سعدي الشيرازي : شاعر الإنسانية .. صاحب اللسانين .. وبلبل الملكوت

وماذا بعد ؟ ! يا قمر شيراز المسافر في سماء الملكوت تدنو من الرحيق المختوم عبر الضباب والغيوم .. يا حامل المشكاة في شيراز تضيء بها جنبات فيافي القلوب .... تدق على أبواب الأسرار والغيوب ... تسترق السمع لضجيج الروح المشتاقة للبدء والأولية ...
يا زينة الشعراء بلسان العُجم والعُربِ .. يا من دنا في البعد والقُرب .

ألا إنَّا في حضرة سعدي .. رجل من رجال الله .. تولاه مولاه.. فأصلح فؤاده فاشتهرت بذلك بلاده ...

ألا إني لست من المتيمين عند بلوغ حضرة الرجال أن أسرد ولد يتيماً في شيراز وعاش ما يقرب المائة عام وكان من رجال القرن السابع الهجري وتقلب في الأسفار قرابه الثلاثون عاما باحثاً عن ثنايا جنبات نور المشكاة .. فليس هذا ما يعنينا .. فالموت والميلاد لا يعنينا في سيرة الرجال .. وإن ما يعنينا هو ما بينهما ..
وصاحبنا قد بلى بلاءً حسنا في هذه المسافة الضوئية التي حل فيها ضيفاً على دنيانا الفانية ..

وسعدي له لسانين : لسانٌ عربي ولسانٌ فارسي وهو الأبلغ لأنه لسان الميلاد .. ولنسمع لسعدي ماذا قال بلسان الجيرة يقول في مدح حضرة سيدنا محمد :

بلغ العلا بكماله كشف الدجى بجماله
حسنت جميع خصاله صلوات عليه وآله

وهل يصح ما قاله قمر شيراز غير في سيد آل آدم .. وصدر العالم .. سيدنا ومولانا وطيب أرواحنا محمد صلى الله عليه وآله .
ثم نرى سعدي قد تأثر بشهاب الدين السهروردي ( حتى في القافية ) في حديثه عن الوجد والشوق والبوح والسر ودماء العاشقين يقول سعدي :

تعذر صمت الواجدين فصاحوا
ومن صاح وجدا ما عليه جناح
اسروا حديث العشق ما امكن الهوى
وان غلب الشوق الشديد فباحوا
سرى طيف من يجلو بطلعته الدجى
وسائر ليل المقبلين صباح
يطاف عليهم والخليون نَّوَمٌ
ويسقون من كاس المدامع راح
اصيح اشتياقا كلما ذكر الحمى
وغاية جهد المستهام صياح
ولابد من حي الحبيب زيارة
وان ركزت دون الخيام رماح
يقولون لثمَ الغانياتِ محرمٌ
أسفك دماء العاشقين مباح ؟

سعدي الشيرازي : شاعر الإنسانية .. صاحب اللسانين .. وبلبل الملكوت Sadi

وللنظر إلى خمريته السينية هذه وكأنه أراد أن يقول بأن له لساناً عربياً سليماً فنراه ينادي صاحبيه كعادة الشاعر العربي القديم :

قوما اسقياني على الريحان والآس
إني على فرط ايام مضت آس
صهباء تحيي عظام المِيِتِ ان نقطت
على الثرى نقطة من مرشف الحاسي
در بالصحاف على الندمان مصطحبا
إلا عليَّ بملء الطاس والكاسِ

ونراه أخيراً في معرض بعض نماذج شعره العربي يرثي لحال المحب فيقول :

على ظاهري صبر كنسج العناكب
وفي باطني هم كلدغ العقارب
ومغتمض الأجفان لم يدر ما الذي
يكابد سهران الليالي الغياهب
وان غمدوا سيف اللواحظ في الكرى
أليس لهم في القلب ضربة لازب
أقر بأن الصبر ألزم مؤنس
لكنهُ في مضيق الحب اغدر صاحب

وفي النهاية أقام سعدي في شيراز .. فسكن موطن القمر الطالع من برازخ الروح ليظهر على العالم كأستاذ لفن الغزل وليخرج من طي كمه وعبائته عبقري آخر من عباقرة شيراز وهو الحافظ الشيرازي .

