ) إذ العلوّ له في ذاته ، ( ولذلك قال : " وَالله يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ " ) ، وروح الذكر هو العلم ، فإنّ الصورة العلميّة هي أصله المقوّمة له ، وبيّن أنّ الذكر القائم بروحه العلميّ أكبر من الذكر الذي لا روح له .

ثمّ إنّه كما لا يتمّ وجوده إلَّا بعد العلم القائم بالمتكلَّم ، فلا يمكن أيضا إلَّا بعد إلقاء السمع القائم بالسامع ، ( و ) من ثمّة ( قال ) : " إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ " يعلم - فإنّه مصدر العلم الكماليّ الذي يختص بالإنسان - ( " أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ " ) ، فوقع إلقاء السمع في مقابلة العلم ، فهو أيضا روحه وغايته الكماليّة ( وإلقاؤه السمع هو لما يكون من ذكر الله إيّاه فيها ) .


شمول الصلاة لجميع أقسام الحركات
قال رضي الله عنه :  ( ومن ذلك ) الوجوه الدالَّة على كمال الصلاة بين سائر العبادات ( أنّ الوجود لما كان عن حركة معقولة نقلت العالم من العدم إلى الوجود ) والحركات منحصرة حصرا عقليّا - من حيث ما إليه الحركة الوجوديّة التي هي المركز – إلى ثلاث حركات ، وذلك لأنّها إمّا أن يكون منه أو إليه أو عليه - لا مزيد على ذلك عقلا –
( عمّت الصلاة جميع الحركات ) ، تطبيقا لها بأصل الوجود عند سريانه في المراتب ، وتوفيقا بين الصورة الإظهاريّة الختميّة وبين الصورة الوجوديّة الظهوريّة .


قال رضي الله عنه :  ( وهي ثلاث : حركة مستقيمة ، وهي حال قيام المصلَّي وحركة افقيّة :  وهي حال ركوع المصلَّي وحركة منكوسة ، وهي حال سجوده ) .

( فحركة الإنسان مستقيمة ) ولذلك ترى الشارع قد طوّل فيه وأوجب قراءة الفاتحة المنبئة عن الصلاة الحقيقيّة والسبع المثاني في هذا الركن ، ( وحركة الحيوان افقيّة ) ، وهو أنزل رتبة من الإنسان الذي هو المصلَّي ، إلَّا أنّها أجمع وأعظم ظهورا ، لوقوعها برزخا بينهما ، ولذلك شرّع فيه التسبيح بـ « سبحان ربي العظيم » ، ( وحركة النبات ) أيضا كذلك ( منكوسة ) إنما يختصّ بما هو أنزل رتبة من المصلَّي وهي أقصى نهاية لتلك الحركة المنزلة ، وهو الأسفل مطلقا ، ولذلك شرّع فيه ذلك التسبيح بما يفصح عن أنّه الأعلى .

ثمّ إنّ قيام الإنسان بلوازم هذين المرتبتين اللتين ليستا له ، إنما هو لاشتمال نشأته عليهما وقيامها بهما من حيث أنّهما الجزءان المحاطان لصورته الاعتداليّة الكماليّة ، كما عرفت في غير هذا المجال ولذلك ترى كلا من تينك الحركتين في الوضع الختميّ متخلَّلا بين الحركة المستقيمة الاعتداليّة التي للمصلَّي بالذات ،
وهي محيطة بكلّ منهما - إحاطة الكلّ بالأجزاء - ولهذا البحث مباد كثيرة طويلة الأذناب ، قد بيّن شطر منها في الرسالة المعمولة في أسرار الصلاة .


الحركة الطبيعيّة والقسريّة
ثمّ إنّ الحركة التي تنقسم بهذه الحركات الثلاث ، هو الحركة الطبيعيّة الأصليّة التي هي مادّة الكلّ ، لأنّ هذه الأقسام كلَّها هي صورة تنوّعات تلك الحركة ، فإنّ كل نوع من الأنواع الكماليّة مختصّ بقسم من تلك الأقسام الحاصرة .
ومما يدلّ على أنّ هذه الحركة من الطبيعة الأصليّة وينبوع إطلاقها أنّ المتحرك بها جمع نوعين من الحركة ، مختلفتين بالحقيقة : أحدهما من مقولة الكمّ والآخر من مقولة الأين . أما الأول فظاهر وأمّا الثاني فلأنّ المتحرّك بتلك الحركة في الزمان السابق جزء للمتحرّك بها في الزمان اللاحق ، وبيّن أنّ مكان الكلّ مغاير لمكان الجزء بالضرورة ، فحصل له بها نقلة مكانيّة .