ثم أصدر سعدي عمليه الكبيرين البوستان ( الحديقة ) والكلستان ( روضة الورد ) في عامين متتاليين هما 655هـ ، 656هـ.

ومن المفروض أن الشاعر لم ينظم عملا كالبوستان وكتاباً كالكلستان بهذه السرعة، بل إنه كان قد أعد مادتهما من قبل، ثم كان إصدارهما بعد استقراره في موطنه خلال هذه المدة الوجيزة. وإلى جانب البوستان والكلستان نظم سعدي كثيراً من الغزليات والقصائد، وأبدع إبداعاً مرموقا في هذين الفنين .

ولندخل حديقة سعدي وبوستانه المحمدي الندي بلسانه الفارسي وترجمة عربيه قام بها محمد موسى هنداوي :

لنراه يترنم في الذات فيقول :
ـ لم يعرف البشر شيئاً وراء جلاله
ولم يدرك البصر منتهى جماله
ـ ولن يبلغ طائر الوهم أوج ذاته
ولن تدرك يد الفهم أطراف صفاته
ـ كم من السفن ! غرقت في تلك اللجة
ولم يطفُ لوح واحد منها على الشاطيء
ـ وكم من ليالٍ ! ضللت هذا الطريق
إلى أن أمسكت الدهشة بكمي ، أن قم !
ـ إن علم الله محيط على البسيطة
وقياسك ، لن يحيط بعلمه !
ـ فلا إدرك ، واصل كنه ذاته
ولا الفكر، بالغ غور صفاته

ـ لقد انطلق المقربون بجيادهم في هذا السبيل
لكنهم تخلقوا ـ عجزاً ـ بـ " لا أحصي ثناءً عليك .. "
ـ فليس في كل مكان ، يمكن أن تركض الجياد
فلعل العجز يدركها في أماكن كثيرة
ـ إنك إن تطلب طي هذه المسافة
فاعقل ـ أولاً ـ جوادك
ـ وتأمل في مرآة قلبك
تحصل ـ تدريجياً ـ على صفاء نفسك

ـ حافظ بقدرته ، عالم السماء والأرض
وهو صاحب الديوان يوم العرض
ـ على أعتابه تنحني بالدعاء
رؤوس الملوك العظماء
ـ وعلى أبواب لطفه ، وكبريائه
يتجرد العظماء من عظمتهم
ـ إنه عزيز ، كل من أعرض عن بابه
لم يلق عزاً ، بأية بابٍ يلجأ إليه

ـ بسط الأرض مائدةً للخليقة
يستوي عليها ، عدّوه ، وصديقه
ـ وإذا وزّع مائدته الكريمة
يناديه الشيطان ! هبني نصيبي !
ـ ومائدة كرمه مبسوطة
حتى تبلغ العنقاء نصيبها ، ولو كانت على " قاف "
ـ ومنشور إحسانه ليس له حد
وليس لنفاذ أمرهِ رد
ـ وواهب العطاء مُعين الضعفاء
الكريم ، العفو ، الغفور

أما في باب العشق الصوفي فيقول بلبل الملكوت
ـ تأمل في مرآة قلبك
تحصل ـ تدريجياً ـ على صفاء نفسك
ـ لعل رائحة من العشق تسكرك
فتصير طالباً لعهد " ألست بربكم .. "
ـ فتقطع الطريق بِقِدَمِ الطلب
ومن ثمَّ ، تطير بجناح المحبة
ـ وهناك ، يمزق اليقين حُجُبَ الخيال
وعندئذٍ ، لا يبقى إلا ستار ذي الجلال
ـ إنهُ ـ وحدهُ ـ من يليق له الكبرياء ، والإنيّة
فملكهُ قديمٌ ، وذاته غنية
ـ يقلد واحداً ، تاج السعادة على رأسه
ويهوي بآخر ، من العرش إلى أرضه
ـ ويجعل النار فردوساً على الخليل
ويحمل جماعة إلى النار من النيل
ـ يهيء الرزق للثعبان ، والنمل
ولو أنها بغير يدٍ ورجلٍ وقوة
ـ لو أنَّ شخصاً ، أعلن العصيان على أبيه
فلا ريب ، أن ذلك يغضب الأب كثيراً
ـ والقريب ، إذا لم يرض عن قريبه
فإنهُ يطرده ، كالغرباء عن بابه
ـ والخادم ، إذا لم يسرع إلى عمله
فلن يجد العز من سيده
ـ والرفاق ، إذا لم تكن مشفقاً عليهم
هربوا منك وخلّفوك وحيداً
ـ إذا أسرعت على منهج الجفاء لهُ
فمن ذا الذي لقى الأمان من يد قهره ؟!
ـ وذاته تعالى ، مبرأة من تهمة الضد ، والجنس
ومُلكَهُ غنيٌ ، عن طاعة الجن والإنس
ـ لأمرهِ ، أطاع كلَّ شيءٍ ، وكلَّ إنسان
أطاعهُ الناس ، والطير والبعوض
ـ إنهُ واهب العطاء ، مُعين الضعفاء
الكريم ، العفو ، الغفور
ـ لا يأخذ العصاة ، بذنبهم فوراً
ولا يطرد المعتذرين ، منهم جوراً
ـ فإذا غضب على عاصٍ ، طوى له ما مضى
إذا ثاب ، وارتد عن الهوى
ـ ورب السماء والأرض
لا يوصد عن عاصٍ ، باب رزق
ـ إنهُ قريب من الضعفاء ، برحمته
يجيب دعوة المتضرعين ، بعطفه

في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم
" كريم السجايا ، جميل الشِّيم ... نبيّ البرايا ، شفيع الأمم "
ـ هو إمام الرسل ، هادي السبيل
وأمين الله ، مهبط جبريل
ـ إنه اليتيم ، الذي لم يعرف القراءة
لكنه نسخ كتباً كثيرة
ـ وحين سلَّ عزمهُ سيف الرهبة
انشق القمر ـ نصفين ـ إعجازاً لهُ
ـ وحين تردد اسمه في أفواه الدنيا
تصدع ديوان كسرى
ـ إنهُ حطم اللات ، بكلمة " لا "
ومحا الدين العزيز مكانة العُزى
ـ لم يحطم اللات والعُزى ، فحسب
ـ بل نسخ التوراة والإنجيل والكتب
ـ ركب ليلة القدر ، فجاوز الفَلَك
ومضى بالتمكين ، والجاه ، من المَلَك
ـ وجدَّ في تيه القُربى ، من الله
حتى تخلف عنه جبريل في سدرة المنتهى
ـ أثنى عليك الله ، ومنحك التبجيل
وقبل الأرض ـ تقديراً لك ـ جبريل
ـ خجلت أمام قدرتك ، السماء العلى
أنت مخلوق ، وآدم لا يزال طيناً ، وماء
ـ أنت أصل الوجود ، جئت من الأزل
فتأمل ، كل موجود ، من فروعك لم يزل
ـ أنت الشفيع للورى ، سيد البعث ، والنشر
إمام الهُدى ، وصدر ديوان الحشر
ـ لم يبق إنسانٌ رهينة لمعصية
من اتخذ الرسول شفيعاً لهُ

وفي مدح الصحابة والآل :
ـ ليكن ، سلام الله ، على روحك
وعلى أصحابك ، وتابعيك
ـ على أبي بكر ، الشيخ المريد
وعلى عمر ، قاهر الشيطان المَريد
وعلى العاقل ، عثمان محيي الليل
والرابع عليٌ ، راكب الدلدل الجميل
ـ أسألك إلهي ، بحق بني فاطمة
أن تُؤَمِنْ على قولي ، بالقبول
فإني متعلقٌ بأهداب ، آل الرسول

الدلدل : حمار كان يركبه سيدنا الإمام علي ( عليه السلام ) .