( و ) ظهر من هذا أنّه ( ليس للجماد حركة من ذاته ) يختصّ به ، فإنّ حركته في الجسد الإنساني إنما هو الحركة إلى المركز ، فإنّ الغالب عليه هو الثقيلان وذلك هو الحركة المنكوسة التي للنبات .

وأيضا فإنّ المتحرك بذاته إنما يقال لما يتحرّك إذا خلَّي وطبعه بدون طريان حالة غريبة ، أو سنوح أمر خارج عن ذاته ، وبيّن أنّ تينك الحركتين اللتين من الجماد ، أحدهما من المركز للخفيفين ، والآخر إليه للثقيلين ، وهما اللتان سمّيتا بالحركة الطبيعيّة في صناعة الحكمة الرسميّة - ليستا كذلك فإنّ الأجسام الجماديّة المذكورة إنما تتحرّك بتينك الحركتين إذا أخرجت عن أحيازها بقسر ، وعرض لها هذه الحالة الغريبة .

فظهر أنّ تسمية هذه الحركة التي نحن نتكلَّم عليها بالطبيعة أولى من ذلك ، فإنّ تلك الحركة إنّما عرض لها باعتبار حالة غريبة ، خارجة عن طبيعته وإليه أشار بقوله : ( فإذا تحرّك حجر ، فإنّما يتحرك بغيره ) ، فإنّ الحركة الطبيعيّة الأصليّة منحصرة في الصور الثلاث ، وهذا أيضا من سريان سرّ الفرديّة الختميّة - فتأمّل 
 

رجوع إلى تفسير قوله صلَّى الله عليه وآله : وجعلت قرة عيني في الصلاة
( وأما قوله : « وجعلت قرّة عيني في الصلاة » ولم ينسب الجعل إلى نفسه - فإنّ تجلَّى الحقّ للمصلَّي إنّما هو راجع إليه تعالى ، لا إلى المصلَّي ) ولذلك قيل له : « المصلَّي » ، إذ الحقّ في ذلك المضمار هو السابق ( فإنّه لو لم يذكر هذه الصفة ) الكاشفة له عن تجلَّي الحقّ - وهو الذكر الذي من الله أكبر - ( عن نفسه ، لأمره بالصلاة على غير تجل منه ) - أي من الله - ( له ، فلما كان منه ذلك ) التجلَّي ( بطريق الامتنان كانت المشاهدة ) - المعبّر عنها بقرّة العين - ( بطريق الامتنان ، فقال : « وجعلت قرّة عيني في الصلاة » )
وما قال : " جعلت " ، ليدلّ أنّ المشاهدة مجعولة بطريق الامتنان في حقّه ، وإن كانت الصلاة من موضوعات النبيّ ومجعولاته ، لأنّ النبيّ من حيث أنّه نبيّ جعلها .

قال رضي الله عنه :  ( وليس ) تلك القرّة ( إلا مشاهدة المحبوب التي تقرّ بها عين المحبّ - من الاستقرار - فتستقرّ العين عند رؤيته ) استقرار تمكَّن ، وأصل ذلك من القرّ ، وهو البرد ، لأن البرد يقتضي السكون ، كما أنّ الحرارة تقتضي الحركة ، ومنه قوله تعالى : " هَبْ لَنا من أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ " وهي ما يسكَّن به العين ، فلا يطمح إلى غيره وكذلك فيما نحن فيه .


الملتفت إلى غير الحقّ في الصلاة لا صلاة له
قال رضي الله عنه :  ( فلا ينظر معه إلى شيء غيره في شيء ، وفي غير شيء ) - أي سواء كان في مظهر موجود مما يتعلَّق به المشيئة ، أو في غير ذلك من النسب الاعتباريّة الكونيّة .
وبالجملة فالغير في صلاة المشاهدة غير منظور مع المحبوب في مظهر عينيّ تشبيهيّ ، أو في غيره من المواطن الغيبيّة التنزيهيّة ، فإنّ النظر إنّما يقع في الكلّ على المحبوب فقط ، ( ولذلك نهى عن الالتفات في الصلاة ، فإنّ الالتفات شيء يختلسه الشيطان ) - الذي هو مادّة البعد والتفرقة ( من صلاة العبد ، فيحرمه مشاهدة محبوبه ) في صلاة المناجاة والمناداة مع الحقّ .


فإنّ المحبوب - بما هو محبوب - لا يمكن أن ينحرف عنه نظر التفات المحبّ ، فإذا التفت العبد إلى غير الحقّ في صلاته لا يكون الحقّ محبوب هذا العبد الملتفت ضرورة ( بل لو كان محبوب هذا الملتفت ما التفت في صلاته ) الكاشفة عن النسبة الجمعيّة الاتحاديّة ( إلى غير قبلته ) بوجهة قلبه المعبّر عنها ( بوجهه ) .

 
قال رضي الله عنه :  ( والإنسان ) وإن يظهر حاله عند الناس على أحسن وضع وأتمّ نظم ، ولم يزل يلقى معاذيره فيما ظهر لديهم من الذنوب ، ولكن ( يعلم حاله في نفسه :
هل هو بهذه المثابة في هذه العبادة الخاصّة ) الجامعة لفنون العبادات وصنوف أركانها جملة - من الصوم الذي هو الإمساك ، والزكاة التي هي عبارة عن التطهير والحجّ الذي هو توجّه القبلة ، والجهاد الذي هو القيام بمخالفة الهوى والشيطان فيما يأمران به
وذلك هو المعبّر عنه في الشريعة بالجهاد الأكبر وبيّن أنّ كلّ أحد يعرف من نفسه عندما خلَّي وإيّاها أنّ له من هذه الصورة الجامعة حظَّ الجمعيّة الكماليّة .

قال رضي الله عنه :  ( أم لا ؟ فإنّ " الإِنْسانُ عَلى نَفْسِه ِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَه ُ " فهو يعرف كذبه من صدقه في نفسه ، لأنّ الشيء لا يجهل حاله ) بناء على الأصل الممهّد : " إنّ العلم يلازم الوجود ، ولا يفارقه أصلا " .
فكل شيء له علم بحسب مدارج دركه ومداركه المختصّة به ، ولذلك يجهل الآخر عن وجه ظهور العلم فيه وإظهاره منه ، كما نصّ عليه قوله تعالى : " وَإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه ِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ "
وبيّن أنّ مدرجة الذوق من كلّ شيء هي جهة خصوصيّته التي له إلى أصله ، ولذلك يرتبط به اليقين ، وإليه أشار بقوله : ( فإنّ حاله له ذوقي )

 
 الصلاة لها قسم آخر
ثمّ إنّ هذا الكلام في حقيقة الصلاة ذات الأركان ، واسم الصلاة قد يطلق عليها وعلى غيرها بحسب تخالف الأوضاع ، والكلّ مسمى الصلاة ، ولذلك قال : ( ثمّ إنّ مسمّى الصلاة له قسمة أخرى ، فإنّه تعالى أمرنا أن نصلَّي له ، وأخبرنا أنّه يصلَّي علينا ) ، وخبره صدق وكلامه حقّ ، ( فالصلاة منّا ومنه ) ، ولا بد من تحقيق الصلاتين وتبيين أمرها في الطرفين .


قال رضي الله عنه :  ( فإذا كان هو المصلَّي ، فإنّما يصلَّي باسمه الآخر ) الذي هو من أسمائه الكليّة التي تحقّقت بها الهويّة الإطلاقيّة ، ( فيتأخّر عن وجود العبد ) عندما يكون مسمّى ذلك الاسم ضرورة ، لأنّه إضافة ونسبة ، وما ثمّ غير الحقّ والعبد ، والمتأخّر


قال رضي الله عنه :  ( هو عين الحقّ الذي يخلقه العبد في قلبه ، بنظره الفكريّ ) - إن كان ذا رأي ونظر ( أو بتقليده ) إن لم يكن له ذلك الرتبة ، وكأنّك قد اطَّلعت فيما تقدّم على تحقيق من هذا الكلام وزيادة بسط فيه ، فلا يحتاج إلى الإعادة .
( وهو الإله المعتقد ) الذي يختلف صورة بحسب استعداد المعتقد ومبلغ كماله ( ويتنوع ) صورة ذلك المعتقد ( بحسب ما قام بذلك المحلّ من الاستعداد ) تنوّع صورة الماء مثلا بحسب ما قام بمحلَّه من الأعراض المحسوسة التي أجلاها اللون .