وإذا ما تركنا البوستان ودخلنا روضة الورد نرى أن الحكمة قد جرت على لسان قمر شيراز على أبدع ما يكون هي حكمة المتأمل في الملك والملكوت من طي العزة والجبروت يقول صاحب اللسانين :

مهما صنعت الخير للأشرار فلن يقتل مروض الأفعى غير الأفعى.
لا تستسلم إلى العجز وقلة الحيلة فلا يزال بيدك الخلاص فأعمل له.
كلهم شمع أمام هذه الشمس، وكلهم فراش حول هذا المشعل.
لا بسبب مكانته ومنصبه، وليس هذا يكفيان الرجل ليكون فاضلاً، بل بسبب أن قلبه ويده دائماً مثل السحاب يشمل كل العالم برحمته.
القوة ليست بالمال لدى أهل الكمال، لأن المال يفيد حتى القبر، وبعد ذلك الأعمال.
لا تشبع عين الطامع من الدنيا، ولا يمتلئ الجبّ قط بالندى.
شيئان هما حاصل العمر: الذكر الطيب أو السيئ، وما خلاهما فكل من عليها فان.
فإذا لم يستخفك الرقص فأنت مخلوق عجيب، فهذا الجو جعل الأشجار تتراقص.
نور عقلك مصباح الطرق المخيفة، وعنان عزمك مفتاح البلاد الحصينة.
لا تضم بلاد الشرق والغرب، ولا تطلب الحرب، بل فز بقلب، وأزل همّ خاطر.
طالما أنه لا بد من الرحيل عن العالم، فيجوز لك أن تتخيل أنك أخذت العالم.
الدنيا امرأة غنوج تستلب القلوب، لكنها لا تعقد نفسها مع أحد قط بعقد الزواج.
لا أعرف ثمرة لشجرة العلم غير العمل، وإذا لم تشفع علمك بعملك فأنت غصن بلا ثمر.
لا تنظرن بحقارة إلى ذاتك، لو كنت قليل مال، لأن التميز بالمال لا يعدل التميز بالفضل.
يراودني بين الفينة والأخرى فكرة أنني الذي استوليت على بلاد العجم بسيف الشعر، ثم تنقطع أنفاسي فزعاً من أهل الفضل، فأشعر بالاستحياء من بضاعتي الرديئة، ولكن تجد بالسوق من يشتري الزجاج، ومن يشتري الجواهر.
الدنيا كبحرعميق تملؤه التماسيح، والعارفون المرتاحون هم من عاشوا على ساحله.
إذا ما فارق السهم قوسه فلا يعود ثانية، فتأمل وتريث في كل أمورك.
إن تسكر فأسكر بشراب الشوق إلى الحبيب، فهو الذي يذهب بعقلك وطبعك وحياتك.
أغمض سعدي عينيه تماماً عن كل العالم حتى لا يظهر له من كل العالم سوى خيال الحبيب.
لا ديّة للدم الذي يسفكه الحبيب.
أحرقتُ نفسي كالعود في نار الفكر لكي يفوح نشري في العالم.
ربيتُ كالصدف درر المعرفة في صدري، حتى فقتُّ بجوهري درر البحار.
الجاهل يخالط كل الناس في كل مكان، فهو كالغريق يتشبث بكل شيء يراه، فلا ترافق الأشرار، ومن يحتك بالموقد تلوّث بسواده.
قلتَ سوف يخرج ماءٌ من بئر الأمل، لكن للأسف سقط الدلو أيضاً في البئر.
تسكن القطة في الدار لقلة إيذائها، ويهيم الذئب في الصحراء لسوء فعاله، يعيش الفقراء في المدن لطهارة أيديهم، ويتخفى اللصوص في الجبل والسهل لتجاوزهم وعدوانهم.
النار ناران: نار المعيشة ونار المعصية، نار المعيشة يقتلها ماء السماء، ونار المعصية يقتلها ماء العين.

رحم الله سعدي الشيرازي
شاعر الإنسانية .. صاحب اللسانين .. وبلبل الملكوت .

عدد الرسائل : 71 تاريخ التسجيل : 11/11/2007

الله عليك يا درويش من اين لك تلك الكنوز زدنا منه اللة يكرمك

» الشيخ سعدي الشيرازي
» مخاطبة 13 :يا عبد اجعلني صاحب سرك أكن صاحب علانيتك
» سألت شيخي : كم يحتاج السالك من الوقت حتى يدخل عالم الملكوت ؟
» رسالة الإنسانية وإنسانية الرسالة
» أنا مش شاعر كده بالصدفه