قال رضي الله عنه :  ( كما قال الجنيد حين سئل عن المعرفة باللَّه والعارف ) يعني عن النسبة التي بينهما وإذ كان النسبة المسؤول عنها إنّما هي ما بين الصورة المعتقدة والمعتقد لها ، قال : « عن المعرفة باللَّه » ، لا " عن الله " ، إشعارا بذلك المعنى ( فقال : « لون الماء لون إنائه » وهو جواب سادّ ) حيث طابق النسبة المسؤول عنها بطرفيها سالما عن خلل النقص والزيادة ، كاشفا عن أمر النسبة وتبيين حالها بما لا مزيد عليه ،
مشيرا إلى ذلك بقوله : ( أخبر عن الأمر بما هو عليه ) حيث خصّص بالإله المعتقد على ما هو رتبة السائل ، وعمّم ذلك بحيث يشمل جميع المعتقدات ،

كما قال الشيخ نظما :
عقد الخلائق في الإله عقائدا  .... وأنا شهدت جميع ما اعتقدوه
وهذا كلَّه موطن أرباب العقائد - تقليديّة كانت ، أو فكريّة برهانيّة - وصاحب الذوق الإحاطيّ له في هذا الموطن رتبة الجمع ، والسابق في تلك الرتبة هو الحقّ ، والعبد هو المصلَّي ، كما قيل :
يقولون :
لون الماء لون إنائه  .... أنا الآن من ماء إناء بلا لون
كما أنّ العبد في الأولى له رتبة التقدّم ،

ولذلك قال : ( فهذا هو الله الذي يصلَّي علينا ) في صورة اسمه الآخر ، ( وإذا صلَّينا نحن كان لنا الاسم الآخر ) وهو الأول ، ( فكنّا فيه كما ذكرناه في حال من له هذا الاسم ) كما ظهر أمره في الصورة الأولى ، ( فنكون ) نحن ( عنده بحسب حالنا ) التي نتحوّل عليها في طيّ الأطوار والأدوار ، ( فلا ينظر ) الحقّ ( إلينا إلَّا بصورة ما جئناه بها ) في كلّ لحظة ولمحة من تلك الأحوال السريعة الزوال .

ثمّ هاهنا نكتة خفيّة لا بدّ من الاطلاع عليها ، وهي أنّ مقتضى العبوديّة والتقيّة الأسمائي هو الحصر في صورة معيّنة ، كما أنّ مقتضى الالوهيّة والإطلاق الذاتي إنّما هو عدم الحصر في صورة والتقيّد بحال .

إذا عرفت هذا ، فإذا كان الحقّ هو المصلَّي والسابق ، إنّما يكون العبد حينئذ لا بدّ وأن يكون قبلة التوجّه في تلك الصلاة ، صورة عقديّة عقليّة معيّنة - كما سبق بيانه .
وإذا كان العبد هو المصلَّي ، يكون السابق حينئذ الحقّ لا غير ، فيكون قبلة التوجه في تلك الصلاة صورة علميّة انشراحيّة غير معيّنة بحال ، ولا محصورة في صورة .
وقد أشار في طيّ عبارته إلى هذه الدقيقة إشارة خفيّة ، إنّما يتفطَّن لها اللبيب من قوله : « بحسب حالنا » وقوله : « جئناه بها » ، أي بتلك الصور المتحوّلة التي جاء العبد حقيقة معها ، فإنّ السابق في مثل تلك الصور المتحوّلة إنّما هو الحق ، والمصلَّي هو العبد .

 

قال رضي الله عنه :  ( فإنّ المصلَّي هو المتأخّر عن السابق في الحلبة ) فصلاة العبد هو الذي لكل واحد من الصور المتحوّل عليها العبد في كلّ وقت ، مما هو من أصل الإطلاق الذاتيّ ، وذلك أولا وبالذات للحقّ ، وثانيا وبالعرض للعبد وما للعبد بحسب ذاته هو ما يعطيه استعداده الأصليّ من التنزيه الصرف الثابت ، الذي لا تحوّل فيه ولا تغيّر عنه بحال .

 
قال رضي الله عنه :  ( وقوله تعالى : " كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَه ُ وَتَسْبِيحَه ُ " ) إشارة إلى تينك المرتبتين فإنّ قوله : " صَلاتَه ُ " ( أي رتبته في التأخّر عن عبادة ربّه ) عند التحوّل معه في شؤونه فإنّ العبد تلويحه كاشف عن أنّه هو العين الدائر بربّه فيما هو فيه من الشؤون في كلّ يوم .


قال رضي الله عنه :  ( وتسبيحه الذي يعطيه من التنزيه استعداده ) ، فإنّ أصل الاستعداد إنما يعطي التنزيه ، فإن كان ذلك الاستعداد متوقّفا عند الرسوم ، ما يعطي إلَّا التنزيه الرسمي ، وإن كان من السالكين مسالك الحقيقة فتنزيهه تنزيه حقيقيّ - كما عرفت .
ثمّ إنّ لكلّ من الموجودات علمين : أحدهما وجوديّ إطلاقيّ ، وهو الذي يتعلَّق بحاله المتحوّلة بها لحظة فلحظة ، وهو الذي به يصلَّي ويحمد.
 والآخر عدميّ نسبيّ ، وهو الذي يتعلَّق بخصوصيّته الخاصّة الثابتة التي يعطيها أصل استعداده ، وهو الذي به يسبّح وبيّن أنّ هذه الخصوصيّة أيضا من جملة تلك الأحوال عند التحقيق .


ما من شيء إلا وهو مسبّح لربّه
قال رضي الله عنه :  ( فما من شيء إلَّا وهو يسبّح بحمد ربّه ) أي تنزّهه عن الخصوصيّة التي أظهره بتلك الخصوصيّة تعيّن تلك الخصوصيّة ، على ما هو حقّ التسبيح والتنزيه ، يعني التسبيح بعين الحمد والتنزيه في نفس التشبيه . هذا إذا أعيد ضمير بحمده إلى « الرب » ، أي بحمد ربّه .
( الحليم ) وهو الذي تنزل إلى رتبة من دونه في القدر ، وهو مقتضى الحمد الذي هو ظهور الحقّ بصور الأشياء وإظهارها له ، فإنّ الحمد إنّما هو الإظهار والتعريف .
( الغفور ) وهو الذي يستر ذلك التنزّل ، كما هو مقتضى التنزيه والتسبيح .

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ مبدأ ذينك الحمد والتسبيح هو الخصوصيّة من كلّ أحد ، إذ بها يسبّح بالحمد ، كما لا يخفى على الواقف بالأصول الممهّدة قبل ، ( ولذلك لا يفقه تسبيح العالم واحدا واحدا ) على التفصيل فإنّ خصوصيّة كلّ أحد لا دخل للآخر فيه ، وإلَّا لا يكون خصوصيّة له .

 
إله المعتقد مصنوع معتقده  
هذا كله في التسبيح والحمد اللذين في صلاة العبد ، فأمّا إذا أخذا على ما هو في صلاة الحقّ ، فالضمير المذكور حينئذ إنّما يعود إلى الشيء ، وإلي ذلك أشار بقوله : ( وثمّ مرتبة يعود الضمير إلى العبد المسبّح فيها ) ، أي في تلك المرتبة ، فإنّ أصل التسبيح في صلاة الحقّ إنّما هو للعبد والحقّ فيها تابع مصلّ وذلك الضمير هو الذي

قال رضي الله عنه :  ( في قوله : " وَإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه ِ " أي بحمد ذلك الشيء ، فالضمير الذي في قوله : " بِحَمْدِه ِ " يعود على الشيء ، أي بالثناء الذي يكون عليه ) فإنّ الحمد هو الثناء بالجميل ، وبيّن أنّ كلّ أحد إنّما يحمد ويثنى الصورة الاعتقاديّة التي جعلها إلها لنفسه ،

قال رضي الله عنه :  ( كما قلنا في المعتقد إنّه إنّما يثنى على الإله الذي في معتقده ) عندما يصلَّي بالصلاة العبدانيّة ، ( فتربط به نفسه ) ربط العبيد بالإله ، والفروع بالأصل وبيّن أنّ تلك الرابطة لقرب المربطين وثيقة جدّا ، فإنّ تلك الصورة عمل المعتقد ، ( وما كان من عمله فهو راجع إليه فما أثنى إلَّا على نفسه ، فإنّه من مدح الصنعة فإنّما مدح الصانع بلا شكّ ، فإنّ حسنها وعدم حسنها راجع إلى صانعها ) والمدح والذمّ راجعان إليه .


قال رضي الله عنه :  ( والإله المعتقد مصنوع للناظر فيه ) إن كان ذا نظر ، وأمّا المقلَّد فهو إنما يقلَّد ذا نظر ، فإلهه أيضا مصنوع للناظر فيه ( وهو صنعته ) المعمولة بيدي مقدّمتيه ، ( فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه ، ولهذا يذمّ معتقد غيره )
فإنّه على خلاف ما صنعه ، ( ولو أنصف ) إنصاف عارف بالأمر ( لم يكن له ذلك ) فإنّ الكلّ مجالي صور المعبود الحقّ .

 
قال رضي الله عنه :  ( إلَّا أنّ صاحب هذا المعبود الخاصّ جاهل بلا شكّ في ذلك ) ضرورة أنّ نظره إنّما هو على الخصوصيّة المصنوعة المعمولة ( لاعتراضه على غيره فيما اعتقده في الله ) الجامع لجميع الأسماء بحقيقته الكليّة الجمعيّة الأحديّة ،


( إذ لو عرف ما قال الجنيد - « لون الماء لون إنائه » - لسلَّم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده ) فإنّ اللون الذي اكتسبه الحقّ في ذلك المعتقد عين لون الحقّ ، وتلك الصورة صورة الحقّ ، ( وعرف الله في كل صورة وكل معتقد فهو ظانّ ، ليس بعالم ) ضرورة أن صاحب الاعتقاد فيما عقده عليه ما وصل إلى مرتبة العلم اليقيني والانشراح الصدري ، فإنّه بعد في مرتبة العقد العقلي ، فهو داخل في مرتبة الظنّ
 

قال رضي الله عنه :  ( فلذلك قال ) : تطمينا لجميع أرباب العقائد : ( « أنا عند ظنّ عبدي بي » أي لا أظهر له ) ظهور ما تبيّن عند الشخص ( إلَّا في صورة معتقده ، فإن شاء أطلق ) في سائر الصور الاعتقاديّة ، كما هو عند أهل الذوق والكشف ، ( وإن شاء قيّد ) بصورة خاصّة فيها على ما هو عند أصحاب النظر والتقليد . وبيّن أنّ الحقيقة ما لم تكن محصورة تحت انضباط الصورة لا يقبل الحدّ أصلا ، على ما لا يخفى عند الواقف بأساليب طريق العقل وميزانه ، وإليه أشار بقوله : ( وإله المعتقدات تأخذه الحدود وهو الإله الذي وسعه قلب عبده )

باعتبار إحاطته إيّاه وحصره صورته المحصورة به وفيه ، ( فإن الإله المطلق ) من حيث أنّه مطلق ( لا يسعه شيء لأنّه عين الأشياء ، وعين نفسه ، والشيء لا يقال فيه : « يسع نفسه » ، ولا « لا يسعه » ) فإنّك قد نبّهت من قبل في المقدّمة أنّ من شأن الهويّة الإطلاقيّة جمعيّة الأضداد وتعانق الأطراف وبيّن أنّ صدق الضدين معا يستلزم كذبهما معا ، فهو قد آثر صورة النفي هاهنا في التعبير عن هذه اللطيفة لما في النفي من المناسبة إلى الإطلاق .

 
قال رضي الله عنه :  ( فافهم ) فإنّه من فهم هذه الدقيقة فهو على أبين السبل وأقرب الطرق من فهم الإطلاق الذاتي .
( والله يقول الحق ) بالقول الثابت القرآنيّ الختميّ ( وهو يهدي السبيل ) إلى مدارك لطائفه الختميّة .
فبلطائف نقوش الختم انختم الكتاب ونجز التعليقات عليه في يوم الجمعة ، عشرين من الصفر ، ختم بالخير والظفر ، بسنة أربع عشر وثمان مائة حامدا لله ومصليّا على الخاتم والسلام .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 2انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني
» شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: