منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 7:35 am

مقدمة الشارح النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

مقدمة الشارح النابلسى جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص

الحمد لله الذي بذاته ثبتت الأعيان , وبصفاته تفصلت الأكوان و بأفعاله ظهر التغير و تبينت الزيادة والنقصان، ثم بأسمائه برزت حقيقة الإنسان، وبأحكامه تمیزت الشقاوة من السعادة والسخط من الرضوان .
والصلاة والسلام على مجمل هذا التفصيل وتفصيل هذا المجمل.
ذاتي السر وصفاتي القلب وأفعالي النفس وأسمائي العقل وأحكامي الجسم الكامل المكمل.
وعلى كل من آل إليه واتحد به في انعطافة عليه ومن صحبه بالتميز بينه وبينه ليمتع بالنظر إليه عينه، والتابعين لهم بإحسان إلى آخر الزمان.
أما بعد:
فيقول أسير الذنوب وإناء النقائص والعيوب عبد الغني النابلسي، الحنفي مذهبا القادري مشربا، خادم نعال السادات والمنتصب لنصرة فقراء الطريق أرباب السيادات، أخذ الله بيده وأمده بمدده .
هذا شرح مختصر وضعته على كتاب "فصوص الحكم" الذي صنفه بحر المعارف الإلهية وترجمان العلوم الربانية الشيخ الأكبر والقطب الأفخر الشيخ محيي الدين ابن العربي الطائي الأندلسي قدس الله سره وأعلى في حضرة القرب مقره.
لما رأيت شروحه مغلقة العبارات صعبة الإشارات لا تبرد من كيد القاصرين غلة، ولا تشفي لأهل البداية علة .
حتى لا يكاد ينتفع بها غير أهل الأذواق من السادات الأجلة، فأردت أن أوضح مشكله وأفصل مجمله بأظهر ما تيسر لي من الكلام وعلى حسب الفتح والإلهام.
وسميته «جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص».
وبالله المستعان وعليه التكلان وهو حسبي ونعم الوكيل .
"والله يقول الحق وهو يهدي السبيل" آية 4 سورة الأحزاب.
اعلم أن العلوم ثلاثة :
علم القول
وعلم الفهم
وعلم الشهود.
فعلم القول للمقلدين القاصرين، وعلم الفهم للناظرين المستدلين، وعلم الشهود للعارفين الذائقين.
وقد انقسم الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالشرائع والأحكام إلى ثلاثة أقسام:
إيمان المقلدين :
وهو بالقول فقط مع طمأنينة قلوبهم إليه من غير فهم.
وقد اعتبره الشارع وسماه إيمانا حيث قال : "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا" آية 136 سورة البقرة .
وقال لنبيه عليه السلام: "قل هو الله أحد " آية 1 سورة الإخلاص إلى آخر السورة. ونحو ذلك .
وإيمان المستدلين:
وهو بالفهم مع القول فقط .
وقد دعا الله تعالى إليه حيث قال : "قل انظروا ماذا في السموات والأرض" آية 101 سورة يونس.
وقال : "أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا " آية 48 سورة النحل إلى غير ذلك.
وأصحاب هذين القسمين من الإيمان أبحاثهم عند علمائهم، وقد صنفنا في إيمانهم كتبا مختصرة ومطولة، وليس هذا الكتاب موضع بيان ذلك.
وأما القسم الثالث : فهو إيمان العارفين :
وهو بالشهود فقط بعد القول والفهم كما قال الله تعالى:"  شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)سورة آل عمران.
ومن عظيم أسرار هذه الآية أن الشهادة ذكرت فيها مرة وأسندت إلى ثلاثة حقائق : الله والملائكة وأولو العلم، فدل أن الشهادة واحدة أسندت إلى الله أولا ، ثم تنزلت إلى الملك، ثم إلى صاحب العلم.
فهي في الله فعل، وفي الملك وصاحب العلم تفويض.
وبالتفويض يقع الشهود فإن الله لا ينسب إليك شهادته إلا إذا فوضت إليه.
وإذا فوضت إليه محقك من عينك، فكان هو الشاهد والمشهود، في هذا المقام يقول بعض العارفين : ما عرف الله إلا الله .
واعلم أن هذا الكتاب الجليل الذي هو «فصوص الحكم» إنما هو في إيمان أهل الشهود فقط.
لا إيمان أهل الأقوال أو أهل الاستدلال
فلا يفهم إلا من ترقت همته عن حضيض القول والفهم .
وقد انخرق له حجاب الوهم وإلا فمن كان إيمانه مجرد لقلقة اللسان أو محض تصورات الأذهان فبعيد عليه فهم هذه الحقائق وشهود هذه الدقائق .
ولا شك أن أقسام الإيمان الثلاثة ترجع إلى قسم واحد وهو ما ورد عن الله تعالى. قاله المقلدون بأفواههم وتصوره المستدلون بأذهانهم وشهده العارفون بأسرارهم.
فهو في المقلد قول.
وفي المستدل تصور.
وفي العارف شهود.
بمنزلة من قال بلسانه نار، ومن تصور النار في ذهنه ومن أدرك حرارتها ببدنه، فالقائل يستند في قوله إلى غيره حاكي عنه.
والمتصور يستند في تصوره إلى ذهنه حاكية عنه.
والمشاهد يستند في شهوده إلى حقيقة ما شاهد حاكيا عنه.
فمعلم الأول آخر مثله
ومعلم الثاني فكره وذهنه.
ومعلم الثالث ربه .
كما قال بعض العارفين :
"أخذتم علمكم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت".
وشتان بين من ينطق عن غيره، أو عن فكره وبين من ينطق عن ربه، فالحق الذي يجب الإيمان به واحد، ولكن يختلف باختلاف الظهورات.
فظهوره في أصحاب الأقوال غير ظهوره في أصحاب الاستدلال غير ظهوره في أصحاب شهود الأحوال.
أرأيت إلى ما ذكرناه من النار، فإنها في لسان القائل على صورة غير صورتها في ذهن المنصور، غير صورتها في شهود من أحس بحرارتها، وهي حقيقة واحدة.
لم تتكرر ولكن ظهرت في كل موطن بحسب استعداده.
فإن اللسان لا استعداد فيه إلا للأقوال.
والذهن لا استعداد فيه إلا للتصور في الخيال.
وشهود الحس قد استعد لإدراك حقيقة الحال، ولا أتم من الظهور الشهودي، لأنه هو المقصود.
وأما الظهوران الأولان فإنما قصد منها حصوله، فهما مقصودان بالغير وهو مقصود بالذات.
وكذلك حقيقة الإيمان بالحق لها ظهور في لسان المقلدين، غیر ظهورها في تصور المستدلين الناظرين، غير ظهورها في شهود العارفين المحققين.
ولهذا اختلفت العبارات وتنوعت الإشارات وتكلمت كل طائفة بما عندها والكل مصیبون ولكلهم درجات عند ربهم "ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات" آية 32 سورة الزخرف.
ومعلوم أنه لا أتم من ظهور الحق تعالى الظهور الشهودي، ودونه الظهور الاستدلالي النظري الفكري، ودونه الظهور القولي التقليدي.
وهذا الكتاب الذي هو «فصوص الحكم» في بيان الظهور الشهودي.
فبالضرورة يجهله أصحاب الظهور القولي، وأصحاب الظهور الاستدلالي.
وينكرون منه ما يفهمونه على حسب ما هم فيه من القول والتصور.
وذلك لأن أصحاب كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة مرتبطون بحالتهم التي هم فيها يعتقدونها ويعبدون الله بها ويذمون ما عداها ويحافظون عليها لعدم علمهم من الله تعالى غيرها.
فلو تركوها تركوا مقدار ما علموه من الله تعالى وهو كفر.
فإذا أرادوا أن يفهموا ما هو فوق حالتهم التي هم عليها بغير تفهیم من الله تعالى، نزلت تلك الحالة العالية إلى حالتهم
السالفة، فأبطلت حالتهم التي هم فيها يدينون الله تعالى.
فلا يسعهم إلا إنكارها والتبري منها إذ لم تنزل إليهم على حسب ما هي عليه في نفسها بالنسبة إلى تحقق أصحابها بها.
وبيان ذلك أن ما نطق به المقلد من الحق واطمأن إليه قلبه من غير فهم هو مقدار ما علمه من الله تعالى، فهو محتفظ عليه يدين الله تعالی به .
فلو تكلم عنده صاحب الدليل الفكري بما يجده في تصوره من تنزيه الحق تعالى الذي هو مقدار ما علمه من الله تعالى ويدين الله تعالى به ويحتفظ عليه رأى ذلك المقلد أن الذي عند صاحب النظر والاستدلال من الحق تعالى غير الذي عنده.
فربما يذعن له ويطلب منه الوصول إلى درجته إن ظهر له كمالها ظهورة تقليدية ، وإن ظهر له نقصها ذمها وأنكرها عليه واحتفظ على ما عنده من التقليد المحض.
وكذلك صاحب الشهود إذا تكلم بما يجده في بصيرته من الحق تعالى عند صاحب التقليد أو صاحب النظر والاستدلال وجدا عنده ما ليس عندهما من الحق تعالى، فإن ظهر لهما كمال حالته إذعانا وتسليما وتوفيقا من الله تعالى.
طلبا حالته وسعيا في بلوغها وإن لم يظهر لهما ذلك احتفظا على مقدار ما علماه من الحق تعالى وأعرضا عنه مدحا وذما واشتغلا بأنفسهما إن كان فيهما بعض توفيق إلهي.
وإن خذلهما الله تعالى أنزلا حالته إلى ما هما فيه من القول والاستدلال، فظهرت حالته في قول المقلد مقالة كفر.
وفي ذهن المتصور الناظر زيغ وضلالا فأنكرا عليه حالته وما علما أن ما أنكراه منه مما فهما من حالته هو ينكره أيضا ويتبرأ منه.
غير أنهما لم يفهما حالته على ما هي عليه كما يفهمها هو.
فاضطر الأمر إلى ترجمان يكون عالما باللسانين واقفا على مقاصد الفريقين ليعتذر عن هذا الفريق لهذا الفريق وبالعكس.
فإن الذي أنكره علماء الرسوم على علماء الحقائق هو بعينه لو ظهر العلماء الحقائق من أنفسهم لأنكروه.
والذي اعترفت به علماء الحقائق وجهلوا فيه علماء الرسوم لو ظهر بعينه لعلماء الرسوم لآمنوا به وأذعنوا له من غير شك ولا تردد وكيف وهو ما تقوله علماء الرسوم بعينه.
ولكنه مفهوم بالفهم الرباني مؤيدة بالتوفيق الصمدانی والإلهام الرحماني.
وأرجو بعون الله تعالى أن أكون أنا ذلك الترجمان المذكور لهذا الكتاب الذي هو كتاب فصوص الحكم عناية وتوفيقة من الرب الغفور.
وحيث تمت المقدمة فلنشرع في المقصود بمعونة الرب المعبود.
فنقول وعلى الله القبول : قال الشيخ محيي الدين بن العربي قدس الله روحه ونور ضريحه :

.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة أغسطس 02, 2019 3:48 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح النابلسي لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 7:37 am

شرح النابلسي لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح خطبة الكتاب الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله منزل الحكم على قلوب العلم بأحدية الطريق الأمم من المقام الأقدم وإن اختلفت النحل والملل لاختلاف الأمم.
وصلى الله على محمد الهمم، من خزائن الجود والكرم، بالقيل الأقوم، محمد وعلى آله وسلم.
(بسم الله الرحمن الرحيم) لما كانت علوم الشهود والإلهام تنزلات معاني القرآن العظيم على قلب التابع المحمدي صاحب مقام الإسلام صدر كتابه المنزل على قلبه بما صدر به نبیه كتابة المنزل عليه من ربه ليلتحق التابع بالمتبوع وتنبت على أصولها الفروع.
وقد أشار إلى ذلك النبي عليه السلام بقوله: "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أقطع".
ولفظة كل تفيد العموم والأمر واحد لا عموم فيه كما قال تعالى : "وما أمرنا إلا وجه لمح البصر " آية 50 سورة القمر.
ولكن لما قيده بذي بال، أي شأن خاص عند صاحبه بحسب قوة استعداده تعدد بالقيد، فالأمر واحد وقيوده كثيرة، فهو بحسب كل قيد غيره بحسب القيد الآخر، وباقي الكلام على البسملة يطول إذ هي مما أفرد بالتصنيف، وغرضنا الآن بیان مهمات الكتاب فلا نطيل في غير ذلك.
(الحمد لله) ويقال في الحمد لله كما قيل في البسملة، وأشار إلى ذلك النبي عليه السلام بقوله في رواية أخرى: "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع".
ولما كان وجود النعمة بالبسملة وبقاؤها بالحمد لله قدم ما به الوجود على ما به البقاء .
وبيان ذلك أن كل شيء موجود من العدم باسم من أسماء الله تعالى، مشتق من صفة من صفاته .
فالاسم باطن الشيء والشيء ظاهر الاسم.
كما أن الصفة باطن الاسم والاسم ظاهر الصفة.
والذات باطن الصفة والصفة ظاهر الذات.
وكل شيء باقي إلى أمده المعلوم بتكرار الأمثال غير ذلك لا يكون.
قال تعالى في الآية السابقة : "وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر"آية 50 سورة القمر.
وكل شيء قائم بأمر الله تعالى، فكل شيء كلمح البصر، وتكرار وجود الشيء زيادة على وجوده الأول.
والله تعالى يقول: "لئن شكرتم لأزيدنكم " آية 7 سورة إبراهيم: 7.
والشكر : هو الحمد الاصطلاحي، فبالبسملة ظهر الوجود و بالحمد لله بقي كل موجود.
(منزل) بسكون النون وكسر الزاي اسم فاعل من أنزل
قال تعالى : "سبحان الذي أنزل على عبده الكتب"  أو بفتح النون والتشديد للزاي مكسورة من نزل مشددة .
قال تعالى: "وله تنزيلا" آية 106 سورة الإسراء.
والإنزال غير التنزيل الاختلاف الصيغتين، فصيغة أنزل تقتضي مطلق الانتقال من موضع إلى آخر.
وصيغة نزل بالتشديد تقتضي المبالغة في ذلك، وكلاهما فعلان متعدیان.
(الحكم) جمع حكمة , وهي العلم المتقن الكاشف عن حقائق الأشياء على ما هي عليه من غير شائبة توهم في الإدراك.
قال تعالى: " يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا " آية 269 سورة البقرة .
وقد تطلق الحكمة على النبوة ، كما قال تعالى في داود عليه السلام: "وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ" (20) سورة ص.
ومعنى الإنزال والتنزيل المذكورين هو معنى الإيتاء هنا، والثلاثة تقتضي انتقالا من موضع إلى آخر إلا أن الأولين للانتقال من علو فقط دون الثالث.
وانتقال العلم القديم من ذات الحق تعالى إلى غيره ممتنع عقلا ونقلا.
وكذلك الكلام القديم، فلا بد لذلك من معنى يدخل في الإمكان.
وذلك أن علم الحق تعالی وكلامه وإن تعلقا بجميع الواجبات والمستحيلات والجائزات كما تقرر في موضعه .
ولكن لا بد أن نقول إن هذا التعلق بالنسبة إلى عقولنا التي نحن مكلفون بسببها.
إذ الواجبات التي نقول إنهما متعلقان بها مجرد معاني مفهومة لنا حادثة فينا.
وكذلك المستحيلات مجرد أمور مفروضة يحكم العقل بامتناعها في حقه تعالى، وكذلك الجائزات فأخرجنا في تقسيم الحكم العقلي إلى الأقسام الثلاثة عن المعاني الجائزة .
فأين الواجبات وأين المستحيلات من محض الجائزات.
إلا أن التكليف الإلهي للعباد يقتضي هذا التقسيم، ولولاه لما كان في الخلق كفر ولا إيمان جملة واحدة.
إذ لم يقع جحود الجاحدين إلا على ما تصوروه، فكذلك إيمانهم، وكل ما تصوره الحادث فهو معنى حادث، و ليطل أمر الله ونهيه وهو أمر مستحيل.
فثبت أنه لا بد أن تكون جميع محكومات العقل معانی حادثة.
فالإله المنزه الذي في الاعتقادات مأمور بإثباته كل مكلف، وهو غير الإله الحق الذي لا يتعلق به حكم للعقل لا بإثبات ولا بنفي.
كما أن الشريك والمثيل والصاحبة والولد المتصورات في العقل مأمور بنفيها عن الحق تعالى كل مكلف.
وإنما هي مستحيلات التصور العقلي لا المستحيلات الحقيقية فإنها ممتنعة عن حكم العقل إثباتا ونفيا .
وسيأتي بقية الكلام على إله المعتقدات في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
فيبقى معنى الانتقال المذكور انتقال من عدم إلى وجود، فحادث منتقل إلى حادث.
غير أن هذا الحادث المنتقل من العدم إلى الوجود ، محكوم عليه بجميع أحكام القديم.
ومسمى بجميع أسمائه ، و موصوف بجميع أوصافه حكمة إلهية لا المناسبة فيه ولا لمشابهة بينه وبين القديم تعالى .
وإليه الإشارة بقوله تعالى : "ولله المثل الأعلى"آية 60 سورة النحل.  في السموات والأرض.
فالمثل : هو الواجب العقلي الخاص.
والأعلى: أي عن المستحيل العقلي ، ذكر السموات والأرض هو الجائز ولفظة في إشارة إلى أن هذا الواجب والمستحيل لم يخرجا عن الجائز.
إذا علمت هذا وتحفظت من الخطأ في فهمه على حسب ما أريده ظهر لك معنى تنزل القرآن القديم .
ومعنی نزول الرب تعالى إلى سماء الدنيا ، وغير ذلك من مشكلات الدين.
(على قلوب الكلم)، جمع كلمة , والمراد بها الذات الإنسانية الكاملة، وتسميتها كلمة جاءت في القرآن العظيم .
قال تعالى في حق عيسى عليه السلام : "وكلمته ألقاها إلى مريم" آية 171 سورة النساء.
وقال تعالى في إيمان مریم بسائر الأنبياء عليهم السلام: "وصدقت بكلمات ربها وكتبه"الآية 12 سورة التحريم.
وقال تعالى : " النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته" آية 158 سورة الأعراف.
فيجوز إطلاق الكلمات على النفوس الكاملة في فضيلتي العلم والعمل.
والمعنى في ذلك أن الكلمة التي ينطق بها الإنسان مجموع حروف تركب بعضها مع بعض.
فحملت معنی زائدة على معاني تلك الحروف في أنفسها بل لا معنى لتلك الحروف في أنفسها متفردة مما يناسب معنى الكلمة المركبة منها.
ولا شك أن الحروف الخارجة من فم المتكلم هي في نفسها هواء دخل إلى الجوف ثم خرج فسمي نفسه.
لأنه ينفس عن القلب كربه. أي حرارته في قصد المعاني وما هناك إلا المعاني.
لا تفرغ من القلب الحيواني تميزت بالعقل أو لم تتميز كقلوب الدواب ونحوها.
ثم إن ذلك الهواء إذا مس القلب انبعث من القلب توجه طبيعي لدفعه عنه باعتبار سخونة في الحال مخافة أن يحترق بها ثم يطلب هواء باردة غيره.
وهكذا إلى أن لا يقدر على الطلب فتحرقه حرارته الغريزية ويموت الإنسان لذلك، ومثله الحيوان كما ذكرنا .
فإذا أراد القلب أن يظهر ما فيه من المعاني المتميزة عنده بالعقل أخرج ذلك الهواء الذي مسه على كيفية خاصة بتعليم إلهي .
كما قال تعالى : "وعلمه البيان " آية 4 سورة الرحمن.
فعند ذلك يمر ذلك الهواء المسمى نفسه على مخارج الحروف التي في الجوف أو الحلق، أو اللسان أو الشفتين، فينسكب ذلك الهواء في قوالب تلك المخارج ويخرج من الفم متكيفة بكيفيات تسمى حروف.
ثم تترتب في الخروج فيمسي تركیبا.
ثم تصل وهي متكيفة كذلك بتموج ذلك الهواء لقوة اندفاعه من الصدر إلى أذن السامع ويخلق الله في نفسه حينئذ معنى تلك الكلمة الذي قصده المتكلم.
فيقال : سمع المخاطب الكلمة و فهمها .
إذا علمت هذا فاعلم أن ما نحن بصدده من كلمات الله تعالى التامات الفاضلات، نزلت إلينا وأصلها روح واحدة عظيمة.
ومن هنا يسمى الهواء روح وريحا بقلب الواو ياء، وهذا الروح العظيم هو أول مخلوق خلقه الله تعالى ليس بينه وبين أمر الله تعالى واسطة.
كما قال تعالى : "و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي" آية 85 سورة الإسراء.
ثم إن هذا الروح للحق تعالی بمنزلة الهواء الذي يسمي نفسه بالتحريك للمتكلم بالكلمات.
وقد ورد تسميته نفسه في حق الله تعالى
كما قال النبي عليه السلام: «إني لأجد نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن». رواه أبي عاصم في الآحاد والمثاني.
"وكذلك قوله: "إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن" أخرجه أحمد فى مسنده"
"وكذلك قوله:" إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن" رواه الطبراني في الكبير وأحمد بن حنبل عن أبي هريرة"
"وصححه الألباني  بلفظ: "إني أجد نفس الرحمن من هنا - يشير إلى اليمن"."
فكان الأنصار، وسماهم نفسا بالتحريك ولم يسميهم كلمات لعدم تضمنهم بشيء من المعاني قبل إسلامهم.
ولمحو صور وجودهم عند أنفسهم لما جاؤوا لنصرته عليه السلام مؤمنين به مذعنين له منقادين إليه تاركين التدبير معه حتى دخلوا في دينه كذلك وتفتحت أقفال قلوبهم.
ثم إن هذا الروح الذي هو أول مخلوق يسمى نور محمد صلى الله عليه وسلم باعتبار، ويسمى عقلا وعرشا باعتبار آخر.
كما سنقرره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى إذا جاءت له مناسبة أو تعرض له الشيخ محيي الدين رضي الله عنه في أثناء هذه الفصوص الحكمية.
وحيث كان هذا الروح المذكور للحق تعالی بمنزلة الهواء للمتنفس المتكلم وإن كان بينهما بون بعيد، فإن الهواء في المتنفس المتكلم يدخل إلى جوفه
ثم يخرج.
لأنه جسم لطيف يدخل في جسم كثیف بينهما بعض المباينة، وليس في الله تعالی جسمية لأن هذا الروح المذكور ليس جسم لطيفا ولا كثيفا ولا مناسبة بينه وبين الأجسام وهو حادث مخلوق.
والله تعالى لیس جسم ولا جوهرا ولا عرضا ولا يشبه هذا الروح المذكور ولا غيره.
ولكن المقصود من ذلك مجرد ضرب المثل للاعتبار فقط بأنه إذا كان هكذا في الحادث ففي القديم بالأولى.
وقد أومأ إلى ذلك قوله تعالى: «فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون"آية 23 سورة الذاريات.  بعد ذكر آية الرزق الحسي والمعنوي.
فالرزق الحسي من السماء وهو معلوم والرزق المعنوي من السماء أيضا وهو رزق الأرواح وهو المعارف الإلهية والأول رزق الأجسام.
ثم إذا علمت كون هذا الروح المذكور بالنسبة إلى الحق تعالى بمنزلة الهواء للمتنفس المتكلم على الوجه الخالي من التشبيه.
وعقلت هذا المثل الذي ضربه الله لك لا ضربته أنا لك، غير أني كنت أمينا عليه فأديته إليك كأمثلة .
قال تعالى: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون"آية 43 سورة العنكبوت .
يعني لا يقدر أن يستخرج التنزيه الذي اشتملت عليه من التشبيه المفهوم من ظاهرها إلا العالمون بالله تعالى.
وفيه إشارة إلى لزوم اتباع غير العالمين للعالمين الذين عقلوها.
فاعلم الآن أن الحق تعالی أول ظهور استيلائه ومن كونه متكلمة على هذا الروح الأول المذكور من غير مماسة ولا مباينة كما هو مقرر في عقائد غير أهل الشهود مفصلا.
وأما أهل الشهود فلا يحتاجون إلى ذكره لوضوحه عندهم.
قال تعالى : "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن تقول له كن فيكون"آية 40 سورة النحل. والقول هو الكلام فبالقول ظهر الشيء.
والشيء المراد في حضرة العلم الأزلي یعنی معناه لا ذاته.
كما أن معنى الكلمة في علم المتكلم لا ذاتها .
ثم إنه تعالى جعل الحروف التي استخرجها من ذلك الروح الأعظم الذي هو بمنزلة النفس بالتحريك له تعالى كما ذكرنا على قسمين:
القسم الأول: الألف وهي أصل الحروف كلها ، وهي بمنزلة اللوح المحفوظ الذي فيه كل شيء وهي الكتاب المبين وهي الرق المنشور، ومخرجها الجوف وهو باطنية الحق تعالى يعني من اسمه الباطن .
والقسم الثاني : باقي الحروف، وأعلاها الواو المدية، والياء المدية المناسبتهما للألف من جهة خروجهما من الجوف.
فالواو هي العرش الجسماني ولهذا سكنت بعد رفع الياء حقيقة الملائكة الأربعة ولهذا سكنوا بعد خفض ما قبلهم، ثم ظهرت الباء والتاء والثاء واختلفت بالنقط .
فالنقطة الأولى نقطة زحل في حرف السماء الأولى، والنقطتان والثلاث باقي السيارات غير القمر فإنه مجلى الشمس لا نقطة الوجود.
ثم ظهرت باقي الحروف في الأسباب الباقية وتركبت فظهرت الكلمات الطيبة والكلمات الخبيثة كما فصلته في كتابي : (كوكب الصبح الإزالة ليل القبح ) والمراد هنا بيان الكلمات الطيبات وهي كلمات الله الفاضلة التي حقت على الكافرين وربما يأتي لهذا الكلام زيادة بيان في مواضع مناسبة من هذا الكتاب.
(بأحدية) متعلق بمنزل (الطريق) إلى الله تعالى (الأمم)، أي المستقيم، وأحدية هذا الطريق اجتماع الروحانيات الفاضلة في الروح الكل المذكور، وهو طريق الله تعالى لا طريق إليه غيره، وهو في كل حقيقة كونية بتمامه.
ولهذا ورد في الحديث : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» ولما كانت معرفة النفس مختلفة ظهر الاعوجاج على حسب المعرفة والمعرفة الصحيحة بإلهام من الله تعالى، وهي الاستقامة في الطريق الموصل إليه تعالى.
(من المقام الأقدم)، أي حضرة الله تعالى وهو بيان للطريق الأمم حيث لا واسطة بينه وبين الحق تعالی فكان منه.
ولهذا قال تعالى: "قل الروح من أمر ربي" آية 83 سورة الإسراء .
(وإن اختلفت الملل) جمع ملة وهي الدين.
(والنحل) جمع نحلة وهي المذهب.
(لاختلاف الأمم) فإن لكل أمة ملة تليق بهم نزلت على نبيهم فبلغهم إياها .
ثم لما ماتت كل أمة نسخت ملتهم بما بعدها، لأن المخاطبين بها كانوا مخصوصين في علم الله تعالى حتى ظهرت ملتنا.
و المخاطبون بها كل المكلفون من بعثة نبينا عليه السلام إلى يوم القيامة ولهذا لم تنسخ.
ومراده بقوله : وإن اختلفت إلى آخره، يعني: الاختلاف المذكور ولا يمنع أحدية المأخذ.
فإن استعداد المخاطبين يعطي هذا الاختلاف، واتحاد الكاملين يعطي اتحاد الطريق والمأخذ.
كما قال الشاعر:
عبادتنا شتى وحسنك واحد      ….. وكل إلى ذاك الجمال يشير
(وصلى)، أي أنزل رحمته الله سبحانه وتعالى
(على ممد الهمم) جمع همة وهي الباعث القلبي المصمم على الشيء وإمداد جميع الهمم من حضرة الذات المحمدية التي هي كناية عن الروح الكل المذكور
(من خزائن)  متعلق بممد (الجود) الإلهي
(والكرم) الرباني، إشارة إلى أن هذا الإمداد في الحقيقة من الله تعالى وإن كان هو السبب فيه .
كما قال : «إن الله هو المعطي وأنا القاسم».
(بالقيل)، أي القول متعلق بممد أيضا .
(الأقوم)، أي المستقيم الذي لا اعوجاج فيه وهو حقيقة الصدق.
إشارة إلى أن الإمداد إنما هو بالقول من حروف و كلمات كما ذكرنا، ويجوز أن يراد بذلك أن الحديث النبوي يمد أصحاب البدايات في طريق السعادات .
(محمد) ابن عبد الله المكي القرشي
(وعلى آله) أي أهل بیت نبوته ممن دخل حرم اصطفائه وطاف بكعبة ذاته ووقف تحت لوائه .
ولهذا قال عليه السلام: «سلمان منا آل البيت» مع أنه فارسي، والنبي عليه السلام عربي، ولم يذكر الصحابة لأن في ذكر الآل وما يريده منهم كفاية عنهم.
إذ المراد بالآل ما ذكرنا ، فيشمل الصحابة رضي الله عنهم .
(وسلم) معطوف على صلى بصيغة الفعل الماضي فيهما .
أما بعد:
فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرون وستمائة بمحروسة دمشق، وبيده صلى الله عليه وسلم  كتاب.
فقال لي: هذا "كتاب فصوص الحكم" خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به.
فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا .
فحققت الأمنية، وأخلصت النية وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم  من غير زيادة ولا نقصان.
وسألت الله تعالى أن يجعلني فيه وفي جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان.
وأن يخصني في جميع ما يرقمه بناني وينطق به لساني وينطوي عليه جناني بالإلقاء السبوحي والنفث الروحي في الروع النفسي بالتأييد الاعتصامي.
حتى أكون مترجما لا متحكما ، ليتحقق من يقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب أنه من مقام التقديس المنزه عن الأغراض النفسية التي يدخلها التلبيس.
وأرجو أن يكون الحق لما سمع دعائي قد أجاب ندائي؛ فما ألقي إلا ما يلقي إلي، ولا أنزل في هذا المسطور إلا ما پنزل به علي.
ولست بنبي رسول ولكني وارث ولآخرتي حارث:
فمن الله فاسمعوا ... و إلى الله فارجعوا
فإذا ما سمعتم ما ... أتيت به فعوا
ثم بالفهم فصلوا ... مجمل القول و أجمعوا
ثم منوا به على ... طالبيه لا تمنعوا
هذه الرحمة التي ... وسعتكم فوسعوا
فمن الله فاسمعوا وإلى الله فارجعوا فإذا ما سمعتم ما أتيت به ق وا ثم بالفهم فضلوا مجمل القول واجمعوا ثم مئوا به على طالبيه لا تمنعوا
هذه الرحمة التي وعنكم فوعوا ومن الله أرجو أن أكون ممن أيد فتأيد ويد بالشرع المحمدي المطهر فتقيد وقيد، وحشرنا في زمرته كما جعلنا من أمته.
فأول ما ألقاه المالك على العبد من ذلك.
(وبعد فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في) رؤيا
(مبشرة)، أي مغيرة لصورة البشرة من حزن وكرب إلى فرح وسرور.
وهو من قوله عليه السلام: «ذهبت النبوة وبقيت المبشرات» وذلك في عالم التجريد عن العلائق البشرية وتبديل الصورة الحيوانية بالصورة الإنسانية.
وسبب ذلك ركود الحواس وصفاء الروحانية، إما بالمنام المعروف أو باليقظة الحقيقية .
(أريتها)، أي أراني إياها الله تعالى
(في العشر الآخر من شهر المحرم الحرام) من شهور (سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق) الشام .
وكانت محط رحال الشيخ رضي الله عنه وموضع إقامته من دون سائر البلاد بعد أن سار في جوانب الأقطار، ثم استقرت به الدار في ربوة ذات قرار لما علمه فيها من خفايا الأسرار.
(و) الحال أن (بیده)، أي بید رسول الله صلى الله عليه وسلم
( كتاب فقال لي: هذا كتاب فصوص) بضم الفاء جمع فص بالفتح ويأتي بيانه إن شاء الله
(الحكم) جمع حكمة .
(خذه)، أي تناوله مني .
(واخرج به)أي بمصاحبته من عقلك الصرف إلى الممزوج بالنفس .
وهو معنى قوله (إلى الناس)، لأن عقولهم ليست صرفة كعقول الملائكة عليهم السلام بل ممزوجة بأنفسهم، إما متساوية أو راجحة أو مرجوحة لا تحصل الاستفادة التامة إلا ممن يجانس ويشاكل .
ولهذا قال: (ينتفعون به)، أي بهذا الكتاب، فتكون تسمية هذا الكتاب "بفصوص الحكم" تسمية من النبي صلى الله عليه وسلم .
كما وقع للشيخ شرف الدين عمر بن الفارض رضي الله عنه في تائيته التي سماها له النبي صلى الله عليه وسلم «نظم السلوك» في رؤيا أريها حكيت في ديوانه.
(فقلت : له السمع) بالنصب عامله محذوف تقديره : أنا سامع السمع.
(والطاعة)، أي وأنا مطيع الطاعة
(لله) لأنه الموجود الحقيقي والفاعل المؤثر
(ولرسوله)، لأنه خليفة الله الحقيقي وأقرب فاعل مجازي إليه تعالى
(وأولي) أي أصحاب .
(الأمر) الإلهي القائمين به علم وتنفيذه.
(منا)، أي من جنسنا وهي المرتبة الثالثة التي ظهر فيها الشيخ رضي الله عنه بذاته وعينه.
لأن الأولى مرتبة الله
والثانية مرتبة الرسول
والثالثة مرتبة أولي الأمر.
(كما أمرنا)، أي أمرنا الله تعالى بقوله :" و أطيعوا الله وأطيعوا أول وأولي الأمر منكم" آية 59 سورة النساء.
فإطاعة الله تعالى إطاعة الرسول، وإطاعة الرسول إطاعة أولي الأمر.
فالإطاعة واحدة تضاف إلى الله تعالى من حيث حقيقة الوجود.
وتضاف إلى الرسول من حيث ما هو المشهود.
وتضاف إلى أولي الأمر منا في حضرة القيود.
فالله مشهود فهو للرسول كما قال : "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله قوق أيديهم "آية 10 سورة الفتح.
ولم يذكر يد الرسول عليه السلام الغيبتها في يد الله، وإنما عبر عنها بيد الله.
والقياس : يدك فوق أيديهم، ولكن لما كانت مبايعته هي مبايعة الله كانت يده هي يد الله .
كذلك والرسول مقید بظهور مخصوص بل بظهورات كثيرة متنوعة.
فهو أولو الأمر منا، ويلزم من ذلك أن من عصى أولي الأمر فقد عصى الرسول.
ومن عصى الرسول فقد عصى الله .
(فحققت)، أي جعلت محققة
(الأمنية)، أي ما تمناه، أي طلبه مني رسول الله في الرؤيا من الخروج إلى الناس بكتاب "فصوص الحكم" لينتفعوا به.
وأخلصت في ذلك (النية)
فلم أنو إلا الخروج إلى الناس بما رأيت من رسول الله في تلك الرؤيا، فقیدت ظهوري في مقام شهودي بما يبصره الناس من تخاطيط حدودي
(وجردت) عن جميع التعلقات التقييدية المعتادة إلى قبل ذلك
(القصد) إلى ما ذكر
(والهمة) المحمدية التي شهدتها في عالم الخيال المقيد وظهرت بها في عالم الخيال المطلق
(إلى إبراز)، أي إظهار ولم يقل تصنیف ولا تأليف لكونه لم يتصرف فيما شهد من الحضرة المحمدية في تلك الرؤيا
(هذا) إشارة إلى محسوس عنده مجمل في تفصيل نشأته
(الكتاب) الذي هو «فصوص الحكم» وهو الوراثة المحمدية الجامعة أخذها من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج بها للناس من حضرته عليه السلام .
بالنسبة إليهم وأما بالنسبة إليه فلا خروج.
فتشهده الناس صورة محيي دينه وتشهد كتابه الذي أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابة جامعة الحروف والأصوات .
ويشهد نفسه هو صورة محمدية غيبية شهادتها صورة كتابية ذات حروف وأصوات ، وبرزخيتها صورة وراثية جامعة المشارب النبيين عليهم السلام.
(كما)، أي على صورة ما
(حده)، أي بينه وحصره
(لي) في تلك الرؤيا
(رسول الله )، فتحققت به روحي
وكتبه قلم فتوحي في صحيفة لوحي.
(من غير زيادة) على ذلك (ولا نقصان)، منه فإن الزيادة والنقصان تغيير وتبديل لكتابه المنزل عليه من حضرة نبيه وهو محفوظ من ذلك.
(وسألت)، أي دعوت (الله) تعالى
(أن يجعلني) بمحض فضله وإحسانه
(فيه)، أي في إبراز هذا الكتاب
(وفي جميع أحوالي) الظاهرة والباطنة (من) جملة (عباده) المخلصين
(الذين ليس للشيطان عليهم سلطان)، أي تسلط بإغواء وإضلال أو زيادة في الحق أو نقصان منه .
قال تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين "آية 42 سورة الحجر .
وقال تعالى حكاية عن الشيطان: "فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين "آية 82 - 83 سورة ص .
فعلم من ذلك أن الإخلاص هو الذي يحفظ العبد من إغواء الشيطان لا ما عداه من الأحوال.
ومثله التوكل على الله تعالى كما قال تعالى : "إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون"آية 99 سورة النحل.
(وأن يخصني) لأقوم بخدمة إخواني المؤمنين .
(في جميع ما يرقمه)، أي يكتبه في تصانيفي وتأليفي المنثورة والمنظومة .
(بناني)، أي يدي
(وينطق به) في تقريري وتحقيقي للمريدين والطالبين.
(لساني)، من الفوائد والمسائل
(وينطوي)، أي ينكتم ويخفي عن الغير .
(عليه) من المعارف الإلهية والحقائق الربانية.
(جناني) بالفتح، أي قلبی.
(بالإلقاء) متعلق بي يخصني، وهو قذف الحق والصواب في القلوب والألباب ، ويكون هذا الإلقاء بواسطة ملك الإلهام وبغير واسطة من ذي الجلال والإكرام.
(السبوحي)، أي المنسوب إلى سبوح وهي كلمة مبالغة في تسبيح الله تعالى، أي تنزيهه عما يدركه البصر والبصيرة.
وذلك لأن القلب إذا تطهر بالتسبيح تفرغ للفيض الإلهي فعلی قدر فراغه من الأكوان يمتلىء من أنوار الرحمن .
(والنفث) : وهو النفخ مع بعض رطوبة مائية.
(الروحي)، أي المنسوب إلى الروح.
قال تعالى: "ونفخت فيه من روحي" آية 29 سورة الحجر .
فبالنفخ ظهر الرحمن في صورة آدم عليه السلام وبنيه ونفخ الجمال غیر نفخ الجلال.
فإن النفخ في النار الخامدة يوقدها للجلال وفي النار الموقدة يخمدها للجمال.
كأنه مع بعض رطوبة نورية فهو النفث والنور يخمد النار.
"ومن لم يجعل له له نورا فما له من نور" آية 40 سورة النور.
ولا شك أن الجسد المستوى الآدمي قبل نفخ الروح فيه مستعد لذلك كاستعداد الغريب لأخبار أهله متشوق إليها متشوق لديها.
فإذا ورد عليه خبر الحق بالنفخ الروحي الذي هو كلام الله تعالى المكتوب منه بلا حرف ولا صوت.
فإما أن يسره بما له عنده فيطفئ ناره ويبرد أواره، أو يسوءه فيوقد جحيمه ويورث أليمة.
فالنفث نظير قوله تعالى لنار إبراهيم عليه السلام: " يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم" آية 69 سورة الأنبياء.
فتستحيل نار المنفوث فيه نورا، ويعظم له من الله تعالى السلام ويزداد لديه ظهورا، ولهذا كان من أنواع الوحي النبوي النفث في الروع أو القلب، وهو في الولي وراثة من مقام النبوة .
(في الروع) متعلق بالنفث (النفسي) نعت للروع أي المنسوب إلى النفس وهو القلب الصنوبري في الجانب الأيسر من تجويف الصدور.
(بالتأييد) متعلق بالنفث ، أي مقرونة بالتأييد، أي التقوية والنصرة
(الاعتصامي) منسوب إلى الاعتصام وهو الثقة بالله في كل حال
(حتى أكون) في جميع ما يرقمه بناني وينطق به لساني وينطوي عليه جناني. (مترجما) عنك ما ورد إلي منك بكتابك ورسولك
(لا متحكما) عليك في شيء من ذلك، فإن هذا الشرع المحمدي والدين النبوي أخذه قوم بطريق الأدب معه.
فترجموه بأقوالهم وأفعالهم حكاية عنه، فرزقوا الفهم فيه وألهموا معانيه ووقفوا على أسراره وتمتعوا بمطالع أنواره وهم الذين أشار إليهم الشيخ قدس الله سره.
وأخذه قوم بلا أدب معه فتفهموا معانيه بأفكارهم وخاضوا في أبحاثه بعقولهم وما عملوا به وتكلموا فيه إلا بعد تحكمهم عليه بهوى أنفسهم فهم الضالون المضلون.
(ليتحقق من يقف)، أي يطلع (عليه)، أي على ما ذكر
(من أهل الله تعالی أصحاب القلوب)، نعت لأهل الله وهم أهل الاعتبار.
قال تعالى : "إن في ذلك العبرة إن كان له قلب" آية 37 سورة ق .
دون من له نفس فإن من له نفس، لا اعتبار لموته .
قال تعالى : "كل نفس ذائقة الموت" آية 185 سورة آل عمران.
ولم يقل : كل قلب، فالقلب حي والنفس ميتة
(أنه)، أي جميع ما ذكر صادر
(من مقام) وهو ما ثبت فيه العبد، والحال مما تحول عنه
(التقديس)، أي تطهير الله تعالى وتنزيهه وهو مقام الإطلاق عن القيود الحسية والمعنوية المسمی غیب الغيب
(المنزه) في بصيرة أهل شهوده
(عن الأغراض) بالغين المعجمة جمع غرض وهي العلل والبواعث
(النفسية) المنسوبة إلى النفس من حب العاجلة أو الآجلة أو بعض المنافي من الناقص أو الوافي
(التي يدخلها) من قبل العبد
(التلبيس) عليه في حقيقة الحق كمن يريد أن يرى جرم المرآة .
فكلما نظر إليها رأى صورته فيها حائلة بين بصره وبين صفاء جرم المرآة ، فصورته تلبس عليه جرم المرآة .
وههنا الأغراض النفسية صور معنوية، فكلما نظر إلى الحق ظهرت له في مرآة الحق.
فرآها وانحجب عنه الحق فما رأى إلا نفسه كما
قال عليه السلام: «المؤمن مرآة المؤمن» والله من أسمائه المؤمن.
وكل من تنزه عن الأغراض النفسية تقدس مقام شهود الحق في بصيرته فلا يدخل عليه التلبيس في شهوده .
(وأرجو)، أي أتمنى (أن يكون الحق تعالی) بمحض فضله وإحسانه
(لما سمع دعائي)، لأنه يسمع كل شيء
(قد أجاب ندائي)، بقوله: لبيك يا عبدي في مقام سمع العبد بالحق، وبتكوين جميع ما طلبته منه في مقام بصر العبد بالحق كما ورد في الحديث القدسية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: «عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له : كن فيكون».رواه الترمذي و ابو داود.
(فما ألقي) في كتابي هذا وكذلك في سائر كتبي .
(إلا ما يلقي)، أي يلقيه الله تعالى بسبب فراغ الإناء وزوال العنا
(إلى) في قلبي من غير تفكر ولا تدبر .
(ولا أنزل في هذا الكتاب المسطور) الذي أنا بصدده الآن
(إلا ما ينزل) به (على) من حضرة ذي الجلال والإكرام بطريق الفيض والإلهام.
ثم استشعر من ذكر الإلقاء إليه والإنزال عليه أن يفهم أحد منه أنه يدعي نبوة التشريع ورسالة الجناب الرفيع فاحترز عن ذلك بقوله:
(ولست بنبي) من أنبياء الله تعالى
(ولا رسول) من رسل الله تعالى
(ولكنني وارث) النبي والرسول مقام ولايتهما.
وذلك لأن المراتب أربعة وهي دوائر بعضها أخص من بعض:
فالأولى: مرتبة الإيمان والإسلام وهي الدائرة الكبرى المحيطة بباقي الدوائر. 
والثانية : مرتبة الولاية وهي الدائرة الوسطى.
والثالثة : مرتبة النبوة،
والرابعة : مرتبة الرسالة .
فالجميع يشتركون في المرتبة الأولى.
والمرتبة الثانية ممتازة عن الأولى بالولاية.
والثالثة عن الثانية بالنبوة.
والرابعة عن الثالثة بالرسالة. فالرسول نبي ولي مؤمن، والنبي ولي مؤمن.
والولي مؤمن فقط ليس بنبي ولا رسول، فقد اشترك الولي والنبي في الولاية.
وهي العلم الذي ورثته الأنبياء عليهم السلام .
قال تعالى: و "أورثنا الكتاب الذين اصطفينا" آية 32 سورة فاطر.
وقال صلى الله عليه وسلم : «العلماء مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء وورثتي وورثة الأنبياء».
(ولآخرتي حارث) من الحرث وهو الإثارة لإخراج ما فيها من النبات ، والمراد أني مثير أرض جسمي لإخراج ما أودعه الله تعالى في خزائن سري من علوم الحقائق الأخروية والأجزية الرضوانية الكثيبية .
ثم قال مشيرا إلى أن جميع ما صدر منه في هذا الكتاب إنما كان ترجمة عن الحضرة الإلهية لا تحكما بنظر نفسه على المعارف الربانية.
(فمن الله) لا مني لأني عند نفسي هالك إلا وجه ربي إلي.
كما قال تعالى: "كل شيء هالك إلا وجهه " آية 88 سورة القصص.
فوجه ربي إلي هو الظاهر في وإن كنت موجودة عندكم.
فذلك تلبيس من الله تعالى عليكم.
(فاسمعوا) أيها الناس الذين أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إليهم "بفصوص الحكم" لينتفعوا به ما أخرج إليكم به من حضرة غيبي إلى شهادتي من علوم الله النافعة لكم.
(وإلى الله ) لا إلى نفوسكم
(فارجعوا) فيما سمعتموه مني فإنكم إليه ترجعون "وإليه يرجع الأمر كله " 123 سورة هود.  " وإليه تقلبون" آية 21 سورة العنكبوت. " وإليه المصير" آية 18 سورة المائدة. "وإلى ربك يومئذ المساق" آية 30 سورة القيامة.


(فإذا ما سمعتموا ما)، أي الذي أو شيئا
(أتيتم) بالبناء للمجهول، أي أتيتكم (به) من العلوم الإلهية في هذا الكتاب
(فعوا) ذلك وتثبتوا في سماعه واصغوا إليه ولا تنتقدوا شيئا منه، فإني ما وضعته لكم إلا نافعة لا مضرة بإشارة الرسول صلى الله عليه وسلم كما سبق.
فلا تأخذوه بلا وعي فتجهلوه وتجحدوا ما جهلتموه.
في هذا الكتاب فتظنون أنكم تعلمونه وأنتم لا تعلمون فتحرمونه وتفترون عليه ما ليس فيه .
[s
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 01- فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الأول .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 7:41 am

01- فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الأول .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية     

بسم الله الرحمن الرحيم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الأول
01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني

هذا فص الحكمة الآدمية بدأ به لأن الله تعالى بدأ هذه النشأة الإنسانية بآدم عليه السلام فهو مفتاح باب العالم الكمالي.
(فص) وهو موضوع النقش من الخاتم والخاتم، هو الدائرة الواقعة في الأصبع، والدائرة منقلبة دائمة فهي القلب. 
وفي الحديث: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» والإصبعان تثنية إصبع.
"رواه مسلم في صحيحه بلفظ: «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء".
ثم قال رسول الله : «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك».
وكون قلب المؤمن بين إصبعين، أي لا يتخلى عنه إصبع منهما، فهو منتقل من أحدهما إلى الآخر. 
ولهذا تجد القلب تارة في خاطر خير وتارة في خاطر شر، وخاطر المباح من خاطر الخير.
لأن المؤمن لا يضيع له عملا بلا قصد حسن، والنيات تجعل العادات عبادات، فالقلب هو الدائرة المستديرة على إصبع الحق تعالى من حيث اسمه الرحمن.
وفص الخاتم هو الجسد الآدمي الجامع بالإجمال والاستعداد لكل ما هو مرشح له من أنواع الكمال.
كما أن النواة تجمع النخلة وتحويها إجمالا واستعدادا، والأرض والماء والتربة تخرجها منها .
ثم إن هذا الفص منقوش بجميع ما تضمنته تلك النفس من الكمالات والعلوم، والمقصود من الخاتم إنما هو الفص، والمقصود من الفص النقش فيه.
فالنقش سر الخاتم وهو الذي يظهر للوارث النبوي من علم مورثه، وهو المراد هنا بذكر جميع الفصوص.
(حكمة) أي نشأة، ولما كان هذا الهيكل الجسماني ظاهرة في هذا العالم الذي هو عالم الحكمة، يسمى حكمة لجريان أموره في دنياه على ما تقتضيه الحكمة، وأما في عالم الآخرة وهو عالم القدرة.
فالظهور للنفس لا للجسم، فكما أن النفس في الجسم في الدنيا .
فالجسم في النفس في الآخرة والحكمة باطنة في الآخرة.
والقدرة ظاهرة وفي الدنيا بالعكس 
(إلهية) أي منسوبة إلى الإله تعالى وهو المعبود، والمعبود يلزم أن يكون عنده حاجة كل عبد، فيلزم أن يكون موصوف بجميع الصفات الكمالية والجلالية والجمالية، والصفات إذا ظهرت كانت أسماء.
قال تعالى : "وعلم آدم الأسماء كلها" 31 سورة البقرة.
وهذا التعليم لآدم كان بإظهاره تعالى الحقيقة الآدمية جامعة لآثار جميع التجليات الإلهية فهي ظهورات الصفات ، فهي الأسماء التي علمها، وحين علمها إنما علم نفسه فعلم ربه .
وفي الحديث : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» . 
(في كلمة)، أي حقيقة من حقائق الحق تعالى على حد ما سبق بيانه في الكلم (آدمية)، أي منسوبة إلى آدم عليه السلام أبي البشر.
واعلم أن فص هذه الحقيقة الآدمية وكذلك فصوص بقية الحقائق الآتية إنما تظهر للوارث ويقرأ نقشها في كل وقت على حسب استعداده في ذلك الوقت .
فيتكلم على حسب ذلك الاستعداد ويظهر له في وقت آخر أعلى من ذلك أو أدنى منه، وكذلك يظهر لغيره من تلك الحقيقة غير ذلك.
فيكون الكلام على حسب الوقت، وهذه عادة أهل الله على الدوام، فلا تظن أن التكلم على هذه الحقائق النبوية بهذه الكلمات يحصر هذه الحقائق فيما ذكر.
ولا تظن أيضا أن المتكلم بهذه الكلمات في هذه الحقائق انحصر علمه بها فيما تكلم به من ذلك والله أعلم.
لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها ، و إن شئت قلت أن يرى عينه، في كون جامع يحصر الأمر كله، لكونه متصفا بالوجود، ويظهر به سره إليه.
فإن رؤية الشي ء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرأة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل و لا تجليه له.
(لما شاء)، أي حين أراد، وهذا من ضرورة التعبير، وإلا فإن مشيئة الله تعالی لا تتقيد بزمان .
(الحق) وهو الله تعالى من حيث تحققه وثبوته في ذاته العلية لا من جميع الحيثيات، إذ العالم كله إنما هو موجود ووجد ويوجد في حضرة واحدة من حضرات الله تعالى.
وهي حضرة الحق وباقي الحضرات لا وجود للعالم فيها أبدا، ولما كانت كل حضرة إلهية جامعة لكل الحضرات جمعت حضرة الحق المذكورة التي وجد فيها هذا العالم لجميع الحضرات الإلهية .
ومن المعلوم أن كل حضرة إذا جمعت جميع الحضرات كان جمعها لذلك على حسبها لا على حسب ما الحضرات عليه بالنسبة إليها فقط .
فحضرات حضرة الحق كلها حق، فأول حضرة ظهرت فيها حضرة الله، ثم حضرة الرحمن، ثم حضرة الرب، ثم باقي الحضرات.
وكل حضرة من هذه الحضرات الظاهرة جامعة لجميع الحضرات أيضا على وجه مخصوص
( سبحانه) تنزيها له تعالى عن خطرات الأوهام وعن لمحات الأفهام.
ثم لما كان الاسم الحق وكذلك جميع الأسماء الإلهية دالة على شيئين : الذات وما يعينها عند الغير من الخصوصيات، وكان الكلام الآن في صدد بيان هذه النشأة الآدمية. 
قال (من حيث)، أي من جهة (أسمائه)، أي أسماء الحق تعالى ولم يقل أوصافه، لأن الوارد في الكتاب والسنة لفظ الأسماء لا الأوصاف ، ولأن الاسم غير الصفة بحسب المفهوم.
وأقرب الوسائط إلى الكائنات بين الحق تعالى وبين الكائنات الأسماء والأوصاف أعلى منها، فالوصف ما قام بالموصوف والاسم ما عين للمسمى عند غيره (الحسنی)، أي ذات الحسن بمعنى النزاهة التامة عن مشابهة الحوادث التي لا يبلغها)، أي لا يحويها ولا يحيط بها
(الإحصاء)، أي العدد الضبط، وذلك ، لأن الله تعالى في ظهور كل ذرة من ذرات السموات والأرض وذرات كل شيء ظهور اسم إلهي خاص، لا ظهور له في تلك الذرة ولا في غيرها من الذرات قبل ذلك ولا بعده . 
وهكذا الشأن دائما من ابتداء فتق الوجود إلى ما لا نهاية له في نار أو جنة فلهذا كانت أسماء الله تعالى لا تبلغ الإحصاء. ..
واعلم أن الحق تعالی من حيث ذاته العلية لا خبر عنه في الأكوان ولا كلام فيه عند ذوي الكمال والنقصان، لأنه من هذه الحيثية غني عن العالمين ومجهول على الإطلاق عند جميع المخلوقين. 
وأما من حيث أسمائه الحسني التي لا يبلغها الإحصاء فهو الموصوف المعروف المخبر عن نفسه الظاهر الباطن في حضرات قدسه 
وقد شاء أزلا من هذه الحيثية (أن يرى)، أي يعاين ويشاهد (أعيانها)، أي أعيان تلك الأسماء الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء.
والمراد بأعيانها ذاته العلية متعينة في كل حضرة منها.
(وإن شئت قلت) في هذا المعنى بعبارة أخرى وهي لما شاء الحق سبحانه من حيث أسمائه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء.
(أن يرى عينه)، أي ذاته ظاهرة (في) صورة (كون)، أي خلق، ولا يلزم من كونه يرى ذاته ظاهرة في صورة كون أن تكون ذاته من حيث هي تحولت عن إطلاقها الكلي إلى صورة من الصور الممكنة.
وصارت في حد ذاتها صورة كون، وإنما المراد رؤيتها كذلك ، فإن من يرى ذاته رؤية حقيقية مطلقة من سائر القيود على ما هي عليه في نفسها يقدر أن يراها ظاهرة في الصورة التي يمكن أن تظهر له فيها من غير أن يتغير عما هي عليه
(جامع) ذلك الكون لجميع المؤتلفات والمختلفات (يحصر) ذلك الكون الجامع الأمر الإلهي المطلق فيظهر به مقيدا  (لكونه)، أي لكون الجامع (متصفا بالوجود)
بعد الاتصاف بالعدم، ومعلوم أن الوجود للأمر الإلهي فإذا اتصف المعدوم به كان ذلك الاتصاف بسبب حصره للأمر الإلهي، وظهر الأمر الإلهي كله به.
وفي نسخة أخرى لكونه متصفا بالوجوه، أي لكون هذا الكون الجامع متصفا بالوجوه الكثيرة والاعتبارات المختلفة والنسب التي لا تحصى.
كما قالوا إن الله تعالى في طي هذا العالم عوالم كثيرة لا يعلم بعدها إلا الله تعالى . وقال بعض المریدین : أدخلني شيخي خمسمائة عالم هذه السموات والأرض عالم منها.
(ويظهر) معطوف على يحصر أي يتضح وينكشف (به)، أي بذلك الكون الجامع (سره)، أي سر الحق سبحانه وسره تعالى ذاته من حيث كونها معلومة له، والسر هو الأمر الخفي وذاته تعالى لولا علمه تعالى بها لخفيت عنه (إليه)، أي إلى الحق تعالى إذ هو العالم والمعلوم والشاهد والمشهود.
ولهذا قالوا : إن علم الله تعالى بالعالم كله هو علمه بذاته تعالى من غير مغايرة.
(فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه) من غير أمر آخر (ما هي مثل رؤيته نفسه) بنفسه في أمر آخر غير نفسه
(يكون) ذلك الأمر الآخر (له كالمرآة) من الزجاج مثلا يقابلها بنفسه 
(فإنه يظهر له نفسه) فيها (في صورة يعطيها المحل المنظور فيه)، وهو المرأة الصغيرة مثلا .فيها صورة وجه الناظر صغيرة . والكبيرة صورة وجه الناظر فيها كبيرة . والطويلة طويلة وهكذا
(مما)، أي من الشأن والحال الذي (لم يكن يظهر له)، أي لذلك الناظر (من غير وجود هذا المحل) المنظور فيه
(ولا تجليه)، أي ظهور ذلك الناظر بنفسه (له)، أي لذلك المحل إذ لولا تجلي الناظر بنفسه للمراة المنظور فيها
ولولا وجود المراة المنظور فيها، أيضا لما ظهرت هذه الصورة التي لوجه الناظر في المرآة على حسب كبر المرآة وصغرها ونحو ذلك.
ومن رأى صورة وجهه في المرآة لا يرى في ذلك الوقت جرم المرأة بل يحتجب عنه جرمها بصورة وجهه فيها وهو متحقق بأن وجهه فيها.
لم يحل في المرآة ولا حلت المرأة فيه.
ولا اتحد وجهه مع الصورة التي في المرآة.
وليست الصورة التي في المرآة غير صورة وجهه.
ولا تشابه صورة وجهه من جهة كونها معدومة الحقيقة ظاهرة العين وصورة وجهه محققة.
ولا يمكن أن تكون صورة المرأة على خلاف صورة وجهه.
بل جميع ما هو مصور في المرأة هو صورة ما عليه وجهه مع أنها على خلاف صورة وجهه من جهة أن يمينها شمال وجهه وبالعكس.
وقد قال وجهه لها قولا بلا حرف ولا صوت كن فتكونت على طبق ما أراد منها من غير معالجة ولا مماسة، إلى غير ذلك من العبر و بمرآة غير مجلوة مستعدة للجلاء. 
قال : بحسب الأول (ومن شأن)، 
أي عادة (الحكم الإلهي) الجاري في الخلق (أنه) أي الحكم الإلهي (ما سوی محلا) أي جسدة (إلا ولا بد أن يقبل روحا)، أي إمداد (إلهية)، له على طريق التدبير المستقل (عبر) في الشرع (عنه بالنفخ فيه)
قال تعالى: " ونفخت فيه من روحي" 29 سورة الحجر.
فالروح عامة في الحيوان والنفخ خاص في الإنسان (وما هو)، أي النفخ فيه
(إلا حصول الاستعداد) التام وهو التهيؤ (من تلك الصورة المسواة)، قبل ذلك. (لقبول فيض التجلي)، أي الظهور من الحق تعالى (الدائم) الأبدي في الدنيا والآخرة .
فهو تعالى المتجلي والمتجلى له من حيث إنه معطي الفيض وواضع الاستعداد، والفيض والاستعداد ظهوران له تعالى لا ينقضيان وتجليان لحضرته العلية أبديان.
(الذي) نعت للفيض (لم يزل) من الأزل حيث لم يكن شيء من العوالم غیر القوابل المتجلي هو لها من اسمه الباطن
(ولا يزال) في الأبد أيضا كل شيء ظاهر بما استعد له من اسمه الباطن. والتجلي هو السائق للعالم من الأزل إلى الأبد، وهو وصف فعلي من حيث القوابل، انفعالي من حيث الفيض الدائم.
(وما بقي) مما يسمى روح إلهية (إلا قابل)، أي مستعد للفيض الدائم من التجلي والقابل هو ذلك الجسد المسوي.
فالروح الإلهي هو ذلك الجسد المسوی من حيث إنه قابل لا مطلقا .
والحاصل أن الفرق بين الجسد المسوی والروح الإلهي بوضع القبول لذلك الفيض والاستعداد له.
وهو أمر واحد ظهر في عالم الخلق بصورة جسد مسوي.
فإن انجلت الصورة وقويت من حيث تصويرها واستعدت لقبول الكمال الفياض من حضرة الجود الإلهي.
فذلك هو الروح الإلهي المنفوخ في ذلك الجسد المسوي وإن انجلت بعض الإنجلاء بحيث استعدت لإدراك المحسوسات فقط بقوة عرضية سارية في أجزاء الهيكل الجسماني.
فهي الروح الحيوانية التي إذا فارقته مات.
ومن التنبيه على ذلك نزول جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي ومجيئه المريم عليها السلام في صورة بشر سوي.
فإن ذلك الجسد البشري هو بعينه حقيقة جبريل عليه السلام وجبريل ما تغير عن حقيقته.
غير أن الله تعالى أعطى حقيقته الملكية لخصوصية فيها أنه متى فعل كذا من فعل مخصوص ظهر في صورة كذا،أو فعل كذا أو هكذا الأرواح الجنية في تشكلها.
(والقابل) المذكور (لا يكون) قابلا بوضع القابلية فيه من الأزل (إلا من فيضه) سبحانه وتعالى (الأقدس) المتنزه عن شائبة الحدوث والنقصان.
والحاصل أن الحق تعالى له تجليان أزليان :
تجلي ذاتي أعطى الاستعدادات  لجميع الكائنات، وتجلي صفاتي أعطى تلك الكائنات ما استعدت له . 
وإن شئت قلت : تجلي واحد رسم الكائنات ثم نقشها وأثبتها ثم قواها في ذلك الإثبات فالاستعداد أو الرسم أو الإثبات هو الروح الأمري الإلهي وإعطاء كل مستعد استعداده ونقش الرسم وتقوية الإثبات هو الجسد المسوي .
فإن قلت : يلزم من هذا أن يكون الروح الأمري الإلهي سابقا على الجسد المسوي، وقوله تعالى: "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي" 29 سورة الحجر.
يقتضي سبق الجسد المسوى على نفخ الروح.
قلت : نعم الروح الأمري الإلهي سابق بدليل قوله عليه السلام: «إن الله خلق الأرواح قبل الأجسام بألفي عام».
وكذلك النفخ متوجه على ذلك الجسد، أي مقبل على تسويته قبل ظهور التسوية ، ولكن ظهور ذلك النفخ فيه بعد تمام تسويته.
فالروح الأمري هو الأول المتقدم على الجسد وهو الآخر عنه.
والجسد هو الأول في التوجه والإقبال على تسويته، وهو الآخر في ظهوره.
كما أن الروح هو الظاهر من حيث الأعمال والباطن من حيث عدم الإحاطة.
وكذلك الجسد هو الظاهر من حيث الصورة والباطن من حيث إنه توجه روحاني من ذلك الروح الأمري، فهو عين النفخ الإلهي، والنفخ الإلهي باطن فهو باطن من هذا الوجه .
(فالأمر) الذي هو مجموع هذا الوجود (كله)، روحانية وجسمانية وقابله ومقبوله وأوله وآخره وظاهره وباطنه
(منه) تعالى لأنه تفصيل مجمله وتبيين مشكله (ابتداؤه) في الظهور والبطون (وانتهاؤه) في السعادة والشقاوة . 
وقال تعالى: "وأن إلى ربك المنتهى" 42 سورة النجم.
"وأنه هو أضحك " 43 سورة النجم .يعني أهل الجنة وأبكى  یعني أهل النار.
ثم لما انتهى الكل إليه زال الضحك والبكاء ("واليه")، أي إلى ذاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه ("يرجع الأمر") المذكور ("كله ") 123 سورة هود.
فلا يخرج عنه شيء منه ولهذا كان: "ليس كمثله شيء " فإن البعض لا يشبه الكل، والكل بعضا فلا يشبه شيء ولا كل شيء، لأنه خلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ، فقد فصل كل شيء من مجمله.
وهو بمجمله عليم كما (ابتدأ) الأمر كله (منه) تفصيلا من إجمال، فإنه يرجع إليه مجملا  من تفصيل.
وحيث تقرر لك في هذا الكلام أن الحق تعالى أراد أن يرى ذاته متعينة في أعيان صفاته مسماة بحقائق أسمائه في جميع حضراته، لأن رؤية التفصيل غير رؤية الإجمال.
وإن شئت قلت : أن یری ذاته المجمل في مرآة الإمكان التفصيلية، لأن رؤية النفس ظاهرة بصورة الغير ما هي مثل رؤية النفس من دون ذلك الغير.
وقد كان ابتداء الحق تعالى هذا الأمر من غير إتمام حيث خلق العالم كله روحانية وجسمانية فكان بمنزلة الجسد المحتوى الذي لا روح فيه، أو بمنزلة المرأة الغير المجلوة، وكل جسد مسوی مستعد لروح أمري إلهي وكل مرآة غير مجلوة مستعدة للجلاء.
.
فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة و روح تلك الصورة، و كانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم «بالإنسان الكبير».
فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية والحسية التي في النشأة الإنسانية.
فكل قوة منها محجوبة بنفسها لا ترى أفضل من ذاتها، وأن فيها، فيما تزعم، الأهلية لكل منصب عال ومنزلة رفيعة عند الله، لما عندها من الجمعية الإلهية مما يرجع من ذلك إلى الجناب الإلهي، وإلى جانب حقيقة الحقائق، وفي النشأة الحاملة لهذه الأوصاف إلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية التي حصرت قوابل العالم كله أعلاه وأسفله.
.
فاقتضى الأمر الإلهي لأجل إتمام ما أراده تعالى من خلق جسد العالم وإظهار مرآته الغير المجلوة.
(جلاء مرآة العالم) بإزالة الكثافة منها، ومسحها من أوساخ القصور والنقصان، وامدادها بالإشراق والصقالة.
(فكان آدم) عليه السلام من حيث روحه وعقله ونفسه وجسده.
(عين جلاء تلك المرآة)، فروحه جلاء العالم الأرواح، وعقله جلاء لعالم العقول، ونفسه جلاء العالم النفوس، وجسده جلاء العالم الأجساد، فبسبب خلق آدم عليه السلام انجلت مرآة العالم كمال الانجلاء .
فظهر له تعالى وجهه متنوعة بعد تنوعات ما يقتضيه صفاته وأسماؤه 
كما قال تعالى : "فأينما تولوا فه وجه الله إن الله واسع عليم" 115 سورة البقرة. ومن وسعه كان جميع ما ظهر من صور وجهه الواحد في مرآة العالم بالنسبة إلى ما لم يظهر كلا شيء بالنسبة إلى شيء لا نهاية له (وكان) آدم عليه السلام (روح تلك الصورة) التي هي جسد العالم المسوي، فقد أمد الله تعالى عالم الروحانيات بروح آدم عليه السلام.
وأمد عالم العقول بعقله، وأمد عالم النفوس بنفسه، وأمد عالم الأجساد بجسده.
فكان روح هذا الجسد المسؤى، وهذا حكمة تأخير خلقه عليه السلام عن خلق جميع أنواع العالم.
وحيث كان آدم عليه السلام حين خلق الله تعالی روح جسد العالم، وقد كانت الملائكة عليهم السلام قبله أجزاء من جسد العالم بمنزلة العروق والأعصاب المتهيئة لسريان القوى الروحانية فيها عند نفخ الروح قال رضي الله عنه :
(وكانت الملائكة) عليهم السلام يعني بعد خلق آدم عليه السلام ونفخه، روح أمرية إلهية في جسد العالم المسوی.
(من بعض قوى تلك الصورة) المسواة (التي هي صورة العالم) كله (المعبر عنه في اصطلاح القوم) الصوفية من أهل الله تعالی (بالإنسان الكبير).
لأن هذا الإنسان الصغير الذي هو آدم عليه السلام مختصر منه واسمه إنسان، وهو على صورته لمقابلة كل روحاني منه روحانية من العالم.
وكل جسماني منه جسمانية من العالم، والروح النفخي الأمري الإلهي قدر زائد في آدم عليه السلام ليس موجودا في شيء من العالم غيره، وبهذا الروح النفخي المذكور انجلت مرآة العالم، وتم ظهور الله تعالى بنفسه لنفسه .
فكانت الملائكة عليهم السلام (له)، أي لهذا الإنسان الكبير (كالقوى الروحانية) العاقلة والمفكرة والمخيلة والوهمية في الدماغ، و الهاضمة والجاذبة والطباخة ونحو ذلك في المعدة.
(و) القوى (الحسية) الباصرة والسامعة والذائقة والشامة واللامسة (التي في النشأة الإنسانية).
فكان العالم قبل خلق آدم عليه السلام بمنزلة القالب المسوى من الطين.
ثم أفرغ آدم عليه السلام فيه بنفخ الله تعالى روحه في جسده المجموع من أجزاء العالم كلها.
فظهر في آدم عليه السلام جميع ما في العالم.
ولكن اختلف الاسم ففي القالب المسوی ملائكة. وفي آدم عليه السلام قوى روحانية وحسية.
وفي القالب عناصر وطبائع. وفي آدم أخلاط وطبائع.
وفي القالب كواكب وأفلاك.  وفي آدم أعضاء وحواس. وهكذا.
(وكل قوة) في جسد هذا العالم (منها)، أي من تلك القوى الروحانية والحسية التي هي حقائق الملائكة (محجوبة) عن إدراك حقيقة غيرها (بنفسها لا ترى أفضل من ذاتها ) لاشتغالها بكمالها عن معرفة كمال غيرها من بقية القوى.
(و) ترى (أن فيها فيما تزعم) لا في حقيقة الأمر (الأهلية)، أي الاستعداد التام (لكل منصب عالي) من مراتب القرب الإلهي.
(و) كل (منزلة رفيعة عند الله) تعالى (لما عندها)، أي عند كل قوة من تلك القوى (من الجمعية) لكل وصف إلهي واسم رباني (الإلهية) المنسوبة إلى الإله الذي توجه على خلق تلك القوة بكله.
ولكن ما أودع فيها إلا ما أراد من حضرته.
وكل حضرة من حضراته جامعة لجميع الحضرات، لكن لا من حيث تلك الحضرة المتعينة.
بل من حيث ذلك الحاضر بها في رتبة الذات، ورتبة الموجود الأول قبل كل شيء، ولهذا قال : (دائرة بين ما يرجع من ذلك)، أي من تلك القوة المذكورة.
(إلى الجناب الإلهي) الجامع المتجلی بذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه.
(إلى جناب حقيقة الحقائق)، كلها الجامعة وهي نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أول مخلوق،وقد خلق الله تعالى منه كل شيء، فهو حقيقة كل حقيقة.
والحاصل أن كل قوة من قوى العالم، بل كل ذرة منه جامعة لكل قوة وكل ذرة، والعلم بشيء من العالم بكل شيء منه.
وكل كمال في العالم جامع لكل كمال منه، ولكن هذا كله بالنظر إلى حقيقة تلك القوة وحقيقة تلك الذرة.
فإن حقيقة الحق تعالى هي حقيقة ذلك في عالم الأمر، وحقيقة النور المحمدي هي حقيقة ذلك في عالم الخلق.
ولا شك أن الحقيقة الإلهية والحقيقة المحمدية جامعة لكل كمال.
فما دامت كل قوة وكل ذرة محجوبة بنفسها من غيرها لا جمعية فيها عند نفسها، فإذا ادعت الجمعية والاستعداد التام ادعت ما ليس عندها.
وحقائق الملائكة بل حقيقة كل شيء محجوبة بنفسه تزعم الجمعية والجمعية فيها وهي منحجبة عنها بنفسها ، فلو زال انحجابها صحت دعواها .
(وفي النشأة) الإنسانية (الحاملة) بإمدادها (لهذه الأوصاف) المذكورة من القوى الروحانية والحسية.
(إلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية) التي هي أصل الطبائع الأربع الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.
وليست واحدة منها والذي تقتضيه الطبيعة الكل هو جميع العناصر الأربعة المتكاثفة عن تلك الطبائع، وهي: النار والهواء والماء والتراب.
والمواليد الأربعة المتكاثفة عن تلك العناصر، وهي: الجماد والنبات والحيوان والإنسان.
ولهذا قال: (التي حصرت قوابل) جمع قابل وهو: الجسد المستوى المستعد للروح الطبيعي أو العنصري أو الجمادي أو النباتي أو الحيواني أو الإنساني العالم الطبيعي.
(كله أعلاه) وهم الملائكة وكلهم طبيعيون (وأسفله) وهم العالم الجسماني العنصري.
.
وهذا لا يعرفه عقل بطريق نظر فكري، بل هذا الفن من الإدراك لا يكون إلا عن كشف إلهي منه يعرف ما أصل صور العالم القابلة لأرواحه.
فسمي هذا المذكور إنسانا وخليفة، فأما إنسانيته لعموم نشأته وحصره الحقائق كلها. 
و هو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر، وهو المعبر عنه بالبصر. 
فلهذا سمي إنسانا فإنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم.
فهو الإنسان الحادث الأزلي و النش ء الدائم الأبدي، و الكلمة الفاصلة الجامعة ، فتم العالم بوجوده،
.
(وهذا) يعني جمع الإنسانية الكبرى والصغرى لجميع ما تقتضيه الطبيعة الكل من قوابل العالم كله أعلاه وأسفله. وكذا كل ما كان من هذا القبيل من علوم المعرفة
(لا يعرفه) معرفة تامة لما هو عليه في حقيقة ثبوته (عقل) كامل (بطریق نظر فكري) .
إذ النظر الفكري يثبت في العقل حقيقة الشيء تابعة لما يقتضيه ذلك العقل من القوة الخيالية , لا تابعة لما عليه ذلك الشيء في نفسه.
ولم يقل لا يعرفه عقل مطلقا، إذ العقل في إدراكه للعلوم له طريقان: 
طريق النظر الفكري وهو طريق خطئه في الغالب.
وطريق قبوله ما يلقى إليه بالفيض الرباني بعد وزنه بالميزان الشرعي ونقده بمحك الكتاب والسنة إذا كان مؤيدة بها معرفة وإتقانه . وهذا طريق صوابه دائما . 
وقد أشار إلى الثاني بقوله :
(بل هذا الفن) الذي هو فن المعارف الإلهية والعلوم الربانية بالحقائق الغيبية والشهودية (من الإدراك) الإنساني (لا يكون)، أي لا يوجد دائما (إلا عن كشف) بتكمیل قصور الإدراك حتى يجد الأمر ظاهرة على ما هو عليه، غير أن الإدراك كان قاصرة عنه فقوي في معرفته .
(إلهي)، أي منسوب إلى الإله، وهو الكشف الصحيح المؤيد بالكتاب والسنة كما ذكرنا.
(منه)، أي من ذلك الكشف الإلهي (يعرف ما)، أي: أي شيء
(أصل صور العالم) المعقولة والمحسوسة (القابلة لأرواحه) المختلفة الملكية والحيوانية والنباتية وغير ذلك.
فإن الأرواح كلها متعينة أولا في حقيقة القلم الأعلى الذي هو النور الأول.
مثل تعيين الحروف الحاملة للمعاني في المداد المحمول في رأس القلم.
ثم تفصلت منه بكتابتها في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض.
مثل تفصيل الحروف المكتوبة في قرطاس بماء البصل، حيث لا يستبين على القرطاس من كتابتها شيء منها .
وهذه الحروف هي صور المعاني والمعاني أرواحها المخلوقة قبلها.
أي المعينة لها وتلك المعاني موجودة في هذه الحروف، ولكن وجود دلالة وتدبير لهذه
الحروف لا وجود حلول واتحاد، وهي لم تبرح من قلب المتوجه على كتابة الحروف .
ثم إن تلك الحروف المكتوبة بماء البصل إذا مسها حرارة النار تبينت حروف مرسومة يخالف لونها لون القرطاس فتظهر للقارىء فيقرأها فيفهم معانيها الظاهرة فيها.
وههنا تتوجه تلك الأرواح المتعينة في حقيقة القلم الأعلى التي رسمت في اللوح المحفوظ صورة وأشكالا غیر متبينة على تلك الصور والأشكال بسبب التوجه الأصلي من همة الكاتب الحامل لأرواح هذه الصور والأشكال :
فتنبعث الحرارة الغريزية والحركة الشرقية الروحانية، فتتبين بذلك تلك الصور والأشكال في عالمها المخصوص الذي هو عالم الطبائع والعناصر.
فإذا تم تبينها وهو المراد بتسوية الجسد قوي التوجه المذكور.
فسرت الروح النباتية النامية بعد الروح الجمادية المظهرة لصورة الجسد فقط،.
ثم تسري الروح الحيوانية المحركة.
ثم الروح الإنسانية المكملة للظهور الإلهي على أتم الوجوه الممكنة.
فتتحقق صورة الإنسان وتتميز عن غيرها في هذه الأكوان.
(فسمي هذا المذكور) الجامع لقوابل العالم كله أعلاه وأسفله كما ذكرنا (إنسانا) وهو الاسم الأصلي (وخليفة) وهو الاسم اللقبي.
(فأما إنسانيته) التي سمي بها أولا (فلعموم نشأته)، أي سريانها في كل نشأة روحانية أو طبيعية أو عنصرية وحصره الحقائق العلوية والسفلية.
(كلها) بحيث لا تبقى حقيقة في العالم إلا وفيه منها رقيقة متصلة يمدها بروحه الأمري الإلهي.
وتمده هي بروحها الجمادي والنباتي والحيواني ولهذا لا غناء له عن الغذاء المحسوس.
فهو لعموم نشأته يمدها وبذلك شرف عليها وصار مكرمة.
قال تعالى : "ولقد كرمنا بني آدم "70 سورة الإسراء.
و بحصره الحقائق كلها فيه تمده هي لسبقها عليه ولكبرها بالنسبة إليه .
كما قال تعالى: "لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس" 57 سورة غافر . (وهو)، أي هذا الإنسان المذكور (للحق) تعالى النافخ فيه من روحه الأمري الإلهي النوري الذي هو المخلوق الأول من جهة إمداده تعالی كل حقيقة كونية من حقيقة هذا الإنسان كما ذكرنا.
(بمنزلة إنسان العين)، وهو نورها الذي يظهر سوادا تبصر به بحيث لو زال أو قل زال أبصارها (من العين) الإنسانية أو الحيوانية (الذي به یكون)، أي يوجد (النظر) والإدراك للأشياء على وجه التمييز بين حسنها وقبيحها.
(وهو المعبر عنه بالبصر)، وإنما يظهر سوادة وهو نور مشرق، لأن جميع ما يقابله ظلمة بالنسبة إليه.
لأنه الروح الأمري المنفوخ وهو روح كل جماد ونبات وحيوان وإنسان وملك وجن.
ولكن ما قبل كمال الظهور إلا في الإنسان الكامل فقط دون غيره فنسب إليه، وسمي في غيره باسم أنزل منه، كما أن الآدمي ظهر في هذا العالم بالعصيان والمخالفة لأمر الله تعالى.
ولا عصيان ولا مخالفة في الحقيقة غير عدم قبول بقية العالم لكمال ظهور الروح الأمري.
ظهر ذلك ظلمة وسواد في نور مرآة الروح الأمري فكان سوادة في إدراك كل رائي.
قال تعالى : " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها" 27 سورة الأحزاب. 
وهذا حقيقة العصيان والمخالفة الظاهرة في آدم عليه السلام وبنيه إلى يوم القيامة ، والمراد بالجبال كل منجبل من العناصر الأربعة والطبائع الأربع وإنما عوقب بذلك من عوقب من بني آدم لغلبة حيوانيته على إنسانيته .
(فلهذا)، أي لأنه من الحق بمنزلة إنسان العين من العين (سمي إنسانا فإن به)، أي بهذا الإنسان الكامل (نظر الحق) تعالى (إلى خلقه) جميعهم (فرحمهم) بإمدادهم منه، فلا إمداد لشيء إلا منه ، لأنه محل نظر الله تعالى لخلقه.
وقلبه محل الوسع الإلهي الذي ضاقت عنه السموات والأرض مع كبرها بالنسبة إليه.
كما ورد في الحديث القدسي: "ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقى" وهو العبد الكامل في رتبة العبودية.
هو واحد في كل زمان إلى يوم القيامة، وإن تعدد من حيث الظهور الجسماني .
فهو الإنسان من حيث جمعيته المذكورة (الحادث) من حيث ظهوره في هذا العالم بجميع ما تشتمل عليه حقائق هذا العالم (الأزلی) من حيث انمحاقه في الحقيقة الإلهية الممدة له باطنا وظاهرا بالروح الأمري المنفوخ فيه زيادة على أرواح جميع العالم.
(والنشء الدائم) من الدنيا إلى الآخرة ومن الآخرة إلى ما لا نهاية له (الأبدي) بتأييد الله تعالى وجميع من هو دونه من العوالم، معدوم زائل لا يبقى غير من قاربه من الحيوان.
ولم يظهر فيه الروح الأمري بكماله، فإنه محبوس في جنسهم إلى أمد مخصوص إن تقارب كماله. أو محبوس دائما إن ضعف تقارب كماله .
(والكلمة) الإلهية (الفاصلة) بين الحق والباطل (الجامعة)، لمعاني جميع الكلم كما قال عليه السلام : «أوتيت جوامع الكلم» وغيره من بقية العالم كلمات الله غير التامات.
كما قال تعالى : "مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة " 24 سورة إبراهيم. 
وقال: "ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيئة " 26 سورة إبراهيم: 26. 
ثم قال : "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " 27 سورة إبراهيم.
وهو راجع إلى الكلمة الطبية وقال: [size=24:


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الأربعاء يوليو 17, 2019 10:37 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 01- فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 7:44 am

01- فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

الجزء الثاني

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية

 وهو راجع إلى الكلمة الخبيثة (فتم)، أي كمل (العالم كله) أعلاه وأسفله (بوجوده)، أي هذا الإنسان الكامل .
قال الشيخ رضي الله عنه : (
فهو من العالم كفص الخاتم من الخاتم، الذي هو محل النقش والعلامة التي بها يختم الملك على خزانته، وسماه ځليفة من أجل هذا .
لأنه تعالى الحافظ به خلقه كما يحفظ الختم الخزائن فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها إلا بإذنه.
فاستخلفه في حفظ العالم فلا يزال العالم محفوظا ما دام في هذا الإنسان الكامل.
ألا تراه إذا زال وفك من خزانة الدنيا لم يبق فيها ما اختزنه الحق تعالى فيها وتخرج ما كان فيها والتحق بعضه ببعضه، وانتقل الأمر إلى الآخرة فكان ختما على خزانة الآخرة ختما أبدا.
فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود، وبه قامت الحجة لله تعالى على الملائكة.)
.
(فهو من العالم) كله (?فص الخاتم من الخاتم)وهو وجه آخر في تسميته فصوص الحكم غير ما ذكرنا فيما سبق.
 (وهو)، أي الإنسان الكامل الذي هو من العالم كفص الخاتم من الخاتم (محل)، أي موضع (النقش)، أي الكتابة المقصودة من وضع الخاتم وصياغته، ومعلوم أن المنقوش في فص الخاتم اسم صاحب الخاتم.
وهنا الله هو صاحب الخاتم، فاسمه الأعظم هو المنقوش على هذا الفص .
كما قال تعالى : " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" 49 سورة العنكبوت.  وهو خاتم سليمان عليه السلام الذي ملك به ما ملك.
 (و) هو محل (العلامة التي بها يختم الملك)، أي السلطان وهو الحق تعالی (علی خزائنه)، التي هي كل شيء.
كما قال تعالى: "وإن ممن شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم" 21 سورة الحجر. 
والختم هو منع الإمداد لشيء من العالم إلا من حقيقة هذا الإنسان الكامل وتنزيله بقدر معلوم هو الإمداد الحاصل للأشياء من هذا الكامل كما ذكرنا .
(وسماه)، أي سمي الحق تعالى هذا الإنسان الكامل (خليفة) 
في قوله تعالى : "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" 30 سورة البقرة. 
وقوله : "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض " 26 سورة ص .
 وقوله :" جعلكم خلائف الأرض" 165 سورة الأنعام.
"وأنفقوا مما جعل مستخلفين فيه" 7 سورة الحديد. والخطاب كله للإنسان الكامل. 
(من أجعل هذا)، المعنى المذكور وهو كونه ختم به على خزائنه (لأنه)، أي الإنسان الكامل هو (الحافظ خلقه)، أي خلق الله تعالى بظهور اسم الله تعالى الحفيظ فيه.

(كما يحفظ الختم الخزائن)، إذا طبع به على الشمع الموضوع فوق القفل ونحوه فلا يجسر أحد أن يحتال لفتح ذلك القفل خوفا من تغير صورة ذلك الطبع في الشمع فيشعر الملك بذلك .
(فما دام ختم الملك عليها)، أي على تلك الخزائن (لا يجسر أحد على فتحها)، بفك ختمها (إلا بإذنه) وكذا هذا .
(فاستخلفه في حفظ العالم) جسمانیه بجسمانیه روحانيه بروحانيه .
(فلا يزال العالم محفوظا) لا يقدر أحد على فتح خزائنه شيء من الأشياء واستخراج ما فيها من الأسرار إلا باستئذان الملك .
وفك هذا الختم وهو مفتاح كل خزانة مقفلة والمفتاح لا يفتح بغیر ید محركة.
 واليد المحركة إنما تتحرك بالله تعالى، فالفاتح هو الله لا غيره.
(ما دام فيه)، أي في هذه العالم (هذا الإنسان الكامل) المذكور.
(ألا تراه إذا زال)، بالانتقال إلى عالم الآخرة (و ) ختمه (من خزانة الدنيا) قامت الساعة وخربت الدنيا (ولم يبق فيها)، أي في الدنيا (ما اختزنه) (الحق تعالی فيها)، من الحكم الإلهية والأسرار الربانية الظاهرة في صور السموات والأرض وما بينهما.
(وخرج ما كان) موجودة (فيها) من المواليد الأربعة: 
الجماد والنبات والحيوان والإنسان. 
وكذلك الملك والجني إلى عالم الآخرة فحشرت إلى ربها كما قال تعالى: "وإذا الوحوش حشرت" 5 سورة التكوير. 
وفي الحديث يشهد للمؤذن مد صوته من رطب ويابس وقال تعالى:"ويوم يقوم الأشهاد" 51 سورة غافر .
فالحشر عام في كل شيء (والتحق بعضه)، أي بعض ما كان فيها من ذلك (ببعضه)، فالتحق الجماد والنبات والحيوان بالتراب حتى يقول الكافر يومئذ : "يا ليتني كنت ترابا"40 سورة النبأ.
والتحق الإنسان والجني حيث غلب فيهما الجزء الناري بالنار.
 وحيث غلب فيهما الجزء النوري بالنور وهو الملك.
 ثم التحق النور بالإنسان الكامل وظهرت حقيقة ختمه للعالم النوراني.
(وانتقل الأمر إلى الآخرة وكان ختمة على خزانة الآخرة)، فبنوره على خزانة العالم النوري وبناره على خزانة العالم الناري والنار نور مترا?م وهو شوق الإنسان الكامل إلى ربه في وقت زیادة قربه.
 والشوق شيئان لذة وألم فاللذة في الجنة والألم في النار (ختمة أبدية) لا نهاية له وقد ظهر سر هذا الختم على خزانة الآخرة في الدنيا .
كما قال تعالى : "كان الناس " 213 سورة البقرة . أي المكلفون وغيرهم "أمة واحدة " 213 سورة البقرة .
لا يوصفون بإيمان ولا كفر ولا طاعة ولا معصية لأن ذلك معروف شرعا الا عقلا.
فبعث الله النبيين يفرقون ویمیزون بنفس تبليغهم عن ربهم. فمن صدقهم آمن ومن كذبهم كفر.
والمصدق لهم إن تبعهم أطاع وإن خالفهم عصی، وليس لهم من الأمر شيء.
وإنما كانوا مبشرين من صدقهم واتبعهم بالدرجات النورية، ومنذرين من كذبهم وخالفهم بالدركات النارية.
وعلى قدمهم جميع الورثة لهم إلى يوم القيامة، فقد ظهر في الدنيا ?يفية ختمهم على جميع الخزائن في الآخرة.
ثم لما علمت وتقرر عندك أن الإنسان الكامل مخصوص بظهور الروح الأمري فيه دون غيره من العالم. 
فاعلم أن هذا الروح الأمري هو ظهور الصورة الإلهية التي هي ليست بكيفية ولا هيئة ، وإنما هي مجموع صفات قدسية وأسماء غيبية تنزيهية .
ولهذا قال : (فظهر جميع ما في الصورة الإلهية) المنزهة عما نفهم أو نعقل من جميع التصورات (من الأسماء) الغيبية بيان لما في الصورة الإلهية.
(في هذه النشآت الإنسانية) الكاملة (فحازت) هذه النشآت المذكورة (رتبة الإحاطة والجمع لهذا الوجود)، ?له أعلاه وأسفله .
فجمع بروحه الأمري المنفوخ فيه حضرة التجلي الذاتي الإلهي، وأحاط بجميع التجليات الصفاتية والاسمائية من حيث إمداده الأبدي.
وجمع بنفسه وجسمه بين جميع النفوس الفلكية والحيوانية وأحاط بجميع ذلك علما فهو المضاهي بباطنه للحضرة الإلهية.
وبظاهره للحضرة الكونية فيستمد من الله تعالى ويمد الكون.
فهو البرزخ بين الحق والخلق (وبه)، أي بهذا الإنسان الكامل (قامت الحجة الله تعالى على الملائكة).
لما قال لهم: "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك و نستغفر لك قال إنى أعلم ما لا تعلمون" 30 سورة البقرة .
ثم إنه تعالى أظهر لهم ما لا يعلمون.
فخلق آدم عليه السلام ونفخ فيه من روحه الأمري وعلمه الأسماء كلها وأقام عليهم الحجة بذلك.
فاعترفوا بعد ذلك بالحق و و"قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " 32 سورة البقرة. 
وكان ينبغي لهم أن يقولوا ذلك من أول الأمر قبل طعنهم ومدح أنفسهم لمن يعلم ما لا يعلمون.
ولكن إنما ظهر منهم ما هم فيه من القصور عن المرتبة الآدمية الكاملة.
كما سبق أنهم بمنزلة قوى جسد العالم وكل قوة منها محجوبة بنفسها ألا ترى أفضل من ذاتها إلى آخره .
ولولا عصمة الله تعالى وحفظه للملائكة لجحدوا وعاندوا كما جحد إبليس.
 وعاند وجحدت أولاده وعاندت إلى يوم القيامة.
قال الشيخ رضي الله عنه : (
فتحفظ فقد وعظك الله بغيرك، وانظر من أين أتى على من أتي عليه.
فإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة، و لا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية، فإنه ما يعرف أحد من الحق إلا ما تعطيه ذاته، و ليس للملائكة جمعية آدم، و لا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها، و سبحت الحق بها و قدسته، و ما علمت أن لله أسماء ما وصل علمها إليها، فما سبحته بها و لا قدسته تقديس آدم. 
فغلب عليها ما ذكرناه، و حكم عليها هذا الحال فقالت من حيث النشأة: «أ تجعل فيها من يفسد فيها»30 سورة البقرة. )
.
(فتحفظ) يا أيها السالك في طريق الله تعالى واحترز من الوقوع في مثل ذلك من الطعن في غيرك ولو بقلبك .
حيث أمرك الله تعالى بالسجود التعظيمي الاحترامي الأحد من الكاملين وإن كنت في التقوى والديانة مثل الملائكة المعصومین.
 فلا تغتر بذلك واحترز من مدح نفسك بالنظر إلى أكمل منك.
وإن وقعت في شيء من ذلك فتدارك نفسك بالتوبة منه والسجود في الحال لما أنت مأمور بالسجود له من أهل عصرك سجود الإنصاف والاعتراف بالحق.
ولا تجحد وتعاند كما جحد إبليس وعاند فيطردك الله عن حضرته ويلعنك كما لعن غيرك قبلك .
واعلم أن الملائكة ما طعنت في آدم عليه السلام كما طعن فيه إبليس ولا مدحت نفسها كما مدح إبليس نفسه.
وإلا لما وفقت الملائكة للسجود لآدم وانجبر بذلك نقصانهم عند الله تعالى.
وبيان ذلك أن الملائكة طعنت في آدم عليه السلام قبل أن يخلقه الله تعالى ويظهره في هذا العالم وقبل أن يعلمه الأسماء ويفضله عليهم.
فطعنهم في الحقيقة ليس في شخص معين موجود في الخارج، وإنما كان طعنهم في شخص مفروض وجوده على حسب ما استعدوا له من إدراكه.
ثم لما خلقه الله تعالى و أنبأهم بالأسماء أذعنوا للحق و انقادوا له فجبر السجود ما وقعوا فيه من الذلة ولم يصروا وبادروا بالمطلوب .
وأما إبليس فقد طعن في آدم عليه السلام بعد أن خلقه الله تعالى وأظهر فضيلته بین الملأ الأعلى بالإنباء بالأسماء ومدح نفسه.
فقال : "أنا خير منه"  فقد وصلته فضيلة عن الله تعالى وكذب فلم ينلها .
كما قال عليه السلام: "من بلغه عن الله فضيلة فلم يصدق بها لم ينلها" أخرجه السيوطي في الجامع الصغير ، فاحذر أن يكون طعنك كطعن إبليس فإنك تشقى شقاء الأبد.
وإذا كان طعنك كطعن الملائكة نقصت درجتك عن درجة من طعنت فيه.
فقط إن انقادت له ظاهرا وباطنا استمطرت سماء إلهاماته ، فتأمل قبل الموت على الباطل.
فقد وعظك الله تعالى (بغيرك)، في واقعة آدم والملائكة وإبليس التي قصها الله عليك في القرآن العظيم فاعتبر بها.
(وانظر من أين أتى) بالبناء للمفعول (على من أتى)، بالبناء للمفعول أيضا (عليه)، وهم الملائكة وإبليس فإنهم تداركوا أمرهم فنجوا، وفرط إبليس فهلك.
وكان سبب ذلك القياس العقلي:
فقاست الملائكة آدم عليه السلام على من كان قبله في الأرض فأخطأوا.
وقاس إبليس أيضا آدم عليه السلام على مقتضى ما يظهر من الطين الكثيف بفكره ونظره فأخطأ .
(فإن الملائكة لم تقف)، أي تطلع فتتأدب (مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة) من جمعية الكمال الذي عنده .
فإن الخليفة يحتاج أن يكون جميع حاجات من جعل مستخلفة عليهم.
وقول الله تعالى : "إني جاعل في الأرض خليفة " 30 سورة البقر.
يؤذن بذلك الهم الكمال (ولا وقفت)، أي الملائكة.
(مع ما تقتضيه حضرة الحق) سبحانه (من العبادة الذاتية) التي أشارت إليها الملائكة بعد أن تعلمتها من آدم عليه السلام بقولها : "سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ، سبحانك ما عرفناك حق معرفتك". حديث الطبراني.
 (فإنه ما يعرف أحد من الحق) تعالى (إلا ما تعطيه ذاته)، من المعرفة، بالله تعالى عند خلقه ظهورات مختلفة بعدد استعدادات الخلق.
وكلها ظهورات الحق تعالى، وكلها تنزه الحق تعالى عنها.
فهو الغيب المطلق من حيث هو على ما هو عليه، وهو الحاضر المشهود على كل حال من حيث استعدادات الخلق لمعرفته.
فكل استعداد فيه معرفة خاصة بشهود لله تعالى مخصوص، والأمر أن جاء بهما الشرع التنزيه والتشبيه معا لا أحدهما كما سيأتي إن شاء الله .
وليس للملائكة جمعية آدم عليه السلام لجميع الأسماء الإلهية بحقيقته الإنسانية فإن كل ملك من حضرة اسم إلهي خاص.
وإن جمع كل اسم لجميع الأسماء في اطلاع الكامل لكن لا يلزم من ذلك الاطلاع من القاصر عليه.
فإن الكامل يرى في القاصر من الكمال ما لا يراه القاصر من نفسه ولهذا كان قاصرا، وكان صاحب الاطلاع ?املا .
قال تعالى: "هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب " 9 سورة الزمر. 
وقال تعالى : "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت" 3 سورة الملك.
فإن كل ذرة من ذرات العالم على الكمال المطلق والجمعية الكبرى، ولكن اطلاع كل ذرة على نفسها وعلى باقي الذرات يتفاوت ويختلف بالكشف والاستتار.
وهذا مفتاح باب معرفة الكمال والنقصان في العالم (ولا وقفت الملائكة مع) جميع (الأسماء الإلهية).
التي كشف عنها لآدم عليه السلام (إلا) الأسماء (التي تخصها) مما هي من آثار تجلياتها (وسبحت الحق) تعالى (بها وقدسته) عن مشابهة الأغيار.
فإن كل اسم إلهي يقتضي تسبیح الله تعالی خاصة صادرة من حضرة ذلك الاسم بلسان أثر تجليه الخاص.
واختلفت الأسماء فاختلفت التجليات فاختلفت الآثار فاختلف التسبيح والتقديس، فأظهر كل أثر ما استعد له من ذلك .
كما قال تعالى : "وإن ممن شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم" 44 الإسراء.
(وما علمت)، أي الملائكة (أن الله تعالی أسماء) أخر غير الأسماء التي سبحت الله تعالى بها وقدسته.
(ما وصل علمها إليها) لعدم جمعها لها (فما سبحته) تعالی (بها ولا قدسته) .
وتلك الأسماء الأخر التي ما وصل علم الملائكة إليها هي التي وصل علمها إليها على معنى ما وصل علم كل الملائكة إلى كلها.
 وإلا فإن جميع أسماء الله تعالی ظهرت بظهور الملائكة، وسبحت بها ربها وقدسته، ولم يتعطل اسم من الأسماء.
و يحال ذلك، ولكن من قبيل مقابلة الجمع بالجمع، و انقسام الآحاد على الآحاد، فكل ملك يسبح باسم إلهي خاص لا يعرف التسبيح بغيره.
 مع أن كل اسم جامع لكل اسم كما مر ولكن جمعة خفية لا يتنبه له إلا الكامل دون القاصر.
 فكل ملك يعلم اسما واحدا إلهيا فهو محجوب به عن غيره من الأسماء.
حتى أن الاسم الغفور والعفو والتواب ونحوها من الأسماء كانت للملائكة قبل آدم أيضا.
لأن القصور في التسبيح ببعض الأسماء دون بعض غير لائق بالله تعالى.
فهو معصية مغفورة معفو عنها وصاحبها معترف بقصوره عن إدراك حقيقة التسبيح.
فهو تائب وإن لم تشعر الملائكة بذلك لخفائه فيها حتى تفصل بآدم عليه السلام وتبين واتضح فزال عنه الخفاء.
ولهذا كان آدم عليه السلام جلاء مرآة العالم كما سبق.
ثم إن آدم عليه السلام جمع لكل الأسماء المتفرقة في الملائكة.
ولهذا قال تعالى : " يا آدم أنبئهم بأسمائهم" 33 سورة البقرة.
أي بأسمائهم التي يسبحون الله تعالى بها ويقدسون، وقد كان كل واحد منهم يجهل الكل فعلم ما لم يعلم (فغلب عليها)، أي على الملائكة.
(ما ذكرناه) من عدم وقوفها مع ما تعطيه النشأة الخليفة وما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية وعدم جمعيتها للأسماء الإلهية التي في آدم عليه السلام غير ما يخصها منها .
(وحكم عليها هذا الحال) المفهوم من جملة ما ذ?ر فحملها على ما ظهر منها .
(فقالت : من حيث النشأة)، أي قولا يقتضيه وجودها المخصوص وتشخيصها المعين فشرحت حالها بمقالها الظهور المقول فيه لها في مرآتها على حسب استعدادها والذي قالت هو (أتجعل فيها ) 30 سورة البقرة. أي في الأرض
("من يفسد فيها") فاستفهمت بطريق النهي عما طلب الله تعالى منها التكلم فيه بحسب ما عندها .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( و ليس إلا النزاع وهو عين ما وقع منهم. 
فما قالوه في حق آدم هو عين ما هم فيه مع الحق. 
فلو لا أن نشأتهم تعطي ذلك ما قالوا في حق آدم ما قالوه وهم لا يشعرون. 
فلو عرفوا نفوسهم لعلموا، ولو علموا لعصموا. 
ثم لم يقفوا مع التجريح حتى زادوا في الدعوى بما هم عليه من التسبيح و التقديس. 
وعند آدم من الأسماء الإلهية ما لم تكن الملائكة عليها، فما سبحت ربها بها ولا قدسته عنها تقديس آدم و تسبيحه.
فوصف الحق لنا ما جرى لنقف عنده و نتعلم الأدب مع الله تعالى فلا ندعي ما نحن متحققون به و حاوون عليه بالتقييد، فكيف أن نطلق في الدعوى فنعم بها ما ليس لنا بحال و لا نحن منه على علم فنفتضح؟ 
فهذا التعريف الإلهي مما أدب الحق به عباده الأدباء الأمناء الخلفاء.)

(وليس) هذا الفساد الذي قالته (إلا النزاع) مع الله تعالى.
(وهو)، أي ذلك النزاع (عين ما وقع منهم) بقولهم: ذلك اقتضته حقیقتهم القاصرة عن كمال من قالوا ذلك في حقه.
(فما)، أي الذي قالوه في حق آدم عليه السلام من نسبة الفساد في الأرض إليه (هو عين ما هم فيه) حين قولهم ذلك (مع الحق) تعالی بعد سماعهم أن ذلك المجعول في الأرض خليفة له تعالى فقد نازعوا الله سبحانه بما قالوه فيه .
(فلولا أن نشأتهم) التي خلقوا عليها من قصورها عن درجة الخليفة (تعطی ذلك) القول منهم (ما قالوا في حق آدم ) عليه السلام .
(ما قالوه وهم لا يشعرون ) بأنه فيهم لا في آدم عليه السلام .
لأنه مقتضى نشأتهم القاصرة عن نشأة آدم عليه السلام الجامعة، ولا شك أن كل من قال في غيره شيئا إنما تصور ذلك الغير أولا في مرآة استعداده ثم أخبر عنه على حسب ما وجده فيها .
فما أخبر إلا عن استعداده فالقاصر يخبر بالقصور والكامل بالكمال (فلو عرفوا نفوسهم) من حيث ما هي ناشئة في تلك النشأة المخصوصة القائمة بتجلي اسم خاص وأنها قاصرة عن النشأة الجامعة التي للخليفة.
 (لعلموا ما فيهم) من القصور عن نشأة الخليفة (ولو علموا) ذلك (لعصموا)، أي لحفظوا باعترافهم بالقصور عما وقعوا فيه من الطعن فيمن هو أعلى منهم.
فإن قلت هذا الكلام يشعر بعدم عصمة الملائكة للجمع عليها.
قلت : المراد بعصمتهم المجمع عليها عصمتهم من المخالفات والمعاصي.
وكلامهم ذلك في شأن هذه الخليفة الذي لم يكن موجودة حينئذ ليس بمخالفة ولا معصية.
وإنما هو بحسب ما عندهم من العلم بمن سئلوا عنه ممن لم يعرفوا مثله قبله أبدا.
فتكلموا فيه على مقتضى ما أعطاهم استعدادهم فأخطؤوه ولو علموه لحفظوا من ذلك.
(ثم لم يقفوا مع التجريح)، أي الطعن والقدح المذكور (حتى زادوا) على ذلك (في الدعوى بما)، أي بالذي (هم عليه من التقديس) لله تعالى.
(والتسبيح) له حيث قالوا: "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" 30 سورة البقرة.
وإنما تسبيحهم وتقديسهم بما توجه على نشأة كل واحد منهم من الأسماء كما ذكرنا (وعند آدم) عليه السلام (من الأسماء الإلهية) بطريق ظهور نشأته ، مجموعة من كل شيء وكل شيء صورة ملك سماوي.
 وكل شيء أثر من تجلي اسم خاص يسبح ربه بذلك الاسم ويقدس له (ما)، أي أسماء إلهية (لم تكن الملائكة)، من حيث كل واحد منهم منفردة كما ذكرنا (مطلعين عليها) في أنفسهم ولا في غيرهم.
فإن آدم عليه السلام جمع لأثر كل اسم إلهي في نشأته المخصوصة فهو يسبح الله ويقدس له بجميع تلك الأسماء.
(فما سبحت) الملائكة (ربها بها)، أي بتلك الأسماء كلها التي في آدم من حيث كل ملك منها (ولا قدسته)، أي طهرته تقديسا صادرا (عنها) عن تلك الأسماء كلها.
مثل (تقديس آدم) عليه السلام (وتسبيحه) فإن عبادة الكامل كاملة وعبادة القاصر قاصرة.
ولهذا قال عليه السلام: «ركعة من عالم بالله خير من ألف ركعة من جاهل بالله»، والعلم بالله يتفاوت ففضيلة الركعات تتفاوت، وكذلك كل عبادة .
(فوصف)، أي ح?ي (الحق) تعالى (لنا) في القرآن العظيم (ما جرى) بين آدم عليه السلام والملائكة عليهم السلام وإبليس عليه اللعنة (لنقف عنده).
أي عند ما جرى فلا تتعداه بتبرئة الملائكة عما صدر منهم مما تقتضيه حقائقهم ونعترف لآدم عليه السلام بما وصفه الله تعالى من الكمال .
ونصف إبليس بما صدر منه من الكفر والعناد والجحود للفضيلة الظاهرة.
(و نتعلم الأدب مع الله تعالى) في كل مقام أقامنا فيه لا نتعداه (فلا ندعی) أبدا بألسنتنا ولا بقلوبنا (ما)، أي الكمال الذي (أنا متحققون به).
فضلا عن عدم تحققنا بذلك بأصحاب العلوم القاصرة عن مرتبة التحقيق.
(وحاوون عليه) بالاطلاع المحقق من الكتاب والسنة (بالتقييد) متعلق بالدعاوى، أي بتقييد دعوانا بذلك الذي فينا فقط.
(فكيف أن نطلق في الدعوى)، أي إطلاقا (فنعم بها ما ليس لنا) من الكمال (بحال) من الأحوال.
(وما أنا)، أي نحن (منه على علم) فنفتري بذلك على الله تعالى أنه وضع ذلك فينا ، ولم يكن وضعه على نفوسنا أن ذلك فيها وليس فيها .
والمراد بدعوى ما فينا المذمومة فضلا عما ليس فينا الدعوى الصادرة من قبل النفس الزكية لها كما.
 قال تعالى : " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى" 32 سورة النجم.
وأما التكلم بالله تعالى لا بالنفس في إظهار ما انطوى عليه العبد من الكمال بنية شكر نعمة الله تعالى فليس ذلك بمذموم .
كما قال تعالى: "وأما بنعمة ربك فحدث" 11 سورة الضحى.
 وليس ذلك مراد الشيخ قدس الله سره، لأنه سمي ذلك دعوى والدعوى لا تكون إلا بالنفس للتزكية، وغير ذلك شكر لا دعوى.
 ولهذا قال : (فنفتضح)، أي بظهور عجزنا وقصورنا في الدنيا ومؤاخذتنا بذلك في الآخرة ولا افتضاح في الشكر بل فيه المزيد من النعمة .
كما قال تعالى: "لئن شكرتم لأزيدنكم" 7 سورة إبراهيم.
(فهذا التعريف الإلهي) لنا بما وقع بين الملائكة وآدم وإبليس (مما)، أي من جملة الأدب الذي (أدب الحق) تعالى (به عباده الأدباء)، أي الكاملين في أدب المعاملة معه تعالی سرا وجهرا.
(الأمناء) على أسراره ومعارفه (الخلفاء) في أرضه على كافة خلقه، ولهذا ينتفعون به دون غيرهم ممن لم يكن بهذه الصفة .
وحيث فرغ من الكلام في سر إيجاد آدم عليه السلام في هذا العالم شرع في بيان حكمة إنشاء روحه وجسده فقال:
قال الشيخ رضي الله عنه : (
ثم ترجع إلى الحكمة فتقول: اعلم أن الأمور المحلية وإن لم يكن لها وجود في عينها فهي معقول معلومة بلا شك في الذهن؛ فهي باطنه لا تزول عن الوجود العيني.
ولها الحكم والأثر في كل ما له وجود عيني. 
بل هو عينها لا غيرها، أعني أعيان الموجودات العينية . 
ولم تزل عن كونها معقولة في نفسها فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات كما هي الباطنة من حيث معقوليتها .
فاستناد كل موجود عيني لهذه الأمور الكلية التي لا يمكن رفعها عن العقل، ولا يمكن وجودها في العين وجودا تزول به عن أن تكون معقولة.
وسواء كان ذلك الموجود العيني مؤقتا أو غير مؤقت إذ نسبه الموقت وغير الموقت إلى هذا الأمر الكلي المعقول نسبة واحدة .)
.

(ثم نرجع إلى الحكمة) الإلهية في الكلمة الآدمية (فنقول) في بيان ذلك .
(اعلم) أولا أيها الطالب للتحقيق والسالك في مسالك أهل العناية والتوفيق.
(أن الأمور الكلية) لهذه الأشخاص الجزئية المحسوسة لنا والمعقولة كالألوان والصور الجسمانية في البصر إذا تشخص الإنسان شيئا من ذلك في الخارج، والأصوات على اختلافها في السمع إذا تشخص شيئا منها بعينه وهكذا سائر المحسوسات ومثلها المعقولات.
فإن كل شخص من ذلك جزئی مشهود بحاسة من الحواس أو بالعقل له أمر كلي كان ينطبق عليه وعلى كل جزئي مثله.
فجميع الجزئيات الموجودات من ذلك متشخصات في الخارج بالوجود العيني لا شبهة في ذلك . 
وأما كلياتها المنطبقة عليها كاللون الأبيض مثلا العام الكلي والصورة الفلانية العامة الكلية ونحو ذلك فإنها (وإن لم يكن لها الوجود) في الخارج.
(في عينها)، أي ذاتها الوجود العيني (فهي معقولة)، أي موجودة بالوجود الذهني (معلومة) متحققة (بلا شك في الذهن) لكن علمها في الذهن وتعلقها إنما هو في ضمن تعقل جزئي من جزئياتها على وجه عام وهذا معنى وجودها في الذهن لا في الخارج.

فيبقى تعقل ذلك الجزئي له طرفان : 
طرف يسمى فيه تعقل الجزئي.
 وطرف آخر يسمى فيه تعقل الكلي.
 وليس تعقل تلك الكليات في الذهن تعق عاريا عن تعقل جزئي ما من تلك الجزئيات.
وإلا لكان للكليات وجود خاص في الخارج بغير الوجود الجزئي، لأن الخارج أصل للإدراك وليس كذلك.
بل الكلي موجود في ضمن الجزئي ذهنا وخارجا وجودا مح?وما به لا وجود له عين زائدة عن الجزئي.
فيتلخص من هذا أن الكليات في الذهن عبارة عن جزئیات متشخصة على وجه عام مح?وم من طرف الذهن بعمومها وليس لها في الخارج وجود إلا بالوجود الجزئي فقط من غير حكم بالعموم بل بالخصوص.
(فهي)، أي الأمور الكلية التي لا وجود لها في غير الذهن (باطنة لا تزال) أبدا (عن الوجود العيني) كمن تعقل الإنسان الكلي العام في ذهنه ، فإنه يتعقل شخصا جزئية محكوم عليه من طرف الذهن بالعموم وعدم الخصوص.
على معنى عدم إرادة شخص معين في الخارج، وإلا لكان هذا هو التعقل الإنسان الجزئي .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 7:47 am

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

الجزء الثالث
01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية
ثم إن هذا الإنسان الكلي المتعقل في الذهن على الوجه المذكور لا وجود له في الخارج أبدا.
وإنما هو موجود في الذهن فقط لا يزال باطنا عن الوجود الخارجي غير ظاهر له (ولها)، أي لتلك الأمور الكلية الباطنة عن الوجود العيني (الحكم)، أي التحكم والإلزام بالمطابقة (والأثر)، أي التأثير الخاص (في كل ما)، أي شيء من الجزئيات التي في الخارج.
(له)، أي لذلك الشيء الجزئي (وجود عيني) خارجي كالإنسان المتشخص في الخارج.
فإنه فرع من فروع الإنسان الكلي الذهني.
 محكوم عليه من طرف ذلك الكلي بالإنسانية عند ظهوره للذهن.
 وقد أثر فيه ذلك الكلي المتشخص الجزئي في الذهن (بل هو)، أي ذلك الجزئي الذي له وجود عيني في الخارج (عينها)، أي عين تلك الأمور الكلية (لا غيرها)، إذ تلك الأمور الكلية هي جزئيات متشخصة في الذهن محكوم عليها بالعموم كما ذكرنا.
فهي عين تلك الجزئيات المتشخصة في الخارج ما عدا الحكم فيها بالعموم المذكور، ثم فسر الضمير المفرد لقوله (أعني)، أي اقصد 
بقوله : هو بصيغة الإفراد (أعيان الموجودات) بالوجود الخارجي (العينية) الموجودة في عينها التي هي جزيئات لتلك الكليات.
فإنها عينها في حقيقة الأمر لولا الحكم بالعموم في الكليات وبالخصوص في الجزئيات (و) مع ذلك فالكليات الذهنية (لم تزل عن كونها) أمورا (معقولة في نفسها).
وإن كانت عين الجزئيات الخارجية باعتبار وجود التشخص الذهني المحكوم بعمومه ذهنا كما مر. 
(فهی) أي تلك الأمور الكلية المعقولة في الذهن فقط (الظاهرة) للعيان (من حيث) إنها هي (أعيان الموجودات) الظاهرة بالاعتبار المذكور (كما هي الباطنة) أيضا عن العيان (من حيث معقوليتها).
أي كونها معقولة في الذهن أبدا لا تبرز منه مطلقا، إذا علمت هذا (فاستناد)، أي نسبة (كل موجود عینی) جزئی خارجی إنما هو (لهذه الأمور الكلية)، بحيث إن هذه الأمور الكلية منطبقة على هذه الجزئيات الخارجية انطباق لا يتحول أبدا ولا يتغير.
كانطباق الشيء على نفسه من غير شبهة ولا شك، ثم وصف الأمور الكلية بقوله:
(التي لا يمكن رفعها)، أي إزالتها (عن العقل) بحيث تبرز بذاتها إلى الخارج وإن كانت هي بعينها هذه الموجودات العينية التي في الخارج كما سبق.
(ولا يمكن وجودها ) أيضا في العين الخارجية (وجودا تزول به عن أن تكون) في نفسها أمورا (معقولة وسواء كان ذلك الموجود العيني) الخارجي (موقتا) وجوده بوقت ?الحادث المخلوق (أو غير موقت) بوقت كالقديم .
(فإن نسبة) الموجود العينى (الموقت) بوقت (وغير الموقت) بوقت (إلى هذا الأمر الكلي) الذهني (المعقول نسبة واحدة)، لا تفاوت فيها على معنى أنه ليس غير الموقت أحق باسم هذا الكلي المنطبق عليه من الموقت، بل هما مشتركان في الانطباق عليهما من غير تفاوت بينهما .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( 
غير أن هذا الأمر التي يرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسب ما تطلبه حقائق تلك الموجودات العينية، كنسبة العلم إلى العالم والحياة إلى الحي. 
فالحياة حقيقة معقولة والعلم حقيقة معقولة متميزة عن الحياة كما أن الحياة متميزة عنه. 
ثم تقول في الحق تعالى : إن له حياة وعلما فهو الحي العالم.
ونقول في الملك : إن له حياة وعلما فهو الحي العالم .
وتقول في الإنسان: إن له حياة وعلما هو الحي العالم.
وحقيقة العلم واحد، وحقيقة الحياة واحدة، ونسبها إلى العالم والحي نسبة واحدة. ونقول في علم الحق: إنه قديم.
وفي علم الإنسان: إنه محدث. 
فانظر ما أحدثته الإضافة من الحكم في هذه الحقيقة المعقولة .
وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات والموجودات العينية . 
فكما حكم العلم على من قام به أن يقال فيه إنه عالم , حكم الموصوف به على العلم بأنه حادث في حق الحادث ، وقديم في حق القديم، فصار كل واحد مح?وما به و محكوم عليه.

.

(غير أن هذا الأمر الكلي) المعقول في الذهن (يرجع إليه حكم من الموجودات العينية)، يخصصه بما يميزه عن غيره .
(بحسب ما تطلبه)، أي تقتضيه في نفسها (حقائق تلك الموجودات العينية)، فيصير ذلك الأمر الكلي محكوم عليه بالحدوث من طرف الجزئي الحادث, ومحكوما عليه بالقدم من طرف القديم.
 فيتميز باعتبار جزئياته الحاكمة عليه بمثل ذلك (كنسبة العلم) الكلي إذا نسب (إلى العالم) القديم أو الحادث .
فإنه يحكم عليه بقدم أو حدوث (و) كذلك (الحياة) الكلية إذا نسبت (إلى الحي) القديم أو الحادث حكم عليها بقدم أو حدوث، وهكذا جميع الأمور الكلية .
(فالحياة) الكلية (حقيقة) واحدة (معقولة) في الذهن .
(والعلم) الكلي أيضا حقيقة واحدة (معقولة) ذهنا (متميزة) في نفسها (عن الحياة كما أن الحياة) أيضا (متميزة عنه)، أي عن العلم (ثم نقول) بعد ذلك في إظهار الحكم الذي يرجع من الموجودات العينية إلى تلك الأمور الكلية (في) جناب (الحق تعالى) وتقدس.
(إن له علما) موجودة وجودة عينية (وحياة) موجودة كذلك فهو تعالى (الحي العالم) حقيقة لا مجاز .
(ونقول) أيضا (في الملك) واحد الملائكة (إن له حياة)، موجودة وجودة عينيا (وعلما) كذلك (وهو)، أي الملك (الحي العالم)، حقيقة أيضا لا مجازا. 
(ونقول) مثل ذلك في الإنسان (إن له حياة) عينية (وعلما فهو)، أي الإنسان (الحي العالم) حقيقة أيضا.
(و) مع هذا كله (حقيقة العلم) الكلي (واحدة) في نفسها (وحقيقة الحياة) الكلية (واحدة) أيضا في نفسها.
(ونسبتهما)، أي العلم والحياة (إلى العالم والحي نسبة واحدة) أيضا.
بيث ليس عالم ولا حي أولى بتلك النسبة من عالم آخر وحي آخر.
(و) مع ذلك (نقول في علم الحق) تعالى (إنه قدیم)، فنحكم على ذلك الكلي من طرف هذا الجزئي بح?م خاص هو القدم.
(ونقول في علم الإنسان) وكذلك الملك (إنه محدث) فنحكم على ذلك الكلي أيضا من طرف هذا الجزئي الآخر بحكم خاص غير الحكم الأول وهو الحدوث.
ومثله الحياة إذا نسبت إلى الحق تعالی كانت قديمة وإلى الإنسان والملك كانت حادثة.
فانظر بعين بصيرتك أيها السالك (إلى ما)، أي الذي (أحدثته الإضافة)، وهي نسبة الحياة والعلم إلى الحق تعالی وإلى الملك وإلى الإنسان.
(من الحكم) بالقدم في الأول و بالحدوث في الآخرين في هذه الحقيقة العلمية الكلية (المعقولة) والحقيقة الحياتية الكلية المعقولة.
(وانظر إلى هذا الارتباط) الواقع (بين المعقولات) الكلية (والموجودات العينية) الجزئية وهو الحكم من كل واحدة منهما على الأخرى.
فكما حكم العلم الكلي (على من قام به) علم جزئي بأمور جزئية (أن يقال فيه)، أي في صاحب هذا العلم الجزئي (إنه عالم) من حكم الكلي على الجزئي كذلك
(حكم) العالم (الموصوف به)، أي بذلك العلم الجزئي (على العلم) الكلي (بأنه حادث في حق) العالم (الحادث).
(وأنه قديم في حق) العالم (القديم) من حكم الجزئي على الكلي (فصار) حينئذ (كل واحد) من الكلي والجزئي في العلم وغيره مح?وم به من وجه (ومحكوم عليه) من وجه آخر.
وهذا معنى الارتباط المذكور بين المعقولات والموجودات العينية.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( 
ومعلوم أن هذه الأمور الكلية وإن كان معقوله فإنها معدومة العين موجودة الحكم كما هي محكوم عليها إذا نسبت إلى الموجود العيني.
فتقبل الحكم في الأعيان الموجودة ولا تقبل التفصيل ولا التجزي؛ فإن ذلك محال عليها .
فإنها بذاتها في كل موصوف بها الإنسانية في كل شخص شخص من هذا النوع الخاص لم تتفضل ولم تتعدد بتعدد الأشخاص. ولا برحت معقولة.
وإذا كان الارتباط بين من له وجود عيني وبين من ليس له وجود عيني قد ثبت، وهي نسب عدمية، فارتباط الموجودات، بعضها بعض أقرب أن يعقل لأنه على كل حال بيتها جامع وهو الوجود العيني.
وهناك فما ثم جامع وقد وجد الارتباط بعدم الجامع, فبالجامع أقوى وأحق .)


(ومعلوم أن هذه الأمور الكلية) المذكورة (وإن كانت معقولة)، أي موجودة في العقل والذهن (فإنها معدومة العين) لا وجود لها في غير الذهن.
(وموجودة الحكم)، أي حكمها موجود بالنظر إلى جزئياتها على حسب ما ذكرنا.
(كما هي محكوم عليها إذا نسبت إلى الموجود العيني) بحسب ما سبق (فتقبل الحكم عليها) بأنها قديمة أو حادثة مثلا مع كونها معدومة العين كما ذكرنا.
(عند تحققها)، أي وجودها وثبوتها باعتبار التشخيص الخاص (في الأعيان الموجودة) في الخارج عن الذهن (ولا تقبل التفصيل) من حيث هي، كما تقبله الأعيان الموجودة المنفصلة إلى قديم وحادث مثلا .
وأما الحكم عليها بالقدم والحدوث فهو أمر طرأ عليها من قبل الأعيان الموجودة لا من جهتها في نفسها.
وهي في نفسها لا تقبل شيئا من ذلك (ولا تقبل التجزي)، أيضا أي أن يكون لها أجزاء فتكون منقسمة إلى تلك الأجزاء .
(فإن ذلك) التفصيل والتجزي (محال عليها)، لا يتصور وجوده لها (فإنها بذاتها موجودة تامة كاملة (في كل) جزئي من جزئياتها الموجودة في الخارج (موصوف بها ) ذلك الجزئي .
لم تتفصل في ذاتها بالنظر إلى تفصيل أعيانها الموجودة في الخارج، ولم تتجزأ. كذلك بالنظر إلى كثرة أعيانها الخارجية، بل هي واحدة في ذاتها وصفاتها موجودة في كل عين خارجية على التمام والكمال.
(كالإنسانية) الكلية المعقولة في الذهن، فإنها موجودة بتمامها (في كل شخص من هذا النوع الخاص)، الذي هو الإنسان والحيوان الناطق.
ومع هذا (لم تتفصل) فيه إلى إنسانية صغيرة بالنسبة إلى الصغير ولا كبيرة بالنسبة إلى الكبير (و) هكذا (لم تتعدد) أيضا (بتعدد الأشخاص) الإنسانية الكثيرة المتعددة (ولا برحت) في ذاتها واحدة (معقولة)، أي موجودة في العقل لا خروج لها منه وإن اتصفت بها جزئياتها الخارجية .
(وإذا كان) هذا (الارتباط بين من له وجود عیني)، خارجي وهو أعيان الجزئيات الموجودة في الخارج (وبين من ليس له وجود عيني) خارجي بل له وجود عقلي فقط وهو هذه الأمور الكلية الذهنية.
(قد ثبت) ذلك الارتباط وتحقق من الطرفين كما سبق، مع أن هذه الأمور الكلية لا وجود لها .
(و) إنما (هي نسب)، أي أمور موجودة بالنسبة إلى غيرها كوجود القدام والوراء بالنسبة إلى المستقبل والمستدير، وكوجود الفوق والتحت بالنظر إلى من هو فوق وتحت.
وما أشبه ذلك (عدمية) منسوبة إلى العدم لا وجود لها في نفسها، وإنما وجودها في العقل بالنظر إلى غيرها .
فإذا قطع عن غيرها انعدمت هي في نفسها ولم يبق لها وجود في العقل أيضا إذا علمت ذلك.
(فارتباط الموجودات) الحادثة والقديمة كارتباط المخلوقات بصفات الحق تعالی (بعضها ببعض) بحيث لا ينفك هذا الارتباط بينها بوجه أبدا (أقرب أن يعقل) من غير شك ولا شبهة.
(لأنه على كل حال)، من الأحوال التي توصف بها تلك الموجودات من الحدوث والقدم (بينها) أمر (جامع) يشمل الطرفين وكان مختلفة في نفسه (وهو الوجود العيني) ..
فإن جميع المخلوقات موجودة وجودا عينيا، وكذلك صفات الحق تعالی موجودة وجودة عينية أيضا.
والموصوف بها وهو الحق تعالی موجود أيضا وجودا عينيا .
وإن كان وجود عيني بحسب الموصوف به ، كما يقال بأن الظل موجود وجودا عينيا يليق به .
والعمود في الشمس موجود كذلك وجودا عينيا يليق به .
وكذلك الشمس موجودة وجودا عينيا يليق بها .
وإن كان وجود الظل الوجود العینی ?لا وجود بالنسبة إلى وجود العمود الوجود العینی.
ولكن وجود هذا القدر المشترك بينها وهو مطلق الوجود العيني ?افي في إثبات الأمر الجامع بينها .
(وهناك) يعني في ارتباط الكليات التي هي نسب عدمية بالجزئيات الموجودة في الخارج كما سبق (فما ثم) بينها (أمر جامع) .
لأن الكليات أمور معدومة العين في الخارج والجزئيات أمور موجودة في الخارج (و) مع ذلك (قد وجد الارتباط) بينها كما ذكرنا.
(بعدم) وجود الأمر (الجامع) بينها ولم يحتج إليه لأجل الارتباط (فبالجامع أقوى وأحق) أن يوجد الارتباط .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( 
ولا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه وافتقاره إلى محدث أحدثه لإمكانه ينفي وجوده من غيره، فهو مرتبط به ارتباط افتقار.
ولا بد أن يكون المستند إليه واجب الوجود؛ لذاته غنيا في وجوده في غير مفتقر، وهو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث فانتسب إليه، ولما اقتضاه لذاته كان واجبا به .)


(ولا شك أن) هذا الإنسان (المحدث قد ثبت في) العقل والنقل (حدوثه وافتقاره)، أي احیتاجه (إلى محدث أحدثه) كما برهنا عليه في كتبنا في عقائد أهل البداية (لإمكانه)، أي إمكان ذلك المحدث (في نفسه)، أي قبوله للوجود والعدم بالنظر إلى ذاته .
(فوجوده) إنما هو حاصل له (من غيره) وهو الذي أحدثه وهو القديم جل وعلا (فهو مرتبط به ارتباط افتقار) بحيث لولا الذي أحدثه لما ثبتت له عين في هذا الوجود الحادث.
ولولا هو لما كان للذي أحدثه صفة الإحداث له، فالربوبية مرتبطة بالعبودية.
لولا وجود الرب ما كان العبد، ولولا وجود العبد ما كان يسمى الرب ربا.
وهكذا باقي الصفات القديمة المتوجهة على إيجاد الإنسان وغيره، فالافتقار من الطرفين.
فالعبد مفتقر إلى الرب في الإيجاد، والرب مفتقر إلى العبد في التسمي باسم الرب.
إذ لولا العبد لما سمي الرب ربا.
لأن رب أي شيء يكون حينئذ؟.ولكن إذا كان وصف الربوبية مفتقرة إلى وصف العبودية لا يلزم أن تكون ذات الرب تعالى مفتقرة إلى ذات العبد.
إذ وصف العبودية في العبد أمر لا يفارق العبد إن وجد وإن عدم.
لأنه استعد استعداده القديم الذي ظهر له من كون الحق تعالی معلوما لنفسه بنفسه، فمن حيث إنه عالم رب، ومن حيث إنه معلوم عبد.
فافتقار الربوبية إلى العبودية افتقار الحق من كونه عالما إلى الحق من كونه معلوما ، وافتقار العبودية إلى الربوبية بالعكس من ذلك.
وأما هذه العين الظاهرة التي تسميها أهل الغفلة عبدا وعبودية فهي أمر وهمي، والعبد والعبودية وراء ذلك لأنهما أمران حقیقیان، فافهم مقصودنا ترشد إن شاء الله تعالی.
(ولا بد أن يكون) الذي أحدث هذا الإنسان المحدث (المستند إليه) هذا الإنسان المحدث في إحداثه له (واجب الوجود لذاته).
بحيث لا يتصور في العقل عدمه، لا لمجيء هذا الوجوب لوجوده من جهة غيره بل من جهة ذاته .
على معنی أن ذاته اقتضت وجوده كما شرحنا ذلك في موضعه من عقائد أهل البداية (غنيا في وجوده بنفسه)، لا في أوصافه بل هو في أوصافه مرتبط مع عبده ارتباطا من الطرفين كما بينا.
(غير مفتقر) في وجوده إلى إيجاد غيره له، كما أن العبد غير مفتقر في عدمه الذاتي إلى إعدام غيره له وافتقاره إنما هو في أوصافه للارتباط المذكور.
فالرب هو الموجود الحق والعبد هو المعدوم الصرف .
والصفات الثابتة لكل واحد منهما مرتبطة من الطرفين .
والمراد بالصفات في الرب ما زاد على ذاته الموجودة .
وفي العبد ما زاد على ذاته المعدومة.
(وهو)، أي ذلك الواجب الوجود هو (الذي أعطى الوجود) الثابتة له (بذاته) لا بغيره كما ذكرنا لهذا الإنسان (الحادث فانتسب) بسبب ذلك هذا الإنسان الحادث (إليه).
 أي إلى من أعطاه الوجود فصار موجودة به، كما أن هذا الإنسان الحادث أعطى الإتصاف بالأوصاف الثابتة له ذلك الإتصاف لغيره بذاته لا بغيره لواجب الوجود.
فانتسب إليه واجب الوجود حيث صار به، إلهه وخالقه وهاديه إلى غير ذلك.
كما صار هو عبده ومخلوقه ومرزوقه ومهديه ونحو ذلك.
فلولا الرب ما وجد العبد، ولولا العبد ما وصف الرب بالأوصاف ، فالوجود من الرب والأوصاف من العبد.
(ولما)، أي حين (اقتضاه)، أي اقتضى واجب الوجود لهذا الإنسان الحادث بمعنی طلبه من الأزل (لذاته)، حتى يصير بسبب ذلك موصوفة عند ذاته بالأوصاف
كان ذلك الإنسان الحادث (واجب) وجوده (به)، أي بمن اقتضاه لذاته وهو واجب الوجود.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( 
ولما كان استناده إلى من ظهر عنه لذاته ؛ اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شيء من اسم وصفة.
ما عدا الوجوب الذاتي فإن ذلك لا يصح للحادث وإن كان واجب الوجود ولكن وجوبه بغيره لا بنفسه .
ثم ليعلم أنه لما كان الأمر على ما قلناه من ظهوره بصورته، أحالنا تعالى في العلم به على النظر في الحادث وذكر أنه تعالى أرانا آیاته فيه .
فاستدللنا بنا عليه ؛ فما وصفناه بوصف إلآ كنا نحن ذلك الوصف إلا الوجوب الذاتي الخاص.)


(ولما كان استناده)، أي استناد هذا الإنسان الحادث (إلى من ظهر عنه لذاته)، وهو الواجب الوجود (اقتضى) الأمر بالضرورة (أن يكون) هذا الإنسان (على صورته)، أي على صورة واجب الوجود.
ثم بين وجه كونه على صورته بقوله : (فيما)، أي في كل أمر (ينسب إليه تعالى) نسبة صادرة (من) جهة (كل شيء) وكل شيء هو هذا الإنسان الحادث كبيرا كان وهو المسمى بالعالم، فإن الإنسان الكبير كما سبق أو صغيرا وهو الإنسان الصغير وهو آدم وبنوه إلى يوم القيامة .
ثم بين الذي ينسب إليه تعالى من كل شيء بقوله : (من اسم) ?القادر والخالق (وصفة) كالقدرة والتخليق وغير ذلك مما فصلناه في عقائد أهل البداية (ما عدا الوجوب)، أي وجوب الوجود (الذاتي).
أي الذي لله تعالى من ذاته لا من غيره (الخاص) به تعالی (فإن ذلك لا يصح في) الإنسان (الحادث) أبدا.
(وإن كان) الإنسان الحادث (واجب الوجود) أيضا كما ذكرنا (ولكن وجوبه)، أي وجوب وجوده (بغيره لا بنفسه) .
فهو من جهة كون الإنسان وجوده واجبا على صورة الواجب الوجود الذاتي، ومن جهة كون وجوب وجوده بغيره ليس على صورته .
واعلم أن هذا الاقتضاء الذي اقتضاه واجب الوجود الذاتي لهذا الإنسان الحادث الذي هو واجب الوجود بغيره.
إنما هو اقتضاء ذاتي كما ذكر، والاقتضاء الذاتي هو طلب الذات حضورها عندها بطلبه هو عين ذاتها خارج عن أوصافها مثل اقتضائها لأوصافها.
فإن ذلك الاقتضاء ليس من جملة أوصافها بل هو ذاتها، وإلا لكانت أوصافها حادثة لها، لأنها مطلوبة لها حينئذ وليس كذلك بل هي قديمة أزلية .
ثم إن هذا الاقتضاء الذاتي الذي هو طلب الذات حضورها عندها اقتضى انقسام الذات إلى طالب ومطلوب وحاضر ومحضور.
ولا شيء غير الذات المقدسة فانقسمت بالضرورة إلى طالب ومطلوب وحاضر ومحضور.
وكل أمرين متقابلين لا بد أن يكون بينهما أمر ثالث فاصل بينهما ليتميز كل أمر منهما عن الآخر.
فيتم ذلك الاقتضاء المذكور، فظهرت الأوصاف الإلهية والأسماء الذاتية التي لا يبلغها العد والإحصاء من بين هذين الحضرتين القديمتين 

حضرة الطالب وحضرة المطلوب. والحاضر والمحضور.
فوصف بها الطالب باعتبار المطلوب، ووصف بها المطلوب باعتبار الطالب .
فظهر المطلوب على صورة الطالب باعتبار اتصافه بهذه الأوصاف، مع تباين الطالب والمطلوب بالنظر إلى ذات كل واحد منهما. وإن كانا كلاهما ذاتا واحدة في الحقيقة.
ولكن أين الطالب من المطلوب؟ . . وأين الفاعل من المفعول؟
فإن الأوصاف التي هي البرزخ الفاصل بين الحضرتين وإن اتصف بها كل واحد من الطالب والمطلوب حتى كان كل واحد منهما على صورة الآخر.
ولكن هي منسوبة إلى من اتصف بها، فحيث اتصف بها الطالب فهي أوصاف طالبية.
وحيث اتصف المطلوب فهي أوصاف مطلوبية، وهي على كل حال صورة واحدة اقتضتها الذات الواحدة لحضرتيها المذكورتين .
وهذا معنی اقتضاء واجب الوجود لذاته، أن يكون هذا الإنسان الحادث على صورته في كل اسم وصفة له تعالی مطلقا ما عدا الوجوب الذاتي الخاص.
فإن هذه الأوصاف إذا نسبت إلى هذا الطالب من حيث هو طالب بقي المطلوب معدوما.
إذ هو عین ذات الطالب وقد كان طالبا، واشتغل بالطالبية باعتبار اتصافه بالأوصاف المذكورة.
 فلا مطلوب حينئذ، فإذا وجد باعتبار اتصافه بالأوصاف مشتقة من أوصاف الطالب المذكورة انقسمت الذات إلى طالب ومطلوب كما ذكرنا.
وانقسمت الأوصاف أيضا كذلك إلى أوصاف الطالب الأصلية وأوصاف المطلوب الفرعية.
بقي الطالب واجب الوجود لذاته والمطلوب واجب الوجود لغيره.
وذلك الغير هو الطالب فافترقا من هذا الوجه فقط واشتركا في جميع الأوصاف المذكورة ما عدا هذا الوجه فقط .
وكانت أوصاف الطالب قديمة وأوصاف المطلوب حادثة.
ولا شك أن صورة الشيء هي مجموع أوصافه وأسمائه فقط إلا ذاته.
فلهذا كان المطلوب على صورة الطالب، والطالب هو الحق تعالی والمطلوب هو الإنسان الحادث .
والظاهر الطالب هو الإنسان الحادث، لأنه المطلوب، والباطن عن المطلوب هو الحق تعالی، لأنه الطالب له، والله أعلم وأحكم.

(ثم لنعلم أنه لما كان الأمر على ما قلناه من ظهوره)، أي ظهور واجب الوجود لذاته الذي هو الحق تعالى لنا (بصورته) التي هي مجموع صفاته وأسمائه كما ذكرنا لا بذاته العارية عن جميع ذلك من حيث الغيب المطلق.
فإن الظهور لا يكون إلا باسمه الظاهر كما أن البطون باسمه الباطن .
وذاته من حيث هي غنية عن الظهور والبطون لأنهما من الأوصاف والأسماء هي الحضرة البرزخية الفارقة بين الطالب والمطلوب كما ذكرنا .

ثم إن صورته تعالى المذكورة التي ظهر بها من حيث حضرة الطالب ظهرت له أيضا من حيث حضرة المطلوب.
فكانت هي هذا الإنسان الحادث كما مر، فكان الإنسان الحادث على صورة الحق تعالى من أنه هو المطلوب، والمطلوب على صورة الطالب.
لأنه هو الطالب والذات واحدة ، لكنها الما اقتضت حضورها عندها انقسمت إلى طالب ومطلوب كما بيناه فيما مر.
(أحالنا) الحق (تعالى في العلم به على النظر في) هذا الإنسان (الحادث) الكبير الذي هو مجموع العالم كله .
حيث قال تعالى: "قل انظروا ماذا في السموات والأرض" 101 سورة يونس.

وقال: " أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)" النحل .
وفي هذا الإنسان الحادث الصغير الذي هو ابن آدم
قال تعالى: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون " 21 سورة الذاريات.
(وذكر) تعالى في القرآن العظيم (أنه أرانا آیاته)، أي علاماته المظهرة له (فيه)، أي في هذا الإنسان الكبير والصغير حيث قال تعالى :

" سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)" سورة فصلت. وقد أرانا ذلك بفضله ومنه، وتبين لنا.
وقال تعالى في غيرنا : " مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) " سورة الكهف.
(فاستدللنا)، أي أقمنا الدليل (بنا)، أي بأنفسنا (عليه تعالی)، كما قال سبحانه : "من اهتدى" ، أي وصل إلينا "فإنما يهتدى لنفسه" ، أي يصل إليها .
"ومن ضل فإنما يضل عليها" 15 سورة الإسراء.أي على نفسه فلا يهتدي إليها .
وقال النبي عليه السلام : "من عرف نفسه فقد عرف ربه".
(فما وصفناه تعالی بوصف) من الأوصاف مطلقا (إلا كنا نحن ذلك الوصف) الذي وصفنا الله تعالى به.
لأننا على صورته، فوصفنا له وصفنا لنا. والصورة واحدة غير أنها إذا نسبت إليه تعالی ?انت قديمة.
وإذا نسبت إلينا كانت حادثة. لأنها في نفسها هي تلك الأمور الكلية التي تقدم الكلام عليها.
وأنها واحدة لم تنفصل في ذاتها ولم تتعدد، ولكن لها حكم وارد عليها من جهة الأعيان الموجودة في الخارج فتتفصل وتتعدد باعتبار ذلك على حسب ما سبق بيانه (إلا الوجوب).
أي وجوب وجوده تعالى (الذاتي الخاص) به تعالى فلا حظ لنا فيه كما مر.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما علمناه بنا ومتا بنا إليه كل ما نسبته إلينا.
وبذلك وردت الأخبار الإلهية على البيئة التراجم إلينا.
فوصف نفسه لنا بنا : فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا وإذا شهدنا شهد نفسه .
ولا شك أنا كثيرون بالشخص والتنوع وأنا وإن كنا على حقيقة واحدة تجمعنا فنعلم قطعا أن ثمة فارقا به تميزت الأشخاص بعضها عن بعض، ولولا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد.)


(فلما علمناه) تعالى (بنا)، أي بعلمنا بأنفسنا (ومنا)، أي علمنا به تعالی ناشئة منا (نسبنا إليه) تعالى (كل ما نسبناه إلينا) من الأوصاف والأفعال والقوى الباطنة والظاهرة والأعضاء والجوارح.
ولكن على حد ما يليق بحقيقته القديمة وذاته العظيمة، لا على حد ما هو ظاهر لنا من ذلك حسين وعقلا .
(وبذلك)، أي جميع ما هو منسوب إلينا من الوجود والحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والحلم والغضب والرضى والرحمة والنقمة والرأفة واللطف والم?ر والاستهزاء والسخرية والضحك والفرح واليد والعين والأصابع والقدم والوجه.
وقد استقصينا ما أمكننا استقصائه من ذلك من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم في كتاب سميناه «قلائد المرجان في عقائد الإيمان».
(وردت الأخبار الإلهية على ألسنة) جمع لسان (التراجم)، وهم الأنبياء والمرسلون صلوات الله تعالی علی نبینا وعليهم أجمعين.
(إلينا) من الله تعالى وذلك في الكتاب والسنة كما شرحناه في كتابنا المذكور .
(فوصف) الحق سبحانه وتعالى (نفسه لنا بنا)، فكنا نحن أوصافه وأسماؤه عندنا على حسب علمنا بنا لا حسب علمه بنفسه.
والوصف كلام الواصف، والفهم على قدر ما يناسب حال الموصوف له ونحن إنما تكونا وځلقنا بكلام الله تعالى كما يشير إليه الحديث القدسي.
قال تعالى : "عطائي ?لام و عذابی ?لام إنما أمري شيء إذا أردت أن أقول له : كن فيكون".
(فإذا شهدناه تعالى) إنما (شهدنا نفوسنا)، لأننا وصفه تعالی عندنا (وإذا شهدنا) هو جل وعلا فإنما (شهد نفسه) لأنه شهد وصفه الذي وصف به نفسه لنا، فشهودنا له على قدرنا.وشهوده له تعالى على قدره .
(ولا نشك أنا كثيرون بالشخص) كزيد وعمرو مثلا (والنوع) ?العجمي والعربي والشاب والشيخ ونحو ذلك.
(وإنا وإن ?نا) في نفوسنا (على حقيقة واحدة تجمعنا) وهي الإنسانية (فنعلم قطعا) من غير شبهة (أن ثمة فارقة به تميزت الأشخاص) والأنواع (بعضها عن بعض) بحيث صار كل شخص منا متشخصا بحقيقة على حدة مستقلة بانفرادها من تلك الحقيقة الواحدة التي تجمعنا كلنا.
وهذا الاختصاص نوع من أنواع الظهور وليس هو للنوع الآخر منه (ولولا ذلك) الفارق الذي تميزت به الأشخاص (ما كانت الكثرة) للجزيئات (في) الكلي (الواحد) كما قال تعالى : "يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)" سورة النساء.
فالنفس الواحدة آدم عليه السلام وزوجها المجعولة منها حواء والناس المخلقون من هذه النفس الواحدة وزوجها هم بنو آدم إلى يوم القيامة.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكذلك أيضا، وإن وصفناه بما وصف نفسه من جميع الوجوه فلا بد من فارق.
وليس إلا افتقارنا إليه في الوجود وتوقف وجودنا عليه لإمكاننا وغناه عن مثل ما افتقرنا إليه.
فبهذا صح له الأزل والقدم الذي انتفت عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم قلا نسب إليه الأولية مع كونه الأول .
ولهذا قيل فيه الآخر فلو كانت أوليه أولية وجود التقييد لم يصمم أن يگون الآخر للمقي؛ لأنه لا آخر للممكن لأن الممكنات غير متناهية فلا آخر لها .
وإنما كان آخرة رجوع الأمر كله إليه بعد نسبة ذلك إلينا، هو الآخر في عين أوليته والأول في عين آخريته .)


(فكذلك أيضا) في جناب الحق تعالى (وإن وصفنا بما وصف به نفسه من جميع الوجوه)، كما ذكرنا ليدلنا عليه تعالی بنا.
(فلا بد من فارق)، موجود بيننا وبينه تعالى (وليس) ذلك الفارق (إلا افتقارنا إليه)، سبحانه وتعالى (في الوجود) وافتقاره هو جل وعلا إلينا في الأوصاف والأسماء على حد ما بيناه فيما سبق.
(و) إلا (توقف وجودنا عليه) سبحانه وتعالى، فإن وجوب وجوده تعالى بذاته ووجوب وجودنا نحن به تعالى.
(لإمكاننا)، أي قبولنا للوجود والعدم على السوية من غير ترجيح إلا بمرجح من جهة الغير (وغناه) عز وجل (عن مثل ما افتقرنا إليه) من الوجود فإنه لا يحتاج في وجوده إلى غيره، وأما في أوصافه وأسمائه فهو متوقف علينا و مفتقر إلينا.
فكما أنه تعالى أعطانا الوجود فنحن أعطيناه الأوصاف والأسماء.
وربما يتلاعب بعقلك خاطر تش?ل به علينا توقف الحق تعالى في الأوصاف والأسماء على غيره وافتقاره إلينا في ذلك.
فترد الحق المبين بوسواس عقلك المتمسك في دينك، فنقول لك أولم تؤمن بتعلقات أوصافه تعالى وأسمائه بآثاره.
وأن هذه التعلقات كلها أزلية، وأنها نفسية للصفات كما ذكروه في عقائد أهل البداية، والصفة النفسية، وتفارق الموصوف بها إذ لولاها لما كان الموصوف بها.
وهذا القدر كافي لك في نصرتك على وسواسك وعقلك إن كنت من أهل التوفيق في هذا الطريق.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 7:57 am

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

الجزء الرابع

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية:
(فبهذا)، أي بغناه تعالى على مثل ما افتقرنا إليه وهو الوجود الذاتي (صح له) تعالى دون غيره الاتصاف بوصف (الأزل والقدم) وهما بمعنى واحد، ولهذا نعتهما بطريق الإفراد .
فقال : (الذي انتفت عنه الأولية)، فإن الأزل والقدم لا أول له ثم نعت الأولية بقوله (التي لها افتتاح الوجود عن عدم) قبلها (فلا) يصح أن (تنسب إليه) تعالى (الأولية).
لأنه تعالى لا افتتاح لوجوده (مع كونه) تعالى هو (الأول) فهذا الاسم له تعالى لا يدل على افتتاح الوجود، (ولهذا قيل فيه) تعالی أيضا أنه هو (الآخر)، فإن الأول بمعنى المفتتح وجوده قبل كل موجود لا يكون أيضا هو الآخر إلا بعد اختتام جميع الموجودات والله تعالى هو الأول والآخر من الأزل قبل افتتاح الوجود واختتامه .
(ولو كانت أوليته) سبحانه وتعالى المشتقة له من اسم الأول (أولية وجود) عالم (التقييد) على معنى أنه أول كل موجود حادث (لم يصح) له تعالى (أن يكون) مع ذلك هو (الآخر) أيضا .
(للمقيد) الذي هو هذا العالم الحادث (لأنه لا آخر للممكن) الحادث (لأن الممكنات) الحادثة (غير متناهية).
فإن أمر الدنيا إذا انتقل إلى الآخرة كان أهل الجنة مخلدين في الجنة إلى ما لا نهاية له وأهل النار كذلك مخلدون في النار بلا نهاية (فلا آخر لها)، أي المم?نات الحادثة.
فلا تتحقق حينئذ آخرية الحق تعالی و آخريته متحققة ثابتة له تعالى في الأزل كما ذكرنا من اسمه وإنما كان سبحانه وتعالى (آخرا لرجوع الأمر) في هذا الوجود الحادث والوجود القديم.
(كله) روحانية وجسمانية (إليه) تعالى لا يشاركه فيه غيره.
كما قال تعالى لأفضل خلقه محمد عليه السلام : "ليس لك من الأمر شيء" 128 سورة آل عمران. وقال: "لله الأمر جميعا " 31 سورة الرعد.
 وقال :"وإلى الله ترجع الأمور" 210 سورة البقرة.
(بعد نسبة ذلك) الأمر (إلينا)، في قوله تعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم" 105 سورة التوبة.
وقوله :" بما كنتم تعملون" 105 سورة المائدة.
و تسميتنا أولي الأمر في قوله : " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم" 83 سورة النساء.
 وقوله: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" 59 سورة النساء.
وقوله عليه السلام: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع" الحديث.
فهو تعالى (الأول) قبل نسبة ذلك إلينا. وهو الآخر أيضا بعد سلب تلك النسبة عنا.
 وتلك النسبة مسلوبة عنا في حال نسبتها إلينا (فهو) تعالى (الآخر في عين أوليته و) هو أيضا (الأول في عين آخريته) لأن أسماءه تعالى كلها قديمة أزلية.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر و باطن فأوجد العالم عالم غیب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا .  ووصف نفسه بالرضى والغضب.
فأوجد العالم ذا خوف ورجاء نخاف غضبه وترجو رضاه .
ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به .
فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهتا منه على خلق الإنسان الكامل .
لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته .)

(ثم لنعلم أن الحق) تعالى (وصف نفسه بعد ذلك أيضا بأنه ظاهر باطن) حيث قال تعالى: "هو الأول والأخر والظهر والباطن وهو بكل شيء عليم " 3 سورة الحديد.
(فأوجد العالم) كله (عالم غیب) عنا (و) عالم (شهادة) لنا. فغيبنا الأرواح وشهادتنا الأجسام.
(لندرك الباطن) من العالم (بغيبنا) وهو الروح (و) ندرك (الظاهر) من ذلك (بشهادتنا) وهي الجسم ولا غيب ولا شهادة بالنسبة إليه تعالى.
لأنه أخبر عن نفسه تعالى أنه عالم الغيب والشهادة، فهما عنده سواء.
وإذا استویا فلا فرق بينهما، وإذا لم يكن بينهما فرق ارتفع الأمران لارتفاع المميز لكل منهما عن الآخر.
وثبت علمه تعالى بكل شيء وإحاطته بالجميع إحاطة واحدة، ومع ذلك فهو تعالی الظاهر الباطن.
فهو الظاهر لغيره والباطن عن غيره، فلا ظاهر إلا هو ولا باطن إلا هو، ولا هو ظاهر لغيره ولا هو باطن عن نفسه.
ولما نسب سبحانه أمره إلينا كان باطنا عنا ثم لما سلب أمره عنا كان ظاهرة لنا وأمره مسلوب عنا في حال نسبته إلينا كما سبق، فهو الظاهر في عين باطنيته والباطن في عين ظاهريته .
وقوله بعد ذلك "وهو بكل شيء عليم" 29 سورة البقرة.
تنبیه منه تعالى على أن اسمه الباطن نسبة إضافية بالنظر إلينا، وأما بالنظر إليه تعالى فهو عليم بكل شيء فضلا عن علمه بذاته وصفاته فكيف يكون باطنا عنه.
ثم لما كانت هذه النسبة وهذا السلب يتعاقبان على الإنسان في كل آن في الدنيا والبرزخ في الآخرة تسمى الإنسان بما تسمى به الحق تعالى.
 فكان الإنسان في حال نسبة ذلك الأمر إليه أولا، وفي حال سلب تلك النسبة عنه ثم عودها إليه آخر.
مع أنها منسوبة إليه أيضا في حال سلبها عنه، لأن هذه النسبة حكم إلهي وأحكام الله تعالى لا تتغير لكنها تنسخ ويؤتي بعدها بمثلها.

كما قال تعالى : " ما ننسخ من آية أو ننسها " 106 سورة البقرة.نأت بخير منها.
 يعني من جهة رفعة المقام، أو مثلها من جهة المساواة، فالإنسان حينئذ هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته.
وكذلك هو الظاهر في حال تلك النسبة إليه، والباطن في حال سلبها عنه، وسلبها عنه كائن معها على كل حال، فهو الظاهر في عين باطنيته، والباطن في عین ظاهريته.
فتقابلت الحضرتان: حضرة الحق وحضرة الإنسان.
(ووصف الحق) تعالى (نفسه بالرضى) في قوله : "رضي الله عنهم" آية 119 سورة المائدة و آية 22 سورة المجادلة و آية 8 سورة البينة و آية 100 سورة التوبة.
 (والغضب) في قوله : "غضب الله عليهم " 6 سورة الفتح.
(وأوجد العالم الإنساني) وغيره (ذا خوف) من ضر أو فوات نفع (ورجاء) لنفع أو فوات ضر (فنخاف غضبه)، أن يظهر فينا أثره وهو الانتقام. (ونرجو رضاه)، أن يظهر فينا أثره وهو الإنعام.
كما جعل فينا غضبا ورضى ليخافنا غيرنا ويرجونا غيرنا أن يظهر فيه أثر غضبنا ورضانا من انتقام أو إنعام.
(ووصف) الحق تعالی أيضا (نفسه بأنه جميل)، كما ورد في الحديث : "إن الله جميل يحب الجمال".
(وذو جلال) كما قال تعالى: " ذو الجلال والإكرام " 27 سورة الرحمن.
(فأوجدنا الحق تعالى على هيبة) تجدها في قلوبنا عند ظهور جلاله لنا (وأنس) نجده في قلوبنا عند ظهور جماله لنا، وكذلك جعلنا ذا جلال و جمال ليها بنا غيرنا ويأنس بنا غيرنا.
واعلم أن الغضب والرضی حضرتان لله تعالى يظهران لأهل البداية، فيظهر بظهورهما من أهل البداية الخوف والرجاء.
والجلال والجمال حضرتان لله تعالی أيضا في مقابلة ذلك يظهران لأهل التوسط في الطريق، فيظهر لظهورهما من أهل التوسط الهيبة والأنس والقبض والبسط .
وكذلك التجلي والاستتار حضرتان لله تعالى يظهران لأهل النهاية، فيظهر لظهورهما من أهل النهاية الفناء والبقاء .
فالغضب والرضى لأهل البداية
يسمى جلالا وجمالا لأهل التوسط.
ويسمى استتارة وتجلية لأهل النهاية .
وكذلك الخوف والرجاء للمبتدئين، والهيبة والأنس والقبض والبسط للمتوسطين، والفناء والبقاء للمنتهين.
(وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى) من الإعزاز والإذلال والخفض والرفع والضر والنفع والعطاء والمنع والإحياء والإماتة، فنعز بإعزازه، ونذل بإذلاله، ونخفض بخفضه، ونرتفع برفعه، ونتضرر بضره، وننتفع بنفعه، ونفوز بعطائه ، ونحرم بمنعه، ونحيا بإحيائه، ونموت بإماتته، إلى غير ذلك من باقي أوصافه تعالى المتقابلة.
(و) كذلك جميع ما (يسمى به) تعالى من المعز، والمذل، والخافض، والرافع، والضار، والنافع، والمعطي، والمانع، والمحيي، والمميت إلى آخره من المتقابلات.
(فعبر)، أي عبر الله تعالی بمعنی ?نا (عن هاتين الصفتين) المتقابلتين والاسمين المتقابلين في القرآن العظيم (باليدين اللتين توجهتا منه) سبحانه وتعالى (على خلق) هذا (الإنسان الكامل) الذي هو آدم وبنوه إلى يوم القيامة.

فاليد اليمنى: هي ما يلائمه من ذلك كالإعزاز والمعز، والرفع والرافع، و النفع و النافع، والعطاء والمعطي، والإحياء والمحيي.
واليد الشمال : ما لا يلائمه من ذلك كالإذلال والمذل والخفض والخافض والضر والضار والمنع والمانع والإماتة والمميت إلى آخره.
فالمؤمنون غلبت عليهم اليد اليمنى فهم أهل اليمين .
والكافرون غلبت عليهم اليد الشمال فهم أهل الشمال.
والمنافقون تذبذبوا بين اليدين ولم يتمسكوا بواحدة منهما فسقطوا منهما فوقعوا تحت المؤمنين وتحت الكافرين فكانوا في الدرك الأسفل من النار.
ثم إن آدم عليه السلام لما خلقه الله تعالى باليدين معا كما قال تعالى في عتاب إبليس عن امتناعه عن السجود: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " 75 سورة ص.
جمع في ذريته لهذه الأنواع الثلاثة : المؤمنين والكافرين والمنافقين
(لكونه)، أي الإنسان الكامل (الجامع) دون غيره من بقية العالم ما عدا جملة العالم، فإنه جامع كذلك (لحقائق العالم) الروحاني الجسماني (و) جميع (مفرداته) من الأشخاص الجزئية .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالعالم شهادة والخليفة غيب، ولهذا يحجب السلطان.
و وصف الحق نفسه بالحجب الظلمانية وهي الأجسام الطبيعية الكثيفة ؛ والنورية وهي الأرواح اللطيفة والعقول والقوس وعالم الأمر والإبداع .
فالعالم بين كثيف ولطيف، فلا يدرك الحق إدراكه نفسه.
فلا يزال في حجاب لا يرفع، مع علمه بأنه متميز عن موجده بافتقاره إليه.
ولكن لا حظ له في الوجوب الذاتي الذي لوجود الحق، فلا يدركه أبدا، فلا يزال الحق من هذه الحيثية غير معلوم علم ذوق وشهود، لأنه لا قدم للحادث في ذلك .)

(فالعالم) الذي هو الإنسان الكبير كله (شهادة) بالنسبة إلى جميع ما فيه.
(والخليفة) وحده الذي هو هذا الإنسان الصغير (غيب )عن أهل الشهادة الذين هم جميع العالم.
فلا يعرفه أحد من جملة العالم إلا بما هو عليه ذلك الأحد من الكمال أو النقصان، وأما هو فيعرف نفسه ويعرف ربه ويعرف غيره من أهل الكمال ومن أهل النقصان وليس معه في رتبته غيره.
لأن الخليفة واحد غير متعدد في هذا العالم.
والمراد الخليفة الكامل على جميع العالم الذي على قدم آدم عليه السلام، وإلا فكل واحد من بني آدم مستخلف في الأرض على طرف من الأشياء ولو ثوبه الذي يلبسه وداره التي يسكنها كما قال تعالى: "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " 7 سورة الحديد.
وغير الكامل من الخلفاء قاصرون عنه ولو بشيء واحد من العالم يمسك عنه مفتاح ذلك الشيء، فلا يملكونه لتحفظ على ذلك الكامل رتبته.
وهو واحد في كل زمان إلى يوم القيامة، وجميع الخلفاء في مشارق الأرض ومغاربها عاملون على ما تحت يديهم مما هم مستخلفون فيه من جهة هذا الخليفة الواحد الكامل.

فإذا مات تولی بعد مرتبته من قاربه في المقام، وله العزل لجميع عماله، وله التولية على كل حال.
وذكره الله قالا وحالا، ولا يخرج عن التبعية له إلا الأفراد من أهل الله، لأن ذكرهم هو، فهم المستغرقون في الهوية الإلهية.
 فإذا رجعوا إلى حسهم وصحوا من جمعهم دخلوا تحت حكمه وتصرف فيهم بحسب ما استعدوا له من كمال أو نقصان كباقي الخلق.
ولا يعرفه من جميع الخلق أحد، وإنما يستمدون منه من غير معرفة له على حسب مراتبهم الكمالية والنقصية.
وفي ظنهم أنهم يستمدون من الحق تعالی بلا واسطة، وهو جهل منهم بما الأمر عليه، وربما عرف استمداده منه بعض أهل الله تعالى أصحاب المقامات، وربما جهل ذلك بعضهم وإن كان في مقام القرب.
ولو شئنا لشرحنا ?يفية إمداده لجميع العالم، وبنيا ما به الإمداد منه، وفرقنا بينه وبين سائر أهل الله تعالی أصحاب المناصب:
 ?الأقطاب والأئمة والأوتاد والأبدال والنجباء والنقباء، وذكرنا رقائقهم المتصلة به اتصال الشعاعات في أقطار الأرض بقرص الشمس.
إلى غير ذلك من أحواله ومقاماته ومكانه وزمانه، واسمه ورسمه، ولكن نخرج بذلك عن صدد ما نحن بصدده من هذا الشرح المختصر.

وإن فسح الله في الأجل ويسر في العمل جعلت ذلك في كتاب حافل و ببيان أكثر مما ذكرت كافل.
(ولهذا)، أي لكون الخليفة الكامل في رتبة الخلافة غيب عمن سواه (يحجب السلطان) من سلاطين الدنيا بالوزراء والعمال والأعوان والجنود والعساكر (ووصف الحق) تعالى (نفسه بالحجب الظلمانية) على أهل الغفلة .
(وهي)، أي الحجب الظلمانية (الأجسام الطبيعية الكثيفة) المركبة من الطبائع الأربع المتكاثفة إلى
العناصر الأربعة (و) بالحجب (النورية) أيضا ف عن أهل اليقظة .

(وهي)، أي الحجب النورية (الأرواح اللطيفة والعقول والنفوس وعالم الأمر والإبداع) المنبعثة عن النور الأول بلا واسطة.
وهذه الحجب وردت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات نور وجهه ما أدركه بصره من خلقه».
وورد في حديث آخر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سألت جبرائیل: هل ترى ربك قال : إن بيني وبينه سبعين حجابا من نور لو رأيت أدناها لاحترقت».
وفي حديث آخر: «إن دون يوم القيامة سبعين ألف حجاب».
وحقيقة الحجاب في حق الله تعالى كمال النور الحقيقي فإن الخفافيش إذا نظرت إلى نور الشمس لم تدرك منها غير الظلمة في بصرها فتحجب عنها الشمس بما أدركته من الظلمة.
والشمس غير محجبة عنها في الحقيقة بل هي منحجبة عن الشمس بضعف بصرها كما قال تعالى : "إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" 15 سورة المطففين .

وانقسمت الحجب إلى ظلمانية ونورانية باعتبار قرب الحجب إلى الله تعالی وبعدها عنه .
فعالم الأنوار الذي هو عالم الأرواح حجبه قريبة إلى الله تعالى لظهوره عنه تعالی بلا واسطة بينه وبينها سوى الأمر الأقدس.
 كما قال تعالى : "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " 85 سورة الإسراء.
و عالم الظلمات الذي هو عالم الأجسام بعيد عن الله تعالى لظهوره عنه تعالی بواسطة عالم الأنوار .
(و) قد خلق الله تعالى (العالم)، أي الإنسان الكبير (بین ?ثیف) جسمانی (و لطيف) روحانی واللطيف حجاب الكثيف.
(وهو)، أي العالم الجامع الكثيف واللطيف (عين الحجاب على نفسه) التي هي من ورائه كثيفة ولطيفة وهي حقيقة الحضرة من حضرات ربه المتجلي بها عليها (فلا يدرك الحق) تعالی أبدا مثل (إدراكه نفسه) إن أدرك نفسه.
لأن ربه محجوب عنه بنفسه، فلو زال الحجاب زالت نفسه، ولو زالت نفسه زال المذرك ، فلا مدرك فمن يدرك الحق غير الحق.
(فلا يزال) العالم (في حجاب) عن الحق تعالى (لا يرفع) عنه أبدا ما دام العالم.
 فإذا زال العالم زال الحجاب والمدرك معا، وأما مع بقاء المدرك فالحجاب باقي لا يزول أبدا .
(مع علمه)، أي علم العالم (بأنه متميز) في ذاته وصفاته (عن موجوده تعالى بافتقاره) إليه.
وإن وقعت المضاهاة بينه تعالى وبين العالم في جميع ما ذكر (ولكن لا حظ له)، أي للعالم (في وجوب الوجود الذاتي الذي لوجود الحق تعالى) كما سبق ذكره.
(فلا يدر?ه)، أي لا يدرك العالم الحق تعالى (أبدا)، لأنه محجوب عنه بنفسه الإلهية فلو أدركه أدرك نفسه التي في علم الحق تعالى الممدة له في هذا العالم وهي ربه .
كما قال عليه السلام: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، ولم يقل : فقد عرف الله. (فلا يزال الحق) تعالى (من هذه الحيثية) التي هي وجوب الوجود الذاتي (غير معلوم) للعالم دائما في الدنيا والآخرة (علم ذوق) ?شفي (وشهود).
بل معلوم علم خیال غيبي، لأنه ليس فينا من ذلك ما تعلم به ذوق وشهودة وإنما عندنا تخيل ذلك تخيلا ممحوا بالتسليم للغيب المطلق .
ولهذا قال : (لأنه لا قدم)، أي لا مشاركة (للحادث) مطلقا (في ذلك) الأمر المخصوص بالحق تعالی وهو وجوب الوجود الذاتي.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( 
فما جمع الله لآدم بين يديه إلآ تشریفا.
ولهذا قال لإبليس: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" 75 سورة ص. وما هو إلا عين جمعه بين الصورتين، صورة العالم وصورة الحق وهما يدا الحق.
وإبليس جزء من العالم لم تحصل له هذه الجمعية.  ولهذا كان آدم خليفة.
فإن لم يكن ظاهرا بصورة من استخلفه فيما استخلفه فيه فما هو خليقة، وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا التي استخلف عليها - لأ استنادها إليه فلا بد أن يقوم بجميع ما تحتاج إليه - وإلا قلي بخليقة عليهم.)

(فما جمع الله) تعالى (لآدم) عليه السلام (بين يديه) سبحانه وتعالى القديمتين في خلقه له بهما معا (إلا تشریفا) لآدم عليه السلام وتعظيما له.
إذ ورد أنه تعالى خلق جنة عدن بيده اليمنى، وغرس شجرة طوبى بيده اليمنى، ولم يرد في شيء أنه خلقه بیدیه غير آدم عليه السلام، فقط على وجه التشريف والتعظيم له .
(ولهذا قال) جل وعلا في كلامه القديم (إبليس) عليه اللعنة (وما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) 75 سورة ص. بالتشديد تثنية يد .
(وما هو)، أي خلقه له بیدیه معا (إلا عين جمعه) تعالى له حين خلقه (بين الصورتين) اللتين هما في الحقيقة كناية عن تلك الصفتين المتقابلتين على حسب ما سبق بيانه.
(من صورة العالم)، وهي الظاهرة بالحضرتين معا :
حضرة الجلال وحضرة الجمال، وحضرة الغضب وحضرة الرضاء، وحضرة الظاهر وحضرة الباطن، وحضرة الأول وحضرة الآخر، إلى آخره.
ولكن الغالب في هذه الصورة حضرة الجلال على حضرة الجمال، وحضرة الغضب على حضرة الرضى، وحضرة الظاهر على حضرة الباطن، وحضرة الأول على حضرة الآخر.
ولهذا كانت هي اليد الشمال الغلبة ما لا يلائم فيها على ما يلائم.
وقد طرد إبليس عن الحضرة الإلهية إلى هذه الحضرة .
فقال له تعالى: "فأخرج منها فإنك رجيم " 34 سورة الحجر.
 فخرج على هذه الحضرة فهي محل الرجم وموضع اللعن والطرد، فيها خلق الله النار، ويخلق كفة السيئات من الميزان.
 وخروج آدم عليه السلام إليها يسمى هبوطا لا طردا كما قال تعالى له .
ولحواء: "اهبطا منها جميعا " 123 سورة طه.
وأشار تعالى إلى نوح عليه السلام بالخروج إليها من سفينته فقال له : " يا نوح أهبط بسلام " 48 سورة هود.  وذلك لأن آدم ونوح عليهما السلام لهما عودة إلى
حضرتهما الأولى وصعودا إليها بعد هبوطهما منها إلى هذه الحضرة الشمالية، وليس الإبليس عليه اللعنة عود ولا صعود .
وهي محل الغين الذي كان يقول عليه السلام عنها : "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة". وفي رواية : "مائة مرة" وهي أسفل سافلين التي قال تعالى : "ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين في إلا الذين آمنوا" آية 4 - 6 سورة التين.
(وصورة الحق) تعالى وهي الظاهرة بالحضرتين أيضا معا، حضرة الجلال وحضرة الجمال، وحضرة الغضب وحضرة الرضى، وحضرة الظاهر وحضرة الباطن، وحضرة الأول وحضرة الآخر إلى غير ذلك.
ولكن الغالب في هذه الصورة حضرة الجمال على حضرة الجلال، وحضرة الرضاء على حضرة الغضب، وحضرة الباطن على حضرة الظاهر، وحضرة الآخر على حضرة الأول.
ولهذا كانت هذه الصورة هي اليد اليمنى لغلبة ما يلائم فيها على ما لا يلائم، ومنها كان هبوط آدم وحواء وإليها رجوعهما، وفيها خلق الله تعالى الجنة .
وإليها رفع إدريس عليه السلام كما قال تعالى عنه : "ورفعناه مكانا عليا " 57 سورة مريم.
 وإليها رفع عيسى ابن مريم عليه السلام وهو حي كما قال تعالى عنه "بل رفعه الله إليه " 158 سورة النساء . وفيها عندية الله تعالى.
كما قال تعالى: «إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته " 206 سورة الأعراف.
ومنها خلق الله تعالى الجنة، وفيها يخلق تعالی كفة الحسنات من الميزان.
(وهما بدا الحق) تعالى، أي هاتان الصورتان هما اليدان الإلهيتان، الأولى صورة العالم، والثانية صورة الحق تعالى.
 مع أن صورة العالم هي صورة الحق تعالى، لكن إما أن تكون صورة الحق تعالی بواسطة صورة العالم أو بلا واسطة صورة العالم، ولهذا ورد: «كلتا يديه يمين»، فصورة الحق تعالی بواسطة هي اليد الشمال.
وأهلها المقبوض عليهم بها هم الأشقياء، لأنها بعيدة عن الحق تعالى بسبب الواسطة، وصورة الحق تعالى هي اليد اليمين، وأهلها المقبوض عليهم بها هم السعداء، لأنها قريبا من الحق تعالی لعدم الواسطة .
(وإبليس عليه اللعنة جزء من) أجزاء (العالم)، كما أن الملائكة جزأ من أجزاء العالم أيضا كما تقدم، ومثل ذلك كل شيء ما عدا آدم عليه السلام وبنوه الكاملون.
وحيث كان إبليس جزء من العالم (لم يتحصل له هذه الجمعية) بين اليدين الإلهيتين كما حصلت لآدم عليه السلام (ولهذا كان آدم) عليه السلام (خليفة الله)، تعالى في الأرض دون إبليس عليه اللعنة لجمعه بين اليدين وإبليس لم يجمع بينهما.
(فإن لم يكن) آدم عليه السلام (ظاهرا بصورة من استخلفه) وهو الحق تعالى (فيما استخلفه فيه) وهو العالم ويكون ظاهرة بصورة العالم أيضا.
(فما هو خليفة)، لأن الخليفة يجب أن تكون صورته صورة الذي استخلفه، ليمد هو كما يمد أصله بما يمد به أصله، وأن تكون صورته صورة من استخلف عليهم أيضا حتى يعلم كيفية إيصال الإمداد إليهم .
(وإن لم يكن فيه)، أي في الخليفة أيضا (جميع ما تطلبه الرعايا التي استخلف)، أي استخلفه غيره (علیها) من جميع الحوائج والمصالح الروحانية والجسمانية جلية، ودفعها ضرا ونفع.
 (لأن استنادها)، أي الرعایا بمعنى نسبتها (إليه) في الخير والشر، فإذا كانت في خير نسب إليه أو في شر كذلك.
(فلا بد أن يقوم)، أي ذلك الخليفة (بجميع ما تحتاج إليه) الرعية من الحوائج والمصالح كما ذكرنا (وإلا فليس بخليفة عليهم)، لعدم وجود ما يحتاجون إليه عنده ، فإذا لم توجد
عنده جميع حوائجهم ومصالحهم كان مثلهم محتاجة مفتقرة إلى من عنده جميع ذلك.
فما هو بخليفة حينئذ، كما أن السلطان إذا لم تكن عنده القدرة على فصل الخصومات بين رعيته وقطع المنازعات عنهم فليس بسلطان عليهم.
إذ لا سلطنة له، والسلطان مشتق من السلطة وقد وجد فيه العجز عن ذلك، فشاركهم فيه، فكان مثلهم من جملة الرعايا .
وكذلك خليفة الحق تعالى يخلف الحق في وجود جميع الحوائج والمصالح التي للمخلوقات كلهم عنده .
كما أن جميع ذلك له وجود للمخلوقات عند الحق تعالى على التمام من غير عجز عن شيء من ذلك.
فيلزم أن يكون كذلك عند الخليفة موجودة على التمام من غير عجز عن شيء منه وإلا لم يكن خليفة، لأنه لم يخلف الحق تعالى في جميع ذلك، فهو حينئذ مثلهم من جملة الرعايا .

قال الشيخ رضي الله عنه : (  فما صحت الخلافة إلآ للإنسان الكامل.
فأنشأ صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوړه وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى.
ولذلك قال فيه: "كنت سمعه وبصره". وما قال: "كنت عينه وأذنه"، ففرق بين الصورتين .
وهكذا هو في كل موجود من العالم بقدر ما طلبه حقيقة ذلك الموجود .
لكن ليس لأكبر مجموع ما الخليقة . فما فاز إلا بالمجموع.)


(فما صحت الخلافة) التامة الكاملة من الحق تعالى على جميع المخلوقات إلا للإنسان الكامل الذي غلبت إنسانيته على حيوانيته.
وأما الإنسان القاصر الذي غلبت حيوانيته على إنسانيته، فهو خليفة على بعض المخلوقات.
ويسمى عاملا حينئذ لا خلیفة ?املا وذلك كجميع بني آدم المؤمن منهم والكافر والصغير منهم والكبير والعاقل والمجنون.
 فإنه لا بد من استخلافه عن الحق تعالى الذي هو مالك للعالمين ولو على يده ورجله وسمعه وبصره.
فيقبل شيئا من ذلك بطريق النيابة عن الحق تعالى في الظاهر، وقد جعل الله تعالى الملك حكمة منه تعالى لكل أحد من بني آدم.
ولو على ثوبه الساتر لعورته نيابة على المالك الحقيقي وهو الحق تعالى.

حتى قال تعالى : "لمن الملك" 16 سورة غافر. وهم الأموال وأوجب عليهم فيها الزكاة ونحوها "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" 7 سورة الحديد. یعنی عنه تعالى، لأنه تعالى أخبر أن الملك له يوم القيامة فقال عز من قائل: " والأمر يومئذ لله" 19 سورة الانفطار.وقال تعالى : "الملك يومئذ الحق للرحمن " 26 سورة الفرقان. وقال: "مالك يوم الدين" 4 سورة الفاتحة.
وقال بعد زوال نسبة الأعمال والأملاك عن جميع بني آدم يوم القيامة بسبب موتهم الذي هو عزلهم من استخلافه لهم فيما استخلفهم فيه " إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون" 40 مريم. ولا مناقضة بين هذا وبين قوله تعالى :"أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" 105 سورة الأنبياء. لأن العباد الصالحين ما وضعوا بالعبودية وبالصلاح إلا لرجوعهم إلى الله تعالى من حيث وجود ذواتهم، وجميع أعمالهم في الباطن والظاهر.
فكان الله تعالى ظاهرة بهم عندهم، وهم ظاهرون به تعالى عند غيرهم.
وقد ورد أن: "الناس يحشرون على نياتهم" فهم عند غيرهم غير الله تعالى، وهم عند أنفسهم ظهور الله تعالى.
فإذا ورثوا الأرض يوم القيامة ، فإنما الله تعالى هو الذي ورثها، وزاد الله تعالى عليهم بأن ورث على الأرض أيضا، وهم لم يرثوا إلا الأرض فقط، لأنهم لله تعالى من حيث ظهوره لهم، لا من حيث ظهوره له تعالى.
فإن ظهوره له تعالى في جميع حضراته وظهوره لكل واحد منهم إنما هو في حضرة من حضراته دائما.
وإن تقلبوا في جميع أطوار حضراته تعالى على الأبد لا يسعون إلا حضرة بعد حضرة من تلك الحضرات.
 (فأنشأ) الحق تعالى (صورته) , أي صورة الإنسان الكامل الذي هو خليفة الله
تعالى على جميع العالم (الظاهرة) وهي حقيقة جسمه ونفسه التابعة للجسم، وصورته المرسومة في هذا الوجود.
(من حقائق العالم) كله، فجسمه من جسم العالم، ونفسه من نفوس العالم (و) من (صوره)، أي صور العالم كله، فصورته صورة العالم كله سماواته وأرضه وأفلا?ه وأملاكه إلى غير ذلك.
(وأنشأ) الحق تعالی أيضا (صورته الباطنة)، وهي حقيقة روحه وعقله التابع للروح، ومعلوماته المرسومة في وجوده (على) طبق (صورته).
أي صورة الحق تعالى التي هي مجموع صفاته تعالى وأسمائه وأفعاله وأحكامه كما تقدم، فروحه من صفاته وأسمائه تعالى وعقله من أفعاله تعالى ومعلوماته المرسومة فيه من أحكامه تعالى .
(ولذلك)، أي لكون صورته الباطنة على صورة الحق تعالى (قال) تعالى في الحديث القدسي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم  (فيه)، أي في هذا الإنسان الكامل : "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته
كنت سمعه الذي يسمع به (وبصره) الذي يبصر به" إلى آخر الحديث .
"قال رسول الله : إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته. رواه البخاري"
ولا شك أن السمع والبصر من الصورة الباطنة، لأن ذلك من شعاع الروح في الدماغ لا من الصورة الظاهرة .
والأذن والعين من الصورة الظاهرة والله تعالى (ما قال كنت عينه و) لا ?نت (أذنه)، فإن قلت ورد أيضا في تمام الحديث : "كنت يده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولسانه الذي يتكلم به" ولا شك أن اليد والرجل واللسان من جملة الصورة الظاهرة قلت : المراد باليد والرجل واللسان هنا القوة الباطنة في هذه الأعضاء لا حقيقة هذه الأعضاء.
ولكن لما لم يكن لهذه القوة المودعة في هذه الأعضاء أسماء مستقلة غير هذه الأعضاء، عبر عنها باسم هذه الأعضاء، بخلاف الأذن والعين فإن للقوة المودعة فيهما اسمین مخصوصين هما : السمع والبصر، فعبر بذلك دون التعبير بهذين العضوين.
 أو يقال هذا الحديث مشتمل على الفرق بين الصورتين في ذكر السمع والبصر، والجمع بينهما في ذكر اليد والرجل واللسان.

مثل قوله عليه السلام في بعض الأحاديث بعد ذكر اليد اليمنى وكلتا يديه يمين، ففرق وجمع يشير إلى هذا قوله: (ففرق)، أي الله تعالى (بين الصورتين)، أي صورة العالم وصورته تعالى في ذكر السمع والبصر فقط وإن جمع في باقي الحديث.

(وهكذا هو)، أي الأمر والشأن (في كل موجود من) موجودات (العالم) العلوي والسفلي، فإن الله تعالى خلقه بإحدى اليدين إما اليمين وإما الشمال (بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود) .

من الاستعداد الموضوع فيها بالتجلي الأول (لكن ليس الأحد) من العالم (مجموع ما للخليفة)، من اليدين الإلهيتين اللتين هما صورة الحق تعالی وصورة العالم.

وإن شئت قلت : صفات الله تعالى المتقابلات (فما فاز) الخليفة (إلا بالمجموع) دون غيره من العالم.

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الخامس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 8:00 am

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الخامس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

الجزء الخامس
01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية:
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولولا سريان الحق في الموجودات وظهوره فيها بالصورة ما كان للعالم وجود، كما أنه لولا تلك الحقائق المعقولة الكلية ما ظهر حكم في الموجودات العينية.
ومن هذه الحقيقة كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده .
فالكل مفتقر ما الكل مستغن ... هذا هو الحق قد قلناه لا نكني
فإن ذكرت غنيا لا افتقار به ... فقد علمت الذي بقولنا نعني
فالكل بالكل مربوط فليس له ... عنه انفصال خذوا ما قلته عني)
(ولولا سريان الحق) تعالى (في) جميع (الموجودات) العلوية والسفلية بالصورة التي هي منه تعالى اليد اليمين، ومن العالم اليد الشمال.
والذي من العالم منه تعالى، فكلتا يديه يمين عند أهل الجمع لا أهل الفرق.
وهذا السريان هو قيومية الحق تعالى لجميع العالم، وهو قيام العالم بأمر الله تعالى كما قال تعالى : " ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره" 25 سورة الروم. وهذا القيام بالروح الكل الساري في حقائق الموجودات كلها سريان الخشب في جميع صور ما جعل منه من صندوق وباب وكرسي ونحو ذلك.
والروح من الأمر قال تعالى: "وقل الروح من أمر ربي " 75 سورة الإسراء.
(فما كان للعالم وجود) البتة قال تعالى: "وكل شيء هالك إلا وجهه"88 سورة القصص. فوجه الله تعالى هو ذلك السريان المذكور في جملة الموجودات.
وأما الموجودات من جهة نفسها فلا وجود لها لأنها هالكة، أي فانية معدومة فلولا وجهه تعالى الساري في حقائقها كلها ما كانت موجودات ولا تعين لها ماهية أبدا.
(كما أنه لولا تلك الحقائق المعقولة)، أي الموجودة في العقل فقط (الكلية) كما سبق بيان ذلك (ما ظهر حكم) الاختصاص بالجمادية والنباتية ونحو ذلك (في الموجودات العينية) الجزئية المتشخصة في الخارج.
فإن تلك الكليات سارية في حقائق جزئياتها بحيث لم تزد تلك الجزئيات عليها غير الوجود العيني الخارجي.
ومن هذه الحقيقة التي هي سريان الحق تعالى بصفة القيومية الجامعة لجميع الصفات المتقابلات المعبر عنها بالصورة في موضع، و بالصورتين في موضع آخر، وباليدين في آخر. سریانا في جميع الموجودات .
(كان الافتقار من العالم) كله (إلى الحق) تعالى (في وجوده) كما أن الافتقار من الحق تعالى إلى العالم كله في وجوده أيضا عند العالم.
مع أن الوجود للحق تعالى وحده لا للعالم.
لكن وجود الحق تعالى لا ينفك عن إعطاء الوجود للعالم ليظهر به وجود العالم المستفاد من الحق تعالى.
لا ينفك أيضا عن إعطاء الوجود للحق تعالی ليظهر به الحق تعالی دونه (فالكل)، أي العالم والحق تعالی (مفتقر) هذا إلى هذا من وجه وهذا إلى هذا من وجه آخر، ومراد بالمفتقر من الحق تعالى رتبته لا ذاته لأنها غنية عن العالمين بحكم قوله تعالى : "الله غني عن العالمين" 97 سورة آل عمران .
ومرادنا بالمفتقر إليه من العالم الحقيقة الثابتة في علم الحق تعالى التي هي كناية عن حضرة من حضراته تعالى .
جامعة لكل حضرة من حضراته وهي العالم الظاهر في بصيرة العارف الباطن عن بصيرة الجاهل.
وأما العالم الباطن عن بصيرة العارف الظاهر في بصيرة الجاهل، فهو نفس الجاهل الظاهرة له مع جهله.
بحيث متی عرفها عرف ربه أي نفسه المتعرية عن ذلك الجهل.
فعرف العالم على ما هو عليه ، فعرف افتقار الحق تعالى إلى العالم على حد ما قلنا.
وإذا لم يعرف نفسه لم يعرف ربه فلم يعرف العالم.
 ويظن أن العالم هو ما ظهر له من جهله، فتوهمه على خلاف ما هو عليه.
فحمله ذلك على عدم فهم قولنا، فجحد ما لم يفهم وأخطأ من حيث لا يشعر.

(ما الكل) المذكور (مستغني) عن الكل .
(هذا)، أي الذي ذكرته (هو الحق) الذي لا شبهة فيه عند أهل المعرفة (قد قلناه)، أي صرحنا به عند من يعرفه ولا يعرفه نطقا بالله تعالى ليضل الله تعالى به من يشاء ويهدي من يشاء (لا نكني) بسكون الكاف، أي لا نشير إليه من غير تصريح لأن ?تابنا لأهل المعرفة لا لأهل الجهل.
فإن ذكرت أنا في ?لامی (غنية لا افتقار به)، أبدا (فقد علمت) أنا ذلك الغني (الذي بقولنا نعني) أي نقصد، ومراده ذات الحق تعالى من حيث هي مجردة عن الأوصاف والأسماء فإنها غنية عن كل ما عداها.
 وأما من حيث هي موصوفة بالأوصاف مسماة بالأسماء فاعلة بأفعال حاكمة بأحكام، فهي مرتبطة بالعالم كله، والعالم مرتبط بها ارتباطا من الأزل إلى الأبد لا ينفك البتة كما قال :
(فالكل) من حق وخلق (بال?ل)، من حق وخلق (مربوط) ربط عبد برب ورب بعبد وخالق بمخلوق ومخلوق بخالق.
وهكذا إلى آخره من جميع الأوصاف والأسماء والأفعال والأحكام (فليس له)، أي للكل (عنه)، أي عن الكل (انفصال) بوجه من الوجوه في الأزل والأبد.
فإن قلت: كيف هذا الارتباط في الأزل والعالم غير موجود فيه، لأنه حادث وليس بقديم.
قلت : بل العالم الذي يعرفه العارف قدیم لا حادث.
 وهو موجود كله بلا ترتيب ولا تقديم ولا تأخير. وليس فيه الجزء مقدمة على الكل.
ولا خلق آدم عليه السلام فيه مقدما على خلق جميع ذريته إلى يوم القيامة .
وليس يوم القيامة فيه متأخرا عن يومنا هذا.
وليس له وجود مع الله تعالی غیر وجود الله تعالى.
لأن وجوده بالله تعالى لا بنفسه حتى يكون له وجود غير وجود الله تعالى.
وأما العالم الذي يعرفه الجاهل، فإنه حادث مترتب بعضه على بعض ، وفيه التقديم والتأخير.
وهو موجود مع الله تعالى وجودا آخرا غير وجود الله تعالی وذلك حقيقة جهل الجاهل رآها في مرآة حقيقة العالم.
فانحجب بها عن حقيقة العالم ثم قال : (خذوا)، أي تناولوا بأيدي أذواقكم (ما)، أي الذي (قلته) في الكلام من الحق المبين عند أهله (عني) والله يتولى هدى من أراد بمحض فضله .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقد علمت حكمة نشأة آدم أعني صورته الظاهرة.
وقد علمت نشأة روح آدم أعني صورته الباطنة، فهو الحق الخلق.
وقد علمت نشأة رتبته و هي المجموع الذي به استحق الخلافة.
فآدم هو النفس الواحدة التي خلق منها هذا النوع الإنساني.
وهو قوله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء» 1 سورة النساء.
فقوله : اتقوا ربكم اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم، و اجعلوا ما بطن منكم، و هو ربكم، وقاية لكم.
فإن الأمر ذم و حمد: فكونوا وقايته في الذم و اجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين.
ثم إنه سبحانه و تعالى أطلعه على ما أودع فيه و جعل ذلك في قبضتيه:
القبضة الواحدة فيها العالم، و القبضة الأخرى فيها آدم و بنوه. و بين مراتبهم فيه.)
(فقد علمت) مما ذكرناه يا أيها المريد (حكمة نشأة جسد آدم) عليه السلام (أعني صورته الظاهرة وقد علمت) أيضا حكمة (نشأة روح آدم) عليه السلام (أعني صورته الباطنة فهو).
أي آدم عليه السلام حيث جمع بين صورة الحق تعالى بباطنه وصورة العالم بظاهره (الحق) من حيث الباطن على التنزيه (الخلق) من حيث الظاهر على التشبيه .
(وقد علمت) أيضا نشأة (رتبته)، أي آدم عليه السلام (وهي المجموع) له فيها بين اليدين الإلهيتين (الذي به)، أي بذلك المجموع (استحق الخلافة) عن الحق تعالى في الأرض.
(فآدم عليه السلام هو النفس الواحدة)، أي المنفردة بالكمال الإنساني دون نفوس بقية العالم كله.
(التي خلق) بالبناء للمفعول، أي خلق الله تعالى (منها) جميع أشخاص (هذا النوع الإنساني) كلهم (وهو)، أي ما ذكرناه (قوله تعالى) في القرآن العظيم (" يا أيها الناس") الخطاب للمؤمن والكافر والمنافق ("اتقوا ربكم") بالإحسان والإيمان والإخلاص ("الذي خلقكم") قدركم ثم أوجدكم طبق ما  قدر?م ("من في واحدة ") وهي آدم عليه السلام ("وخلق منها ")، أي من تلك النفس الواحدة (" زوجها") وهي حواء ("وبث ")، أي أخرج ("منهما")، أي من تلك النفس الواحدة وزوجها ("رجالا ونساء") بطریق تولد البعض من البعض .
فقوله :("اتقوا ربكم") 1 سورة النساء. معناه بحسب ما ذكر من حكمة نشأة جسد آدم عليه السلام ونشأة روحه المعبر عنهما باليدين و بالصورتين.
(اجعلوا ما ظهر منكم) لكم وهو الجسد والنفس وهو اليد الشمال وهو صورة العالم التي خلق ظاهركم عليها (وقاية لربكم)، فانسبوا إليكم جميع ما ظهر منكم من خواطر الضلال وأقوال الخطباء وأعمال الشر والسوء.
وإن كان ذلك كله مخلوقة لله تعالى ولا تأثير لكم (واجعلوا ما بطن منكم) عنكم وهو العقل والروح في عالم الخلق.
(وهو ربكم) في عالم الأمر وهو يد اليمين وهو صورة الحق تعالى التي خلق باطنكم عليها كما مر بیانه.
(وقاية لكم) فانسبوا إليه تعالى جميع ما ظهر فيكم من الحقائق والمعارف والعلوم اللدنية، فإنها لا تصدر إلا عن الحق تعالى لا عنكم.
وكذلك جميع أعمال الخير والهدى وإن كان ذلك بكسبكم وواسطة توجه قدرتكم وإرادتكم من غير تأثير من?م.
(فإن الأمر) الظاهر منكم عملا واعتقادا له (ذم) شرعة (وحمد) كذلك.
(فكونوا وقايته) تعالى (في) نسبته (الذم) من الأقوال والأعمال والاعتقادات إليكم لا إلى ربكم.
(واجعلوه) سبحانه وتعالى (وقايتكم في) نسبة (الحمد) من نسبة جميع ذلك إليه تعالى لا إليكم (تكونوا) حينئذ (أدباء) مع الله تعالى (عالمين) به تعالى وبما يليق بجلاله وعظمته كما علم الله تعالى نبيه عليه السلام ذلك.
بقوله : "ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك" 79 سورة النساء.
وقال له قبل ذلك بقوله :" وقل كل من عند الله" 78 سورة النساء.
وقال إبراهيم عليه السلام: "الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) " سورة الشعراء.

فنسب المرض إلى نفسه، ولم يقل : وإذا أمرضني، وكذلك الخطيئة نسبها إلى نفسه.
ومثله الخضر عليه السلام لما كان خرق السفينة شرا في الظاهر نسب إلى نفسه حيث قال: فأردت أن عيبها، وبناء الجدار لما كان خير نسبه إلى الله تعالى وبرأ نفسه حيث قال: فأراد ربك، وأما الغلام فلما كان في الحال غير كافر وفي المال ?افرا لم يكن قتله خيرا محضا ولا شرا .
فقال : فخشينا ، وأبهم الأمر بينه وبين ربه .
(ثم إنه تعالى أطلعه)، أي أطلع آدم عليه السلام على ما أودع فيه) من الجمعية الكبرى التي هي مجموع اليدين والصورتين (وجعل الله تعالى (ذلك)، أي ما أودع في آدم عليه السلام مما قلنا (في قبضتيه) تعالى بيديه الإلهيتين على حسب ما بيناه فيما مر.
القبضة الواحدة، وهي قبضة الشمال (فيها العالم) كله وقد خلق الله تعالی جميع الأجساد الآدمية منها.
(وفي القبضة الأخرى)، وهي قبضة اليمين (آدم) عليه السلام (وبنوه) كلهم إلى يوم القيامة وقد خلق الله تعالى الأرواح الآدمية منها 
وقد ورد في الأثر ما معناه: قال آدم عليه السلام: "خيرني ربي بين قبضتيه فاخترت يمين ربي فبسط يمينه فإذا فيه آدم وبنوه".
وبين الله تعالى لآدم عليه السلام (مراتبهم)، أي مراتب بني آدم كلهم (فيه)، أي في آدم عليه السلام من ?املين وقاصرين و مؤمنين وكافرين ومطيعين و عاصين فانقسموا إلى قسمين:
سعداء وأشقياء "وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته"115 سورة الأنعام.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( قال رضي الله عنه: ولما أطلعني الله سبحانه و تعالى في سري على ما أودع في هذا الإمام الوالد الأكبر. جعلت في هذا الكتاب منه ما حد لي لا ما وقفت عليه، فإن ذلك لا يسعه كتاب و لا العالم الموجود الآن.
فمما شهدته مما نودعه في هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه و سلم:
حكمة إلهية في كلمة آدمية وهو هذا الباب .
ثم حكمة نفثية في كلمة شيئية.
ثم حكمة سبوحية في كلمة نوحية.
ثم حكمة قدوسية في كلمة إدريسية.
ثم حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية.
ثم حكمة حقية في كلمة إسحاقية.
ثم حكمة علية في كلمة إسماعيلية.
ثم حكمة روحية في كلمة يعقوبية.
ثم حكمة نورية في كلمة يوسفية.
ثم حكمة أحدية في كلمة هودية.
ثم حكمة فاتحية في كلمة صالحية.
ثم حكمة قلبية في كلمة شعيبية.
ثم حكمة ملكية في كلمة لوطية.
ثم حكمة قدرية في كلمة عزيرية.
ثم حكمة نبوية في كلمة عيسوية.
ثم حكمة رحمانية في كلمة سليمانية.
ثم حكمة وجودية في كلمة داودية.
ثم حكمة نفسية في كلمة يونسية.
ثم حكمة غيبية في كلمة أيوبية.
ثم حكمة جلالية في كلمة يحياوية.
ثم حكمة مالكية في كلمة زكرياوية.
ثم حكمة إيناسية في كلمة إلياسية.
ثم حكمة إحسانية في كلمة لقمانية.
ثم حكمة إمامية في كلمة هارونية.
ثم حكمة علوية في كلمة موسوية.
ثم حكمة صمدية في كلمة خالدية.
ثم حكمة فردية في كلمة محمدية.
(ولما أطلعني الله) تعالى (في سري) لا في جهري، فإن الاطلاع على مثل هذا لا يكون إلا في عالم الأسرار بطريق الذوق والاستبصار (على ما أودع) سبحانه وتعالى من أسرار الذرية المباركة وغير المباركة.
(في هذا الإمام)، أي المقتدي به في الصورة الظاهرة والباطنة (الوالد) الذي تولد منه كل إنسان (الأكبر) قدرة وصورة وهو آدم عليه السلام (جعلت في هذا الكتاب) الذي هو كتاب فصوص الح?م (منه)، أي من ذلك الذي أطلعني الله تعالى عليه.
(ما حد لي)، أي مقدار الذي حده لي رسول الله له في الرؤيا التي أريتها على ما سبق بيانه.
(لا ما وقفت عليه) من حقائق الكاملين وغيرهم من ذرية آدم عليه السلام (فإن ذلك) الذي وقفت عليه كله (لا يسعه ?تاب) من الكتب.
(ولا) يسعه أيضا (العالم الموجود الآن) من السموات والأرض وما بينهما ولا شك أن قلب العبد المؤمن الذي وسع الحق تعالی بعد أن ضاقت عنه السموات والأرض يسع أكثر مما ذكر.
(فما شهدته ) في مقام التجلي الإلهي حين أشهدني الله تعالى ما أودعه في من الجمعية الكبرى في الإرث الآدمي (مما نودعه) بإذن الله تعالى (في هذا الكتاب) الذي هو كتاب فصوص الح?م
(كما)، أي على حسب ما (حده)، أي عينه (لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا)، التي رأيته فيها كما تقدم فلا أزيد على ذلك تأدب معه .
وجملة هذه الحكم المشتمل عليها هذا الكتاب سبع وعشرون حكمة لسبعة وعشرين نبيا :
الأولى : (حكمة إلهية)، أي منسوبة إلى الإله تعالی .
(في كلمة) من كلمات الله التامات وفي دعاء النبي عليه السلام: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» .
وما خلق هو عالم الخلق والتصوير، وهو كلمات الله الناقصات وهم أهل الغفلة والغرور، لأنهم في عالم الخلق واقفون.
والأنبياء والأولياء عليهما السلام في عالم الأمر واقفون (آدمية) منسوبة إلى آدم عليه السلام.
(وهي)، أي هذه الحكمة الإلهية (هذا الباب) الأول الذي فرغنا من بيانه .
(ثم) الثانية : (حكمة نفثية) منسوبة إلى النفث وهو النفخ مع بعض رطوبة العابية، ومنه نفث الوحي الجبرائيلي.
كما قال عليه السلام: «نفث روح القدس في روعي» الحديث، أي نفخ مع بعض رطوبة وقعت في روعي، أي قلبي وهي برودة اليقين.
ولهذا كان عليه السلام إذا جاء الوحي تدثر وتزمل وأخذته القشعريرة في جسده حتى قال الله تعالى فيما أوحى إليه : "يا أيها المدثر" 1 سورة المدثر.، و " يا أيها المزمل" 1 سورة المزمل.
(في كلمة) من كلمات الله التامات (شيثية)، أي منسوبة إلى شيث عليه السلام وهو ابن آدم لصلبه وكان نبيا صاحب صحائف أنزلها الله تعالى عليه بالوحي الجبرائيلي.
(ثم) الثالثة : (حكمة سبوحية) منسوبة إلى سبوح بمعنى التسبيح على وجه المبالغة، وهو التنزيه الله تعالى عما لا يليق به من المعاني الإمكانية .
(في كلمة) من كلمات الله التامات (نوحية) منسوبة إلى نوح عليه السلام.
(ثم) الرابعة : (حكمة قدوسية) منسوبة إلى قدوس بمعنى التقديس على وجه المبالغة، وهو تطهير الله تعالى عن جميع الاعتبارات العقلية، والنسب الوهمية ، والفرق بينه وبين التسبيح : أن التسبيح بمعنى التنزيه والتقديس بمعنى التنزيه عن التنزيه .
(في كلمة) من كلمات الله التامات (إدريسية) منسوبة إلى إدريس عليه السلام.
(ثم) الخامسة : (حكمة مهيمية) بصيغة اسم المفعول منسوبة إلى الهيم من الهيام وهو غاية المحبة (في كلمة) من كلمات الله التامات (إبراهيمية) منسوبة إلى إبراهيم عليه السلام.
(ثم) السادسة : (حكمة حقية) منسوبة إلى الحق وهو خلاف الباطل.
(في كلمة) من كلمات الله التامات (إسحاقية) منسوبة إلى إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
(ثم) السابعة : (حكمة علنية) بتشديد الياء مشتقة من العلو وهو نقيض السفل.
(في كلمة) من كلمات الله التامات (إسماعيلية) منسوبة إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
(ثم) الثامنة : (حكمة روحية) منسوبة إلى الروح وهي قيومية الله تعالى في كلية خلقه ملك وملكوتة، والروح في الأصل اسم للريح إذ الياء تبدل واوا في كثير من الكلمات في لغة العرب وكان تسميتها بذلك، لأنها تنقل أخبار الحق تعالى إلى العبد كما تنقل الريح أخبار الروض إلى المستنشقين فيكشفون بالرائحة عن الريحان، ويستغنون بالآثار عن الأعيان، فإذا هو بها من مطلع شمس الأحدية على فلك الأسماء والأوصاف الأقدسية .
(في كلمة) من كلمات الله التامات (يعقوبية) منسوبة إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
(ثم) التاسعة: (حكمة نورية) منسوبة إلى النور، وهو العالم الأصلي لهذا العالم، وهو المدرك منا لعالمنا الذي ندركه، وحقيقة النور تنافي كل حقيقة بالماهية والصورة، والنور نوران: نور الحق تعالى وهو الغيب المطلق وهو النور القديم، ونور العالم المحدث، وهو نور نبينا الذي أول ما خلقه الله تعالى من نوره، ثم خلق منه كل شيء، فهو كل شيء من حيث الماهية وكل شيء غيره من حيث الصورة، كما أنه هو نور الحق تعالى من حيث الماهية وهو غير نور الحق من حيث الصورة، فإن معنى إيقادنا نور سراج من نور سراج آخر:
أن الأول أثر في الثاني فظهر الثاني على صورة الأول، بل الثاني هو الأول بعينه ظهر في فتيلة ثانية من غير انتقال عن الأول، وهكذا في باقي التعددات التي لا تحصى.
(في كلمة) من كلمات الله التامات (يوسفية) منسوبة إلى يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
(ثم) العاشرة (حكمة أحدية) منسوبة إلى الأحد وهو من حيث الحق تعالى وصف من أوصافه، ومن حيث نحن اسم من أسمائه ، ومعناه الذي ليس فيه شائبة اثنينية حقيقة ولا بوجه من الوجوه، بخلاف الواحد فإنه يقال على المنفرد في حضرة وإن شاركه غيره في باقي الحضرات فهو أعم والأحد أخص.
(في كلمة) من كلمات الله التامات (هودية) منسوبة إلى هود عليه السلام.
(ثم) الحادية عشر : (حكمة فتوحية) منسوبة إلى الفتوح اسم الفتح وهو ابتداء الشيء من غير سبق مثله، وهو الإبداع والاختراع، وكل شيء له إبداع من الحق تعالى واختراع فله فتح إلهي هو فتوح ذلك الشيء ويسمى فاتحته، وهو إيجاده الأمري الواحدي، وقرآنه هو الجمعي الذاتي، وفرقانه هو الفرقي الصفاتي، ولهذا يتحد في القرآن ويتعدد في الفرقان، وفاتحته تجمع قرآنه و فرقانه كما أن بسملته تجمع فاتحته، وباءه تجمع بسملته، ونقطته تجمع باءه فهي نقطة وهي بحر قال تعالى :" ولا يحيطون بشيء من علمه "255 سورة البقرة.
فنفى عنهم الإحاطة بشيء من الأشياء مطلقا، مع أنهم أحاطوا بالنقطة فقد أحاطوا من حيث إنهم هو وما أحاطوا من حيث هم، كما أن نقطة الباء هي جميع القرآن والفرقان وما هي جميع القرآن ولا الفرقان.
قال الخضر لموسى عليهما السلام : ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور بفمه من ماء البحر .
وهي النقطة التي أخذتها الروح من بحر الأمر الإلهي، وهي الصورة الجسمية التي لكل شيء والمعنوية أيضا.
(في كلمة) من كلمات الله التامات (صالحية) منسوبة إلى صالح عليه السلام .
(ثم) الثانية عشر : (حكمة قلبية) منسوبة إلى القلب وهو تعيين أمر الله تعالی الواحد في حضرة من الحضرات سمى قلبا من سرعة القلب.
قال تعالى : "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " 50 سورة القمر.
والنفس مجموع ذلك كما أن الكلمة مجموع حروف والكلام مجموع ?لمات
(في كلمة) من كلمات الله التامات (شعيبية) منسوبة إلى شعيب عليه السلام.
(ثم) الثالثة عشر (حكمة ملكية) منسوبة إلى الملك بالتحريك واحد الملائكة ، وهي الأرواح المنفوخة في الأجسام النورية فوق الأجسام النارية والترابية، ولهذا سكنت السماء، ونزولها إلى الأرض في الأجسام النارية والترابية الأصلية وغير الأصلية لا غير بطريق الاستيلاء على القابل لذلك من الأصلية، كما أن الأجسام النارية تنزل إلى الأجسام الترابية الأصلية وغير الأصلية بطريق الاستيلاء أيضا على القابل لذلك من الأصلية.
وهذا هو الفارق بين الكهانة والنبوة وبين السحر والصديقية وبين الوسوسة والإلهام، فالوسوسة مقام المبتدئين في الضلال كما أن الإلهام مقام المبتدئين في الهدى.
والسحر مقام المتوسطين في الضلال والصديقية مقام المتوسطين في الهدى، والكهانة مقام النهاية في الضلال .
كما أن النبوة مقام النهاية في الهدى، وقد انقطعت الكهانة الآن كما انقطعت النبوة، وما بقي إلا الوسوسة والسحر والإلهام والصديقية.
فالمعتبر في الضلال والهدى هذه المقامات المذكورة، وما دون ذلك فإنه تبع لما ذكرنا لا استقلال له بضلال ولا هدى.
وكما أن الأجسام الترابية منقسمة إلى قسمين: 
مستقل بالضلال ومستقل بالهدى.
كذلك الأجسام النارية قسمان:
مستقل بالضلال هم الشياطين يستمدون من إبليس.
ومستقل بالهدی هم صالحو الجن يستمدون من الملائكة.
والملائكة مستقلون بالهدی كلهم يستمدون من الروح الكلي.
(في كلمة) من كلمات الله التامات (لوطية) منسوبة إلى لوط عليه السلام .
(ثم) الرابعة عشر : (حكمة قدرية) منسوبة إلى القدر بالتحريك وهو : جعل الله
الله تعالى كل شيء بمقدار على حسب ما اقتضته حضرات ذاته المتجلي بها لذاته
والقضاء هو : الحكم بذلك فهما في المعنى واحد واثنان في الصورة.
فثبوت ?ل شيء بمقدار في علم الحق تعالى يسمى قدرة من جهة تخصيص المقدار المعلوم بكل شيء.
ويسمى قضاء من جهة الحكم به وتنفيذه على طبق مقداره المعلوم
(في كلمة) من كلمات الله التامات (عزيرية) منسوبة إلى العزير عليه السلام.
(ثم) الخامسة عشر : (حكمة نبوية) منسوبة إلى النبي وهو فعيل بمعنی فاعل، أو بمعنى مفعول من النبأ بمعنى الخبر، أو النبوة وهي الرفعة.
وحقيقة النبوة هي الرفع الحجب الظلمانية والنورانية التي هي كل شيء من غير ذهاب كل شيء.
والأخذ عن الحق تعالى بلا واسطة في عالم الغيب، وعن جبريل عليه السلام في عالم النور، ثم الرجوع بذلك إلى عالم الظلمة من غير زيادة ولا نقصان .
واحترزت بقولي: من غير ذهاب كل شيء، عن حقيقة الولاية، فإنها رفع الحجب الظلمانية والنورانية التي هي كل شيء جسماني أو روحاني في وقت الشهود من غير أن يبقى مع ذلك شيء من الأشياء مطلقة، وإذا ظهرت الأشياء انسدلت الحجب.
واحترزت بقولي: وعن جبريل عليه السلام في عالم النور، عن الصديقية ، فإنها وإن كانت رفع الحجب المذكورة التي هي كل شيء مع ثبوت كل شيء على ما هو عليه، لكن لا أخذ فيها عن جبريل عليه السلام في عالم النور بل عن ملك من خدمة جبريل عليه السلام يسمى ملك الإلهام، لأنه كل فتح له ملك مخصوص .
واحترزت بقولي: ثم الرجوع بذلك إلى عالم الظلمة من غير زيادة ولا نقصان، عن مقام القرية الذي فوق الصديقية ودون النبوة، فإنه لا رجوع فيه إلى عالم الظلمة، وإن كان فيه رجوع فبزيادة أو نقصان.
(في كلمة) من كلمات الله التامات (عيسوية) منسوبة إلى عيسى عليه السلام.
(ثم) السادسة عشر : (حكمة رحمانية) منسوبة إلى الرحمن، وهو اسم من أسماء الله تعالی غلب على باقي الأسماء كلها في ظهورها بأثارها، ولولا ذلك ما قبل أثر من الأثار الظهور عن اسم إلهي .
(في كلمة) من كلمات الله التامات (سليمانية) منسوبة إلى سليمان عليه السلام.
(ثم) السابعة عشر : (حكمة وجودية) منسوبة إلى الوجود، وهو النور الذي لا لون له ولا صورة أشرق على الألوان والصور الممكنة المعدومة، فظهرت وهي على ما هي عليه من العدم ومن الظلمة الأصلية، وهو على ما هو عليه من التنزيه عن جميع ذلك، فكان العالم وتجرد عن جميع الألوان والصور المذكورة كما هو مجرد عن ذلك في حال إشراقه المذكور، فهو الحق تعالى، وليس الإشراق الذي أردناه إشراق اتصال ولا انفصال، ولكن صبغه بالإرادة والاختيار 
كما قال تعالى :
 " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغه" 158 سورة البقرة.
وجميع ما يذكر في الحق تعالی علی طريقة ضرب المثل، وإلا فليس بشيء يشبه الحق تعالی مطلقة لا في عالم الحس ولا في عالم المعاني.
(في كلمة) من كلمات الله التامات (داودية) منسوبة إلى داود عليه السلام.
(ثم) الثامنة عشر : (حكمة نفسية) منسوبة إلى النفس بالسكون وهي: ظهور الروح للجسم بما يناسبه كما أن السامري لما قبض قبضة من أثر الرسول وهو جبريل عليه السلام، لأنه الروح الأمين، ثم صاغ جسم عجل من ذهب ووضع تلك القبضة في ذلك العجل فظهر منه خوائر وهو صوت العجول، فحكمت تلك الروح التي وضعها فيه بما يقتضيه ذلك الجسم وهو الخوار، ولو أنه وضعها في جسم إنسان النطق، أو فرس لصهل، أو حمار لنهق، والحيوانية لازمة في الكل على كل حال، فالنفس السارية في ذلك العجل هي الحيوانية مع الخوار، وهي أثر تلك القبضة ، كما أن تلك القبضة من أثر الرسول.
(في كلمة) من كلمات الله التامات (يونسية) منسوبة إلى يونس عليه السلام.
(ثم) التاسعة عشر : (حكمة غيبية) مسنوبة إلى الغيب وهو : ما غاب عن العالم
من الحق تعالى، فإنه تعالى ظهر للعالم على حسب ما يليق بهم فعرفه كل شيء بما عرف به ذلك الشيء نفسه .
وهذا هو الشهادة، فليس الحق تعالی مجهولا لشيء من الأشياء من هذا الوجه، ثم إنه تعالى خفي عن العالم بمقتضى ما لا يليق بهم، فلم يعرفه كل شيء لعدم مناسبته بينه وبين الشيء من الأشياء.
وهذا هو الغيب فهو تعالی مجهول لكل شيء من هذا الوجه، فالغيب هو الحق تعالى، والشهادة هي الحق تعالى.
كما قال سبحانه : "الذين يؤمنون بالغيب" سورة البقرة .
قال بعض المفسرين: الغيب هو الله تعالى، ومن أسمائه تعالى الظاهر الباطن، فالظاهر هو الشهادة والباطن هو الغيب.
وقال تعالى: "ولا تكتموا الشهادة" 283 سورة البقرة. أي لا تخفوا، أنها الحق تعالى وتجحدوا ذلك "ومن يكتمها فإنه آثم  قلبه" لإنكاره
ما هو الحق كما صرح بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكتمها في قوله : 
أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء السادس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 8:09 am

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء السادس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

الجزء السادس
01 - فص حكمة إلهية  في كلمة آدمية:
والسموات والأرض وما بينهما مخلوقة بالحق. قال تعالى : "وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين" 38 سورة الدخان.
ما خلقناهما إلا بالحق والمخلوق بالحق، أي المقدر به الموجود به حق، والحق ليس بباطل، فالباطل إنما هو السوي والغير لا المشهود من كل شيء.
وفي الآية: "كل شيء هالك إلا وجهه" 88 سورة القصص.
فالشيء هو الباطل الهالك، ووجه الله هو الحق، في فالشهادة كلها حق، وهي الحق تعالى، والأشياء كلها هالكة.
ولا يقدر على الفرق بين الحق تعالی من حيث إنه هو الشهادة وبين الأشياء كلها إلا من عرف نفسه فعرف ربه، وقليل ما هم .
(في كلمة) من كلمات الله التامات (أيوبية) منسوبة إلى أيوب عليه السلام.
(ثم) العشرون: (حكمة جلالية) منسوبة إلى الجلال وهو باطن الجمال، كما أن ظاهر النار جمال للإنارة و الإضاءة والإشراق، وباطنها جلال للتعذيب
والإحراق والإفناء والإعدام، فالجلال مستور بالجمال. 
فالظاهر من الحق تعالى هو الجمال، وهو كل شيء لقربه إلى العقول والحواس، والباطن من الحق تعالى هو الجلال لإعدامه الأشياء وإهلا?ه لها.
من قوله تعالى: "وكل شيء هالك إلا وجهه" 88 سورة القصص.
وللإيقاع في الحيرة المدهشة، فالجمال الإلهي يثبت العالم ويوجده، والجلال الإلهي ينفيه ويعدمه. 
ولا يزال الأمر كذلك يتعاقب الوجود والعدم تعاقب النهار والليل .
كما قال تعالى: "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر" 50 سورة القمر. وكل شيء قائم بأمر الله تعالى، فهو كلمح البصر .
(في كلمة) من كلمات الله التامات (يحيوية) منسوبة إلى يحيى عليه السلام .
(ثم) الحادية والعشرون (حكمة مالكية) منسوبة إلى المالك وهو الحق تعالی، لأنه المتصرف في جميع العالم، وتصرفه نافذ على كل حال.
والمالك على قسمين :
مالك مطلق وهو الحق تعالى.
ومالك مقيد وهو العبد. والقيد من جملة ذلك الإطلاق.
فالمالك المطلق مستولي على كل شيء والمالك المقيد ظهور استيلاء ذلك المالك المطلق على شيء من تلك الأشياء.
فالمالك المقيد داخل في المالك المطلق مندرج تحته، ولما كان الحق تعالی ظاهرة في الدنيا بكل مالك مقيد كان باطنة عن أهل الدنيا .
فقال تعالى: "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" 7 سورة الحديد.
يعني من حيث قيودكم، وأما في الآخرة فينعزل كل مالك عن مل?ه، ويظهر المالك المطلق 
كما قال تعالى :
 "الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم " 56 سورة الحج. وقال: "ملك يوم الدين " 4 سورة الفاتحة.
وقال "لمن الملك اليوم" ثم أجاب نفسه بنفسه فقال :"لله الواحد القهار" 16 سورة غافر . 
إذ لا غيره في الحقيقة، وإن كان الجواب من جهة قيد من قيوده، إذ 
القيود كلها فانية بالنسبة إلى ذاته تعالى.
كما قال سبحانه : "كل من عليها فان" 26 سورة الرحمن.
(في كلمة) من كلمات الله التامات (ز?ریاوية) منسوب إلى زكريا عليه السلام.
(ثم) الثانية والعشرون: (حكمة إيناسية) منسوبة إلى الإيناس وهو خلاف الإيحاش.
والأنس بالشيء كمال ظهور الحق تعالی به . كما أن الوحشة من الشيء عدم كمال الظهور المذكور.
وهذا الظهور للأرواح لا النفوس، فإن النفوس قد تجهله فتجحده، والأرواح عالمة به على كل حال لأنها من عالم التقديس، والنفوس من عالم التدليس والتدنيس. 
وأصل الأنس في العالم من حضرة الجمال الإلهي التي خرجت منها الأرواح، وأصل الوحشة في العالم من حضرة الجلال الإلهي التي خرجت منها الأجسام.
فأنس الأرواح یزیل وحشة الأجسام إذا اجتمعنا، ولهذا إذا فارقت الروح عن الجسم لا يبقى فيه أنس البتة.
فالإنسان مشتق من الأنس لغلبة العالم الروحاني على العالم الجسماني، فبالإنسان زالت الوحشة عن عالم الأجسام.
وغير الإنسان مما لم تغلب فيه الروحانية على الجسمانية حيوان، والحيوان أنواع باعتبار الفصول التي تميزه عن الجنس، وهو الوحوش 
التي قال تعالى: 
"وإذا الوحوش حشرت" 5 سورة التكوير. مشتقة من الوحشة لغلبة الجسمانية على الروحانية .
(في كلمة) من كلمات الله التامات (إلياسية) منسوبة إلى إلياس عليه السلام.
(ثم) الثالثة والعشرون: (حكمة إحسانية) منسوبة إلى الإحسان وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الإحسان أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وهو شهود الله تعالى في كل عبادة من العبادات، والعبادة الذل، ولا أذل من المخلوق.
فكل فعل من أفعاله ذل الله تعالى لاحتياجه إليه تعالى في إرادة ذلك المخلوق له، وفي صدوره عن ذلك المخلوق، فكل فعل من أفعال المخلوق عبادة.
وأما المخالفات فلا يظهر للعبد احتیاجه إلى الله تعالى فيها كمال الظهور، فلا ذل عنده بها بل فيها الاستغناء بنفسه عن ربه.
ولهذا لا تظهر منه إلا في وقت الغفلة عن الله تعالى، وصاحب الغفلة ناقص العبودية، وكلامنا في العبد الكامل في العبودية .
والفرق بين الشهود والرؤية : 
أن الشهود كأنك تراه، والرؤية أن تراه، فكاف التشبيه توهم الرؤية ليست برؤية، وذلك رؤية الأثر الذي هو على صورة المؤثر ?رؤيتك صورتك في المرآة، فإذا رأيتها فكأنك رأيت وجهك.
وما رأيته بل رأيت أثره المنطبع في المرأة على صورته ، وكل أثر فهو صورة الحق تعالی ظاهر في حضرة من حضرات أسمائه الحسنى، متجلية بتجلي صفاته العليا، ولهذا قال تعالى: "فأينما تولوا فثم وجه الله إن" 115 سورة البقرة.
فإن كان تولوا بمعنی تستقبلوا فثم وجه الله من اسمه الظاهر بالأسماء والأوصاف وإن كان تولوا بمعنی تعرضوا فثم وجه الله من اسمه الباطن بالذات المطلقة .
كما قال تعالى : "والله من ورائهم محيط" 20 سورة البروج .
(في كلمة) من كلمات الله التامات (لقمانية) على الراجح عند الشيخ رضي الله عنه منسوبة إلى لقمان عليه السلام الذي اختلف في نبوته .
(ثم) الرابعة والعشرون: (حكمة إمامية) منسوبة إلى الإمام وهو المقدم على غيره بحيث يقتدي به غيره في الحركات والسكنات كما قال تعالى: "وكل شيء أحصيناه في إمام مبين" 12 سورة يس.
فالإمام المبين هو كل شيء من حيث الإجمال، وكل شيء هو الإمام المبين من حيث التفصيل، قال تعالى: "والملائكة يشهدون" ، ففرق وفصل "كفى بالله شهيدا" 166 سورة النساء. فجمع وأجمل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا أمن الإمام فجمع وأجمل فأمنوا" فرق وفصل ثم قال: "فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له"
ففرق وفصل أيضا، لأن الجمع جمع وفرق وإجمال وتفصيل والجمع هو عين الفرق، والإجمال هو عين التفصيل كما قال تعالى: "يوم يقوم الروح والملائكة صفا" 38 سورة النبأ.
فالملائكة تفصيل، والروح إجمال، والصف صف واحد، الملائكة في الفرق والروح في الجمع .
(في كلمة) من كلمات الله التامات (هارونية) منسوبة إلى هارون أخا موسى عليهما السلام.
(ثم) الخامسة والعشرون: (حكمة علوية) منسوبة إلى العلو نقيض السفل، والعلو هو المؤثر، والسفل هو المتأثر، وكل شيء مؤثر ومتأثر. فمن حيث هو مؤثر علو، ومن حيث هو متأثر سفل.
قال تعالى : " والركب أسفل منكم " 42 سورة الأنفال. والركب هم بنو آدم الذي قال تعالى فيهم: "ولقد كرمنا بني عام ولهم في البر والبحر" 70 سورة الإسراء. 
فهم المحمولون وغيرهم من الخلق ليسوا م?رمین، 
فليسوا محمولين، فليسوا بركب فما هم أسفل بل أعلى، والعلو للمؤثر فقط، والمؤثر هو .
الله تعالى وحده لولا أنهم نازعوا الله تعالی بنفوسهم في صفة التأثير التي له تعالى وحده . 
ما 
كان لهم العلو على الركب المحمولين . والمنازعون الله تعالی هالكون فيه تعالى، لأنهم لم يعرفوا نفوسهم فلم يعرفوا ربهم، فادعوا ما ليس لهم وهو العلو من حيث نفوسهم فهلكوا بتكبرهم على الله تعالى.
والركب لما تواضعوا الله تعالى بالأسفلية ظهر لهم تأثير الله تعالى فيهم، فميزوا بينهم وبينه فرفعهم الله إليه .
كما قال تعالى: "بل رفعه الله إليه " 158 سورة النساء.  وقال : "ورفعناه مكانا عليا " 57 سورة مريم . وقال: "ورفعنا لك ذكرك " 4 سورة الشرح.
وذكره هو ما أنزل الله تعالى عليه به، والرفع الإزالة، فإذا زال السفل بقي العلو وهو الله تعالى وحده .
(في كلمة) من كلمات الله التامات (موسوية) منسوبة إلى موسى عليه السلام. 
(ثم) السادسة والعشرون : (حكمة صمدية) منسوبة إلى الصمد، وهو الذي يصمد إليه
بالحوائج، أي تقصد منه جميع الحوائج، وهو الحق تعالى من حيث التجلي العام على كل شيء.
(في كلمة) من كلمات الله التامات (خالدية) ثابتة على الراجح عند الشيخ رضي الله عنه منسوبة إلى خالد بن سنان عليهما السلام.
(ثم) السابعة والعشرون: (حكمة فردية) منسوبة إلى الفرد وهو الواحد الذي لا نظير له، وكل شيء فرد لعدم تكرار التجليات
الإلهية التي عنها صدور كل شيء، ولكن فردية كل شيء مشفوعة بشيئيته الهالكة الفانية. فلو زالت عنه ظهرت له فرديته وكان فردا.
فالفردية سارية في كل شيء سريان النور المحمدي المخلوق منه كل شيء في كل شيء، والشفعية للحقيقة الإبليسية الشيطانية، فهي سارية في
كل شيء أيضا، فمن غلب عليه حكم الفردية نجا، ومن غلب عليه حكم الشفعية هلك، والشفع من الفرد، لكنه خارج منه بالاستقلال عنه .
كما قال تعالى لإبليس : "اخرج منها" 18 سورة الأعراف. ثم قال له : "فإنك رجيم" 34 سورة الحجر. 
يعني لعين، أي مطرود لاستقلالك وعدم رضائك بالحكم الواحد من الواحد على الواحد.
(في كلمة) من كلمات الله التامات (محمدية) منسوبة إلى محمد نبينا ، ثم لما لم يذكر الشيخ رضي الله عنه لفظ الفص في هذا الفهرست بإيذاء كل حكمة للاختصار في ذلك .
قال رضي الله عنه :  وفص كل حكمة الكلمة التي تسب إليها .
فاقتصر على ما ذكرته من هذه الحكم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب.
فامتثلت على ما رسم لي، ووقفت عندما حد لي، ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت ، فإن الحضرة تمنع من ذلك والله الموفق لا رب غيره.
ومن ذلك :
(وفص كل حكمة) من الحكم المذكورات (الكلمة التي نسبت) تلك الحكمة (إليها) فإن الحكمة دورية فهي كالحلقة وكلمتها التي هي معناها الثابت لها بحيث لا يفارقها أبدأ هو فص تلك الحلقة، والفص موضع نقش الاسم وصاحب هذه الحلقات.
وهذه الفصوص هي مجلى الله تعالى وأسماؤه منقوشة على هذه الفصوص، كل فص عليه اسم من أسمائه تعالى هو الاسم الأعظم، وهو سره الأفخم واليد يد الله والأصابع أصابعه، والخواتم خواتمه.
فافهم ما أقول لك على التنزيه التام إن ?نت من أصحاب هذا المقام، وإلا فاترك كلامي، ولا تتصرف فيه بوساوس الإيهام، 
فتزل بك الأقدام ولا يغرنك علمك الرسمي، فإنه جهل والسلام.
(فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحكم) السابع والعشرون في هذا الكتاب الذي سميته فصوص الح?م، ولم أزد على ذلك مما أطلعني الله تعالى عليه حين كشفي عن الحقيقة الآدمية.
وسلكت فيه (على حد)، أي مقدار (ما ثبت) من ذلك الذي أطلعني الله تعالى عليه (في أم)، أي أصل (الكتاب)، أي المكتوب الوجودي في الصفحات العدمية فإن الله تعالى لما قال إنه بكل شيء محيط
وقال:"ليس كمثله شيء" 11 سورة الشورى. وقال"كل شيء هالك إلا وجهه" 88 القصص.
علمنا أن الأشياء كلها كالكتابة المحضورة في القرطاس، النافذة إلى الوجه الآخر، فصور الحروف فيها عدمية.
والمحيط بكل حرف منها حتى يظهر متميزة عن الآخر هو القرطاس، فهو المحيط بها وهو الحاضر لها لتظهر حروفا عدمية، 
فالقرطاس أم الكتاب والحروف العدمية مرسومة في أم الكتاب على صورة ما 
ذكرنا.
(فامتثلت) من الأمر الإلهي الذي ظهر لي في الرؤيا التي رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق بيانه.
(ما)، أي المقدار الذي (رسم لي) في أم كتابي المستمد من أم ?تاب الوجود الكل لأن الإنسان نسخة الأكوان (ووقفت) من ذلك (عندما حد لی)
ولم أتجاوزه تأدب مع الأمر تعالی ومع ناقل أمره صلى الله عليه وسلم .
(ولو رمت زيادة على ذلك) المقدار الذي حد لي ما استطعت (فإن الحضرة) الإلهية المتجلية من حيث أنا على حقائق ما حد لي (تمنع من ذلك) المقدار الزائد .
كما قال تعالى : "وكل شيء عنده بمقدار وما ننزله إلا بقدر معلوم"، فالحضرات فاعلة للأشياء، فهي المطية لها والمانعة منه.
فلا بد من القدر المعلوم الذي ينزل منها، فكما تعطي قدرة معلومة تمنع قدرة معلومة، وكما ينزل من الأشياء قدر معلوم يصعد منها أيضا قدر معلوم.
(والله) سبحانه هو (الموفق) إلى الصواب والهادي إلى حضرة الاقتراب (لا رب) للعوالم (غيره) ولا خير في هذه الموجودات كلها الأخيرة.
وهو حسبي ونعم الوكيل وعلى الله قصد السبيل.
تم فص الحكمة الآدمية 
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 02 – فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الأول .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 8:40 am

02 – فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الأول .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

02 – فص حكمة نفثية في كلمة شيثية

هذا نص الحكمة الشيثية .
ذكره بعد حكمة آدم عليه السلام، لأن شيث أول مولود كامل من بني آدم وهو أول الأنبياء عليه السلام (ومن ذلك)، أي من بعض تلك الحكم والكلم المذكورة .
(فص حكمة نفثية) كما سبق (في كلمة شيثية).
إنما اختصت كلمة شيث عليه السلام بالنفثية، لأن الروح لها في كل جسد مسوي نفخ أمري يستعد له ذلك الجسد كما مر، وهذا عام، ثم إذا كان الجسد المسؤى المنفوخ فيه قابلا لظهور الاستواء الرحماني فيه على الوجه التام نفث فيه ذلك الروح الأمري، وهذا خاص بالأنبياء عليهم السلام والورثة من الأمة لهم نصيب من ذلك من مقام ولا يأتهم على وجه خاص غير الوجه الذي تنال الأنبياء عليهم السلام من مقام نبواتهم.
وهذا النفث نوع من أنواع الوحي، وهو نفخ مع زيادة بلل يخرج معه من النافخ بخلاف النفخ كما تقدم والبلل رطوبة منبعثة من فم النافخ إن كان له فم.
والنفخ هواء منبعث من جوف النافخ تدفعه حرارة قلبه إلى الخارج، ونفخ الروح الأمري الإلهي مشبه بذلك على التنزيه التام.
لأن الحضرة العلمية باطن الحق تعالی وفيها جميع الأشياء ملكا وملكوتا .
فلما تجلى الله تعالى باسمه الباعث بث ما في علمه في حضرة الإمكان إجمالا، فسمي هذا المبثوث الإجمالي روحا كلية وعالم الأمر، ثم تفصل منه ذلك الإجمال بتجلي آخر رحماني فسمي خلقا .
و قال الله تعالى: "ألا له الخلق والأمر" 54 سورة الأعراف. فإذا ظهر للإنسان وانكشف لعلمه الحادث التجلي الأول الأمري يسمى وحيا ولا بد معه من رطوبة جديدة .
فيقال عنه بسببها إنه نفث، وجميع الأنبياء عليهم السلام لا ينطقون عن الهوى "إن هو إلا وحي يوحى " كما قال في نبينا عليه السلام : "وما ينطق عن الهوى
في إن هو إلا وحي يوحى" 3-4 سورة النجم. والضمير إما إلى النطق أو إلى فاعل النطق وهو نبينا عليه السلام، وكونه هو وحي يوحى على معنى ما ذكرنا، فإن روحه
المنفوخة فيه هي حقيقة نفث روح القدس في روعه كما قال صلى الله عليه وسلم عليه السلام :"نفث روح القدس في روعي أن نفسا لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته» الحديث.
والنطق على قسمين نطق اللسان وهو منبعث عن القلب ونطق القلب .
فنطق القلب منبعث عن الروح الأمري فهو في أصحاب القلوب وحي يوحى، وفي أصحاب النفوس وسوسة.
ثم إن آدم عليه السلام لما توجه على حواء في وقت إيداع نطفته في رحمها نطق قلبه ، بما نفث في روعه من الوحي الأمري.
فكانت نطفته بمنزلة العبادة اللفظية فترجمت معنى الوحي النفثي، وكان هذا أول ما صدر في النوع الإنساني.
ولهذا سماه شيث عليه السلام، وشيث معناه العطية ، يعني عطية الله تعالی.
ولما ظهر روح القدس في صورة بشر لمريم عليهما السلام، ونفخ فيها، خرج مع نفخه رطوبة من فم الصورة البشرية كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالی فكان عیسی مخلوق عن نفث أمري .
نظير شيث عليه السلام إلا أن شيث عليه السلام كان عن نفث في نبي نفثة باطنية. وعيسى عليه السلام عن نفث في ولي نفثة ظاهرية ، فعیسی كلمة الله الظاهرة وشيث كلمة الله الباطنةولهذا قال في كلمة شيئية فنسب شیث عليه السلام إليها .
قال رضي الله عنه : ( اعلم أن العطايا و المنح الظاهرة في الكون على أيدي العباد و على غير أيديهم على قسمينمنها ما يكون عطايا ذاتية، عطايا أسمائية وتتميز عند أهل الأذواق، كما أن منها ما يكون عن سؤال في معين و عن سؤال غير معين. ومنها ما لا يكون عن سؤال سواء كانت الأعطية ذاتية أو أسمائية. فالمعين كمن يقول يا رب أعطني كذا فيعين أمرا ما لا يخطر له سواه , و غير المعين كمن يقول أعطني ما تعلم فيه مصلحتي من غير تعيين , لكل جزء من ذاتي من لطيف و كثيف. )
(اعلم) أيها المريد السالك (أن العطايا والمنح) القليلة والكثيرة (الظاهرة في) هذا (الكون) الحادث (على أيدي العباد) من بني آدم وغيره من سائر الأشياء ولو جمادة يعطي خاصية أو زمانا.
كذلك (أو على غير أيديهم) كالعطايا والمنح الصادرة من الحق تعالى بلا واسطة أحد، وكل هذه عطايا إلهية ومنح ربانية وهي (على قسمين):
قسم (منها ما)، أي عطايا ومنح (تكون)، أي تلك العطايا والمنح (عطايا) ومنحة (ذاتية) منسوبة إلى ذات الحق تعالی كأحوال الذاتيين من أهل الله تعالى، فإن جميع أمورهم يأخذونها عن ذات الحق تعالى من غير واسطة اسم ولا رسم، وهي أعلى العطايا على الإطلاق، وتسميتها عطايا عندهم باعتبار تنزلها إلى حضرة الأسماء، لأن المعطي من الأسماء وإلا فهي لا اسم لها يخصها عندهم، وإن كانت عند غيرهم من الأسمائيين مسماة بأسماء على حسب رؤيتهم في مقامهم.
(و) قسم منها (عطايا) ومنحة (أسمائية) منسوبة إلى الأسماء الإلهية كأحوال الاسمائيين من أهل الله تعالى. وهذان القسمان يحصران جميع العطايا والمنح الواقعة في هذا العالم للمؤمن والكافر والعارف والمحجوب سواء علمت أو لم تعلم
(وتتميز عند أهل الأذواق العارفين) بالله تعالی خاصة، فلا يميز بينها غيرهم سواء كانوا ذاتيين أو اسمائيين.
واعلم أن الذوق حالة فوق العلم، والفرق بينهما أن العلم هو الإحاطة بأوصاف الشيء تصورا وتخيلا.
وأما الذوق فهو معرفة ذات الشيء مخالطة وامتزاجا، والممتزجان شيئان لا شيء واحد لكن بينهما غاية القرب، وقد غلط بعضهم فسمي ذلك اتحاد ولا يصح الاتحاد عندنا أبدا، لأن أحد الممتزجين إن زال وبقي الآخر فهو واحد لا اثنان اتحدا.
وإن بقيا فهما اثنان فأين الاتحاد؟
والعبد والرب لا يفترقان أبدا إذ لا وجود لعبد بلا رب ولا ظهور لرب بلا عبد، فإن زالت الوسائط الوهمية بينهما وتحقق العبد بكمال القرب فهو الامتزاج عندنا، ومعلوم أن الممتزجين لهما صورة مخصوصة في حالة الامتزاج ليست لكل واحد منهما في حالة انفراده ولا امتزاج في الحقيقة إذ لا مساواة بين العبد والرب.
فالعبد معدوم والرب موجود ولكن المعدوم إذا اقترن بالموجود اكتسب منه الوجود المناسب له.
أرأيت أن النور إذا قابل الظلمة اكسبها نورا يليق بها فيزول سوادها في عين الناظر ببياض النور المشرق عليها.
وهي في ذاتها ظلمة على ما هي عليه ثم الكشف عن هذا الامتزاج هو حقيقة الذوق المراد هنا (كما أن منها)، أي من تلك العطايا والمنح (ما يكون)، أي يوجد عند المعطي والممنوح (عن سؤال) صدر منه (في) أمر (معين) عنده (و) منها ما يكون (عن سؤال) صدر منه (في) أمر (غیر معین) عنده (ومنها ما لا يكون)، أي يوجد (عن سؤال) ملفوظ به أصلا فهذه ثلاثة أنواع (سواء كانت العطية) والمنح فيها (ذاتية أو أسمائية) كما سبق (فالمعين) الذي يقع السؤال فيه (كمن يقول) في دعائه (یا رب أعطني كذا فيعين) بإشارته (أمرا ما)، أي ذكر شيئا معينا يطلبه من الله تعالى دنيويا أو أخرويا.
(لا يخطر له) في وقت دعائه (سواه).
(و) أما (غير المعين) الذي يقع السؤال فيه فهو كمن يقول في دعائه : (یا رب أعطني ما)، أي شيئا (تعلم فيه مصلحتي) في الدنيا والآخرة (من غير تعيين) منه (لكل جزء) مما فيه مصلحة (ذاتي) له، أي متعلق بكماله الذاتي (من لطيف) روحاني كالمعرفة والشهود (وكثيف) جسمانی كالمأكل والمشرب والمنكح .
قال رضي الله عنه : (و السائلون صنفان، صنف بعثه على السؤال الاستعجال الطبيعي فإن الإنسان خلق عجولا. و الصنف الآخر بعثه على السؤال لما علم أن ثم أمورا عند الله قد سبق العلم بأنها لا تنال إلا بعد السؤال ، فيقول: فلعل ما نسأله فيه سبحانه يكون من هذا القبيل، فسؤاله احتياط لما هو الأمر عليه من الإمكان: وهو لا يعلم ما في علم الله و لا ما يعطيه استعداده في القبول، لأنه من أغمض المعلومات الوقوف في كل زمان فرد على استعداد الشخص في ذلك الزمان. و لو لا ما أعطاه الاستعداد السؤال ما سأل.) 
(والسائلون)، أي الذين يطلبون من الله تعالى حوائجهم ومصالحهم (صنفان) :
الصنف الأول : (صنف بعثه)، أي إهاجة وأثاره (على السؤال)، أي الطلب من الله تعالى (الاستعجال) بحاجته من غير تأخير لها (الطبيعي)، أي المركوز في طبيعة الآدمي من أصل خلقته بأن جرى على مقتضى عادته وجبلته من غير تكلف وصاحب هذا القسم من العامة (فإن الإنسان) من بني آدم ذكرا أو أنثى (خلق)، أي خلقة الله تعالی (عجولا)..
أي كثير العجلة في الأمور لما أنه منفوخ فيه من روح دون غيره من الحيوان، وروح الله من أمر الله وأمر الله كلمح البصر، فاقتضى العجلة.
لذلك قال تعالى : " وما أعجلك عن قومك يا موسى "83 سورة طه .
قال :"قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربي لترضى " 84 سورة طه.
فقد عجل عن قومه إلى ربه فأسرع مفارقتهم وهو لمح البصر الذي شبه به أمر الله تعالى : "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " 50 سورة القمر .
والتحق بأمر الله تعالى زيادة كشف له عما هو فيه، فلزم من ذلك أن قومه عبدوا العجل المشتق من العجلة التي كانت له عليه السلام في مفارقتهم.
وزعموا أن ما عجل إليه وهو ربه عين ما عبدوه هم لالتباس الأمر عليهم بالخلق حيث كان تعالى له الخلق والأمر"فقالوا هذا إلهكم وإله موسى" 88 سورة طه.
وقال تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم : "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه "114 سورة طه.
والقرآن أمره تعالى الذي ظهرت عنه خلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو التفاته إلى عالم الأمر في وقت التبليغ، فنهى عن ذلك لئلا يقع الإجمال في تفصيله فيخرج عن كونه عربيا مبينا .
(والصنف الآخر) : من السائلين (بعثه على السؤال)، أي طلب حاجته من ربه (لما علم) يقينا بطريق الإجمال (أن ثمة)، أي هناك يعني في عالم القضاء والقدر (أمورا) غير معلومة بالتفصيل (عند الله) تعالی بيان لقوله ثمة (قد سبق العلم) الإلهي (بأنها)، أي تلك الأمور (لا تنال)، أي لا تحصل لأحد (إلا بعد سؤال) منه لها بأن يدعو الله تعالى بحصولها فتحصل له لما أن ذلك السؤال من جملة ما سبق به العلم القديم.
فكون تلك الأمور لا تحصل إلا بالسؤال كونها مرتبة عليه في حضرة علم الله تعالى، فإذا حصل السؤال حصلت تلك الأمور، ولا بد أن يحصل السؤال فلا بد أن تحصل تلك الأمور.
وليس توقفها على ذلك السؤال توقف مشروط على شرط إلا بحسب ما يظهر للعقول إن الله غني في إيجاد كل شيء عن الاحتياج إلى شيء، بل توقفها على السؤال توقف أحد المترتبات على ما قبله .
(فيقول) ذلك الصنف الآخر من السائلين (لعل ما)، أي الذي (نسأله)، أي نطلبه منه (سبحانه) وتعالى من الأمور (یكون)، أي يوجد في علم الله تعالى (من هذا القبيل) قد سبق العلم الإلهي بأنه لا يحصل إلا بعد سؤال (فسؤاله) ذلك (احتياط)، أي قبوله واعتباره لما يجده فيه من السؤال الذي قدره الله تعالى عليه وخلقه فيه غير مذموم عنده لاحتمال أن يكون ذلك المطلوب له مترتبا في علم الله تعالى على ذلك السؤال فهو يحتاط (لما هو الأمر عليه) في نفسه (من الإمكان) السائغ عنده في بعض الأمور التي يعطيها الله تعالى لعباده .
(وهو)، أي ذلك الصنف من السائلين (لا يعلم ما في علم الله) تعالى من خصوص الأمر الذي لا يحصل إلا بعد سؤال.
أو يحصل من غير سؤال إذ علم الله تعالى قديم لا يحل في حادث ولا يحل فيه حادث ، فيوجد فيه المعلوم الحادث على حسب ما يليق بقدمه، فهو قديم ومعلومه قدیم، ويوجد في الحادث بما شاء الله تعالى.
كما قال : "ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " 255 سورة البقرة.
وإذا وجد في الحادث كان على حسب ما يليق بحدوثه، فهو حادث ومعلومه حادث، فصح أنه لا يعلم ما في علم الله تعالى أحد لا ملك ولا نبي ولا ولي .
وأما بالوحي والإلهام فهو إعلام بما يليق بالحادث لا بما يليق بالقديم، وهذا المقدار إذا وجد عند الحادث يصح أن يكون علم من علم الله تعالى وصل إليه وحيا أو إلها ما فيكون سؤاله حينئذ لذلك الأمر الذي علم أنه لا يحصل إلا بعد السؤال.
مبنيا على ما وجده من الوحي أو الإلهام، والوحي يفيد اليقين، والإلهام يفيد غالب الظن.
ويجوز بنیان مثل ذلك على غالب الظن، فيصير ذلك باعث على السؤال عنده (و) هو (لا) يعلم أيضا (ما)، أي الذي (يعطيه استعداده)، أي تهيؤه بنفسه (من القبول) لذلك الأمر الذي طلبه من الله تعالى و لسؤاله قبله أو لسؤاله فقط أو لحصوله فقط (لأنه من أغمض)، أي أدق وأخفى (المعلومات عند العباد الوقوف)، أي الاطلاع والكشف (في كل زمان فرد)، وهو الجزء الذي لا يتجزأ من الزمان وهو یوم الله الذي قال تعالى عنه : "كل يوم هو في شأن" 29 سورة الرحمن.
وقال لموسى عليه السلام: "وذكرهم بأيام الله" 5 سورة إبراهيم.
في كل يوم من أيامه هذه، أمر هو شأنه في ذلك اليوم وهو اليوم الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار.
كما قال تعالى في وصف العارفين به: "يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)" سورة النور.
(على استعداد الشخص) لما استعد له (في ذلك الزمان) القليل من الأمور التي قدرها الله تعالى وقضى بها عليه في الأزل.
فإن لله تعالى على كل شخص بخصوصه قضاء وقدرا أزليين بأمور أرادها الله تعالى له من الأزل في كل لمحة بصر.
فالله تعالى : "كل يوم هو في شأن" 29 سورة الرحمن.
بالنسبة إلى خصوص كل إنسان، ولم يسبق قضاء الله تعالى وقدره على ذلك الشخص بخصوصيته بتلك الأمور التي أرادها الله تعالى له إلا على حسب ما استعد له ذلك الشخص في تلك اللمحة البصرية.
فوقوف ذلك الشخص على استعداده لتلك الأمور في تلك اللمحة البصرية من أصعب العلوم وأخفاها.
فسؤاله حينئذ مبني على عدم اطلاعه على استعداده ما هو، فهل هو استعداد للسؤال فقط من غير حصول المطلوب؟
أو استعداد الحصول المطلوب من غير سؤال، أو للسؤال و لحصول المطلوب معين فيسأل احتياطا لذلك.
(ولولا ما أعطاه الاستعداد) الذي له في ذلك الزمان الذي سئل فيه (السؤال) الذي صدر منه (ما سأل) فسؤاله إنما كان منه على حسب استعداده فإن حصل مطلوبه في وقت سؤاله كان استعداده في ذلك الوقت السؤال و لحصول المطلوب معا، لهذا أعطاه الله تعالى ذلك على حسب استعداده له كما قال تعالى : "الذي أعطى كل شيء خلقه" 50 سورة طه.
فقبل ما استعد له من السؤال وحصول المطلوب .
وإن تأخر مطلوبه إلى وقت آخر وحصل له في وقت آخر من غير سؤال كان استعداده في ذلك الوقت الذي سئل فيه للسؤال فقط من غير حصول المطلوب، فأعطاه الله تعالى ما استعد له من ذلك.
كان استعداده في الوقت الآخر لحصول المطلوب فقط من غير سؤال، فأعطاه الله تعالى ذلك أيضا فحصل مطلوبه في ذلك الوقت الآخر من غير سؤال.
وإن لم يحصل مطلوبه لا في وقت سؤاله ولا بعده كان استعداده في وقت سؤال لسؤاله فقط.
فأعطاه الله تعالی ما استعد له من ذلك وهو سؤاله فقط.
ولم يستعد لحصول مطلوبه لا في وقت سؤاله ولا بعده، فلم يعطه الله تعالى ذلك. لأن العطاء على حسب الاستعداد ولا استعداد فيه إلا للسؤال فأعطاه السؤال فقط.
وإن حصل مطلوبه في وقت آخر لسؤال كان استعداده في ذلك الوقت للسؤال فقط من غير حصول المطلوب، فأعطاه الله تعالى السؤال بلا حصول المطلوب.
ثم إن كان استعداده في الوقت الآخر للسؤال أيضا ولحصول المطلوب فأعطاه الله تعالى ذلك فسأل وحصل مطلوبه.
وقد يكون استعداده في أوقات متعددة للسؤال فقط من غير حصول المطلوب، فيتكرر السؤال في تلك الأوقات كلها من غير حصول المطلوب ويكون حصول المطلوب في وقت آخر من غير سؤال.
فيحصل في ذلك الوقت بلا سؤال، وقد يكون بسؤال فيحصل بسؤال وهكذا أحكام السائلين والحاصلين على مطلوبهم إلى يوم القيامة .
قال رضي الله عنه : (فغاية أهل الحضور الذين لا يعلمون مثل هذا أن يعلموه في الزمان الذي يكونون فيه، فإنهم لحضورهم يعلمون ما أعطاهم الحق في ذلك الزمان و أنهم ما قبلوه إلا بالاستعداد. و هم صنفان: صنف يعلمون من قبولهم استعدادهم، و صنف يعلمون من استعدادهم ما يقبلونه. هذا أتم ما يكون في معرفة الاستعداد في هذا الصنف.)
(فغاية) أمر (أهل الحضور) مع الله تعالى (الذين لا يعلمون) من قبل حصول ما استعدوا له فيهم (مثل هذا) الاستعداد الذي فيهم أو في غيرهم:
لحصول السؤال والحصول معا.
أو السؤال فقط.
أو الحصول فقط.
أو السؤال فقط في وقت والحصول فقط في وقت آخر.
أو السؤال فقط في وقت والحصول مع السؤال في وقت آخر.
أو السؤال فقط بلا حصول مطلقا.
أو السؤال مكررا.
أو الحصول بعده فقط من غير سؤال.
أو بسؤال (أن يعلموه)، أي الاستعداد على ما ذكرنا (في الزمان الذي يكونون)، أي يوجدون فيه) سبب قبولهم لما أعطاهم الله تعالى من السؤال والحصول معا أو شيء مما ذكرنا فيطلعون على استعدادهم بقبولهم ذلك .
(فإنهم)، أي أهل الحضور (لحضورهم) مع الله تعالى في جميع أحوالهم مراقبين له تعالی به لا بأنفسهم يعلمون من أنفسهم جميع (ما)، أي الذي (أعطاهم الحق) تعالى (في ذلك الزمان) الفرد من المنح الربانية والمواهب الرحمانية (و) يعلمون أيضا (أنهم ما قبلوه إلا بالاستعداد) الذي فيهم لقبوله في ذلك الزمان، ولولا ذلك الاستعداد في ذلك الزمان ما قبلوه سواء سبق علمهم به على علمهم بالاستعداد القبوله، أو سبق علمهم بالاستعداد لقبوله على العلم به ولهذا قال :
(وهم)، أي أهل الحضور المذكورون (صنفان: صنف يعلمون من قبولهم) لما أعطاهم الحق تعالی استعدادهم لذلك فعلمهم بالاستعداد مأخوذ من القبول، لأنه فرع الاستعداد ووجود الفرع دليل على وجود الأصل (وصنف) آخر (يعلمون من استعدادهم) الذي يجدونه فيهم ويكشفون عنه ببصائرهم المنورة (ما) أي الذي (يقبلون) مما يعطيهم الحق تعالی، فعلمهم بالقبول مأخوذ من الاستعداد استدلالا بالأصل على الفرع.
وهذا الصنف الثاني (أتم ما)، أي شيء (يكون في معرفة الاستعداد) الذي هو في هذا الصنف الثاني، فإن الصنف الأول استدلوا بوجود قبولهم لما أعطاهم الحق تعالى على وجود استعدادهم لذلك، فقد تأخر علمهم باستعدادهم إلى أن ظهر قبولهم لما استعدوا له، فعلموا استعدادهم من قبولهم، فهم أنقص مرتبة في معرفة استعدادهم.
والصنف الثاني اطلعوا على استعدادهم أولا لما يعطيهم الحق تعالی باطلاع الله تعالى لهم على ذلك، فلما عرفوا استعدادهم عرفوا قبولهم لما استعدوا الله، فقد تقدم علمهم بالاستعداد على علمهم بالقبول، فعلموا قبولهم من استعدادهم وهي أكمل مرتبة في معرفة استعدادهم.
قال رضي الله عنه : (و من هذا الصنف من يسأل لا للاستعجال و لا للإمكان، وإنما يسأل امتثالا لأمر الله في قوله تعالى: «ادعوني أستجب لكم».
فهو العبد المحض، و ليس لهذا الداعي همة متعلقة فيما سأل فيه من معين أو غير معين، و إنما همته في امتثال أوامر سيده.
فإذا اقتضى الحال السؤال سأل عبودية و إذا اقتضى التفويض و السكوت سكت فقد ابتلي أيوب عليه السلام و غيره و ما سألوا رفع ما ابتلاهم الله تعالى به،
ثم اقتضى لهم الحال في زمان آخر أن يسألوا رفع ذلك فرفعه الله عنهم. و التعجيل بالمسئول فيه و الإبطاء للقدر المعين له عند الله. فإذا وافق السؤال الوقت أسرع بالإجابة، و إذا تأخر الوقت إما في الدنيا و إما إلى الآخرة تأخرت الإجابة: أي المسئول فيه لا الإجابة التي هي لبيك من الله فافهم هذا.)
ومن هذا الصنف الثاني (من يسأل) ربه حاجة (لا للاستعجال) الذي خلق عليه العبد كما في الصنف الأول من أصناف السائلين (ولا للإمكان)، أي إمكان أن يكون حصول حاجته موقوفا على السؤال لعلمه أن ثمة أمورة لا تنال إلا بعد سؤال، فيحتاط في حاجته لاحتمال أن تكون من هذه الأمور، وهو الصنف الثاني من أصناف السائلين (وإنما يسأل) من ربه حاجته (امتثالا)، أي لأجل الامتثال اللازم عليه (لأمر الله) تعالى (في قوله تعالى: "أدعوني") أي اسألوا مني حوائجكم (" أستجب لكم") 60 سورة غافر .
أي أعطيكم ما سألتموه مني (فهو)، أي هذا السائل الذي إنما يسأل امتثالا لأمر الله تعالى (العبد) لله تعالى (المحض)، أي الخالص من شائبة الغرض النفساني حيث كان سؤاله قياما بما أمره الله تعالى به لا استعجالا بحاجته، ولا لاحتمال أن تكون حاجته موقوفة على السؤال لعلمه أن بعض الأمور كذلك، فغرضه في الحقيقة امتثال للأمر لا حصول حاجته.
ولهذا قال: (وليس لهذا الداعی) المذكور (همة متعلقة فيما يسأل) الله تعالى (فيه من أمر معین) عنده من الحاجة الفلانية أو الغرض الفلاني دنيوية أو أخروية (أو غیر معین) من ذلك (وإنما همته في امتثال أوامر سيده) التي أمره بها من جميع العبادات ، الدعاء بحوائجه وغير ذلك، فإن الأمر بالدعاء أمر غير موقت بوقت فهو موكول إلى الداعي.
(فإذا اقتضى الحال) الذي يكون فيه ذلك السائل بحسب ما يجده في قلبه من الإقبال على السؤال بطريق الإلهام من الله تعالى (السؤال)، أي الدعاء بحاجته يكون ذلك الاقتضاء الحالي إذنا من الله تعالى له بالسؤال وتعيينا منه تعالى لوقته المطلق
(فسأل) حينئذ من ربه حاجته ولا يصبر على فقدها (عبودية) منه لله تعالى (وإذا اقتضى الحال) في وقت آخر (التفويض) إلى الله تعالى والصبر على فقد حاجته بالوجدان القلبي إلهاما له من الله تعالى بذلك (والسكوت) عن السؤال بحاجته (سكت) عنها ولم يسأل الله تعالى فيها .
(فقد ابتلي) أي ابتلاء الله تعالى (أيوب) النبي عليه السلام بما ابتلاه به (و) كذلك (غيره) من الأنبياء عليهم السلام وغيرهم (وما سألوا) الله تعالى (رفع)، أي إزالة (ما ابتلاهم الله) تعالى (به) عنهم بل اقتضاها لهم في الغالب التفويض.
التفويض إلى الله تعالى والسكوت عن السؤال في رفع ذلك عنهم اشتغالا منهم بالله تعالى عن التفرغ لذلك (ثم اقتضى لهم الحال في زمان آخر) إذا التفتوا إلى ذلك البلاء، فوجوده يقتضي إظهار الذل والافتقار والطلب من الله تعالی برفعه ومعاناتهم من (أن يسألوا) منه تعالى (رفع ذلك البلاء عنهم فسألوه) وهو قول أيوب عليه السلام: رب "أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)" سورة الأنبياء.
وقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض بعد هذا اليوم».
ودعاؤه عليه السلام على رعل وذكوان بعد احتمال أذاهم ودعائه على بعض المنافقين.
وكذلك قول نوح عليه السلام في قومه بعد احتمالهم مدة طويلة: "وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)" سورة نوح. (فرفعه)، أي أزال ذلك (الله) تعالى (عنهم) إجابة لدعائهم.
(والتعجيل)، أي الإسراع من الله تعالى (بالمسؤول فيه) من حاجات العبد (والإبطاء)، أي التأخير في ذلك إنما هو موكول (للقدر)، أي التقدير الإلهي المعين من الأزل (له)، أي لذلك الأمر المسؤول فيه من حاجات العبد (عند الله) تعالى فإنه تعالى يقول: " وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)" سورة الحجر.
فالسؤال لذلك الشيء من جملة ذلك الشيء عند الله، فإذا تزل الله تعالى السؤال على عبد نزل من ذلك الشيء المسؤول فيه جزء بقدر معلوم، والباقي منه له قدر معلوم آخر ينزل فيه، وذلك القدر المعلوم قد يكون قريبا وقد يكون بعيدا، والذي قدره يعلمه ولهذا سماه قدرا معلوما، وقال تعالى: "قد جعل الله لكل شيء قدرا " 3 سورة الطلاق

يتبع الفقرة الثانية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 02 – فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 8:49 am

02 – فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

02 – فص حكمة نفثية في كلمة شيثية:
أي مقدارة يكون فيه لا يزيد منه ولا ينقص وقال تعالى: "إنا كل شئ خلقناه بقدر" 49 سورة القمر. وقال : "وخلق كل شيء فقدره تقديرا"سورة الفرقان.
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ظهور الشيء بقدره الذي قدر له من الأزل لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه زمانا ولا مكانا ولا جسمانا.
(فإذا وافق السؤال) الصادر من العبد ذلك (الوقت) المعين له عند الله تعالی (أسرع) الله تعالى (بالإجابة) لذلك العبد في قضاء حاجته فقضيت من غير تأخير، وقلوب الصالحين قد تحس بوقت الإجابة المعين في علم الله تعالى إحساسا مستندة إلى إلهام أو غيره من نطق حرف قرآني أو إشارة كونية ونحو ذلك.
فلا يدعون الله تعالى إلا في ذلك الوقت المعين فتسرع لهم الإجابة من الله تعالی لعين ما سألوه، فيقال: فلان مستجاب الدعوة، وإذا أحس ببعد ذلك الوقت المعين لا يدعو الله تعالی فيقال عنه : لو دعا الله تعالى، لأجيب ولكنه ما دعا فلم يجب، والأمر على ما ذكرنا في نفس العارف به دون الجاهل.
(وإذا تأخر الوقت) المعين عند الله تعالی لوجود المسؤول فيه (إما في الدنيا) بأن تأخر عن وقت السؤال بسنة أو أقل أو أكثر ثم وجد فوجد المسؤول فيه (وإما في الآخرة) بأن تأخر عن الدنيا فكان وقت السؤال في الدنيا ووقت الإجابة في الآخرة
تأخرت الإجابة الفعلية من الله تعالى عن ذلك السؤال لتأخر وقتها المقدر لها من الأزل.
فإن كل شيء له وقت معلوم عند الله تعالى لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه، ولا بد أن يكون ذلك الشيء فيه حكمة إلهية أزلية.
قال تعالى: "ما يبدل القول لدى"29 سورة ق.
وذلك لأن قوله قديم، والقديم لا يتغير إذ لو تغیر كان حادثة (أي) تفسير للإجابة التي تتأخر حصول (المسؤول فيه) الذي هو مراد السائل (لا) تتأخر
(الإجابة) القولية (التي هي) قول (لبيك) تثنية لب يقال : لباه إذا أجابه يلبيه لبأ وتلبية ، يعني إجابة بعد إجابة .
وهي الإجابة القولية ثم الإجابة الفعلية (من الله) تعالی لذلك العبد السائل، بل هي حاصلة منه تعالى بعد كل السؤال من غير تأخير البتة كما وردت به الأخبار (فافهم) يا أيها المريد (هذا الكلام)، ولا يشكل عليك بعده معنى الإجابة الموجود بها كل سائل في قوله تعالى:" أدعوني أستجب لكم " 60 سورة غافر. وغير ذلك من الآيات والأحاديث.
قال رضي الله عنه : (و أما القسم الثاني و هو قولنا: «و منها ما لا يكون عن سؤال» فالذي لا يكون عن سؤال فإنما أريد بالسؤال التلفظ به، فإنه في نفس الأمر لا بد من سؤال إما باللفظ أو بالحال أو بالاستعدادكما أنه لا يصح حمد مطلق قط إلا في اللفظ، و أما في المعنى فلا بد أن يقيده الحال. فالذي يبعثك على حمد الله هو المقيد لك باسم فعل أو باسم تنزيه. و الاستعداد من العبد لا يشعر به صاحبه و يشعر بالحال لأنه يعلم الباعث وهو الحال. فالاستعداد أخفى سؤال. و إنما يمنع هؤلاء من السؤال علمهم بأن الله فيهم سابقة قضاء. فهم قد هيئوا محلهم لقبول ما يرد منه و قد غابوا عن نفوسهم و أغراضهم.)
(وأما القسم الثاني) من قسمي العطايا والمنح الظاهرة في الكون على حسب ما سبق ذكره (وهو)، أي هذا القسم الثاني (قولنا ومنها)، أي من العطايا والمنح (ما لا يكون)، أي يوجد (عن سؤال) أصلا (فالذي لا يكون صادرا عن سؤال) من العبد (فإنما أريد بالسؤال التلفظ) من السائل (به) بأن يسأل بلسانه أمرا من الأمور وإلا (فإنه في نفس الأمر لا بد من سؤال) يصدر من العبد حتى تحصل الإجابة ، وذلك السؤال المطلق (إما باللفظ) وهو معلوم (أو بالحال) بأن يكون لسان حاله سائلا ذلك الشيء كالنبات إذا قل عنه الماء، فإن لسان حاله طالب للماء.
قال الأعرابي:
صوح النبت فاسقه نهلة من سحائبك   … وأغثنا فإننا في ترجي مواهبك
(أو بالاستعداد) بأن تهيأ للإجابة بحسب العادة، كالحبة إذا دفنت تحت الأرض فإنها مستعدة للإنبات لخروج السنبلة منها، والنواة كذلك مستعدة للإنبات لخروج النخلة منها، فهي سائلة بلسان استعدادها و مجلوبة من الله تعالى فيما سألت .
واعلم أن الله تعالي غني عن العالمين، ومن غناه عنهم كانت عطاياه لا بد لها من سابقة السؤال من الغير، فيعطي الماهيات المعلومة التي هي ليست بأشياء وجودة بسبب سؤالها ذلك منه باستعداد حالها.
حتى لو لم تستعد للموجود ولم تسأله ذلك باستعدادها له لم يعطيها وجودها وبعد وجودها، متى استعدت لحالة فقد سألت منه تلك الحالة باستعدادها لها فيعطيها ذلك أو بلسان حالها أو بلسان قالها . سواء كانت تلك الحالة خيرا لها أو شرا.
فإن الله تعالى يعطيها ذلك على حسب سؤالها، ولهذا جاءت نسبة الشرع جميع ما يصدر من المكلف إليه نسبة حقيقية.
لأنه وإن لم يفعل ذلك حقيقة فقد فعله الله تعالى له بطلبه هو لذلك استعدادا أو حالا أو قالا.
كما أوجده الله تعالى على هذه الكيفية، وهذه الصورة والحالة التي هو فيها بطلبه ذلك من الله تعالى طلبا استعداديا.
فأعطاه الله تعالى ذلك له على حسب طلبه ، وإن كان استعداده ذلك بوضع الله تعالى على مقتضى ما سبقت به الإرادة القديمة وإلى الله ترجع الأمور.
فهو الذي أفقر إليه كل شيء وهو الذي أغنى بعطائه كل شيء.
(كما)، أي مثل ما سبق من كون العطايا لا بد لها من سؤال (أنه)، أي الشأن (لا يصح حمد) الله تعالى (مطلق) عن قيود الأسباب ليس في مقابلة سبب داعی إليه (قط إلا في اللفظ) .
فنقول: الحمد لله وأنت نافي جميع الأغراض لك عن هذا الحمد، فالحمد المطلق عن ذلك إنما هو في لفظك فقط.
وإذا تأملت في معنى ذلك وجدت الحامل لك عليه استحقاق الله تعالى الحمد لا في مقابلة لشيء مطلقا، بل استحقاق ذاتي لأنه الكامل المطلق، فقد حملك عليه التنزيه الذي قام عندك لله سبحانه وتعالى، والتنزيه قيد فلم يخلو الحمد من قيد كما قال.
(وأما في المعنی) باعتبار قصد الحامد (فلا بد أن يقيده الحال) الذي هو قائم بالحامد وإن لم يشعر به الحامد (فالذي يبعثك) أيها الحامد (على حمد الله ) تعالى في كل حمد صدر منك.
(هو المقيد لك باسم فعل) من أفعال الله تعالى كالرزاق، والمعطي، والفاتح، والراحم، واللطيف، والحافظ ونحو ذلك.
فإذا فعل الله تعالی معك فعلا يلائمك أو لا يلائمك فحمدته على السراء والضراء فقد تقيد حمدك بالاسم المأخوذ من ذلك الفعل لله تعالى (أو باسم تنزيه) لله تعالی كالواحد والأحد والقديم الذي لم يتخذ ولدا ولا شريك في الملك ونحو ذلك.
فإذا نزهت الله تعالى بمقتضى اسم من هذه الأسماء ثم حمدته أثر ذلك فقد تقيد حمدك به فليس حمدا مطلقا إلا في لفظك فقط دون المعنى.
وكذلك العطايا الإلهية لا بد لها من سؤال يصدر من العبد سابق عليها ، فإذا كانت من غير سؤال فهى من غير سؤال ملفوظ به، وإلا فلا بد لها من سؤال ولو بالحال أو بالاستعداد على ما بيناه.
والغنى عز وجل أعظم من أن يلتفت إلى إيجاد شيء أو إمداده من غير افتقار وسؤال وطلب من ذلك الشيء و "الله غني عن العلمين"97 سورة آل عمران.
(والاستعداد) الذي هو أخفى سؤال صادر (من العبد)، أي عبد كان (لا) يمكن أن يشعر به صاحبه من قبل نفسه لكونه خفيا، وإنما يكشف الله له عنه إن كان من أهل الإلهام والفيض كما ذكرناه فيما مر (و) يمكن أن (يشعر بالحال) الذي هو سؤال صادر منه (لأنه)، أي العبد (یعلم الباعث)، أي السؤال الذي في خلقته مقتضية لإجابته (وهو)، أي الباعث المذكور (الحال) القائم به في نفسه أو في بدنه (فالاستعداد) حينئذ (أخفي سؤال) يصدر من العبد للرب بما يقتضيه ذلك العبد مما هو مستعد له وليس هو حالة قائمة بالعبد حتى يمكن أن يشعر بها من نفسه وإنما هو مناسبة خفية جعلها الله تعالى في ذلك العبد لشيء آخر خفي في غيب السماوات والأرض.
(وإنما) السبب الذي (يمنع هؤلاء)، أي أهل هذا القسم الذين عطاياهم من سؤال صدر منهم فيها (من السؤال) ويحملهم على تركه (علمهم بأن الله) تعالى "حكمة الله وقدره سر ساري" (فيهم) من الأزل (سابقة قضاء)، أي حكم وتقدير بما أراد سبحانه وتعالى أن يصيبهم من العطايا والمنح وما قضاه الله تعالى وقدره لا بد أن يكون سواء سأل العبد أو لم يسأل.
(فهم قد هيئوا محلهم) الذي هو ذاتهم (لقبول ما يرد) عليهم (منه) تعالى فيحل فيها مما قضاه عليهم وقدره (وقد غابوا عن) شهود (نفوسهم) في شهود ربهم عز وجل (و) عن طلب (أغراضهم) في تنفيذ إرادة ربهم تعالى فيهم فلم يتفرغوا للسؤال منه تعالى فلم يسألوا.
قال رضي الله عنه : (ومن هؤلاء من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه في حال ثبوت عينه قبل وجودها، ويعلم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به وهو ما كان عليه في حال ثبوته، فيعلم علم الله به من أين حصل. وما ثم صنف من أهل الله أعلى وأكشف من هذا الصنف، فهم الواقفون على سر القدر وهم على قسمين:
منهم من يعلم ذلك مجملا. و منهم من يعلمه مفصلا. و الذي يعلمه مفصلا أعلى و أتم من الذي يعلمه مجملا، فإنه يعلم ما في علم الله فيه إما بإعلام الله إياه بما أعطاه عينه من العلم به .)
(ومن هؤلاء) الطائفة أهل التفويض والتسليم والاعتصام بالله تعالى (من يعلم) بتعليم الله تعالى له (أن علم الله) تعالى (به في جميع أحواله) التي هو متقلب فيها من حين كان نطفة إلى أن يخرج من الدنيا مثلا (هو)، أي في ذلك العلم بعينه (ما)، أي الذي (كان)، أي وجد (عليه) من الأحوال المترتبة (في حال ثبوت).
أي استحضار (عينه)، أي ذاته مع جميع أحواله في حضرة الله تعالى القديم (قبل وجودها)، أي ظهور تلك العين من علم الله إلى هذا الكون الحادث، فكلما شعر بحالة من أحواله وجدت فيه علم إنما هي التي يعلمها الله تعالى منه في الأزل أخرجها له الآن بقدرته .
ورتبتها إرادته تعالى على حسب ما هي مترتبة في حضرة علم الله تعالى، فهو مطمئن الذاته ولجميع أحوالها على حسب ما كشف عنها سبحانه وتعالى بعلمه من الأزل، ثم قدرته فوجدت على ذلك المنوال السابق لا زادت عليه ولا نقصت .
(ويعلم من ذلك أن الحق) تعالى (لا يعطيه) شيئا ما مطلقة (إلا ما أعطاه)، أي أعطى الحق تعالی (عينه)، أي عين ذلك العبد (من) بيان لما (العلم به)، أي بذلك العبد (وهو)، أي العلم بذلك العبد (ما كان عليه) ذلك العبد (في حال ثبوته)، أي استحضار العالم به فقط قبل وجوده في ذاته .
فقد أعطى الله تعالى بعينه الثابتة في الاستحضار قبل وجودها ما علمه الله تعالى منه، ثم إن الله تعالى أعطاه ما أخذ منه بعلمه سبحانه لا زاده ولا نقصه.
فيعلم هذا العبد حينئذ (علم الله) تعالى (به) الذي هو أصل لتعلق الإرادة والقدرة الأزليتين بإيجاده حتى وجد على هذا الترتيب الذي هو فيه (من أين حصل الله تعالى) ذلك العلم في الأزل بذلك العبد وبأحواله حصولا رتبيا تقتضيه رتبة العلم لا حصولا حدوثيا ترتيبيا إذ هو محال.
واعلم أن الثبوت غير الوجود كما أن النفي غير العدم، فالثبوت والنفي متناقضان كالوجود والعدم.
أما الثبوت: فهو عبارة عن إمكان الشيء وقابليته للوجود وطلبه لذلك طلبا استعداديا، وجميع ما أوجد وهو موجود وسيوجد من الكائنات كانت ثابتة "في علم الله" قبل وجودها في هذا العالم الحادث من غير وجود لها.
ومعنی ثبوتها أنها ممكنة للوجود قابلة له طالبة له طلبا استعداديا، وهذا الثبوت الذي لها قبل وجودها ثبوت أزلي ليس بجعل جاعل، لأنه عدم صرف لا وجود فيه، والعدم ليس بجعل جاعل.
وسيأتي من الشيخ قدس الله سره قريبا بيان ما في هذه الكائنات الثابتة قبل وجودها، ثم إن الله تعالى بعلمه القديم كشف عن هذه الكائنات الثابتة في إمكانها وقابليتها للوجود وطلبها له باستعدادها كشفة ليس متأخرة عنها ولا هي متقدمة عليه.
بل تسميته بالعلم في لسان الشرع يقتضي هذا التأخر عنها من حيث الرتبة التي هو فيها من كونه مسمی علما لا من حيث هو قديم، إذ لو تأخر القديم لكان حادثة وهو محال.
ولهذا لما عرفوا العلم الإلهي قالوا : هو صفة تكشف لمن قامت به عن المعلوم كشفا حقيقيا لا يحتمل النقيض.
وتأخر صفة العالم من حيث الرتبة لا يمنع المقارنة من حيث القدم، فجميع الكائنات الثابتة قبل وجودها قائمة بالاستحضار الإلهي لها قبل تسميته لنا علما بها، فتسميته علما بيان إلهي لنا على السنة الأنبياء عليهم السلام.
وهو المسمى بالشرع وهو أحكام الله تعالى، والله يحكم لا معقب لحكمه.
ومن جملة أحكامه أن حكم بأن له علما كاشفة من الأزل عن حقائق الكائنات الثابتة قبل وجودها.
وكلام الشيخ قدس الله سره من حيثية هذا البيان الإلهي المسمى باسم الشرع الذي هو أحكام الله تعالى، حيث ورد فيه أن الله موصوف بصفة العلم لكل شيء المقتضي ذلك تأخر هذه الصفة عما تعلقت به، وتقدم ما تعلقت به عليها وهو التنزل الإلهي .
وأما من حيث ما الأمر عليه في نفسه فلا يعلم الله إلا الله، ولولا الإذن من الله بالتكلم على ذلك من هذه الحيثية مما وصف الله تعالى نفسه بصفة العلم في لسان الشرع لا سيما وقد قال رسول الله عليه السلام :"من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".
أي يفهمه فيه والدين هو الشرع الذي شرعه الله تعالى لعباده، أي بينه لهم على حسبهم لا على حسبه هو في ذاته .
ثم حيث تقرر أن صفة العلم تقتضي التأخر عن المعلوم لأنها تابعة له حيث كانت كاشفة عنه لا مؤثرة فيه، كانت جميع الكائنات الثابتة قبل وجودها معطية الله تعالى علمه تعالى بها على الترتيب والإجمال والتفصيل.
ثم إن إرادة الله تعالی القديمة تعلقت بتخصيص جميع ما علمه الله تعالى على منوال ما علمه من غير تأخر عن العلم أيضا تأخرا زمانيا بل تأخر تقتضيه رتبة الإرادة، إذ لا إرادة لغير معلوم فهو تعالی علم فأراد، ثم إن قدرة الله تعالى القديمة تعلقت بإيجاد ما أراده تعالى من غير
تأخر عن الإرادة أيضا، ولكن البيان الإلهي اقتضى هذا الترتيب فجرى حكم الفقه في الدين على هذا البيان.
فكما أن الكائنات الثابتة قبل وجودها أعطت الحق تعالی علمه بها أعطاها هو تعالی أيضا جميع ما علمه منها، فأوجدها على منوال ما أخذ منها من الذوات والأحوال.
فوجدت في عينها بقدرته تعالى وتخصصت بما هي فيه من الأحوال بإرادته، وكانت ثابتة قبل وجودها مكشوفا عنها بعلمه تعالی، فهذا الفرق بين الثبوت والوجود.

وأما الفرق بين النفي والعدم.
فالنفي نقيض الثبوت، وهو عبارة عن عدم إمكان الشيء وعدم قابليته للوجود وهو المستحيل.
وعن عدم طلبه للوجود طلبا استعداديا وهو الممكن القابل للوجود من غير مانع عن ذلك، إلا أنه لم يستعد للوجود فلم يطلب الوجود استعداده ، كالشمس الثانية والثالثة والقمر الثاني والثالث ونحو ذلك من الممكنات الغير الطالبة اللوجود باستعدادها، والعدم نقيض الوجود وهو شامل للثبوت و للنفي بنوعيه المستحيل والممكن.
(وما ثم)، أي هناك بين أهل الله تعالى (صنف من أهل الله) تعالى العارفين به أعلى مرتبة (وأكشف) بصيرة (من هذا الصنف) الذين يعلمون أن علم الله تعالى بهم هو ما هم عليه في حال ثبوت أعيانهم قبل خروجها إلى هذا الوجود.
فقد أعطوا الله تعالى علمه بهم، فهو يعطيهم ما أخذه منهم من غير زيادة ولا نقصان.
(فهم الواقفون)، أي المطلعون (على سر القدر) الإلهي والقضاء الأزلي، فإن الله تعالى ما قدر وقضى على أحد إلا ما علمه منه من خير أو شر.
وما علم منه إلا ما هو عليه في حال ثبوته قبل وجوده، ولهذا ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمن خلافته أنه قال لسارق ما حملك على ما فعلت؟
قال : حملني قضاء الله وقدره
فقال له : كذبت ثم أمر بحده
ثم عذره لكذبه على الله تعالى في قوله: إن قضاء الله تعالى وقدره حمله على السرقة.
وبيان ذلك أن القضاء والقدر على منوال ما في علم الله تعالى من ذلك السارق وعلم الله تعالى كاشف عن ذات ذلك السارق.
وجميع أحواله في عالم الثبوت قبل الوجود، فلم يحمل القضاء والقدر ولا العلم القديم ذلك السارق على فعل السرقة.
بل ذلك السارق هكذا في حال ثبوت عينه المكشوف عنها بعلم الله تعالی قبل وجودها.
ولابن كمال باشا زاده رحمه الله تعالى رسالة في تحقيق معنى القضاء والقدر بناهما على مسألة أن العلم تابع للمعلوم، وبسط الكلام على ذلك، وقد تكلمنا على هذه المسألة بما يشفي العليل ويبرد الغليل في كتابنا «المطالب الوفية»
ولنا على مسألة تبعية العلم للمعلوم كلام آخر في كتابنا «الفتح الرباني».
(وهم)، أي الواقفون على سر القدر (على قسمين منهم من يعلم ذلك)، أي سر القدر علما (مجملا) بأن يعلم أن ثم أمور ثابتة قبل وجودها كشف الله تعالى بعلمه القديم عنها وحكم بها فقضاها وقدرها على منوال ما كشف عنها .
ولكن لا يعلم ذلك العبد ما هي بعينها ولا يعرف تفاصيلها .
(ومنهم من يعلمه)، أي سر القدر (مفصلا) بأن يعلم كل شيء بعينه في حال ثبوته قبل وجوده بتعليم الله تعالى ذلك (والذي يعلمه)، أي سر القدر مفصلا على هذا المنوال (أعلى) درجة (وأتم معرفة من الذي يعلمه مجملا) .
وعلم الله تعالی ليس علما مجملا بل علما مفصلا، والذي يعلم مفصلا هو الذي يعلم علم الله تعالى (فإنه يعلم ما)، أي الذي (في علم الله) تعالى (فيه)، أي في نفسه من الأحوال المختلفة الماضية والمستقبلة (إما بإعلام الله) تعالى (إياه) بطريق الوحي الإلهامي والتعليم الرباني والإلقاء في القلب.
(بما)، أي بالذي (أعطاه)، أي أعطى الله تعالى (عينه) الثابتة قبل وجودها (من العلم به) كله على ما هو عليه في حال ثبوته قبل وجوده .
قال رضي الله عنه : (و إما أن يكشف له عن عينه الثابتة و انتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى و هو أعلى:
فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به لأن الأخذ من معدن واحد إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له هي من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك. أي أحوال عينه، فإنه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على أحوال عينه الثابتة التي تقع صورة الوجود عليها أن يطلع في هذه الحال على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها لأنها نسب ذاتية لا صورة لها.)
(وإما بأن يكشف) الله تعالى (له)، أي لذلك العبد (عن عينه الثابتة) قبل وجودها (و) عن (انتقالات) جميع (الأحوال عليها إلى ما لا يتناهی) في الدنيا والآخرة.
(وهو)، أي هذا الوجه الثاني (أعلى) رتبة من الوجه الأول، لأن الأول بطريق الإخبار من الله تعالى له، وليس علم الله تعالى بالكائنات الثابتة قبل وجودها بهذا الطريق فهو أدنى.
والثاني بطريق الكشف عنها، وعلم الله تعالى بها كذلك بطريق الكشف .
فهو أعلى من الأول لموافقته لعلم الله تعالى من حيث كونه بطريق الكشف عن تلك الكائنات الثابتة قبل وجودها (فإنه)، أي هذا الذي كشف له عن عينه الثابتة وانتقالات أحواله (یكون) حينئذ (في علمه بنفسه) علم كشف عن حقيقته الثابتة أيضا وانتقالات أحوالها .
(بمنزلة علم الله) تعالى (به) علم كشف عن حقيقته الثابتة وانتقالات أحوالها (لأن الأخذ)، أي أخذ الله تعالى علمه في الأزل بنفس هذا العبد وبانتقالات أحواله، وأخذ هذا العبد علمه في عالم وجوده الحادث بنفسه وبانتقالات أحواله كل الآخذين بطريق الكشف عن نفس هذا العبد وانتقالات أحواله في الثابت ذلك كله قبل وجوده.
(من معدن واحد هو العين المعلومة)، وهو نفس ذلك العبد وانتقالات أحواله في ثبوتها قبل وجودها (إلا أنه)، أي الأخذ المذكور (من جهة العبد) محض (عناية من الله) تعالى (سبقت له)، أي لهذا العبد (هي)، أي تلك العناية الإلهية التي أنتجت علم العبد بنفسه وبانتقالات أحواله بطريق الكشف المذكور.
(من جملة أحوال عينه الثابتة)، أي عين ذلك العبد بمعنی ذاته التي كشف الله تعالی عنها بعلمه (يعرفها)، أي يعرف تلك العناية (صاحب هذا الكشف) أيضا وهو العبد المذكور (إذا أطلعه الله) تعالى (على ذلك)، أي على أحوال عينه، أي ذاته الثابتة من قبل وجودها المكشوف عنها بعلم الله تعالى.
فإن من جملة أحوال عينه التي يطلعه الله تعالى عليها تلك العناية التي سبقت له المنتجة لعلمه بنفسه وبانتقالات أحواله بطريق الكشف عن ذلك وهو ثابت له قبل وجوده .
(فإنه)، أي الشأن وهو بيان لقوله : عناية من الله سبقت له (ليس في وسع)، أي قدرة (المخلوق إذا أطلعه الله) تعالى (على أحوال عينه الثابتة) قبل وجودها كما ذكر (التي تقع صورة الوجود) بعد ذلك الثبوت (عليها).
وأما حقيقة الوجود فليست لها مطلقا بل ذلك مخصوص بالحق تعالى (أن يطلع) ذلك المخلوق (في هذا الحال) المذكورة (على اطلاع الحق) تعالی اطلاع ذوقيا تفصيليا لا تخييليا إجماليا.
(على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها) قبل الوجود فيبقى المخلوق حينئذ لما يطلعه الله تعالى على جميع أحوال عينه الثابتة قبل أن تقع عليها صورة الوجود على هذا الاطلاع.
الذي هو من جملة أحوال عينه مشتغلا بما أطلعه الله تعالى من ذلك غير متفرغ للاطلاع على أن الله تعالى مطلع على ذلك كله وإن كان غير مكذب به بل هو مصدق بكل ذلك بطريق التخيل والإجمال لا الذوق والتفصيل .
(لأنها)، أي لأن تلك الأعيان الثابتة في عدمها قبل وجودها تعليل لاطلاع الحق تعالى عليها (نسب) جمع نسبة وهي اعتبار محض لا حقيقة ثابتة في أمر محقق.
بحيث لو زالت تلك النسبة أو لم تزل فذلك الأمر محقق على ما هو عليه من غير تغيير، كالقدام والخلف مثلا بالنظر إلى الكعبة .
فإذا استقبلتها بوجهك كانت قدامك، وإذا استدبرتها زالت تلك النسبة وخلفتها نسبة أخرى وهي كونها خلفك.
والكعبة لم تتغير عما هي عليه بزوال نسبة وطرو نسبة أخرى عليها ونحو ذلك من نسبة الفوق والتحت وما أشبهه.
(ذاتية)، أي منسوبة تلك النسب إلى ذات الله تعالى على معنى أن ذاته تعالی المطلقة المنزهة عن جميع القيود والكيفيات والتصورات تظهر بسبب إرادتها للشيء وتوجهها عليه في صورة ذلك الشيء، من غير أن تتغير هي في نفسها.
فيبقى ذلك الشيء موجودة ما دامت مريدة له متوجهة على إيجاده، فحقيقته نسبة فقط بین ذات الحق تعالى و بین ذلك الشيء المراد لها الذي هو عدم صرف.
ظهرت تلك النسبة من توجه الذات نحو ذلك الشيء الذي لا وجد ولا يوجد ولا هو موجود البتة، فإذا زالت تلك النسبة بقيت ذات الحق تعالى على ما هي عليه من قبل ظهور تلك النسبة .
فلولا ذات الحق تعالى الموجودة وجودا حقيقيا، ولولا ذلك الشيء المعدوم عدم صرفا، الذي أرادته وتوجهت عليه ذات الحق تعالى، ما ظهرت هذه النسبة المسماة باسم الشيء الموجود باسم العالم الحادث ثم باسم السماء والأرض ونحو ذلك.
فهي نسب اعتبارية لا وجود لها حقيقة.
وإنما الوجود الحقيقي لقيومها الذي هو ذات الحق تعالى، وإلى هذا المعنى يشير الشيخ قدس سره فيما سيأتي من أبياته بقوله :
فلولاه و لولانا لما   …. كان الذي كانا
فالموجود المحقق هو الله تعالى والكائنات كلها عدم صرف.
وهذه المخلوقات الظاهرة كلها نسب وإضافات حقيقتها ذات الحق تعالى بالنسبة إلى تلك الكائنات المعدومة والإضافة إليها لا مطلقة.
وهذه النسبة والإضافة لم تغير ذات الله تعالى ولا أعدمت منها ما كان لها ولا أحدثت فيها ما لم يكن لها، كما أن الكعبة في المثال السابق ما حدث لها وصف بظهور نسبة القدامية لها باستقبال أحد.
ولا زال عنها وصف بزوال نسبة القدامية عنها باستدبارها، وحدوث نسبة الخلفية كما أن المرآة لم تتغير بظهور الصور فيها لا زادت ولا نقصت .
فجميع ما ظهر فيها نسب عدمية بين ما قابلها وبينها هي، فلولا وجودها وفروض ما يقابلها ما ظهرت فيها هذه الصور النسبية التي لا حقيقة لها في المرآة أبدا، وإنما الموجود المرآة فقط كما سيذكره الشيخ قدس سره قريبا .
(لا صورة لها)، أي بتلك النسب الذاتية، وإنما صورتها المدركة لها مجرد نسبة عدمية بين أمر موجود وهو ذات الحق تعالى وأمر معدوم وهو تلك الصورة المفروضة المقدرة المعدومة، يعني أن الحق تعالى مطلع على جميع هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها، لأنها نسب ذاتية له لا صورة لها في نفسها، و علمه تعالى بذاته هو علمه بهذه النسب المنسوبة إلى ذاته تعالى.

يتبع الفقرة الثالثة
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 02 – فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 2:02 pm

02 – فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

02 – فص حكمة نفثية في كلمة شيثية:
وذلك لأن ذاته تعالی مطلقة عن الانحصار لعلم أو غيره، والمطلق إذا علم إنما يعلم نسبه الذاتية وإضافاتها، ويبقى مطلقا على ما هو عليه ولا يصير محاطا به محصورة البتة وإلا انقلب المطلق مقيدة وهو محال، لأنه يصير ممكنة بعد وجوبه.
وهذا معنى قول الشيخ قدس الله سره في كتابه «عقلة المستوفز» إن الله تعالی علم ذاته فعلم العالم، يعني لزم من علمه بذاته علمه بالعالم، وليس علمه بذاته شيئا وعلمه بالعالم شيئا آخر.
قال رضي الله عنه : ( فبهذا القدر نقول إن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادة العلم. و من هنا يقول الله تعالى: «حتى نعلم» و هي كلمة محققة المعنى ما هي كما يتوهمه من ليس له هذا المشرب. و غاية المنزه أن يجعل ذلك الحدوث في العلم للتعلق ، و هو أعلى وجه يكون للمتكلم بعقله في هذه المسألة، لو لا أنه أثبت العلم زائدا على الذات فجعل التعلق له لا للذات. و بهذا انفصل عن المحقق من أهل الله صاحب الكشف و الوجود.)
(فبهذا القدر) الذي هو كشف الله تعالى للعبد عن عينه الثابتة في حال عدمها وعن انتقالات الأحوال عليها (نقول إن العناية الإلهية سبقت) من الله تعالى في الأزل (لهذا العبد) المذكور (بهذه المساواة) بين علمه وبين علم الله تعالى (في) مجرد (إفادة العلم) بعينه الثابتة في حال عدمها وبانتقالات الأحوال عليها حيث كان علم الله تعالى بالكشف أيضا عن عين هذا العبد الثابتة في حال عدمها وعن انتقالات الأحوال عليها.
فالعلمان من معدن واحد كما تقدم، ولكن ليس في وسع العبد إذا وافق علم الله بعينه الثابتة في حال عدمها وبانتقالات الأحوال عليها باطلاع الله تعالى له على ذلك أن يطلع أن ذلك موافق لعلم الله به.
فإذا اطلع على الموافقة المذكورة علم، علم الله تعالی به (ومن هنا)، أي من هذا المعنى حيث علم علم الله تعالى به (يقول الله) تعالى في القرآن العظيم :" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)" سورة محمد.  ، يعني حتى نكشف عندكم بعلمنا عن " المجاهدين منكم " والصابرين  [محمد: 31]..
وذلك الكشف هو كشفنا لكم عن ذلك حيث توافق علمنا وعلمكم في هذا المقدار المذكور (وهی)، أي قوله تعالى: نعلم (كلمة محققة المعنی)، أي معناها ما يظهر منها حقيقة على حسب ما ذكر (ما هي كما يتوهمه من ليس له هذا المشرب) من العلم بالله الموافق للعلم بالله حیث هما من معدن واحد.
(وغاية المنزه)، أي العالم بالله على وجه التنزيه من علماء الظاهر (أن يجعل ذلك الحدوث) المفهوم من ظاهر قوله تعالى: "حتى نعلم" ، أي حتى يحدث لنا علم حدوثة (في العلم للتعلق) بالمعلوم لا لنفس العلم الإلهي القديم.
(وهو)، أي هذا القول بالحدوث في العلم للتعلق لا لنفس العلم (أعلى وجه یكون)، أي يوجد (للمتكلم بعقله) كعلماء الظاهر (في هذه المسألة) التي هي مسألة نسبة حدوث العلم الله تعالى.
(لولا أنه)، أي هذا المتكلم بعقله (أثبت العلم) معنى (زائدة على الذات فجعل التعلق) بالمعلوم (له لا للذات) وقد نسب علماء الظاهر هذا القول للأشعري رحمه الله تعالى.
حيث سموا العلم صفة معنى من جملة صفات المعاني السبعة ، وعللوا التسمية بأن هذه الصفات السبعة التي منها العلم لها معان في نفسها زائدة على قيامها بالذات، وأنا أقول إن هذا ليس مذهب الأشعري ولا غيره من السلف ، بل مذهبه أن هذه الصفات السبعة ليست عين الذات ولا غيرها.
فقوله: ليست عين الذات، يفيد أنها غيرها وقوله : ولا غيرها، يفيد أنها عين الذات، فالمفهوم من مذهبه أنه غير قاطع بواحد منهما.
فكيف ينسب إليه أنها غير الذات، وهي معان زائدة على الذات، والحاصل أن مذهب الأشعري رحمه الله تعالى في الصفات السبعة نفي النقيضين معا وعدم القطع بواحد منهما بل تسليم ذلك إلى الله تعالى.
كما هو مذهب السلف في التفويض إلى الله تعالى كل ما ورد في الدين، لأن ذات الله تعالى لا تشابه الذوات، وصفاته لا تشابه الصفات، فيلزم من ذلك أن یكون قيام صفات الله تعالى بذاته لا يشابه أيضا قيام الصفات بالذوات.
وانحصر القول بالفهم والإمكان في صفات الحوادث أنها عين الذات كالوجود، وأما غير الذات كلون الجرم مثلا فانتفى عن الله تعالى أن تكون صفاته عین ذاته أو غير ذاته.
ومراده أن ذلك غير مفهوم ولا معقول ولا محسوس، بل هو غیب مطلق يجب الإيمان به على ما هو عليه.
لا أن مراده أن لذلك مفهوما عقليا كالواحد من العشرة لا هو عين العشرة ولا غيرها كما زعمه بعضهم.
ولا كما قال الشيخ قدس الله سره في أوائل كتابه : «الفتوحات المكية» في عقائد أهل الاختصاص.
وأما قول القائل : لا هي ولا هو أغيار له، فكلام في غاية البعد، فإنه دل صاحب هذا المذهب
على إثبات الزائد وهو الغير بلا شك إلا أنه أنكر هذا الإطلاق لا غير، انتهى .
نعم هو كلام في غاية البعد إن أريد له مفهوم عقلي غير مجرد التنزيه ، وأما حيث أريد به التنزيه الله تعالى كما ذكرنا، فلا يكون صاحبه دل على إثبات الزائد وهو الغير.
والذي نعتقده في الأشعري رحمه الله تعالى أنه إمام أهل السنة وأن مذهبه هو مذهب الصالحين، وكذلك مذهب الإمام الماتريدي وأتباعهما رحمهم الله تعالى، وهو مجرد التفويض إلى الله تعالى في جميع الدين.
والإيمان بالأمر على ما هو عليه من غير خوض فيه بالآراء العقلية، وهذه الفرقة الناجية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما عداها من الفرق كلهم في النار كما ورد صريح الحديث الشريف بذلك.
وأما جميع الأبحاث الواردة عن الأشعري والماتريدي واتباعهما رضي الله عنهم المفضية أن تكون مذهب مستقلا جاريا على القوانين العقلية مخالفة لجميع مذاهب الفرق الضالة، فليس ذلك كما يزعمه الجهال من المقلدين للأشعري والماتريدي رحمهما الله تعالى، بل كلما تكلم به الأشعري والماتريدي إنما ذلك رد على المخالفين الفرق الناجية، وتشتيت للآراء المبتدعة الخائضين في الدين من قبيل معارضة الفاسد بالفاسد.
ومرجع الأشعري والماتريدي رحمهما الله تعالى إلى مذهب السلف كما ذكرنا، وليس شيء من أبحاثهما مفهوم عقلي عندهما يزيل مذهب السلف من البصائر غير الرد على جميع الفرق الضالة.
الذين خرجوا في حدود الثلاثمائة يتكلمون في الدين بالآراء العقلية والاحتجاج بالمفاهيم الفكرية، ليبطلوا مذهب السلف الصالحين في التسليم في الدين، وقد زخرفوا مذاهبهم بالأبحاث العقلية التي ينقاد إليها كل عاقل، وأضعفوا الإيمان بالغيب في قلوب المؤمنين، وطمسوا أنوار التسليم والتفويض الله تعالى بظلمات الأفكار وعصارات العقول الزائغة عن الصراط المستقيم، وغالطوا أهل الإسلام بقولهم: لا فرق بين الإنسان والحيوان إلا بالعقل.
والعاقل إذا لم يستعمل عقله في أهم أموره وهو الدين فأي فرق بينه وبين الحيوان حيث عطل عقله في أهم أموره وأبطل الحكمة الإلهية في خلق العقول.
وكلامهم هذا الذي ابتدعوا به في الدين ما ليس فيه مأخوذ من أصول مذاهب الفلاسفة وحكماء الطبيعية، وسائر أهل الضلال.
وأما مذاهب السلف الصالحين رضي الله عنهم أجمعين فهو مبني على أن الدين أعظم من أن يدرك بالعقول أو يفهم بالأفكار، سواء كان اعتقادا أو عملا، بل ذلك خدمة إلهية كلف الله تعالى بها أرباب العقول امتحانا لهم وابتلاء لا غير، وحكمة خلق العقول في المكلفين لقبول ذلك الغيب، وهو الدين والإذعان له بالقبول والإيمان به على ما هو عليه، لا ليفهم بها وتتخرج أحكامه على القوانين العقلية، والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء الطريق .
(وبهذا) أي بإثبات العلم زائدة على الذات حيث جعل التعلق له لا للذات (انفصل) القائل بذلك من الخلف المتأخرين (عن) مذهب (المحقق من أهل الله) تعالى الذي يقول: إن العلم الإلهي ليس زائدا على الذات الإلهية على معنى أنه حضرة من حضراتها .
فإذا نسب حدوث التعلق له كان منسوبا إلى الذات العلية على معنى الظهور للعبد لا الوجود من العدم.
وقد بينا القول بأن الصفات عين الذات عند المحققين من أهل الله وعند المبطلين من أهل الضلال.
وذكرنا الفرق بين قول المحققين وقول المبطلين في كتابنا «المطالب الوفية شرح الفرائد السنية» .
(صاحب) نعت للمحقق (الكشف) عن الأمر على ما هو عليه حيث كان علمه بتعليم الله تعالى له لا بحدسه ولا بدرسه ولا بواسطة أبناء جنسه (والوجود) المحض الخالي من تلبيسات الأوهام وتحريفات الأفهام.
فإن الصفات الإلهية عنده عين الذات، والذات غیب مطلق فكذلك الصفات، لأنها الذات مع خصوص ظهور بآثار مخصوصة، وتعین حضور بأنوار منصوصة.
قال رضي الله عنه : ( ثم نرجع إلى الأعطيات فنقول: إن الأعطيات إما ذاتية أو أسمائية. فأما المنح و الهبات و العطايا الذاتية فلا تكون أبدا إلا عن تجل إلهي. و التجلي من الذات لا يكون أبدا إلا بصورة استعداد المتجلي له و غير ذلك لا يكون. فإذن المتجلي له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق، و ما رأى الحق و لا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه: كالمرآة في الشاهد إذا رأيت الصورة فيها لا تراها مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها. فأبرز الله ذلك مثالا نصبه لتجليه الذاتي ليعلم المتجلى له أنه ما رآه. )
(ثم نرجع) من الكلام على أصناف السائلين وعلى مسألة العلم الإلهي (إلى) الكلام على (الأعطيات) الإلهية للعبد وبيانها .
(فنقول) بمعونة الله تعالى (إن الأعطيات) كما تقدم (إما ذاتية وإما أسمائية)، فهي منسوبة إلى ما صدرت عنه من الذات أو الأسماء.
(فأما المنح) جمع منحة (والهبات) جمع هبة (والعطايا) جمع عطية (الذاتية)، أي المنسوبة إلى ذات الله تعالى (فلا تكون أبدا) من ذات الله تعالى للعبد (إلا عن تجلي)، أي ظهور (إلهي) خاص .
وذلك التجلي الإلهي الخاص هو الاسم من أسماء الله تعالى، فالفرق بين العطايا الذاتية والأسمائية من جهة العبد في التلقي والعطايا الذاتية تفيد معرفة بذات الحق تعالى والأسمائية تفيد معرفة بأسمائه تعالى والتجلي من الذات الإلهية على العبد.
(لا يكون) ذلك التجلي (أبدأ إلا بصورة استعداد)، أي تهييء (العبد المتجلى له)، فعلى حسب قوة استعداده لقبول فهم أنوار التجلي الغيبية يكون انكشاف المتجلي الحق عنده ولهذا تختلف التجليات لاختلاف الاستعدادات (غير ذلك) المذكور (لا يكون) أبدا.
(فإذن)، أي حينئذ (المتجلى له) وهو العبد (ما رأى) من الحق تعالى الذي تجلى له (سوى صورته) وهي استعداده لقبول إدراك مقدار ما أدرك من المتجلي علیه الذي هو الحق تعالى (في مرآة الحق) تعالى التي تعطي كل من تجلت عليه صورته فتظهر له بصورته ويرى منها صورته فقط في حال تجليها عليه.
(وما رأى) ذلك العبد المتجلى له (الحق) تعالی أبدا من حيث ما هو في ذاته سبحانه وتعالى، وإنما تجلی عليه فما قدر أن يرى إلا قدر استعداده فرأى قدر استعداده هو صورة هذا الرائی، فرأى صورته فقط لا الحق تعالى.
ولا يمكن هذا الرائي لصورته في مرآة الحق تعالى (أن يراه)، أي يرى الحق تعالى المتجلي عليه بصورته أبدا (مع علمه)، أي علم ذلك الرائي (أنه ما رأي صورته)، الظاهرة له (إلا فيه)، أي في الحق تعالى المتجلي عليه بها (كالمرآة) من الفولاذ والزجاج (في الشاهد) المحسوس.
(إذا رأيت) أيها الإنسان (الصور فيها) سواء كانت صورتك أو صورة غيرك فإنك (لا تراها)، أي لا ترى ذات المرآة لاحتجابها عنك بالصور التي ظهرت لك فيها (مع علمك) من غير شبهة (أنك ما رأيت)، تلك الصور أو صورتك أنت (إلا فيها)، أي في تلك المرآة .
(فأبرز)، أي أظهر (الله) تعالى (ذلك) الذي هو والمرآة والصور التي فيها (مثالا نصبه) سبحانه وتعالى لك (لتجليه)، أي ظهوره (الذاتي)، أي المنسوب إلى الذات العلية (ليعلم المتجلى له) وهو العبد (أنه ما رآه)، أي ما رأى الله تعالى، وإنما رأى صورته التي هي مقدار استعداده لإدراك ذات الحق المتجلية عليه .

رآها في مرآة الذات العلية وما رأى الذات العلية.
قال رضي الله عنه : ( و ما ثم مثال أقرب و لا أشبه بالرؤية و التجلي من هذا. و أجهد في نفسك عند ما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة لا تراه أبدا البتة حتى إن بعض من أدرك مثل هذا في صور المرايا ذهب إلى أن الصورة المرئية بين بصر الرائي و بين المرآة. هذا أعظم ما قدر عليه من العلم، و الأمر كما قلناه و ذهبنا إليه. و قد بينا هذا في الفتوحات المكية و إذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق. فلا تطمع و لا تتعب نفسك في أن ترقى في أعلى من هذا الدرج فما هو ثم أصلا، و ما بعده إلا العدم المحض. فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه و ظهور أحكامها و ليست سوى عينه. فاختلط الأمر و انبهم: فمنا من جهل في علمه فقال: "و العجز عن درك الإدراك إدراك"، و منا من علم فلم يقل مثل هذا و هو أعلى القول، بل أعطاه العلم السكوت، ما أعطاه العجز. و هذا هو أعلى عالم بالله. )
(وما ثم)، أي هناك في عالم الخلق (مثال) لهذا التجلي الذاتي (أقرب) للفهم (ولا أشبه بالرؤية) للذات العلية.
(و) أشبه بنفس (التجلي)، أي الظهور (من هذا) المثال المذكور (واجهد في نفسك) أيها الإنسان (عندما ترى الصورة)، التي ظهرت لك (في المرأة أن ترى) بعينك (جرم المرآة) الذي هو نفس الفولاذ أو الزجاج فإنك (لا تراه أبدأ البتة).
أي قطعة من غير شك ولا شبهة، وذلك لأن الصورة الظاهرة في المرآة تحجب المرأة عنك برؤيتك لها، فلا تری جرم المرأة إلا إذا محيت تلك الصورة منها .
مع أن جرم المرأة أقرب إليك من الصورة الظاهرة فيها، على قول من يجعل ذلك انطباعا في صقالة وجه المرآة، لا في نفس جرم المرآة .
ومن يجعل شعاع البصر يصك وجه المرآة ثم ينعكس على حقيقة الشيء الذي ظهرت صورته بالمرآة، فالصورة التي في المرآة ليست فيها بل في ذات ذلك الشيء، وإنما انعكس شعاع البصر بسبب صقالة وجه المرآة (حتى أن بعض من أدرك) بنفسه (مثل هذا الأمر المذكور في صور المري) جمع مرآة "المرايا"حيث استتر جرم المرآة عن بصر الرائي بسبب ظهور تلك الصورة في المرآة (ذهب) اجتهاده منه (إلى أن الصورة المرئية) في المرآة ليست منطبعة في صقالة وجه المرآة ولا انعكس شعاع البصر بصقالة وجه المرآة إلى نفس تلك الصورة والمقابلة للمرآة ، بل تلك الصورة منطبعة في الهواء الكائن (بین بصر الرائي وبين) جرم (المرآة هذا)  الأمر المذكور.
(أعظم ما)، أي شيء (قدر) هذا البعض القائل بأن الصورة بين البصر والمرآة (عليه من العلم) بذلك (والأمر) في نفسه (كما قلناه) بأن الصورة في المرآة (وذهبنا إليه) لا كما قال غيرنا وذهب إليه.
(وقد بينا هذا) المبحث الذي هو مسألة تجلي ذات الحق تعالى في صورة استعداد العبد كتجلي المرآة على الناظر إليها بصورته غير ذلك لا يكون أبدا.
(في) كتابنا (الفتوحات المكية)، وهو كتاب للشيخ قدس الله سره حافل من أكبر كتبه في نحو أربعة أسفار كبار، بسط فيه الكلام على هذه المسألة وغيرها من المسائل بالتحقيق التام.
(وإذا ذقت)، أي أدركت بذوقك بأن تلبست بذلك حالا لا خيالا (هذا) الأمر الحق في هذه المسألة على حسب ما ذكرناه (ذقت الغاية) في العلم بالتجليات الذاتية التي ليس (فوقها غاية) أبدا من جهة الوضوح والانكشاف (في حق) العبد (المخلوق، فلا تطمع) بعد ذلك أيها العبد المخلوق (ولا تتعب نفسك) بأن تجتهد (في أن ترقی)، أي ترتفع من العلم بالتجليات الذاتية (في أعلى من هذا الدرج) المذكور لك هنا في ضمن هذا المثال المضروب الذي خلقه الله تعالى لهذا الأمر.
(فما هو)، أي الارتقاء في أعلى من هذا الدرج (ثم)، أي هناك في وسع المخلوق (أصلا) في هذا العالم، وأما في عالم الآخرة عند رؤيته تعالى فلا كلام في ذلك.
لأنه غيب وكلامنا الآن في الشهادة، فإن الله تعالی ظاهر وهو منزه عن التصورات، لأنها إمكان والواجب لا إمكان فيه فلا صورة له.
وأنت مصور ممكن ولك حس وعقل مصور مثلك ممكن كإمكانك ، فإذا أحسیت بالظاهر الحق تعالى بأحد حواسك، وعقلته بعقلك ظهرت لك صورتك الاستعدادية في مرآة ذات الظاهر الحق.
فلا يمكنك أن تمحو صورتك الظاهرة لك في مرآة ذات الحق تعالى حتى تری ذات الحق تعالى، على ما هي عليه أبدا.
(وما بعده)، أي بعد هذا المذكور (إلا) شهودك (العدم المحض) فإنك إذا محوت الصورة الظاهرة لك في مرآة ذات الحق تعالی محوت صورتك فرجعت إلى عدمك. فإذا شهدت بعد ذلك لا تشهد إلا عدمك ، فإذا تحققت في شهود عدمك شهدت العدم المحض، و ذات الحق تعالی لیست بعدم بل هي وجود محض.
وأين الوجود من العدم؟
فقد أبعدت عن شهود الحق تعالی حينئذ، فإذا علمت هذا.
(فهو)، أي الحق تعالی (مرآتك) على المعنى المذكور (في رؤيتك نفسك) حيث ظهرت لك صورتك فيه عند رؤيتك له.
فالظاهر لك هو وأنت ما رأيته ولكن رأيت صورتك قائمة به، وصورتك عدم محض، لأنك أنت أيضا عدم محض والموجود هو وحده على ما هو عليه.
ولكن قدرك بقدرته وأرادك بإرادته وجعلك عقلا وحسا من جملة ما قدرك به وأرادك.
فنظرت بعقلك وحسك فلم يكن في الوجود غيره، فرأيت بعقلك وحسك ما هو من شاكلة ذلك، وهو أنت على حسب ما قدرك وأرادك ، وكانت رؤيتك جميع ذلك فيه سبحانه، فاحتجبت عنه بك، فالموجود هو، وأنت على عدمك، والمرئي لك هو، لكن منعتك من رؤيتك له على ما هو عليه صورتك الظاهرة لك به وهي عدم محض.
قال تعالى : "كل شئ هالك إلا وجهه" 88 سورة القصص. أي إلا ذاته.
وأنت أيها المقدر المراد على حسب ما سبق به العلم القديم من حيث تقديرك بالقدرة الأزلية وتخصيصك بما سبق في الإرادة الإلهية، لا من حيث ظهورك لك كما ذكر في مرآة الحق تعالی، لأنك لم تظهر في حقيقة الأمر، وإنما أنت على ما أنت عليه من العدم المحض.
محكوم عليك بجميع مقتضيات أسماء الحق تعالى في الأزل (مرآته) سبحانه وتعالى (في رؤيته) تعالى (أسمائه) الحسنى كلها التي هي قائمة بذاته العلية ليست غير ذاته تعالى، وأنت جملة آثارها.
وقد أراد الحق تعالی أن يرى ذاته في غيره كما يرى الإنسان صورته في المرآة، وهو رأي ذاته في نفسه أزلا وأبدا، فتوجهت أسماؤه الحسنى من الأزل على الحكم بأثار لها على حسب اختلافاتها، فكان جملة ذلك أنت في العدم المحض، ورؤيتك نفسك في وقت مخصوص من جملة ذلك.
فللحق تعالى أزلا وأبدا رؤيتان : رؤية لذاته، ورؤية لأسمائه بذاته فيك.
وأنت على ما أنت عليه من العدم، فأنت مرآته تعالى في رؤية أسمائه لا ذاته (و) في (ظهور أحكامها)، أي ظهور أحكام أسمائه تعالى له من الأزل.
(وليست)، أي أسماؤه سبحانه (سوى عينه)، أي ذاته تعالى فكل اسم منها ذاته تعالى في حضرة مخصوصة من حضراته، وهو مذهب المحققين من أهل الله تعالى كما مر (فاختلط)، أي التبس (الأمر) عليك حيث كان هو مرآتك، فإذا رأيته رأيت نفسك فيه ولم تره من حيث ما هو عليه في ذاته .
وأنت مرآته من حيث ما أنت عليه قبل أن تظهر صورتك لك فيه فإذا رآك من هذه الحيثية رأي ذاته تعالى من حيث أسمائه وحضراته، ولا يراك من حيث أنت ترى نفسك، لأن هذه الحيثية من جملة أحوالك.
ولا يتصف هو بشيء من أحوالك كما لا تتصف أنت بشيء من أحواله (وانبهم)، أي انكتم غاية الانكتام.
(فمنا)، أي من بعضنا معاشر أهل الله (من جهل)، أي تحقق بالجهل (في) عین (علمه) بالله تعالى حيث كان علمه غیر كاشف عن الأمر على ما هو عليه بالنسبة إلى الحق تعالى، وإن كان كاشفة عن الأمر على ما هو عليه ، بالنسبة إليه هو كما قال تعالى في علمنا الحادث به،" والله يعلم وأنتم لا تعلمون" 216 سورة البقرة .
فنفى علمنا به أن يكون علم فكان جهلا مع أنه تعالى قال في موضع آخر عن بعض العلماء به و... "وعلمناه من لدنا علما" 65 سورة الكهف.
فأثبت ما نفي وهو عين علمه أثبته له هناك ، ولهذا قال صاحب هذا المقام : «ما علمی وعلمك في علم الله إلا كما أخذ بمنقاره هذا العصفور من ماء البحر» والذي في منقار العصفور من تلك القطرات اكتسب صورة باطن المنقار، فخرجت عن كونها ماء في البحر.
إذ أصلها لا صورة لها، ولم تخرج عن كونها ماء، فالعبد يعلم ولا يعلم، فانقلاب العلم عین الجهل باعتبار ظهور الصورة ولا صورة في العلم، فالعلم علم وليس بجهل.
(فقال) : يعني ذلك الجاهل في عين علمه (العجز) المحقق عند العبد ذوق كعجز من توجه على صعود السماء وباشر الأسباب التي توهم إمكان الصعود بها فلم يقدر (عن درك) بالتحريك، أي تبعه (الإدراك)، أي الإحاطة بالحق تعالى يقال : عجز عن درك هذا البيع إذا لم يقدر أن يضمن تبعته، وعجز عن درك الإدراك إذا لم يقدر أن يضمن تبعة صحة الإدراك، لأن النفوس تزعم الإدراك وقل أن تعجز عن تبعة صحته ، فإذا عجزت يقال: عجز عن درك الإدراك حيث لم يقدر عليه (إدراك) للحق تعالى، أي إحاطة به.
وهذا الكلام منقول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما سئل بماذا عرفت ربك فقال: «عرفت ربي بربي». ثم قال: «العجز عن درك الإدراك إدراك».
قال تعالى: "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)" سورة آل عمران.
فعلمهم الذي رسخوا فيه عجزهم عن المعرفة بدليل قولهم آمنا به كل من عند ربنا (ومنا)، أي من بعضنا عطف على ما قبله (من علم) في علمه ولم يجهل في عين علمه كالقسم الأول (فلم يقل مثل هذا القول) يعني العجز عن درك الإدراك أدرك (بل أعطاه العلم) بالله تعالى (السكوت) عن نفي علمه والحكم بأنه جهل، أو إثباته علما بالله تعالی على حسب استعداد العالم وما يليق بالمعلوم (كما)، أي الذي (أعطاه العجز) في القسم الأول من السكوت عن نفي ما علمه عنه تعالى أو إثباته ..
والحاصل أن العالم بالله تعالى إذا علم علمه يجد علمه حادثا قاصرا عن مناسبة كونه علما بالكامل القديم.
ثم يسمع في كلام الله تعالى تسميته علما في قوله تعالى : "فاعلم أنه لا إله إلا الله" 19 سورة محمد. "إنما يخشى الله من عباده العلماء" 28 سورة فاطر.
أي به وقوله : "علمناه من لدنا علما " 65 سورة الكهف.
ويسمع نفي العلم عن المحدثات في قوله تعالى "والله يعلم وأنتم لا تعلمون" 216 سورة البقرة . وقوله: "ولا يحيطون به علما" 110 سورة طه. " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء" 225 سورة البقرة.
فإما أن يرجح عنده نفي العلم فيعجز ویسكت عن الوصف عجزة منه ويقول: العجز عن درك الإدراك إدراك.
وإما أن يرجح عنده العلم فلا يعجز، ولكن يعلم ويسكت عن الوصف علما به لقطعه بأن علمه حادث لا يليق بالقديم، وهو قول النبي عليه السلام حارثة : «عرفت فالزم» .
"الحديث : كيف أصبحت يا حارث قال : أصبحت مؤمنا حقا فقال : انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك فقال : قد عزفت نفسي عن الدنيا وأسهرت لذلك ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها فقال : يا حارث عرفت فالزم ثلاثا"
أي الزم ما عرفته ولا تنفيه، وإن كان علمك حادثا لا يليق بالقديم (و) صاحب هذا القسم الثاني (هو أعلى عالم بالله) تعالى، لأنه علم جهده من العلم ولم يقصر، ثم علم علمه الذي علمه فأعطاه السكوت لكونه قاصرا فسكت كما سكت صاحب القسم الأول.
إلا أن الأول سكت عجزا عن العلم، والثاني سكت علما لا عجزا عن العلم، والمراد بالسكوت عدم التكلم بنفسه فلا ينافيه التكلم بربه.
قال الشيخ رضي الله عنه : (و ليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء و الرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى أن الرسل لا يرونه- متى رأوه- إلا من مشكاة خاتم الأولياء فإن الرسالة والنبوة  أعني نبوة التشريع، ورسالته تنقطعان، والولاية لا تنقطع أبدا. فالمرسلون، من كونهم أولياء، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء ، فكيف من دونهم من الأولياء؟)
(وليس هذا العلم) بالله تعالى الذي يتزايد وينمو في كل آن، ومع ذلك يعطي السكوت عن نفيه وإثباته مع القدرة عليه لا مع العجز عنه كالقسم الأول.
فإن صاحب العجز واقف عند عجزه، وصاحب العلم منتقل مع علمه، في أي طور أنزله علمه نزل، فهو محمدي المشرب.
كما قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : "وقل رب زدني علما" 114 سورة طه. والسكوت يجمعهما، فلا كلام لهما وإنما الكلام لربهما لا لهما (إلا الخاتم الرسل) وهو من ختمت به رسل زمانه بأن تقدم في الرسالة من الله تعالى إلى أهل زمان من الأزمان الماضية على أقرانه، سواء وجد له أقران أو لم يوجد.
فموسى عليه السلام خاتم رسل زمانه بالنسبة إلى أخيه هارون وفتاه يوشع بن نون عليهما السلام .
وسليمان خاتم رسل زمانه بالنسبة إلى أبيه داود عليهما السلام، كما فضله على أبيه بزيادة العلم حيث قال تعالى :" ففهمناها سليمان" 79 سورة الأنبياء.
ثم ساوى بينهما بقوله " وكلا آتينا حكما وعلما" 79 سورة الأنبياء.
وكذلك نوح عليه السلام خاتم رسل زمانه وإن لم يوجد في زمانه مثله.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم رسل زمانه وإن لم يكن في زمانه مثله.
ومع هذا هو خاتم النبيين أيضا وخاتم المرسلین بالمعنى الأعم، فختم النبوة وختم الرسالة بالمعنى العام أمران مخصوصان بمحمد ليس لأحد من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.
وختم الرسل أيضا بالمعنى الخاص وهو مقام مخصوص من مقامات المرسلين عليهم السلام، وليس هذا المقام مخصوصا بنبينا محمد عليه السلام بل كان خاتم الرسل أيضا بالمعنى الخاص يعني رسل زمانه كنوح وموسى وسليمان عليهم السلام وأمثالهم من المرسلين، وهذا مراد الشيخ قدس الله سره هنا.
(و) كذلك (خاتم الأولياء) وهو الوارث لخاتم الرسل بالمعنى المذكور (وما يراه)، أي هذا العلم (أحد من الأنبياء والرسل) عليهم السلام بمعنى لا يجده فيه (إلا) مأخوذا (من) نور (مشكاة)، أي طاقة وهي الكوة في الجدار غير النافذة ، والمراد مصباح الحقيقة الروحانية المنفوخة في القلب الجسماني المنسوب إلى (الرسول الخاتم) للرسالة في كل زمان من الأزمنة الماضية على حسب المعنى الذي ذكرناه ، وسبب ذلك سر الوحدة الإلهية السارية في الكثرة الخلقية .
(و) كذلك (لا يراه أحد من الأولياء) في كل زمان إلى يوم القيامة (إلا من) نور (مشكاة الولي الخاتم) للولاية في ذلك الزمان (حتى أن الرسل) عليهم السلام فالأنبياء بالطريق الأولى لأنهم دونهم (لا يرونه)، أي هذا العلم المذكور (متى رأوه) إذ يروه كلهم (إلا) مأخوذا بالاستمداد (من) نور (مشكاة خاتم الأولياء) من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام وهي ولاية النبوة والرسالة لا مطلق الولاية.

والحاصل أن الولاية على ثلاثة أقسام:
ولاية إيمان فقط.
وولاية إيمان ونبوة فقط.
وولاية إيمان ونبوة ورسالة.
والمراد بالأولياء هنا هذا القسم الثالث حتى لا يبقى مناقضة لقوله:
وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم يعني من حيث ختمه للولاية لا للرسالة ، ثم بين ذلك بقوله:
(فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع) لا نبوة التبليغ (ورسالته)، أي التشريع لا التبليغ (ينقطعان) في الزمان لا في الثبوت بحيث يزولان عمن يتصف بهما أبدا، وقد انقطعت النبوة والرسالة بنبوة نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، بحيث لم يبق أحد يتصف بذلك إلى يوم القيامة (والولاية لا تنقطع أبدأ) بل هي باقية إلى يوم القيامة كل من عمل بشروطها التي هي طهارة الظاهر والباطن من البدع والمخالفات، والتحلية بالأعمال الصالحة نالها، ومن لا فلا.
واعلم أن طور الولاية هو الكشف في الحضرات الإلهية، وطور النبوة هو الكشف في الحضرات الملكية.
وطور الرسالة هو الكشف في الحضرات الإنسانية ، ولا يمكن أن يوجد الكشف في الحضرات الملكية والبشرية إلا بعد الكشف في الحضرات الإلهية.
ولهذا لا يكون نبي أو رسول إلا وهو ولي، وأما الكشف في الحضرات الإلهية فإنه يوجد من دون الكشف في الحضرات الملكية والبشرية فيكون وليا وليس بنبي ولا رسول.
وهذه الكشوفات الثلاثة قد تكون مع التشريع بطريق الأصالة وقد تكون مع التبليغ بطريق الوراثة.
كما يشير إليه قوله تعالى: «قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " 108 سورة يوسف.
فقد سوى بينه وبين من اتبعه في البصيرة وليست إلا العلم بما ذكر، والفارق الاتباع والاستقلال، فالمتبوع مشرع والتابع وارث، فالذي ينقطع التشريع الإرث
(فالمرسلون) عليهم السلام (من) جهة (كونهم أولياء)، وهذه جهة العلم بالله تعالى من حيث هو تعالى لا من جهة كونهم أنبياء.
لأنها جهة العلم بالله من حضراته الملكية، ولا من جهة كونهم رسلا، لأنها جهة العلم بالله من حيث حضراته الإنسانية.
وهذا العلم مما يتعلق به تعالى من جهته تعالى من حيث هو في نفسه (لا يرون)، أي يشهدون (ما ذكرناه) من العلم السابق بيانه (إلا من) نور (مشكاة خاتم الأولياء) من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام كما مر.
فإن ختم الولاية في زمان المرسلين الماضين عليهم السلام لم يكن إلا في ولاية النبوة، كولاية الخضر عليه السلام وولايته الرسالة فقط، وأما ولاية الإيمان فحقها في هذه الأمة في كل زمان في كلمة شيئية إلى يوم القيامة.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 2:09 pm

02 – فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

02 – فص حكمة نفثية في كلمة شيثية:
الفقرة الرابعة : 
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)" سورة الأنفال.
حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لو نزل العذاب ما سلم منه إلا عمر».
(و) كذلك (في) قضية (تأبير)، أي تلقيح (النخل) لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لو تركوها لصلحت».
فتركوها فلم تثمر في ذلك العام، فسألوا النبي عليه السلام عن ذلك فقال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».
وسبب ذلك أنهم تركوها لتصلح فما تركوها في حقيقة الأمر ففسدت (فما يلزم) الإنسان (الكامل أن يكون له التقدم) على غيره (في كل شيء) من أنواع الكمال (وفي كل مرتبة) من مراتبه (وإنما نظر الرجال) الكاملين دائما (إلى) رتبة (التقدم) على الغير (في رتبة العلم بالله) تعالى فقط (هنالك)، أي في رتبة العلم بالله تعالى (مطلبهم) مما هو الكمال عندهم والفضائل والمزايا المعتبرة عندهم في ذلك لا غير (وأما حوادث الأكوان) والتقدم فيها من العلم بتأبير النخل ونحوه (فلا تعلق لخواطرهم بها) وليس وجود ذلك مما یكمل عندهم ولا عدمه مما ينقص (فتحقق) في نفسك (ما ذكرناه من الكلام وتحفظ في فمه الاعوجاج الموجب للملام.
ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم) لنا مطلق النبوة (النبوة بالحائط ) المبني (من اللبن وقد كمل) به صلى الله عليه وسلم ؟
وتم بناؤه من حيث هو نبي فقط (سوی موضع لبنة واحدة)  في أعلى ذلك الحائط بها يتم الحائط وتتساوى أطرافه والحائط الذي أشار إليه النبي عليه السلام بقوله: «مثلت لي الجنة في عرض هذا الحائط » فإنه حائط النبوة هو الذي كان أمام النبي عليه السلام، وهو حائط المسجد من تمثل الفاني وظهور الروحاني في صورة الجسماني.
(فكان النبي عليه السلام) من حيث نبوته فقط (تلك اللبنة) الواحدة التي تم بها حائط النبوة، وارتفعت على جميع اللبن لتأخرها عن وضعهم واستكمالهم من حيث هم حائط بها (غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يراها).
أي تلك اللبنة (إلا كما قال: لبنة واحدة) لعدم تبعيته لغيره سوى ما يوحى إليه كما قال تعالى له قل "إن أتبع إلا ما يوحى إلى" 15 سورة يونس.
ولبنة من فضة لغلبة حكمه بالظاهر ، ومن كان قبله لبنة من ذهب لغلبة حكمه بالباطن .
(وأما خاتم الأولياء) ولاية رسالة أو نبوة أو إيمان فدخل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا من حيث هو ولي رسول وولي نبي وولي مؤمن.
وخاتم بالأقسام الثلاثة (فلا بد له من هذه الرؤيا)، من حيث كونه خاتم الأولياء على وجه مخصوص لا على الوجه الذي راه نبينا عليه السلام.
(فیری) خاتم الأولياء المذكور (ما مثله به رسول الله ) في الواقعة الكشفية ويرى بعين قلبه (في الحائط) المذكور (موضع لبنتين) في أعلى الحائط بحيث لو وضعتا كانت إحداهما فوق الأخرى بخلاف نبينا عليه السلام فإنه رأي موضع لبنة واحدة (واللبن) كله الذي بني منه ذلك الحائط (من ذهب) مشتق من الذهاب لكماله في الوجود فهو مشير إلى سر البطون.
(ومن فضة) مشتقة من الفض وهو الكسر والفك لكمالهما في العدم فهي إشارة إلى سر الظهور (فیری) خاتم الأولياء المذكور (اللبنتين اللتين ينقص الحائط ) المذكور (عنهما) في أعلاه (ويكمل بهما) فتساوى أطرافه ويتم بنيانه فهو بالنسبة إلى كل خاتم يراه كذلك (لبنة) العقل في
عالم الشهادة (من فضة ولبنة) الروح في عالم الغيب (من ذهب فلا بد) لخاتم الأولياء (أن يرى نفسه ) بعين قلبه (تنطبع في موضع تينك اللبنتين) عقله في موضع لبنة الفضة وروحه في موضع اللبنة الذهب (فیكون خاتم الأولياء) هو بذاته (نفس تينك اللبنتين فيكمل) به ذلك (الحائط) وتتساوى أطرافه .
قال رضي الله عنه : (و السبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضة ، و هو ظاهره و ما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه، لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فلا بد أن يراه هكذا و هو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول. فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع بكل شيء. فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين». و غيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث.)
(والسبب الموجب لكونه)، أي خاتم الأولياء (يراها)، أي تلك اللبنة الواحدة التي أخبر عنها خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم (لبنتين).
ولا يراها لبنة واحدة كرؤيته عليه السلام (أنه)، أي خاتم الأولياء (تابع لشرع خاتم الرسل في) الحكم (الظاهر) مما فيه أحكام محسوسة ومعقولة .
(وهو موضع اللبنة الفضة) في أعلى الحائط (وهو)، أي موضع لبنة الفضة (ظاهره) أي ظاهر خاتم الأولياء من حيث ما يدرك بحسه وعقله (وما يتبعه) أي يتبع خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم.
(فيه) الضمير راجع إلى ما (من الأحكام) بيان لما يعني أحكام الله تعالى المتعلقة بغيره من العالم المدرك له بالحس والعقل.
(كما هو)، أي خاتم الأولياء (أخذ عن الله) سبحانه لا غير (في السر) بنور إيمانه الذي هو وراء حسه وعقله.
(ما)، أي جميع الحكم الذي (هو بالصورة الظاهرة)، التي هي مجموع الحس والعقل (متبع فيه) لخاتم الرسل من الأحكام ونظيره ما أفصح عنه الصديق رضي الله عنه وفاة النبي عليه الصلاة والسلام فقال : "من كان يعبد محمد، فإن محمدا قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" .
فإن فيه إشارة إلى أنه رضي الله   عنه كان يأخذ عن الله تعالى في السر ما كان يأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم له في الظاهر (لأنه)، أي خاتم الأولياء (يرى)، أي يشهد (الأمر) الإلهي (على ما هو عليه) في حال تنزله إلى مرتبة الخلق ولا ينحجب بالخلق عن الأمر.
(فلا بد أن يراه)، أي الأمر (هكذا)، أي على الصفة المذكورة من الأخذ عن الله في السر (وهو)، أي الأخذ عن الله في السر (موضع اللبنة الذهبية) المذكورة
(في) جهة (الباطن)، أي باطن خاتم الأولياء (فإنه) بسبب باطنه (أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك) المنزل بأمر الله تعالى على الأنبياء بالوحي وعلى الأولياء بالإلهام (الذي) نعت لمفعول محذوف ليأخذ تقديره الوحي.
الذي (يوحى به)، أي يوحيه (إلى الرسول)، فإنه يتلقاه من باطن الرسول في حضرة الأمر الإلهي وينزل عليه به في ظاهره في حضرة الخلق، فيكون ناقلا للوحي منه إليه .
ولهذا اختلفت النبوات وتفاوت الوحي والملك النازل بذلك واحد لم يختلف وهو جبريل عليه السلام (فإن فهمت) يا أيها المريد (ما أشرت به في هذا الكلام من الأسرار الإلهية فقد حصل لك العلم النافع) جدا في الدنيا والآخرة فاشكر الله تعالى على ذلك .
(وكل نبي)من أنبياء الله تعالى (من لدن آدم) عليه السلام (إلى آخر نبي) وهو عیسی ابن مريم عليهما السلام أو خالد بن سنان ولهذا لم يعينه (ما منهم أحد يأخذ) إمداده النبوي (إلا من مشكاة خاتم النبيين) وهو محمد عليه السلام.
(وإن تأخر) عن وجود طینتهم (وجود طينته)، أي صورته الجسمانية عليه السلام في عالم الملك (فإنه بحقيقته) الإنسانية (موجود) قبل تعیین حقائق الأنبياء عليهم السلام في عالم الملكوت (وهو قوله) صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديثه: (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)، أي حقيقته الإنسانية مترددة التعين بين الماء الذي خلق منه والطين الذي خلق منه .
والمراد بين الجزئين الغالبين على عالم نشأته، وإلا فهو من النار والهواء أيضا، ولكنهما ضعيفان فيه واعلم أن الأرواح موجودة قبل الأجسام ولكن وجودا متداخلا كوجود النخلة في النواة ووجود السنبلات الكثيرة في الحبة الواحدة.
فالروح الكل واحد، وهو أول مخلوق منه تتعين جميع الأرواح بتوجه الحقائق العلمية على صورها الروحانية لتميز في عالم الأرواح قبل تميزها في عالم الأجسام.
وحقيقة محمد صلى الله عليه وسلم موجودة متميزة في الرتبة العلمية أولا بكونها حقيقة الحقائق العلمية .
كالحبة بالنسبة إلى السنبلات الكثيرة والنواة بالنسبة إلى ما اشتملت عليه النخلة من الأغصان والأوراق والعراجين وغير ذلك.
ثم لما ظهرت صورة الروح الكلي بالتجلي الرحماني تصورت حقيقة الحقائق بذلك النور الروحاني و تميزت فيها الحقائق تميزة روحانية شعاعية لا ينفصل ولا يتصل كتميز الأغصان دون الثمرات.
ولهذا كان محمد صلى الله عليه وسلم لا يقيده مقام ولا مرتبة في القرب الرحماني لأنه عين الكل وحقيقة جميع الحقائق .
ثم إن ذلك الروح الكلي من حيث هو نور خلقت منه بانقسامه أربعة أقسام كما ورد في الحديث حقائق الملائكة الأربع، ثم تنزل إلى الطبائع الأربع، والعناصر الأربع والمواليد الأربع فظهرت الصورة الجسمانية الآدمية ساترة لحقيقتها الروحانية مظهرة لها.
ثم كشف لها عن جميع ذلك، فظهرت نبوة آدم عليه السلام فصح قوله عليه السلام: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين».
وفي رواية : «ولا آدم ولا ماء ولا طين»، وهو ظاهر لا ريب فيه (وغیره)، أي غير محمد صلى الله عليه وسلم (من الأنبياء عليهم السلام ما كان نبيا إلا حين بعث) بعد الأربعين عاما من ولادته إلا عيسى ابن مريم ويحيى بن زكریا عليهما السلام، فإنهما كانا نبين  بعد الولادة قبل الأربعين.
قال تعالى في عیسی علیه السلام: " قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30"سورة مريم .
وقال تعالى في يحيى عليه السلام :"يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)" سورة مریم
قال رضي الله عنه : ( وكذلك خاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها من كون الله تعالى تسمى «بالولي الحميد ». فخاتم الرسل من حيث ولايته، نسبته مع الخاتم للولاية نسبة الأنبياء و الرسل معه، فإنه الولي الرسول النبي. و خاتم الأولياء الولي الوارث الآخذ عن الأصل المشاهد للمراتب. و هو حسنة من حسنات خاتم المرسل محمد صلى الله عليه وسلم مقدم الجماعة و سيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة. فعين حالا خاصا ما عمم. وفي هذا الحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية ، فإن الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين. ففاز محمد صلى الله عليه وسلم بالسيادة في هذا المقام الخاص. فمن فهم المراتب و المقامات لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام.)
(وكذلك خاتم الأولياء) من الأنواع الثلاثة المذكورة (كان وليا وآدم بين الماء والطين)، لأنه على قدم محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو لمحة من ذلك النور الكلي، جامع له جمعة كلية لا يقيده حال ولا مقام.
يمر على أطوار جميع الأولياء كما يشير إليه قوله تعالى: " يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا" 13 سورة الأحزاب.
يعني إلى حقيقتكم الجامعة من حيث خروجها عن جميع الحقائق وهي حضرة الأحدية فوق الحضرة الواحدية التي تكثرت فيها الحقائق.
(وغیره)، أي غير خاتم الأولياء (من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيله) بالمجاهدة العلمية والعملية في الظاهر والباطن (شرائط الولاية) .
وفيه إشارة إلى أن الولاية بالتحصيل، فهي كسبية لا وهبية، وهو الحق خلافا لمن زعم أنها وهبية كما حققناه في كتابنا «المطالب الوفية» في علم العقائد .
بخلاف النبوة فإنها وهبية باتفاق أهل الحق (من) بيان الشرائط الولاية التخلق بجميع (الأخلاق) جمع خلق بضمتين، وهي الحالة الباطنية الحسنة التي تقبل الزيادة والنقصان من حيث الظهور في الأطوار الإنسانية لا من حيث الثبوت في الأصل الإلهي.
فإن الأخلاق كلها في الأصل حسنة وهي للحق حقيقة وللعبد مجاز، وفيه تطييب و تخبيث باعتبار مصارفها .
ولهذا قال (الإلهية)، أي المنسوبة إلى الإله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن لله مائة خلق وسبعة عشر خلقا من آتاه بخلق منها دخل الجنة»، خرجه السيوطي في الجامع الصغير .
ولهذا لما سئل الإمام الجنيد رضي الله عنه عن المعرفة والعارف قال : "لون الماء لون الإناء". أي هو متخلق بأخلاق الله تعالى حتى كأنه هو، وما هو هو.
وصروف الأخلاق المذكورة في العبد إلى غير مصارفها، وهو الظلم الذي تنزه عنه الرب سبحانه، وهو الذي يقلب الأخلاق مذمومة كالحلم في غير موضعه، والكرم في غير موضعه، وغير ذلك.
وربما يسمى بأسماء آخر كاسم الجبن والخمول والإسراف والتبذير ونحو ذلك.
(في الاتصاف)، أي اتصاف ذلك الولي، على معنى ظهورها في نشأته الإنسانية الجزئية بظهور آثارها وما تقتضيه من المعاملة مع الله ومع الخلق (بها)، أي بتلك الأخلاق كلها، وهي شروط الولاية .
وإن كان العبد مطلقا لا يخلو من بعضها ولو كافرا.
وربما يقال : إن ذلك الخلق الواحد الذي من أتاه به دخل الجنة كما في الحديث السابق هو خلق الإيمان فقط، لأن من أوصافه تعالى المؤمن، فلا ينفع الكافر إذا أتاه بخلق آخر غير الإيمان .
(من) جهة كون الله تعالى في رتبة تنزله (تسمى) عندنا في كتابه العزيز (بالولي)، أي المتولي أمر كل شيء من حيث إنه جامع لجميع تلك الأخلاق فيعامل بها كل شيء على وجه العدل.
فاسم الولي له من هذه الحيثية، فمن تخلق بأخلاقه كان له هذا الاسم من هذه الحيثية أيضا.
كما قال تعالى: "وهو الولي الحميد" 28 سورة الشورى.
فلما ألبس عبده خلعة التفصيل ألبسه أيضا خلعة الإجمال (الحمید)، أي المحمود في جميع أفعاله فأخلاقه كلها حسنة.
من لم يحمد في خلق من أخلاقه كان خلقه ذلك خلقة مذمومة، وعدم الحمد فيه بصرفه في غير مصرفه، والحمد فيه بصرفه في مصرفه كما ذكرنا .
(فخاتم الرسل) بالمعنى العام والخاص كما قدمنا (من حيث ولايته)، أي كونه وليا ولاية رسالة (نسبته) إلى جميع الأولياء من الرسل (مع الختم للولاية)، الذي هو فيه زيادة عليهم (مثل نسبة الأنبياء والرسل) عليهم السلام (معه)، من حيث إنه خاتم للنبيين بالمعنى العام أو الخاص وخاتم للمرسلين كذلك .
يعني أنه يلزم من خاتم الولاية التي هي ولاية المرسلين بالمعنى العام أن يكون خاتم نبوة النبيين أيضا بالمعنى العام.
وخاتم رسالة المرسلين أيضا بالمعنى العام، وكذلك خاتم ولاية المرسلين بالمعنى الخاص يلزم أن يكون خاتم نبوة النبيين بالمعنى الخاص، وخاتم رسالة المرسلين بالمعنى الخاص .
(فإنه)، أي خاتم ولاية المرسلين العام والخاص هو (الولي) لاشتماله على شروط الولاية المذكورة زيادة على التخلق بخلق الإيمان الذي من أتاه به دخل الجنة.
(الرسول) لزيادته على ذلك بالترقي في عالم الحقائق الإنسانية من غير خروج عن مرتبة الولاية، ولهذا كان الولي هو الله والرسول من الله .
كما قال تعالى: "رسول من الله" 2 سورة البينة.
(النبي) لزيادته على طور الولاية بالترقي في عالم الحقائق المنسوبة إلى الملائكة، والدخول في الحضرات الملكوتية مع بقاء مرتبة الولاية، فإن الغفلة لا تخالط قلوب الأنبياء عليهم السلام.
وأما الغين المشار إليه في الحديث «إنه ليغان على قلبي» و مؤاخذة الأنبياء عليهم السلام في مواطن، ونسبة الذنوب إليهم بسبب الغفلة.
فذلك من تراكم أنوار الملكوت الذي في مقام النبوة على قلوبهم، فكان اشتغالا به تعالى عنه تعالى لا بغيره عنه.
فغفلة الأنبياء عليهم السلام يقظة غيرهم، وأما غفلة غيرهم فهي من استيلاء ظلمة الكون على القلوب وغلبة مقتضى عالم الأجسام عليهم .
(وخاتم الأولياء) من غير الأنبياء والمرسلين عليهم السلام يعني خاتم ولاية الإيمان لا ولاية النبوة ولا ولاية الرسالة هو (الولي) لاشتماله على جميع شروط الولاية التي هي الأخلاق المذكورة (الوارث) لخاتم الرسل وخاتم النبيين في الظاهر للعلوم الظاهرة التي تتأدى بالحروف الظلمانية والكلمات اللفظية.
وفي الباطن للأسرار والكشوفات الباطنة التي لا تتأدى إلا بالحروف والكلمات النورية الروحانية.
(الآخذ) جميع ذلك من حيث الباطن (عن الأصل) الحق الحقيقي (المشاهد للمراتب) النبوية والأطوار الرسولية كشهود أهل الأرض كواكب السموات من غير حصولها فيهم.
ولهذا قال عليه السلام: " إنا معاشر الأنبياء لم نورث درهما ولا دينارا ولكن نورث العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ أوفر».
والمراد علم النبوة وعلم الرسالة زيادة على الولاية، فتوريثهم للولاية تخلق ووجدانا، وتوريثهم للنبوة والرسالة علم فقط وشهودا.
ولا يلزم ممن شهد النبوة أن يكون نبيا كمن شهد الربوبية لا يكون ربا، بخلاف من تخلق بها فهو رب كما يقال : رب الدابة ورب المتاع لمن تخلق بربوبية الله تعالى لتلك الدابة وذلك المتاع.
(وهو)، أي خاتم الأولياء ولاية المؤمنین (حسنة) عظيمة (من حسنات خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم ) عملها بشرع الشرائع وإيضاح الوسائل والذرائع.
(مقدم الجماعة) كلهم من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام (وسيد ولد آدم) كما قال عليه السلام : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر» .
ومن أدبه صلى الله عليه وسلم ؟ 
أنه لم يصرح بسيادته على أبيه آدم عليه السلام في هذا الحديث لكون ذكره بما يشهد أنه أب.
وأما غيره من الأنبياء عليهم السلام وإن كانوا آباؤه أيضا لكن لما ذكرهم بلفظ الولد صرح بسيادته عليهم تلویحا بمقام أبوته لهم في عالم الأرواح.
وأما قوله عليه السلام: "آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ، فهو تصريح بسيادته العامة وتلويح بأبوته الروحانية لآدم وبنيه "، ولا تعارض لأبوة آدم عليه السلام فيها ، فلم يلزمه التأدب معه بل الأدب هنا التصريح بالسيادة.
فإن أدب الأب مع ابنه بسيادته عليه، وأدب الابن مع أبيه بترك ذكر ذلك .
(في فتح باب الشفاعة) لكل شافع من نبي أو ملك أو ولي، وذلك بالشفاعة العظمى لأجل فصل القضاء يوم الموقف الأعظم، فهو شافع في الشافعين، وهي في الحقيقة شفاعة منه وحده في جميع المذنبين.
ثم بين حقيقة شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله :
(فعين)، أي محمد (بشفاعته) العامة (حالا خاصا) من أحوال حقیقته الجامعة لجميع الحقائق.
وذلك الحال الخاص وهو الرحمة التي سبقت الغضب من حيث إنها لله في الإطلاق وله في التقييد وهي رحمة الرحيم .
كما قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)" سورة التوبة.
فرحمته المقيدة به هي ذلك الحال الخاص (ما عمم) في جميع الأحوال ولو عمم لبقي الخلق كلهم على ما هم عليه (وفي هذا الحال الخاص) المذكور (تقدم) صلى الله عليه وسلم وهو متخلق به بطريق التقلب (على) غيره من (الأسماء الإلهية) كمن يمسك بيده ذبابة وهو قاصد إهلاكها، ثم يقصد رحمتها والرأفة بها، فيشفع القصد الثاني عند القصد الأول.
أي يصير معه قصدين بعد أن كان الأول قصدا واحدا والاثنان هما الشفع.
فيخفف من يضيق يده على تلك الذبابة وربما أطلقها، ثم بينه بقوله .
(فإن) الاسم (الرحمن)، وهو ظهور الرحيم كمال الظهور حتى يعم المؤمن والكافر، ولهذا الشفاعة في فصل القضاء تعم المؤمن والكافر ولكن المقصود بها المؤمنون والكافرون بالتبعية، وهو الرحمة العامة والحال العام لا الخاص، لأنه من الله زيادة على ما طلبه النبي عليه السلام كما قال تعالى: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " 26 سورة یونس.
فالحسنى لطلبهم لها باحسانهم والزيادة لبقاء الإطلاق في التقييد، فما من العبد مقید وما من الرب مطلق.
ونظيره من النبي صلى الله عليه وسلم في جواب سؤال من دونه له عن ماء البحر، فقال عليه السلام: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».
فأجاب عن أكثر من سؤال السائل للتخلق بأخلاق الله سبحانه (ما شفع)، أي صار شفعة (عند) الاسم (المنتقم) حتى يرفع من انتقامه (في أهل البلاء) في الدين كالكافرين والفاسقين (إلا بعد شفاعة الشافعين) الكثيرين من حيث كثرة الصور الظاهرة في الحقائق الرحيمية المنبعثة من الحقائق الرحمانية، لتتقابل الصور الرحمانية بالصور الانتقامية ، فيخفف البلاء المذكور في ذلك الموقف .
(ففاز محمد صلى الله عليه وسلم) دون غيره من المرسلين (بالسيادة) المشار إليها بقوله عليه السلام: «أنا سيد ولد آدم»الحديث. (في هذا المقام الخاص) الذي هو مقام جمع الأولين والآخرين الذين هم صور جميع الأسماء الإلهية المتخلق بها صلى الله عليه وسلم (فمن فهم المراتب) النبوية والرسولية (والمقامات) الأخروية الإلهية (لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام) في حقيقة الشفاعة وغيرها، ومن لم يفهم ذلك بالفهم الوجداني بل بالفهم الخيالي النفساني فهو بعيد عن ذلك محجوب عن كشف ما هناك.
قال رضي الله عنه : (و أما المنح الأسمائية: فاعلم أن منح الله تعالى خلقه رحمة منه بهم، و هي كلها من الأسماء.
فإما رحمة خالصة كالطيب من الرزق اللذيذ في الدنيا الخالص يوم القيامة، و يعطى ذلك الاسم الرحمن. فهو عطاء رحماني.
و إما رحمة ممتزجة كشرب الدواء الكره الذي يعقب شربه الراحة، و هو عطاء إلهي، فإن العطاء الإلهي لا يتمكن إطلاق عطائه منه من غير أن يكون على يدي سادن من سدنة الأسماء.)
وأما بیان (المنح)، أي العطايا (الاسمائية)، أي التي على يد اسم من أسماء الله تعالى وهو القسم الثاني من مطلق العطاءات .
(فاعلم) يا أيها المريد السالك (أن منح)، أي عطايا (الله) تعالى (خلقه)، أي مخلوقاته كلها (رحمة) خالصة (منه) سبحانه (بهم) لا غير ذلك.
(وهي)، أي المنح (كلها) صادرة (من) حضرة (الأسماء) الإلهية حيث كانت بسبب رحمته بهم، فإن الرحمة من جملة الأسماء باعتبار الرحمن الرحیم بخلاف المنح الذاتية المتقدم ذكرها فإنها لا تعطى غير ذوات المخلوقات من حيث الوجود على حسب ما سبق بيانه .

والرحمة التي هي سبب العطايا الأسمائية على قسمين:
(فإما رحمة خالصة) من شوب عذاب (كالطيب)، أي الحلال (من الرزق اللذيذ) مأكلا كان أو مشربا أو ملبسا أو منكحا أو مسكن أو منظورة أو مسموعة أو مشمومة (في) الحياة (الدنيا الخالص) من شوب التنقيص وكدر الحساب ولحوق الوبال والعقاب (يوم القيامة) كما قال تعالى: " قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)» سورة الأعراف.
(ويعطى ذلك)، أي الرزق المذكور (الاسم الرحمن) المتجلي على عرش الوجود، فإنه خالص الرحمة لا يشوبه شيء، ولهذا لما احتجب هذا الاستواء الرحماني على بعض أهل الأرض أكلوا الحرام في عين كونه طيبا لذيذا. لأن الحرام حكم الله عليهم لا عين المأكول.
ومن هذا القبيل كل ما لا يلائم فإنه من تجلي اسم آخر مما سمي به الرحمن المتجلي على العرش، لأنه جامع لجميع الأسماء كاسم الله بحكم قوله تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى"110 سورة الإسراء.
فلو تمحض هذا التجلي الرحماني لأعطى الرحمة المحضة.
(فهو)، أي ذلك العطاء حينئذ (عطاء رحماني) وهو لأهل العناية الذين يمشون على أرض الجسمانيات والروحانيات هونا، أي بالهوينا من غير تكلف ولا تعسف كما وصفهم الله تعالى بقوله : "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " 63 سورة الفرقان. إلى آخره .
(وإما رحمة ممتزجة) بعذاب (كشرب الدواء الكريه) في الطعم والرائحة (الذي يعقب شربه) للمريض (الراحة) بالشفاء من مرضه (وهو عطاء إلهي).
لأنه يعطيه الاسم الإله الموصوف به الرحمن المتجلي على العرش من حيث ظهوره ولكل شيء بما ينفعه، ولا أنفع للعبد من الذل وهو العبادة ، فالإله هو المعبود طوعا أو كرها، فرحمته ممزوجة بعذاب .
(فإن العطاء الإلهي)، أي المنسوب إلى الحضرة الإلهية (لا يمكن إطلاق) نسبة (عطائه منه) لشيء مطلقا (من غير أن يكون) ذلك العطاء الإلهي صادرة من الإله تعالى (على يدي سادن)، أي خادم (من سدنة)، أي خدمة (الأسماء) الإلهية فالحضرة الإلهية بمنزلة الدار الواسعة، والحاضر فيها من حيث هو إله تخدمه جميع الأسماء بالعطاء والمنع، إذ لا يمكن أن يناول سائلا هو بنفسه من غیر واسطة خادم لكمال عظمته وحقارة السائل .
قال رضي الله عنه : (فتارة يعطي الله العبد على يدي الرحمن فيخلص العطاء من الشوب الذي لا يلائم الطبع في الوقت أو لا ينيل الغرض و ما أشبه ذلك. و تارة يعطي الله على يدي الواسع فيعم، أو على يدي الحكيم فينظر في الأصلح في الوقت، أو على يدي الوهاب ، فيعطي لينعم لا يكون مع الواهب تكليف المعطى له بعوض على ذلك من شكر أو عمل، أو على يدي الجبار فينظر في الموطن و ما يستحقه، أو على يدي الغفار فينظر المحل و ما هو عليه. فإن كان على حال يستحق العقوبة فيستره عنها، أو على حال لا يستحق العقوبة فيستره عن حال يستحق العقوبة فيسمى معصوما و معتنى به و محفوظا و غير ذلك مما شاكل هذا النوع.)
فتارة يعطي الله تعالى (العبد على يدي) الاسم (الرحمن) من حيث إن ذلك العبد مستعد لقبول تجلي الاسم الرحمن سواء علم العبد ذلك أو لم يعلم (فيخلص العطاء) حينئذ لذلك العبد (من الشوب)، أي الخلط والمزج بالكريه (الذي لا يلائم الطبع) البشري (في) ذلك (الوقت أو لا ينيل)

يتبع الفقرة الخامسة
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 02 – فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الخامس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 2:25 pm

02 – فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الخامس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

02 – فص حكمة نفثية في كلمة شيثية:
ذلك العبد (الغرض) الذي يؤمله (وما أشبه ذلك) من أنواع الشوب المذموم عند ذلك العبد كالتأخير أو التقديم.
وتارة يعطى الله سبحانه العبد (على يدي) الاسم (الواسع) من حيث استعداد العبد لذلك، فإن الدعاء بالاستعداد منصرف إلى ذلك الاسم الذي عنده مقتضى ذلك
الاستعداد، والله تعالى عنده حوائج جميع السائلين يجيبهم بأسمائه المناسبة لاستعداداتهم (فيعم) ذلك الاسم حينئذ ذلك العبد في ظاهره وباطنه في جميع أحواله إلى آخر مدته .
(أو) يعطي الله تعالى العبد (على يدي) الاسم (الحكيم) من حيث استعداد ذلك العبد له (فينظر) ذلك الاسم حينئذ (في) الأمر (الأصلح للعبد في ذلك الوقت)، فيكون عطاؤه منه (أو) يعطي تعالى العبد (على يدي) الاسم (الوهاب) .
حيث استعد له العبد (فيعطی) ذلك الاسم (لينعم ولا يكون مع) إعطاء (الوهاب) سبحانه وتعالى (تكليف المعطى له) الذي هو ذلك العبد (بعوض على ذلك) الأمر الموهوب له (من شكر) يوجبه عليه بالقلب أو باللسان.
(أو عمل) يطلبه منه سر الهبة بل تكون الهبة لمحض العطاء والامتنان (أو) يعطي (على يدي) الاسم (الجبار) للعبد المستعد لذلك (فينظر) ذلك الاسم في الموطن الذي فيه ذلك العبد وما يستحقه فيجبر كسره بما هو اللائق به .
(أو على يدي) الاسم (الغفار) للعبد المستعد للمغفرة (فينظر) ذلك الاسم في المحل الذي قام فيه العبد متصف بما يقتضيه ذلك المحل من المخالفة (وما هو عليه) ذلك العبد بعد صدور المخالفة منه من الحالة من ندم أو إصرار.
(فإن كان)، أي ذلك العبد (على حال يستحق العقوبة)، لإصراره على المخالفة، وقد أعطاه الغفار على وجه الرحمة به (فيستره)، أي ذلك العبد (عنها)، أي عن العقوبة بحيث يجعله على حالة لا تليق به العقوبة لحسنة عظيمة فعلها ونحو ذلك.
(أو) كان ذلك العبد (على حال لا يستحق العقوبة) لندم على المخالفة (فيستره) سبحانه وتعالى بمحض عنايته (عن حال يستحق العقوبة) فيه (ويسمى العبد) حينئذ (معصومة) في ملك ونبي (ومعتني به ومحفوظة) في صديق وولي (وغير ذلك) من بقية الأسماء الإلهية (مما يشاكل هذا النوع من تفصيل الإعطاءات على حسب
الأسماء المعطية .
قال رضي الله عنه : ( و المعطي هو الله من حيث ما هو خازن لما عنده في خزائنه. فما يخرجه إلا بقدر معلوم على يدي اسم خاص بذلك الأمر. «ف أعطى كل شي ء خلقه» على يدي العدل و إخوانه. و أسماء الله لا تتناهى لأنها تعلم بما يكون عنها- و ما يكون عنها غير متناه- و إن كانت ترجع إلى أصول متناهية هي أمهات الأسماء أو حضرات الأسماء. و على الحقيقة فما ثم إلا حقيقة واحدة تقبل جميع هذه النسب و الإضافات التي يكنى عنها بالأسماء الإلهية. و الحقيقة تعطي أن يكون لكل اسم يظهر، إلى ما لا يتناهى، حقيقة يتميز بها عن اسم آخر، تلك الحقيقة التي بها يتميز هي الاسم عينه لا ما يقع فيه الاشتراك،)
(والمعطي) من تلك الأسماء كلها في عالم الغيب (هو الله) تعالى في حضرة البطون كما أن هذه الأسماء له تعالى هي حضرة الظهور (من حيث ما هو) سبحانه وتعالى (خازن)، أي جامع (لما عنده) من حوائج السائلين كلها (في خزائنه) المملوءة مما لا يتناهی (فما يخرجه)، أي ذلك الذي في خزائنه لعباده (إلا بقدر)، أي بمقدار (معلوم) له قبل إخراجه لا يزيد ولا ينقص .
كما قال تعالى : " وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم" 21 سورة الحجر .
(على يدي اسم) إلهي (خاص بذلك الأمر) المخصوص بحسب التفصيل المذكور (فو أعطى ) الله سبحانه ("وكل شيء خلقه")، أي ما خلقه له يعني قدره مما يليق به (على يدي الاسم العدل)، فلم يظلم شيئا (وأخواته) كالاسم الحكم والوالي والقهار ونحو ذلك .
(وأسماء الله) تعالى (وإن كانت لا تتناهی) كثرة، فمنها ظواهر، ومنها ضمائر، والظواهر منها ما ورد في الشرع بلفظه، ومنها ما لم يرد بلفظه، ولكن وقعت الإشارة إليه كقوله تعالى :" يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد" 15 سورة فاطر.
قال الشيخ الأكبر صاحب المتن قدس الله سره في هذه الآية، قد تسمى الله تعالى فيها باسم كل شيء.
ومراده من حيث يفتقر إليه العبد، فإنه لا يفتقر إلا إلى الله تعالی كما نطقت به هذه الآية، فالاسم الواقع على ذلك الشيء المفتقر إليه من جملة أسماء الله تعالى التي لم يرد التصريح بها في الشرع. وإنما ورد الرمز إليها بطريق الإشارة.
وقد أخبرني بعض الإخوان أنه رأى في منامه قبر إبراهيم الخليل وقبر هود عليه السلام وأنه جالس بينهما يتلو أسماء الله الحسنى حتى فرغ منها كلها، فسكت .
فسمع من القبرين من يقول له : أكملها . ثم سمع إكمالها من القبرين بكلام يخرج على منوال ما تلاها.
فإنه قال : اللطيف الخبير العلي العظيم إلى آخره فقيل له : الكافر الفاجر الفاسق التاجر البائع المشتري، وهكذا إلى آخره من هذا القبيل ما لا يحصى، فأصبح خائفا من ذلك مذعورا، فقص علي هذه الرؤيا بحقيقتها وعرفته الأمر على ما هو عليه ، فاعترف به وهو يؤيد ما ذكر هنا.
والأسماء الضمائر منها المتصل كالياء في قوله تعالى: " يا عبادي " [العنكبوت: 56]، والكاف في قول النبي عليه السلام في دعائه: «وأسعدني برؤياك».
وإنا من قوله تعالى: " إنا أنزلناه " [يوسف: 12] والمنفصل كانا في قوله تعالى: "إني أنا الله" [القصص : 30]، وأنت في قوله تعالى: "أنت ولينا" [الأعراف: 155]، وهو في قوله: "هو الله" [الكهف: 38] ونحن في قوله : "إنا نحن نزلنا الذكر" [الحجر: 9]، هذا ما ورد في الشرع بلفظه، ونظيره جميع جنس ذلك مما لم يرد التصريح به ورمز له في الآية المذكورة ونحوها .
"رواية الديلمي : "اللهم اجعلني أخشاك كأنني أراك أبدا حتى ألقاك وأسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك وأخر لي في قضائك وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت واجعل غناي في نفسي"."
(لأنها)، أي أسماء الله تعالى (تعلم) بالبناء للمفعول أي تعرف عند الإنسان وغیره (بما يكون) بالتخفيف، أو التشديد، أي يوجد (عنها) من سائر المخلوقات وتتميز بذلك عن بعضها بعضا لأن الأثر دليل على المؤثر وكاشف عنه ومميز له عن غيره (وما يكون عنها) من جميع الكائنات إلى الأبد.
(غير متناه) فهي غير متناهية لأجل ذلك (وإن كانت ترجع) تلك الأسماء التي لا تتناهى (إلى أصول) من الأسماء (متناهية) من حيث معرفة عددها لا من جهة عدد ظهوراتها وتجلياتها التي يتكون عنها كل شيء كما سبق.
(هي)، أي تلك الأصول المتناهية عدد (أمهات) ابتدأت ظهور سائر (الأسماء أو حضرات)، أي مظاهر حقائق جميع (الأسماء) بحيث يتحقق بها ظهور الاسم وينكشف لصاحب الشهود والعيان (وعلى الحقيقة) مما هو وراء ما يظهر لكل عقل من الله تعالى .
(فما ثم)، أي هناك يعني في الوجود والثبوت والتحقق (إلا حقيقة)، أي ذات وماهية (واحدة) لا تعدد لها في نفسها أبدا ولا تقبل ذلك لعدم تركبها، وهي مطلقة عن جميع القيود حتى عن الإطلاق أيضا، لأنه قيد لها (تقبل تلك الحقيقة الواحدة
(جميع هذه النسب) جمع نسبة، وهي أمر مفهوم من بين أمرين أو أمور بحيث لو زال أحد ركنیها زالت ولم تبق (والإضافات) جمع إضافة وهي أمر مفهوم من آخر لا بطريق الاستقلال، وقد تكون النسبة بمعنى الإضافة والإضافة بمعنى النسبة (التي) نعت للنسب والإضافات (یكنی عنها) في لسان الشرع المحمدي (بالأسماء الإلهية) فلولا ماهيات الأشياء المعدومة المقدرة من غير بداية ، المترتبة في العدم على حسب ترتبها في الوجود الظاهر، ما سمى الله تعالى بما سمى به من جميع الأسماء فظهرت أسماء الأفعال بظهور تلك الماهيات، فسمي الخالق بظهور المخلوق، وسمي الرزاق بظهور المرزوق، وظهرت أسماء الذات فسمي القدير بظهور قدرة العبد، والمريد بظهور إرادة العبد وهكذا.
وظهرت أسماء السلوب فسمي القدير بظهور حدوث العبد للعبد، وسمی الباقي بظهور فناء العبد له، وسمي الواحد بظهور التعدد إلى آخره، فهذه الأسماء كلها مجرد نسب وإضافات ظهرت وتعينت بالنسبة إلى تلك الماهيات الظاهرة، وبالإضافة إليها هي ظاهرة متعينة أيضا عند الحق تعالى بالنسبة إلى تلك الماهيات قبل ظهورها، وهي معدومة أزلا، على أن الوجود له تعالى الآن وفيما مضى وفيما سبق وفيما سيأتي في التحقيق، وتلك الماهيات المعدومة على ما هي عليه في عدمها الأصلي، ولكن الحق تعالى يقلب القلوب والأبصار تقليبة، ومن جملة أحوال تلك الماهيات المعدومة فهو معدوم مثلها، فبرأها وجوده منسوبة إلى تلك الماهيات المعدومة، والحق على ما هو عليه من الوجود، والماهيات المعدومة على ما هي عليه من العدم، وأسماء الله تعالى على ما هي عليه نسب وإضافات موجودة أزلا وأبدا بوجود هو عین ذاته تعالى لا بوجود آخر مستقل، ولهذا كانت عند الأشعري رحمه الله تعالى : ليست عين الذات ولا غير الذات .
(والحقيقة) التي هي نفس الأمر عند العارف (تعطي أن يكون لكل اسم) من أسماء الله تعالى (يظهر) في الكون بصورة أثره المخصوص (إلى ما لا يتناهى) من الآثار، فإنها لا تتكرر على الأبد فيلزم أن تتكرر الأسماء الظاهرة بها إلى الأبد، فكل ذرة من ذرات الوجود لها في كل لمحة وجود به هي غيرها في التحقيق.
وذلك الوجود يظهر اسما مخصوصا من أسماء الله تعالى، ثم لا يعود ذلك الاسم إلى الظهور أبدا، بل يظهر بعده اسم آخر غيره مشابها له أو غير مشابه ولا مشابهة من كل وجه أصلا (حقيقة)، أي سرابة باطنية في غيب حقيقة الحق تعالى (يتميز) ذلك الاسم (بها) في ظهوره بذلك الأثر المخصوص (عن) حقيقة (اسم آخر) من أسماء الله تعالى.
وتلك الحقيقة التي يتميز بها ذلك الاسم في غيب ذات الحق تعالى (هي) بنفسها ذلك (الاسم عينه لا) هي (ما يقع فيه الاشتراك) بين جميع الأسماء من حقيقة غيب الحق تعالی المسمى بجميع هذه الأسماء من حيث قيام حقائق الأسماء كلها به تعالى، وتلك الحقيقة التي لكل اسم لا تعين لها بنفسها في حقيقة غيب الذات الحق  تعالى، وإنما تعينها بحقيقة غيب الذات على وجه لا يغایر حقيقة غيب الذات، وتلك الصورة الكونية التي هي أثر ذلك الاسم تكشف عن ذلك التعين الغيبي وتميز حقيقة ذلك الاسم عن غيره عند العارف على وجه لا يغير ما كان الأمر عليه في نفسه قبل ذلك التعين وذلك الانكشاف ، فالأمر غيب وشهادة ومستور و مكشوف غير هذا لا یكون .


قال رضي الله عنه : ( كما أن الأعطيات تتميز كل أعطية عن غيرها بشخصيتها، و إن كانت من أصل واحد، فمعلوم أن هذه ما هي هذه الأخرى، و سبب ذلك تميز الأسماء. فما في الحضرة الإلهية لاتساعها شي ء يتكرر أصلا. هذا هو الحق الذي يعول عليه.
و هذا العلم كان علم شيث عليه السلام، و روحه هو الممد لكل من يتكلم في مثل هذا من الأرواح ما عدا روح الخاتم فإنه لا يأتيه المادة إلا من الله لا من روح من الأرواح، بل من روحه تكون المادة لجميع الأرواح، و إن كان لا يعقل ذلك من نفسه في زمان تركيب جسده العنصري. )
(كما أن الأعطيات) التي هي آثار تلك الأسماء (تتميز كل أعطية) منها (عن غيرها بشخصيتها) التي هي صورتها الخاصة بها (وإن كانت) كلها صادرة (من أصل واحد) وهو مرتبة الإمكان (ومعلوم أن هذه) الأعطية بعينها (ما هي هذه) الأعطية (الأخرى) بعينها (وسبب ذلك) التمييز بين العطايا إنما هو (تميز الأسماء) وسبب تميز الأسماء اختلاف الحقائق الأسمائية في غيب الحقيقة الذاتية كما ذكرنا .
(فما في الحضرة الإلهية لإتساعها) الذي لا يتناهى (شيء يتكرر) في ظهوره مرتين (أصلا) بل كل شيء له ظهور واحد مرة واحدة عن اسم واحد إلهي يظهر بظهور ذلك الشيء ثم يبطن ببطونه، فلا يظهر بعد ذلك أبدا لا ذلك الشيء ولا ذلك الاسم بل يظهر شيء آخر باسم آخر وهكذا دائما إلى ما لا يتناهى.
(هذا) الأمر المذكور (هو الحق) المطابق لما هو في نفس الأمر (الذي يعول) بالبناء للمفعول، أي يعول (عليه) أهل التحقيق (وهذا) هو (العلم) الذي (كان علم شیث) النبي (عليه السلام) وهو مشربه الخاص الذي كان يذوق الحقيقة منه (وروحه)، أي شيث عليه السلام (هو الممد) من حيث السبب الظاهر الروحاني لكل من يتكلم عن تحقق ووجدان بكشف وعیان (في مثل هذا) العلم المذكور  (من) بيان لمن (الأرواح) المنفوخة في الأشباح الإنسانية (ما عدا روح الإنسان
الخاتم) للأولياء ولاية رسالة أو ولاية نبوة أو ولاية إيمان (فإنه لا تأتيه المادة) العلمية في هذا الأمر (إلا من) جناب (الله) تعالى وحده (لا من) واسطة (روح من الأرواح) الكاملة مطلقة .
وإن كشف له منهم عن عين ما هو متحقق من فيض الله تعالی لیری منة الله تعالى عليه (بل من روحه) تلك المستمدة من الحق تعالى بلا واسطة تكون المادة العلمية (لجميع الأرواح) الداخلين في جنس ولايته (وإن كان) هو (لا يعقل ذلك) الإمداد لهم (من نفسه في زمان تركیب جسده العنصري) لتقيده بتدبيره في عالم الكون والفساد.

قال رضي الله عنه : ( فهو من حيث حقيقته ورتبته عالم بذلك كله بعينه، من حيث ما هو جاهل به من جهة تركيبه العنصري.
فهو العالم الجاهل، فيقبل الاتصاف بالأضداد كما قبل الأصل الاتصاف بذلك، كالجليل والجميل ، و كالظاهر و الباطن و الأول و الآخر و هو عينه ليس غير. فيعلم لا يعلم، ويدري لا يدري، و يشهد لا يشهد. و بهذا العلم سمي شيث لأن معناه هبة الله.
فبيده مفتاح العطايا على اختلاف أصنافها و نسبها، فإن الله وهبه لآدم أول ما وهبه: و ما وهبه إلا منه لأن الولد سر أبيه.
فمنه خرج و إليه عاد. فما أتاه غريب لمن عقل عن الله. )
(فهو من حيث حقيقته) الأسمائية (ورتبته) الروحانية (عالم ذلك) الإمداد المذكور (كله بعينه) لا بمثله (من حيث ما هو جاهل به من جهة تركيبه العنصري) الكثافة الحجاب الجسماني فإذا تجرد عنه علم ذلك بصفاته الروحانية ورقة اللطيفة النورانية الإنسانية .
(فهو العالم) من حيث حقيقة النورانية (الجاهل) من حيث جسمانيته الظلمانية وهو واحد في ذاته (فيقبل الاتصاف بالأضداد) لكثرة وجوهه واعتباراته (كما قبل الأصل) الحقي الحقيقي (الاتصاف بذلك)، أي بالأضداد (كالجليل) من الجلال وهو منشأ العظمة والهيبة (والجميل) من الجمال وهو منشأ اللطف والأنس وهما اسمان متقابلان مقتضى أحدهما غير مقتضى الآخر.
(وكالظاهر والباطن والأول والآخر) فإن كل واحد يقابل ما بعده .
(وهو)، أي خاتم الأولياء المذكور (عينه)، أي عين الأصل المذكور باعتبار قبوله لجميع الأوصاف التي قبلها الأصل إن لم تعتبر قعوده لذلك الأصل المطلق
(وليس غیره)، أي غير ذلك الأصل إلا إذا اعتبرت فيه قيوده، فإنه غيره حينئ والقيود أمور عدمية ولا اعتبار للعدم فهو عينه من غير ريب.
كما قال تعالى: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين" [البقرة: 2]، ولكن لا بد من اعتبار تلك القيود العدمية في الجملة .
ولهذا قال : (فيعلم) ذلك الولي الخاتم من حيث إطلاقه الحقيقي ولا يعلم من حيث قيوده المجازية (ویدری) باطنة (ولا يدري) ظاهرة (ويشهد) بحقيقته (ولا يشهد) بشريعته فهو المطلق الذي لا يقيده وصف ولا عدم وصف .
وبهذا العلم الشريف المذكور (سمي شيث) النبي عليه السلام (لأن معناه)، أي معنى لفظ شيث باللغة السريانية لغة آدم عليه السلام (الهبة) بمعنى العطية (أي هبة الله) يعني عطيته (فبيده)، أي يد شيث عليه السلام (مفتاح) باب (العطايا) كلها (على) حسب اختلاف أصنافها الذاتية والأسمائية.
(ونسبها) من حيث كونها أسمائية كنسبة الغفار أو الستار أو الحليم أو الحكیم (فإن الله) تعالى (وهبه)، أي شيث عليه السلام (لآدم) عليه السلام (أول ما وهبه) في الحياة الدنيا بعد قبول توبته.
(وما وهبه)، أي الله تعالى آدم عليه السلام (إلا منه)، أي من نفس آدم عليه السلام (لأن الولد سر أبيه) ما يسره أبوه و يضمره، أخرجه عند توجهه بنطفته على رحم الأم، فكان الولد باطن الأب، فكيف ما اتصف باطن الأب يتصف ظاهر الابن.
(فمنه)، أي من أبيه (خرج) الابن إلى عالم الدنيا (وإليه)، أي إلى أبيه (يعود) بعد فناء هويته كالحبة تدفن تحت الأرض فنبتت حشيشة، ثم تخرج تلك الحبة في أعلى الحشيشة، فترجع إلى أصلها بعد فناء الزائد عليها من الساق والورق والقشر
(فما أتاه) أى الأب وهو آدم عليه السلام (غريب) عنه بل أتاه ابنه وهو بضعه منه بل هو خرج منه وأتي إليه وليس بأجنبي عنه.
ولهذا اعتبر الشرع نسب الولادة في الإنسان فخصه بأحكام ليست لغيره وهذا أمر واضح (لمن عقل) كل شيء (عن الله) تعالى بدون واسطة.
فلا خفاء فيه عنده ومن عقل عن غير الله تعالى خفي عليه وشكك فيه .

قال رضي الله عنه : ( وكل عطاء في الكون على هذا المجرى. فما في أحد من الله شيء، وما في أحد من سوى نفسه شي ء وإن تنوعت عليه الصور. وما كل أحد يعرف هذا، وأن الأمر على ذلك، إلا آحاد من أهل الله. فإذا رأيت من يعرف ذلك فاعتمد عليه فذلك هو عين صفاء خلاصة خاصة الخاصة من عموم أهل الله تعالى. فأي صاحب كشف شاهد صورة تلقي إليه ما لم يكن عنده من المعارف وتمنحه ما لم يكن قبل ذلك في يده، فتلك الصورة عينه لا غيره. فمن شجرة نفسه جنى ثمرة علمه، كالصورة الظاهرة منه في مقابلة الجسم الصقيل ليس غيره، إلا أن المحل أو الحضرة التي رأى فيها صورة نفسه تلقى إليه تنقلب من وجه بحقيقة تلك الحضرة كما يظهر الكبير في المرآة الصغيرة صغيرا أو المستطيلة مستطيلا، والمتحركة متحركا. وقد تعطيه انتكاس صورته من حضرة خاصة. )
(وكل عطاء في الكون على هذا المجرى) يكون بحسب استعداد السائل له فإذا أعطيه ، فما أعطى غیر استعداده لا مطلقا، فقد رجع إليه ما خرج منه (فما في أحد) مطلقا من نبي أو ملك أو ولي (من الله) تعالى (شيء) فمن عرفه تعالى منهم إنما عرف استعداده.
فإستعداده ظهر له في نور معرفة الله تعالى التي تعرض لها، ولو لم يتعرض لها بسؤاله ما أعطته استعداده منها (وما في أحد من سوى نفسه) المستعدة لمعرفة (شيء) فلم يعرف أحد غير نفسه.
(وإن تنوعت عليه)، أي على ذلك الأحد الذي استعد لمعرفة غيره فعرف نفسه في نور معرفة غيره فقط (الصور) الكثيرة فالتبس عليه أمره، فإنه يعرف نفسه من قبل في صورة، ثم ظهرت له نفسه في صورة أخرى عند تعرضه لنور معرفته غيره بحسب استعداده .
فكلما تحقق في معرفة غيره تبدلت له نفسه بحسب اختلاف استعدادها في أطوارها بصور كثيرة منسوبة عند نفسه إلى ذلك الغير.
وإنما هي صور نفسه فقط، والغير على ما هو عليه لا يعرف.
(وما كل أحد) ممن تعرض لهذا العلم (يعرف هذا) الأمر لخفائه ودقته على الأفهام وعزته على الأذواق والمواجيد .
(و) لا كل أحد يعرف أن الأمر المذكور في عين الحقيقة (على ذلك) الوصف من غير شك (إلا آحاد) منفردون بالمعرفة المذكورة (من أهل) طريق (الله) تعالی (فإذا رأيت) يا أيها المريد (من يعرف ذلك) الأمر العظيم المذكور ذوقا ووجدانا (فاعتمد عليه) تفلح باتباعه إن شاء الله تعالى.
(فذلك) العارف المذكور (هو عين صفاء خلاصة)، أي زبدة (خاصة الخاصة من عموم أهل) طريق (الله) تعالی.
(فأي صاحب كشف) من العارفین (شاهد) ببصيرته أو ببصره (صورة) معقولة أو محسوسة منسوبة عنده إلى غيره (تلقى إليه) تلك الصورة (ما لم يكن عنده من المعارف) الإلهية (وتمنحه)، أي تعطيه (ما لم يكن قبل ذلك في يده) من العلوم الربانية.
(فتلك الصورة) المذكورة (هي عينه)، أي ذاته وهويته وحقيقته (لا) هي (غيره) كما يزعم لقصوره في الشهود عن معرفة مراتب الوجود.
(فمن شجرة نفسه) التي تنبت الصور المختلفة الكثيرة بعدد المعقولات له والمحسوسات (جنى)، أي اقتطف بيد حسه وحدسه (ثمرة غرسه) النابتة في شجرة نفسه.
(كالصورة الظاهرة منه)، أي من ذلك الإنسان (في مقابلة الجسم الصقيل) من مرآة أو ماء أو صحفة زجاج أو حجر مجلو ونحوه.
(ليس) ذلك الظاهر له (غيره)، أي غير نفسه (إلا أن المحل) الذي ظهرت فيه نفسه له بتلك الصورة (أو الحضرة التي رأى فيها صورة نفسه) ظاهرة له (وهي تلقى إليه) ما لم يكن عنده من المعارف والعلوم .
(تنقلب)، أي تلك الحضرة أو المحل الذي رأى فيه صورة نفسه من وجه غير الوجه الذي به تلك الحضرة.
وذلك المحل مغاير للناظر فيه (بحقيقة تلك الحضرة) التي رأى فيها صورة نفسه فتكون قابلة لأن تريه صورة نفسه بنفسها من غير أن تتغير عما هي عليه من قبل
كما يظهر الشيء الكبير في المرآة كبيرة على ما هو عليه.
(و) الشيء (الصغير صغيرة والمستطيل مستطيلا والمتحرك متحركا)، ولم تتغير المرآة عما هي عليه في نفسها
(وقد تعطيه)، أي تعطي تلك المرآة ذلك الشيء (انعكاس صورته)، أي عكسها، فيظهر فيها الكبير صغيرا والمستدير مستطيلا (من) جهة (حضرة) تلك المرآة (خاصة) كما إذا كانت المرأة صغيرة أو مستطيلة الصفحة، وربما ظهر الشيء الواحد في المرأة الواحدة أشياء كثيرة إذا كانت صفحة المرأة مضلعة .

قال رضي الله عنه : ( وقد تعطيه عين ما يظهر منها فتقابل اليمين منها اليمين من الرائي، وقد يقابل اليمين اليسار و هو الغالب في المرايا بمنزلة العادة في العموم: و بخرق العادة يقابل اليمين اليمين و يظهر الانتكاس. وهذا كله من أعطيات حقيقة الحضرة المتجلى فيها التي أنزلناها منزلة المرايا. فمن عرف استعداده عرف قبوله، وما كل من عرف قبوله يعرف استعداده إلا بعد القبول، و إن كان يعرفه مجملا. إلا أن بعض أهل النظر من أصحاب العقول الضعيفة يرون أن الله، لما ثبت عندهم أنه فعال لما يشاء، جوزوا على الله تعالى ما يناقض الحكمة و ما هو الأمر عليه في نفسه. ولهذا عدل بعض النظار إلى نفي الإمكان و إثبات الوجوب بالذات و بالغير. والمحقق يثبت الإمكان و يعرف حضرته، و الممكن ما هو الممكن و من أين هو ممكن و هو بعينه واجب بالغير، و من أين صح عليه اسم الغير الذي اقتضى له الوجوب. )
ولا يعلم هذا التفصيل إلا العلماء بالله خاصة.
(وقد تعطیه) تلك المرآة (عين ما يظهر) له (منها) من غير انتكاس (فيقابل) الجانب (اليمين منها) الجانب (اليمين من الرائي) وهو نادر في بعض المرائي المصنوعة على الحكمة.
(وقد يقابل الجانب اليمين من المرآة) الجانب (اليسار) من الرائي (وهو الغالب)، أي الكثير (في المرائي) المشهورة (بمنزلة العادة) الجارية (في العموم) بين الناس.
(وبخرق العادة) في المرآة (أن يقابل الجانب اليمين) منها الجانب (اليمين) من الرائي (ويظهر الانتكاس) بأن يظهر الكبير صغيرة والمستدير مستطيلا ونحو ذلك.
(وهذا) الاختلاف (كله) بالصور الكثيرة للحق الواحد المتجلي بذاته في ذاته (من عطاءات) حقيقة (الحضرة) الواحدة (المتجلي) بصيغة اسم المفعول (فيها التي نزلناها) من قبل (منزلة المرايا) الكثيرة المختلفة من حيث كثرة صفاتها أو أسمائها التي لا تعد ولا تحصى.
و (فمن عرف استعداده) بأن عرف حقيقة الاسم من الحضرة التي يتجلى فيها الحق (عرف قبوله) لأن كل اسم له قبول مخصوص من الحق المتجلي فيه، فقبول الاسم اللطيف غير قبول الاسم المنتقم، ونحو ذلك.
والأثر الكوني هو الظاهر بالاسم بين المتجلي والمتجلي عليه المسمى بذلك الاسم.
(وما كل من يعرف قبوله) الذي هو الأثر الكوني المذكور (يعرف استعداده) الذي هو حقيقة ذلك الاسم المخصوص (إلا بعد القبول) بظهور ذلك الأثر المذكور
(وإن كان يعرفه)، أي استعداده (مجملا) من حيث أنه حقيقة اسم إلهي مخصوص ولا يعرف تفصيله بتميزه عن غيره.
(إلا أن بعض أهل النظر)، أي الاستدلال وهم بعض الفرق الضالة (من أصحاب العقول الضعيفة) المحجوبة عن شهود الحق تعالى.
(یرون)، أي يعتقدون (أن الله) تعالى (لما ثبت عندهم) بالأدلة العقلية والبراهين القطعية (أنه فعال لما يشاء) من غير عجز عن شيء مطلقا (جوزوا على الله) تعالى أن يفعل (ما يناقض الحكمة) كما يفعل ما هو على مقتضى الحكمة.
(و) أن يفعل (ما هو الأمر عليه في نفسه) من حيث ثبوته في العدم من غير وجود ولهذا يسمون المعدوم شيئا للثبوت المذكور، فعلى زعمهم هذا كل من يعرف قبوله يعرف استعداده قبل قبوله، مفصلا كان الاستعداد غير مقيد بمقتضى الحكمة.
(ولهذا)، أي لتجويزهم على الله تعالى ما يناقض الحكمة (عدل بعض النظار) منهم (إلى نفي الإمكان) وعدم جعله قسما من أقسام الحكم العقلي وذهبوا إلى حصر الحكم العقلي في الممتنع والواجب (وإثبات الوجوب بالذات) والوجوب (بالغير) فقط.
(والمحقق) من أهل السنة والجماعة (يثبت) قسم (الإمكان) مع الامتناع والوجوب (ويعرف حضرته)، أي الإمكان، وهي البرزخية الفاصلة بين الامتناع والوجوب، أي أن انعدام التحقق بالممتنع وإن وجد التحقق بالواجب.
فبسببه ينقسم الممتنع إلى ممتنع بالذات وممتنع بالغير، وينقسم الواجب إلى واجب بالذات وواجب بالغير، لأن الممكن ليس أصله العدم ولا الوجود فعدمه بالغير ووجوده بالغير.
(و) يعرف (الممكن ما هو الممكن)، فإن حقيقته مركبة من عدم ووجود، فما فيه من المقدار المخصوص من العدم، وما فيه من التحقق والثبوت من الوجود، فهو مظهر للممتنع ومظهر للواجب.
(و) يعرف (من أين هو ممكن) فإن إمكانه من مقابلة الوجوب للامتناع وموازاة الوجود للعدم، بحيث لو تميز كل واحد منهما عن الآخر في بصيرة الممكن، كما هو متميز في نفس الأمر، ارتفعت حقيقة الإمكان من بينهما.
ومثاله في المحسوس: أنك لو وضعت في إناء واحد صبغين صبغة أحمر وصبغة أخضر مثلا، وخلطتهما معا، فإنه يظهر منهما، صبغ ثالث ليس هو واحد منهما وليس هو أمرا زائدا عليهما، وهو حقيقة الممكن.
فإذا ميزت بينهما وفرقت أحدهما عن الآخر، زال ذلك الصبغ الثالث وبقي كل واحد من الصبغين على حاله (وهو)، أي الممكن.
(بعينه واجب الوجود بالغير) إذ لا يتصور عدمه في حال وجوده، وكل ما لا يتصور عدمه فهو واجب.
فالممكن من هذا الوجه واجب، ولكن وجوبه بواجب الوجود بالذات لا بذاته.
فلهذا كان واجب الوجود بالغير، وهذا الوصف له ما دام موجودة، فإذا انعدم صار ممتنع الوجود بالغير لا بالذات.
(و) يعرف (من أين صح عليه)، أي على الممكن (اسم) ذلك (الغير الذي اقتضى له الوجوب).
فإن لفظ الواجب الوجود اسم في الأصل للواجب الوجود بالذات، وانطلاقه على واجب الوجود بالغير بسبب استيلاء ذلك الغير عليه.
بحيث كساه وصفه وهو الوجود وأعطاه اسمه وهو الوجوب.
وذلك في أشرف أحواله، وهو حالة وجوده إذ في حالة عدمه هو ممتنع الوجود بالغير أيضا.
و إمكانه في نفسه لا يفارق أبدا، لأنه وصفه لا باعتبار وجوده ولا باعتبار عدمه (ولا يعلم هذا التفصيل) في الممكن ويفرق بين جهاته ويعرف أنواع استعداداته (إلا العلماء بالله) سبحانه (خاصة) دون غيرهم من العلماء.


قال رضي الله عنه : ( وعلى قدم شيث يكون آخر مولود يولد من هذا النوع الإنساني. و هو حامل أسراره، و ليس بعده ولد في هذا النوع. فهو خاتم الأولاد. 
و تولد معه أخت له فتخرج قبله و يخرج بعدها يكون رأسه عند رجليها. 
و يكون مولده بالصين و لغته لغة أهل بلده. [/b:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 03- فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الأول .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 4:00 pm

03- فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الأول .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

03- فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية

هذا نص الحكمة النوحية
ذكره بعد حكمة شيث عليه السلام، لأن نوح عليه السلام أول أولي العزم من الرسل، فهو أول المظاهر الآدمية من حيث الكمال المطلق.
وبه كانت زيادة آدم عليه السلام في شكره على إعطائه شيث عليه السلام، الذي هو عطية الله تعالى كما قال تعالى: " لئن شكرتم لأزيدنكم" [إبراهيم: 7]، ولهذا كان من أسماء نوح عليه السلام "یشكر من هو مظهر آدم عليه السلام بسبب كثرة شكره لربه" .
(فص حكمة سبوحية) بالتشديد كما مر بيانه (في كلمة نوحية).
إنما اختصت كلمة نوح عليه السلام بالسبوحية، لأن كمال، الثبوت الكوني في الوجود الإمكاني العيني بكمال ظهور الأحدية في حضرة الواحدية ذلك بكمال التسبيح والتنزيه والتقديس.
وكلما كمل ثبوت الوجود الإمكاني العيني قوي عزمه الباطني والظاهري، ولهذا كان نوح عليه السلام أول أولي العزم من الرسل لكمال تنزيهه بكمال ظهور الأحدية له وغلبة حكمها عليه على حكم الواحدية .
قال رضي الله عنه : (اعلم أيدك الله بروح منه أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد و التقييد. فالمنزه إما جاهل و إما صاحب سوء أدب.
ولكن إذا أطلقاه وقالا به، فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزه و وقف عند التنزيه ولم ير غير ذلك فقد أساء الأدب و أكذب الحق والرسل صلوات الله عليهم وهو لا يشعر، و يتخيل أنه في الحاصل و هو من الفائت. وهو كمن آمن ببعض و كفر ببعض، و لا سيما وقد علم أن ألسنة الشرائع الإلهية إذا نطقت في الحق تعالى بما نطقت إنما جاءت به في العموم على المفهوم الأول، و على الخصوص على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ بأي لسان كان في وضع ذلك اللسان.)
(اعلم) أيها المريد السالك (أن التنزيه) وحده أي تبعيد الله تعالی وتبرئته عن مشابهة الحوادث العقلية والحسية (عند أهل الحقائق) الإلهية والمعارف الربانية.
إذ عند غيرهم من علماء النظر هو غاية المراد (في الجناب الإلهي) سبحانه وتعالى
(عين التحديد والتقييد)، لأنه حصر ذات الإله تعالى في ماهية تخالف جميع ماهیات الحوادث العقلية والحسية والحصر قيد وهو ينافي الإطلاق، ولأنه حكم على الذات الإلهية بعدم المشابهة لشيء، فالذات محكوم عليها و كل محكوم عليه محدود و مقید والمحدود والمقيد حادث لا قدیم .
(فالمنزه) فقط لله سبحانه وتعالى (إما جاهل) بأن تنزيهه عين تشبيهه، لأنه ما زاد على أن جعل لله تعالى ماهية أخرى تخالف جميع ماهيات الحوادث في العوارض بعد موافقتها في كونها ماهية .
وما علم من جهله أن كل ماهية من ماهیات الحوادث كذلك وصفها تخالف جميع ماهيات الحوادث في العوارض بعد موافقتها في كونها ماهية.
وإن اشتبهت عوارض بعضها بعوارض بعض، فقد لا تشتبه كعوارض الليل وعوارض النهار، على أن اشتباه العوارض من قصور الإدراك.
فإن الله تعالى لا يتكرر تجليه مطلقا فلا تتكرر العوارض مطلقا، فالتنزيه وصف كل شيء حادث، لأنه عين التشبيه عند الحاذق النبيه الذي لا يحتاج إلى التنبيه .
وإما صاحب سوء أدب مع الله تعالى ورسله إن لم يكن جاهلا بأنه عین التشبيه حيث شبه الله تعالی بخلقه وساوى بينه وبين مصنوعاته عن قصد منه واختيار.
والوارد عنه تعالى وعن رسله عليهم السلام انفراده تعالى بالكمال المطلق الذي لا يتقيد ولا بالإطلاق فإن الإطلاق قيد بعدم القيود فهو إطلاق اعتباري.
وإطلاق الله تعالی حقیقي لا اعتباري فهو إطلاق عن القيود وعن الإطلاق، تنزه تعالى عن القيود فكان مطلقا .
وتنزه عن الإطلاق فكان مقيدا، فهو المطلق المقيد وما هو المطلق المقيد.
وهذا الإطلاق الحقيقي الذي لله تعالى على ما يأتي بيانه إن شاء الله قريبا (ولكن إذا أطلقاه)، أي الجاهل وصاحب سوء الأدب التنزيه فقط على الله تعالی
(وقال) ظاهرا وباطنا (به فالقائل بالشرائع المؤمن) منهما كالجهمية ونحوهم (إذا نزه) الله تعالی فقط (ووقف عند التنزيه) لله تعالى (ولم ير غير ذلك) حقا (فقد أساء الأدب) مع الله تعالى .
حيث قيد الله تعالى وحصر به الماهية الموصوفة بأنها لا تشابه جميع ما عداه من الماهيات الحادثة. ولا يقيد ويحصر إلا الحادث والله تعالی قدیم
(واكذب)، أي نسب إلى الكذب (الحق) تعالى حيث وصف تعالی نفسه تعریف لنا بما نعهد من الأوصاف بأنه سميع بصير قدیر مرید حي متكلم عليم له يد ووجه وعين وجنب إلى غير ذلك.
(و) أكذب (الرسل) أيضا (صلوات الله عليهم) حيث وصفوه تعالى بأن له ضحكا وفرحا وله نزول إلى سماء الدنيا وله قدم وأصابع ونحو ذلك، وإن كان هذا كله لا يشبه أوصافنا التي نعهدها لأنا حادثون وهو تعالی قدیم، ولكن في ذلك نفي التقييد بالتنزيه.
لأن المراد إثبات الإطلاق الحقيقي له تعالى لا التنزيه فقط ولا التشبيه فقط، فالرسل الباطنية وهي العقول شبه ثم تؤه، والرسل الظاهرية وهم الأنبياء عليهم السلام تنزه ثم تشبه، فالمنزه فقط مكذب للرسل الباطنية والظاهرية (وهو لا يشعر) بما يصدر منه لكمال جهله بمقتضى ما هو فيه.
(ويتخيل) بسبب قصوره (أنه) من كمال تنزيهه فقط (في) الأمر (الحاصل) المطلوب منه عقلا و شرعا (وهو في) الأمر (الفائت)، لأنه وقع فيما فر منه إذ هو فار من التشبيه والتحديد والتقييد واقع في ذلك بمجرد التنزيه (وهو كمن آمن ببعض) الكتاب الحق (وكفر ببعض) إذ العقل والشرع مطبقان على التشبيه والتنزيه معا لا التشبيه فقط ولا التنزيه فقط.
فأحدهما وحده إيمان ببعض الشرع وكفر ببعض قال تعالى:  أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)سورة البقرة.
(ولا سيما) يعني خصوصا (وقد علم) ذلك المؤمن القائل بالتنزيه فقط (أن ألسنة) جمع لسان (الشرائع الإلهية إذا نطقت في وصف الحق تعالی) للمكلفين (بما نطقت به من الأسماء والأوصاف (إنما جاءت) من عند الله تعالی (به) خطابة (في جهة العموم) من الناس (على) حسب مقتضى الأمر.
(المفهوم الأول) الذي لا يحتاج إلى تفكر ولا تدبر (وعلی) جهة (الخصوص) من الناس على حسب مقتضى (كل) أمر (مفهوم) لائق بالمقام (يفهم من وجوه)، أي اعتبارات (ذلك اللفظ) الوارد في الشرائع الإلهية (بأي لسان)، أي لغة واصطلاح (كان في وضع ذلك اللسان) الذي وردت تلك الشريعة به.
والحاصل أن كل شريعة من الشرائع التي أرسل الله بها الأنبياء عليهم السلام إلى أمم وردت على حسب لسان تلك الأمة، وعلى مقتضی خطاباتهم في لغتهم المعهودة فيما بينهم.
كما قال تعالى : " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)" سورة إبراهيم.
فجميع ما نطقت به كل شريعة خطابا لمن هي لهم، فهي جارية على حسب فهم العامة منهم على حسب فهم الخاصة أيضا، من غير تقييد بفهم دون فهم، إذ لا حصر ولا قيد للأمر الإلهي والشأن الرباني .
فالمراد ما فهمه الجميع من حيث إنه بعض المراد وليس المراد ما فهمه الجميع من حيث إنه كل المراد، والأمر أعظم من أن يفهمه الجميع، فعلى كل واحد من العامة والخاصة أن يتقي الله ما استطاع بمقدار علمه وعمله، فلا يترك من قدرته شيئا في التقوى، وأن يعترف بالقصور والعجز علما وعملا ظاهرا وباطنا، ولهذا قال تعالى : "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " [البقرة: 286]، يعني مقدار طاقتها فيما تعلم وتعمل من شريعتها الإلهية التي هي أعظم مما تعلم وتعمل.
قال رضي الله عنه : (فإن للحق في كل خلق ظهورا: فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته: وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر، فهو الباطن. فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة. فيؤخذ في حد الإنسان مثلا ظاهره وباطنه، وكذلك كل محدود. فالحق محدود بكل حد .)
(فإن للحق) سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى (في كل خلق) محسوس أو معقول (ظهورا) مخصوصا، لأنه تعالى هو القيوم على كل شيء فالشيء في الحقيقة توجه إرادته تعالى وقدرته على ذلك المعدوم الصرف المكشوف عنه بعلمه سبحانه في حضرة الأزل، وذلك التوجه اقتضى هذا الظهور المخصوص للحق تعالی، فلا شيء غير التوجه المذكور قال تعالى :"كل شىء هالك إلا وجهه" [القصص: 88] (فهو)، أي الحق تعالی (الظاهر) فقط ولا شيء معه في ظهوره من حيث الحقيقة (في كل أمر (مفهوم) لأهل الخصوص وأهل العموم (وهو) تعالی أيضا (الباطن) فقط ولا شيء معه في بطونه سوى العدم الموهوم (عن كل فهم) من أفهام الخاصة أو العامة، لأنه المطلق الحقيقي كما قدمناه (إلا) أنه لا بطون له (عن فهم من قال) تبعة الإشارة قوله تعالى"قل انظروا ماذا في السموات والأرض" [يونس: 101].
وقوله : "وهو الله في السموات وفي الأرض" [الأنعام: 3].
وقوله: "فأينما تولوا فثم وجه الله" [البقرة: 115].
وقوله : "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88] ونحو ذلك .
(إن العالم) العلوي والسفلي المعقول والمحسوس جميعه (صورته) سبحانه وتعالى باعتبار صدوره عن أسمائه الحسنى (وهويته) باعتبار أنه نوره، أي وجوده وثبوته كما قال تعالى:" الله نور السموات والأرض" [النور: 35].
أي منورهما على معنى أنه موجدهما ومثبتهما بوجوده وثبوته، فإن من قال إن العالم صورته تعالی وهويته على التنزيه المطلق فإن الحق غالب عنده من أمره (وهو)، أي العالم عنده حينئذ (الاسم الظاهر) للحق تعالی من حيث إنه يظهر بما فيه من الآثار.
فالآثار اسم الاسم بمنزلة حروف الاسم المكتوبة للملفوظة والملفوظة للمحفوظة وبالعكس فهو المعروف سبحانه وتعالى من هذا الوجه (كما أنه) تعالى (بالمعنى) المشتمل عليه لفظ صور العالم (روح) جميع ما ظهر من الصور العقلية والحسية الروحانية والجسمانية (فهو) تعالى من هذه الجهة (الباطن) فلا يعرف أبدا .
(فنسبته) سبحانه (لما ظهر من) جميع (صور العالم) الروحاني والجسماني العقلي والحسي (نسبة الروح المدبر للصورة) الجسمانية فهو تعالی روح الروح والجسد من حيث التدبير للأرواح والأجساد فيؤخذ سبحانه (في حد)، أي تعريف
(الإنسان مثلا)، وكذلك غيره من أنواع العالم (باطنه)، أي الإنسان كروحه وعقله ونفسه (وظاهره) كصورته وأعضائه وقواه (وكذلك) يؤخذ تعالى في حد (كل محدود) من العالم (فالحق) تعالی حینئذ بهذا الاعتبار المذكور (محدود بكل حد) لدخوله في تمام ثبوت كل شيء وتحققه ظاهرة وباطنة، إذ لا قيام لشيء ولا وجود له إلا به تعالى، والشيء من نفسه عدم صرف.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وصور العالم لا تنضبط ولا يحاط بها ولا تعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورته. فلذلك يجهل حد الحق، فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة، وهذا محال حصوله: فحد الحق محال. وكذلك من شبهه وما نزهه فقد قيده وحدده وما عرفه. ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه بالوصفين على الإجمال- لأنه يستحيل ذلك على التفصيل لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور- فقد عرفه مجملا لا على التفصيل كما عرف نفسه مجملا لا على التفصيل. ولذلك ربط النبي صلى الله عليه وسلم معرفة الحق بمعرفة النفس فقال: «من عرف نفسه عرف ربه»..)
(وقال تعالى: «سنريهم آياتنا في الآفاق» وهو ما خرج عنك «وفي أنفسهم» وهو عينك، «حتى يتبين لهم» أي للناظر «أنه الحق» من حيث إنك صورته وهو روحك. فأنت له كالصورة الجسمية لك، وهو لك كالروح المدبر لصورة جسدك. والحد يشمل الظاهر والباطن منك: فإن الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدبر لها لم تبق إنسانا، ولكن يقال فيها إنها صورة الإنسان، فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة. ولا ينطلق عليها اسم الإنسان إلا بالمجاز لا بالحقيقة.)
(وصور العالم) كثيرة جدا (لا تنضبط ولا يحاط بها) من حيث كلياتها وجزئياتها يعني لا يقدر أحد غير الله تعالى أن يضبطها ويحيط بها (ولا تعلم)، أي لا يعلم أحد غير الله تعالی (حدود)، أي تعاریف (كل صورة منها)، أي من صور العالم إلا على قدر ما حصل لكل عالم) في الخلق بحسب ما علمه الله تعالى (من صوره)، أي العالم (فكذلك)، أي لكون الأمر كذلك (يجهل حد)، أي تعريف (الحق) سبحانه لأنه المطلق في ذاته المقيد بكل صوره في صفاته ، فلا يعرف حتى تعرف كل صورة لأنه محدود بحد كل صورة أي معرفة بتعريفها فهو مجهول الحد.
(فإنه لا يعلم حده)، أي تعريفه (إلا بعلم حد)، أي تعريف (كل صورة) من صور العالم (وهذا)، أي علم حد كل صورة (محال) لا يتصور في العقل (حصوله) الأحد من الخلق لأن العلم بذلك إن حصل كان صورة من جملة الصور، فإن علم
حده احتاج علم العلم أيضا إلى أن يعلم حده، وهكذا فلا بد أن يتقاصر علم المخلوق عن معرفة حد صورة من الصور فلا يعلم حد كل صورة، وهذا في صور العالم الموجود فكيف بما مضى (و) ما سيأتي في الحق سبحانه (محال) لترتبه على المحال.
(وكذلك)، أي كما أن من نزه الحق تعالی فقط وما شبهه فقد قيده وحصره (من شبهه) فقط (وما ژهه فقد قيده وحده)، أي حصره (وما عرفه)، لأنه تعالی غیر مقيد ولا محدود ولا محصور فالذي عرفه مقید محدود محصور فهو غيره تعالى وقد اشتبه عليه به تعالى.
(ومن جمع في معرفته) الله تعالى (بين التنزيه) له تعالى عن كل معقول وكل محسوس (والتشبيه له تعالی) بكل معقول وكل محسوس فالتنزيه ظهور أحدية الحق تعالى، والتشبيه ظهور واحديته، والأحدية والواحدية حضرتان للحق تعالى لا بد من نسبتهما إليه لتحقيق معرفته.
فالأحدية حضرة ذاته الغيبية المجردة عن النعوت والأوصاف الغنية عن العالمين، والواحدية حضرة ذاته العلية من حيث اتصافها بالأوصاف وتسميتها بالأسماء وصدور الأفعال عنها والأحكام، فلا بد من الإيمان به تعالى في الحضرتين .
(ووصفه) تعالى (بالوصفين) : الوصف التنزيهي والوصف التشبيهي، لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي "لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " [الإخلاص: 3 - 4] (علی) حسب (الإجمال) في معرفته تعالى (لأنه يستحيل) عقلا (ذلك) الوصف بالتنزيه والتشبيه معا (على التفصيل) في كل ظهور من ظهوراته تعالى وكل تجلي من تجلياته (لعدم الإحاطة) من أحد من الخلق (بما في العالم) كله (من الصور) المختلفة، ومن عرفه كذلك بالتنزيه والتشبيه على مقتضى ما ظهر له من إطلاقه عن قيد التنزيه وقيد التشبيه (فقد عرفه) سبحانه وتعالى (مجملا لا ) عرفه (على التفصيل كما عرف) ذلك الإنسان (نفسه) فإنه من عرفها أي أدركها إدراكا (مجملا)، لأنه عرف صورة ظاهرة ذات أعضاء و قوی، ووراء ذلك أمر آخر باطنی يسمى نفسا وعقلا وروحا .
وهذا الظاهر صورة ذلك الباطن وذلك الباطن مستولي على الظاهر ومتصرف فيه، وحده، ولا ظهور له في غيره من غير حلول فيه ولا اتحاد منه، فإن الإنسان ينزه باطنه عما ظهر منه ويشبه باطنه بما ظهر منه، فظاهره غير باطنه فهو المنزه، وظاهره عین باطنه فهو المشبه.
وهذه المعرفة إجمالية (لا على) مقتضى (التفصيل) حيث لا يمكنه ذلك في نفسه فكيف في ربه.
(ولذلك ربط النبي صلى الله عليه وسلم معرفة الحق سبحانه بمعرفة النفس) إجمالا بإجمال وتفصيلا بتفصيل.
(فقال: من عرف نفسه) بأنه ما هية غيبية هي سر من أسرار الله تعالی ظاهرة له في صورة بشرية جسمانية ولم تتغير عما هي عليه بسبب ظهورها ذلك، كما لم يتغير النجم في السماء عن كبره الذي يبلغ مقدار الدنيا وأزيد من ذلك بسبب ظهوره لأهل الأرض مقدار الدرهم الصغير بل هذا الصغر هو ذلك الكبر بعينه .
ولكن القصور في الإبصار بسبب حجاب البعد عن شهود مطالع الأنوار (فقد عرف ربه) بأنه ماهية غيبية مطلقة عن جميع القيود وعن هذا الإطلاق أيضا، ومع ذلك فكل شيء صورة ظهوره، وكل محسوس ومعقول مطلع من مطالع نوره.
وهو على ما هو عليه من إطلاقه الحقيقي وإن ظهر كيف ما ظهر فإنه المتصرف في القلوب والمقلب للأبصار في الغيوب، يخلق لعباده رؤية يرونه بها مشتملة على الصور والمقادير بحسب ما سبقت به أقضية الأزلية والتقادير، ويخلق الهم قطعة وجزم بأن ما رأوه غيره، فيضلهم به ويمنع عنهم خيره، ويخلق لهم جهلا بما تقوله العارفون، ويخلق لهم تكذيبا وجحودا لما خلقه من المعرفة والكشف الصحيح في قوم يعلمون "لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون " [الأنبياء: 23].
وقال تعالى :(" سنريهم ") وهو وعد في الدنيا للمؤمنين ووعيد في الآخرة للكافرين " آياتنا " ، أي علاماتنا الدالة علينا، وهي صور العالم المعقولة والمحسوسة من حيث هي صور الحق تعالى لقيامها به تعالى، فإنه قيومها وصورة الشيء قائمة به، فهو تعالی ماهیتها وهي صورته.
وصور الشيء علامات عليه، وهي صور العالم عند الجاهل، والعالم معدوم، وهي صور الحق عند العارف ، والحق موجود، وهي عند الجاهل حجب الحق، وهي عند العارف مظاهر الحق، لأنها صوره، والصور مظاهر الذات ("وفي الأفاق") [فصلت: 53] جمع أفق بضمتين (وهو ما خرج عنك)، أيها الإنسان من جميع الحوادث المعقولة والمحسوسة .
كما قال تعالى: "ولقد رآه بالأفق المبين " [التكوير: 23]، وإنما كان مبينة، لأنه مرآة الأنفس ورؤية النفس في المرآة أبين وأوضح من رؤيتها بدون ذلك.
ولهذا لما أراد الله تعالى أن يوضح الأمر لإبراهيم عليه السلام، أراه جواب سؤاله في غيره فقال له :" فخذ أربعة من الطير" [البقرة: 260] إلى آخره، اعتناء به الكماله، وأراد أن لا يوضح الأمر كمال الإيضاح للغزير عليه السلام، فأراه جواب سؤاله في نفسه، فأماته الله مائة عام، فالأول أراه آياته في الآفاق والثاني أراه آیاته في نفسه ليتبين له أنه الحق.
(و) أراهم آیاته مرة ثانية (في أنفسهم وهو)، أي ما أراهم آياته فيه ثانية من الأنفس (عينك)، أي ذاتك وصفاتك وأسماؤك وأفعالك وأحكامك (حتى يتبين)، أي ينكشف ويظهر (لهم)، أي للناظرين المذكورين (أنه)، أي المرئي الهم بعقلهم وحواسهم هو (الحق) سبحانه وتعالى (من حيث إنك) يا أيها الإنسان
(صورته) لقيامك ظاهرا وباطنا كقيام الصورة بالمتصور بها من غير حلول ولا اتحاد (وهو) سبحانه وتعالى (روحك) التي تدبر روحك ونفسك وعقلك وجسمك بما شاءت على مقتضى الحكمة الأزلية (فأنت) كلك بروحك ونفسك وجسمك (له) تعالى (كالصورة الجسمية لك) من حيث إنك ساتر له وحجاب عليه، ومع ذلك فأنت مظهر له ومجلى لأسمائه الحسنى.
(وهو) سبحانه (لك) يا أيها الإنسان (كالروح المدبر لصورة جسدك)، فإن الروح المدبر لصورة جسدك مستولي على جسدك باطنا وظاهرا، يتصرف فيك بما يشاء من غير أن يكون مشابها لروحك إذ لا حلول فيك ولا اتحاد، ولهذا قال : كالروح المدبر بكاف التشبيه للتقريب، ثم شرع في بيان كون الحق تعالی محدودة بكل حد فقال:
(والحد)، أي التعريف الذي لك (يشمل الظاهر) الصورة والأعضاء (والباطن) كالروح والنفس والعقل (منك) بلا شبهة وإلا لما كان حد تام (فإن الصورة الباقية) الجسمانية من الإنسان (إذا زال عنها الروح المدبر لها) بأن عزل عن الاستيلاء عليها والتصرف فيها بسبب الموت العارض لها (لم تبق) تلك الصورة المذكورة (إنسانا) بل تصير جمادة (ولكن يقال فيها إنها صورة تشبه صورة الإنسان) من حيث إنها كانت صورة إنسان فلما نزعت منها الإنسانية خرجت عن كونها صورة إنسان بالفعل فهي صورته بالقوة (فلا فرق) في التحقيق (بينها وبين صورة) مخروطة من خشب أو منحوتة من (حجارة).
على صورة الإنسان (ولا ينطلق عليها)، أي على تلك الصورة المفارقة لإنسانيتها (اسم الإنسان إلا بالمجاز) والعلاقة المشابهة من حيث الظاهر (لا بالحقيقة) إذ الإنسان اسم المجموع الصورة والحقيقة الروحانية المدبرة للصورة فعند النزاع تلك الحقيقة من الصورة لا تبقى الصورة وحدها يقال لها إنسان .
قال رضي الله عنه : (وصور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلا. فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز كما هو حد الإنسان إذا كان حيا.
وكما أن ظاهر صورة الإنسان تثني بلسانها على روحها ونفسها والمدبر لها، كذلك جعل الله صورة العالم تسبح بحمده ولكن لا نفقه تسبيحهم لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور.)
(وصور العالم) كلها المعقولة منها والمحسوسة (لا يمكن زوال) قيومية (الحق) سبحانه (عنها أصلا) إذ لو زالت لما بقي شيء من تلك الصور مطلقا (فحد)، أي تعريف (الألوهية له)، أي للحق تعالى في نفس حدود صور العالم كلها (بالحقيقة).
إذ جميع الصور له وهو ماهيتها الواحدة القائمة كلها به باطنا وظاهرا روحانياتها وجسمانياتها (لا) حد الألوهية له (بالمجاز)، لأن جميع الصور للعالم المعدوم المعلوم بعلمه تعالى على طريقة المجاز وله تعالى بطريق الحقيقة فجميع حدود تلك الصور له حقيقة وللعالم مجاز (كما هو حد الإنسان).
أي تعريفه (إذا كان حيأ)، فإن ذلك الحد إنما هو الحقيقة الإنسانية وحدها التي بها تلك الصورة الآدمية إنسان على الحقيقة وإن كان يصلح للصورة الآدمية بطريق المجاز .
(وكما أن ظاهر صورة الإنسان) من أعضائه وجوارحه كیدیه ورجليه وعينيه وأذنيه (تثني) من الثناء وهو المدح (بلسانها) القابل أن يكون لها (على روحها)، أي روح تلك الصورة (ونفسها) من حيث إن كل واحد منها هو (المدبر لها)، أي لتلك الصورة الإنسانية الظاهرة المشتملة على تلك الأعضاء المذكورة، فاليد لا تقدر على التناول ونحوه إلا بإمداد من إمداد تلك الروح وتلك النفس.
وكذلك الرجل والعين ونحو ذلك، حتى أن الحياة والقوة السارية في اليد مثلا إنما هي من إمداد تلك الروح والنفس لها.
فربما يقال : إن تلك الروح الإنسانية الواحدة نفخت في كل عضو وجزء من الصورة الآدمية الظاهرة روحا على حدة، وتلك النفس الإنسانية الواحدة جعلت لكل عضو وجزء نفسة مخصوصة لائقة بذلك العضو وذلك الجزء والنفس الإنسانية هي الروح الإنسانية بعينها، غير أنها تنزل إلى حضرة الجسد كتنزل الله تعالى إلى اسمه الرحمن للاستواء على عرش الوجود الإمكاني.
(كذلك جعل الله) تعالى (صور العالم) كلها المعقولة والمحسوسة (تسبح بحمده) لكونه موجدها ومدبرها وممدها على حسب ما يليق بها (ولكن) نحن (لا نفقه)، أي لا نفهم (تسبيحهم)، أي صور العالم (لأنا لا نحيط )علما (بما في العالم من الصور) كلها وإن كنا نسخة منها كلها ، فإنا مشتملون على جميع كليات العالم دون جزئیاته بجزئیات تليق بنا ، ولهذا قال تعالى: "لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس" [غافر : 57] يعني من حيث جزئيات العالم وجزئيات الناس.
وأما الكليات فهي متطابقة والمراد هنا تسبیح الجزئيات لا الكليات.
قال رضي الله عنه : ( (فالكل ألسنة الحق ناطقة بالثناء على الحق.
ولذلك قال: «الحمد لله رب العالمين» أي إليه يرجع عواقب الثناء، فهو المثنى والمثنى عليه:
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيدا ... وإن قلت بالتشبيه كنت محددا
وإن قلت بالأمرين كنت مسددا ... وكنت إماما في المعارف سيدا
فمن قال بالإشفاع كان مشركا ... ومن قال بالإفراد كان موحدا
فإياك والتشبيه إن كنت ثانيا ... وإياك والتنزيه إن كنت مفردا
فما أنت هو: بل أنت هو وتراه في ... عين الأمور مسرحا ومقيدا )
(فالكل)، أي جميع الصور (ألسنة) جمع لسان الحق سبحانه وتعالى على معنى أنه المتصرف بها فيما يريد إظهاره من علمه بمنزلة اللسان للإنسان (ناطقة بالثناء)، أي المدح (على الحق) تعالى، فهو الشكور يشكر نفسه بنفسه (ولذلك قال) سبحانه حامدا نفسه بنفسه (" الحمد لله رب") [الفاتحة: 2]، أي مالك ومدبر أمور جميع ( "العالمين") من كل نوع من أنواع الحوادث (أي إليه) سبحانه وتعالى (ترجع) من جميع العالمين (عواقب)، أي غايات (الثناء)، أي المدح فكل محمود في العالمين عاقبة الحمد الذي حمد به راجعة إليه سبحانه لكونه هو المنعم الحقيقي والكامل الحقيقي على الإطلاق (فهو تعالى (المثنی) بألسنة الأكوان أي المادح (و) هو أيضا (المثنى عليه)، أي على الممدوح بجميع المدائح.
ثم قال رضي الله عنه من نظمه في هذا المقام (فإن قلت: يا أيها الإنسان بالتنزيه) للحق تعالی فقط، أي التقديس والتسبيح عما أدركت بالفعل والحس من غیر تشبيه له تعالی بما أدركت بالعقل والحس (كنت مقيدا) له تعالى، لأن التنزيه قيد والمقصود رفع القيود.
(وإن قلت بالتشبيه) في حقه تعالی يعني أن يشبه شيئا مما أدركت بالعقل أو الحس (كنت محددا) للحق تعالى، أي حاصرة له في حد أي تعريف عقلي، واللله سبحانه وتعالى يستحيل في حقه ذلك (وإن قلت بالأمرين)، أي بالتنزيه مع التشبيه وبالتشبيه مع التنزيه، بحيث يكون الحق تعالی عندك موصوفة بهما معا، ويلزم من ذلك ارتفاعهما فيثبت الإطلاق الحقيقي وهو المراد في حقه تعالى ولهذا قال :
(كنت مسددا)، أي محفوظة من الخطأ والزلل (وكنت إماما)، أي مقتدی بك (في المعارف) الإلهية والحقائق الربانية (سيدا) تسود قومك بالعلوم والفضائل في الدنيا والآخرة.
(فمن قال بالإشفاع) بكسر الهمزة مصدر لشفع الواحد إذا جعله شفعة أي اثنين، يعني من قال بالتنزيه فقط أو قال بالتشبيه فقط فقد أشفع الواحد .
فجعله اثنين ففاته توحيده الذي يدعيه، وذلك فإن من قال بالتنزيه فقط فقد اعتقد بأنه تعالى منزه بتنزيهه ذلك والله تعالى منزه لا بتنزيه أحد، فمتى كان منزهة بتنزيه أحد عند أحد فقد أشفع ذلك المنزه، أي جعله اثنين بتنزيهه ذلك.
على معنى أنه اخترع منزها آخر معه وكذلك من قال بالتشبيه فقط فقد اخترع إلها آخر مشبها فأشفع الإله الواحد الحق ومن أشفع الإله الواحد الحق (كان مشركا) بكسر الراء مشددة ، أي ناسبا الشركة إلى الحق تعالى في الألوهية .
(ومن قال بالإفراد)، أي إفراد الحق تعالی بما هو عليه من الأزل لا يحكم عليه بالتنزيه فقط، ولا يحكم عليه بالتشبيه فقط بل أبقاه على ما هو عليه من الانفراد بما لا يعلمه إلا هو، وعبده بوصفه له بما وصف به نفسه في كتابه وعلى ألسنة رسله عليهم السلام، من تنزيهه مع تشبيهه وتشبيهه مع تنزيهه.
فكان حاكيا لا متحكما و متبعا لا مخترعا (كان موحدا) له سبحانه وتعالى بالتوحيد الصحيح من غير شائبة شرك.
(فإياك) يا أيها الإنسان (والتشبيه) الله تعالی فقط من غير تنزيه يشوبه فيزيل تقييده (إن كنت ثانيا) في زعمك للواحد الحق الذي أنت وعملك الباطل والظاهر صادر عنه فإنه لا ينفعك حينئذ إلا تنزيهك من داء التشبيه (وإياك) أيضا (والتنزيه) الله تعالی فقط من غير تشبيه يشوبه .
فيزيل منه التقيد الذي فيه (إن كنت) في اعتقادك (مفردا) بكسر الراء لله تعالى وأنت وعملك في بصيرتك داخل تحت قدرته محسوب من جملة أفعاله، فإنه لا يكشف لك عن حقائق تجلياته إلا تشبيهك وينفعك من داء تنزيهك.
فما أنت يا أيها الإنسان من حيث ذاتك المعروفة [وفيه لك] وصفاتك المفهومة منك وأسماؤك الظاهرة بك وأفعالك الصادرة عنك وأحكامك المشهودة فيك (هو)، أي الحق سبحانه وتعالى، لأنه غيب عنك وأنت شهادة لنفسك، فالذي نشهده منك ليس هو الحق الغائب عنك (بل أنت) من حيث ذاتك المجهولة لك وصفاتك المستورة عنك وأسماؤك المحجوبة فيك وأفعالك التي جميع ما تعرفه منك صادر عنها.
وأحكامك التي كل أمر ونهي واقع عليك وارد لك منها (هو)، أي الحق تعالی، لأنه غيبك وأنت شهادته فما ظهر منك لك فهو أنت وما غاب منك عنك فهو هو وأنت صورته عندك لا عنده وهو صورتك عنده لا عندك .
(وتراه)، أي تشهده بعين بصيرتك (في عيون)، أي حقائق (أمور)، أي أحوال وشؤون تظهر لك منك (مسرحا) بفتح الراء أي مطلقا من غير تقييد (ومقيدا) بصيغة اسم المفعول، فإذا نطقت وجدته عین نطقك بعد رفع ما أدركته من نطقك وهذا الإسراح أي الإطلاق، وقبل رفع ما أدركته من نطقك هو التقييد.
وهكذا إذا مشيت وإذا أكلت وإذا شربت وما أشبه ذلك، وأنت ضابط ببصيرتك إطلاقه الحقيقي المبرأ من التنزيه والتشبيه (قال) الله تعالى ("ليس كمثله")، أي كذاته أو صفاته ("شيء") مما هو صورته عندنا.
(فنزه) نفسه بنفسه (وهو) سبحانه وتعالى (السميع) الموصوف بالسمع فلا سمیع غيره، لأن تعريف الطرفين يفيد الحصر وهو (البصير) أيضا ، أي الموصوف بالبصر فلا بصير غيره (فشبه) نفسه بنفسه حيث أخبر أنه كل سميع وكل بصیر.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 4:01 pm

03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

03- فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية:
قال الشيخ رضي الله عنه : (قال الله تعالى «ليس كمثله شي ء» فنزه، «وهو السميع البصير» فشبه.
وقال تعالى «ليس كمثله شيء» فشبه وثنى، «وهو السميع البصير» فنزه وأفرد.
لو أن نوحا عليه السلام جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه: فدعاهم جهارا ثم دعاهم إسرارا، ثم قال لهم: «استغفروا ربكم إنه كان غفارا».
وقال: «دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا».
وذكر عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته.)
(وقال تعالى): كذلك بمعنى آخر مفهوم من هذه الآية، ومعلوم أن الآيات القرآنية لا يحصرها معنى واحد ولا اثنان بل كل المعاني لها، ولكن يدرك منها العبد ما تيسر له بحسب استعداده كما يشير إليه قوله تعالى : "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله، مددا " [الكهف: 109] ("ليس كمثله ") [الشورى:11]، أي ليس مثل مثله.

فأثبت له مثلا، ومثله جميع العالم المخلوق على صورته من حيث ظهور العالم بتأثير الصفات الإلهية تفصيلا لها، لأن صورة الشيء تفصيل ذاته، ومثل مثله الإنسان الكامل، فإنه مخلوق على صورة جميع العالم ("شيء") إذ ليس وراء الله شيء غير مثله وهو جميع العالم، وأما مثل مثله الذي هو الإنسان الكامل فليس شيئا.

أي موجودة إذ لو كان شيئا لكان من جملة العالم وكان ناقصا لكمال العالم به، وليس هو كاملا في نفسه، وإذا لم يكن موجودة كان مفقودة والموجود عنده هو الحق، فالإنسان الكامل مفقود في عين وجوده والوجود عنده هو الله تعالى وحده (فشبه سبحانه وتعالى نفسه حيث أثبت له المثل (وثنى)، أي حكم على نفسه الواحدة أنها اثنان بإثبات المثل له (وهو)، أي مثل مثله
(السميع) لا غيره بسمعه القديم (البصير) لا غيره ببصره القديم (فنزه) سبحانه وتعالى ذاته العلية عن المثل ومثل المثل حيث نفى عنها القيود التي بها تكون مثلا ومثل مثل (وأفرد)، أي حكم على ذاته بأنها مفردة لا مثل لها ولا مثل مثل كما هي كذلك في نفسها.

والحاصل أن قوله تعالى: "ليس كمثله ، شيء"  [الشوری : 11].
إما أن تكون الكاف صلة فيكون التقدير ليس مثله شيء وهو المعنى الأول فيكون تنزيها.
"وهو السميع البصير"، أي لا غيره والخطاب لنا في لغتنا المفهومة بيننا، ونحن نعرف ما أطلعنا عليه سبحانه بفضله من كل مخلوق سميع بصير من إنسان وغيره ,
فيكون ذلك تشبيها، وإما أن تكون الكاف أصلية ليست زائدة فيكون التقدير ليس مثل مثله شيء وهو المعنى الثاني، وفيه إثبات المثال لا نفيه، بل نفي مثل المثل، فهو تشبيه لا تنزیه وقوله بعده "وهو السميع البصير" [الشورى:11].

أي ذلك المثل الذي لمثله، فهو تنزيه لزوال المثل ومثل المثل عنه، فحيث كان صدر الآية تنزيها كان عجزها تشبيها، وحيث كان صدرها تشبيها كان عجزها تنزيها للإشارة إلى أنه لا بد في حكم الشرع من التنزيه والتشبيه معا كما سبق، والانفراد بأحدهما إيمان ببعض الكتاب وكفر ببعض.
وقال تعالى في نظير ذلك : "هو الأول" [الحديد: 3]، يعني قبل كل شيء فنزه "والأخر" [الحديد: 3]، يعني بعد ذلك في الأول وهو كل شيء إذ لا آخر للأشياء، لأنها لا تتناهى فشبه، "والظاهر" فشبه، "والباطن" فنزه.

وقال : "هو الأول" ، يعني الموجود الأول بالتشبيه إلى الثاني فهو كل شيء إذ لا نهاية للأشياء، ولها بداية فشبه، "والآخر" يعني الموجود بعد ذهاب ذلك الأول فنزه "والظاهر" [الحديد: 3].
يعني بالإيجاد والإمداد فنزه "والباطن" [الحديد: 3] يعني المعلومات العدمية التي قال تعالى عنها " " كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88] .
فكل شيء باطن فشبه وكذلك قال: "الله الصمد" ، أي المقصود بالحوائج كلها، والعالم يقصد بعضه بعضا كما هو المعروف فشبه.
 ثم قال:"ولم يكن له كفوا أحد"  [الإخلاص: 2 و 4]، فنزه، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم التنزيه والتشبيه معا في كلمة قالها في مقام الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه"، فشبه بذكر الرؤية.
فإن المرئي الأشياء، أو نزه بكاف التشبيه لنفي ذلك المرئي، أو شبه بكاف التشبيه والرؤية، ونزه بذكر اسم الله وضميره، ونحو هذا كثير في الآيات والأحاديث.

لو أن نوح عليه السلام (جمع لقومه) حين دعاهم إلى توحيد الله تعالى (بين الدعوتين ): دعوة التنزيه ودعوة التشبيه (لأجابوه) لما دعاهم إليه لأنهم مشبهون بعبادة الأصنام فيحتاجون إلى التنزيه ليكمل لهم التوحيد المطلوب منهم .
ولا ينهون عن التشبيه في أول الأمر لأنهم ما عرفوا من الإله غيره، ولهذا دعا نبينا عليه السلام قريشا إلى إله السماء ووصفه لهم بأوصاف التشبيه ليقرهم على ما هم عليه من التشبيه، لأنه بعض المعرفة.

ثم زادهم التنزيه فأجاب من أجاب وكفر من كفر، ولم ينههم في أول الأمر عن التشبيه لئلا يوحشهم مما عرفوه من الإله، وأما نوح عليه السلام (فدعاهم جهارا) من حيث التنزيه (ثم دعاهم إسرار) من حيث التشبيه ، فقدم لهم التنزيه فظنوا أنه ينهاهم عن التشبيه الذي هو بعض المعرفة فتركوا إجابته .
(ثم قال لهم : استغفروا ربكم)، أي اطلبوا المغفرة من تشبهكم للحق تعالی كما كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله تعالى في اليوم مائة مرة» يعني كلما ترقیت مقاما في تنزيه الله تعالی وجدت الأول تشبيها بالنسبة إلى الثاني فأستغفر من الأول وهكذا.

فهو غين أنوار لا غين أغيار وفيهم غين أغيار وقد طلب نوح عليه السلام من قومه أن يفعلوا كذلك من أول الأمر وهو ممتنع عليهم القصورهم ("إنه ")، أي رب?م (" كان غفارا" ) [نوح: 10] لكل من استغفره (وقال) نوح عليه السلام أيضا ("رب")، أي يا رب ("إني دعوت قومي") إلى توحيدك ومعرفتك
("ليلا" )، أي من حيث ما غابوا عنه من تنزيه الله تعالى ("ونهارا " )، أي من حيث ما شهدوه من التشبيه لكن بعد التنزيه لا قبله ("فلم يزدهم دعائي") لهم إلى التنزيه قبل التشبيه ("إلا فرارا" ) عما دعوتهم إليه [نوح: 5- 6].

(وذكر عن قومه أنهم تصامموا)، أي لم يسمعوا (عن دعوته)، بتكلف منهم لذلك فذلك قوله تعالى: ("وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)") سورة نوح الآية.
(لعلمهم)، أي قومه علما روحانيا لم ينزل إلى نفوسهم ليشعروا به، فجهلت نفوسهم وعلمت أرواحهم بما يجب عليهم من إجابة دعوتهم إلى توحيد الله تعالى من حيث الغيب ومن حيث الشهادة تنزيها في الأول وتشبيها في الثاني .
كما قال ليلا ونهارا، فأمرهم بترك التشبيه ليطلعوا على التنزيه فتكمل لهم المعرفة بالتنزيه والتشبيه.
وأمره لهم بترك التشبيه ليس الترك التشبيه وإنما هو لتحصيل التنزيه، وإلا فالتشبيه بعض المعرفة، وهو لا يأمرهم ببعض المعرفة وينهاهم عن البعض الآخر.

وقد علمت أرواحهم منه ذلك وإن جهلت نفوسهم، فتاصمموا عن ظاهر ما أمرهم به من ترك التشبيه لعلمهم بأن تر?ه غیر مراد.
فامتثلوا قلوبا وأرواحا وخالفوا نفوسا وأشباحا، لأن عند نفوسهم بعض المعرفة وهو التشبيه فلم يتركوا ذلك البعض.
لأنه لا يريد منهم ترك ذلك وإنما يريد الهم تمام المعرفة، فلو علموا أن ترك ذلك يوجب كمال المعرفة لتركوه وتر?ه ستره عنهم.
وهو قوله: "لتغفر لهم"  [نوح: 7]. فإن الغفر هو الستر من معرفتهم الناقصة ?فر وجحود، فهذا هو الكشف عن حقيقة كفرهم.

قال رضي الله عنه : (فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم،
 وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، و الأمر قرآن لا فرقان، و من أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن.
ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. «فـ ليس كمثله شيء» يجمع الأمرين في أمر واحد.
فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية.)
قال رضي الله عنه : (ونوح دعا قومه «ليلا» من حيث عقولهم وروحانيتهم فإنها غيب.
«ونهارا» دعاهم أيضا من حيث ظاهر صورهم وحسهم، وما جمع في الدعوة مثل «ليس كمثله شيء» فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان فزادهم فرارا.
ثم قال عن نفسه إنه دعاهم ليغفر لهم، لا ليكشف لهم، وفهموا ذلك منه صلى الله عليه وسلم.
لذلك «جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم» وهذه كلها صورة الستر التي دعاهم إليها فأجابوا دعوته بالفعل لا بلبيك.
ففي «ليس كمثله شيء» إثبات المثل ونفيه، وبهذا قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم إنه أوتي جوامع الكلم. فما دعا محمد صلى الله عليه وسلم قومه ليلا ونهارا.  بل دعاهم ليلا في نهار ونهارا في ليل.)

قال رضي الله عنه : (فعلم العلماء بالله تعالی) من أهل المعارف الإلهية والحقائق الربانية (ما أن إليه نوح عليه السلام) في ضمن عبارته (في حق قومه) الكافرين به (من الثناء عليهم)، أي مدحهم بإجابة دعوته أرواحا وإن خالفوه أشباحا.
وإن كانوا إنما مكلفون من حيث الأشباح لا من حيث الأرواح، ولهذا كانت العبارة بالذم للظ والإشارة بالمدح للباطن، والتكليف إنما هو بحسب الظاهر والباطن (بلسان الذم هو الظاهر بالنسبة إلى ما هو الظاهر لهم منهم لا بالنسبة إلى ما هو الباطن منهم عنده فإنه ممدوح لا مذموم.
فإن الجميع صادرون عن الحق تعالى، فكلهم كاملون كامل، ولا فرق بينهم من هذه الجهة كما قال تعالى : "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت" [الملك: 3]، وإنما التفاوت بينهم بما وضعه فيهم من علمهم بأنفسهم
وبغيرهم، فالكامل كامل في نفسه وفي رؤيته لنفسه ولغيره، والقاصر كامل في نفسه قاصر في رؤيته لنفسه ولغيره.
وكل واحد منهما قسمان:
فالأول عارف بأنه كامل في نفسه وفي رؤيته وغير عارف بذلك.
والثاني كذلك عارف بأنه كامل في نفسه قاصر في رؤيته وغير عارف بذلك.
ويخرج من هذا الثاني قسم ثالث غير عارف بأنه كامل في نفسه وعارف بأنه قاصر في رؤيته.
والكامل الحقيقي في نفس الأمر والكمال الشرعي في رؤية النفس والغير، وهو المطلوب ببعثة الرسل وإنزال الكتب.
إذ الأول لا دخل للتكليف به لأنه مما يلي الحق تعالى وهذا مما يلي العبد، وما يلي الحق للحق وما يلي العبد للعبد
وعلم نوح عليه السلام (أنهم)، أي قومه (إنما لم يجيبوا دعوته إلى توحيد الله تعالى، لأنه كامل وعارف بأنه كامل، والكامل عارف بمرتبتي الظهور والبطون لما فيها)، أي في دعوته (من الفرقان).
أي التمييز بين مرتبة الظهور ومرتبة البطون الكمال التفصيل بالتنزيه فقط والتشبيه فقط (والأمر) الإلهي الواحد (قرآن)، أي جمع للمرتبتين وإجمال في عين التفصيل بالتنزيه والتشبيه معا (لا فرقان) بالتمييز في كل مرتبة على حدة.
(ومن أقيم)، أي أقامه تعالی بجعله يشهد ذلك ولو بالروح دون : النفس (في) مقام (القرآن) الجامع (لا يصغي) إلى من دعاه (إلى) مقام (الفرقان) الفارق الذي يظهر فيه الكامل بصورة القاصر.
والكل في هيئة البعض كما إذا انقسم قلب الرضى بإزاء كل ذرة من أجزاء حجرها الدائر على ذلك القلب، فإنه كله بتمامه ماسك لكل جزء في الاستدارة على طريقة موزونة، فهو للكل قرآن ولكل ذرة فرقان ، ومن شهده قرآنا لا يرضى أن يشهده فرقانا (وإن كان)، أي الفرقان (فيه)، أي في القرآن، لأنه عينه إذ التفصيل في الإجمال.
(فإن القرآن)، أي الإجمال والكل (يتضمن الفرقان)، أي التفصيل وكل جزء
(والفرقان) الذي هو التفصيل وكل جزء (لا يتضمن القرآن) الذي هو الإجمال والكل والمراد من حيث هو فرقان وتفصيل باعتبار صور ما تفصل إليها، وإلا فإن اعتبرت حقائق ما تفصل إليها.
فالقرآن في كل ما تفصل إليه الفرقان، وهو من هذه الجهة .و قرآن لا فرقان (ولهذا)، أي لكون القرآن جامعة للفرقان دون العكس (ما اختص بالقرآن إلا محمد ) دون غيره من المرسلین علیهم السلام (و) اختصت به أيضا هذه الأمة التي هي "خير أمة أخرجت للناس" [آل عمران : 110].
بإخبار الله تعالی عنها بذلك بقوله تعالى : "كنتم خير أمة أخرجت للناس" الآية دون غيرهم من الأمم فإنهم مأمورون بشهود الفرقان كما جائتهم بذلك أنبياؤهم.
فمأمور كل شاهد بترك ما شهده من حيث مغایرته للمشهود الآخر.
وهذه الأمة مأمورة بشهود الفرقان ، فمأمور كل شاهد منهم بإضافة المشهود الآخر إلى مشهوده الأول، فديننا اليسر ودينهم العسر، وعليهم التشديد وعلينا التخفيف.
(فليس كمثله)، أي ليس مثل أمره الظاهر بصورة كل شيء من محسوس أو معقول (شيء) إذ كل شيء تفصيل لأمره المجمل في حضرة على حدة (فجمع) سبحانه وتعالى الأمر كله (في أمر واحد) فمن كان في بعضه لا يترك ما هو فيه بل لا يقتصر على ما هو عليه ويضم إليه غيره ليكمل من قصوره ويتحقق بحقيقة ظهوره في مطالع نوره (فلو أن نوحا) عليه السلام (يأتي) إلى قومه (بمثل هذه الآية) الجامعة بين التنزيه والتشبيه معا (لفظ)، لأنه جاء بمثل ذلك معنى إذ الحق واحد والمرسلون كلهم مجمعون عليه من حيث الإيمان ولكن عباراتهم مختلفة (أجابوه) من غير تردد الما دعاهم إليه (فإنه)، أي من جاء بمثل هذه الآية وهو محمد صلى الله عليه وسلم (شبه) الله تعالی بإثبات المثل له (ونزه) الله تعالی بنفي المثل عن مثله فكيف عنه (في آية واحدة بل في نصف آية) إذ بقية الآية "وهو السميع البصير" [الشورى: 11].
قال رضي الله عنع : ونوح عليه السلام (دعا قومه) إلى توحيد الله تعالى كما قال ("ليلا ") وهو ما غاب عنهم (من) حيث عالم (عقولهم) الفطرية (وروحانيتهم) الأمرية (فإنها)، أي عقولهم المذكورة وروحانيتهم (غيب) عنهم بحيث لا يشعرون بما تدریه وهو يدعوهم من هذه الحيثية بباطن كلامه (ونهارا دعاهم أيضا) وهو ما حضر عندهم وظهر لهم (من حيث ظاهر صورهم) النفسانية التي يعرفونها.
(وجثثهم) الجسمانية التي يشهدونها وهو يدعوهم من هذه الحيثية بظاهر كلامه (وما جمع) لهم (في الدعوة) بين الظاهر والباطن (بالتشبيه والتنزيه مثل) قوله تعالى ("ليس كمثله شيء")  [الشورى: 11] .
الجامع بين الظاهر وهو المثل المثبت والباطن هو الشيء الذي هو مثل المثل المنفي، والتشبيه بالأول والتنزيه بالثاني.
(فنفرت بواطنهم)، أي بواطن قوم نوح (لهذا الفرقان)، أي التمييز والتفصيل الذي جاءهم به، فإنهم دعاهم إلى التنزيه وحده من حيث عقولهم وإلى التشبيه أيضا وحده من حيث صورهم وأجسامهم.
ولم يجمع لهم بين الشيئين معا كما جمع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، فإن بعض الحق وحده إذا قرر وجدته النفوس نقصانا.
والحق الناقص ليس بحق، وهذا سبب نفور البواطن، فلو ذكر كله جملة أقبلت عليه، لأن عندها بعضه فتستأنس بما عندها فيما ليس عندها (فزادهم فرار) بكثرة دعوته إلى فرقانه و تكرار نفورهم من تفصيله وبيانه .
(ثم قال) نوح عليه السلام (عن نفسه دعاهم)، أي قومه (ليغفر)، أي ليستر الله تعالى (لهم) ما ظهر من التشبيه الذي هو بعض الحق (لا ليكشف) الله تعالى (لهم) ما ستر عنهم من التنزيه الذي هو بقية الحق الذي عندهم (وفهموا)، أي من حيث عقولهم الفطرية وروحانيتهم الأمرية لا من حيث عقولهم الخلقية وروحانيتهم الحيوانية (ذلك).
أي طلب الستر لهم عما كشف لهم من بعض الحق (منه)، أي من نوح عليه السلام (لذلك)، أي لأجل ما ذكر (وجعلوا أضيعه في آذانهم ) [نوح: 7].
حتى لا يسمعوا منه دعوة ترك بعض الحق الذي هم فيه من حيث أن ذلك كفر منهم ( استشواه)، أي طلبوا أن يكون غشاهم أي سترتهم عنه (ثيابهم) التي يلبسونها .
وهذه الأفعال التي صدرت منهم (كلها) هي (صورة الستر التي دعاهم إليها)، أي لأجلها كما قال :"لتغفر لهم".
أي لتسترهم (فأجابوا) هم من حيث ظهور الحقيقة الإلهية بهم وإن كانوا لا يشعرون (دعوته)، التي هي طلب المغفرة من الحق تعالی بهم (بالفعل) كما هو أبلغ إجابة من الحق تعالى لدعاء عبده فسترهم بأصابعهم و بثيابهم (لا بلبيك) التي هي إجابة من الحق تعالى لكل دعاء في العموم.
(ففي) قوله تعالى في دعوة نبينا محمد لأمته: (وليس كمثله، شيء ) [الشورى : 11] على زيادة الكاف، أي ليس مثله شيء أو على أصالتها، أي ليس مثل مثله شيء ومثل مثله (إثبات المثل) مفروضة في الأول ثم منفية وبلا نفي في الثاني
(ونفيه)، أي نفي المثل المفروض أولا والمنفي مثله ثانية، لأن نفي المثل نفي لمثله أيضا، ففي هذه الآية تشبیه وتنزيه معا وهو الكمال في الدعوة إلى التوحيد (ولهذا قال) نبينا (صلى الله عليه وسلم عن نفسه)، فيما ورد عنه في الحديث (أنه أوتي)، أي آتاه الله تعالی
(جوامع الكلم)، أي الكلمات الجوامع فكل كلمة من كلماته صلى الله عليه وسلم جامعة لعلوم كثيرة وأسرار غزيرة وإن حصرت علماء الرسوم جوامع الكلم في أحاديث مخصوصة فهو من القصور.
فإن كل حديث للنبي صلى الله عليه وسلم جامع للمعاني الكثيرة يعرف هذا أهل المعرفة الإلهية من غير ارتياب (فما دعا) نبينا (محمد صلى الله عليه وسلم قومه ليلا) أي غيبة على حدة (ونهارا) أي شهادة على حدة (بل دعاهم) صلى الله عليه وسلم ("ليلا")، أي غيبة والمراد تنزيهة في نهار)، أي شهادة .
والمراد في تشبيه (ونهارا)، أي شهادة وتشبيها (في ليل)، أي في غيب و تنزيه فجاء نبينا صلى الله عليه وسلم بالآيات والأحاديث المشتملة على التنزيه في التشبيه والتشبيه في التنزيه .
يعرف هذا أهل المعرفة الإلهية المتبحرون في الكشف عن معاني الكتاب والسنة دون القاصرين من علماء الرسوم.


قال رضي الله عنه : (فقال نوح في حكمته لقومه: «يرسل السماء عليكم مدرارا» وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري، «ويمددكم بأموال» أي بما يميل بكم إليه فإذا مال بكم إليه رأيتم صورتكم فيه.  فمن تخيل منكم أنه رآه فما عرف، ومن عرف منكم أنه رأى نفسه فهو العارف. فلهذا انقسم الناس إلى غير عالم وعالم.  «وولده» وهو ما أنتجه لهم نظرهم الفكري. والأمر موقوف علمه على المشاهدة بعيد عن نتائج الفكر.)
قال رضي الله عنه : («إلا خسارا، فما ربحت تجارتهم» فزال عنهم ما كان في أيديهم مما كانوا يتخيلون أنه ملك لهم: و هو في المحمديين «و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه»، و في نوح «ألا تتخذوا من دوني وكيلا» فأثبت الملك لهم و الوكالة لله فيهم. فهم مستخلفون فيه. فالملك لله وهو وكيلهم، فالملك لهم وذلك ملك الاستخلاف.)
قال رضي الله عنه : (فقال نوح) عليه السلام (في حكمته)، أي تتجه امتثال أمره (لقومه) على تقدير صدور ذلك منهم ("ويرسل ")، أي الله تعالى ("السماء") وهي ما علا وارتفع عن إدراكهم من الجناب الإلهي الأقدس (" عليكم" ) حيث نزهتموه عن تشبيهكم ثم شبهتموه من تنزيهكم . ثم نزهتموه ثم شبهتموه وهكذا.
فإن التنزيه محتاج إلى التشبيه والتشبيه محتاج إلى التنزيه، وكلاهما محال على الله تعالى، لأنهما حكمان عقليان، والله تعالى منزه عن الحكم العقلي، لأن كل معقول حادث كما أن كل محسوس كذلك.
إذ لا يرد على القديم حكم من الحادث، وليس في يد المكلف غير هذين الحكمين ونفيهما فالمطلوب نفيهما، ومن ضرورة نفي الشيء ثبوته قبل نفيه ("مدرارا")، أي كثير الدرور وهو الظل والسيلان.
(وهی)، أي التي يرسلها عليهم ربهم من الأمطار أمطار (المعارف) جمع معرفة (العقلية)، أي المنسوبة إلى العقل من حيث أنها تؤخذ به وتضبط بإدراكه (في المعاني) الإلهية التي يفهمونها من إشارات الوجود العلوي والسفلي (والنظر) بالبصر والبصيرة (الاعتباري) وهو المقتضي للعبور من الظواهر إلى البواطن وبالعكس من غير اقتضاء على أحدهما ("ويمددكم")، أي الله تعالى حينئذ ("بأموال") [نوح: 11].
نتيجة جمع مال (أي بما يميل بكم إليه) سبحانه من أعراض الدنيا (فإذا مال) ذلك المال بكم (إلى الله) تعالى بحيث أوصلكم إلى شهوده سبحانه في كل شيء من جهة أن كل شيء صورة مراده تعالی ومعلومه ومقدوره وذاته متجلية بذلك على ذاته فذاته من حيث هي متجلي عليها مرآة لذاته من حيث متجلية بتلك الصورة المرادة المعلومة المقدورة، وتلك الصورة هي المال الذي يميل بكم إلى الله تعالى وهي غرض الدنيا (رأيتم) بأبصاركم وبصائركم (صورتكم) الحسية والعقلية (فيه)، أي في الحق سبحانه وتعالى.
(فمن تخیل منكم) في نفسه بعد ذلك (أنه رآه) عز وجل (فما عرف) الحق سبحانه وتعالى ما رأى إلا صورته ظاهرة في الحق سبحانه الممسك لها كما تمسك المرآة الصورة الظاهرة فيها من غير أن تحل أحدهما في الأخرى (ومن عرف منكم أنه رأى نفسه) فقط على حسب تقلبات أطواره ظاهرة بمرآة الحق سبحانه .


(فهو العارف) بالله تعالى (فلهذا انقسم) جميع الناس إلى قسمين :
الأول (غير عالم) بالله تعالى وهم الذين يتخيلون أنهم يعرفون الله تعالى ويشهدونه، وهم لا يشهدون إلا أنفسهم على حسب استعدادهم في مرآة الحق تعالى.
(و) الثاني : (عالم) بالله تعالی وهم الذين يعرفون أنهم لا يعرفون إلا أنفسهم على حسب استعدادهم ظاهرة لهم في مرآة الحق تعالی.
كما قال عليه السلام: «من عرف نفسه فقد عرف ربه».
وقال تعالی عن قوم نوح عليه السلام: ("واتبعوا من لم يزده ماله") [نوح: 21] وهو ما ذكره من أنه كل ما يميل بكم إليه سبحانه (وولده وهو ما أنتجه لهم نظرهم الفكري) من التشبيه والتكييف في جناب الحق تعالی.
(والأمر) المطلوب في معرفة الله تعالى (موقوف علمه) والتحقيق به (على المشاهدة) لآيات الله تعالى التي في الآفاق وفي الأنفس (عيد جدا عن نتائج الفكر)، لأن الفكر ظلمة النفس ولا يكتسب بالظلمة غير الظلمة ("إلا خسارا") [نوح: 21] .
حيث مال به المال عنه سبحانه لا إليه وحملة الفكر المتولد فيه على الزيغ فيما لديه كما قال تعالى عن أمثاله ("فما ربحت تجارتهم") [البقرة: 16] حيث لجأوا إلى سوق حضرة الله تعالی فكسدت عليهم ولم تنفق لأنها غير مرغوب فيها عند الله تعالى.
لأنها كلها زيغ وضلال (فزال عنهم) بمجرد موتهم وهلاكهم (ما كان في أيديهم) يتصرفون فيه بإذن الله وهم لا يشعرون لعمى بصائرهم  (مما كانوا) في حياتهم الدنيا (يتخيلون أنه ملك لهم) من الأموال التي أمدهم بها، والملك في الحقيقة كله لله لا الهم ولا لغيرهم (وهو)، أي هذا الملك الذي تخيلوه لهم محسوب (في) مقام الأولياء (المحمديين) من هذه الأمة، أي الذين هم على قدم محمد صلى الله عليه وسلم الوارثين في علمه لا نبوته.


لأنها ختمت به من قبيل قوله تعالى: ( "وأنفقوا" ) يا أيها المؤمنون بالغيب ("مما")، أي من الذي هو معقول أو محسوس من علم أو مال أو غير ذلك
وجعله سبحانه وتعالى تفضلا منه عليكم ("مستخلفين فيه") [الحديد: 7] عنه تعالى في الأرض كما قال : "وهو الذي جعلكم خلائف الأرض " [الأنعام: 165].
وأصل الخلافة في الأنبياء عليهم السلام ثم ورثها منهم المؤمنون.
قال تعالى : "إني جاعل في الأرض خليفة" [البقرة: 30] وذلك عن آدم عليه السلام. وقال تعالی: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض" [ص: 26] (فيه)، أي فيما ذكر (و) محسوس (في) حق قوم (نوح) عليه السلام من قبيل قوله تعالى : ("ألا تتخذوا من دوني ") [الإسراء: 2]، أي غيري (وكيلا) في جميع ما أنتم متصرفون فيه من مال غيره.
(فأثبت) تعالى على مقتضى هذه الآية (الملك) فيما هم متصرفون فيه لهم، أي لقوم نوح تقريرا لما تخيلوه في زعمهم، لأنه تعالی عند ظن عبده به كما ورد في الحديث: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» (و) أثبت (الوكالة) منهم في الحقيقة (الله) تعالی حينئذ (فيه)، أي في ذلك الذي لهم.


(فهم) في الحقيقة التي خلقوا عليها (مستخلفون) عنه تعالى (فيه)، أي في ذلك الملك بحسب زعمهم أن الملك لهم وإن لم يشعروا (فالملك) على مقتضى هذا الاختلاف الحقيقي (لله) لا لهم (وهو) سبحانه وتعالى على مقتضى حقيقتهم بحسب زعمهم ذلك (وكيلهم فالملك) على حسب هذه الوكالة الحقيقية وإن لم يشعروا بها (لهم) حيث زعموا ذلك و تخيلوه.
(وذلك) الملك الذي لهم في زعمهم هو (ملك الاستخلاف) الذي فيهم عنه تعالى وهم لا يشعرون به لا حقيقة الملك .


قال رضي الله عنه : (وبهذا كان الحق تعالى مالك الملك كما قال الترمذي رحمه الله. «ومكروا مكرا كبارا»، لأن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو لأنه ما عدم من البداية فيدعي إلى الغاية. «أدعوا إلى الله» فهذا عين المكر، «على بصيرة» فنبه أن الأمر له كله، فأجابوه مكرا كما دعاهم "مكرا ". )
(وبهذا) الأمر المذكور، أي بسببه (كان الحق) سبحانه وتعالى (مالك الملك ) [آل عمران: 26]، فإن الملك الحقيقي لله سبحانه وقد استخلف فيه بنی آدم فلبني آدم الملك الحقيقي أيضا بطريق الاستخلاف والنيابة عن الحق تعالى.
فالحق تعالی مالك الملك لذلك وهو من أسمائه (كما قال) الإمام (الترمذي) رحمه الله تعالى في أسئلته وبسط الجواب عنها الشيخ المصنف قدس الله سره في الفتوحات المكية ("ومكروا" )، أي قوم نوح بنوح عليه السلام ("مكرا كبارا") [نوح: 22]، أي كبيرة فنسب الله تعالى الكبر إلى مكرهم لما يأتي في بيانه وسبب هذا المكر منهم (لأن الدعوة إلى الله) تعالى الحاصلة من نوح عليه السلام كذلك من جميع الأنبياء عليهم السلام لأممهم (مكر) في حقيقة الأمر من نوح عليه السلام كذلك جميع الأنبياء عليهم السلام بإذن الله تعالی فهي مكر من الله تعالى (بالمدعو) من قوم نوح وغيرهم
(لأنه)، أي المدعو (ما عدم) الله تعالى من البداية، لأن المدعو ظهور إلهي من بداية أمره تعالى (فيدعی) بنبي أو غيره (إلى الغاية) التي هي الله تعالى كما قال :
"وأن إلى ربك المنتهى" [النجم: 42]، ثم إن كل الدعاة إلى الله تعالی مأمورون بالدعوة على وجه المكر بالمدعو كما ذكر حيث قال حكاية عن نبينا عليه السلام بقوله تعالى: «قل هذه ، سبيلي (أدعوا إلى الله على بصيرة) أنا ومن اتبعني» [يوسف: 108] الآية .
وهم العارفون الوارثون (فهذا)، أي ما ذكر من الدعوة على بصيرة (عين المكر) الإلهي من الداعي والداعي فيه (على بصيرة) كما أمره الله تعالی بذلك (فنبه سبحانه) وتعالى في هذه الآية.
(أن الأمر) من حيث صور المدعوين والداعين (له) تعالى وحده (كله)، أي جميع ذلك الأمر فليس لأحد منه شيء كما قال تعالى النبيه وليس لك من الأمر شيء (فأجابوه)، أي أجاب قوم نوح نوح عليه السلام (مكرا) أيضا (كما دعاهم) هو أيضا (مكرا).
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 4:04 pm

03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

03- فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية:
قال رضي الله عنه : (فجاء المحمدي وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته وإنما هي (فجاء المحمدي وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته وإنما هي من حيث أسماؤه فقال: «يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا» فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم، فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقين. فقالوا في مكرهم: «وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا»، فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله. في المحمديين: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه» أي حكم.
فالعالم يعلم من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود.)

قال رضي الله عنه : (فجاء) الوارث (المحمدي) في هذه الأمة داعيا لها (وعلم أن الدعوة إلى الله) تعالى التي هي مأمور بها إرثا محمدية (ما هي) فيه (من حيث هويته) الشخصية الإنسانية (وإنما هي من حيث أسماؤه) التي هي ظهور أسماء الله تعالى بحسب استعداده (فقال تعالى) في الإشارة إلى ذلك ("يوم نحشر")، أي نجمع العباد ("المتقين") المحترزين من مخالفتنا التي منها دعواهم الاستقلال بأسمائهم التي هي أسماؤنا الظاهرة لهم في نفوسهم ("إلى") الاسم ("الرحمن") الذي هو موصوف بالرحمة العامة المستوي بها على العرش ("وفدا") [مريم: 85].
أي زائرین راكبین على نجائب أجسامهم النورانية لابسين ثياب نفوسهم الراضية المرضية متزينين بحلی حواسهم الظاهرة والخفية.
(فجاء) سبحانه وتعالى في هذه الآية (بحرف الغاية) وهو إلى (وقرنها)، أي الغاية (بالاسم) الإلهي الرحمن لا بالذات الإلهية .
(فعرفنا) من ذلك (أن العالم) كله معقوله ومحسوسه (كان تحت حيطة)، أي تصرف (اسم إلهي) حاكم علیهم بمقتضاه وهو الاسم الرحمن وقد (أوجب عليهم) كلهم ذلك الاسم الرحمن المتحكم فيهم (أن يكونوا متقين) ليظهر أثر رحمته فيهم فكانوا متقين كما أوجب عليهم من حيث لم يكشف لهم مما هو مقتضى أرواحهم المتصرفة في أجسامهم بإذن الله .
وإن جهلوا ذلك وجحدوه في عين ما هم فيه قائمون ومعلوم بأن الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى لا ما فعل والمؤاخذة بما كسب القلب والغفلة والزيغ في القلب.
قال تعالى: "ولكن يؤاگم بما كسبت قلوبكم" [البقرة : 225]. وفي آية أخرى: "لها ما كسبت"، أي للنفوس "وعليها ما اكتسبت " [البقرة: 286] . والتكليف كله على النفوس بما قصدت لا على أعمال الجوارح من حيث هي فقط، فالعالم كلهم متقون يحشرون إلى الرحمن وفدا من حيث هم في وجودهم، ومنهم ما هو كذلك من حيث كشفهم عنهم واطلاعهم على نفوسهم.
ومنهم ليس كذلك بل هم مجرمون فتن الله تعالى أبصارهم وبصائرهم فأراهم خلاف الأمر عليه في نفسه و أطلعهم على ما اقتضى زيغهم وضلالهم، فهم يساقون إلى جهنم وردا كما أخبر تعالی عنهم، وأهل الظاهر مع الظاهر وأهل الحقيقة مع الباطن.
(فقالوا)، أي قوم نوح (في مكرهم)الكبار الذي مكروه بنوح عليه السلام "لا تذرن" أي لا تتركن "آلهتكم" التي تعبدونها من دون الله ("ولا تذرن")، أي لا تتركن (ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) [نوح: 23] . وهي أسماء الأصنام لهم
(فإنهم)، أي قوم نوح (إذا تركوهم)، أي تركوا هذه الأصنام (جهلوا من الحق) سبحانه (على قدر ما تركوا من هؤلاء) الأصنام لأنهم ما علموا من الحق تعالى إلا مقدار ما علموا من هذه الأصنام .
وقد علموها مشبهة ومكيفة مثل جميع العالم والعالم جميعه ظهور الحق تعالى، والحق تعالی كما هو منزه عن كل ما ظهر مشبه أيضا بكل ما ظهر .
فهو منزه مشبه كما تقدم ذكره وقد علموه مشبها في بعض ما هو مشبه به، والتشبيه بعض المعرفة به، فلو تركوا ما هم فيه من بعض معرفته جهلوا على مقدار ما تركوا.
فلهذا السر، المخفي عنهم لم يتركوا أصنامهم وإن كان تمسكهم بأصنامهم بالنظر إلى نياتهم كفرة وزيغ وضلالا لما قدمناه من أن بعض معرفة الشيء نقص ونقص المعرفة كفر.
فلا يجحد كون ذلك البعض معرفة قليلة، ولا يقال بقبول ذلك في دين الله تعالى، ولكن هذا كشف عن حقائقهم لا عن أحكامهم كما بينته في كتابي الرد المتين على منتقص العارف محيي الدين .
و (فإن للحق) سبحانه وتعالى من حيث ظهوره (في كل معبود) من صنم أو كوكب ونحو ذلك (وجها خاصة) هو من ذلك الوجه حقيقة الحق تعالی ظاهرة بصورة ذلك المعبود .
كما قبل الحق تعالى أن يكون عالما بصورة ذلك المعبود قبل ظهوره بها من غير أن يتغير هو سبحانه عما هو عليه في نفسه (يعرفه)، أي ذلك الوجه (من عرفه) لصفاء البصيرة (ويجهله من جهله) لكدر البصيرة وانطماسها (في) الأولياء (المحمديين) .
ولم يقل : ويجحده من جحده، لأن الأولياء لا يجحدونه وإن جهلوه وإنما يجحده بعض العوالم ممن يزعم أنه من علماء الرسوم لقصورها عن درك الحقائق كما يشير إليه قوله تعالى : ( وقضى ) من الأزل وقدر (وألا تعب وأه) یا أيها المكلفون كلكم (و إلا إياه ) [الإسراء: 23] وحده (أي حكم) وحكمه تعالی
نافذ على كل حال فكيف تتصور عبادة غيره تعالى حينئذ.
فالعالم من الأولياء المحمديين (یعلم من عبد) في وقت عبادة عباد الأصنام مثلا للأصنام هل عبدت على الحقيقة الصورة الظاهرة الممسوكة بقدرة الحق سبحانه، أي عبد الحق تعالی الظاهر بها .
(و) يعلم ذلك المعبود الحق سبحانه (فی أي صورة ظهر) بفعله لا بذاته (حتی عبد) عند جميع العالمين (و) يعلم (أن التفريق) والتمييز (والكثرة) في المعبود الواحد (كالأعضاء) الكثيرة المختلفة مثل اليدين والرجلين والأذنين والعينين ونحو ذلك (في الصورة) الواحدة (المحسوسة) فإن كثرة أعضائها لا تنافي وحدة حقيقتها في الإنسان الواحد .
(وكالقوى) جمع قوة (المعنوية) كقوة البصر وقوة السمع وقوة اللمس وقوة الذوق وقوة الفكر وقوة الحفظ وقوة الخيال وما أشبه ذلك (في الصورة الروحانية الواحدة التي هي في باطن الصورة الجسمانية المحسوسة .
(فما عبد) على الحقيقة (غير الله) تعالى (في كل معبود) وعبده عابد مطلقا .

قال رضي الله عنه : (فالأدنى من تخيل فيه الألوهية، فلو لا هذا التخيل ما عبد الحجر و لا غيره. 
و لهذا قال: «قل سموهم»، فلو سموهم لسموهم حجارة و شجرا و كوكبا. و لو قيل لهم من عبدتم لقالوا إلها ما كانوا يقولون الله و لا الإله. و الأعلى ما تخيل ، بل قال هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر. فالأدنى صاحب التخيل يقول: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى» و الأعلى العالم يقول: «فإلهكم إله واحد فله أسلموا» حيث ظهر «و بشر المخبتين» الذين خبت نار طبيعتهم، فقالوا إلها و لم يقولوا طبيعة، «و قد أضلوا كثيرا، أي حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه و النسب.)
(فالأدنى) من العابدین له سبحانه (من تخيل فيه) عز وجل (الألوهية) فإن كل من عبد شيئا تخيل فيه ذلك (فلولا هذا التخيل) للألوهية في العابد المتخيل ذلك في معبوده (ما عبد الحجر) المنحوت صنم (ولا غيره) من كل ما عبد من دون الله تعالی
ولهذا قال تعالى لنبيه عليه السلام في حق عباد الصنم وغيره : "وجعلوا لله أندادا" [إبراهيم: 30] (قل) لهم ("سموهم") [الرعد: 33].
أي أذكروا أسماء هذه الأنداد  عندكم فإنها في شهودكم مغايرة للحق تعالی.
(فلو سموهم) وأظهروا ما في شهودهم ورؤيتهم من مغايرة ما عبدوه للحق تعالى كما يعلمه الله تعالى منهم حيث أكفرهم بذلك وحكم بأنهم عبدوا غيره (لسموهم حجرا وشجرا وكوكبا) ونحو ذلك كالملائكة وعيسى ابن مريم.
فظهر حينئذ أنهم عبدوا غير الله باعتبارات في نظرهم، واعتقادهم أنهم عبدوا غير الله تعالى وإن سموه عندهم الله تعالی جهلا منهم بمعرفته تعالى.
فإنه بعد الحكم بالمغايرة في إدراكهم لا عبرة بالتسمية، وإن لم يكن ثمة غير الله تعالى في حقيقة الأمر كما سبق، ولكن هذا في شهود المؤمنين الكاملين، وأما الكافرون فإنهم اخترعوا بعقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة غير الله تعالی وعبدوه من دون الله تعالی.
فستروا الله تعالى باعتبار ما بأنفسهم فكفروا بذلك الستر، فإن الكفر هو الستر فلو عرفوا الله تعالى في كل شيء كمعرفة المؤمنين الكاملين لوجدوا أنفسهم عابدین له تعالى في عین عبادتهم لما سواه حين كانوا جاهلین به تعالی.
(و) مع ذلك (لو قيل لهم)، أي لعباد الأصنام وغير الأصنام (من عبدتم لقالوا) عبدنا (إلها)، أي معبودا والله تعالی معبود كل شيء.
وله ظهور خاص بالنسبة إلى كل شيء فهو إله واحد عند المؤمنين بالغيب من حيث هو غيب غير الكل، وهو آلهة كثيرة متعددة مختلفة من حيث ظهوره المخصوص بالنسبة إلى كل عابد لا يؤمن بالإله الواحد الغيب.
ولهذا قال تعالى لنبيه عليه السلام:" فاعلم أنه لا إله إلا الله" على معنى أن كل إله هو الله يعني من حيث ظهور هذا الغيب المطلق الذي هو معبود أهل الإيمان من حيث إطلاقه.
فإن ظهوره الخاص معبود أهل الكفر (كما كانوا يقولون) عبدنا (الله) لأنهم ما عبدوا الله الذي هو الغيب المطلق وهو الإله الحق، وأما معبودهم فهو ظهور من ظهورات الله تعالی وظهور الله ليس هو الله.
لأنه بحسب استعداد الظاهر له ولهذا قالوا: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" [الزمر: 3] .
وقالوا : "لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا" [الأعراف: 70].
وقالوا :"أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب " [ص: 5].
(ولا) كانوا يقولون: عبدنا (الإله)، لأن الإله بالألف واللام هو الغيب المطلق وهو الله تعالى وهم ما عبدوا الله تعالى بل عبدوا الظاهر لهم في مظهر خاص على حسب استعدادهم .
وهو إلههم الذي عبدوه من دون الله وهو المنحوت لهم بقوة استعدادهم.
قال تعالى : " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون" [الصافات: 95 ۔ 96]. (والأعلى) من العابدین له تعالى (ما تخيل)
في الله تعالى شيئا، لأنه لو تخيل

شيئا من ألوهية أو غيرها لعبده ظاهرة في مظهر مخصوص مثل عباد الأصنام وغيرهم (بل قال) عن كل معبود ظهر له من كوكب أو حجر أو شجر وغير ذلك.

(هذا مجلى)، أي مظهر لأجل تجل (إلهي) مخصوص (ينبغي) لكل مؤمن بالغيب المطلق الذي هو الله تعالى (تعظيمه) من حيث هو مجلى مخصوص لا من حيث هو أثر مخلوق حقیر .
فإن للحق تعالى في كل شيء وجها مما يلي صفاته تعالى وهو الوجه الباقي وهو توجه الحق تعالى على إيجاد ذلك الشيء من الأزل، وهو الحق تعالى لا غيره في حضرة مخصوصة بحسب استعداد ذلك الشيء.
والوجه الآخر لذلك الشيء مما يلي حضرة الإمكان، وهو الهالك الذي قال تعالى: "كل شيء هالك إلا وجهه " [القصص: 88].

(فلا يقتصر) ذلك الأعلى من العابدین علی مجلى دون مجلى بل يعتقد أن الكل مجالي ومظاهر تبدو وتخفى على ممد الأوقات.

(فالأدنى) من العابدين الله تعالى (صاحب التخيل) المذكور فيما سبق (يقول) كما حكى الله تعالى ذلك عنه في القرآن العظيم بقوله: (وما تعبدهم)، أي الأصنام
("وإلا ليقربونا إلى الله زلفى") [الزمر: 3].
لأن لهم وجوها خاصة إلى ذلك الموجود وهم مأمورون بتعظيم تلك الوجوه فقط من حيث إنها وجوهه تعالى لا مأمورون لعبادتها من دون الله تعالى المطلق عنها. (والأعلى) من العابدین لله تعالى (العالم) بالله تعالی الذي لم يتخيل في الله تعالى شيئا وإن كان التخيل من ضرورته، لأنه معترف بعجزه عن المطابقة لما هو الأمر في نفسه.

(يقول) في ذلك كما حكى الله تعالی عنه بقوله : "أنما إلهكم" ، أي الذي يجب عليكم أن تعبدوه ("إله واح?") لا تعدد له غیب مطلق عن جميع القيود الحسية والعقلية ("فله، أسلموا")، أي انقادوا و أذعنوا في بواطنكم وظواهركم بحيث لا تبقى فيكم حركة إلا به وله (حيث ظهر) لكن في جميع مظاهره المحسوسة والمعقولة، فليكن إسلامكم وانقیادكم إلى الظاهر بالمظهر الذي ظهر لكم فيه وعبادتكم للباطن الذي لا يقيده الظهور بذلك المظهر الذي أسلمتم له .
("وبشر") يا أيها المأمور بأن يقول لأمته ذلك (" المخبتين") [الحج: 34] ممن اتبعك في العمل بما قلت (أي الذين خبت)، أي أطفأت وخمدت (نار طبيعتهم) التي خلفت نفوسهم وأجسامهم منها، وحيث خمدت نارهم انقلب نورا (فقالوا) نعبد (إلها) باطنا وننقاد ونذعن ونسلم لنور ظاهر من قبيل قوله تعالى : "الله نور السماوات  والأرض" [النور: 35] .
(ولم يقولوا) نعبد (طبيعة) فننقاد ونذعن ونسلم لها لأن الطبيعة نار الله الموقدة وهم مأمورون بتوقيها كما قال تعالى : "قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها" [التحريم: 6].
وقال عليه السلام: «اتقوا النار ولو بشق تمرة».
قال نوح عليه السلام عن الأصنام المذكورة (وقد أضلوا كثيرا) يعني من أمته (أي حيروهم)، وأوقعوهم في عدم الاهتداء إلى وجه الصواب حيث اندهشوا (في تعداد) الإله (الواحد) الذي هو الغيب المطلق تعداد حاصلا (بالوجوه) الكثيرة التي له تعالى إذلة.
وإلى كل شيء وجه خاص من ذلك الوجه ظهرت صورة ذلك الشيء (والنسب) المختلفة التي من كل شيء إليه تعالى، فلكل شيء نسبة إليه تعالی حقيقية.
وأما نسب الأشياء بعضها إلى بعض فهي مجازية فالله واحد، لأنه الغيب المطلق و?ثیر متعدد، لأنه الظاهر بتوجهه إلى كل شيء وبنسبة وجود كل شيء إليه وقال نوح عليه السلام أيضا.
.

يتبع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 4:07 pm

03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

03- فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية:
قال رضي الله عنه : («ولا تزد الظالمين» لأنفسهم. «المصطفين» الذين أورثوا الكتاب، أول الثلاثة. فقدمه على المقتصد والسابق. «إلا ضلالا» إلا حيرة المحمدي. «زدني فيك تحيرا»، «كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا».
فالحائر له الدور والحركة الدورية حول القطب فلا يبرح منه وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود طالب ما هو فيه صاحب خيال إليه غايته: فله من وإلى وما بينهما. وصاحب الحركة الدورية لا بدء له فيلزمه «من» ولا غاية فتحكم عليه «إلى»، فله الوجود الأتم وهو المؤتى جوامع الكلم والحكم. «مما خطيئاتهم» فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله، وهو الحيرة، «فأدخلوا نارا» في عين الماء في المحمديين. "و إذا البحار سجرت": سجرت التنور إذا أوقدته.)
قال رضي الله عنه : ("ولا تزد الظالمين") يعني (لأنفسهم) بعدم إيفاء نفوسهم حقوقها مما تطلبه منهم من الحظوظ العاجلة والآجلة رغبة في إطاعة الرب سبحانه وتعالى، وأنها كافي مرضاته تعالى وهم قومه من حيث أسرارهم وأرواحهم لأنهم مطيعون من هذا الوجه إلا من حيث نفوسهم وأشباحهم.
لأنهم عاصون من هذا الوجه باعتبار أن الروح ناظرة إلى تقلب شؤون الرب والنفس ناظرة إلى اختلاف أفعال العبد، فالإيمان والمعرفة في الأرواح والكفر والضلال في النفوس والأشباح.


ونوح عليه السلام ناظر إليهم بعين الحقيقة وبعين الشريعة، وكلامه في حقهم صالح لهم في الحالتين ودعاء لهم وعليهم باعتبار الطورين المذكورين، وحيث كان طور النفوس والأشباح مما لا خفاء فيه على العامة فضلا عن الخاصة.
وكفرهم وضلالهم في هذه الطور معلوم لم يحتج المصنف رحمه الله تعالى إلى التعرض، وإنما تعرض للطور الآخر الخفي عن بعض أهل الخصوص فضلا عن أهل العموم، لأن كتابه هذا في بيان الحقائق والأسرار الإلهية للشرائع والأحكام الربانية لا في بيان الشرائع والأحكام فقط، مثل كتب علماء الرسوم التي علومهم هي علوم المؤمنين لا علوم خاصتهم (المصطفين) نعت للظالمين أنفسهم.
(الذين أورثوا)، أي أورثهم الله تعالى (الكتاب) الجامع للخلق والأمر في رتبة التفصيل والإجمال (فهم)، أي المصطفون الظالمون أنفسهم (أول الثلاثة) الذين اصطفاهم الله تعالى فأورثهم كتابه القديم، فنسب إليهم على حد ما ينسب إليه تعالی لزوالهم عن أنفسهم وأشباحهم وقيامهم في حضرته بأسرارهم وأرواحهم.
أما باعتبار حقائق ذواتهم وإن لم يشعروا بها وهم الصم البكم الذي لا يعقلون الحق الظاهر بهم له لا لهم، أو باعتبار شهودهم ذلك من حقائق ذواتهم، وهم الصم البكم العمى الذين لا يعقلون غير الحق تعالی الظاهر بهم له، ثم لهم وبحسب التفاوت في هذين المقامین انقسموا إلى ثلاثة أقسام.
قال تعالى: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " [فاطر: 32] . وهم جميع بني آدم بالاعتبارين المذكورين "فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخير بإذن الله" [فاطر: 32] .
(فقدمه)، أي الظالم لنفسه (على المقتصد والسابق) بالخيرات، لأنه شرفه عليهما باعتبار ظلم نفسه في مرضات الله ، ثم دون المقتصد وهو المتوسط الذي تارة يراعي حقوق الله وتارة يراعي حقوق نفسه، ثم ما دونه  السابق بالخيرات بإذن الله، وهو الذي يراعي حقوق نفسه فقط، فيعمل الخيرات ويسارع فيها لأجل حصول السعادة له في الدنيا والآخرة، وطمعا في النجاة من الله تعالی ورغبة في الثواب.
("إلا ضللا") [نوح: 24] فيك (أي حيرة) وهي الهداية لا جزم فيها بشيء معقول ولا محسوس، لأنه تعالى "ليس كمثله شيء".[الشورى : 11]
ولا حكم فيها بإثبات ولا نفي لأن كل مثبت بالعقل حادث وكل منفي بالعقل حادث أيضا، والحق سبحانه ثابت ثبوتا ليس محتاجة إلى مثبت (و) هذه الحيرة (في مقام الوارث المحمدي) يشير إليها قوله عليه السلام: (زدني) اللهم (فيك تحيرا) حيث كانت الحيرة هداية إليك، لأن الهداية في كل شيء بحسبه فالهداية إلى العظيم الحيرة في عظمته ومنه قوله تعالى: "ووجدك ضالا فهدى" (الضحى  7] أي متحيرا في عظمة ربك فهداك بحيرتك تلك إلى معرفته.
وقال تعالى في مقام الحيرة أيضا: ( و لما أضاء )، أي أشرق ("لهم") بهم من تجلي اسمه الظاهر، فتحققوا به ("مشوا") في عالم وجودهم الحسي والعقلي (فيه) فكانوا معدومین قائمين بموجود ("وإذا أظلم عليهم") فاستتر عنهم من تجلی اسمه الباطن فشهدوا أنفسهم وغفلوا عنه ("قاموا") [البقرة: 20] (له) على قدم العبودية مشتغلين بالعبادة فهم بين هذين المقامين مترددون لا يستقر بهم القرار في أحدهما فيهتدون.
(فالمتحير) الذي حيرته المعرفة الإلهية في ربه عز وجل (له الدور) كلما علم الله تعالی شعر أن الذي علمه حادث مثله من حيث إن الله تعالى قديم والقديم لا يوجد في علم غير القديم فينبغي ما يجده في علمه لشعوره بأنه حادث.
ثم يثبت ما يعلم أنه الله تعالى منزها عن كل تشبيه وتكييف مؤمنا به على حسب ما هو عليه في غيبه المطلق لضرورة إيمانه به.
ثم يشعر بأن الذي أثبته حادث مثله أيضا وإن كان منزهة عن مشابهة الحوادث، فإن هذا التنزيه حكم من حادث فلا يقع إلا على حادث.
فينفي ما ثبت ثم يثبت أعلى منه، ثم يشعر بحدوثه أيضا فينفيه وهذه كيفية السير إلى الله تعالى يضع قدمه ثم يرفعه ثم يضعه أرقى منه ثم يرفعه وهكذا.
كما قال ابن الفارض رضي الله عنه :
قال لي حسن كل شيء تجلی    ….. بي تملى فقلت قصدي وراكا
فهو ينتقل دائما من حادث إلى حادث وفي زعمه أنه ينتقل من حادث إلى قدیم. فالقديم عنده موهوم والحادث متحقق، وذلك من ضرورة الإيمان بالله تعالى، وهو تشبيه الله تعالى ثم تنزيهه على حسب ما قدمناه.
وهذا معنى الدور المذكور (و) له أيضا، أي لصاحب الحيرة (الحركة الدورية) من كون إلى كون من نفسه إلى ربه  إلى نفسه، ثم يعود فيتحرك من كون إلى كون كذلك.
ولولا طلبه الله تعالى الذي لا يزول عنه ما كانت حركته الدورية مثل حركة الأفلاك العلوية (حول القطب) الراسخ على حقيقة عجزه الواقف على مركز اضطراره، لأنه كعبته التي يجب عليه أن يطوف بها وبيت ربه الذي يستقبله في صلواته (فلا تبرح منه)، لأنه قلبه الذي يدور عليه وحاكمه الذي يولى عليه.
قال رضي الله عنه : (وصاحب الطريق المستطيل) الذي لا رجوع له إلى مبتداه بل هو متوجه إلى غير نفسه ومقبل على ما سواه (مائل) دائمة، أي منحرف (خارج) بسبب میله ذلك عن المقصود الحق، لأن المقصود الحق عين المائل منه الخارج وهو لا يشعر من حيث هو مائل خارج، فداؤه عین دواه ومتمنيه حقيقة مناه (طالب ما)، أي المقصود الذي (هو فيه صاحب خیال) فكري لا كشف ذكري (إليه) أي إلى ذلك الخيال الذي يصحبه غايته التي يرجع إليها ويعول في أقرب أحواله علیها (فله) حقيقة معنی (من) الابتدائية (و) حقيقة معنى (إلى) الانتهائية (وما بينهما)، أي بين من وإلى من المسافة العقلية أو الحسية، لأن عنده المغايرة بينه وبين مطلوبه دائمة، فهو ينتقل من كون إلى كون من نفسه إلى ربه لا من ربه إلى نفسه إذ نفسه عنده من جملة الأغيار لربه (وصاحب الحركة الدورية) وهو الأول (لا بدء له) بشيء في سير، فيبتدىء من نفسه إلى ربه ثم من ربه إلى نفسه .
وهكذا فالمغايرة عنده اعتبارية وهمية، لأنه لو كان له بدء بشيء لكانت المغايرة عنده حقيقة (فيلزمه) حينئذ معنی (من) الابتدائية كما يلزم الأول (ولا غاية) له إلى شيء (لكمال حيرته) بتحقق عجزه (فيحكم عليه) حيث ينتهي إلى شيء معنی إلى الانتهائية
(فله)، أي لصاحب الحركة الدورية (الوجود) الحق (الأتم)، لأن وجوده انجلى عن ظلمة كونه وتجردت حقيقته المتنزهة عن صبغة لونه فهو المعروف وإن أنكره الجاهلون والنور الذي أشرق به كل شيء وإن عميت عنه المغضوب عليهم والضالون، لأن لبس عليهم ما يلبسون (وهو الموتى) من قبل أصله (جوامع الكلم) الإنسانية المركبة من الحروف النورية والنارية (و) جوامع (الحكم) الروحانية في جميع العوالم إذ الكل مخلوق من ذلك النور الواحد المنصبغ بلون كل كون فهم به منه وإليه يرجعون ("مما خطيئاتهم أغرقوا")، أي قوم نوح عليه السلام جمع خطيئة
(فهي التي خطت)، أي مشت (بهم) من أنفسهم إلى ربهم حيث كانت سبب هلاكهم.
(فغرقوا) حين وصولهم إلى ربهم (في بحار العلم بالله) تعالى ولما كان واحد منهم له علم بالله تعالی مخصوص على حسب استعداده كان العلم بالله تعالی بحار الأبحر واحدة (وهو)، أي العلم بالله تعالى حقيقة (الحيرة) في الله تعالی : (" فأدخلوا") ، أي أدخلهم الله سبحانه حين غرقهم ("نارا") [نوح: 25] تتأجج (في عين الماء) الذي يتموج فالذي غرقوا فيه ماء عند أهل الدنيا نار عند أهل الآخرة وحقيقة واحدة منصبغة بالصبغتين على حسب العالمين، فمن خرج عنها وجد الله عنده بمجرد خلع النعلين (و) هذا المقام (في) الوارثين (المحمديين).
قوله تعالى: ("إذا البحار")، أي الحقائق الإنسانية التي هي نفس العلم الإلهي ("سجرت") [التكوير: 6] .
شوقا ومحبة إلى نفسها وهي برد وسلام، فهي نار إبراهيم في خلته التي هي غاية المحبة، وهي نار موسى المكلمة له من حيث هي نور جذبته إليها بصورة حاجته التي هي النار، فأتاهم منها بقبس هو حقيقة ووجد على النار هدى هو معرفته على حسب ما ترجي ذلك.
فسجرت مشتق (من) قولك (سجرت التنور إذا أوقدته) بالحطب ونحوه.
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي : ("فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا» فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد.  فلو أخرجهم إلى السيف، سيف الطبيعة لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة، وإن كان الكل لله و بالله بل هو الله.
«قال نوح رب» ما قال إلهي، فإن الرب له الثبوت والإله يتنوع بالأسماء فهو كل يوم في شأن.  فأراد بالرب ثبوت التلوين إذ لا يصح إلا هو. «لا تذر على الأرض» يدعو عليهم أن يصيروا في بطنها. المحمدي «لو دليتم بحبل لهبط على الله»، «له ما في السماوات و ما في الأرض».)
(فلم يجدوا)، أي الذين غرقوا (لهم من دون الله) سبحانه (أنصارا) ينصرونهم منه تعالى حيث اختطف حقائقهم إليه وأذاب نفوسهم في شهوده بين يديه (فكان الله) سبحانه (عين أنصارهم) إذ به النصر على كل حال في البعيد والقريب (فهلكوا كلهم
فيه)، أي اضمحلت ذواتهم في ذاته وصفاتهم في صفاته ، فلم يقدروا على التميز عنه والانفصال منه (إلى الأبد) فهم يعذبون بشهود جلاله في جماله ويستعذبون العذاب فيتلذذون بشهود جماله في جلاله وهذه حالة أهل النار في جميع الأطوار، فعذابهم لا ينقطع واستعذابهم لا يندفع والألم فيهم متجدد وهو نفس التلذذ المتعدد، يعرف هذا أهل الذوق السليم وأصحاب القلب الذي في عشقه لم يزل يهيم، والله بكل شيء عليم .
(فلو أخرجهم) من تلك البحار التي غرقوا فيها (إلى السيف) بالكسر ساحل البحر وهو كالسيف بالفتح القاطع عن معرفة المقصود (سیف الطبيعة) الذي هو كالسیف المصلت بيد الروح الأعظم (لنزل بهم) حينئذ (عن هذه الدرجة الرفيعة)، أي العالية التي هم فيها فكان الأنفع في حقهم ذلك الإغراق، لأن فيه اللقاء بعد الفراق.
(وإن كان الكل)، أي جميع العالم الموجود في حضرة الروح أو في حضرة الطبيعة (لله) وحده لا لنفسه (و) هو قائم (بالله وحده لا بنفسه شعر أو لم يشعر (بل هو الله) من حيث الحقيقة الفاعلية في الأعين العامية، ومن حيث الحقائق الصفاتية والاسمائية في أعين السالكين، ومن حيث حضرة الذات العلية في أعين الواصلين الواقفين.
(قال نوح) عليه السلام ("رب")، أي يا رب (وما قال: إلهي)، أي يا إلهي (فإن الرب) هو الله تعالى المتجلي بمظهر (له الثبوت) الوهمي في عين تنوعه بتكرره بالأمثال في أمره الذي هو كلمح البصر، ولهذا يعرفه كل شيء، ويشهده من حيث لا يعرف أنه يعرفه وأنه يشهده .
(والإله) هو الله تعالى الذي يتنوع) في تجليه (بالأسماء) الحسنى الظاهرة بأثارها المختلفة، فمن شهد الرب لم يتكرر عليه تجليه، ولا اختلف من حيث أمثاله المضروبة ومن شهد الإله تكرر عليه التجلي واختلف اختلاف الأرباب مع المربربين، فالإله هو الرب من جهة كثرة تجلياته الثابتة باعتبار كل مربوب، والرب هو الإله من جهة خصوص كل نوع من التجلي، فالرب بعض الإله، والإله أرباب كثيرة وهذا من حيث الحضرات لا من حيث الذات، لأن الحق سبحانه لا يتجزی ولا يتبعض.
(فهو)، أي الإله المتنوع بالأسماء (" كل يوم ") من أيام أمره الذي هو كلمح البصر ("هو في شأن" ) [الرحمن: 29].
أي أمر وحال باعتبار اختلاف أحوال خلقه وتقلب أمورهم أسرع ما يكون، وذلك الشأن الذي فيه الإله تعالى فيه العبد أيضا.
قال تعالى: "وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) [يونس: 61].
فقوله : وما تتلوا منه ، أي من ذلك الشأن الذي تكون فيه من قرآن، بيان لما تتلو، وهو شأن الله الذي هو فيه كل يوم، فالشأن مشترك بين الحق وبين العبد، والقرآن مخصوص به تعالى، وما تعملون من عمل مخصوص بنا، وجمع الشهود لاختلاف حضرات الموجود، فهو شأن في مقام الاشتراك، وهو قرآن في مقام الألوهية، وهو عمل في مقام العبودية .
(فأراد) نوح عليه السلام (بالرب ثبوت التلوين)، أي استمراره على وتيرة واحدة بحيث يبقى كثيرة واحدة، وهو التمكين في التلوين وهو مقام عالي، ولو أن القائل كل يوم تتلون غير هذا بك أحسن قال مكان ذلك كل يوم تتلون أن هذا بك أحسن لكان أحسن (إذ لا يصح) في الوجود الكوني (إلا هو)، أي التلوين لأنه به قيام الكون، فإن الكون لون متكرر، ولا تكرار لسعة الحضرات والتجليات، فهي ألوان مختلفة وهي أكوان مؤتلفة .
وهذا هو الذي يصح إذ لا يصح الوقوف ولا الثبوت المعروف، فإن الكل حركة وفي الحركة بركة والبركة هي الزيادة، والزيادة خارجة عن الأصل، وقيامها بالحركة الأمرية وهي كلمح البصر وذلك هو التلوين (لا تذر)، أي تترك (على الأرض)، التي هي بعض أجزائها (يدعو عليهم) جزاء لتكذيبه فيما دعاهم إليه مما هم فيه (أن يصيروا في بطنها)، أي الأرض ليطلعوا على حقيقة ما دعاهم إليه (وهو في الوارث المحمدي) قوله (لو دليتم بحبل لهبط) ذلك الحبل (على الله) من حيث إنه تعالی حامل قال تعالى: "وحملناهم في البر والبحر" [الإسراء: 70]، والحبل هو القرآن . ورد الحديث بلفظ : "والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله ، ثم قرأ: "هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم 4 [الحديد: 3] "رواه الترمذي والطبراني وغيرهما .
قال تعالى : "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " [آل عمران: 103] . فإن من اعتصم به وتدلى أي تواضع لله رفعه الله إليه، فيفنی وجوده ويبقى وجود الحق سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: ("له ما في السموات") من العوالم العلوية التي هي مدفونة فيها ، أي مندرجة في حقائق سكانها (" وما في الأرض" ) [البقرة: 255] من العوالم السفلية المدفونة فيها، وكونها له ظهوره بها لأنه بكل شيء محيط ، فله الفوق وله التحت من بعض ما له فلا يفيده ذلك.
قال رضي الله عنه :(و إذا دفنت فيها فأنت فيها و هي ظرفك: «و فيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى» لاختلاف الوجوه.
«من الكافرين» الذين «استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم» طلبا للستر لأنه «دعاهم ليغفر لهم» والغفر الستر. «ديارا» أحدا حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة. «إنك إن تذرهم» أي تدعهم وتتركهم «يضلوا عبادك» أي يحيروهم فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية فينظرون أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عند أنفسهم عبيدا، فهم العبيد الأرباب.
«و لا يلدوا» أي ما ينتجون و لا يظهرون «إلا فاجرا» أي مظهرا ما ستر، «كفارا» أي ساترا ما ظهر بعد ظهوره.
فيظهرون ما ستر، ثم يسترونه بعد ظهوره، فيحار الناظر و لا يعرف قصد الفاجر في فجوره ، ولا الكافر في كفره، و الشخص واحد.)
(وإذا دفنت) يا أيها الإنسان (فيها)، أي في الأرض (فأنت فيها) مظروف (وهي ظرفك)، أي دعائك.
قال تعالى: "منها خلقناكم (وفيها نعيدكم )" [طه: 55]، يعني بالدفن فيها، فإذا عادوا إليها التحقوا بها وعادت أبعاضهم التي خلقت منها إليها، فزال عن تلك الأبعاض قيد المغايرة للأرض.
فعند عودهم إليها لم يبق إلا للأرض وحدها، كما هي قبل أن يخلقوا منها فكأنهم لم يخلقوا منها، وكأنها لم يخلق منها شيء، والأرض كذلك خلقت من الماء، فإذا بدلت الأرض غير الأرض، فكأنها ما خلقت من الماء.
وكأن الماء ما خلق منه شيء، وكذلك الماء مخلوق من الدرة البيضاء والدرة من النور المحمدي، وهو من نور الله فعند ذهاب قيد المغايرة من كل طور من هذه الأطوار يرجع الأمر إلى حقيقة الحق تعالی وتنكشف عن ذاته سبحانه حجب الأغيار الاعتبارية .
كما قال تعالى: "وإليه يرجع الأمر كله" [هود: 11]، "وإليه ترجعون " [البقرة: 245]، "وإليه المصير" [المائدة: 18] "وإليه تقلبون" [العنكبوت: 21].
فيظهر قوله عليه السلام: «لو دليتم بحبل لهبط على الله ».
وقوله تعالی :" له ما في السموات وما في الأرض" [البقرة: 255].
(ومنها)، أي من هذه الأرض المذكورة ("نخرجكم تارة أخرى") [طه: 55] .
وهذا الخلق والإعادة والإخراج في كل لمحة مع الأنفاس، ومتی كشفه الله تعالی انكشف، ولا ينكشف إلا بعد الموت الاختياري أو الاضطراري.
وإنما اختلفت هذه الأطوار الثلاثة : طور الخلق وطور الإعادة وطور الإخراج (لاختلاف الوجوه) الإلهية، فكل وجه يعطى حالا غير الآخر.
واختلاف الوجود الاختلاف النسب بين الكون والمكون، واختلاف النسب لاختلاف الاستعداد في الممكن، فالتجلي واحد والممكن يستعد للخلق، فتظهر نسبة بينه وبين مكونه، فيتميز بسبب تلك النسبة وجه خاص للمكون يعطي ذلك الوجه خلق ذلك الممكن.
وكذلك الإعادة والإخراج وقوله : ("ومن الكافرين") متعلق بواجب الحذف صفة مقدمة المفعول ولا تذر على الأرض ، وهو قوله بعد ذلك "ديارا" [نوح: 26] (الساترین) بنفوسهم وأجسامهم حقائق أرواحهم، وبأرواحهم حضرات ربهم الحق سبحانه
(الذين "واستغشوا")، أي طلبوا أن تغشاهم أي تسترهم ("ثيابهم ") وهي صورهم العقلية والحسية والمنسوبة عندهم إليهم وإلى كل شيء و("جعلوا أصابعهم في
اذانهم ") [نوح: 7] حتى لا يسمعوا وصف الحق تعالی (طلب) منهم (للستر)، أي ستر الحق عنهم حتى تبقى ذواتهم متنعمة بالوجود خوفا من أن تمحق منها ذرة سطوة الشهود، فإن من جعل إصبعه في أذنيه سمع خرير الكوثر كما ورد في الحديث .
وهو نهر الوجود الكوني، وحالهم هذا كان عين إجباتهم لما دعاهم لأجله (لأنه)، أي نوح عليه السلام (دعاهم) إلى عبادة الله تعالى (ليغفر) الله تعالى (لهم) لا اليكشف لهم.
(و الغفر) هو (الستر) فستر الله تعالى لهم بهم حقائقهم التي قام بها ما سترهم به فكفروا الحق تعالی فأغرقهم في طوفانه حتى رجعوا إليه ("ديارا") أي (أحدا حتى تعم المنفعة) كل واحد منهم بأن يصادف حقيقة نفعه في عين ما هو نافر عنه (كما عمت الدعوة)، لكل واحد منهم (إنك) یا رب "إن تذرهم"، أي (تدعهم وتتركهم) من غير إغراق لهم في عين ما نفروا عنه من نفعهم المحض ("يضلوا عبادك ") [نوح: 27] .
الذين هم دونهم في المرتبة (أي يحيروهم) في معرفتك (فيخرجوهم من) ذل (العبودية) الظاهرة منهم (إلى) عزة (ما فيهم)، أي في عبادك
(من أسرار الربوبية) الباطنة عنهم من حيث قيومية الحق تعالى عليهم (فينظرون أنفسهم) حينئذ (أربابا) كل رب له حضرة خاصة، والرب واحد ولكن كثر وتعدد بكثرة مظاهره الآثارية في حضراته الإلهية (بعدما كانوا عند أنفسهم عبيدا) مختلفين بالأحوال والأوصاف.
(فهم العبيد) باعتبار كل معقول منهم ومحسوس وهم: (الأرباب) باعتبار ما غاب عن ذلك من الأسرار (ولا يلدوا أي ولا ينتجون) بتزاوج عقولهم لنفوسهم (ولا يظهرون) من مواليد الخواطر والأقوال والأعمال .
(إلا فاجرا أي مظهرا) بخلقه (ما ستر) في سريرته (كفار) مبالغة في الكفر وهو الستر (أي ساترا) بصورته من الكمال (ما ظهر) من قبح سريرته (بعد ظهوره) منه.
(فيظهرون)، أي هؤلاء الكفار والفجار ما ستر فيهم من قبح السريرة فيشهدونه (ثم سترونه) بكمال خلقهم عنهم فيسمونه حسنا (بعد ظهوره) لهم قبيحا (فيحار الناظر) فيما يرى .
فإنه يرى كمالا مستورا بقبح سريرة وقبح سريرة مستورا بكمال .
(ولا يعرف قصد الفاجر) الساتر كماله بقبحه (في فجوره) ذلك، فإن كل ذي كمال من عادته كشف كماله لا ستره (ولا يعرف قصد الكافر) الساتر قبحه بكماله ماذا قصده (في كفره).
أي ستر قبحه مع تمكنه من كشفه بلا نقصان فيه عند أمثاله (والشخص) الموصوف بالفجور والكفر (واحد) لا اثنان وهو الذي ينتجونه بتزاوج عقولهم لنفوسهم، ويظهرونه بخواطرهم وأقوالهم وأعمالهم على معنى أنه الذي يعرفونه فيما بينهم، ويعرفون بعضهم بعضا موصوفين بذلك، وهو الشخص الكامل المشاكل لهم، فإن المرء مرآة أخيه .


قال رضي الله عنه : («رب اغفر لي» أي استرني واستر من أجلي فيجهل قدري و مقامي كما جهل قدرك في قولك: «وما قدروا الله حق قدره» . «و لوالدي»: من كنت نتيجة عنهما و هما العقل و الطبيعة. «و لمن دخل بيتي» أي قلبي.
«مؤمنا» مصدقا بما يكون فيه من الإخبارات الإلهية و هو ما حدثت به أنفسها. «و للمؤمنين» من العقول «و المؤمنات» من النفوس. «و لا تزد الظالمين»: من الظلمات أهل الغيب المكتنفين خلف الحجب الظلمانية. «إلا تبارا» أي هلاكا، فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحق دونهم في المحمديين. «كل شي ء هالك إلا وجهه» و التبار الهلاك. و من أراد أن يقف على أسرار نوح فعليه بالرقي في فلك يوح "نوح"، و هو في التنزلات الموصلية لنا والسلام . و الله يقول الحق.)
("رب")، أي يا رب ("اغفر لي") [نوح: 28]، أي استرني) عن غيري فلا يشهدني إلا أنا الذي هو أنت (واستر) عني (من أجلي) غيري من حيث إنه غيرك فيجهل)، أي يجهل غيري الذي هو غيرك (مقامي) الكريم (وقدري) العظيم (كما جهل) عند الأغيار (قدرك) العظيم، فجعلوه قدرك وهو قدري (في قولك : "وما قدروا" )، أي جميع الأغيار ( الله ) لانتفائهم عنه بمغایرتهم في دعوى نفوسهم جهة ضرورية ("حق قدره") [الزمر: 67] . بل دون قدره وهو إيمانهم به على الحجاب ("ولوالدي") تثنية والد غلب على الوالدة فثني بلفظ المذكر كالقمرين للشمس والقمر وهما (من كنت في هذا العالم (نتيجة عنهما) من حيث النفس والجسم.
وهما العقل الكلى الطالع في منزلتی عقلا جزئية وهو الوالد (والطبيعة) الكلية الطالعة في منزلتي طبيعة جزئية وهي الوالدة، وهذه الولادة الثانية عن هذين الأبوين والولادة الأولى قبل ذلك عن أبوين هما العالم والمعلوم، وذلك قول عیسی عليه السلام: من لم يولد مرتين لم يلج ملكوت السموات والأرض.
(ولمن دخل) باطلاعه (بيتي أي قلبي) المملوء بالوحي والإلهام (مؤمنا أي مصدقا بما يكون فيه من الإخبارات الإلهية) التي أخبرتهم بها عنك (وهو ما حدثت به أنفسهم) لهم فظهر منها تكذيبة لي وهو تصديق من حيث هي قلوب لا نفوس ("وللمؤمنين" من العقول) التي لهم في عين كفرها من حيث إنها مصدقة مذعنة منقادة للحق الظاهر لها في صورة ما عقلته، فاشتغلت بإيمانها عن بقية الصور له مما لا يتناهى في الغيب (والمؤمنات من النفوس) الكاشفة منه عما نزل في منزلتها وظهر في مرتبتها وقد قصرت عن معرفة إطلاقه فتقيدت بشهود خلق من أخلاقه .
("ولا تزد الظالمين") من العقول والنفوس والظلم مشتق (من الظلمات) وهو النور الأسود، وهم (أهل الغيب) عن كل معقول و محسوس، لأن العقل هو النور الأبيض والحس هو النور الأحمر فلا يعرفان النور الأسود، لأنه فوقهما .
وبهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس العمامة السوداء إشارة إلى الغيب الذي فوقه، وإنما كان العقل نورة أبيض، لأنه كلما أشرق على شيء كشفه بل كشف عن إشراقه على ذلك الشيء لا عن ذلك الشيء.
فلا يعرف إلا قدر استعداده من كل شيء كالشمس إذا تجلت على الأرض وكشفت عما فيها إنما كشفت عن نورها الذي أشرقت به الأرض عند تجليها عليها لا عن الأرض عما هي عليه.
لأن كل شيء هو النور الأسود الذي فوق النور الأبيض، فلا يعرف النور الأبيض منه إلا قدر استعداده .
وإنما كان الحس هو النور الأحمر، لأنه أدرك النفس المنصورة في صورة الدم فلها اللون الأحمر، لأنه أحب الألوان للنساء والنفوس نساء العقول لأنها مخلوقة منها كحواء من آدم. ولأن الحمرة أشهر الألوان ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المياسر الحمر. قال : دعوا هذه البراقات للنساء».


(المكتنفين)، أي المحاط بهم من جهة ربهم (خلف الحجب الظلمانية) التي هي عوالم الحس والشهادة ("إلا تبارا"[نوح: 8]، أي (هلاكا) واضمحلا لا بحيث يخرجون عن الحجب الظلمانية التي هي جميع المحسوسات ، والحجب النورانية التي هي جميع المعقولات.
ويدخلون في حقيقة سيئاتهم الهالكة إلا وجه الحق (فلا يعرفون نفوسهم) المحاط بها المحجوبة بنظرها إليها (لشهودهم) بربهم (وجه الحق) سبحانه وتعالى (دونهم) حيث يتحققون بهلاكهم في وجوده تعالی فيزول عنهم كونهم أهل الغيب ويصيرون أهل الشهادة فينتقلون من مقام الإيمان إلى مقام الإحسان.
(و) مقامهم هذا (في) الورثة (المحمديين) أنزل على محمد في القرآن قوله تعالى: ("كل شيء") معقول أو محسوس (مالك)، أي فان ومضمحل (وإلا وجهه) [القصص: 88]، أي الحق جل وعلى بمعنی توجهه إلى كل شيء.
فإنه الموجود لا غير (والتبار) الواقع في آية نوح عليه السلام معناه (الهلاك) فهذه الآية نظير تلك الآية (ومن أراد) من المریدین (أن يقف)، أي يطلع ويشرف (على أسرار) حقيقة (نوح عليه السلام) .

.
يتبع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 04- فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الأول .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 9:52 pm

04- فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

04- فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية

هذا نص الحكمة الإدريسية.

ذكره بعد حكمة نوح عليه السلام، لأن أسرار نوح عليه السلام مبنية على الترقي في فلك الشمس كما مر، وإدريس عليه السلام رفعه الله تعالى إلى فلك الشمس، فهو صاحب فلكها فعنده علم الحقيقة النوحية فناسب ذكره بعده .
(فص حكمة قدوسية)، أي منسوبة إلى قدوس بالتشديد كلمة تقديس وتنزيه الله تعالی عی وجه المبالغة (في كلمة إدريسية).
إنما اختصت حكمة إدريس عليه السلام بالقدوسية، لأن الله تعالی رفعه مكانا عليا، وهو مكان التقديس في حضرة روح القدس، فكان على قدم نوح عليه السلام في غاية تنزيه الرب جل وعلا ، ولم يقدر على ذلك بحقيقته، فرفعه الله تعالى المكان العلي، وقدر عليه نوح عليه السلام لكونه أول أولي العزم فلم يرفع .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :  : ( العلو نسبتان، علو مكان و علو مكانة.
فعلو المكان «و رفعناه مكانا عليا».
و أعلى الأمكنة المكان الذي تدور عليه رحى عالم الأفلاك و هو فلك الشمس، و فيه مقام روحانية إدريس عليه السلام.
و تحته سبعة أفلاك و فوقه سبعة أفلاك و هو الخامس عشر.
فالذي فوقه فلك الأحمر و فلك المشترى و فلك كيوان و فلك المنازل و الفلك الأطلس فلك البروج و فلك الكرسي و فلك العرش.
والذي دونه فلك الزهرة وفلك الكاتب، و فلك القمر، و كرة الأثير، و كرة الهوى، وكرة الماء، وكرة التراب.
فمن حيث هو قطب الأفلاك هو رفيع المكان. و أما علو المكانة فهو لنا أعني المحمديين.
قال الله تعالى : «وأنتم الأعلون والله معكم» في هذا العلو، وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة.)
"والله معكم" في هذا العلو؛ وهو يتعالی عن المكان لا عن المكانة .
(العلو) الارتفاع وهو نسبة عدمية لا وجود لها إلا بالنظر إلى ضدها وهو السفل، كباقي النسب كالفوق والقدام واليمين وحقيقة النسبة أمر اعتباري لا يظهر إلا بين شيئين وجوديين (نسبتان).
أي نوعان من النسبة :
الأول : (علو مكان)، أي حیز ومحل ولا توصف به إلا الأجسام
(و) الثاني(علو مكانة)، أي منزلة ومرتبة ويوصف به كل موجود.
(فعلو المكان) قوله تعالى في حق إدريس عليه السلام ("ورفعناه") يعني من الأرض التي هي مكان الخلافة الآدمية ("مكانا")، أي حيزة أو محلا ("عليا") [مريم: 57] .
من العلو المكاني وهو السماء مرتفعة عن الأرض وهي مكان الخلافة الملكية (وأعلى الأمكنة) بالنسبة إلى الأفلاك التي دونه والأفلاك التي فوقه (المكان الذي) هو كقلب الرحى (تدور عليه) بأمر الله تعالى (رحی عالم الأفلاك) كلها من تحته ومن فوقه كالعقل في هذه النشأة الآدمية تدور عليه الأفلاك الحواس الظاهرة وهي السفلية خمسة والدم واللحم وأفلاك الحواس الباطنة وهي العلوية خمسة والطبع والنفس كما سنبين لك ذلك.
(وهو)، أي المكان المذكور (فلك الشمس) وهو أوسط الأفلاك في السماء الرابعة (وفيه مقام روحانية إدريس) عليه السلام وهو المكان العلي الذي رفع إليه بعد موته (وتحته سبعة أفلاك) في ثلاث سماوات وأربع كرات (وفوقه سبعة أفلاك) في ثلاث سماوات وأربع كرات (وهو)، أي فلك الشمس (الخامس عشر) فلك (فالذي فوقه من الأفلاك السبعة الأول منها :
(فلك الأحمر) وهو المريخ وهو بمنزلة الحس المشترك من الحواس الباطنة ، لأن جميع الصور المحسوسة بالحواس الظاهرة تنتهي إليه.
(و) الثاني (فلك المشتري)، وهو بمنزل الخيال، لأنه قوة يحفظ ما یدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة بحيث يشاهدها الحس المشترك كلما التفت إليها .
(و) الثالث (فلك كيوان) وهو زحل، وهو بمنزلة الوهم لأن من شأنه إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات كشجاعة زيد و سخاوته، وهو حاكم على جميع القوى الجسمانية كلها مستخدم لها.
(و) الرابع: (فلك المنازل) وهو فلك الكواكب الثوابت، وهو بمنزلة القوة الحافظة، لأن من شأنها حفظ ما يدرك الوهم من المعاني الجزئية، فهو الوهم كالخيال للحس المشترك .
(و) الخامس (الفلك الأطلس)، أي الخالي من الكواكب الثوابت والسيارات (وهو فلك البروج) والبروج فيه تقديرات منقسمة إلى اثني عشر قسمة.
وهو بمنزلة القوة المتصرفة، لأن من شأنها التصرف في الصور والمعاني والتركيب والتفصيل، فتركب الصور بعضها مع بعض، وهذه القوة يستعملها العقل تارة والوهم أخرى.
وبالاعتبار الأول تسمى مفكرة لتصرفها في المواد الفكرية، وبالاعتبار الثاني متخيلة لتصرفها في الصور الخيالية .
(و) السادس (فلك الكرسي)، وهو بمنزلة عالم الطبيعة، وقد وسع السموات والأرض كما وسعت الطبيعة السموات والأرض.
(و) السابع (فلك العرش) المحيط بالكل وهو بمنزلة عالم النفس المحيطة بالطبيعة وما حوتها (والذي دونه)، أي فلك الشمس من الأفلاك السبعة منها.
(فلك الزهرة) وهو بمنزلة السمع من الحواس الظاهرة.
(و) الثاني: (فلك الكاتب) وهو عطارد وهو بمنزلة البصر .
(و) الثالث: (فلك القمر) وهو بمنزلة الشم
(و) الرابع : (كرة الأثير) وهو فلك النار وهو بمنزلة الذوق .
(و) الخامس: (كرة الهواء) وهو فلك الهواء وهو بمنزلة اللمس .
(و) السادس: (كرة الماء) وهو فلك الماء وهو بمنزلة الدم .
(و) السابع : (كرة التراب) وهو فلك التراب وهو بمنزلة اللحم.
(فمن حيث هو)، أي فلك الشمس (قطب)، أي مركز دوائر (الأفلاك) الأربعة عشر من حيث إنها كلها دائرة فيها هي مسخرة له من الآثار المولدات عن أمره وإذنه ، لأنه قلبها .
هو رفيع المكان بالنسبة إليها كلها بمنزلة العقل الذي تدور عليه جميع الأفلاك الإنسانية الأربعة عشر المذكورة، لأنه يزنها بميزانه ويصرف كل فلك منها في شأنه.
(وأما علو المكانة) المرتبة والمنزلة (فهو لنا) خاصة (أعني) الورثة المحمديين التابعين بمحمد صلى الله عليه وسلم (كما قال الله تعالی) في حقنا ("وأنتم الأعلون") على غيركم مرتبة ومنزلة ("والله" ) سبحانه وتعالى من حيث جمعيته لجميع الأسماء ("معكم") بذاته من حيث أنها ذاتكم وراء ما أطلعكم عليه أنه ذاتكم.
وبصفاته من حيث إنها صفاتكم وراء ما أطلعكم عليه أنه صفاتكم .
وبأسمائه من حيث إنها أسماؤكم وراء ما أطلعكم عليه أنه أسماؤكم.
وبأفعاله من حيث أنها أفعالكم وراء ما أطلعكم عليه أنه أفعالكم.
وبأحكامه من حيث إنها أحكامكم وراء ما أطلعكم أنه أحكامكم.
فأنتم هو من حيث ما يعلم هو لا من حيث ما تعلمون أنتم.
فإنه أزاغ أبصاركم وأطغاها فأشهدكم إياه أنتم لا هو.
فلو أقامكم في مقام "ما زاغ البصر وما طغى " [النجم: 17] . لرأيتموه وغبتم عن أنفسكم التي لا وجود لها من قبل غيبتكم عنها أيضا.
وهذه هي المعية الأزلية الأبدية (في هذا العلو) عنكم الذي له تعالى في المرتبة والمنزلة (وهو) سبحانه (يتعالی)، أي يتنزه ويتباعد (عن) علو (المكان)، لأنه من صفات الأجسام وهو تعالی ليس بجسم (لا عن) علو (المكانة) بمعنى المرتبة والمنزلة، لأنه تعالى يوصف بذلك إذ رتبته ومنزلته فوق كل رتبة ممكنة ومنزلة ممكنة.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :  
(و لما خافت نفوس العمال منا أتبع المعية بقوله «و لن يتركم أعمالكم»: فالعمل يطلب المكان و العلم يطلب المكانة، فجمع لنا بين الرفعتين علو المكان بالعمل و علو المكانة بالعلم.
ثم قال تنزيها للاشتراك بالمعية «سبح اسم ربك الأعلى» عن هذا الاشتراك المعنوي.
و من أعجب الأمور كون الإنسان أعلى الموجودات، أعني الإنسان الكامل، و ما نسب إليه العلو إلا بالتبعية، إما إلى المكان و إما إلى المكانة و هي المنزلة. فما كان علوه لذاته.
فهو العلي بعلو المكان وبعلو المكانة. فالعلو لهما. فعلو المكان.
كـ « الرحمن على العرش استوى» 5 سورة طه , وهو أعلى الأماكن.
وعلو المكانة «كل شيء هالك إلا وجهه» 88 سورة القصص ، و «إليه يرجع الأمر كله » 123 سورة هود، «أإله مع الله» 60 سورة النمل .)
(ولما خافت نفوس العمال منا) معشر المحمديين على عملها المطلوب منها أن يفوتها باشتغالها بمعيته تعالى التي تستغرق يقظتنا وعملنا بأنفسنا وبغيرنا (أتبع) سبحانه (المعية) المذكورة (بقوله) تعالى: ("ولن يتركم")، أي ينقصكم
("أعمالكم") [محمد: 35]، بسبب استغراقكم في معيته (فالعمل) الصالح منكم (يطلب المكان) لكثافته.
ولهذا كانت الجنة "عند سدرة المنتهى " والسدرة فوق السموات.
قال تعالى: "عند سدرة المنتهى . عندها جنة المأوى " [النجم: 14 - 15] .
والجنة جزاء الأعمال بل هي الأعمال تجسدت في الدار الآخرة (والعلم) اللدني منكم (يطلب المكانة)، أي المرتبة العالية للطافته، وهو علم الله بكم، وهو كلمات الله لكم كما قال في عیسى علیه السلام : "وكلمته ألقاها إلى مريم" [النساء: 171]، وقال الله تعالى : "إليه يصعد الله الطيب" [فاطر: 10] . وهو العلم يطلب المكانة، أي المرتبة التي له تعالى، والعمل الصالح يرفعه إلى المكان العالي عن عالم العناصر وهو الجنة فوق السموات السبع.
(فجمع) سبحانه (لنا) معشر الورثة المحمديين (بين الرفعتين) الأولى (علو المكان بالعمل) الصالح (و) الثانية : (علو المكانة بالعلم) اللدني.
(ثم قال) سبحانه (تنزيها) له تعالى عن مشابهتنا (للاشتراك)، أي لأجل ما يفهم من الاشتراك بيننا وبينه (بالمعية) المذكورة في هذه الآية، فإن قوله: "والله معكم" [محمد: 35]. يقتضي اشتراكه معنا فيما نحن فيه من الوجود والاتصاف بالأوصاف ولو من بعض الوجوه.
وهو ممتنع لقدمه وحدوثنا واستغنائه وافتقارنا، فنزه تعالى نفسه بقوله في آية أخرى ("سبح")، أي نزه وقدس ("اسم") فكيف صفة فكيف ذات ( "ربك ")، أي مالكك وهو الله تعالى من حيث تجليه عليك حتى ظهرت بتأثير أسمائه وصفاته ، فكيف من حيث ما هو عليه في ذاته ("الأعلى") [الأعلى: 1] .
نعت للاسم أو الرب أي المنزه عن هذا الاشتراك)، أي المفهوم من آية المعية (المعنوي)، أي من حيث معنى العبادة لا حقيقة الأمر.
(ومن أعجب الأمور) الإلهية المتضمنة للحكم الربانية (كون الإنسان) سبب خلقه على الصورة الإلهية من قوله عليه السلام إن الله خلق آدم على صورته .
وفي رواية أخرى: على صورة الرحمن، لأنه مجموع آثار مختلفة صادرة عن جميع الصفات الإلهية التي هي صورة الحق تعالى، فإن صورة كل شيء صفاته (أعلى الموجودات) كلها على الإطلاق العلوية الروحانية والسفلية الجسمانية والبرزخية النفسانية (أعني الإنسان الكامل) في مرتبة الظهور والبطون.
وأما غيره من الناقصين فقد تفرق كماله فيهم، فهم أنفاسه، فليسوا على الصورة الإلهية بل على بعضها.
فهم من جملة كمال نسخة الوجود (و) مع ذلك (ما نسب)، أي نسب الله تعالى (إليه العلو) كما تقدم في قوله تعالى: "وأنتم الأعلون والله معكم " [محمد: 35].
(إلا بالتبعية إما إلى المكان) وهو قوله: "وأنتم الأعلون" يعني من جهة عملكم وهو جهادكم في سبيل الله فلما علا عملكم علوتم تبعا له .
(وإما إلى المكانة وهي المنزلة) وهو قوله تعالى : "والله معكم " فنزلتكم أعلى المنازل بالتبعية لمن هو معكم وهو الله تعالی.
(فمن كان علوه لذاته)، أي لا تبعا لغيره وهو على الله تعالى (فهو العلي بعلو المكان)، لأن الأماكن كلها منه فعلوها من علوه (وبعلو المكانة) أيضا هي المنزلة لأن المنازل والمراتب كلها منه فعلوها من علوه (والعلو) عندنا في حضرة الإمكان لهما) فقط أي للمكان والمكانة، لأنه العلو المخلوق .
وأما العلم الذاتي فليس له فينا وجود، لأنه العلو القديم فنعلمه إيمانا لا تصورا.
(فعلو المكان) نسب إلى الله تعالى في الشرع كـ (" الرحمن على العرش استوى" ) [طه: 5]، فيما أخبر تعالی عن نفسه .
(وهو)، أي العرش (أعلى الأماكن)، لأنه أول عالم الأجسام والأماكن إنما هي عالم الأجسام (وعلو المكانة)، أي المنزلة والمرتبة نسب إلى الله تعالی أيضا في الشرع كقوله تعالى: ("كل شيء") معقول أو محسوس "هالك" ، أي زائل ومضمحل ("إلا وجهه") [القصص: 88]، أي ذاته سبحانه وتعالی .
وقوله عز وجل: ("وإليه ") من حيث ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه "يرجع الأمر" الإلهي الواحد .
وأكده بقوله : "كله" [هود: 123]، لظهوره عندنا في صور الخلق من حيث ذواتهم وصفاتهم واسمائهم و أفعالهم وأحكامهم.
وقوله تعالى: ("أإله")، أي معبود يعبده أي يذل له شيء مطلقا ولا تجد شيئا يذل إلا لشيء مثله من حيث إن الله تعالی رتب الأسباب في الوجود فالمعنى هل شيء ("مع الله" ) والتقدير لا شيء مع الله سبحانه نظيره.
قوله عليه السلام أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد «ألا كل شيء ما خلا الله باطل». فهذه الآيات الثلاث تفيد على المنزلة لله تعالی.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :  
( و لما قال الله تعالى «و رفعناه مكانا عليا» فجعل «عليا» نعتا للمكان، «و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة»، فهذا علو المكانة.
و قال في الملائكة «أستكبرت أم كنت من العالين» فجعل العلو للملائكة.
فلو كان لكونهم ملائكة لدخل الملائكة كلهم في هذا العلو.
فلما لم يعم، مع اشتراكهم في حد الملائكة، عرفنا أن هذا علو المكانة عند الله.
و كذلك الخلفاء من الناس لو كان علوهم بالخلافة علوا ذاتيا لكان لكل إنسان.
فلما لم يعم عرفنا أن ذلك العلو للمكانة.)
ولما قال تعالى في حق إدريس عليه السلام: "ورفعناه مكانا عليا" (فجعل علية نعتا للمكان) [مريم: 57].
فلزم علو إدريس عليه السلام بالتبعية وقال تعالى : ("وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة") [البقرة: 30]، يعني يخلفنی في القيام مقامي بأن أشتق له ذاتا من ذاتي وصفات من صفاتي وأسماء من أسمائي وأفعالا من أفعالي وأحكاما من أحكامي اشتقاق محاكاة معدوم الموجود (فهذا هو علو المكانة)، أي المنزلة إذ الخليفة في مقام المستخلف فعلوه بالتبعية لعلوه.
(وقال) تعالى (في حق الملائكة) عليهم السلام خطابا لإبليس لما أبى عن السجود لآدم عليه السلام ("أستكبرت أم كنت من العالين") [ص: 75] .
جمع عالي وهم نوع من الملائكة مهيمون في الله تعالى لا يعرفون غيره ولا يعرف بعضهم بعضا فكل واحد لا يعرف إلا الله تعالى (فجعل) سبحانه (العلو) في هذه الآية (للملائكة).
وهو علو لهم بالتبعية لمن هم مهيمون فيه وهو الله تعالى فإن من أسمائه العالي.
لا علو ذاتي لهم فلو كان هذا العلو لهم (لكونهم ملائكة) حتى يكون علوا ذاتية (لدخل الملائكة كلهم) المهيمون منهم وغيرهم (في هذا العلو) المذكور.
(فلما لم يعم) هذا العلو المذكور لجميع الملائكة (مع اشتراكهم) كلهم (في حد).
أي تعريف (الملائكة عرفنا) يقينا (أن هذا) العلو المذكور (علو المكانة)، أي المنزلة لا المكان عند الله تعالى.
لأنهم مهيمون فيه كل واحد منهم لا يعرف غيره تعالى وهو تعالی موصوف بعلو المكانة، فوصفوهم أيضا بذلك بطريق التبعية له تعالی.
(وكذلك الخلفاء) عن الله تعالى (من الناس) وهم الكاملون منهم (لو كان علوهم بالخلافة) عنه تعالى التي هي وصفهم (علوا ذاتيا لكان) ذلك العلو (لكل إنسان) إذ كل إنسان خليفة في الأرض .
كما قال تعالى: ("وهو الذي جعلكم خلائف الأرض" ) [الأنعام: 165]. ويستخلف ربي قوما غيركم.
وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه (فلما لم يعم) العلو لكل إنسان إذ من الخلفاء من جار فيما استخلف فيه ومنهم من عدل في ذلك .
(عرفنا أن ذلك العلو) الذي للخلفاء الكاملين في مرتبة العلم والعمل إنما هو (للمكانة)، أي المنزلة باعتبار الإقبال عليه والاشتغال به لا باعتبار كونهم خلفاء منه تعالى .
إذ الكل خلفاء مثلهم، ولكنهم أعرضوا عنه تعالى، واشتغلوا في زمان خلافتهم بتنفيذ حظوظهم النفسانية و شهواتهم البهيمية فأخذهم إليه.
وقد أخذ لهم كتبا أحصى عليهم فيها جميع ما فعلوه فحاسبهم، ووزن أعمالهم ثم حبس من خفت موازينه في جهنم وعفا عمن أراد .
وأطلق من ثقلت موازينه ولا حساب إلا على الأعمال إذا عز لهم سلطانهم.
قال تعالى: "إن إلينا إيابهم " ثم إن علينا حسابهم " [الغاشية : 25 - 26].

فتخلص لنا من جميع ما تقدم :
أن العلو لغيره تعالى، سواء كان علو مكان أو علو مكانة لا يكون إلا بالتبعية وليس العلو الذاتي إلا الله تعالى وحده.
ثم شرع في بيانه فقال الشيخ الأكبر رضي الله عنه  :
( و من أسمائه الحسنى العلي. على من و ما ثم إلا هو؟ فهو العلي لذاته.
أو عن ما ذا و ما هو إلا هو؟ فعلوه لنفسه.
و هو من حيث الوجود عين الموجودات. فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو.
فهو العلي لا علو إضافة، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمت رائحة من الموجود، فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات.
و العين واحدة من المجموع في المجموع . فوجود الكثرة في الأسماء، و هي النسب، و هي أمور عدمية. و ليس إلا العين الذي هو الذات.)
(ومن أسمائه) تعالى (الحسنى) التي هي تسعة وتسعون اسما على ما ورد في الأحاديث الصحيحة الاسم (العلي)، أي المرتفع فلو كان عليا بالتبعية لغيره كعلو غيره كان علية (على  من و) الحال أنه (ما ثم) موجود (إلا هو) وحده سبحانه وتعالى إذ كل ما سواه تقادیر عدمية ممسكها هو تعالى.
وهو موجود فظهر وجوده بها، فنسب الوجود إليها عند أهل الغفلة والحجاب، مع أنها على ما هي عليه من العدم الأصلي.
وهو على ما هو عليه من الوجود الحق الذي له لا انتقل إليها ولا حل فيها ولا اتحد بها.
(فهو) سبحانه (العلي) على كل شيء إذ لا شيء في الوجود غيره تعالی حقيقة .
كما قال تعالى : "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88] .
(لذاته)، أي علوا منسوبا إلى مجرد ذاته سبحانه لا باعتبار غيره مطلقا (أو) العلي المنزه (عماذا)، أي عن أي شيء ولا شيء في الوجود مطلقة مع وجوده تعالى (وما هو)، أي الموجود في هذا الوجود الظاهر للعقل والحس (إلا هو) سبحانه وتعالى لا غير، ولكن لا كما هو عليه في ذاته بل كما تقتضيه مراتب الإمكان، وتقبله المقادير العدمية المقيدة بالزمان والمكان.

(فعلوه) سبحانه وتعالى حينئذ (لنفسه) لا لغيره كغيره من تلك المقادير العدمية اللابسة خلعة وجوده تعالی بطريق العارية أو الغصب في السعيد والشقي (وهو)، أي الحق سبحانه (من حيث الوجود) فقط دون الصورة والمقادير (عين) هذه
الموجودات الحسية والعقلية والعلوية والسفلية.
وأما من حيث الصورة الخلقية والمقادير الكونية فليس هو تعالى عين هذه الموجودات ولا يصح بوجه من الوجوه , لأنها كلها أمور عدمية من هذه الحيثية المذكورة.
وهو تعالی موجود حق، فمحال أن يكون عينها من هذه الحيثية، بخلاف حيثية الوجود .
فإن الوجود له تعالى لا لغيره، فهو تعالى عين الموجودات كلها بالنظر إلى وجودها لا بالنظر إلى ما هي عليه في مراتب إمكانها، لأنها من هذا الوجه أمور عدمية.
فالمسمى بالمحدثات من جميع الموجودات حيث كانت عين الحق تعالی من وجودها فقط لا من جهة مقاديرها وصورها .
كما قال الله تعالى : "الله نور السموات والأرض" [النور: 35]، أي منورهما يعني موجدهما بوجوده، فالوجود له تعالى وهو غير السموات والأرض من حيث هي سموات وأرض وهو عين السموات والأرض من حيث وجودها فقط لأن وجودها هو الحق تعالى،
وكذلك كل موجود، والحق تعالى هو العلي لذاته فيلزم أن تكون جميع المحدثات (هي العلية لذاتها) من حيث وجودها الذي هو الحق تعالی سبحانه (وليست هي) من هذه الحيثية (إلا هو سبحانه وتعالی.
(فهو) جل وعلا (العلي) وحده علوة حقيقية (لا علو إضافة) إلى مكان أو مكانة. (لأن الأعيان) الكونية (التي لها العدم) المحض (الثابتة)، أي المفروضة من غیر وجود (فيه)، أي في العدم (ما شمت رائحة من الوجود) لا فيما مضى ولا في الحال ولا في المستقبل ولا يمكن ذلك لأنها ممكنة.
والممكن لا يتغير عن إمكانه ولا تقبل حقيقة الانقلاب إلى الوجوب (فهی)، أي الأعيان المذكورة باقية (على حالها) من العدم الصرف لم تتغير كما أن الوجود الحق الصرف باق أيضا على حاله لم يتغير.
لكنه أراد لها اختلاف الأحوال في الأزل. ومن جملة أحوالها رؤية وجوده مقترنا بها بحيث يضاف وجوده إليها فيقال موجودة.
ثم رؤية عدمها من غير ذلك الاقتران فيقال : معدومة وهو على حاله وهي على حالها.
فإن حقيقة الواجب محض الوجود لا يقبل الانقلاب.
وحقيقة المستحيل خالص العدم لا يقبل الانقلاب.
وحقيقة الممكن فرض الوجود من قبل الواجب في مادة العدم من قبل المستحيل، فوجوبه وجوب الواجب وذاته ذات المستحيل، ولا يقبل الانقلاب عن حقيقته أبدا إن وجد وإن عدم .
مع تعدد الصور المختلفة (في) جميع الموجودات التي هي مجرد فروض وتقادیر عدمية لا وجود لها (والعين) الموجودة التي وجدت بها جميع تلك الموجودات (واحدة) وهي حقيقة الوجود المحض (من المجموع) الكوني كله (في المجموع) الكوني بأسره من غير حلول فيه ولا اتحاد به. لأن الوجود لا يحل في العدم ولا يمكن أن يتحد به .
(فوجود الكثرة) عند الحس والعقل لتلك العين الواحدة إنما هي في الأسماء التي لتلك العين الواحدة لا في ذاتها .
(وهي)، أي الأسماء مجرد (النسب) جمع نسبة (وهي)، أي النسب (أمور عدمية) لا وجود لها إلا بالاعتبار والإضافة (وليس) في الوجود (إلا) مجرد تلك (العين) الواحدة (الذي) نعت للعين ذكرها، لأن تأنيثها ليس حقيقية (هو الذات) الأحدية .

فقال الشيخ الأكبر رضي الله عنه  :
فهو العلي لا علو إضافة، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمت رائحة من الموجود، فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات.
و العين واحدة من المجموع في المجموع . فوجود الكثرة في الأسماء، وهي النسب، وهي أمور عدمية.
و ليس إلا العين الذي هو الذات. فهو العلي لنفسه لا بالإضافة. فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة، لكن الوجوه الوجودية متفاضلة.
فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجود الكثيرة. لذلك نقول فيه هو لا هو، أنت لا أنت.
قال الخراز رحمه الله تعالى، وهو وجه من وجوه الحق و لسان من ألسنته ينطق عن نفسه بأن الله تعالى لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها. فهو الأول والآخر والظاهر والباطن. فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره.
و ما ثم من يراه غيره، و ما ثم من يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه.
و هو المسمى أبا سعيد الخراز و غير ذلك من أسماء المحدثات.)
(فهو) أى العين الذي هو الذات (العلي بنفسه) لكونه كناية عن هذه العين الواحدة من حيث الوجود ( لا بالإضافة) إلى مكان أو مكانة ( فما في العالم من هذه الحيثية) المذكورة (علو إضافة) لشيء مطلقا (لكن الوجوه) أى الإعتبارات (الوجودية ).
أي المنسوبة إلى الوجود الواحد الذي هو كناية عن تلك العين المذكورة (متفاضلة) في ظهورها (فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه).
أي الاعتبارات الكثيرة التي لتلك العين الواحدة لظهور العين الواحدة بكثرة جامعة (لذلك نقول فيه)، أي في علو الإضافة بالاعتبار المذكور وهو حيث كان في شيء من جزئيات العالم كإنسان أو حيوان أو نبات أو جماد بعينه (هو).
أي ذلك الجزء المخصوص عین الحق الموجود من غير زيادة ولا نقصان.
ثم نقول أيضا (لا هو)، أي ليس هو عین الحق لكونه هو باعتبار الوجود، وكونه ليس هو باعتبار الصورة الحسية والعقلية.
وكذلك نقول عنك : يا أيها المخاطب (أنت) الحق تعالی باعتبار مجرد الوجود (لا أنت) باعتبار صورتك الحسية والعقلية .
(قال) الإمام أبو سعيد (الخراز) رضي الله عنه (وهو)، أي الخراز (وجه)، أي اعتبار واحد ظاهر (من) جملة (وجوه)، أي اعتبارات (الحق) سبحانه وتعالى (ولسان) مخلوق (من) جملة (ألسنته).
أي الحق جل وعلا التي خلقها له (ينطق) به (عن) أحوال (نفسه) مثل سائر العارفين عليهم رضوان الله أجمعين.
وقوله هو (بأن الله) تعالى (لا يعرف)، أي لا يعرفه أحد (إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها) وتلك الأضداد إما خاصة أو عامة.
فالخاصة كما يقال : إنه هو السواد وهو البياض وهو الكبير وهو الصغير ونحو ذلك.
والعامة كقوله : (فهو الأول)، أي كل أول، وهو كل شيء موجود بالنسبة إلى ما بعده (و) هو (الآخر). أي كل شيء موجود بالنسبة إلى ما قبله.

.

يتبع الجزء الثاني

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 04- فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 10:00 pm

04- فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الجزء الثاني : 

(و) هو (الظاهر)، أي كل شيء ظاهر بالنسبة إلى كل شيء كان وزال أو لم يكن بعد.
(و) هو (الباطن)، أي ما يدرك بالنسبة إلى كل شيء موجود أو كان وزال أو لم يكن بعد.
والحاصل أنه كل شيء موجود وكل أمر معدوم، فهو الجامع للأضداد الخاصة والعامة، وكونه كذلك تشبيه له وهو أيضا تنزيه له، فالتشبيه عين التنزيه .
وبيانه أنك إذا قلت أنه عين السواد مثلا أوهمت العبارة أنك تريد بالسواد اللون المخصوص الذي تراه.
فإذا قلت: إنه عين البياض أيضا ظهر أن مرادك بكونه عين السواد ما وراء ذلك اللون المخصوص الذي تراه العين والذي وراءه هو الممسك له وهو الحق تعالی بلا شبهة.
فقد تنزه الحق تعالی عن مفهوم قولك: إنه عين السواد .
بقولك: إنه عين البياض، وكذلك بالعكس.
وهكذا في كل ما قلنا عنه إنه هو، فهو عين كل شيء، ومع ذلك غير كل شيء، وهو المعدوم لا بقيد الصورة الموصوفة بالعدم، وهو الموجود لا بقيد الصورة الموصوفة بالوجود.
فالوجود والعدم من أوصاف الصور، والحق حق على ما هو عليه لا يوصف بالوجود الذي توصف به، الصور ولا بالعدم الذي توصف به وإنما هو تعالى على ما هو عليه مما لا يعلمه إلا هو.
ووصفنا له بالوجود حكم من أحكامه نعبده به من غير معرفة لكنهه كباقي أوصافه، وهذا هو الحق عندي أن الوجود صفة من أوصاف الذات لا هو عين الذات ولا هو غيرها.
(فهو) سبحانه (عين ما ظهر) من كل شيء محسوس أو معقول (وهو مع ذلك عين ما بطن) من حقيقة ذلك الشيء (في حال ظهوره)، أي ظهور ذلك الشيء (وما ثم)، أي هناك (من يراه) من أحد أبدا (غيره) سبحانه وتعالى.
إذ هو القائم على جميع أنفاس ذوات العيون، فهو الناظر بجميع تلك العيون فجميع العيون، مظاهر أحوال عينه الواحدة .
(وما ثم)، أي هناك (من يبطن) سوی سبحانه وتعالى (عنه) من أحد أبدا، إذ لا وجود غیر وجوده فهو الوجود وحده، والجميع أحوال وجوده باعتبار ظهوراته التي هي من جملة أحوال وجوده .
(فهو) عز وعلا حينئذ (ظاهر لنفسه) إذ لا وجود لغيره حتى يظهر لغيره (وهو) مع ذلك (باطن عنه).
أي عن نفسه سبحانه وتعالى من حيث إنه مطلق حقيقي لا يدركه مدرك ولا يحيط به محیط.
فلو أدرك هو نفسه وأحاط بها لدخلت نفسه تحت الإدراك والإحاطة فكانت مدركة محاطة بها، وكل مدرك محاط به محصور مقید والإطلاق الحقيقي يمنع جميع القيود.
ولا نقص في علمه تعالی إذ علمه حضرة من حضراته، فلا يحكم على ذاته العلية ولا يحصرها، وإنما علمه سبحانه بنفسه علمه بحضراته من حيث ما يمكن سبحانه أن يظهر به من مراتب أسمائه وصفاته مما لا يتناهى في الظهور والإمكان  وهو علمه تعالى بالعالم.
ولهذا قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه في كتابه «عقلة المستوفز» :
"أما بعد فإن الله علم نفسه فعلم العالم؛ فلذلك خرج العالم على الصورة" انتهى كلامه .
يعني بالصورة ظهوراته تعالى في مراتب الإمكان على مقتضى أسمائه وصفاته ، إذ لا صورة له من حيث هو في ذاته عز وجل.
وهي الصورة الواردة في الشرع في قول النبي صلى الله عليه وسلم "أن الله خلق آدم على صورته" بإرجاع الضمير إلى الله بدليل الرواية الأخرى خلق آدم على صورة الرحمن.
(وهو)، أي الحق تعالی (المسمى) عند الخلق (أبا سعيد الخراز) من حيث إنه رتبة من مراتب تجلياته عز وجل ومظهرا من مظاهر أسمائه وصفاته متعين في قيود الإمكان لأجل حصر المطلق وإدراكه والإحاطة به.
(و) كذلك هو (غير ذلك من) جميع حقائق (أسماء المحدثات) العلوية والسفلية العقلية والحسية، إذ ليس شيء غيره سبحانه وتعالى.
ولكن ليس هو الأشياء كلها من حيث هي أشياء فإنه لا يمكن ذلك أبدا لأنه تعالى أخبر أن: "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88].
أي إلا ذاته، والهالك هو الفاني الزائل وليس تعالی فانيا ولا زائلا .
فليس هو الأشياء كلها من حيث هي أشياء بل من حيث هي موجودات.
فإنه تعالى هو وجودها الممسك لها وهي الأمور العدمية القائمة به تعالی.
فقال الشيخ الأكبر رضي الله عنه  :
( فيقول الباطن لا إذا قال الظاهر أنا، و يقول الظاهر لا إذا قال الباطن أنا.
و هذا في كل ضد، و المتكلم واحد و هو عين السامع.
يقول النبي صلى الله عليه و سلم: «و ما حدثت به أنفسها» فهي المحدثة السامعة حديثها، العالمة بما حدثت به أنفسها ، و العين واحدة و اختلفت الأحكام.
و لا سبيل إلى جهل مثل هذا فإنه يعلمه كل إنسان من نفسه و هو صورة الحق.
فاختلطت الأمور و ظهرت الأعداد بالواحد في المراتب المعلومة.
فأوجد الواحد العدد، و فصل العدد الواحد،)
(فيقول) الاسم الإلهي (الباطن) من حيث الغيب المطلق الذي لا يدخل تحت الإحاطة الحادثة ولا القديمة (لا).
أي لست أنا هذا الشيء الحادث (إذا قال) الاسم الإلهي (الظاهر) من حيث التجلي والظهور في مراتب الإمكان باعتبار حضرات الأسماء والصفات (أنا) هذا الشيء الحادث والحدوث ظهور لا تجدد والتخليق التقدير لا الإثبات .
ويقول الاسم (الظاهر) من حيث التجلي (لا)، أي لست أنا هذا الشيء الكوني ضد هذا الشيء كالسواد مثلا ضد البياض ولست ضد هذا الشيء أيضا لكوني ذلك الشيء , فلست: الشيء ولا ضده .
(إذا قال) الاسم (الباطن) من حيث الغيب (أنا) هذا الشيء، لأنه نفس الوجود ظهر لنفسه في مرتبة من مراتب الإمكان باعتبار حضرات أسمائه وصفاته .
وهذا الأمر المذكور جار (في كل ضد) من أسماء الحضرات الإلهية كالأول والآخر، والمعطي، والمانع، والضار، والنافع، والخافض، والرافع، والمعز، والمذل، والهادي، والمضل.
(والمتكلم) من كل ذي كلام جميع أفراد ذلك كلهم متكلم (واحد) تجلی كلامه له من حيث هو عین ذاته، كما ظهر ذاته في مراتب الإمكان، فتنوع كلام الواحد كما تنوعت ذاته الواحدة باعتبار الإطلاق الحقيقي في الذات وفي صفة الكلام كما هو في صفة كل اسم له تعالى.
وكذلك كل فعل وحكم (وهو)، أي ذلك والمتكلم الواحد (عين السامع) من كون كل ذي سمع وقد تجلی سمعه له من حيث هو عين الذات .
وظهر كما ظهرت ذاته فتنوع كتنوع الذات في مراتب الإمكان فكل كلام كلامه وليس كل كلام كلامه وكل سمع سمعه وليس كل سمع سمعه كما أن كل ذات ذاته وليس كل ذات ذاته.
وهذا معنى جمعه بین الأضداد لكمال إطلاقه الحقيقي (بقول)، أي بدليل قول (النبي صلى الله عليه وسلم) في حديثه الوارد عنه (وما حدثت)، أي كلمت (أنفسها) والضمير للأمة.
وفي رواية أخرجها السيوطي في الجامع الصغير عن أبي هريرة رضي الله عنه:
" إن الله تعالی تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به". رواه البخاري .
(فهي)، أي النفس (المحدثة)، أي المتكلمة ومع ذلك هي (السامعة حديثها) لكن اختلفت مراتب ظهوراتها فكانت محدثة في مرتبة وكانت سامعة لحديثها في مرتبة أخرى (العالمة بما حدث به نفسها) في مرتبة أخرى.
(والعين) التي هي النفس الظاهرة لنفسها المتجلية على نفسها (واحدة) لا تعدد لها (وإن اختلفت الأحكام) الصادرة منها عليها في مراتب صفاتها وإمكان ظهوراتها الها (ولا سبيل) لأحد من الناس، أي لا طريق يجده (إلى جهل مثل هذا الأمر المذكور أبدا.
(فإنه يعلمه) بالضرورة علما واضحا (كل إنسان من نفسه) إذ النفس واحدة في كل جسد إنساني بلا شبهة.
وقد اتصفت بالحديث لنفسها فهي محدثة لنفسها وبالسماع لحديثها ، فهي سامعة لحديثها وبالعلم لما سمعته من حديثها، فهي العالمة بحديثها ومع ذلك هي واحدة لا تعدد فيها أبدا .
(وهو)، أي هذا الأمر المذكور في النفس (صورة الحق) الذي خلق الله آدم عليه كما ورد في الحديث، فالله متكلم وهو سامع لكلامه وهو عالم بمعاني ما تكلم به وقد ظهر لكل واحدة من هذه الحالات الثلاث صورة مخصوصة وربما تكررت الحالة الواحدة منها، بصورة مخصوصة لأمر اقتضاه الإطلاق الإلهي.
(فاختلطت الأمور)، أي التبست ولم تتميز، فإن المتكلم قد يصير سامعا والسامع متكلما وكل منهما قد يصير عالما بالكلام وبالعكس.
وكل واحدة من هذه الحضرات لها شخص يظهر بها ثم يظهر غيره بها ويظهر هو بما ظهر به غيره، وهذا هو اختلاط الأمور بسبب عدم لزوم الشخص الواحد لحالة واحدة .
وهذه الحضرات الثلاث مثال في العبارة وإلا فالحضرات لا تحصى كثرة.
فإن الحليم واللطيف، والجبار والمنتقم، والمحيي والمميت، ونحو ذلك لها أشخاص تظهر بها أيضا، ثم تتحول منها إلى غيرها.
وهكذا والعين واحدة كما ذكر (فظهرت) جميع الأعداد التي هي الاثنان والثلاثة والأربعة نحو ذلك (بالواحد) الذي هو قیوم على كل عدد بذاته بل هو عين تلك الأعداد كلها.
وإنما تكثر واختلف وتنوع بصفاته دون ذاته (في المراتب) العددية (المعلومة) من الإثنينية وما فوقها.
(فأوجد الواحد) الذي هو أول الأعداد (العدد) الكثير المتركب منه إيجادا منسوبا إلى ذاته الموصوفة بالواحدية بسبب كثرة وجوده وإمكاناته في ظهوره له متنوعا في تجليات صفاته .
(وفصل)، أي شرح وبين (العدد) الذي هو نفس المراتب الإمكانية المختلفة
(الواحد) الذي هو عين ذلك العدد.
فالواحد أوجد العدد فأوجد نفسه في مراتب غيره ولا غير معه.
والعدد فصل الواحد الذي هو مجمله فأظهر منه ما لم يكن ظاهرة، وليس العدد غير الواحد، بل هو صفة من صفات الواحد كالقيومية على كل حضرة من حضراته .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه  :
و ما ظهر حكم العدد إلا بالمعدود و المعدود منه عدم و منه وجود، فقد يعدم الشيء من حيث الحس وهو موجود من حيث العقل. فلا بد من عدد و معدود، و لا بد من واحد ينشئ ذلك فينشأ بسببه.
فإن كل مرتبة من العدد حقيقة واحدة كالتسعة مثلا و العشرة إلى أدنى وإلى أكثر إلى غير نهاية، ماهي مجموع، و لا ينفك عنها اسم جمع الآحاد.
فإن الاثنين حقيقة واحدة و الثلاثة حقيقة واحدة ، بالغا ما بلغت هذه المراتب،و إن كانت واحدة. فما عين واحدة منهن عين ما بقي. فالجمع يأخذها فنقول بها منها، و نحكم بها عليها.)
(وما ظهر حكم العدد)، أي لزومه وتحققه في الوجود (إلا بالمعدود)، وهو المحكوم عليه بالعدد بحيث يقال : هذه خمسة مثلا أو ثلاثة تشير بذلك إلى دراهم ونحوها. فهذه ثلاثة أشياء واحد وعدد ومعدود، فالواحد كذات الحق والعدد بمنزلة صفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه والمعدود بمنزلة مخلوقاته .
أما كون الواحد كذات الحق، فلأنه أصل لكل شيء، وكل شيء إمكان من إمكانات ظهوره .
كما قال تعالى : "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88]، أي إلا ذاته.
وقال تعالى: "أينما تولوا فثم وجه الله" [البقرة : 115]، أي ذاته .
والواحد ذات كل معدود من حيث حقيقة المعدود، والمعدود من حيث زيادته على حقيقة الواحد هالك.
وأما كون العدد بمنزلة الصفات الحق تعالى وأسمائه وأفعاله وأحكامه، فلأن للعدد أربع اعتبارات بحسب مراتبه.
الاعتبار الأول من حيث المعنى المصدري الذي هو الاثنينية والثلاثية وما فوق ذلك، فبهذا الاعتبار هو بمنزلة الصفات للحق تعالی.
والاعتبار الثاني من حيث معنى الاتصاف به بجهة اسم الفاعل الذي هو ثاني وثالث وما فوق ذلك، فبهذا الاعتبار هو بمنزلة الأسماء للحق تعالی.
والاعتبار الثالث من حيث ثبوت المعدود به في ذهن العاد حتى يدوم استحضاره ولا ينساه فكأنه بنفس عده وإحصائه يوجده في علمه أو في الخارج بالنظر إلى علمه فبهذا الاعتبار هو بمنزلة الأفعال للحق تعالی.
والاعتبار الرابع من حيث الحكم به على المعدود فيقال : هذا اثنان وهذا ثلاثة ونحو ذلك. فبهذا الاعتبار هو بمنزلة الأحكام للحق تعالی.
وأما كون المعدود بمنزلة مخلوقاته تعالى، فلأنه مراتب خارجة عن حقيقة الواحد لم تتغير عما كانت عليه من قبل توجه الواحد عليها.
وكذلك جميع مخلوقات الله تعالى بالنسبة إليه تعالى على ما هي عليه من عدمها الأصلي، ولولا دخولها في موازين صفاته تعالى وأسمائه وأفعاله وأحكامه ما تبينت هذا البيان، والمبين هو تعالى في موازينها وهو على ما هو عليه وهي على ما هي عليه، نقول بهذا ونقول بهذا ، وهي الحيرة في الله، ثم ننفي القولين ونقول : هو الله تعالى كما قال تعالى : "قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" [الأنعام: 91] .
(و) الشيء (المعدود) من حيث هو معدود، أي محكوم عليه بالعدد (منه عدم)، أي نوع معدوم في الخارج (ومنه وجود).
أي نوع وجود في الخارج (فقد بعدم الشيء) المعدوم (من حيث الحس)، فلا يبقى له وجود في الخارج.
(و) مع ذلك (هو موجود) في الذهن (من حيث العقل) فقد انتقل من وجود خارجي إلى وجود ذهني، وقد يكون الشيء معدومة في الخارج وهو موجود في الذهن. فيوجد في الخارج فينتقل من الوجود الخارجي، فيصح أن يقال في الأول عدم الشيء بعد وجوده.
ويقال في الثاني: ووجد الشيء بعد عدمه، وهو إنما انتقل في الحالتين من وجود إلى وجود ولا عدم هناك، فكذلك العالم ينتقل من الوجود العلمي والوجود القولي إلى الوجود الرقمي والوجود العيني، وبالعكس.
فيقال: وجد من عدم.  ويقال : عدم من وجد.
وهو في الحقيقة إنما انتقل من وجود إلى وجود ولا عدم أصلا.
(فلا بد) للواحد حتى يظهر في أسمائه المتنوعة (من) وجود (عدد) هو وصف له (ومعدود) هو موضع ظهور ذلك الوصف الذي له .
(ولا بد) للعدد والمعدود حتى يكونا ثابتين (من واحد) يوصف بالأول ويقوم به على الثاني (ينشی) بظهوره بحكمه (ذلك)، أي العدد والمعدود فيوصف بالأول ذات وبالثاني فعلا .
(فينشأ) ذلك العدد والمعدود (بسببه) أي سبب الواحد (فإن كان كل مرتبة من) مراتب (العدد) العشرين الآتي بيانها قريبة (حقيقة واحدة مستقلة متميزة عن غيرها (كالتسعة مثلا والعشرة إلى أدنى) كالثمانية والسبعة إلى الاثنين (وإلى أكثر) كالعشرين والثلاثين إلى الألف إلى غير النهاية من المراتب المركبة بالزيادة على المرتبة العشرين.
(فما هي)، أي كل مرتبة باعتبار استقلالها وامتیازها عن غيرها (مجموع الآحاد)، أي يلاحظ فيها ذلك (ولا ينفك عنها) باعتبار نفسها (اسم جميع الأحاد) ولكن من غير ملاحظة.
(فإن الاثنين) من حيث تكرار الواحد مرتين وانضمام أحدهما إلى الآخر حتى يشتملهما اعتبار واحد (حقيقة واحدة) مركبة من الواحد الظاهر في مظهرین. (والثلاثة) كذلك من التكرار والانضمام (حقيقة واحدة) أيضا مركبة من الواحد الظاهر في ثلاث مظاهر.
(بالغا ما بلغت هذه المراتب) العددية، فإنها كذلك كل مرتبة منها حقيقة على حدة. (وإن كانت) هذه المراتب كلها باعتبار أنها مركبة من ظهور الواحد في مظاهر مختلفة مثل كل مرتبة منها هي (حقيقة واحدة فما عين واحدة منها).
أي من هذه المراتب هي (عين ما بقي) من المراتب بل كل مرتبة عين مستقلة غير الأخرى.
(فالجمع)، أي جمع الآحاد (يأخذها)، أي يأخذ هذه المراتب كلها.
(فيقول)، أي الجمع (بها)، أي بهذه المراتب قولا ناشئة (منها)، أي من هذه المراتب ويحكم)، أي الجمع (بها)، أي بهذه المراتب (عليها)، أي على هذه المراتب.
كما أن حضرة الصفات للحق تعالی تقول بالحق تعالی قولا ناشئا من الحق تعالی وتحكم بالحق تعالى، وما هي إلا عين ذاته تعالى في حضرات تفصيلها.
كما أن مراتب العدد كلها إنما هي عين الواحد في حضرة تفصيله باعتبار كثرة مظاهره.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه  :
(قد ظهر في هذا القول عشرون مرتبة، فقد دخلها التركيب فما تنفك تثبت عين ما هو منفي عندك لذاته.
و من عرف ما قررناه في الأعداد، و أن نفيها عين إثباتها ، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، و إن كان قد تميز الخلق من الخالق. فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق.)
(وقد ظهر في هذا القول) الذي هو التمثيل بمراتب العدد (عشرون مرتبة) للعدد الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والخمسة والستة والسبعة والثمانية والتسعة والعشرة والعشرون والثلاثون والأربعون والخمسون والستون والسبعون والثمانون والتسعون والمائة والألف.
وهي أصول المراتب ويتركب منها مراتب أخرى كثيرة لا تحصي (فقد دخلها)، أي دخل مراتب العدد من حيث إنها كلها حقيقة واحدة
(التركيب) أيضا كما دخل كل مرتبة منها ما عدا مرتبة الواحد، وإنما كان الواحد مرتبة، لأنه محكوم عليه بأنه واحد ?مرتبة الاثنين فيها الحكم بالاثنين. :
وأما الواحد الذي هو نفس العدد، فإنه ليس من المراتب سريانه في جميع المراتب، ولا يحكم عليه بشيء منها.
فهو بمنزلة الذات المحض (فما تنفك دائما تثبت) في حكمك على الواحد المجمل لأجل تفصيله (عين ما هو منفي عندك) بلا شبهة (لذاته) من تلك المراتب التي هي مجرد أحكام ناشئة من ذلك الواحد المطلق المجمل الذي هو نفس العدد واقعة عليه في حضرة تفصيله (ومن عرف ما قررناه) هنا
(في الأعداد) من أن لها عشرين مرتبة، وكل مرتبة حقيقة متحدة مع أنها كلها مركبة من الواحد المطلق، بل هي عين ذلك الواحد المطلق لا زائد عليه غير أنه تفصيل بعد إجماله، فظهرت هذه المراتب كلها له من تفصيله .
(و) عرف (أن نفيها)، أي الأعداد من حيث معرفة قيومها الذي لا قيام لها إلا به وهو الواحد المطلق، فإنها عينه لا زيادة لها عليه، فهي منتفية حينئذ (عین ثبتها)، أي ثبوتها فوجود تلك الأعداد هو حقيقة معرفتها التي هي نفيها بعدم زيادتها على الواحد المطلق.
فمن نفاها بأن حكم بعدم زيادتها على الواحد المطلق فقد أثبتها بأنها مراتب ذلك الواحد المطلق في حضرة تفصيله، والواحد المطلق باق على إطلاقه لا يرجع له حكم منها من حيث هو مطلق، وإنما هي تفاصيله من حيث هو ظاهر في مظاهره المختلفة .
فالمراتب كلها في نفسها معدومة و الوجود لذلك الواحد المطلق فقط ولكنها ظاهرة به، وهي على ما هي عليه من عدمها الأصلي .
(علم أن الحق) سبحانه وتعالى (المنزه) عن مشابهة كل معقول أو محسوس (هو) بعينه (الخلق)، أي المخلوق (المشبه) من حيث أن جميع المخلوقات تفاصيل مجمل حضراته تعالى.
فزيادتهم عليه زيادة عدمية كزيادة مراتب العدد على الواحد المطلق، فإنها زيادة عدمية كما ذكر.
وليس معناه أن الحق تعالى هو هذه المخلوقات كما فهم من كلام الشيخ رضي الله عنه بعض من طمس الله تعالی بصیرته بإنكاره على أهل الله تعالی من ذوي الجهل المركب، فإن هذا محال.
كما أن من فهم أن الواحد المطلق هو نفس المراتب العدد من حيث هي مراتب مختلفة فإنه فهم المحال، لأنه يلزم عليه أن تكون العشرون مثلا هي واحد.
وكذلك المائة والألف وهو ممتنع ببداهة العقل، وإنما مراتب العدد لها ثبوت في نفسها غیر ثبوت الواحد المطلق في نفسه، وثبوتها وجوده تعالى وحده. وقد نسبه الغافلون المحجوبون إلى المخلوقات جهلا وعنادا .
ثم ذهبوا يفتشون بعقولهم القاصرة على وجود الحق تعالی، فأثبتوه من جنس وجود المخلوقات بكيف ومكان وزمان ضرورة عقلية.
وتنزيهه عن مشابهة الحوادث في ألسنتهم فقط، وفي حفظهم لا في وجدانهم حكماء عدة من الله تعالى عليهم لعدم اعترافهم بالقصور عن درجة أولياء الله تعالى المعاصرين لهم ولدعواهم الكمال وهم في النقص التام ولجهلهم المركب الذي أعمى أبصارهم عن الصراط المستقيم .
يقولون عن الأولياء المعاصرين لهم كما قال أهل الجهل المركب قبلهم في الأمم الماضية فيما حكى الله عنهم في كلامه القديم :
"إن نحن إلا بشر مثلكم " [إبراهيم: 11] يريد أن يتفضل علیكم.
"إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين" [المؤمنون: 38].
" ومال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق" [الفرقان: 7].
"وما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه وتشرب ما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون " [المؤمنون: 33 - 34].
وهو في الأولياء من بقية إرثهم للأنبياء عليهم السلام ليؤذوا كما أوذوا .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه  :
(كل ذلك من عين واحدة، لا، بل هو العين الواحد وهو العيون الكثيرة.
« فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر»، و الولد عين أبيه.
فما رأى يذبح سوى نفسه.
«وفداه بذبح عظيم»، فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان.
وظهر بصورة ولد: لا، بل بحكم ولد من هو عين الوالد.
«وخلق منها زوجها»: فما نكح سوى نفسه.
فمنه الصاحبة و الولد و الأمر واحد في العدد. فمن الطبيعة و من الظاهر منها ، و ما رأيناها نقصت بما ظهر منها و لا زادت بعدم ما ظهر؟
و ما الذي ظهر غيرها: و ما هي عين ما ظهر لاختلاف الصور بالحكم عليها:
فهذا بارد يابس و هذا حار يابس: فجمع باليبس و أبان بغير ذلك.
و الجامع الطبيعة، لا، بل العين الطبيعية.)
(كل ذلك) المذكور الذي هو الأمر الخلق والمخلوق الخالق ناشيء في الظهور (من عين واحدة) غيبية منزهة عن الظهور والبطون لإطلاقها الحقيقي حتى عن الإطلاق لأنه يقيدها وهي عين الذات الأحدية.
فالخالق والمخلوق من جملة تعييناتها، فهما منها كالصفة من الموصوف بها والفعل من الفاعل له (لا بل هو)، أي ذلك الأمر المذكور (العين الواحدة) الذاتية المطلقة لا زائدة عليها إلا بحكم المراتب العدمية التي لا وجود لها معها غيرها.
(وهو)، أي ذلك الأمر (العيون الكثيرة) المختلفة التي لا تتناهى مع قطع النظر عن تلك المراتب العدمية التي ظهر هو بها لأنها عدم محض.
قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم وابنه الذبيح عليهما السلام: "فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك" [الصافات: 102] (انظر) ببصرك وبصيرتك ("ماذا ترى")، فإن الأمر واحد فهل تراه خالقا أو مخلوقة فإن كنت تراه خالقة، فهو المراد.
وإن كنت تراه مخلوقة فإن سبب ذلك استيلاء جسدك الطبيعي على بصرك وبصيرتك لرؤيتك الأمر على خلاف ما هو عليه.
فلا بد من ذبحك ورفع حكم جسدك الطبيعي عنك حتى ترى الأمر على ما هو عليه، ولهذا لما حصل المقصود بانفصاله عن حكم جسده الطبيعي عنه لم يذبحه، وتكون جسده الطبيعي في  صورة كبش، فهبط إليه من جنة المعارف فذبحه ونجا ابنه من ذلك عليهما السلام ("قال يا أبت افعل ما تؤمر") [الصافات: 102].
ولم يقل: اذبحني لعلمه أن المقصود غير ذلك، وأن ذلك المقصود قد يحصل بغيره ففعل إبراهيم عليه السلام ما أمر بفعله وهو اتكاء ابنه وإمرار السكين على رقبته، فتحقق ابنه برفع الأسباب وأن السكين لا تقطع بطبعها.
وإنما هي صورة أمر الله تعالى، فحصل المقصود من المعرفة فارتفع الذبح في الحال والولد) من حيث الروحانية الواحدة الظاهرة في كل صورة من العالم (عين أبيه) بل عين كل شيء، وإن اختلفت النفوس التي هي تدبير ذلك الروح الواحد لكل جسد بما يليق به فالروح واحدة.
قال تعالى: "ويسألونك عن الروح" [الإسراء: 85] ولم يقل عن الأرواح.
وقال تعالى: "يوم يقوم الروح والملائكة صفا " [النبأ: 38].
وقال تعالى: "تنزل الملائكة والروح" [القدر: 4].
وأما قوله عليه الصلاة والسلام : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». رواه البخاري ومسلم
فقد أراد بها النفوس.
والنفوس كثيرة لكل شيء نفس تليق به، فنفس الانسان ليست كنفس الحيوان، لیست كنفس النبات، لیست كنفس الجماد و نحو ذلك .
قال تعالى : " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" [الرعد: 33].
والنفوس هي التي تموت كما قال تعالى: "الله يتوفى الأنفس حين موتها" [الزمر: 42]، "أخرجوا أنفسكم " [الأنعام: 93]، " كل نفس ذائقة الموت" [آل عمران: 185]، والروح لا يموت لقيامه بالحق تعالى في كل الأمور .
(فما رأى) إبراهيم عليه السلام (في منامه أنه يذبح سوى نفسه) التي هي نفس ابنه والرائي هو الروح الواحد الكلي المسمى إبراهيم عليه السلام باعتبار قید تلك النفوس المخصوصة.
وذلك الجسد المخصوص، فإن توجه المجامع في وقت استفراغ النطفة لم يزل سارية في تلك النطفة حتى يظهر على صورة المستفرغ لها والتوجه يصحبها من حيث روح المتوجه لا من حيث نفسه.
وللروح الواحد الكلي باعتبار كل نفس مخصوصة في جسد مخصوص ظهور خاص، فنفس الابن بسبب ذلك نفس الأب، لأن خصوص الروح توجه فأنتج خصوص روح آخر، فهما نفسان الروحين مخصوصين هما : روح واحدة مخصوصة بمنزلة أطوار الشخص الواحد.
(وفداه)، أي فداء الابن أبوه من حيث كون الأب نفس الأمر الإلهي ظاهرة في مظهر روح مخصوص كلي متوجه على نفس مخصوصة في جسد مخصوص (بذبح)، أي حيوان يذبح (عظيم) وعظمه باعتبار نیابته عن نبي كريم كنيابة الجسد في الدنيا بالموت والفناء عن الروح الأعظم ذات النفس الزكية.
فالجسد فداء للروح فهو عظیم بعظمها فظهر بصورة كبش في عالم الحس (من ظهر) في عالم الخيال (بصورة إنسان).
وفي عالم الحس أيضا وهو الذبيح عليه السلام، فذبح في صورته الحسية الكبشية ولم يذبح في صورته الخيالية الإنسانية.
لأن الصورة الخيالية صورة وحي لإبراهيم عليه السلام، لأن منام الأنبياء عليهم السلام وحي من الله تعالى لهم بخلاف الصورة الحسية.
فإنها من ظواهرهم عليهم السلام وبواطنهم محفوظة من الخطأ ، فرأى في عالم وحيه المنامي ذبح صورة ابنه الإنسانية ، فظهرت له في عالم حسه في صورة كبش فذبحها، وإنما غسل أوساخ الطبيعة من وجه روحانية ابنه.
وظهر بصورة الولد في عالم الحس وعالم الخيال باعتبار تخلق نطفته بتوجه روحانيته في وقت الجماع على طبق صورته الباطنة والظاهرة.
وهذا التوجه الروحاني من كل ذي روح نظير القبضة التي قبضها السامري من أثر الرسول، فنبذها في العجل الذي صاغه من الذهب، فسرت فيه الحياة بإذن الله تعالى (لا بل بحكم الولد) من حيث إن تلك النطفة المختلفة بالتوجه المذكور نطفة الأب انفصلت عنه روحانياتها التي تدبرها روحانية الأب للتوجه عليها.
فما ثم إلا حكم الولد لا حقيقة الولد (من هو) في عالم الخيال وعالم الحس (عين الوالد) إذ كل من رأى في منامه شيئا إنما رأى نفسه في صورة ذلك الشيء.
وكذلك من رأى شيئا في يقظته رآه على قدر استعداده فما رأي إلا نفسه.
والولادة كمال في هذه العينية المذكورة لإنتاجها أصل الصورة المرئية.
فالعينية في الولد أظهر منها في كل أمر مرئي يقظة ومناما .
قال الله تعالى في آدم عليه السلام: هو " الذي خلقكم من نفس واحدة " ، وهي نفس آدم عليه السلام ("وخلق منها ") ، أي من تلك النفس الواحدة ("زوجها") [الأعراف : 189]، يعني حواء عليها السلام بأن تجلی سبحانه وتعالى لتلك النفس الواحدة بحضرة خاصة غير الحضرة التي تجلي بها.
فكانت تلك النفس الواحدة، فظهرت تلك النفس الواحدة في مرآة تلك الحضرة المخصوصة صورة مماثلة لصورة تلك النفس الواحدة.
كما تظهر صورة في المرآة، والمرأة بنفسها منزهة عن تلك الصورة الظاهرة فيها، فحواء نفس آدم عليهما السلام ظهرت له في مرآة تلك الحضرة الإلهية المخصوصة، وحين نكحها (فما نكح سوى نفسه).
وفي الحقيقة حضرة إلهية توجهت على حضرة إلهية أخرى من قبيل المغايرة بين الواحد ونفسه إذا كان معلومة (فمنه)، أي من آدم عليه السلام (الصاحبة) وهي حواء (والولد) الذي خلق منها بنكاحه لها .
(والأمر) الإلهي (واحد في العدد) وإن كثر بصورة التجلي، لأنه لا يشغله شأن عن شأن.
(فمن الطبيعة) الكلية المنقسمة إلى الأربع: حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة في ظهورها بصفاتها وأسمائها قبل أفعالها وأحكامها وهي للحق سبحانه بمنزلة النفس للمتنفس.
ولهذا ورد الإشارة إليها بقوله عليه السلام: "نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن" الحديث . وورد بلفظ «إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن، أو من جانب اليمن».
(ومن) العالم (الظاهر منها) المشتمل على الصور المختلفة في الحس والعقل.
وما رأيناها نقصت بما ظهر منها من الصور التي لا تعد ولا تحصى مما يسمى مخلوقات علوية وسفلية .

(ولا)رأيناها (زادت بعدم ما ظهر)مما فني وزال من المخلوقات بل هي على ما هي عليه لا تنقص ولا تزيد (وما الذي ظهر) منها 
من جميع المخلوقات (غيرها) بل كل ذلك صورها التي تصورت فيها (وما هي عين ما ظهر منها).
.
يتبع الجزء الثالث
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 10:03 pm

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الجزء الثالث : 
أي من جميع المخلوقات (لاختلاف الصور) في جميع المخلوقات (بالحكم عليها)، أي على تلك الصور أو على الطبيعة فالحكم على الطبيعة سبب الاختلاف صورها، فإنها لا يحكم عليها بحكم حتى تكون متصورة في صورة هي من جهة نفسها لا صورة لها .
(فهذا) شيء (بارد یابس وهذا) شيء آخر (حار يابس) وهذان الشيئان صورتان للطبيعة وقد حكم على هذين الشيئين بالحكمين المذكورين .
(فجمع) بينهما (باليبس)، لأنه وصفهما (وأبان)، أي فرق وأوضح أحد الشيئين من الآخر (بغير ذلك) وهو البرودة في الأول، والحرارة في الثاني
(والجامع) في ماهيتهما (الطبيعة) الواحدة، لأن الجامع وهو اليبس طبيعة، والفارق وهو البرودة والحرارة طبيعة أيضا. والكل طبيعة واحدة (لا بل العين).
أي الذات في كل شيء جمع مع الآخر أو فارقه (الطبيعة) لا زائد عليها .


قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه  :
( فعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة، لا، بل صورة واحدة في مرايا مختلفة. فما ثم إلا حيرة لتفرق النظر. و من عرف ما قلناه لم يحر. و إن كان في مزيد علم فليس إلا من حكم المحل ، و المحل عين العين الثابتة : فيها يتنوع الحق في المجلى فتتنوع الأحكام عليه، فيقبل كل حكم، و ما يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه، و ما ثم إلا هذا:
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا ... و ليس خلقا بذاك الوجه فادكروا
من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته ... و ليس يدريه إلا من له بصر
جمع و فرق فإن العين واحدة ... وهي الكثيرة لا تبقى ولا تذر)
(فعالم الطبيعة) مجرد (صور) ولا طبيعة الآن من حيث هي طبيعة بل هي الآن صور مسماة بأسماء مختلفة وتلك الصور ظاهرة للحس والعقل (في مرآة واحدة) هي الطبيعة على أصلها كالمرآة الصافية الخالية من كل صورة.
(لا بل) عالم الطبيعة صورة واحدة ظاهرة (في مرايا مختلفة) وتلك المرايا المختلفة هي حضرة الحق تعالى.
فكل حضرة تقتضي أن تظهر فيها الطبيعة بصورة مخصوصة، فكثرة الصور لكثرة المرايا والطبيعة صورة واحدة لا تعدد لها بذاتها.
(فما ثم) في الوجود (إلا حيرة) تعم العقل والحس (لتفرق النظر) الواحد، فإن كل معقول و محسوس صورة ظاهرة في مرآة الطبيعة من تجلي حضرات الحق تعالی المتوجه بما يريد مما يعلم من كل شيء.
فالمعقول والمحسوس الصور والطبيعة والنظر الواحد واقع على الشيئين معا. والصور حاجبة للطبيعة فالمعقول والمحسوس هو الصور وحدها، والطبيعة في غيبه لصور مخفية.
ويشبه أن يكون كل معقول ومحسوس صور مختلفة ظاهرة في مرايا الخطوات الإلهية من تجلي الحق تعالی علی الطبيعة الواحدة.
فالطبيعة ظاهرة بصورة كل شيء في مرايا التجليات الإلهية.
فالمعقول والمحسوس هي التجليات الإلهية مع الصور الطبيعية القائمة بها، والنظر الواحد واقع على هذين الشيئين.
والصور حاجبة للتجليات و للطبيعة، فالمعقول والمحسوس هو الصور وحدها والتجليات غيب في تلك الصور، و كمال الطبيعة غيب في الصور أيضا.
فتارة يقول الحائر في نفسه هذه طبيعة مصبغة بصبغة كل شيء.
وتارة يقول: كل شيء، وتارة يدقق النظر فيقول تجليات الإلهية بصور طبيعته وتردد في هذا كله.
(ومن عرف ما قلناه) من أن الحق المنزه هو الحق المشبه مع تمييز أحدهما عن الآخر كما سبق بيانه (لم يحر) لتحققه بالأمر على ما هو عليه من جهة انكشافه والتباسه.
(وإن كان) يعني العارف بما قلناه (في مزید علم) مع أن الأنفاس كلما مر عليه نفس زاد علمه بالحق والخلق، فإن زيادة العلم لا تقتضي الحيرة بل هي علوم يقينية بعضها فوق بعض.
(فلیس) ذلك المزيد من العلم داخلا عليه (إلا من حكم المحل) الذي يتوارد به من حيث إطلاقه عليه لا من حيث تقييده .
(والمحل) المذكور (هو عين)، أي ذات (العين)، أي الذات (الثابتة) التي لا تتغير عندنا بتغيير جميع قیودها.
فإن علم المحل يقتضي الانكشاف التام فيما لا نهاية له، فحكمه زيادة العلم مع الأنفاس والعين الثابتة ذات الحق تعالی من حيث معرفتنا بها.
وعين هذه العين ذاته تعالى من حيث ما هو في نفسه غيب عنا (فبها)، أي بعين العين المذكور (يتنوع الحق) تعالى للحس والعقل في المجلی)، أي موضع الانجلاء، أي الانكشاف
(فتتنوع الأحكام) منه (عليه) سبحانه إذ لكل نوع من ذلك حكم خاص به.
(فيقبل) سبحانه وتعالى من حيث ظهوره في كل مظهر (كل حكم) يخص ذلك المظهر الذي يظهر فيه (وما يحكم عليه) تعالى من حيث نحن بتلك الأحكام المتنوعة.
(إلا عين ما تجلى فيه) من المراتب الممكنة المقدرة بعلمه تعالى وإرادته تعالى، لأنه يظهر لنا بها فتحكم عليه من ظهوره عندنا، وهو على ما هو عليه في ظهوره لنفسه من إطلاقه الكلي.
(ما ثمة)، أي هناك في حقيقة الأمر (إلا هذا) الذي ذكر من ظهوره تعالی منصبغا بصبغة كل ممكن علمه فأراده فقدر عليه، فقد حكم عليه تعالى ذلك الممكن، فكان محكوم عليه بعين ما حكم هو به.
وقد أشار إليه الشيخ رضي الله عنه من النظم بقوله:
(فالحق) سبحانه (خلق بهذا الوجه)، لأن المخلوقات كلها ممكنات مقدرة لا وجود لها يمسكها الحق تعالی بعلمه وإرادته وقدرته، فيتجلى بها عليها وهو الموجود الصرف، فينصبغ بصبغتها في ظهوره لها لا هو في نفسه.
كذلك منصبغ بها إذ يستحيل على الموجود أن يتغير بالمعلومات القائمة به (فاعتبروا) بذلك يا أولي الأبصار، وافهموا هذه الحكم والأسرار.
(وليس) الحق تعالی (خلقا بذلك الوجه) الذي هو عليه في نفسه من الإطلاق الحقيقي والتنزيه الصرف.
(فاذكروا) بتشديد الذال المعجمة، أي تذكروا ولا تغفلوا (من يدر ما)، أي الذي (قلت) من الكلام الحق والمعنى الصدق على حسب ما أردت من غير تحريف ولا تصحيف (لم تخذل).
أي لا يخذل الله تعالى (بصيرته) بل يوفقها لمعرفة الأسرار والحقائق ويوفقها على أقوم الطرائق (وليس بدريه).
أي يدري ما قلته (إلا من له بصر) منور بنور الاتباع مغسول من قذى الابتداع، وأما الأعمى الذي يظن نفسه بصيرة، فإنه بعيد الفهم عن درایته هذا المجال، وما يدري نساء النفوس ما بين عقول الرجال .
(جمع) يا أيها السالك، أي كن في مقام الجمع فانظر الحق في كل شيء، فإنه واحد قائم على كل شيء والأشياء كلها معلومات، لولا إمساكها لها ما وجدت به، فالوجود له لا لها والصور لها لا له.
(وفرق)، أي كن في مقام الفرق فانظر كل شيء موجودة بالحق تعالى قائمة به تعالی (فإن العين) الموجودة (واحدة) من حيث هي في نفسها لا كثرة فيها.
وإن كثرت صورها الممكنة العدمية المسماة خلقة الممسوكة بها وهو راجع إلى قوله جمع.
(وهي)، أي تلك العين الواحدة (الكثيرة) أيضا في نفس وحدتها إذ حضراتها لا تعد ولا تحصى، وهي في كل حضرة غيرها في الحضرة الأخرى وكل صورة كونية ممكن عدمي ممسوك بحضرة إلهية تقتضيه وهو راجع إلى قوله وفرق .
(لا تبقى)، أي لا تترك شيئا تلك العين الواحدة من جزئيات العالم إلا كان ظهورا لها في حضرة من حضراتها (ولا تذر)، معنی مطلقا صوابا أو خطأ كذلك.


قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه  :
( فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية و النسب العدمية بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، وسواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا. وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة.
وأما غير مسمى الله مما هو مجلى له أو صورة فيه، فإن كان مجلى له فيقع التفاضل- لا بد من ذلك- بين مجلى و مجلى، و إن كان صورة فيه فتلك «5» الصورة عين الكمال الذاتي لأنها عين ما ظهرت فيه.
فالذي لمسمى الله هو الذي لتلك الصورة. ولا يقال هي هو ولا هي غيره )
(فالعلی لنفسه) بالعلو الحقيقي دون العلو الإضافي (هو الذي يكون له الكمال) المطلق في كل نوع من أنواع الممكنات (الذي يستغرق به).
أي بذلك الكمال (جميع الأمور الوجودية) وهي الصفات الإلهية والأسماء والأفعال والأحكام، وكونها وجودية كونها ليست غيره تعالى وإن لم تكن عينه باعتبار مفهوماتها (والنسب العدمية) وهي جميع الممكنات الموجودة والمعدومة (بحيث لا يمكن أن يفوت نعت منها) مطلقا لأنها كلها له .
من قوله تعالى : "له ما في السماوات وما في الأرض" [البقرة : 255]، وقوله تعالى: "وله كل شيء" [النمل: 91].
(وسواء كانت) تلك النسب العدمية (محمودة عرفا) كالكرم والشجاعة والكريم والشجاع (وعقلا) كمقابلة الإحسان بالإحسان .
والمقابل بذلك (وشرعا) كقتل القاتل وجهاد الكافرين وفاعل ذلك (أو) كانت تلك النسب العدمية (مذمومة عرفا) كالبخل والجبن والبخيل والجبان (وعقلا) كجحود الإحسان وجاحد ذلك (وشرعة) كالكفر بالله تعالى والكافر .
(وليس ذلك) الاستغراق المذكور لجميع ما ذكروا (إلا لمسمى الله) سبحانه (خاصة) وهو واجب الوجود الموصوف بصفات الكمال المنزه عن صفات النقصان
وأما غير مسمى الله تعالی خاصة (مما هو مجلی).
أي موضع انجلاء، أي انكشاف حضرة إلهية (له) تعالى (أو) هو (صورة) ممكنة عدمية (فيه).
أي في الله تعالى قائمة به تعالی جامعة لجميع حضراته من قوله عليه السلام: «إن الله خلق آدم على صورته» .
(فإن كان) غير مسمى الله تعالى (مجلی له) تعالى من حيث حضرة من حضراته تعالى (فيقع التفاضل)  في ذلك المجلى ولا يكون مستغرقا لما ذكر (لا بد من ذلك).
أي التفاضل (بين مجلى) لحضرة من الحضرات (ومجلی) آخر لحضرة أخرى (وإن كان) غير مسمى الله تعالى (صورة فيه)، أي في الله تعالى من حيث جمعيته لجميع الحضرات (فتلك الصورة) الجامعة (عين الكمال الذاتي) الإلهي
(لأنها)، أي تلك الصورة (عين ما ظهرت) تلك الصورة (فيه) وهو الله تعالى إذ ليس فيه غيره تعالی.
والمراد بالصورة مجموع الشؤون الإلهية المختلفة، والأمور المتنوعة الرحمانية لأغراضها المميزة بين الزائلة الفانية المنتقلة المتكررة بالأمثال مما تسميه صورة عامة الناس.
ويقال له: زيد وعمرو (فالذي لمسمى الله) سبحانه من ذلك الكمال المذكور (هو الذي لتلك الصورة) الجامعة المذكورة (ولا يقال هي).
أي تلك الصورة من حيث أعراضها الظاهرة والباطنة المميزة بين شؤون الله تعالی المختلفة وأموره المتنوعة (هو) سبحانه وتعالى (ولا) يقال أيضا (هي) من حيث تلك الشؤون الإلهية والأمور الرحمانية (غيره) تعالی بل هي عينه باعتبار ما ورائها مما هو ممسك لها.
وهي غيره باعتبار ما يظهر منها وما يبطن من الأعراض الزائلة والقول الفانية .


قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه  :
(و قد أشار أبو القاسم بن قسي في خلعه إلى هذا بقوله: إن كل اسم إلهي يتسمى بجميع الأسماء الإلهية و ينعت بها. و ذلك أن كل اسم يدل على الذات و على المعنى الذي سيق له و يطلبه. فمن حيث دلالته على الذات له جميع الأسماء، و من حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به، يتميز عن غيره كالرب و الخالق و المصور إلى غير ذلك.
فالاسم المسمى من حيث الذات،و الاسم غير المسمى من حيث ما يختص به من المعنى الذي سيق له.)
(وقد أشار الإمام أبو القاسم بن قسي) رضي الله عنه (في خلعه)، أي في كتابه خلع النعلين (إلى هذا) المعنى المذكور (بقوله: إن كل اسم إلهي) من أسماء الله تعالى (يتسمى بجميع الأسماء الإلهية وينعت بها)، أي بالأسماء الإلهية كلها فالتسمية من غير ملاحظة الاشتقاق والنعت بملاحظته، وإنما كان كذلك لأن كل اسم ليس غير الاسم الآخر ولا عينه، كما أنها كلها ليست غير الذات ولا عينها
(وذلك)، أي تسمى كل اسم جميع الأسماء ونعته بها (هناك)، أي في الحضرة الإلهية (إن كل اسم) من تلك الأسماء (يدل) من حيث كونه ليس غير الذات الإلهية (على الذات) الإلهية لأنها مرادة به عند ذكره (و) يدل أيضا من حيث كونه ليس عين الذات الإلهية (على المعنى) المفهوم منه (الذي سيق) ذلك الاسم (له)، أي لبيانه (ويطلبه).
أي ذلك الاسم لذلك المعنى (من حيث دلالته)، أي الاسم (على الذات) الإلهية (له)، أي لذلك الاسم الواحد (جميع الأسماء) الإلهية (ومن حيث دلالته).
أي الاسم على المعنى المفهوم منه (الذي ينفرد) ذلك الاسم (به)، أي بذلك المعني بحيث لا يدل عليه اسم آخر غير ذلك الاسم (يتميز) ذلك الاسم (عن غيره) من الأسماء الإلهية (كالرب) فإنه بمعنى المالك يدل على ذات الله تعالی فیكون جامعة لجميع الأسماء الإلهية ويدل على معنى الملك وله تعالى فيتميز عن بقية الأسماء الإلهية .
(و) كذلك الاسم (الخالق) بمعنى المقدر من قولهم: خلقت الأديم، أي قدرته (و) الاسم (المصور)، أي جاعل الصورة لكل شيء (إلى غير ذلك) من الأسماء الإلهية (فالاسم) هو (عين المسمى) بعينه (من حيث) دلالته على (الذات والاسم غير المسمى من حيث ما يختص به).
أي بذلك الاسم (من المعنى الذي سيق) ذلك الاسم (له) لمعنى الملك ومعنى التخليق ومعنى التصوير ونحو ذلك وهذا قول حسن في أن الاسم عين المسمى أو غيره .
و لعلماء الكلام أقوال كثيرة في هذه المسألة تزيد على الثلاثين قولا ذكرناها في كتابنا المطالب الوفية .


قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه  :
(فإذا فهمت أن العلي ما ذكرناه علمت أنه ليس علو المكان و لا علو المكانة، فإن علو المكانة يختص بولاة الأمر كالسلطان و الحكام و الوزراء و القضاة و كل ذي منصب سواء كانت فيه أهلية لذلك المنصب أو لم تكن، و العلو بالصفات ليس كذلك، فإنه قد يكون أعلم الناس يتحكم فيه من له منصب التحكم و إن كان أجهل الناس. فهذا علي بالمكانة بحكم التبع ما هو علي في نفسه. فإذا عزل زالت رفعته و العالم ليس كذلك.)
(فإذا فهمت) يا أيها السالك (أن العلي) لنفسه هو (ما ذكرناه علمت) يقينا (أنه)، أي العلو الذي اشتق منه العلي (ليس على المكان)، لأنه في الأمر المحسوس (ولا علو المكانة)، لأنه في الأمر المعقول (فإن علو المكانة يختص بولاة الأمر) على الناس (كالسلطان والحكام) وهم القضاة والأمراء (والوزراء وكل ذي منصب) في الدنيا (سواء كانت فيه أهلية ذلك المنصب أو لم تكن) فيه أهلية لذلك.
فإن ذلك العلو أمر معقول كما أن علو المكان أمر محسوس، والعلي بنفسه منزه عن معاني العقل والحس وهو الله تعالى.
(والعلو بالصفات) الكمالية الجلالية والجمالية كما ذكر (ليس كذلك)، فإنه لا يختص بولاة الأمر سواء كانت فيهم أهلية أم لا، بل هو مختص بصاحب الكمال المطلق الحقيقي، فهو ليس علوا معقولا ولا محسوس بل أصل للعقل والحس .
(فإنه قد يكون)، أي يوجد (أعلم الناس) ومع ذلك (يتحكم فيه من له منصب التحكم) من ولاة الأمر.
(وإن كان) ذلك الذي لمنصب التحكم (أجهل الناس) فإنه ما حكم على من هو أعلم منه إلا من كونه له منصب التحكم عليه فقط فهذا الذي له منصب التحكم (علئ بالمكانة بحكم التبع) للمكانة التي هو فيها .
(ما هو علي في نفسه فإذا عزل) عن منصب التحكم (زالت رفعته) وسفل علوه (والعالم) الذي علوه بالصفات وهو العلي لنفسه (ليس كذلك).
فإنه ليس عليا بحكم التبع حتى يزول علوه بل هو على لنفسه، فعلوه لا يزول ولا يحتمل العزل. والله أعلم وأحكم.

تم فص الحكمة الإدريسية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 10:48 pm

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الأول .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية

هذا نص الحكمة الإبراهيمية.
ذكره بعد حكمة إدريس عليه السلام، لأن حكمة إبراهيم عليه السلام التي ذكرها له هنا تحقیق معنى العلو الحقيقي المذكور في حكمة إدريس عليه السلام، فناسب ذكرها بعدها على معنى أن حكمة إبراهيم عليه السلام تحقق معنی حكمة إدريس فكأنها شرح لها .
(فص حكمة مهيمية) بصيغة اسم المفعول من الهيام وهو الدهشة في المحبة (في كلمة إبراهيمية).
إنما اختصت حكمة إبراهيم بالمهيمية، لأن حقيقته عليه السلام هامت في محبة الله تعالى، فوصلت من مقام المحبة إلى مقام الخلة بحيث صار عليه السلام يجد الحق تعالى الممسك له متخللا في كل جزء منه من حيث ما يجد هو لكمال الاستيلاء الرحماني على العالم الروحاني والجسماني لا من حيث ما هو عليه بالنسبة إلى نفسه العلية.
فإنه على ما هو عليه في أزله، وإبراهيم عليه السلام مخلوق حادث والمخلوق الحادث إذا شعر بالخالق القديم مستوليا عليه لا يشعر به إلا على حسب ظهوره له لا على ما هو في نفسه.
فإذا هام فيه كان هيامه من جهة ذلك الظهور المخصوص، والإيمان بالغيب المطلق يصحبه في جميع المواطن.
ولهذا قال عليه السلام لربه تعالی: "رب أرني كيف تحيي الموتى" طلبا لمعرفته تعالى من حيث استيلائه بالأفعال على خلقه.
فقال الله تعالى له في الجواب : "أولم تؤمن قال" يعني بالغيب المطلق الذي لا مناسبة بينك وبينه حتى تدركه فقال عليه السلام :" بلى ولكن ليطمئن قلبي"[البقرة : 260].
يعني بشهود ذلك على حسب ما يليق بي وإن لم يكن على حسب ما الأمر عليه في نفسه، فدله الله تعالى على ذلك بأخذ الأربعة من الطير إلى آخر الآية .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(إنما سمي الخليل خليلا لتخلله و حصره جميع ما اتصفت به الذات الإلهية.
قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح مني  .... وبه سمي الخليل خليلا
كما يتخلل اللون المتلون، فيكون العرض بحيث جوهره ما هو كالمكان والمتمكن، أو لتخلل الحق وجود صورة إبراهيم عليه السلام.
(و كل حكم يصح من ذلك، فإن لكل حكم موطنا يظهر به لا يتعداه.
ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذم؟
ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها و كلها حق له كما هي صفات المحدثات حق للحق. )
(إنما سمي الخليل) إبراهيم عليه السلام (خليلا) كما قال الله تعالى : "واتخذ الله إبراهيم خليلا" [النساء: 125]، فهو خليل الله، والله خليله، لأنه من أسماء الإضافة، ولهذا نقول بأن محمدا صلى الله عليه حبيب الله وخليل الله أيضا.
لأنه عليه السلام قال: «لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر».رواه مسلم وابن حبان.
وإذا اتخذ ربه خليلا اتخذه ربه خليلا أيضا، إذ لا يمكن أن يكون أحدهما خليلا للآخر ولا يكون الآخر خليلا له.
ومن كمال ظهور الله تعالى في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان الاتخاذ من طرفه دون إبراهيم عليه السلام، فقال تعالى في إبراهيم: "واتخذ الله إبراهيم خليلا".
وقال صلى الله عليه وسلم عليه السلام عن نفسه: «لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر»، الحديث.
فقد تفاوت المظهران واختلفت الخلتان (لتخلله)، أي الخليل( وحصره)، أي جمعه في ظاهره وباطنه (جميع ما اتصفت به الذات الإلهية) من الصفات العلية والأسماء السنية والأفعال الكمالية والأحكام الجلالية والجمالية .
وهذا التخلل والحصر من إبراهيم عليه السلام لما ذكر كناية عن استيلاء الحق تعالی على إبراهيم عليه السلام  بجميع ما ذكر .
وقبول إبراهيم لذلك الاستيلاء في ظاهره وباطنه لا بطريق الحلول أو الاتحاد لأنهما لا يتصوران إلا بين موجودين .""بين معينين والله ليس بمعين فليس كمثله شيء"".
والمخلوق الحادث لا وجود له بالنسبة إلى الخالق القديم أصلا، وإنما وجوده بالخالق القديم لا معه إذ لا وجود له من نفسه حتى يكون له وجود معه، فلا التفات لما يقع في أفهام المحجوبين من أهل العلم الظاهر عند إطلاق نحو ما ذكرنا من العبارات، لأن ذلك الوهم مبني على القصور في الأفهام فلا اعتبار به .
(قال الشاعر) من العرب في إثبات ذكر معنى الخليل (قد تخللت)، أي استوليت مستقصية جميع (مسلك)، أي موضع سلوك (الروح) في الجسد (مني) ظاهرا وباطنا .
(وبذا) المعنى المذكور (سمي الخليل) المشتق من الخلة وهي زيادة المحبة (خليلا) فهو فعيل بمعنى مفعول (كما يتخلل اللون) الأسود والأحمر ونحو ذلك (في) الشيء (المتلون) بذلك اللون فإنه يستولي عليه.
بحيث لا يبقى منه جزء إلا وينصبغ به (فيكون العرض) الذي هو اللون مثلا (بحيث) يكون (جوهره) يعني على طبق حيثية جوهره من الكبر والصغر والطول والقصر (ما هو كالمكان) الذي يستقر عليه الشيء.
(والمتمكن) فيه فإنه لا يعم أعلاه وجوانبه بل أسفله فقط (أو) سمي الخليل خلية (لتخلل)، أي سريانه بطريق الاستيلاء (الحق) تعالى (في وجود صورة إبراهيم عليه السلام) في ظاهرها وباطنها، لأنه ممسكها ومكونها وهي طبق علمه وإرادته ولا وجود لها إلا به لا بنفسها فهو وجودها الذي هي موجودة به وهي في نفسها معدومة .
قال تعالى: "أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" [الرعد: 33]، وقيامه تعالى على كل نفس بما كسبت قیومیته تعالى للنفوس وإمساكه لها بوجوده الحق.
فإنه تعالى كما أخبر خلق السموات والأرض بالحق، والحق هو وجوده تعالى.
فقد خلق الأشياء بوجوده، فهو وجود الأشياء الذي هي موجودة به، والأشياء على ما هي عليه في نفسها من غير وجود آخر لها.
وليس هذا الكلام طعنا في وجود الحق تعالى أو نقصانا فيه، لأن المعلومات لا تحل في الموجود ولا يحل فيها، ولا تنقص من كماله إذ لا وجود لها من غيره حتى يغير من وجوده تعالی.
(وكل حكم) حكمنا به في سبب تسمية إبراهيم عليه السلام خليلا. (يصح من ذلك) الحكمين المذكورين (فإن لكل حكم) من الحكمين المذكورين (موطنا يظهر) ذلك الحكم (به لا يتعداه) إلى غيره.
فالحكم الأول بأن سبب تسميته خليلا لتخلله جميع أوصاف الذات الإلهية وجمعه لذلك بجملته صحيح على معنى ظهور أوصاف الحق تعالی كلها القديمة بالأوصاف العرضية الحادثة ظهورة تضمحل فيه الأوصاف الحادثة لعدم وجودها في نفسها.
وتظهر الأوصاف القديمة لوجودها في نفسها من حيث إنها عين الذات وإن كانت غير الذات أيضا بوجه آخر.
والحكم الثاني بأن سبب التسمية لتخلل الحق تعالی بنفسه في وجود صورة إبراهيم عليه السلام صحيح أيضا لا على معنى الحلول أو الاتحاد، فإن ذلك لا يتصور عند من يؤمن بأن الله
تعالى له الوجود الحق وأن كل ما سواه من المخلوقات لا وجود لها من نفسها وإنما وجودها به تعالی.
فلست معه في رتبته موجود آخر، وإن كانت غيره باعتبار صورها ومقاديرها، فهي عينه باعتبار وجودها وثبوتها.
فلا يتصور أن يحل موجود في معدوم ولا يتحد به ولا يحل معدوم في موجود ولا يتحد به ولا يختلط أحدهما بالآخر هذا معلوم في بداهة العقل.
فلذلك لا يهتم بذكره العارفون، وإنما ذكرناه نحن لرد ما عساه يتوهم عند المحجوبين من أهل العلم الظاهر.
كما طعن به الشيخ رضي الله عنه بعض أهل الجهل المركب من المغرورين.
(ألا ترى) أيها المنصف (أن الحق) تعالى (يظهر بصفات المحدثات) كالفرح والضحك والتعجب ونحو ذلك مما ورد في الشرع .
(وأخبر) تعالی (بذلك عن نفسه) في قوله في الحديث القدسي:" جعت فلم تطعمني ومرضت فلم تعدني" إلى آخره وغير ذلك.
""عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة :
يا ابن آدم مرضت فلم تعدني.
قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟
قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده .
يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني؟
قال : يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟
قال : أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي.
يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني؟
قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين.
قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي". رواه مسلم و ابن حبان في صحيحه .
(و) يظهر أيضا (بصفات النقص وبصفات الذم) كالمكر والاستهزاء والسخرية والكيد .
قال تعالى: "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين" [آل عمران : 54].
"الله يستهزئ بهم" [البقرة: 15]،" وسخر الله منهم" [التوبة: 79]، "وأكيد كيدا" [الطارق : 16].
وعندنا في هذه الصفات الحادثات التي يظهر بها الحق تعالى لعباده وجهان :
الوجه الأول : نقرره للمبتدئين بأنها كلها صفات قديمة وردت عنه تعالى في الكتاب والسنة، نصفه بها على حد ما هو موصوف به في نفسه مما هو غیب عنا.
لأجل أن ندرب المبتديء على الإيمان بالغيب في جميع شؤونه، فإذا رسخ على ذلك وكمل في مقام المحبة نقرر له.
الوجه الثاني:  وهو أن هذه الصفات الحادثات التي يظهر بها الحق تعالی لعباده هي صفات العباد الحادثات، وظهور الحق تعالی بهم لهم من قبيل الحكم الثاني.
في سبب تسمية إبراهيم عليه السلام خليلا لتخلل الحق تعالى في وجود صورته كما ذكرناه من غير حلول ولا اتحاد.
وأشار إلى حكم الأول في سبب التسمية بقوله (ألا ترى) أيها المنصف العبد (المخلوق يظهر) في مقام كماله (بصفات الحق) تعالى (من أولها إلى آخرها) فيسمع به ويبصر به ويتكلم به إلى غير ذلك.
من قبيل قولهم لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإن الحول والقوة شاملان لجميع الصفات (وكلها)، أي صفات الحق تعالی (حق له)، أي للمخلوق لظهوره بها من وراء سمعه وبصره وكلامه وباقي صفاته العرضية الحادثة، لأنها تضمحل عند ظهور تلك الصفات القديمة الحقيقية له.
(كما هي)، يعني (صفات المحدثات) العرضية الحادثة (حق للحق) سبحانه وتعالى باعتبار أنها آثاره، فهي منتهى ظهوره، ولا ظهر بها غيره كما لا باطن عنها غيره، فهو الظاهر والباطن لا غير وقال الله تعالى:
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : («الحمد لله»: فرجعت إليه عواقب الثناء من كل حامد و محمود. «و إليه يرجع الأمر كله» فعم ما ذم و حمد، و ما ثم إلا محمود و مذموم. اعلم أنه ما تخلل شي ء شيئا إلا كان محمولا فيه. فالمتخلل - اسم فاعل- محجوب بالمتخلل- اسم مفعول. فاسم المفعول هو الظاهر، واسم الفاعل هو الباطن المستور. )
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (وهو غذاء له كالماء يتخلل الصوفة فتربو به وتتسع.
فإن كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه، فيكون الخلق جميع أسماء الحق سمعه و بصره و جميع نسبه و إدراكاته.
وإن كان الخلق هو الظاهر فالحق مستور باطن فيه، فالحق سمع الخلق و بصره و يده و رجله و جميع قواه كما ورد في الخبر الصحيح. ).
("الحمد")، أي كل فرد من أفراده الصادرة من كل شيء لكل شيء محمود أو مذموم .
على أنه المحمود عند القائلين بحمد المذموم مذموم والمذموم عند القائلين بذم المحمود محمود، فالكل محمود عند الكل، فحمد الكل للكل ("لله") تعالی.
أي مستحق له تعالی فرجعت إليه سبحانه (عواقب الثناء)، أي الحمد (من كل
حامد ومحمود) على الإطلاق، لأنه الخالق على كل حال فصفات المحدثات حق له وصفاته حق لهم، لأنه حمدهم نفسه له وحمده نفسه لهم.
وقال تعالى : "وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ" [هود: 11] الواحد الظاهر بصور الخلق الكثير، ولهذا أكده بقوله ("كله" فعم) بذلك جميع (ما ذم ) من الصفات (و) جميع (ما حمد) منها .
(وما ) في الوجود (إلا محمود) من الصفات (ومذموم) منها فالكل محمود من حيث هو كل و البعض بالنسبة إلى البعض الآخر مذموم  فالذم في العوالم نسبي، والحمد حقيقي.
(اعلم أنه ما تخلل شيء شيئا)، أي سرى فيه وشمله باطنا وظاهرا (إلا كان) الشيء الأول الساري (محمولا فيه).
أي في الشيء الثاني والسريان هنا في حق الله تعالی بمعنى الاستيلاء (فالمتخلل) بصيغة (اسم فاعل محجوب)، أي مستور عن المتخلل بصيغة اسم مفعول وعن غيره أيضا .
هو متخلل اسم مفعول مثله (فالمتخلل) الذي هو (اسم مفعول) فقد انحجب عما فيه بنفسه فنفسه حجابه.
(فالمتخلل) بصيغة (اسم مفعول هو الظاهر) لنفسه ولغيره مما هو مثله (و) المتخلل بصيغة (اسم الفاعل هو الباطن) عن المتخلل بصيغة اسم المفعول وأمثاله (المستور) عنهم بهم.
(وهو)، أي المتخلل بصيغة اسم الفاعل (غذاء له) للمتخلل بصيغة اسم المفعول من حيث إن قوامه به في جميع أحواله.
(كالماء يتخلل)، أي يدخل في خلال (الصوفة فتربو)، أي تزداد وتثقل تلك الصوفة (به وتتسع)، أي تمتد جوانبها بعد الإكناز .
(فإن كان الحق) سبحانه وتعالى (هو الظاهر) وحده لا يشاركه في الظهور غيره، لأنه قال تعالى بطريق الحصر لتعريف الطرفين : "هو الأول والأخر والظاهر والباطن" [الحديد: 3] .
(فالخلق) حينئذ (مستور فيه) تعالى هكذا تشهده العارفون من غير أن يشهد. وللخلق وجود آخر غير وجوده تعالى حتى يلزم أن يكون الخلق حالا في الحق سبحانه وتعالى بل علم الحق تعالى وإرادته وقدرته.
وتضمنت هذه الثلاث صفات ظهور صور العالم كلها بطريق الحكم والتوجه على الاختراع للأشياء العلمية.
فالحكم بمراده يظهر مراده لمراده قائما به لا ثبوت له في عينه .
(فیكون الخلق) على هذا (جميع أسماء الحق) تعالی من (سمعه وبصره) فيسمع الحق تعالی بالخلق ويبصر بهم . قال تعالى: "والله بصير بالعباد" [آل عمران: 15].
(و) كذلك الخلق (جميع نسبه) تعالي أسماء الأفعال من تخليقه و ترزیقه وإحيائه وإماتته وضره ونفعه، فيخلق بهم ويرزق بهم ويحيي بهم ويميت بهم ويضر بهم وينفع بهم. قال تعالى: "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم" [التوبة: 14].
(و) كذلك جميع (إدراكاته) تعالی من علمه وخبرته ابتلائه وامتحانه (وإن كان الخلق هو الظاهر) لا غير (فالحق) سبحانه وتعالى (مستور) ورائه لا من جهة بل من وراء الجهات أيضا فإنها من جملة الخلق.قال الله تعالى : "والله من اهم محيط "[البروج: 20].
(باطن فيه)، أي في الخلق لا على معنى الحلول إذ لا يحل موجود في معدوم أبدا . وهذا مشهد أهل القرب إليه تعالى من السالكين (فالحق) سبحانه حينئذ (سمع الخلق) الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به (ويده) التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها (وجميع قواه من) النطق والفهم ونحو ذلك (كما ورد) عن النبي عليه السلام في الخبر الصحيح في حق المتقرب بالنوافل .
""قال رسول الله : «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته». رواه البخاري وابن حبان في صحيحه""

قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم إن الذات لو تعرت عن هذه النسب لم تكن إلها. وهذه النسب أحدثتها أعياننا: فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها، فلا يعرف حتى نعرف.
قال عليه السلام: «من عرف نفسه عرف ربه» وهو أعلم الخلق بالله.
فإن بعض الحكماء وأبا حامد ادعوا أنه يعرف الله من غير نظر في العالم وهذا غلط. نعم تعرف ذات قديمة أزلية لا يعرف أنها إله حتى يعرف المألوه. فهو الدليل عليه. ثم بعد هذا في ثاني حال يعطيك الكشف أن الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه و على ألوهيته).
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم إن الذات) الإلهية (لو تعرت عن هذه النسب) التي هي الأوصاف والأسماء والأفعال والأحكام (لم تكن إلها ).
(وهذه النسب) المذكورة (أحدثتها) عندنا له أي أظهرتها من قوله تعالى: "وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث" [الشعراء: 5]، أي عندهم (أعياننا) إذ لا يتصف الله تعالى بالقدرة ويسمى بالقدير ويفعل ويحكم إلا بعد إمكان تصور مقدور ومفعول ومحكوم عليه.
فالمقدورات الممكنة كشف عنها علمه من الأزل، فأرادها فقدر عليها، فهو بها عالم مرید قادر .
(فنحن) لأننا عين تلك المقدورات الممكنة العدمية (جعلناه) من حيث ظهوره لنا (بمألوهيتنا)، أي بسبب أننا مألوهون له تعالى وهو إلهنا (إلها) فإن الإله هو الذي عنده جميع حوائج عباده إيجادا وإمدادا.
فالألوهية هي مجموع الصفات والأسماء والأفعال والأحكام، وهي وصف إضافي بالنسبة إلى المألوهين وهم عباده.
وهو الاههم وليس هو إلها لنفسه، لأن نفسه ليست مألوهة له، فهو غني بنفسه عن العالمين، لا بصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه.
إذ لولا العالمين ما تميزت من ذاته صفاته ولا أسماؤه ولا أفعاله ولا أحكامه، والصفات للتميز.
ولو لم يكن في العدم ممكنات توجد فتحدث فيتميز سبحانه وتعالى عنها بصفاته التي هي غير ذاته باعتبار هذا التميز فقط لكانت الصفات عين الذات، والأسماء للتعيين. ولولا تلك الممكنات العدمية لما احتاج عندها للتعيين إذ هو متعين عند نفسه، والأفعال لا تكون من غیر منفعلات.
وكذلك الأحكام من غير محكوم عليهم، فهذه الحضرات الأربع لذات الله تعالى باعتبار العالمين دون قید وجودهم، لأنه منه سبحانه .
والمراد باعتبار الممكنات العدمية التي إمكانها بلا جعل جاعل.
والحاصل أن هذا الكلام من الشيخ رضي الله عنه مبني على أن صفات الله تعالی عین ذاته كما صرح به في كتابه «الفتوحات المكية» وغيرها.
ومعنى كونها عين الذات أنها ليست زائدة على الذات المقدسة زیادة حقيقية كزيادة العرض على الجرم حين يتصف الجرم به.
ولا ينكر الشيخ رضي الله عنه زيادتها على الذات باعتبار مفهومها، ولكنه
لا يعتبر المفهوم، لأنه معنی عقلي تنزهت عنه صفات الله تعالى أن ينسب إليها، فكانت الصفات عين الذات عنده وهو معترف بالصفات لا يجحدها.
حتى يكون قوله كقول الحكماء بأن الصفات عين الذات، وأنه لا صفة لله تعالی عندهم.
وإذا كانت الصفات عين الذات الإلهية على معنى أنه تعالى إذا اتصف بالقدرة مثلا لم يكن ثمة إلا ذاته متوجة إلى إيجاد الممكنات على وجه لا يعلم به إلا هو فتسمى ذاته قدرة وإذا اتصف بالعلم كذلك فتسمى ذاته علما .
وهكذا إلى آخر الصفات فلولا الممكنات العدمية لما اتصف بالصفات، وهو متصف بها من الأزل لأنها عين ذاته.
ولكن معنى اتصف ظهر أنه متصف، فإنه تعالی لولا الممكنات العدمية كان مجملا واحدة صفاته في ذاته ، وأسماؤه في صفاته، وأفعاله في أسمائه ، وأحكامه في أفعاله.
والممكنات العدمية فصلته وميزت بين حضراته، وهو على ما هو عليه في إجماله وإنما تفصيله بالنسبة إلينا.
ونحن من جملة التفصيل، فكل واحدة في عالمها لم تتغير، وهذا معنى قوله : فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها، أي فصلنا مجمله عندنا بإمكاننا وهو على ما هو عليه عند نفسه ، والله غني عن العالمين.
وإذا كنا نحن الذين بإمكاننا فصلنا إجمال ذاته تعالی و میزنا بين ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه حتى أظهرنا بذواتنا وحقائقنا الممكنة العدمية ألوهية وربوبية بسبب أننا قبلنا تقديره لنا وتخصيصه أحوالنا كلها بما أراد.
(فلا يعرف) هو سبحانه وتعالى يعني لا يمكن أن يعرفه أحد غيره تعالى، ولا غير إلا نحن، ونحن به تعالی لا بأنفسنا.
لأننا نفس تلك الذوات الممكنة العدمية التي بها اتصف وتسمى وفعل وحكم كما ذكرنا (حتى نعرف) نحن حيث إننا أصل عظيم في تفصيل إجماله تعالى، وهو تعالى لا يعرف إلا في التفصيل لا في الإجمال.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من عرف نفسه" من حيث إمكانها وقيامها بصفات الله تعالی وأسمائه وأفعاله وأحكامه المنفصلة من مجمل ذاته تعالى.
"فقد عرف ربه". أى أنه الموصوف بالصفات القديمة التي لا تدرك، والمسمى بالأسماء الأزلية التي لا يحاط بها، والفاعل بالفعل القديم والحاكم بالحكم العظيم. (وهو)، أي قائل هذا الكلام وهو النبي عليه السلام (أعلم الخلق بالله تعالی)، فلولا أن معرفته تعالى لا تمكن لأحد إلا بمعرفة صفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه، ومعرفة هذه الحضرات الأربع لا تمكن إلا بمعرفة مفصلها من إجمال الذات العلية، إذ هي بالنسبة إليه تعالی عین الذات ومفصلها من إجمال الذات هي نفس كل أحد. كما قال صلى الله عليه وسلم : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» فمعرفة الله تعالى التي تمكن لكل أحد معرفة ذات غيبية مجملة تفصل منها نفس العارف بها صفات غيبية أيضا وأسماء وأفعالا وأحكاما غير هذا لا يمكن، فمن لم يعرف نفسه لا يعرف ربه.
(فإن بعض الحكماء) من الفلاسفة (وأبا حامد) الغزالي رحمه الله ، فإنه كان في ابتدائه فیلسوفا، ثم تخلص من الفلسفة بالتصوف (ادعوا أنه) يمكن أن يعرف الله تعالى (من غیر نظر في العالم) وهو مبني عندهم على كون الله علة للعالم.
والعالم معلول بعضه عن بعض ثم عنه تعالى، والعلة لا يتوقف معرفتها على معرفة المعلول إلا من حيث كونها علة لهذا المعلول.
وأما معلول معلولها فهو أجنبي عنها (وهذا غلط) منهم.
(نعم تعرف) من غير النظر في العالم (ذات قديمة أزلية) أبدية مجملة (لا يعرف أنها إله)، أي موصوفة بالصفات مسماة بالأسماء لها أفعال وأحكام.
(حتى يعرف المألوه) وهو العالم (فهو)، أي المألوه الذي هو العالم (الدليل عليه) أي على الله تعالى من حيث إن العالم كله صادر عن الله تعالی بمقتضى إرادته واختياره.
فهو مقتضی صفاته سبحانه وأسمائه وأفعاله وأحكامه وكيف يعرف المقتضي بصيغة الفاعل ما لم يعرف المقتضی بصيغة المفعول (ثم بعد) معرفتك في ابتداء الأمر (هذا) يعني أنه تعالى لا يعرف إلا بالعالم الدليل عليه.
(في ثاني الحال) بعد تدربك على السلوك (يعطيك الكشف) الصحيح (أن الحق) تعالی (نفسه كانت عين الدليل على نفسه) إذ كل دليل في الكون يدل عليه تعالى. هو ظهور من ظهوراته تعالى، وما في الكون إلا دليل يدل عليه تعالى، فما في الكون إلا ظهوراته تعالی.
فهو الظاهر بصورة الدليل العقلي والحسي، وهو الظاهر بصورة المدلول عليه عقلا وحسا.
(و) عين الدليل على ألوهيته بل لو دل شيء على شيء كالدخان يدل على النار في الحس، وانقسام العدد بمتساويين يدل على الزوجية في العقل كان هو تعالی عين الدليل والمدلول والمستدل.
وما ثم في الكون إلا هو ظاهر بصورة كل ممكن عدمي بسبب إمساكه للصور العدمية بقدرته التي هي عين ذاته مما يليه . كما قال تعالى : "إنا كل شيء خلقته بقدر " [القمر: 49] في قراءة من قرأ برفع كل على أنه خبر إن.

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (و أن العالم ليس إلا تجليه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه ، وأنه يتنوع و يتصور بحسب حقائق هذه الأعيان و أحوالها، و هذا بعد العلم به منا أنه إله لنا.
ثم يأتي الكشف الآخر فيظهر لك صورنا فيه، فيظهر بعضنا لبعض في الحق، فيعرف بعضنا بعضا، و يتميز بعضنا عن بعض. )
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (فمنا من يعرف أن في الحق وقعت هذه المعرفة لنا بنا، و منا من يجهل الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة بنا: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
و بالكشفين معا ما يحكم علينا إلا بنا، لا، بل نحن نحكم علينا بنا و لكن فيه، و لذلك قال «فلله الحجة البالغة»: يعني على المحجوبين إذ قالوا للحق لم فعلت بنا كذا و كذا مما لا يوافق أغراضهم، «فيكشف لهم عن ساق»).
قال الشيخ رضي الله عنه : (و) يعطيك الكشف أيضا (أن العالم) كله معقوله ومحسوسه (ليس إلا تجليه)، أي انكشافه وظهوره (في صور أعيانهم)، أي العالم يعني مقاديرهم وصورهم الظاهرة والباطنة (الثابتة)، أي المفروضة في الإمكان المعدومة الأعيان الكاشفة عنها علم الله تعالى.
الحاكم عليها بما هي عليه من التخصيصات إرادة الله (التي يستحيل) عقلا وشرعا (وجودها)، أي ظهورها منصبغة بصبغة وجود الله تعالی.
(بدونه) سبحانه وتعالى، أي بدون قدرته التي هي عين ذاته مما يليه سبحانه ، فهو تعالى المظهر لها بل هو الظاهر بها في عين إظهاره لها .
(و) يعطيك الكشف أيضا أنه تعالى (يتنوع) بأنواع كثيرة في ظهوره (ويتصور) في صورة مختلفة في تجليه (بحسب) ما هي عليه في فرضها وتقديرها (حقائق هذه الأعيان) المفروضة المقدرة العدمية (و) بحسب (أحوالها) التي تعتريها من خير وشر وغير ذلك.
(وهذا) الذي يعطيه الكشف كائن (بعد العلم به) تعالی علما ناشئا (ما)، أي من نظرنا في أنفسنا (أن لنا إلها) نحن قائمون به في ظواهرنا وبواطننا على سبيل القطع بذلك.
ولكن يغيب عنا في هذا الكشف شهود نفوسنا وغيرنا لاستغراقنا في شهود الله تعالى في الكل وهو مقام الجمع بعد الفرق الأول الذي فيه عامة الناس، وهو شهود أنفسهم وغيرهم فقط والغيبة عن شهود الله تعالی .
فالكل بل يشهدونه في مظهر خاص جزئي أو عقلي أو حسي فيعبدونه فيه وقد حجر عليهم الشرع عبارة مظهر حسي كصنم وكوكب ونحو ذلك.
ولم يحجر عبادة مظهر عقلي وإن ذلك كفرا في الآخرة فإنه ليس كفرا في الدنيا بحسب ظاهر الشرع. .
(ثم يأتي) بعد ذلك (الكشف الآخر) الصحيح وهو مقام الفرق الثاني للتحقيق بالحق والخلق (فيظهر لك) هذا الكشف الآخر (صورنا) معشر الممكنات المفروضة المعدومة (فيه)، أي في وجود ذات الحق تعالی ولا تقل هذا حلول.
لأن الممكنات المعدومة لا وجود لها غير وجود ذات الحق تعالى حتى تحل في وجود الحق تعالی والحلول لا يكون إلا بين شيئين موجودين بوجودين .
وهنا ما ثم إلا وجود واحد، والوجود الواحد لا يحل في نفسه فاحذر من تلبيس الشيطان عليك في كلام أهل المعرفة الإلهية تنجو من الوقيعة في حقهم بما هم بريئون منه شهادة علام الغيوب.
(فيظهر) عند ذلك (بعضا لبعض في) وجود (الحق تعالی) حقائق ممكنات معدومة العين مفروضة في الكيف والأين .
(فيعرف) حينئذ (بعضنا بعضا) معرفة تامة (ويتميز بعضنا عن بعض) في الحس والعقل وتنفصل الأحكام الإلهية علينا بنا فللحق الإظهار ولنا الماهيات وأحوالها والتمييز بينها .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فمنا معشر أهل الكشف من يعرف أن في الحق) سبحانه (وقعت هذه المعرفة لنا) متعلق بوقعت، أي لبعضنا بعضا (بنا) .
ولهذا كلنا حيث كان منه الإظهار فقط والباقي كله منا في مراتب إمكاننا العدمية وإليه يشير قوله تعالى : "الله نور السموات والأرض" [النور: 35]، أي منورهما يعني مظهرهما بنوره الذي هو وجوده الحق، فالكل منا إمكانا  واستعدادا وقبولا، والكل منه إيجادا وإظهارا.
قال تعالى: "قل كل من عند الله" [النساء: 78]، ولم يقل من الله ، لأن عندية الله حضور مراتب الإمكان العدمية في علمه سبحانه.
فصاحب الكشف الأول يقول : نحن كلنا به سبحانه .
وصاحب الكشف الثاني وهو أرقى يقول: نحن كلنا بنا لا به سبحانه ولكن فيه لا فينا.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 11:08 pm

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

شرح الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الجزء الثاني :
فعند الأول هو الظاهر بنا العامل بنا، وعند الثاني نحن الظاهرون به العاملون بنا فيه، لا به فينا.
(ومنا من يجهل) لغلبة أحكام الوحدة عنده على الكثرة وهو صاحب الكشف الأول (الحضرة) الإلهية (التي وقعت فيها هذه المعرفة) من بعضنا لبعض (بنا)، لأنه سبحانه ("أعوذ")، أي احتمى واحتفظ ("بالله") تعالى ("أن أكون") في معرفة الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة ("من") جملة ("من الجاهلين") [البقرة : 67] بذلك.
(و بالكشفين) المذكورين اللذين هما تنوع الحق تعالی وتصوره بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها، والثاني تصورنا فيه بصور ظاهرة بعضها لبعض (معا) تأكيد للكشفين.
(ما يحكم) الحق تعالی (علينا) بما يحكم به في ظاهرنا وباطننا (إلا بنا)، أي بما فيه منا وهو قوله تعالى: "يعذبهم الله بأيديكم" [التوبة: 14].
وهذا إشارة إلى الكشف الأول (لا، بل نحن نحكم علينا بنا) في جميع أحوالنا (ولكن فيه) حيث علمنا منا فحكمنا نحن علينا بما علمه منافيه فنحن به حا?مون علينا وهو قوله تعالى : " كم ممن فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله" [البقرة: 249]. وهذا إشارة إلى الكشف الثاني.
(ولذلك)، أي لكون الأمر كما ذكر (قال) الله تعالى: ("فلله")، أي فليس لغيره ("الحجة البالغة") [الأنعام: 149]، أي القوية (يعني على جميع المحجوبين) بنفوسهم عن حقيقة ربهم القائم على كل نفس بما كسبت وهم الكافرون والعصاة.

(إذ قالوا) يوم القيامة (للحق) تعالى وقد ظهر لهم أنه هو الذي فعل جميع ما فعلوه بهم وهذا مقدار ما يظهر لهم يوم القيامة من الله تعالى أولا وهو الكشف الأول .
(لم)، أي لأي سبب (فعلت) أنت (بنا كذا وكذا) من كل فعل لا ترضى به فنستحق عليه الجزاء السوء منك (مما لا يوافق أغراضهم) الدنيوية والأخروية .
(فيكشف)، أي الحق تعالی (لهم)، أي للمحجوبين (عن ساق)، أي شدة التباس كما يقال : قامت الحرب عن ساقها . قال تعالى: "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى الجود فلا يستطيعون " [القلم: 42].
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (و هو الأمر الذي كشفه العارفون هنا، فيرون أن الحق ما فعل بهم ما ادعوه أنه فعله و أن ذلك منهم، فإنه ما علمهم إلا على ما هم عليه، فتدحض حجتهم و تبقى الحجة لله تعالى البالغة.
فإن قلت فما فائدة قوله تعالى: «فلو شاء لهداكم أجمعين» [الأنعام: 149] قلنا «لو شاء» لو حرف امتناع لامتناع: فما شاء إلا ما هو الأمر عليه. )
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (و لكن عين الممكن قابل للشيء و نقيضه في حكم دليل العقل، و أي الحكمين المعقولين وقع، ذلك هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته.
و معنى «لهداكم لبين لكم: و ما كل ممكن من العالم فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمر في نفسه على ما هو عليه: فمنهم العالم و الجاهل. فما شاء ، فما هداهم أجمعين، و لا يشاء، و كذلك «إن يشأ»: فهل يشاء؟ هذا ما لا يكون.)
(وهو)، أي الساق المذكور الأمر العظيم الذي كشفه العارفون بالله تعالی (هنا) يعني في الحياة الدنيا قبل الآخرة وذلك هو الكشف الثاني.
(فيرون) أي المحجوبون حينئذ (أن الحق تعالی ما فعل بهم ما) أي ذلك الفعل الذي (ادعوه أنه فعله بهم) .
(كما هو مقتضى الكشف الأول) و (یرون) أن ذلك الفعل المذكور حاصل (منهم) به (فإنه) سبحانه (ما علمهم) في حضرة أزله (إلا على ما)، أي الوصف الذي (هم عليه) في حضرات وجودهم الأبدية .
وما فعل بهم إلا ما علمه منهم فالإيجاد منه لا غير وجميع أحوالهم علمها منهم فأوجدها لهم على طبق ما علمها وحيث ظهر لهم ذلك وانكشف عندهم.
(فتندحض)، أي تبطل في نظرهم أيضا كما هي باطلة في نفس الأمر (حجتهم) التي هي أن الحق تعالی فعل بهم جميع ما فعلوه على حسب الكشف الأول.
(وتبقى الحجة) ("البالغة") عليهم التي هي أن الحق تعالى ما فعل بهم ما فعلوه هم وإنما هم الفاعلون به جميع ما فعلوه، لأنه علمهم كذلك فأوجدهم على طبق ما علمهم.
إذا تقرر هذا (فإن قلت): يا أيها الإنسان (فما فائدة قوله تعالی) في آخر الآية المذكورة ("فلو شاء لهداكم")، أي أوصلكم إلى معرفته المطابقة لمقتضی شرعه
("أجمعين") [الأنعام: 149].
ولم يزغ قلب أحد منكم عن ذلك، فإن هذا يقتضي أن جميع ما أنتم فيه مقتضي مشيئته وحكمه، لا مقتضى ما أنتم عليه في حضرة علمه بكم.
فيكون علمكم كما شاء وحكم لا شاء وحكم على مقتضی علمكم عليه (قلنا) في الجواب عن ذلك في الآية ("لو شاء") ومن المعلوم أن كلمة (لو حرف امتناع) في الثاني (لامتناع) في الأول .
فامتنعت هدايتكم أجمعين لامتناع مشيئته لذلك، وإذا امتنعت هدايتكم أجمعين ثبتت هداية البعض منكم دون البعض كما هو الواقع .
وامتناع مشيئته لذلك إنما كان الامتناع ذلك منكم على حسب ما علمكم عليه في نفس الأمر.
(فما شاء) سبحانه لكم من هداية البعض دون البعض (إلا ما هو الأمر عليه) في حقائق ذواتكم وأحوالكم المنكشفة له بعلمه القديم على طبق ما هي عليه .
فإن قلت هذا الكلام يقتضي وجود العالم بذواته وجميع أحواله في الأزل حتى ينكشف للعلم القديم، وإذا كان موجودا فلا حاجة له إلى تعلق الإرادة والقدرة به وإيجادهما له إذ يثبت له الاستغناء حينئذ عن الصانع.
قلنا : هذا الإشكال غير وارد على قاعدة أهل السنة والجماعة من أن الله تعالی غیر زماني ولا يمر عليه الزمان، فالماضي والآتي كله حال بالنسبة إليه سبحانه ولا ترتیب بین تعلقات صفاته سبحانه، لأنها أزلية والأزلي لا يتقدم ولا يتأخر.
فعلمه سبحانه ?اشف عن جميع الكائنات من الأزل موجودات بقدرته تعالى في أوقاتها وأزمانها في جميع أحوالها على ما هي مترتبة فيه، كل شيء في وقته على حسب إرادته ومشيئته سبحانه وتعالى.
ولا وجود لشيء في الأزل أصلا بل لا وجود لشيء في غير وقته الذي أراد سبحانه وجوده فيه، فجميع ما كان وما يكون من العوالم كلها كانت معدومة عدم صرفا فكشف عنها الحق تعالى من الأزل بعلمه القديم.3
وليست هي في العدم بجعل جاعل، لأن الجاعل إنما هو الإيجاد لا غير فالمم?نات كلها أزلية العدم المحض.
وليس عدمها الأصلي من طرف الحق تعالی بل هو مقتضاها في نفسها، بل جميع أحوالها المترتبة لها وهي معدومة مثلها مقتضى ذواتها على النظام الأكمل والحق تعالى قد كشف عنها بعلمه من الأزل.
 فوجد كل شيء موجودة به سبحانه في وقت وجود ذلك الشيء، وسمع من الأزل كل شيء موجود في وقت وجوده .
وأبصر من الأزل كذلك كل شيء موجود في وقت وجوده ، وأراد كل شيء وقدر عليه والشيء لا يوجد إلا في وقت وجوده الذي هو مقتضى ذاته حيث كان معدومة، وقد أراده على حسب ما علمه وقدر عليه.
كذلك، فكلما جاء وقت الشيء وجد ذلك الشيء بالقدرة الإلهية مخصوصا بالإرادة الإلهية مكشوفا عنه بالعلم الإلهي إلى أن يتم ذلك الشيء من أوله إلى آخره.
فالوجود الذي للكائنات من الله تعالى لا غير، والجميع أحوال الكائنات وترتيبها وخصوصياتها، علمها الحق تعالی منها، فأرادها وقدر عليها، فأوجدها لها، فله عليها هذه الحجة البالغة.
ولو كانت على خلاف ذلك لشاءها كذلك ولو شاءها كذلك لأوجدها كما شاءها، فما شاء إلا ما هو الأمر عليه في نفسه .
(ولكن عين)، أي ذات (الممكن) من الكائنات (قابل للشيء) الذي هو عليه من كل حال هو له (ونقيضه) من حال شيء آخر غيره (في حكم الدليل العقلي) فقط، لأنه يفرض الكبير صغيرا، وبالعكس.
فيجد ذلك الفرض معه من غير مانع یدركه العقل، فيسمى كل واحد منهما ممكنا وهو خطأ عند العارف في حكم معرفته.
فإن الشيء إذا كان على وصف وقد علمه الله تعالی موصوفا به في حال عدمه أزلا محال أن يكون قابلا لغير ذلك الوصف وإلا لأمكن أن ينقلب علم الله جهلا.
وإرادة الله تعالی كذلك موصوفة بذلك الوصف، وسمعه كذلك وبصره كذلك كما هو في حال عدمه الأزلي كذلك.
فلو كان قابلا لغير ذلك الوصف لبطلت صفات الحق تعالی وهو محال فلا إمكان لشيء أصلا في حكم المعرفة بل كل شيء واجب بذاته قبل أن يصير شيئا، وهو محال بذاته قبل أن تتعلق به صفات الحق تعالی، وواجب الوجود بغيره بعد أن تعلقت به صفات الحق تعالی.
وقابليته لصفة غيره محال ذاتي، وليس هذا مذهب الحكماء القائلين بالإيجاب الذاتي لأنهم ينفون الصفات، وقد انتسبناها، ويزعمون قدم العالم في وجوده، وقد نفينا القدم لوجود كل شيء في وقته.
(وأي الحكمين المعقولين)، أي الذين يقبلهما الممكن في حكم العقل لا في حكم المعرفة (وقع)، أي أوقعه الله تعالی كذلك.
(فإن ذلك هو الذي كان)، أي وجد (علیه) ذلك (الممكن في حال ثبوته) في العدم المحض كما ذكرنا.
والحكم الآخر القابل له ذلك الممكن أمر موهوم يتصوره العقل وينفيه العرفان ويسميه العاقل ممكن كما يسمى بسببه ذلك الحكم الأول الذي هو عليه ذلك الشيء في نفسه ممكنا.
والعارف يسمي ما عليه الشيء في نفسه واجبا، وما ليس عليه في نفسه محالا .
"قد علم كل أناس مشربهم" [البقرة: 60] .
(ومعنى لهداكم)، أي أوصلكم إلى معرفته وهو معنى (لبين لكم)، أي أزال اللبس عن حسكم وعقلكم (وما كل ممكن) عند العقل وواجب عند المعرفة .
ولما كان الشيخ رضي الله عنه في مقام التعليم جرى على قانون العقل من العالم الإنساني وغيره (فتح الله) تعالی (عين بصيرته) القلبية (لإدراك الأمر) الإلهي في نفسه مع من قام به، والأمر هو الخلق المتفصل بالصور الحسية والعقلية (على ما هو عليه) ذلك الأمر.
بل البعض يدركه على ما هو عليه في نفسه والبعض يلتبس عليه بالصور المذكورة فلا يدرك إلا الصور المذكورة .
(فمنهم)، أي من المخلوقين المخلوق (العالم) بما هو الأمر عليه في نفسه من ملك أو إنسان أو جني أو غيرهم من بقية الخلق (و) منهم (الجاهل) بذلك ممن ذكر .
وتقدير معنى الآية (فما شاء) أن يهديهم أجمعين (فما هداكم أجمعین) بل هدى البعض وأضل البعض. كما قال تعالى : "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا" [البقرة : 26].
وذلك على طبق ما سبق به علمه القديم الكاشف عن المعلومات على طبق ما هي عليه في عدمها الأصلي (ولا يشاء) أصلا أن يهديهم أجمعين، لأن لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما المعلومات عليه في عدمها الأصلي .
(وكذلك)، أي مثل هذا التقرير يتقرر معنى الآية الأخرى التي هي قوله تعالى:" وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ " [الشوری : 32] . وكذلك قوله تعالى: "إن يشأ يذهبكم" [الأنعام: 133].
ويأت بآخرين ونحو ذلك من الآيات وتقديره: فما شاء، فما أسكن الريح، ولا أذهبكم لأنه علمكم كذلك.
ولا يشاؤكم إلا كما علمكم (فهل يشاء هذا) أي الذي هو خلاف ما أنتم عليه في عدمكم الأصلي حيث علمكم كذلك (ما)، أي شيء (لا یكون)، أي لا يوجد أصلا، لأنه خلاف ما عليه المعلوم في نفسه فلو وجد لانقلب العلم جهلا وهو باطل.

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (فمشيئته أحدية التعلق و هي نسبة تابعة للعلم و العلم نسبة تابعة للمعلوم و المعلوم أنت و أحوالك. فليس للعلم أثر في المعلوم، بل للمعلوم أثر في العلم فيعطيه من نفسه ما هو عليه في عينه.
و إنما ورد الخطاب الإلهي بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون و ما أعطاه النظر العقلي، ما ورد الخطاب على ما يعطيه الكشف.
و لذلك كثر المؤمنون و قل العارفون أصحاب الكشوف.
«و ما منا إلا له مقام معلوم»: و هو ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك، هذا إن ثبت أن لك وجودا.)
(فمشيته) سبحانه وتعالى الأزلية المتعلقة بكل شيء (أحدية التعلق)، أي تعلقها أحدي لا تنوع له أصلا بل التنوع من قبل الأشياء على ما هي عليه في عدمها الأصلي.
فقد شاء سبحانه من الأزل كل شيء مكشوف عنه بعلمه القديم بمشيئة واحدة متعلقة بكل شيء تعلقا واحدا.
والأشياء مختلفة في نفسها اختلافا كثيرا، فشاءها مختلفة كذلك، فأوجدها كما شاءها (وهی)، أي مشيئته سبحانه (نسبة) لترجيح الوجود بين الأشياء المتفصلة في عدمها الأصلي وبينه تعالى .
(تابعة للعلم) الإلهي إذ لا يشاء إلا ما علم (والعلم) الإلهي (نسبة لحصول الكشف عنده تعالی بين تلك الأشياء المتفصلة في عدمها الأصلي وبينه سبحانه (تابعة للمعلوم) إذ لا يعلم الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه
(والمعلوم أنت) مثلا يا أيها الإنسان (وأحوالك) في ظاهر و باطنك (فليس للعلم) الإلهي (أثر) من إيجاد أو تخصيص (في المعلوم) أصلا.
لأنه كاشف عنه على ما هو عليه، فلو كشف عنه بزيادة أو نقصان حتى يكون له أثر فيه ما كان علما بل كان جهلا.
(بل للمعلوم) من حيث أنه معلوم (أثر في العلم)، لأنه يطلعه منه على ما لولا المعلوم ما اطلع عليه من نفسه.
(فیعطیه)، أي المعلوم يعطي العالم (من نفسه) المكشوف عنه بعلم العالم (ما)، أي الوصف الذي (هو)، أي المعلوم (عليه في عينه) المتميزة عدمها الأصلي عما يشابهها.
فإن قال قائل حيث كان الأمر كذلك في أن المشيئة الإلهية تابعة للعلم الإلهي والعلم تابع للمعلوم، والمعلوم هو الذي أعطى العلم الإلهي خصوص ما يوجد فيه من جميع أحواله.
والعلم الإلهي أعطى المشيئة الإلهية ما اقتضته من ذلك الخصوص، فكيف وردت النصوص بتعليق الأمور بالمشيئة الإلهية في كثير من الآيات والأخبار نحو: ما تشاؤون إلا أن يشاء الله وأمثال ذلك.
فأجاب عنه بقوله :
(وإنما ورد الخطاب الإلهي) من الله تعالى للعباد (بحسب ما)، أي على مقتضى الاصطلاح الذي (تواطأ)، أي اصطلح (عليه المخاطبون) في نسبتهم كل شيء إلا الصانع القديم.
لأنه هو الذي يوجد الأشياء على حسب ما يشاء، ويشاؤها على حسب ما يعلم، ويعلمها على حسب ما هي عليه في نفسها.
فهي أعطته أحوالها، وهو أعطى تلك الأحوال وجودا، فاستنادها إليه باعتبار إعطائه لها الوجود منه، والأحوال منها إليها صحيح، وعليه وقع الاصطلاح المذكور (و) بحسب (ما أعطاه النظر العقلي) أيضا.
فإن كل شيء موصوف بما هو موصوف به، إذا لم يستند في وجوده إلى الفاعل له العالم به المشيء له لزم أن يستند في وجوده إلى نفسه ونفسه عدمية.
فكيف المعدوم ينتج وجودا؟ فإنه لا يفيض الوجود إلا الموجود، ولا موجود في الأزل إلا الحق تعالی.
فاستناد جميع الأشياء في وجودها إليه تعالی ضروري، وكذلك في جميع أحوالها، لكن جميع أحوالها أخذها منها ثم ردها عليها.
وأما الوجود فقد أعطاه لها منه تعالی فضلا ورحمة ولم يأخذه منها إذ لا وجود لها في حضرة عدمها الأصلي بل لها الاستعداد للوجود منه تعالی فقط فأخذ منها صحة قبولها لفيضان وجوده تعالى عليها وأعطاها صحة ذلك القبول.
(مما ورد الخطاب) الإلهي من الله تعالى لعباده (على) حسب (ما يعطيه الكشف) الإلهامي والفتح الرباني.
فإن الشرائع هي الخطاب على العموم لا الخصوص، وآلة العمومي في الإدراك هي العقل، وللخصوص آلة أخرى غيرها هي البصيرة المنورة بنور الحق سبحانه.
وهي لا تغاير العقل إلا في الإقبال على الحق تعالی والإدبار عنه. وكل عقل له إقبال وإدبار، فخلقت البصائر من إقباله والعقول القاصرة من إدباره.
ولسان الشرائع لسان العقول القاصرة كما قال تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، ليبين لهم" [إبراهيم: 4]. وقوم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هم الجاهلية أهل العقول القاصرة.
فأرسل بلسانهم ليبين لهم وأهل البصائر المنورة تفهم ما أرسل به منه بالطريق الأولى، وإن لم يكن بيانه صلى الله عليه وسلم في الأكثر بلسانهم.
(ولذلك)، أي لورود الخطاب الإلهي بحسب اصطلاح المخاطبين والنظر العقلي وعدم وروده في الغالب على اصطلاح أهل الكشف . " أرسل بلسان أهل الإسلام ولم يرسل بلسان أهل الإحسان "
(كثر المؤمنون) بالله تعالی إيمانا بالغيب بلا معرفة به سبحانه في كل زمان وهم العامة (وقل العارفون) بالله تعالى (أصحاب الكشف) عن حضراته سبحانه، وإن كانوا موجودين في كل زمان إلى يوم القيامة إن شاء الله تعالى، وهم الخاصة وخاصة الخاصة.
وقال الله تعالى حكاية عن الملائكة وجميع الخلق كذلك ("وما منا") من أحد مطلقا ("إلا له مقام") في حضرة علم الله ("معلوم") [الصافات: 164] في الأزل، وهو الكشف عن ذوات الأشياء وأحوالها.
ولهذا قال(وهو)، أي ذلك المقام المعلوم (ما)، أي الحال الذي (كنت)، أي وجدت يا أيها الإنسان ملتبسة (به في ثبوتك) الأصلي في العدم حيث لم تكن شيئا مذكورا.
(ثم ظهرت) الآن متلبسة (في وجودك) العارض لك الطاريء على عدمك.
وإنما يقال(هذا المقام إن ثبت) عندك (أن لك وجودا) مع وجود الله تعالى هو فائض عليك من وجود الله تعالی.

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (فإن ثبت أن الوجود للحق لا لك، فالحكم لك بلا شك في وجود الحق. و إن ثبت أنك الموجود فالحكم لك بلا شك. و إن كان الحاكم الحق، فليس له إلا إفاضة الوجود عليك و الحكم لك عليك.  فلا تحمد إلا نفسك و لا تذم إلا نفسك و ما يبقى للحق إلا حمد إفاضة الوجود لأن ذلك له لا لك. )
(فإن ثبت) عندك (أن الوجود) الذي تزعم أنك فيه وأن كل شيء فيه أيضا هو بعينه منسوب عندك (للحق تعالی) بعد غسله من جميع أدناس الكيفيات والكميات والأماكن والأزمان وتقديسه وتطهيره من سائر الأحوال الكونية.
(لا) أنه منسوب عندك (لك) بحيث شهدت أنك وأن كل شيء من الكائنات أمور عدمية مقدرات بالمقادير الحسية والعقلية والزمانية والمكانية من غير وجود لها.
ثم كل شيء جاء وقته وسبق ما هو مرتب عليه انصبغ بصبغة الوجود الحق، على أنه ظهر في نور الوجود وهو على ما هو عليه من عدمه الأصلي.
(فالحكم لك) حينئذ أيضا يا أيها الإنسان عليك (بلا شك) ولكن (في وجود الحق) تعالی فقد أخذ الحق تعالی منك علمه بك، وحكم عليك بما علمه منك ، فأنت الحاكم على نفسك به سبحانه .
(وإن ثبت) عندك (أنك الموجود) بالوجود الفائض عليك من وجود الحق سبحانه المتجلي عليك.
وكان عندك الوجود وجودین : قديم هو المفيض وحادث وهو المفاض.
وإن كان أحدهما بالنظر إلى الآخر معدوما كما قال الجنيد رضي الله عنه : الحادث إذا قرن بالقديم لا يبقى له وجود، بإرجاع الضمير إلى الحادث أو إلى القديم.
فالوجود القديم هو الأصلي الخالص المطلق من القيود، والوجود الحادث هو ذلك الوجود القديم أيضا لكن ممزوج بالصور وأحوالها التي لا وجود لها إلا به ، ومقيد بجميع القيود العدمية التي هو وجودها لا وجود لها غيره.
فالوجود القديم عام والوجود الحادث خاص، مثل الحيوان والإنسان ففي الحادث ما في القديم وزیادة ، وليس في القديم ما في الحادث من الزيادة .
(فالحكم) حينئذ أيضا (لك) على نفسك (بلا شك) لا حد في ذلك (وإن كان الحاكم) عندك الحق سبحانه باعتبار أنه علمك، فحكم عليك بما علمه منك.
فالحكم إنما ظهر منك عليك، فهو الحاكم عليك وحده (فليس له) سبحانه منك ابتداء أمر من أمورك مطلقا (إلا إفاضة الوجود) منه تعالى (عليك).
فإن إفاضة الوجود ليست مأخوذة منك ومفاضة عليك إذ لا وجود لك أصلا والوجود له سبحانه وحده.
بخلاف سائر أمورك التي أنت ظاهر بها، فإنها مأخوذة منك ومفاضة عليك، إذ لا كيفية له تعالى ولا كمية ولا جهة ولا مكان ولا زمان.
والحكم بالكيفية والكمية والجهة والمكان والزمان (لك) إذ كل ذلك مقتضی أمورك وأحوالك المنكشفة له سبحانه بعلمه القديم (عليك) فإنه وجدك كذلك، فأراد لك ما وجد وقدره عليك وقضاه كما قال سبحانه : "وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين " [الأعراف: 102] وقال سبحانه: "فما وجدنا فيها غير بيت بين المسلمين" [الذاريات: 36] وقال سبحانه: "ووجدك ضالا فهدى" [الضحى: 7] فلله حينئذ عليك المنة بالوجود وبالحكم عليك بجميع ما حكمت به أنت على نفسك وأنت معدوم فكشف بعلمه القديم عنك فوجدك.
كذلك وأنت لست شيئا مذكورا فجعلك شيئا مذكورا بإيجاده لك وبحكمه عليك على طبق ما علمه منك من حكمك على نفسك .فجميع أحوالك منك له أولا عدما.
ومنه لك ثانية وجودا (فلا تحمد) حينئذ على جميع أحوالك الحسنة من جهة خصوصها العدمي الأصلي الرتبي ( إلا نفسك).
لأنها هي التي أعطته ذلك بانكشافها بعلم القديم وأما من جهة إيجاد ذلك لك والحكم به عليك طبق ما حكمت به أنت على نفسك و باختياره وبإرادته فله سبحانه المنة عليك بكل ذلك.
كما قال تعالى: "ألم نخلقكم من ماء مهين " [المرسلات: 20]، وقال تعالى :"بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان" [الحجرات: 17] ونحو ذلك.
(ولا تذم) أيضا على جميع أحوالك القبيحة (إلا نفسك)، لأنها هي التي أعطته ذلك فأوجده لها.
قال تعالى : "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" [النحل: 118]، (وما يبقى للحق) سبحانه عليك (إلا حمد إفاضة الوجود) منه تعالی على جميع أحوالك الحسنة والقبيحة، فتصل بسبب فيض ذلك الوجود إلى جميع أغراضك في الدنيا والآخرة ، الأغراض الحسنة والأغراض القبيحة، فيرحمك بذلك الفيض على حسب ما تقتضيه ذاتك، فله المنة عليك في الخير والشر (لأن ذلك) يعني إفاضة الوجود (له) سبحانه فقط على كل شيء لأنه الوجود الحق، ولا شيء من أحوال .
كل شيء له سبحانه لتنزهه عن جميع ذلك (لا لك)، لأنك معدوم الأصل، فلا وجود لك ليأخذه منك بعلمه القديم ويعطيك إياه كفعله بباقي أحوالك وإذا كان الأمر كذلك.

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (فأنت غذاؤه بالأحكام، ... وهو غذاؤك بالوجود. فتعين عليه ما تعين عليك. فالأمر منه إليك ومنك إليه.  غير أنك تسمى مكلفا وما كلفك إلا بما قلت له كلفني بحالك و بما أنت عليه. و لا يسمى مكلفا: اسم مفعول.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(فيحمدني و أحمده ... و يعبدني و أعبده
ففي حال أقر به ... و في الأعيان أجحده
فيعرفني و أنكره ... و أعرفه فأشهده
فأنى بالغنى و أنا ... أساعده فأسعده؟
لذاك الحق أوجدني ... فأعلمه فأوجده
بذا جاء الحديث لنا ... و حقق في مقصده)
(فأنت) يا أيها الإنسان (غذاؤه)، أي غذاء الحق سبحانه (بالأحكام) التي أخذها منك بعلمه القديم فعلمك بها، وذلك من حيث مرتبة ألوهيته التي منها كونه عالما بك مريدا لك قادرة عليك، فإنه من هذه الحيثية إنما تغذى بك وبأحوالك حتى ترتبت له مرتبة الألوهية التي هي من جملة الحضرات المتنزلة بها إليك في مثابة الجسد الذي يحتاج إلى الغذاء.
وأما من حيث مرتبة ذاته العلية فهو غني عنك وعن غيرك من العالمين كما قال سبحانه :" فإن الله غني عن العلمين" .
وهذه المرتبة للمرتبة الأولى بمنزلة الروح المنزهة عن الغذاء بالأشياء (وهو) سبحانه وتعالی (غذاؤك) يا أيها الإنسان (بالوجود) الذي هو فائض منه عليك، ولا إفاضة ولا غذاء، ولكن ذلك أداة توصيل باصطلاح خاص لإيصال المعنى المراد إلى السالك في طريق العارفين.
واعلم أن ما ثم إلا حق وخلق , والحق هو وجود صرف مطلقا عن الكم والكيف والزمان والمكان وغير ذلك حتى عن مفهوم الإطلاق.
والخلق هو التقادیر العدمية المشتملة على الكم والكيف والزمان والمكان وغير ذلك لا وجود لها أصلا.
ثم أن الحق سبحانه الذي هو الوجود الصرف كما ذكرنا هو الذي قدر جميع الإمكانات العدمية المسماة خلقا وتجلى عليها بحسب ترتيبها في التقدير.
فظهر كل شيء مصبوغة بصبغه الوجود إلى تمام مدة تقديره كذلك.
والحق على ما هو عليه ما انتقل ولا تحول، وتلك التقادير على ما هي عليه أيضا لا انتقلت ولا تحولت، وانتقالها وتحولها من جملة تقديرها ، فالانتقال والتحول لا انتقال ولا تحول.
فيصح القول بإضافة الوجود باعتبار ولا يصح باعتبار آخر.
وحيث قلنا بانصباغ الإمكانات العدمية بالوجود، نقول أيضا بانصباغ الوجود بالإمكانات العدمية أيضا.
فيصح كون الوجود غذاء للإمكانات العدمية، لأنها لم توجد إلا به وهي في نفسها عدم صرف.
ويصح أيضا كون الإمكانات العدمية غذاء الوجود، لأنها بها تصور وتشكل، فظهر في الصور والأشكال للحس والعقل وهو في نفسه وجود صرف منزه عن جميع
ذلك، ولا شك أن الغذاء هو ما به قوام الشيء و بقاؤه.
والمثال هنا مفهوم، فإن الإمكانات العدمية لا قوام لها ولا بقاء إلا بالوجود، وكذلك الوجود من حيث ظهوره متصورة بها لا قوام ولا بقاء كذلك إلا بها.
وأما ما هو من حيث هو في نفسه فلا كلام عنه أصلا إذا علمت هذا (فتعين)، أي لزم بمقتضى الحكمة (عليه)، أي على الحق سبحانه أن يظهرك في كل وقت موصوفة بالوجود مدة إمكانك كذلك.
وهذا الإظهار كذلك هو عين (ما تعين)، أي لزم بمقتضی استعدادك الغير المجعول
(عليك) من إعطائه الأحكام التي يظهر فيها، فعليك إعطاؤه أحكام ظهورك ممكنة مفروضة مقدرة، وعليه إعطاؤك جميع ذلك موجودا محققا.
فالأمر الذي هو عين أحكامك الظاهرة منك في مدة ظهورك (منه) سبحانه وأصل ذلك (إليك) بصفة الوجود (و) ذلك الأمر أيضا (منك) وأصل إليه سبحانه بصفة الإمكان والتقدير لا الوجود.
(غير أنك) يا أيها الإنسان (تسمى) في الشريعة (مكلفة) بصيغة اسم المفعول، لأن الحق كلفك، أي أوقعك في الكلفة وهو المشقة بما أمرك به ونهاك عنه من الأفعال والأقوال والأحوال على ألسنة التراجم المعصومين من الملائكة والأنبياء عليهم السلام .
مع أنك لا تظهر في الوجود إلا بما أعطيت الوجود أن يظهرك به من إمكانك العدمي، فإن وافق ذلك عين ما كلفك به سعدت وإلا شقيت.
(و) الحق سبحانه (ما كلفك) بما كلفك به (إلا بما)، أي بسبب ما (قلت)، أي قولك (له) سبحانه (كلفني) قولا صادرة منك له (بحالك) الذي أنت عليه في إمكانك العدمي وهو استعدادك الغير المجعول.
(وبما)، أي وأيضا بسبب الذي (أنت عليه) في إمكانك العدمي من حالك المقتضي لذلك التكليف.
وهذه حكمة تكليفك يا أيها الإنسان بالشرائع والأحكام دون ما عداك من بقية المخلوقات، والجن معك في هذه الحالة.
وإذا عممنا التكليف في كل نوع من أنواع المخلوقات لوجود العقل عند الكل كما هو مذهب بعض العارفين، فالحالة كذلك فيهم أيضا.
وكلام الشيخ قدس الله سره عام يصح الذهاب به كل مذهب (ولا يسمى) هو سبحانه (مكلفا) بصيغة (اسم المفعول)، وإن كنت أنت كلفته أي أمرته بأن يأمرك بعين ما أمرك به، وأعطيته بإمكانك العدمي من الأحكام عين ما أعطاك منها موصوفة بالوجود.
ولكن ذلك لم يرد فلا يصح القول.
(فيحمدني)، أي الحق سبحانه والحمد هو الشكر ومن أسمائه الشكور، وحمده لي باعتبار أني أعطيته بإمكاني العدمي من جميع ما أعطاني هو بتقديره الوجودي.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالأربعاء يوليو 17, 2019 11:10 pm

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

شرح الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الجزء الثالث :
(وأحمده)، أي أشكره سبحانه على جميع ما أعطاني إياه من الأحوال الوجودية، وذلك هو عين إظهار النعمة، فيظهر هو سبحانه
بما أعطيته من أحكام الإمكان، وأظهر أنا بما أعطاني من ذلك بعد الاتصاف بالوجود.
(ويعبدني) "هي عبارة مستعارة لإيصال معنى حقیقي إلى فهم العارف بالاصطلاح".باعتبار أنه يأخذ مني عين ما يعطيني، وقد أعطاني عبادته بعدما أخذها مني، فاتصف بها هو قبل أن يعطيني إياها، ثم لما أعطاني إياها اتصفت أنا بها.
ولهذا أتي بالفاء فقال : (فاعبده)، أي بما وصفني به من حكم العبادة .
ثم لما كان ظهوره لي وظهوري له في مظهر واحد هو عين صوري بحسب الظاهر والباطن، فهي ظهوره بأحكام شؤونه ومقتضی صفاته وأسمائه ، وهي ظهوري بمقتضى ذاتي وصفاتي.
قال مفرعا ذلك على ما قبله بالفاء (ففي حال) من أحوال وهو حال ظهوره لي المعبر عنه بحال فنائي عني.
(أقر)، أي اعترف (به)، أي بظهوره في مظهري لي حيث لا أنا (وفي حال) آخر من أحوالي وهو حال غيبته عني في ظهوري لعيني في الأعيان الظاهرة لي مني ومن غير (اجحده)، أي أنكر ظهوره في شيء منها الغلبة الغيرية على العينية.
(فيعرفني) هو حينئذ في هذه الحالة (وأنكره) أنا فيها، وذلك لأنه إذا عرفني فرقني عني وفصلني عن إجماله، وبسبب ذلك تحصل لي هذه الحالة الثانية فأقع أنا في الفرق فأجحده في صورتي وأنكره فيها .
وأما إذا عرف نفسه فإنه يجمعني عليه ويجملني في تفصيله فتحصل لي الحالة الأولى فأقع في عين الجمع، فأقر واعترف به وأجد نفسي وأنكرها في وقت ظهوره، ولهذا قال (وأعرفه) في الحالة الأولى (فأشهده) فيها.
والحاصل أنه إذا شهد نفسه في صورتي أشهده أنا فيها وأنكر ما عداه، وإن شهدني في صورتي ولم يشهد نفسه شهدت أنا صورتي وأنكرته فيها حيث لم أشهده فيها.
وذلك لأنه سبحانه خلق صورتي وقدرها في الأزل في علمه ليكون لها جهتان :
جهة كونها له سبحانه يظهر بها لنفسه بنفسه فيرى نفسه فيها حيث هو ممسك لها وهي قائمة به مثل قيام العرض بالجسم في المثال المعروف عند العقلاء .
وقيام الصورة بالجسم قيام العرض بالجسم، لأن الصورة عرض، ولا شك أن كل صورة تنسب إلى ما قامت به من الجسم .
فيقال : صورة الحجر كذا وصورة الشجر كذا.
وفي الحقيقة الممسك للصور كلها هو الحق تعالى لا الحجر ولا الشجر، بل الحجر والشجر من جملة الصور الممسوكة بالحق تعالى.
والعالم كله صور أجسامه وأعراضه محسوساته ومعقولاته، وهي كلها لله تعالى كما قال سبحانه : "لله ما في السماوات وما في الأرض" [البقرة: 284]، وهي كلها فانية في نفسها ظاهرة بالوجود الذي له، لأنه ممسكها فلا يتخلى عنها طرفة عين.
قال تعالى : "إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا" [فاطر: 41] الآية .
فهذا الإمساك إمساك إيجاد "وامداد" لا إمساك ظرفية واستقرار، كما تمسك أنت حجر بيدك .
ولهذا قال تعالى:" أن تزولا "و قید الإمساك بذلك ولم يطلق، ثم قال سبحانه : "ولئن زالتا " أي بعدم إمساكه "إن أمسكهما من أحد بين بعده" [فاطر: 41] وذلك لأنه لا خالق سواه تعالى ولا موجود إلا هو، وجهة أخرى هي جهة اعتبار كون صورتي صورة تامة مستقلة.
وكذلك جميع الصور ولكن الكلام الآن من حيث التكليف فهو خاص بالإنسان عندنا فيما يظهر.
وهاتان الجهتان في علم الحق سبحانه بكل شيء؛ فلهذا كان للعبد باعتبار ذلك حالتان:
حالة جمع بالنظر إلى الجهة الأولى
وحالة فرق بالنظر إلى الجهة الثانية.
ولا يجتمع شهود الحق نفسه مع شهود الخلق نفسه أصلا ، كما لا يجتمع شهود الحق خلقه مع شهود الخلق للحق أصلا.
وسبب ذلك اتحاد الحقيقة في الحقيقة، والحق دائما شاهد نفسه وخلقه ولا غفلة له عن أحدهما أصلا.
وإنما إذا تجلى الحق بشهود نفسه في صورة خلقه شهد الخلق الحق سبحانه في صور الخلق.
وإذا تجلى الحق بشهود خلقه شهد الخلق أنفسهم لا غير.
والحق حق على ما هو عليه، والخلق خلق على ما هم عليه ، فالكمال لله ، والنقصان لكل ما سواه .
(فإني) من حيث أنا خلق مقدر مفروض في علم الله الحق تعالی (بالفني) ، أي ملتبس بالزوال والاضمحلال والعدم الصرف، إلا أني ممكن بالنظر إلى المستحيل الممتنع.
ولهذا قال: (وأنا أساعده)، أي الحق تعالى على ظهوره بصورتي وتجليه في كل ما يريد لمن يريد، إذ لولا الإمكان ما ظهر الواجب للعيان ولا توهمته العقول بالدليل والبرهان، وليس الإمكان بجعل جاعل.
وكذلك الواجب والمستحيل، بل هي الاعتبارات الثلاث التي ينقسم إليها الإدراك العقلي من حيث نورانیته المنبعثة من حضرة أمر الله تعالى.
ولا يقدر العقل أن يفصلها بإدراك ماهية تلك الأقسام، لأن ذلك مقدار ما عنده من العلم القديم.
وهو ما أخذه العصفور بفمه من ماء البحر في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، وما نقص بذلك من ماء البحر شيء ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض .
وهذه مسألة أرضية لا سماوية، فهي من علوم العقل وهو قوله سبحانه فيمن أقام كتابه : "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" [المائدة : 66] فهي من تحت أرجلهم، لأن البحر في الأرض والعصفور من الأرض باعتبار أنه جسم ومن السماء باعتبار أنه طير ، فصح تشبيه العقل به .
وقوله بالفني إشارة إلى أنها ليست مساعدة حقيقية، لأنه تعالى غني عن العالمين ولا يساعده إلا الموجود ولا موجود سواه سبحانه.
ولكنها عبارة مستعارة لإيصال معنى حقیقي إلى فهم العارف بالاصطلاح.
(وأسعده)، أي أنصره بالظهور على الخفاء، وبالتجلي على الاستتار من حيث إني مظهره وموضع تجليه ونفوذ أحكامه وتصرفاته. قال تعالى : "إن تنصروا الله ينصركم» [محمد: 7] .
فهو وعد بالفرق على الجمع فنصره ظهوره حيث لا نحن، ونصرنا ظهورنا حيث لا هو، فله الحكم في الجمع، ولنا الحكم في الفرق.
وقد دعا بعض المعصومين بقوله: "رب هب لي حكما" [الشعراء: 83]، فطلب الفرق، ثم قال: واجعلني من الصالحين، أي صاحب جمع، لأن الفرق وحده ضلال وغفلة وطغيان، ومع الجمع ويسمى جمع الجمع والفرق الثاني، نور وهداية وكمال لاستغناء الجهتين اللتين للحق تعالى في حضرة علمه كما قدمنا .
(كذلك)، أي كما أني أساعده وأسعده (الحق) سبحانه (أوجدني)، أي تجلی علي وأنا في إمكاني معدوم أزلا، فعلمني فقدرني وخلقني، ثم لما جاء ابتداء تقدير ظهوري أظهرني بنور وجوده لي ولغيري.
فكان إيجاده لي بوجوده مدة إمكاني فتقدیری كذلك، ومثلي كل شيء، وأنا حكمة وجود كل شيء وحكمة وجودي إنما هي معرفتي به التي هي عين ظهوره في صورتي وصورة كل شيء عندي كما ورد : «یا ابن آدم خلقتك من أجلي، وخلقت الأشياء كلها من أجلك، فلا تشتغل بما خلق من أجلك عما خلقت من أجله».
وأشار إلى ذلك بقوله (فأعلمه)، أي بعد أن أوجدنی لذلك وعلمي به لا من حيث هو على ما هو عليه في حضرة إطلاقه، لأن ذلك لا يكون إلا للقديم، وإنما علمي به من حيث ظهوره في أحكام الإمكان.
وهذه الحيثية له من حيث نحن حدثت بحدوثنا وهي تنزله لنا بنا، وهو الغني بالذات عن العالمين، والعالم ما سواه تعالى، وهي جهة الإمكان في نفسه لا من حيث الجهة الأولى كما مر.
ولهذا قال: (فأوجده)، أي أوجده بإمكاني ظاهرة عندي في حضرة تجليه بصورتي وصورة كل شيء، حيث لا أنا ولا غيري.ثم أيد ما قال تعالى بقوله (بذا)، أي بهذا الأمر المذكور والمشروح في ضمن هذه الأبيات
(جاء الحديث) عن النبي صلى الله عليه وسلم (لنا) معشر المكلفين الورثة المحمديين من أمته، إذ لا يفهم ذلك من الحديث إلا الوارث الكامل صاحب الولاية الجامعة دون العلماء المحجوبين، فإن حظهم من ذلك الإنكار والجحود في الغالب، وهو رزقهم المعنوي . كما قال تعالى في حق من كذب النبيين

"وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون" [الواقعة: 82] وتكذيب الولي في فهمه ت?ذیب النبي في قوله عند العارفين دون القاصرين  .
والحديث هو قوله عليه السلام: «إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة، فألقي عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور يومئذ اهتدى، ومن أخطأه ضل». رواه أحمد في مسنده والترمذي وسنن البيهقي  والحاكم في مستدر?ه عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وذكره السيوطي في الجامع الصغير.
فإن قوله عليه السلام: خلق ، أي قدر جميع المخلوقات في ظلمة وهي العدم الصرف، وهم تقديراته ومفروضاته، وحقيقتهم حضرة الإمكان العدمية.
وقوله : فألقى عليهم من نوره، أي توجه على إيجادهم بوجوده القديم المطلق، وهو إشارة إلى وحدة الوجود على الوجه الصحيح، إذ لا وجود سواه تعالى على كل حال، وهذا ما أشار إليه قوله : كذلك الحق أوجدني ..
وقوله : فمن أصابه من ذلك النور، أي ظهر له ذلك الوجود المطلق الذي هو به موجود والكل به موجود مثله.
وهو معنى الإصابة لا مجرد الوجود به والظهور به لأن الكل كذلك ولكن من حيث لا يعلمون، فلا يكونوا كذلك عند أنفسهم فما هي إصابة .
وقوله : يومئذ، إشارة إلى أن هذا إصابة ذلك في العالم قبل هذا العلم وما لم يكن في التقدير لا يكون في التصوير.
وهذا ما أشار إليه بقوله : فاعلمه فأوجده، إذ لولا علمه ما كان موجودا عنده، والحق في نفسه موجود على كل حال، لأنه غني عن العالمين.
وقوله : ومن أخطأه ضل، أي من لم يصبه في ذلك العالم، ولم يعلم به هناك لم يصبه في هذا العالم، ولم يعلم به هنا فهو الضلال المبين .
(وحقق)، أي الحق تعالی يعني أظهر وأنفذ في هذا العالم العيني (في)، أي في ظاهري وباطني,  (مقصده)، أي الذي قصده في ذلك العالم من جميع ما أراده وقدره وفرضه من جميع أحوالي ومثلي كل شيء كذلك .

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (و لما كان للخليل هذه المرتبة التي بها سمي خليلا لذلك سن القرى ، و جعله ابن مسرة مع ميكائيل للأرزاق ، و بالأرزاق يكون تغذي المرزوقين.
فإذا تخلل الرزق ذات المرزوق بحيث لا يبقى فيه شيء إلا تخلله، فإن الغذاء يسري في جميع أجزاء المغتذي كلها وما هنالك أجزاء فلا بد أن يتخلل جميع المقامات الإلهية المعبر عنها بالأسماء فتظهر بها ذاته جل وعلا)
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(فنحن له كما ثبتت ... أدلتنا ونحن لنا
وليس له سوى كوني ... فنحن له كنحن بنا
فلي وجهان هو وأنا ... و ليس له أنا بأنا
ولكن في مظهره ... فنحن له كمثل إنا
و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل.)
(ولما كان)، أي وجد (للخليل) إبراهيم عليه السلام (هذه المرتبة) المذكورة التي هي الغذاء من الطرفين في ظهور العين.
 كالصبغ المركب من لونين فأحدهما يغذي الآخر في ظهور ذلك اللون، وهو ما ذكرنا من جمع وفرق.
 باعتبار علم الحق سبحانه بنفسه ظاهرة لنفسه في شؤونه الإمكانية العدمية، واعتبار علم الحق تعالی أيضا لتلك الشؤون الإمكانية العدمية بنفسها.
ولا شك أن الخليل عليه السلام من جملة تلك الشؤون، ولكنه افترق عنها بما في إمكانه وتقديره من الاطلاع، والكشف عما هو في نفس الأمر من ذلك.
ولهذا السبب اختص بهذه المرتبة (التي بها)، أي بسببها (سمي إبراهيم) عليه السلام (خليلا) للحق تعالی .
(لذلك)، أي لما ذكر (سن )، أي جعل سنة إلى يوم القيامة (القرى) بالكسر أي الضيافة، وهي إطعام الغير جمعة وفرادی، فإن ذلك من جملة حقيقته التي هو قائم بها في الوجود.
وهو الإمداد الحسي ظهر عليه من التخليق باسمه تعالى المقيت في اعتبار الحضرة الأسمائية (وجعله)، أي الخليل عليه السلام (ابن مسرة) من العارفين يعني حكم بأنه قائم (مع می?ائیل) عليه السلام (ملك الأرزاق) كلها الحسية والمعنوية في حضرة القدس لا يفارقه حيث إن الروحين صادرتان من عين أمرية واحدة في شأن إلهي واحد.
ثم بين وجه ذلك بقوله (و بالأرزاق) الحسية والمعنوية (يكون تغذي)، أي نمو وبقاء (المرزوقين) من المحسوسات والمعقولات، فالجسم يتغذى فينمو ويبقى بالمأكل والمشرب.
والروح تتغذى بالقوى الأمرية فتنمو وتبقى والعقل يتغذى بالكشف والعلم الذوقي فينمو ويبقى.
ولا بد في كل غذاء من دخوله في أجزاء المتغذي به ?دخول المأكل والمشرب في الجسم، واتصال القوى الأمرية الإلهية بالروح، وإحساس العقل بالعلم الذوقي الكشفي النوراني، وإلا فلا يكون ذلك غذاء .
(فإذا تخلل)، أي تداخل (الرزق)، أي الشيء المرزوق (ذات) ذلك (المرزوق) له، وتخلل كل رزق بحسبه على مقتضى ما يليق به، كما يعرفه أهل الأذواق دون علماء الكتب والأوراق .
(بحيث لا يبقى فيه)، أي في ذات ذلك المرزوق (له شيء) من أجزائه أصلا (إلا تخلله)، أي تداخله ووصل إليه ذلك الرزق كل جزء بحسبه على مقتضى ما هو مستعد لقبوله .
(فإن الغذاء) حينئذ (يسري) للنمو والبقاء (في جميع أجزاء المتغذي به كلها) ظاهرة وباطنة، وبذلك يسمى غذاء وما لم يكن كذلك فليس بغذاء لعدم سريانه.
فيصير على صورة المتغذي به ?ما عرفه الأطباء بذلك حيث قالوا بأن الغذاء جسم من شأنه أن يصير جزءا شبيها بالمتغدي، إذا استقر في المعدة وانهضم بصیر ?یموسة، أي جوهرة شبيهة بماء الكشك الثخين.
 ثم ينجذب لطيفه فيجري في عروق متصلة بالأمعاء فيصل إلى العرق المسمى باب الكبد، وينفذ في أجزاء صغيرة ضيقة بباب الكبد فيلاقيها بكليته، فينطبخ في الكبد فيعلو شيء كالرغوة وهو الصفراء، ويرسب فيه شيء وهو البلغم ويحترق شيء وهو السوداء، والمستصفى منه هو الدم وبه تتغذى الأعضاء ويصير جزء منها.
ويدل على أن الغذاء يصير جزءا من المتغذي قوله صلى الله عليه وسلم : «من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به» رواه الطبراني.  رواه أحمد والدارقطني. وروى البيهقي والحاكم
(و) في جانب الحق تعالی حيث كنت غذاءه بالأحكام (ما هنالك) في حضرته تعالى (أجزاء)، لأنه تعالی ليس بجسم (فلا بد أن يتخلل).
أي يتداخل الغذاء حيث قبل به في جانب الحق تعالى جميع (المقامات الإلهية) التي هو الحق قائم فيها ، أي موجود ثابت من حيث ظهوره عندنا (المعبر عنها)، أي عن تلك المقامات (بالأسماء) الإلهية فهي لمرتبة ظهوره سبحانه بمنزلة الأجزاء التي يتخللها الغذاء بحيث يصير جزء منها (فتظهر بها).
أي بتلك المقامات التي تخللها الغذاء على طريقة الاستعارة المجازية لا الحقيقية (ذاته)، أي الحق (جل وعلا).  
قال الشيخ رضي الله عنه : (فنحن) معشر الممكنات المقدرة المفروضة في علمه سبحانه (له)، أي للحق سبحانه يظهر وجوده المطلق مقيدة بنا (كما ثبتت)، أي صحت بذلك (أدلتنا) جمع دلیل وذلك في الكتاب والسنة.
قال تعالى: "لله ما في السموات وما في الأرض" [النساء: 162]. "وإليه يرجع الأمر كله" [هود: 123]."واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" [البقرة: 281]، "والأمر يومئذ لله" [الانفطار: 19]. وقال تعالى : "وله كل شئ" [النمل: 91].
وروى البخاري ومسلم ومالك في الموطأ وأبو داود بإسنادهم إلى أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: «يسب بنو آدم الدهر، وأنا الدهر بيدي الليل والنهار». البخاري ومسلم وابن حبان والنسائي في السنن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله هو الدهر". رواه ابن حبان و ابن حجر في الأدب المفرد وسنن ابن أبى عاصم وموطأ مالك ومسند البزار ومسند أحمد
وفي رواية أخرى: «أقلب ليله ونهاره وإذا شئت قبضتهما ». رواه مسلم وابن حبان.
وفي أخرى قال الله تعالى: «يؤذيني ابن آدم يقول : يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني الدهر أقلب ليله ونهاره» .رواه مسلم وابن حبان.
، ولا شك أن المراد كل شيء يوجد في الدهر من محسوسات ومعقولات، لأنها موضع السب أو المدح لا نفس الزمان، وكل الأشياء الله سبحانه، لأنه هو الظاهر بها لكونه المؤثر وحده لا تأثير لشيء معه أصلا.
ونحن في وجه آخر (لنا)، أي ظاهرون لأنفسنا وهو مشهد الغفلة (وليس له)، أي للحق تعالی مني .
حيث قلت : نحن له (سوی) مجرد (كوني)، أي وجودي بمعنى إيجادي به فوجودي به هو وأما تقديري وصورتي الممكنة العدمية في الظاهر والباطن فليست هو.
(فنحن له)، أي معنى كوننا له (كنحن بنا)، أي يكفي كوننا بأنفسنا من جهة الصورة الإمكانية ، فنحن له كذلك من جهة الصورة الإمكانية لا غير.
ولهذا قال ابن الفارض قدس الله سره:
تراه إن غاب عن كل جارحة     …. في معنى لطيف رائق بهج
إلى آخر الأبيات، فأثبت له الغيبة من حيث وجوده المطلق وأخبر أنه يراه في كل معنی، وذلك من حيث ظهوره في الصور المعقولة والمحسوسة.
فلو حضر الغيب المطلق لبطل الظهور في الصور، ولهذا شرط لظهوره في الصور ورؤيته فيها غيبته عنه من حيث الوجود المطلق.
ثم اعلم بأن ظهوره تعالى في الصور في غيبة وجوده المطلق يقال له: خلق أيضا من وجه آخر وهما شيء واحد .
ولهذا شبه الشيخ قدس الله سره أحدهما بالآخر في قوله:
فنحن له كنحن بنا، أي ظهور ما في صورنا كظهورنا نحن في صورنا بأنفسنا.
ثم شرع يفرق بينهما فقال: (فلي)، أي من حيث أنا ممكن متصور في الصورة الباطنية والظاهرية (وجهان).أي اعتباران.
الوجه الأول (هو) وذلك ظهور في صورتي حسين وعقلا .
(و) الوجه الثاني (أنا) وهو العبد المخصوص بالصورة المحسوسة والمعقولة. (وليس له)، أي للحق تعالى (أنا) من حيث صورتي حسا وعقلا المغايرة له.
(بانا) من هذه الحيثية بل له أنا من حيث صورتي عقلا وحسا من دون مغايرة له، فأنا له غير أنا لنفسي وإن كانت الصورة واحدة.
فإنهما اثنان لكل واحد منهما حكم ليس للآخر، فالسر في النفس والقلب، فالنفس لي والقلب له، والنفس هي القلب إلا أنها غيره.
فالجمود للنفس والتقلب للقلب، والجهل للنفس والعلم للقلب، فالنفس تصير قلبا بالتقلب بالله .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف شاء» . رواه الحاكم والنسائي
وقال  صلى الله عليه وسلم : «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». رواه الترمذي وابن ماجة
وقال  صلى الله عليه وسلم «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن».ذكره الزركشي في " التذكرة" والسخاوي في " المقاصد الحسنة " ، والملا علي القاري في " الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة " ، والعجلوني في " كشف الخفاء ".
والقلب يصير نفسا للمنافسة للحق والجمود على الظواهر.
وفي الأثر: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» .ذكره المناوي في التيسير بإسناد جيد وكذلك فى فتح القدير و ذكره على القاري فى مشكاة المصابيح
""قال الشيخ الأكبر محيي الدين: هذا الحديث «من عرف نفسه فقد عرف ربه» ؛ وإن لم يصح من طريق الرواية؛ فقد صح عندنا من طريق الكشف.
تؤكده صحته الآية :"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" [فصلت : اية41 ] فمن عرف نفسه فقد عرف ربه.""
وقال صلى الله عليه وسلم  في الحديث القدسي : «عاد نفسك فإنها انتصبت لمعاداتي». أورده الآمدي في الأحكام
""وقال صلى الله عليه وسلم : "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك " اخرجه البيهقي في الزهد و الديلمي""
(ولكن في)، أي في نفسي وصورتي (مظهره)، أي موضع ظهوره، فالظهور له وأنا آلة الظهور، كالحروف المركبة في الكلمة آلة ظهور المعاني من غير حلول ولا اتحاد، فلولا المعاني ما ظهرت الحروف ولا كانت موجودة، إذ ليس الحروف مقصودة لذاتها، ولولا الحروف ما ظهرت المعاني للغير ولا تبينت، فالحروف ظروف المعاني من غير ظرفية.
ولهذا قال: (فنحن) معشر المخلوقات المحسوسة والمعقولة (له)، أي للحق تعالی باعتبار ظهوره في حضرات صفاته وأسمائه لا باعتبار ذاته، لأنه باعتبار الذات غني عن العالمين.
ولهذا أتي باسم الجلالة الذي هو اسم للذات الجامع لجميع الأسماء فقال : "فإن الله غني عن العالمين " [آل عمران: 97] .
(مثل إناء) بكسر الهمزة، أي وعاء ولسنا له إناء ووعاء حقيقة بل نشبه ذلك ""فنحن اقرب الى المرآة لإظهار التجليات الإلهية "".
لأنه وجود مطلق، ونحن إمكان مقيد، وقد ظهرنا موجودين والوجود ليس لنا وليس هو مكررا بل الوجود له تعالی وحده. وهو واحد لا يمكن أن يكون وجودين.
وإلا لشهدناه نوعين أو أكثر وهو نوع واحد حسا وعقلا، والإمكانات المقيدة كثيرة متنوعة إلى أنواع مختلفة، وتارة تنصبغ به بلا انصباغ، وتارة تعري عنه.
وهذا كله قطعی لا شك فيه عند أهل البصائر، فإذا ظهر الممكن المقيد منصبغة بالوجود وهو في نفسه عدم صرف كان ذلك الممكن المقيد بمنزلة الإناء والوعاء للوجود المطلق.
وليس ثم إناء ولا وعاء وإلا لكان الممكن موجودة من جهة نفسه أو من جهة موجود آخر غير الحق تعالى وهو باطل.
فإنه لا موجود لكل شيء إلا الحق تعالى وحده لا شريك له، فلا إناء ولا وعاء في الوجود بل الكل عدم "بالنسبة الى وجود الحق" .
والوجود الواحد المطلق الذي هو الحق تعالی متوجه بتصوير كل ممكن و تقديره، فبالضرورة يظهر ذلك الممكن موجودا بوجود مقید به.
فكأنما الوجود المطلق في ذلك الممكن، وكأنما ذلك الممكن وعاء له وإناء له، جل وعلا الوجود المطلق القديم سبحانه أن يحل أو أن يسكن في الممكنات المعدومة الحادثة المفتقرة إليه سبحانه في كل نفس أن يقدرها ويصورها ويوجدها بأنوار وجوده و يتحفها بأنواع كرمه وجوده .
(والله) سبحانه وتعالى (يقول) في كل ما قلناه (الحق) المبين والصدق المستبين بلساننا الحادث ونفسنا القاصرة وصورتنا الحاضرة على أنه فينا مع تنزهه عنا.
وليس هو فينا مع تعلقنا به . وتقيده بنا مع إطلاقه في ذاته .
وليحذر القاصر المسكين من إنكار دقائق معارف أهل اليقين، فإن دقائق العلوم لا تدركها نفوس الجاهلين ("وهو") سبحانه وتعالى ("يهدي السبيل") [الأحزاب: 4]، أي يدل ويوصل من يشاء من عباده إلى الصراط المستقيم والمنهج القويم لا رب سواه ولا إله إلا الله .

تم فص الحكمة الإبراهيمية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس يوليو 18, 2019 8:40 am

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية

هذا نص الحكمة الإسحاقية ذكره بعد حكمة إبراهيم عليه السلام، لأنه ابنه ومقامه متصل بمقامه وله به كمال العلاقة في المرتبة ويذكر في حكمة بقيته حكمة أبيه إبراهيم عليه السلام من جهة الرؤيا فناسب ذكره بعده .
(فص حكمة حقية) منسوبة إلى الحق وهو اسم من أسمائه تعالى وهو ضد الباطل كما مر (في كلمة إسحاقية).
إنما اختصت حكمة إسحاق عليه السلام بالحقية، لأنه الذبيح على القول الصحيح.
وقصة رؤيا المنام الواقع لأبيه عليهما السلام تقتضي خروجه من عالم الخيال الباطل إلى عالم الوجود الحق.
ووقع له في اليقظة أنه ما ذبح وإنما فداه الله بالكبش، والكبش صورته في المنام، والمنام خیال، فذبح نفس ألوهيته وبقية حقيقته الحقية فكانت حكمته حقية لذلك . والله الموفق إلى أقوم المسالك .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(فداء نبي ذبح لقربان    ... و أين ثؤاج الكبش من نوس إنسان
و عظمه الله العظيم عناية   … بنا أو به لا أدر من أي ميزان
و لا شك أن البدن أعظم قيمة  ... و قد نزلت عن ذبح كبش لقربان
فيا ليت شعري كيف ناب بذاته ...   شخيص كبيش عن خليفة رحمان
ألم تدر أن الأمر فيه مرتب  … وفاء لإرباح و نقص لخسران؟
فلا خلق أعلى من جماد و بعده ... نبات على قدر يكون و أوزان
و ذو الحس بعد النبت والكل عارف ... بخلاف كشفا و إيضاح برهان
و أما المسمى آدما فمقيد  … بعقل و فكر أو قلادة إيمان
بذا قال سهل و المحقق مثلنا  ... لأنا و إياهم بمنزل إحسان
فمن شهد الأمر الذي قد شهدته …    يقول بقولي في خفاء و إعلان
و لا تلتفت قولا يخالف قولنا ... و لا تبذر السمراء في أمر عميان
هم الصم و البكم الذين أتى بهم ... لأسماعنا المعصوم في نص قرآن)
(فداء نبي) من أنبياء الله تعالى وهو إسحاق عليه السلام (ذبح) مصدر ذبحت الشاة ونحوها إذا قطعت أوداجها وحلقومها (ذبح) بكسر الذال المعجمة وهو ما يذبح من شاة ونحوها.
قال الجوهري في الصحاح : الذبح الشق والذبح مصدر ذبحت الشاة، والذبح بالكسر ما يذبح. وقال تعالى: "وفديناه بذبح عظيم " [الصافات: 107].
والذبح المذبوح والأنثى ذبيحة، وإنما جاءت بالهاء لغلبة الاسم عليها، والذبيح الذي يصح أن يذبح للنسك (لقربان)، أي لأجل القربان .
قال الجوهري : القربان بالضم ما تقربت به إلى الله تعالى، تقول منه قربت الله تعالی قربانا (وأين) كلمة استفهام للاستبعاد والفرق الواضح (ثؤاج) بالهمزة وضم الثاء المثلثة، أي صياح.
قال الجوهري : الثواج صباح الغنم (الكبش) واحد الكباش من الغنم (من نوس) بالسين المهملة . قال ابن فارس في المجمل: النوس تذبذب الشيء تقول ناس ينوس انتهى . والمراد هنا الحركة المنتظمة على القانون العقلي.
(إنسان) واحد من بني آدم يعني لا يساوي صباح الكبش لحركة بني آدم المنتظمة الجارية على الكمال، فأين صوت الحيوان الصادر منه من غير إدراك عقلي وحركة الإنسان الصادرة منه على الوجه العقلي.
فكيف يكون هذا فداء لهذا وليس هذا بمساوي لهذا أصلا، فالمراد بیان خفاء الحكمة في ذلك ورقتها، وأنها مما ينبغي أن يطلب ويسأل عنه، وإنما ذكر من الكبش صياحه ومن الإنسان حركته لاشتراكهما في الحيوان.
وتمييز الإنسان بالنطق النفساني الذي يظهر تارة بالنطق اللساني وتارة بالأفعال المنتظمة على القانون العقلي.
والنطق اللساني قد يشارك الإنسان فيه غير الإنسان من طير ونحوه ، بخلاف الأفعال المنتظمة فإنها مختصة بالإنسان وبكل من يعقل من الجن والملك دون غيرها ، فميز الكبش بصوته الذي لا يشبه صوت الإنسان فضلا عن شبهة الأفعال الإنسانية التي هي فوق صوت الإنسان في دلالة الكمال وميز الإنسان بأفعاله المنتظمة لاختصاصها بمن يعقل ودلالتها على الكمال بأبلغ وجه .
(وعظمه)، أي الكبش (الله) تعالى (العظيم) سبحانه بقوله عنه : "وفديناه بذبح عظيم" [الصافات: 107]. (عناية)، أي اعتناء و احتفالا منه تعالى (بنا) معشر بني آدم حيث جعله فداء عن إنسان منا، فصار شريفة من بين أمثاله من أنواع الحيوانات، تشريفا حاصلا له من جهة الإنسان لا من جهة نفسه هو لأنه حيوان لا يستحق ذلك التعظيم والتشريف من ذاته، فيكون ذلك تشريفا لنا وتعظيما لشأننا حيث شرف بنا ما لا يليق به التشريف.
وعظمه من بين سائر أمثاله فتعظيمه في الحقيقة راجع إلينا فهو تعظيم لنا (أو) ذلك به عناية من الله تعالى (به)، أي بالكبش وتشريف له من بين جميع الحيوان لكونه ?ان فداء عن إنسان، فتعظيمه على هذا راجع إلى نفسه.
فالكبش هو العظيم (لم أدر) على وجه التحقيق هذا التعظيم المذكور للكبش صادر من الحق تعالی (من أي میزان) أي على أي وجه هل هو صادر من وجه ذات الكبش لسر في الغنم والكباش ليس في غيرها من الحيوانات؟
فتعظيمها راجع إلى ذاتها، وهو من وجه ?ونه وقع فداء الإنسان فالتعظيم في اللفظ للكبش، وفي المعنى المن ?ان فداء عنه وهو الإنسان الكامل.
والظاهر أن تعظيمه لظهوره في المنام لإبراهيم عليه السلام في صورة ابنه إسحاق عليه السلام.
فرأى في المنام أنه يذبح ابنه وهو في اليقظة إنما ذبح كبشه، فقد رأى الكبش في صورة ابنه في عالم المنام.
فكان ذلك تشريفا للكبش حيث ظهر في صورة إنسان في عالم الخيال، فهو كبش عظیم لأجل الصورة الإنسانية التي ظهر بها في بعض العوالم فتعظيمه عناية بنا، ولهذا قدمه في الذكر على الاحتمال الثاني.
(ولا شك) عند العقلاء (أن البدن) جمع بدنة وهي الواحدة من الإبل والبقر والجاموس (أعظم قيمة) إن أريد بالعظم في الآية في حق الكبش عظيم القيمة، فإن الجمل والبقرة قيمتها أكثر من قيمة الكبش.
(وقد نزلت)، أي البدن فلم يذبح منها شيء (عن ذبح كبش) من الكباش (لقربان)، أي لأجل التقرب به إلى الله تعالی فداء عن إنسان كامل، فليس المراد العظيم في القيمة بل المراد في القدر والشرف.
(فيا ليت شعري)، أي يا ليتني أشعر، أي أعلم وأتحقق (كيف)، أي على أي كيفية (ناب بذاته)، أي خلق نفسه (شخیص) تصغير شخص مضاف إلى (?بیش) تصغير كبش أيضا، وهذا التصغير للتقليل والتحقير بالنسبة إلى مقام الإنسان الكامل (عن خليفة رحمن)، وهو إسحاق النبي عليه السلام.
ثم أجاب عن ذلك بقوله: (ألم تدر) يا أيها الإنسان العارف يعني نفسه وغيره (أن الأمر)، أي أمر الله تعالى الواحد النازل منه تعالى في صورة المخلوقات كلها (فيه)، أي في ذلك الأمر (مرتب)، أي على ترتيب مخصوص (وفاء) نائب فاعل مرتب، والوفاء الزيادة .
(لإرباح)، أي لحصول المراتب السامية والمقامات العالية في بعض المخلوقات (ونقص) ضد الوفاء (لخسران)، أي حرمان تلك الزيادة في بعض المخلوقات الأخر ثم بينه بقوله .
(فلا خلق)، أي مخلوق (أعلى) رتبة وكمالا في معرفة الله تعالى و كثرة تسبيحه (من جماد) فالجماد ?الحجر والتراب ونحو ذلك أعلى المخلوقات عبادة لله تعالى، ولهذا سكن فلم يتحرك حسين ولا عقلا ولا طبعا، وتحرك أمرا فقط.
فهو يعمل بأمر الله تعالی خاصة (وبعده)، أي الجماد في علو المرتبة في العبادة (نبات) كالشجر والحشيش والرياحين ونحو ذلك (على قدر)، أي مقدار له في ذلك (يكون) عليه (وأوزان)، أي مراتب وحدود لا يتجاوزها، ولهذا تحرك طبعا لا حس ولا عقلا ، فهو يعمل بطبعه بأمر الله تعالى فهو دون الجماد في المرتبة .
(وذو الحس) وهو الحيوان كالوحوش والطيور ونحو ذلك (بعد النبت) في الرتبة ولهذا تحرك طبعا وحسة لا عقلا.
فهو يعمل بطبعه وبحسه بأمر الله تعالى فهو دون الجماد والنبات في الرتبة (والكل)، أي الأقسام الثلاثة : الجماد والنبات والحيوان .
(عارف) معرفة فطرية نظرية طبيعية (بخلافه)، أي ربه الذي خلقه (?شفا)، أي ذوقا وشهودة لا فكرة وتخييلا (وإيضاح)، أي بيان (برهان)، أي دليل واضح لا تشكيك فيه، والمراد به القرائن والعلامات التي بها يكشف العارف عن معروفه، ويتحقق بها حقيقة مألوفه.
(وأما المسمی آدما) وهو النوع الإنساني (فمقيد) في معرفته بالله تعالى (بعقل وفكر أو) مقید بحكم (قلادة)، أي تقليد (إيمان) فصاحب العقل والفكر صاحب نظر ودليل وبرهان.
والآخر المقلد صاحب التسليم والإذعان، وكلاهما في المعرفة دون الجماد والنبات والحيوان. ولهذا تحرك طبعا وعقلا وحسا، فهو يعمل بطبعه وعقله وحسه بأمر الله تعالى.
وخليفة الله تعالى وهو الإنسان الكامل ليس مقيدة بالعقل والفكر ولا بالتقليد في الإيمان وإنما هو صاحب ?شف وذوق وشهودفمعرفته بالله تعالی ?معرفة الجماد والنبات والحيوان.
فلهذا فداه الله تعالى بالحيوان للمشاركة في المعرفة الذوقية الشهودية الفطرية، وقد شرف الله تعالى الخليفة بعلوم ترقى فيها عن المعرفة الفطرية الذوقية وخصه بمراتب في العرفان لا تكون في غيره.
فتكون حكمة الفداء للخليفة بالكبش تنبيها على وجود بعض المعادلة والمشابهة بين الإنسان الكامل والحيوان من جهة المعرفة الكشفية، وبيان أن الكشف ليس مخصوصا بالإنسان الكامل بل هو في غيره من عوالم الله تعالى أيضا.
(بذا)، أي يكون الكل من الجماد والنبات والحيوان عارفا بخلافه على وجه الكشف والمشاهدة، والإنسان معرفته بالعقل والفكر والتقليد والإذعان، فإذا كان صاحب ?شف ومشاهدة كان خارجا عن مقتضى خلقته وطبيعته، بخلاف العوالم الثلاثة، فإنهم فطروا على ذلك.
وإذا كان كذلك فليس من العجيب أن ينوب الكبش عن الخليفة في الخروج من غم الحياة الدنيا إلى فرج الآخرة ونعيمها الدائم؛ ولهذا ورد أن هذا الكبش يكون في الجنة ولا يموت في الآخرة؛ فلهذا كان كبشا عظيما ذكره الله تعالى في القرآن واستعظمه .
(قال سهل) بن عبد الله التستري (والمحقق) الإمام أبو يزيد طيفور البسطامي رضي الله عنهما أو كل محقق (مثلنا)، أي مثل قولنا الذي قلناه (لأنا) نحن (وإياهم) وجمعهم لإرادة كل محقق أو لأن الجمع أقله اثنان عند قوم (بمنزلة إحسان).
أي في مقام الإحسان الذي هو: أن تعبد الله كأنك تراه كما ورد الحديث (1)؛ فلهذا كان قول الكل واحدة وهم متفقون على شيء واحد لأنهم في مقام الإحسان وحضرة الكشف والعيان.
(فمن شهد)، أي كشف بذوقه (الأمر الذي قد شهدته) من جميع ما ذكر فإنه (يقول بقولي) المذكور (في خفاء)، أي سر من نفسه وقومه (و) في (إعلان) من قومه إن أمكن ذلك (ولا تلتفت) يا أيها السالك (قوة)، أي إلى قول (يخالف قولنا)، المذكور من أقوال علماء الحجاب القانعين بالقشور دون اللباب، الواقفين في بيوت عاداتهم وطبائعهم الذين لم يفتح لهم الباب.
(ولا تبذر) من البذر بالفتح وهو إلقاء الحب في الأرض وبالكسر هو الحب نفسه (السمراء) وهي الحنطة (في أرض عميان) جمع أعمى وهو من لم يبصر.
وأرض العميان إما على حقيقتها، فلأنهم لا يرونها إذا نبتت، فلا يقدرون على حصادها والانتفاع بها، والمراد بأرضهم نفوسهم، وبالحنطة الحكمة الإلهية الكشفية الذوقية ، أي لا تظهروها لهم وتضيعوها فيهم، فإنهم لا يرونها ولا يعرفونها فيضيعونها.
وتنقلب بسبب قبيح أوانيهم إلى ضدها، وبما هي فيه من النور والإشراق يتضررون بها ولا ينتفعون كما ورد: «لا تضعوا الحكمة في غير أهلها ولا تمنعوها عن أهلها فتظلموهم». ورواه المناوي في فتح القدير
(هم)، أي العميان المذكورون . (الصم) جمع أصم يعني الذين لا يسمعون الحق ويسمعون الباطل . (والبكم) جمع أبكم يعني الذين لا يتكلمون بالحق ويتكلمون بالباطل. والحق هو الله ، والباطل ما سواه كما قال عليه السلام أصدق كلمة قالها الشاعر، قول لبيد: «ألا كل شيء ما خلا الله باطل» رواه البخاري و مسلم .
(الذين) نعت للصم والبكم (أتی)، أي جاء (بهم)، أي بأوصافهم أو بذكرهم (لأسماعنا)، أي حتى تسمع ذلك (المعصوم) فاعل أتى وهو النبي صلى الله عليه وسلم  لحفظ عن الخطأ في أقواله وأفعاله (في نص)، أي عبارة (قرآن) وذلك قوله تعالى: " إن شر الدواب عند الله البكم الذين لا يعقلون " [الأنفال: 22] الآية.
قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم أيدنا الله وإياك أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال لابنه: «إني أرى في المنام أني أذبحك» والمنام حضرة الخيال فلم يعبرها. وكان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام فصدق إبراهيم الرؤيا، ففداه ربه من وهم إبراهيم بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند الله تعالى وهو لا يشعر. فالتجلي الصوري في حضرة الخيال محتاج إلى علم آخر يدرك به ما أراد الله تعالى بتلك الصورة.
ألا ترى كيف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في تعبير الرؤيا:
«أصبت بعضا وأخطأت بعضا» فسأله أبو بكر أن يعرفه ما أصاب فيه وما أخطأ فلم يفعل) . صلى الله عليه وسلم.
(اعلم) يا أيها السالك (أيدنا الله) تعالى (وإياك) بأنوار معرفته (أن إبراهيم الخليل) عليه السلام (قال لابنه) ولم يذكر اسمه للاختلاف فيه.
فقيل: إسحاق عليه السلام وبه جزم طائفة من العلماء، ومنهم الشيخ قدس الله سره، وقيل: إسماعيل عليه السلام وبه قال طائفة من العلماء أيضا.
والخلاف مشهور ودليل كل طائفة على قولها في الكتب مذكور (وإني أرى في المنام أني أذبحك) (الصافات : 102) .
كما قص الله تعالى في القرآن العظيم : أي أرى هيئة أني ذابح لك، ولم يقل : إني رأيت، لأنه في اليقظة كان متخيلا ذلك في نفسه وهو يعلم أن رؤيا المنام تخيل أيضا، أي أرى الآن كما كنت أرى في المنام.
(والمنام) لا شك أنه (حضرة الخيال) ينقطع عن الروح فيه النظر من طريق الحواس الظاهرية، فتنظر من طرق الحواس الباطنية، فتكشف من هذا العالم أمورا لم تكشفها بالحواس الظاهرية.
والحواس الباطنية راجعة إلى القوة العقلية وسلطانها الخيال.
فكما يقال للمدركات بالحواس الظاهرية محسوسات . ويقال عنها : عالم الحس.
يقال للمدركات بالحواس الباطنية، متخيلات، ويقال عنها : عالم الخيال.
ويقال حضرة الخيال والحواس الباطنية المسماة بالخيال العقلي قد يقع الخطأ في إدراكها فتدرك الشيء في صورة غيره لشبه بينهما أو مناسبة بوجه ما.
وقد لا يقع الخطأ في إدراكها فتدرك الشيء على ما هو عليه،ومنه قول عائشة رضي الله عنها:
"أول ما بدئ النبي صلى الله عليه وسلم به الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح».  رواه البخاري ورواه مسلم ورواه غيرهما
إلا وقعت بعينها في عالم الحس ومثل هذه الرؤيا لا تحتاج إلى التأويل والتعبير وخطأ الخيال في عالم الرؤيا المنامية جائز في حق الأنبياء عليهم السلام وواقع لهم أيضا، ولكنهم محفوظون من دوام الخطأ و التباسه عليهم في اليقظة.
ولهذا ورد أنه عليه السلام رأى في المنام أنه أدخل يده في درع فقال : أولتها بدخول المدينة فقد أخطأ "توهم" خياله في المنام فلما استيقظ أصاب في هذا التعبير. "لأن المدينة كانت درع له فى التحقيق"
ورؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي من الله تعالى لهم بملك الرؤيا ينزل على قلوبهم بأمر الله، فكشف عن ذلك خيالهم بعين ما رأوا وبمثله ومناسبه، ولهذا شرع تعبير المنام وتأويله كما شرع تفسير القرآن وتأويله.
وفي الرؤيا المحكم والمتشابه كما في القرآن وورد في الحديث :"أن الرؤيا الصادقة جزء من أجزاء النبوة ". رواه الحاكم في المستدرك وابن حبان فى صحيحه.
وفي رواية : "ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات" .رواه ابن حبان في الصحيح والدارمي في السنن.
«الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له». رواه الترمذي في سننه وابن حبان.
(فلم يعبرها)، أي رؤياه، يعني لم يعبر من ظاهر ما رأى إلى باطنه من أحد وجوه المناسبة (وكان)، أي يوجد (كبش ظهر) ذلك الكبش (في صورة ابن إبراهيم) إسحاق أو إسماعيل عليهم السلام (في) عالم (المنام فصدق إبراهيم) عليه السلام (الرؤيا) التي رآها كما قال تعالى : "وناديناه أن يا إبراهيم . قد صدقت الرؤيا" [الصافات : 104 - 105].
ظننت أن الذي رأيت أنك تذبحه في المنام هو ابنك حقيقة وإن كانت صورته صورة إنسان، وذلك الإنسان هو ابنك، فإنما هو في الحقيقة كبش، وهو الذي ذبحه في اليقظة رآه في المنام في صورة ابنه، ولهذا كان كبشة عظيمة حيث ظهر في صورة إنسان عظیم .
(ففداه)، أي فدى ابن إبراهيم عليه السلام (ربه) سبحانه وتعالى فداء ناشئة (من وهم)، أي توهم (إبراهيم) عليه السلام وتخيله أنه أوحي إليه في المنام بذبح ابنه، حيث رأى أنه ذبح ابنه .
فأراد أن يوقع ذلك في اليقظة ويمتثل فيه عين ما أمر به في الوحي المنامي، وإنما كان الوحي له في المنام بذبح الكبش لا ابنه وليس هذا من قبيل النسخ قبل البيان.
وإنما هو من قبيل البيان في وقت الحاجة، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة في ليلة المعراج ولم يكن يعرف المراد من ذلك على التفصيل حتى أرسل الله تعالى إليه جبرئیل علیه السلام في صبيحة ذلك اليوم فبين له ما كان مجملا.
عليه (بالذبح) بالكسر وهو الكبش (العظيم الذي) نعت للفداء المفهوم من الفعل أو نعت للذبح العظيم (هو)، أي ذلك الفداء أو ذلك الذبح (تعبیر رؤياه عند الله) تعالی والتعبير من العبور من الظاهر إلى حقيقة ما رأي.
(وهو)، أي إبراهيم عليه السلام (لا يشعر) بأن المراد ذبح الكبش وهو حقيقة ما رأي وإنما اشتبه ذلك عليه بصورة ابنه كما اشتبه على النبي صلى الله عليه وسلم اختيار أخذ المال والتقوي به في نصرة الإسلام في حق أسرى بدر على قتلهم.
فاختار الفداء والحق غيره، فأمر بغير ما ظهر له من الحق، وأصاب في ذلك عمر بن الخطاب رضي عنه ، فاختار القتل على الفداء.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عمر رضي الله عنه:"  إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه».رواه الحاكم في المستدرك وابن حبان في الصحيح.
ثم لما نزل قوله تعالى: "لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم" [الأنفال: 68]. قال صلى الله عليه وسلم : «لو نزل العذاب ما سلم منه إلا عمر»ز أورده المناوي فى فتح القدير والزيلعي في الأحاديث والآثار وابن مردويه فى تفسيره .
(فالتجلی)، أي الانكشاف والظهور للأشياء (الصوري)، أي المنسوب إلى الصورة لكونه بها (في حضرة الخيال) بالحواس الباطنية والقوة الخيالية في المنام
محتاج ذلك التجلي (إلى) استعمال (علم آخر) هو علم تعبير الرؤيا (يدرك به)، أي بذلك العلم (ما أراد الله) تعالى إظهاره للنائم (بتلك الصورة ) .
والتعبير للمنامات قد يكون بفهم النظير والمناسب وقد يكون بطريق المناسبة والاستنباط من آية أو حدیث أو أثر ونحو ذلك، وقد يكون بطريق الفيض والإلهام. وهو الغالب في المشایخ المشهورين بعلم التعبير كابن سیرین وكثير من الصالحين يوقع الله تعالى قلوبهم المعنى المراد في وقت قاس الرؤيا عليه.
فيكون الأمر كذلك، وقد يقع الخطأ في التعبير من عدم استيفاء آداب المعبر في وقت التعبير من تعلق القلب بالكون وعدم الحضور، أو من العجلة في البيان، أو من التكلم في حضرة من هو أعلى منه في ذلك، أو من جهل المعبر وعدم كونه أهلا للتعبير أو غير ذلك .
(ألا ترى كيف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر) الصديق رضي الله عنه الرؤيا (في) وقت (تعبيره)، أي أبي بكر رضي الله عنه (الرؤيا) المنامية التي رآها ذلك الرجل (أصبت بعضا) من التعبير (وأخطأت بعضا) منه .
(فسأله) النبي لا يعني طلب منه (أبو بكر رضي الله عنه أن يعرفه)، أي يبين له (ما)، أي البعض الذي أصاب فيه من التعبير (وما)، أي البعض الذي (أخطأ) فيه منه (فلم يفعل)، أي لم يعرفه بذلك ولم ينبه صلى الله عليه وسلم الحكمة في ذلك تذكرها إن شاء الله تعالی.
وهذا الخبر رواه البخاري و مسلم في صحيحه : أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : يا رسول الله : إني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم، فالمستكثر والمستقل، وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل من بعد فعلا، ثم اخذ به رجل اخر فعلا ، ثم أخذ به رجل فانقطع به، ثم وصل له فعلا .
قال أبو بكر : یا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فلأعبرنها.
قال رسول الله : أعبرها .
قال أبو بكر: أما الظلة فظلة الإسلام، وأما الذي ينطف من السمن والعسل، فالقرآن حلاوته ولينه، وأما ما يتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فیعليك الله ، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل اخر فعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به ثم يوصل به فيعلو به.
فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أو أخطأت؟
قال رسول الله : أصبت بعضا وأخطأت بعضا .
قال : فوالله يا رسول الله لتحدثني ما الذي أخطأت، قال : لا تقسم. انتهى .
والظلة : بالظاء المعجمة أول سحابة تظل.
وقوله : تنطف بالنون، فالطاء المهملة فالفاء، أي تقطر يقال : ليلة نطوف تمطر حتى الصباح. والنطاف : العرق كذا في المجمل لابن فارس.
وقوله : يتكففون، أي يتناولون، وأصله تكفف إذا مد ?فه يسأل الناس والسبب الحبل، ولعل الرجل الذي يأخذ به بعد النبي هو أبو بكر نفسه رضي الله عنه ثم عمر ثم عثمان وينقطع به في اختلاف الناس عليه وقتله رضي الله عنه بعد حصره في داره، ثم وصله له كناية عن استلامه للقتل ورفع المحاربة .
وقد علم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعلمه أبو بكر رضي الله عنه فأخطأه ولم يصبه وأصاب فيما عداه من التعبير.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أصبت بعضا، وأخطأت بعضا، ثم لم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بموضع الخطأ لئلا يكون نصين في الخلافة، فإنه تر?ها شوری بينهم ولم يقع الأمر إلا كما علم صلى الله عليه وسلم مما أشارت إليه الرؤيا ، والله بكل شيء عليم.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام حين ناداه: «أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا» وما قال له صدقت في الرؤيا أنه ابنك: لأنه ما عبرها، بل أخذ بظاهر ما رأى، والرؤيا تطلب التعبير. ولذلك قال العزيز «إن كنتم للرؤيا تعبرون». ومعنى التعبير الجواز من صورة ما رآه إلى أمر آخر. فكانت البقر سنين في المحل والخصب. فلو صدق في الرؤيا لذبح ابنه،  ).
(وقال الله تعالى لإبراهيم) الخليل عليه السلام (حين ناداه)، كما قال تعالى : وأن "أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا" [الصافات: 104- 105].
أي اعتقدت أن ما أظهرته لك رؤياك المنامية الخيالية صدق مطابق لما أردناه منك من ذبح الكبش تقربا إلينا (وما قال له) يا إبراهيم (قد صدقت)، أي كنت صادقا (في الرؤيا أنه)، أي المرئي لك معروضة على الذبح (ابنك)، لأن الأنبياء عليهم السلام صادقون في جميع أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم.
والله تعالی مصدق لهم سبحانه وتعالى بقوله المنزل عليهم وبفعله الخارق للعادة على أيديهم.
وقوله تعالى: "قد صدقت الرؤيا" إخبار بتصديق الرؤيا، أو أنه بحذف حرف الاستفهام والتقدير : أصدقت الرؤيا المنامية من عالم الخيال، وهو عالم المثال تضرب فيه الأمثال للنائم فيرى فيه الشيء على خلاف ما هو عليه من الأوصاف الأدنى مناسبة .
فلا بد فيه من التعبير أي العبور من صورة ما رأى إلى غيره ليفهم الأمر على ما هو عليه ، فكانت الرؤيا التي كذبت باعتبار ما ظهر له منها وهو صدقها، وهم وسعى في تنفيذ ما كذبت به الرؤيا عليه .
فنبهه الله تعالى بذلك على عدم تصديق الرؤيا المنامية فيما يأتي من ظواهر الأمثال،
وأرشده سبحانه في ضمن ذلك إلى التعبير والتأويل في رؤياه، وأن لا يحمل الرؤيا على ظاهرها (لأنه)، أي إبراهيم عليه السلام (ما قبرها)، أي أولها وعبر من ظاهرها إلى باطنها (بل أخذ بظاهر ما رأى) في منامه.
لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي من الله لهم والله تعالی پرشدهم إلى تعبير ما رأوا تأويله، وإنما حمل إبراهيم عليه السلام على عدم التعبير والتأويل في رؤياه
علمه بأن الرؤيا على قسمين :
قسم محتاج إلى التعبير، لأنه مثال مضروب للإشارة إلى أمر آخر
وقسم غير محتاج إلى التعبير.
لأنه واقع على طبق ما يرى كما قالت عائشة رضي الله عنها :
أول ما بدئ به النبي عليه السلام من الوحي الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤيا إلا - جاءت مثل فلق الصبح ، أي مطابقة لعين ما رأي.
فظن إبراهيم عليه السلام أن رؤياه تلك من القسم الثاني غير محتاجة إلى التعبير وأخذ بالاحتياط إلى أمر ربه لعل الأمر أن يكون كذلك .
حتى أوحى الله تعالى إليه في يقظته بما كشف له به عن وحيه في منامه فكان وحي اليقظة من تمام وحي المنام ومن جملة بيانه.
كما أوحى الله تعالى لنبينا عليه السلام في ليلة المعراج بأمر الصلوات الخمس خصوصا على قول من قال: إن المعراج كان رؤيا منام كما قال بعضهم ذلك في قوله تعالى: "وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس" [الإسراء: 60] الآية.
إنها رؤيا المعراج فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم أوحى الله تعالى إليه في اليقظة صبيحة ليلة المعراج بإرسال جبرئیل علیه السلام.
فبين له كيفية الصلوات الخمس، فصلی به إماما في يومين بإزاء باب الكعبة تكمیلا لوحي ليلة المعراج وتتميما له وشرحا وبيانا.
فكأنه تعبير ما رأى في منامه إن كان المعراج منامة كما تشير إليه الآية المذكورة وغيرها من الأحاديث أيضا وهو مذكور في محله (و) لا شك أن (الرؤيا) في الغالب (تطلب)، أي تقتضي (التعبير) وهو المتبادر من كل رؤيا منامية، لأنها في عالم الخيال لا في عالم الحس.
وأما الرؤيا التي لا تحتاج إلى التعبير فهو أمر نادر الوقوع خارج عن مقتضى الرؤيا المنامية، والنادر لا حكم له يكون مطردة بحيث يعتبر.
(ولذلك)، أي . لأجل كون الرؤيا تطلب التعبير (قال العزيز)، أي عزیز مصر في قصة يوسف عليه السلام لما رأى "سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات ځضر وأخرى یابسات".
فقال: " يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون" [يوسف: 43].
أي تؤولون وتفسرون (ومعنى التعبير) للرؤيا من العبور وهو (الجواز) أي المجاوزة (من صورة ما رآه) النائم في منامه (إلى أمر آخر) غير ما له تلك الصورة.
(فكانت البقر) التي رآها العزيز (سنین) جمع سنة، أي أعوام (في المحل)، أي القحط وهي البقر العجاف، أي الضعاف المهزولات (و) في (الخصب) بالكسر : الرخاء، وهي البقر السمان.
وذلك في تعبير يوسف عليه السلام لها بذلك حيث "قال تزرعون سبع سنين" [يوسف : 47] الآيات.
(فلو صدق) إبراهيم عليه السلام (في الرؤيا) التي رآها بأن كانت رؤياه صادقة من حيث ظاهر ما رأي وهو ذبح ابنه، وإلا فإن إبراهيم عليه السلام صادق في وقوع تلك الرؤيا منه بلا شبهة لاستحالة الكذب على الأنبياء عليهم السلام (لذبح ابنه)، على طبق ما رأى في منامه .
قال الشيخ رضي الله عنه : "وإنما صدق الرؤيا في أن ذلك عين ولده، وما كان عند الله إلا الذبح العظيم في صورة ولده ففداه لما وقع في ذهن إبراهيم عليه السلام: ما هو فداء في نفس الأمر عند الله. فصور الحس الذبح وصور الخيال ابن إبراهيم عليه السلام. فلو رأى الكبش في الخيال لعبره بابنه أو بأمر آخر.  "
(وإنما صدق) بالتشديد، أي اعتقد الصدق (في الرؤيا) فأخذ بظاهرها (في أن ذلك) الذبح (عين ولده)، بحسب ما رآه كذلك في رؤياه (وما كان)  ذلك الذبيح في حقيقة الأمر عند الله تعالى (إلا الذبح)، أي الكبش (العظيم) ظهر له في مقام العظمة ففي عالم المنام (في صورة ولده).
فالصورة آدمية وهي صورة ولد إبراهيم عليه السلام والماهية كبش عظیم نزل به جبرائیل علیه السلام من الجنة ، وليس هو من غنم الدنيا ولهذا كان عظيما.
فهو من قبيل ظهور جبرائیل علیه السلام لنبينا صلى الله عليه وسلم في صورة الأعرابي ، وصورة دحية الكلبي.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس يوليو 18, 2019 8:42 am

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

شرح الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الجزء الثاني :
فظهر لإبراهيم عليه السلام في منامه بصورة ولده، وظهر له في يقظته بصورة الكبش النازل من الجنة وهو جبرائیل علیه السلام جاءه يعلم كيف يكشف الصورة المحسوسة عن الحقيقة المعقولة في النوم واليقظة، ويجرد بالذبح ما لا حقيقة له عما له حقيقة، ولهذا سماه الله تعالى بالذبح العظيم.
فـ اليقظة وحي كلها من الله تعالی بجبرائيل عليه السلام لإبراهيم عليه السلام في النوم وفي اليقظة.
(ففداه)، أي فدى الله تعالی ابن إبراهيم عليه السلام بالذبح العظيم بحسب الأمر الظاهر في صورة الخلق (لما)، أي لأجل ما (وقع في ذهن)، أي خاطر
(إبراهيم عليه السلام ما هو)، أي ليس هو (فداء في نفس الأمر عند الله تعالی)، لأنه إنما ذبح كبشا عظيما في منامه وفي يقظته فكشف صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر الواحد العظيم الظاهر في صورة الخلق فذبحه عين المحو ونداء الحق أخرج إبراهيم عليه السلام من الفرق إلى الجمع ومن السكر إلى الصحو واليقظة والمنام ?لاهما التباس على حقيقة المطلوب ولهذا قال:
(فصور الحس) لإبراهيم عليه السلام وهو اليقظة (الذبح)، أي الكبش العظيم (وصور الخيال) وهو المنام (ابن إبراهيم) لإبراهيم عليه السلام.
(فلو رأى) إبراهيم عليه السلام (الكبش في الخيال)، أي في منامه ورأى أنه يذبحه (لعبره)، أي عبر رؤياه (بابنه أو بأمر آخر) ولم يكن يحمله على ظاهره لعدم وجود العظمة فيه بظهوره في صورة ابنه الآدمي المعصوم.
فإنه ذبح الكبش في المنام ليس بأمر عظيم مثل ذبح الابن في المنام، فلو رأى كبشا لعبره وأوله ولم يحمله على ظاهره.
لأنه إتلاف المال والمال ليس بعظيم عند الأنبياء عليهم السلام والله تعالی يعلم ذلك من الأنبياء، و إبراهيم عليه السلام يعلم ما يعلم الله منه من حقارة الدنيا عنده وعزة الدين في قلبه.
وفي ذبح ابنه إتلاف الدين لا إتلاف الدنيا لحرمته في الشرائع كلها، وقد ظن إبراهيم عليه السلام نسخ الحرمة في شريعته فقررها الله تعالی في شريعته أيضا بما وقع له من الفداء في اليقظة، ولهذا لم يعبر رؤياه .


قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم قال «إن هذا لهو البلاء المبين» أي الاختبار المبين أي الظاهر يعني الاختبار في العلم: هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا؟
لأنه يعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير: فغفل فما وفى الموطن حقه، وصدق الرؤيا لهذا السبب كما فعل تقي بن مخلد الإمام صاحب المسند، سمع في الخبر الذي ثبت عنده أنه عليه السلام قال: «من رآني في النوم فقد رآني في اليقظة فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي»)
قال الشيخ رضي الله عنه : (فرآه تقي بن مخلد وسقاه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرؤيا لبنا فصدق تقي بن مخلد رؤياه فاستقاء فقاء لبنا.
ولو عبر رؤياه لكان ذلك اللبن علما. فحرمه الله علما كثيرا على قدر ما شرب.
ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي في المنام بقدح لبن: «فشربته حتى خرج الري من أظافيري ثم أعطيت فضلي عمر».
قيل ما أولته يا رسول الله؟ قال العلم، وما تركه لبنا على صورة ما رآه . لعلمه بموطن الرؤيا وما تقتضيه من التعبير.  وقد علم أن صورة النبي صلى الله عليه وسلم التي شاهدها الحس أنها في المدينة مدفونة، وأن صورة روحه ولطيفته ما شاهدها أحد من أحد ولا من نفسه. كل روح بهذه المثابة ).
(ثم قال) تعالى لإبراهيم عليه السلام (إن هذا)، أي الأمر بذبح الابن ونسخ الحرمة في ذلك على حسب ظنه عليه السلام، ثم ظهور الأمر له بخلاف ذلك (لهو البلاء) أي الاختبار من الله تعالی له عليه السلام، لأن الأنبياء أشد الناس بلاء.
كما ورد في الحديث لنبينا .عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه قال : يا رسول الله من أشد الناس بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى العبد على حسب دينه فما يبرح بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة» رواه ابن حبان في الصحيح.
(المبين) أي (الظاهر، بحيث لا خفاء فيه أصلا (يعني الاختبار)، أي طلب الخبرة من العبد المختبر (في العلم هل يعلم) ذلك العبد (ما يقتضيه)، أي يطلبه (موطن لرؤيا) المنامية وهو عالم الخيال (من التعبير)، أي التأويل وعدم الحمل على الظاهر (أم لا) يعلم ذلك وسبب هذا الاختبار.
(لأنه)، أي إبراهيم عليه السلام (يعلم أن موطن الخيال)، أي الموطن الذي هو الخيال وهو عالم المنام (يطلب التعبير) والتأويل في الغالب (فغفل) عليه السلام عن ذلك بسبب رؤياه الأمر العظيم وهو ذبح ولده لا ذبح كبش فاهتم بالقيام بما أمره به ربه مسارعا إلى إظهار ذلك ولم يؤوله ولم يصرفه عن ظاهره.
فكان نظير قوله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم :"ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما" [طه: 114].
وقوله تعالى: "لا تحرك به، لسانك لتعجل به" [القيامة : 16] الآية .
من أنه عليه السلام كان يبادر إلى التبليغ ويسارع إلى مرضاة ربه، فأمره الله تعالی بالتؤدة في ذلك والثاني في تلقي الوحي من الملك، وطلب الزيادة من العلم لا من العمل (فما وفی)، أي أعطى (الموطن) وهو عالم الخيال (حقه) بتعبير ما رأی اهتماما منه بأمر ربه ومسارعة إلى حصول مرضاته كما قال موسى عليه السلام: "وعجلت إليك رب لترضى" [طه: 84].
(وصدق) إبراهيم عليه السلام (الرؤيا) التي رآها (لهذا السبب) حيث لم يعبرها فعوتب على ذلك من الله تعالى (كما فعل تقي بن مخلد) رحمه الله تعالى (الإمام) الجليل (صاحب المسند) في الأحاديث، وقد وقفت على ترجمة مستقلة في جزء الطيف لا يحضرني الآن منها شيء يليق ذكرها هنا (سمع في الخبر)، أي الحديث (الذي ثبت عنده) يضبط رواته عن النبي صلى الله عليه وسلم .
(أنه عليه السلام قال: «من رآني في النوم فقد رآني في اليقظة») والتقدير مثل الذي رآني في اليقظة، ثم حذف حرف التشبيه على وجه المبالغة كقولك: زيد أسد، أي زید مثل الأسد.
(فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي) في منام ولا غيره «ومن رآني في النوم فقد رآني إنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي، وقال إذا حلم أحدكم فلا نجد أحدا يتلعب الشيطان به في المنام» رواه مسلم.
فصورته صلى الله عليه وسلم محمية محفوظة عن عبث الشيطان بها لكمال استيلاء الحق تعالى عليها وإنكشافه لها وتجليه بها فهيبتها في قلب الشيطان مانعة من ذلك وإن كان لها عدوة مبينة عناية من الله تعالى ومزيد رفعة لشأن النبوة، وإلا فإن الشيطان يتمثل بكل صورة في اليقظة والمنام.
وكذلك جميع الأنبياء لا يتمثل بهم والأولياء والملائكة والآخرة وجميع ما فيها، لأن في ذلك نفعا لمن تمثل به له ليتذكر الآخرة، ويخشى ما فيها ، وهو لا يريد للإنسان خيرا
قال الشيخ رضي الله عنه : (فرآه)، أي النبي صلى الله عليه وسلم (تقي بن مخلد) رحمه الله تعالى في المنام .
(وسقاه النبي عليه السلام) في هذه الرؤيا (لبنا فصدق) بالتشديد (تقي بن مخلد رؤیاه)، أي اعتقد أنها صادقة كما وقع لإبراهيم عليه السلام (فاستقاء) أي طلب القيء و تكلفة (فقاء لبنا) وصدر له في اليقظة عين ما رآه في المنام.
ولو ترك الله تعالى لإبراهيم عليه السلام بلا تنبيه ولا معاتبة لذبح ابنه، ونفذ منه في اليقظة عين ما وقع له في منامه .
ولكن الأنبياء عليهم السلام يعتني الله بهم أكثر من غيرهم، والله تعالى ينبههم على ما هو الأكمل لهم والأشرف والأفضل ولا يتركهم في الأمر المفضول.
كما وقع لنبينا في قضية اختياره الفداء في أسرى بدر وكان الأفضل ما اختاره الله تعالى من القتل أو الإسلام.
 فأنزل الله تعالى : "وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة" [الأنفال: 67] الآية.
والأخرى بعده .
(ولو) أن تقي بن مخلد اعتنى الله تعالی به فنبهه على ما هو الأكمل له حتى (عبر رؤياه لكان ذلك اللبن علما ) فكان يعبر اللبن الذي شربه بنيل عمله من مدد حضرة النبوة.
لكن الله تعالى ما أراد له ذلك (فحرمه الله تعالی علما كثيرا) كان يناله بسبب تعبيره رؤياه (على قدر ما شرب) من ذلك اللبن (ألا ترى) يا أيها الإنسان (أن رسول الله ) كما ورد في الأخبار (أي) بالبناء للمفعول، أي أتاه آت (في المنام بقدح لبن قال) صلى الله عليه وسلم (فشربته)، أي ذلك القدح من اللبن (حتى خرج الري) بال?سر ضد العطش (من أظافيري) امتلأت ريا وشبعا من ذلك اللبن.
(ثم أعطيت فضلي)، أي ما فضل مني (عمر) بن الخطاب رضي الله عنه رواه البخاري . ولم يكن الإعطاء في الواقعة لأبي بكر رضي الله عنه مع أنه أعز عنده من عمر وأفضل منه رضي الله عنهما، لأنه عليه السلام كان يمد أبا بكر بما عنده في اليقظة أبلغ من الإمداد في المنام كما ورد عنه عليه السلام أنه قال: «ما أوحي إلي بشيء إلا صببته في صدر أبي بكر» أورده الزرعي  ما وضع في فضائل الصديق رضي الله عنه وكذلك السيوطي و ابن حجر الهيثمي فى الحاوي للفتاوي.
وكان "أبي بكر" رضي الله عنه يلهمه الله كل ما يوحيه "الله تعالى" إلى النبي ولهذا كان يصدقه أبلغ تصديقا، ودونه في المزية عمر رضي الله عنهما فخصه بالإمداد في عالم المنام بإعطائه ما فضل منه من اللبن الغلبة الظاهرة على عمر رضي الله عنه وهو عالم الدنيا . والناس في عالم الدنيا "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" فناسب أن إمداده بذلك. رواه أبو نعيم فى الحلية و الزهري .رواه البيهقي في الزهد الكبير
(قيل)، أي قال قائل : (ما أولته)، أي بأي شيء عبرت ما رأيت (یا رسول الله قال : العلم)، أي أولت اللبن بالعلم للمناسبة في ذلك فإن اللبن فيه غذاء الأجسام، والعلم غذاء الأرواح، واللبن خارج من بين فرث ودم طاهر من بين نجسین.
?العلم الإلهي ظاهر من بين تشبيه وتعطيل، والحكم الرباني متبين من بين إفراط وتفریط وتشديد وتقصير وتيسير وتعسير (وما تر?ه).
أي النبي صلى الله عليه وسلم كما هو (لبنا على صورة ما رآه لعلمه) صلى الله عليه وسلم  (بموطن الرؤيا) وهو عالم الخيال الذي يظهر فيه المعقول في صورة المحسوس والمحسوس في صورة المعقول .
(و) علمه (ما تقتضي)، أي تطلب الرؤيا (من التعبير)، أي التأويل لها (وقد علم) بالبناء للمفعول (أن صورة النبي صلى الله عليه وسلم التي شاهدها الحس) من أهل ذلك الزمان (أنها)، أي تلك الصورة (في المدينة) المنورة طيبة حرسها الله تعالی (مدفونة) في الحجرة الشريفة (وأن صورة روحه) صلى الله عليه وسلم (ولطيفته) الإنسانية (ما شاهدها أحد) في حياته صلى الله عليه وسلم من جسده الشريف ولا بعد وفاته عليه السلام (من أحد) غيره (ولا) شاهدها أيضا أحد (من نفسه) .
كذلك (كل روح) من الأرواح (بهذه المثابة) لا يشاهدها أحد من أحد ولا في نفسه .


قال الشيخ رضي الله عنه : (فتتجسد له روح النبي في المنام بصورة جسده كما مات عليه لا يخرم منه شيء.
فهو محمد صلى الله عليه وسلم المرئي من حيث روحه في صورة جسدية تشبه المدفونة لا يمكن للشيطان أن يتصور بصورة جسده صلى الله عليه وسلم عصما من الله في حق الرائي.
ولهذا من رآه بهذه الصورة يأخذ عنه جميع ما يأمره أو ينهاه عنه أو يخبره كما كان يأخذ عنه في الحياة الدنيا من الأحكام على حسب ما يكون منه اللفظ الدال عليه من نص أو ظاهر أو مجمل أو ما كان فإن أعصاه شيئا فإن ذلك الشيء هو الذي يدخله التعبير، فإن خرج في الحس كما كان في الخيال فتلك رؤيا لا تعبير لها. وبهذا القدر وعليه اعتمد إبراهيم عليه السلام وتقي بن مخلد.)
قال الشيخ رضي الله عنه : (فتتجسد)، أي تتصور (له)، أي للرائي (روح النبي عليه السلام في المنام بصورة جسده) الشريف (كما)، أي كالوصف الذي مات عليه (لا يخرم) بالخاء المعجمة، أي لا ينقص منه ذلك الوصف (شيئا فهو)، أي المتجسد بتلك الصورة (محمد) بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم نبینا ورسولنا (عليه السلام المرئي)، أي الذي رآه الرائي في منامه (من حيث روحه) الشريفة متصورة (في صورة جسدية تشبه) تلك الصورة الجسدية التي كانت في ذلك الزمان بعينها (المدفونة) في الحجرة الشريفة .
(لا يمكن الشيطان) من قرناء المؤمنين أو الكافرين أو الفاسقين (أن يتصور بصورة جسده )، لأحد من الناس في نوم أو يقظة أصلا (عصمة)، أي حفظة (من الله تعالى في حق الرائي) أن يقع عليه تلبيس الشيطان في صورة نبيه عليه السلام كما حفظ الله تعالى القرآن عن التحريف والتغيير بقوله تعالى : " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " [الحجر: 9].
لإنختام النبوة والوحي، فلا نبي يبعث ولا كتاب ينزل إلى قيام الساعة، فختم الله تعالى الأنبياء عليهم السلام بنبينا . وختم الكتب المنزلة أيضا بكتابنا العظيم .
(ولهذا من رآه)، أي النبي عليه السلام (بهذه الصورة) الجسدية المطابقة لصورته التي مات عليها صلى الله عليه وسلم كما ذكر من غير زيادة ولا نقصان.
(يأخذ) ذلك الرائی (عنه ) بطريق الوجوب في الواجب والاستنان في السنة (جميع ما يأمره به عليه السلام) من الأحكام (أو ينهاه عنه) من شرائع الإسلام ولا يكون ذلك مخالفا لشيء
مما اجتمع عليه المسلمون وعلم بالضرورة من دين الأئمة وإلا لكان الخطأ فيه عن الرائي لعدم ضبطه، لأنه عليه السلام لا يناقض شريعته (أو يخبره به) من ماض أو مستقبل (كما)، أي على طبق ما (كان يأخذ عنه في الحياة الدنيا) لو كان الرائي حيا في زمنه صلى الله عليه وسلم  (من الأحكام) الشرعية ويستنبط المجتهد من ذلك (على حسب ما يكون منه) صلى الله عليه وسلم (اللفظ) من عبارته .
(الدال) ذلك اللفظ (عليه)، أي على ما يكون (من نص) وهو ما سيق الكلام له (أو ظاهر) وهو ما يفهم من العبارة (أو مجمل) وهو ما لا يحتاج إلى البيان (أو ما كان) من وجوه الكلام على ما هو في اصطلاح الأصول
(فإن أعطاه)، أي النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الرائی (شيئا) في منامه (فإن ذلك الشيء هو الذي يدخله التعبير)، أي التأويل.
وأما رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فإنها لا يدخلها تعبير أصلا، فإنه هو النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة كما ذكر إذ رآه بوصفه الذي مات عليه، وإن رآه على خلاف ما كان عليه ؟ ومات عليه، فهو من حال الرائي يدل على كمال في أمره أو نقصان، وهل المرئي هو النبي صلى الله عليه وسلم أو لا؟
قد اختلف العلماء في ذلك والصحيح أنه هو النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن لا يأخذ عنه الرائي لعدم ضبطه حيث لم يره على صورته التي مات عليها (فإن خرج)، أي ما أعطاه إياه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه يعني ظهر (في الحس)، أي في اليقظة .
(كما) أي على الوصف الذي كان ذلك المرئي عليه (في الخيال) أي في النوم (فتلك الرؤيا لا تعبير)، أي لا تأویل (لها وبهذا)، أي بسبب هذا (القدر) من خروج بعض الرؤيا في الحس كما كان في الخيال (وعليه)، أي على هذا القدر من ذلك (اعتمد إبراهيم الخليل عليه السلام) فلم يعبر رؤياه وحملها على ظاهرها (وكذلك) فعل (تقي بن مخلد) رحمه الله تعالى كما ذكر .


قال الشيخ رضي الله : (ولما كان للرؤيا هذان الوجهان. وعلمنا الله: فيما فعل بإبراهيم وما قال له: الأدب لما يعطيه مقام النبوة، علمنا في رؤيتنا الحق تعالى في صورة يردها الدليل العقلي أن نعبر تلك الصورة بالحق المشروع إما في حق حال الرائي أو المكان الذي رآه فيه أو هما معا. وإن لم يردها الدليل العقلي أبقيناها على ما رأيناها كما نرى الحق في الآخرة سواء:
فللواحد الرحمن في كل موطن ... من الصور ما يخفي وما هو ظاهر
فإن قلت هذا الحق قد تك صادقا ... وإن قلت أمرا آخرا أنت عابر
وما حكمه في موطن دون موطن ... ولكنه بالحق للخلق سافر
[right]إذا ما تجلى للعيون ترده ... عقول ببرهان عليه تثابر).
(ولما كان للرؤيا) المنامية (هذان الوجهان) المذكوران أن بعض الأشياء التي ترى في المنام يدخلها التعبير، وبعض الأشياء تخرج في الحس كما كانت في المنام فلا تعبير لها، والأصل في كل رؤيا أن لها تعبيرة.
وأما ما لا تعبير لها فعلامتها خروجها إلى الحس كذلك، فإذا لم تخرج بنفسها في الحس وهو نادر فإن لها تعبيرا ينبغي طلبه والسؤال عنه (وعلمنا الله تعالی) بمحض لطفه وإحسانه بما قصه علينا في القرآن العظيم.
(فيما فعل بإبراهيم عليه السلام) من إراءته في منامه أنه يذبح ولده وتعبيره أنه يذبح الكبش لا ولده (وما قال له) من قوله تعالى: "وناديناه أن يا إبراهيم . قد صدقت الرؤيا" الآية.
(الأدب) مفعول علمنا، أي أن نتأدب في كل ما نرى بأن نعبر ذلك ونؤله ولا نحمله على ظاهره (لما)، أي لأجل ما (يعطيه مقام النبوة التي) في إبراهيم عليه السلام من الرفعة وعلو الشأن ومع ذلك فعل به ما فعل.
وقال له ما قال، فكيف بمن دونه (علمنا) جواب لما كان المطلوب منا (في) وقت (رؤيتنا الحق تعالی) ونحن في يقظة الحياة الدنيا التي هي منام بالنظر إلى ما بعدها من عالم البرزخ والموت بحكم قوله عليه السلام: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»رواه أبو نعيم فى الحلية والزهري .
و "الناس نيام فإذا انتبهوا ندموا، وإذا ندموا لم تنفعهم نادمتهم"أورده السلمي عن سهل ابن عبد الله التستري
ورؤيتنا الحق تعالی أيضا ونحن في نومة الموت، وعالم البرزخ بحكم قوله تعالى عمن قال عنهم: إنهم يقولون يوم القيامة في عالم البعث: "قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا" [يس: 52].
والمرقد: موضع الرقود وهو النوم، وكذلك رؤيتنا الحق تعالی، ونحن في نومة البعث والحشر، ثم في نومة القرار في جنة أو نار، وإن لم تأتي الإشارة إلى أن ذلك نوم أيضا في الأخبار، فإن الكشف حاكم بذلك.
وإليه الإشارة بتصديق النبي عليه السلام للشاعر في قوله : أصدق كلمة قالها الشاعر قول لبيد : "إلا كل شيء ما خلا الله باطل" رواه مسلم وابن أبي شيبة في المصنف.
فإنه يشير إلى ما أردناه من أن العوالم كلها منام في منام حتى يظهر الحق تعالى، فيزول النوم بالرؤيا الأخروية التي في دار القرار، والنائم يرى في منامه ما عسى أن يرى.
فكل رؤية فهي رؤيا منام ما عدا الرؤيا الجنانية، فإنها رؤيا يقظة فلا تأويل لها ولا تعبير من وجه، وهي رؤيا منام أيضا من وجه آخر.
ولهذا يحصل فيها الترقي ولا يحتجب عنها صاحبها حتى ينكشف الحق سبحانه أكثر من الانكشاف الأول، فيكون الأول رؤيا والثاني رؤية والرؤيا تحتاج إلى التعبير .
وهكذا إلى ما لا نهاية له كما قال صلى الله عليه وسلم : «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» و للوارث المحمدي من هذا نصيب في الدنيا والآخرة .
وأطلق الشيخ قدس الله سره رؤيتنا الحق تعالی ولم يقيدها بموطن الدنيا والآخرة لإرادته أعم من ذلك كما ذكرنا (في صورة) قدرها تعالی فظهر بها بحكم قوله سبحانه : "وخلق كل شيء فقدره تقديرا " [الفرقان: 2]،
وقوله سبحانه : "لله ما في السموات وما في الأرض" [البقرة: 284]، "وله كل شئ" [النمل: 91]، وقوله :" قل انظروا ماذا في السموات والأرض"[يونس: 101].
وقوله : "وهو الله في السموات وفي الأرض " [الأنعام: 3].
(يردها)، أي تلك الصورة أن تكون للحق سبحانه من حيث ذاته سبحانه (الدليل العقلی) كما ذكره المتكلمون من أنه سبحانه منزه عن التصوير وأن تكون له صورة وإلا كان حادثا سبحانه، وهو قديم أزلي (أن تعبر)، أي تؤول تلك الصورة التي رأينا الحق تعالی فيها .
(بالحق المشروع)، أي الذي وردت أوصافه في الشريعة المحمدية على حسب ما وردت من غير زيادة ولا نقصان .
(وأما) المشروع (في حق حال الرائي) كما ورد في حديث: «ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن».
فإن هذا العبد المؤمن جاء في حقه أن ما يراه بقلبه هو الحق سبحانه، فهو إله المعتقدات لا الإله المطلق من حيث هو مطلق (أو) في حق (المكان الذي رآه فيه)، كما ورد في الحديث: «إن الله في قبلة أحدكم». روى البخاري : «إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدميه ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض فقال أو يفعل هكذا» .
وجاء في مقام الإحسان قوله عليه السلام «أعبد الله كأنك تراه».أخرجه أحمد والآجري في الغرباء وأبو نعيم في الحلية وابن حبان والبيهقي وأبو داود والطبراني
وهو عام في كل مكان عبادة، وهو الإله المعبود دون المطلق الموجود (أو هما)، أي في حق الرائي وحق المكان (معا) كالمؤمن الذي يرى الحق سبحانه في قلبه وفي قبلته ومكان عبادته.
وهذا كله في صورة يردها الدليل العقلي لعدم مناسبتها للحق سبحانه، كما تعتقده العوام من المؤمنين وجهلة المقلدين والعلماء الرسميين من المحجوبين، فإن صور اعتقاداتهم كلها على اختلافها رؤيا منام في الحياة الدنيا ويجب تعبيرها، فنعبرها ونؤولها بما ورد على الشارع مما يقتضي ذلك بحسب حال الرائي أو المكان أو هما.ولا نحكم بالخطأ في ذلك.
لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، والنائم لا يرى محبوبه إلا في صورة يحبها، فكل صورة يراه فيها ويعتقد أنه محبوبه فهو محبوبه تعبیرة وتأویلا ، وإن تنزه محبوبه عن تلك الصورة الخيالية.
(فإن لم يردها)، أي تلك الصورة (الدليل العقلي)، بأن كانت صورة تنزيه وإطلاق لا تقييد وتعيين، فإن التنزيه تصوير أيضا، لأنه ما نزه إلا المعين عنده وكل معين عنده مشبه مقيد، وكذلك الإطلاق تقييد، ولكن الدليل العقلي لا يرد هذا التصوير ويقبله من حيث إنه نفي للصورة، وإن كان يلزم من نفيها من وجه إثباتها من وجه كما ذكرنا (أبقيناها)، أي تلك الصورة (على ما رأيناها)، ولا ننكرها وكل شيء يسبح لله تعالى، يثبتها الله تعالى، لأنها عين تسبیحه فلو زالت لزال تسبيحه (كما نرى الحق) تعالى (في الآخرة) في الصور كذلك.
(سواء) على طبق رؤية الدنيا ، فكل مؤمن بشريعتنا يری ربه في الآخرة على طبق ما رآه في الدنيا منزها كان أو مشبها.
إن كان المشبه مؤولا بالحق المشروع كما ذكرنا، وكل منزه مشبه وكل مشبه منزه إلا الكافر فإنه محجوب بحكم قوله تعالی : "إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " [المطففين : 15]. حكمة إلهية عدة، كما أن رؤية المؤمنين منة منه وفضة، ولا نكفر أحدا من أهل قبلتنا بل نؤول رؤياهم بما هو المشروع لهم من ذلك، والله بكل شيء عليم
(فللواحد الذي) لا شريك له (الرحمن) المستوي على عرش الوجود (في كل موطن) تكون فيه الأرواح (من الصور) بضم الصاد المهملة وسكون الواو وجمع صورة (ما يخفى) على العقول البشرية والحواس الإنسانية (وما هو ظاهر) غیر خاف .
(فإن قلت هذا الحق) سبحانه عن ظاهر ظهر لحسك أو لعقلك (قد) للتحقيق (تك) أصلها تكن والنون محذوفة مع غير جازم في ذلك (صادقا) في قولك حيث لم تعتبر الصورة المحسوسة أو المعقولة واعتبرت المصور الممسك لتلك الصور كلها.
(وإن قلت) عما ظهر لك (أمرا آخر) غير الحق تعالى (أنت عابر)، أي صاحب رؤيا منامية محتاجة إلى التعبير، فأنت صاحب تعبير يقال لك عابر، أي داخل من ظاهر ما رأيت وهي الصورة، إلى باطنها وهو المصور.
(وما حكمه) سبحانه بما ذكر (في موطن) من المواطن فقط (دون موطن) آخر (ولكنه) سبحانه (بالحق) الذي هو صفته من الأزل إلى الأبد (للخلق)، أي المخلوقات (سافر)، أي منكشف فهو تعالی مكشوف لخلقه أنه الحق في جميع المواطن، وكل شيء هالك إلا وجهه [القصص: 88].
(إذا ما تجلی)، أي انكشف (للعيون) الباصرات من العقلاء (ترده)، أي تنكر ظهوره في صورة كل شيء (عقول) لهم (ببرهان)، أي دليل واضح (عليه)، أي على ذلك الرد (تثابر)، أي تواظب.


قال الشيخ رضي الله عنه : (ويقبل في مجلي العقول وفي الذي ... يسمى خيالا والصحيح النواظر. يقول أبو يزيد في هذا المقام لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بها. وهذا وسع أبي يزيد في عالم الأجسام. بل أقول لو أن ما لا يتناهى وجوده يقدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بذلك في علمه. فإنه قد ثبت أن القلب وسع الحق ومع ذلك ما اتصف بالري فلو امتلأ ارتوى. وقد قال ذلك أبو يزيد. )
ولقد نبهنا على هذا المقام بقولنا:
يا خالق الأشياء في نفسه ... أنت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه فيه ... بك فأنت الضيق الواسع
لو أن ما قد خلق الله ما لاح ... بقلبي فجره الساطع
من وسع الحق فما ضاق عن ... خلق فكيف الأمر يا سامع؟)
(ويقبل) بالبناء للمفعول أي يصير مقبولا من غير رد (في تجلي)، أي في تجلي بمعنی انكشافه لجميع العقول فلا ترده (العقول) إذا تجلى لها بها في صورة التنزيه والإطلاق.
(وفي) العالم (الذي يسمى خياط) وهو القوة الروحانية المتوجهة على حسب الطبيعة الإنسانية. (والصحيح) هو ما تراه (النواظر)، أي العيون بعد التعبير والتأويل ورفع الصورة الآدمية المسماة بالشيء، و"كل شيء هالك إلا وجهه " [القصص : 88].
وهو ذات الحق تعالى، فالحق سبحانه محسوس بالعيون بعد التحقيق بالصور الفانية وغسلها من البين، لا أنه تعالى معقول كما هو عند أهل الظاهر من العلماء المحجوبين ومقلديهم.
(يقول) العارف الكامل (أبو یزید) طيفور البسطامي قدس الله سره (في هذا المقام) المذكور من هذا المشرب المبرور (لو أن العرش)، أي عرش الرحمن (وما حواه)، أي جمعه فيه من السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما وما حولهما، وليس في هذا الوجود الحادث إلا العرش وما حواه من الدنيا والآخرة وما خرج عنهما.
فإن جميع المخلوقات في جوف العرش (مائة ألف ألف مرة في زاوية)، أي ناحية (من زوايا)، أي نواحي (قلب العارف) بالله تعالى (ما أحس بها)، أي ما أدركها أصلا وذلك، لأن القلب الذي وسع الحق تعالی.
كما ورد في الحديث: «ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن»، فكيف يضيق عن جميع ما صدر عنه تعالی.
(وهذا) الوسع المذكور في قول أبي يزيد هو (وسع) قلب (أبي يزيد في عالم الأجسام) حيث ذكر العرش وهو جسم وذكر ما حواه من الأجسام واقتصر على ذلك.
(بل أقول)، أي يقول: الشيخ الأكبر رضي الله عنه مؤلف هذا الكتاب (لو أن ما لا يتناهی وجوده) من جميع المخلوقات من أول ما ابتدأ وجود شيء منها إلى الأبد (يقدر) بالبناء للمفعول، أي يقدر مقدر (انتهاء وجوده)، أي وجود ما لا يتناهی (مع العين)، أي الذات (الموجدة) بصيغة اسم الفاعل (له)، وهي الذات الحق تعالی وكل ذلك (في زاوية)، أي ناحية من زوايا قلب العارف بالله تعالى .
(ما أحس بذلك) كله أو بشيء منه (في علمه) لاشتغال قلبه باستجلاء جميع ذلك والتحقق به واتساع قلبه له .
(فإنه)، أي الشأن (قد ثبت) في الحديث الذي ذكرناه (أن القلب)، أي قلب العبد المؤمن (وسع الحق تعالی) ولم يسعه تعالى شيء غير ذلك القلب (ومع) وجود (ذلك) الوسع المذكور للقلب (ما اتصف) ذلك القلب (بالري)، أي زوال العطش عنه إلى الحق تعالی (فلو امتلأ) من الحق تعالی ولم يبق فيه وسع لطلب الزيادة منه تعالی (ارتوی) منه تعالی وزال تعطشه إليه سبحانه والارتواء ممتنع (وقد قال ذلك)، أي عدم الارتواء منه تعالى
(أبو يزيد) قدس الله سره كما ورد عنه حين أرسل إليه سهل التستري رضي الله عنه يقول له : "ههنا رجل شرب شربة فلم يظمأ بعدها أبدا".
فقال له أبو يزيد قدس الله سره: "ههنا رجل شرب الأكوان جمیعا وهو فارغ فمه يلهث من العطش حيث لم يثبت الري من الحق تعالى.
فيكون قول أبي يزيد رضي الله عنه المذكور هنا في حالة من أحواله، وإلا فإن قوله بعدم الارتواء المذكور عنه يقتضي أن قلبه وسع الحق وجميع ما صدر عنه ويصدر عنه ولم يكتف بذلك ولم يحس به كما قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه هنا.
واعلم أن المراد بهذا الوسع من القلب للحق تعالى هو وسع التجلي بأحد الحضرات الإلهية، لا وسع حلول ونحوه مما يفهمه الأجنبي عن هذه الطريقة.
ولا شك أن الحق تعالى إذا تجلى على القلب أعني قلب العبد المؤمن من هذا النوع الإنساني، انكشف له انكشافة تامة بالنظر إلى كل تجل له تعالى على ما عدا ذلك القلب من قلوب جميع المخلوقات.
وذلك التجلي المذكور عند ذلك القلب قاصر أيضا بالنظر إلى همته العلية في طلب حصول المراتب الكشفية، فلا يقنع قلب المؤمن بتجل أصلا، وهذا معنى عدم الارتواء.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ولقد نبهنا)، أي أيقظنا من كان غافلا عن ذلك (على هذا المقام) المذكور للعارف بالله تعالى (بقولنا) من النظم.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس يوليو 18, 2019 8:43 am

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

شرح الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الجزء الثالث :
(یا خالق)، أي مقدر ومصور وموجد والخطاب للحق تعالی أو للإنسان الذي له في نفسه قوة خيالية يقدر بها ما يشاء كما سيذكره (الأشياء) جمع شيء وهو جميع العوالم المحسوسة والمعقولة (في نفسه)، أي بقوة نفسه إذ لا يحل شيء مقدر في نفس من قدره أصلا حيث لم يكن للشيء المقدر في النفس ما للنفس المقدر له من حقيقة الوجود والثبوت.
وإن كان له وجود وثبوت بالمقدر له على حسب ما يليق به مما يناسبه كما هو المعروف (أنت) يا أيها الخالق في نفسه لكل ما يريد (لما)، أي الجميع ما (تخلقه)، أي تقدره في نفسك (جامع)، أي حار ومحيط، ولذلك قال تعالی: والله " بكل شيء محيط" [فصلت : 45]، "وهو على كل شئ قدير" [الروم: 30]، و"على كل شيء وكيل" [الأنعام: 102]، و"على كل شئ حسيبا" [النساء: 86] ونحو ذلك.
(تخلق)، أي تقدر وتوجد (ما لا ينتهي)، أي يفرغ ويكمل (كونه)، أي وجوده على حسب ما تريد (فيك)، أي في نفسك يعني بقوة نفسك بحيث تبقى نفسك متوجهة إلى ما تخلقه بقوتها، ويبقى ذلك المخلوق بها قائمة بتوجيهها عليه موجودة بإيجادها له. (فأنت) حينئذ حيث جمعت ما لا يتناهی من الأشياء (الضيق)، لأنك واحد غیر منقسم ولا متجزئ ونفسك واحدة غير منقسمة ولا متجزئة.
(الواسع) من حيث إنك جمعت ما لا يتناهی من الكثرة المركبة وغير المركبة بالمعنى الذي ذكرناه .
(لو أن ما قد خلق)، أي قدر وأوجد (الله) تعالى من جميع المخلوقات المحسوسة والمعقولة على معنى أن ذلك وجد في قلبي (ما لاح)، أي ظهر (بقلبي فجره)، أي فجر ما لاح، یعنی فجر تلك المخلوقات كلها (الساطع)، أي المشرق يعني لم يتبين له أثر أصلا، لأن قلبي واسع يسع ذلك كله ولا يبين فيه شيء، ثم قال مبرهنة على ذلك (من وسع الحق)، يعني القلب الذي يسع الحق سبحانه على معنی يقبل تجليه فيه هذا التجلي التام إلا كشف الأكمل (فما ضاق)، أي انحصر وعجز (عن) وسع (خلق)، أي مخلوقات الله (فكيف الأمر)، أي الشأن الذي تراه (یا سامع) لهذا الكلام الجامع.
ثم قال في بيان ذلك رضي الله عنه بطريق النثر.


قال الشيخ رضي الله عنه : ( بالوهم يخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها، وهذا هو الأمر العام.
والعارف يخلق بالهمة ما يكون له وجود من خارج محل الهمة و لكن لا تزال الهمة تحفظه. ولا يئودها حفظه، أي حفظ ما خلقته.
فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق، إلا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات وهو لا يغفل مطلقا، بل لا بد من حضرة يشهدها.
فإذا خلق العارف بهمته ما خلق وله هذه الإحاطة ظهر ذلك الخلق بصورته في كل حضرة، وصارت الصور يحفظ بعضها بعضا.
فإذا غفل العارف عن حضرة ما أو عن حضرات وهو شاهد حضرة ما من الحضرات، حافظ لما فيها من صورة خلقه، انحفظت جميع الصور بحفظه تلك الصورة الواحدة في الحضرة التي ما غفل عنها، لأن الغفلة ما تعم قط لا في العموم ولا في الخصوص.)
(بالوهم) محركة ويسكن القوة الروحانية التي تتقدم العقل في الإدراك فتهجم على كل شيء، ولهذا يغلب عليها الخطأ (يخلق)، أي يقدر ويصور.
(كل إنسان) بنفسه الناطقة المتميزة بالنطق النفساني عن جميع الحيوان (في قوة خياله) الروحانية (ما)، أي شيئا أو الذي (لا وجود له إلا فيها)، أي في تلك القوة الخيالية من جميع
الأشياء التي يريدها (وهذا) المذكور (هو الأمر العام) في كل إنسان سواء كان عارفا أو غير عارف.
(وأما العارف) بالله تعالى فإنه (يخلق)، أي يقدر ويصور في نفسه (بالهمة) لا بالوهم، والهمة هي التي تنبعث من قلبه عن أمر ربه وهي قوة الله تعالى قام بها كل شيء كما قال سبحانه: و"أن القوة لله جميعا" [البقرة: 165] .
(ما)، أي شيئا أو الذي من الأشياء (يكون له وجود) ثابت (من خارج محل الهمة) حاصل ذلك الوجود له من محل الهمة يعني من قوة الله تعالى التي هذا العارف قائم بها وهي منبعثة منه متوجهة على خلق ذلك المخلوق المذكور (ولكن لا تزال الهمة) المذكورة للعارف (تحفظه) من حيث هي قوة الحق تعالى، أي تحفظ عليه وجوده الذي أعطته له (ولا يؤودها)، أي لا يتعبها ولا يشق عليها (حفظه)، أي حفظ ما خلقته وكيف هي القوة القديمة التي أظهرت لها صورة كونية فظهرت بها فسميت همة العارف.
(فمتى طرأ)، أي تجدد (على العارف) المذكور (غفلة عن حفظ ما خلق بهمته)، أي خلق الله تعالى بقوته التي هي قد كونت هذا العارف ، فهو قائم بها على أنها مظهر لها (عدم ذلك
المخلوق)، أي لم يبق له وجود إذ لا يمكن أن يفيض عليه الوجود إلا من تلك القوة الإلهية الظاهرة في مظهر الهمة الإنسانية من العارف.
(إلا أن يكون ذلك العارف) المذكور (قد ضبط)، أي عرف وتحقق عنده (جميع الحضرات) الإلهية التي يتجلى له الحق سبحانه بها فيكون مظهرة لها على حسب اختلافها في الأوقات شيئا فشيئا .
(وهو)، أي العارف بالله تعالى (لا يغفل) عن جميع حضرات الحق تعالی (مطلق) بحيث يعود كالجاهل بالله تعالى وهو ممتنع (بل لا بد له)، أي للعارف في كل وقت (من حضرة) إلهية (يشهدها) وإلا لخرج عن كونه عارفة إذ المعرفة تنافي الجهل. ومتى صار الحق تعالی معروفة عند أحد لا يمكن أن تحصل له الغفلة عنه تعالی من جميع الوجوه، وفي جميع الحضرات إذ الكون كله صادر في كل وقت عن معروف هذا العارف.
فكيف يغفل عنه من سائر اعتباراته بعد معرفته له في جميع اعتباراته، وإنما غايته أنه يغفل عنه في بعض الحضرات دون بعض.
(فإذا خلق العارف بهمته) المذكورة على حسب ما قلناه (ما خلق) من كل ما پرید (وله)، أي للعارف المذكور ضبط (هذه الإحاطة) لجميع الحضرات الإلهية شيئا فشيئا (ظهر ذلك الخلق)، أي المخلوق (بصورته).
أي بصورة ذلك العارف (في كل حضرة) من تلك الحضرات على معنى أنه تظهر عنه مخلوقات كثيرة على عدد ما شهد من الحضرات الإلهية المضبوطة له، إذ ليس في وسعه أن يشهد جميع الحضرات في دفعة واحدة.
بل معنى إحاطته : ضبطه لذلك وعدم وقوفه عند حضرة دون حضرة، لأنه مكون حادث، والحادث قاصر عن الوسع الإلهي.
وإن كان له وسع بالنسبة إلى من هو دونه من الجاهلين الغافلين عن الحضرات مطلقا .
(وصارت الصور) المخلوقة الصادرة كل صورة منها عن حضرة إلهية (تحفظ بعضها بعضا) بحيث إن الصادرة عن الحضرة القوية في الظهور بهمة العارف تحفظ الوجود على الصادرة عن الحضرة الضعيفة في الظهور بالهمة المذكورة.
(فإذا غفل العارف) المذكور (عن حضرة ما) من تلك الحضرات بحيث وقف عند ما عداها من الحضرات (أو عن حضرات)أكثر من واحدة.
(وهو شاهد حضرة ما من الحضرات) واقف عندها دون ما عداها (حافظ لما فيها) مما توجه بها عليه (من صورة خلقه)، أي مخلوقه .
(انحفظت جميع) تلك (الصور)، أي انحفظ الوجود عليها (بحفظ تلك الصورة الواحدة في الحضرة) الإلهية (التي) شهدها (وما غفل عنها) فتكون تلك الحضرة قائمة مقام تلك الحضرات في حفظ آثارها كلها ، وذلك بسبب أن كل حضرة من الحضرات الإلهية جامعة لجميع الحضرات.
(لأن الغفلة) عن جميع الحضرات الإلهية (لم تعم)، أي ما عمت أحدا (قط لا في العموم)، أي عموم المؤمنين، فإنهم يشهدون آثار الحضرات، فلا يغفلون عن جميع الآثار بل عن بعضها دون بعض .
وإن كانوا غافلين عن شهود المؤثر، فيشهدون أثرة ما من حيث هو أثر على كل حال (ولا في الخصوص) لما تقدم من أنه لا بد للعارف من حضرة يشهدها بعد ضبطه لجميع الحضرات في مقام المعرفة بالله تعالی .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقد أوضحت هنا سرا لم يزل أهل الله يغارون على مثل هذا أن يظهر لما فيه من رد دعواهم أنهم الحق، فإن الحق لا يغفل والعبد لا بد له أن يغفل عن شيء دون شيء. فمن حيث الحفظ لما خلق له أن يقول «أنا الحق»، ولكن ما حفظه لها حفظ الحق: وقد بينا الفرق.  ومن حيث ما غفل عن صورة ما وحضرتها فقد تميز العبد من الحق. ولا بد أن يتميز مع بقاء الحفظ لجميع الصور بحفظه صورة واحدة منها في الحضرة التي ما غفل عنها. فهذا حفظ بالتضمن، وحفظ الحق ما خلق ليس كذلك بل حفظه لكل صورة على التعيين. وهذه مسألة أخبرت أنه ما سطرها أحد في كتاب لا أنا ولا غيري إلا في هذا الكتاب: فهي يتيمة الدهر وفريدته.
فإياك أن تغفل عنها فإن تلك الحضرة التي يبقي لك الحضور فيها مع الصورة، مثلها مثل الكتاب الذي قال الله فيه «ما فرطنا في الكتاب من شيء»[الأنعام: 38].  فهو الجامع للواقع وغير ا قرآنا في نفسه فإن المتقي الله «يجعل له فرقانا» )  

(وقد أوضحت هنا)، أي في هذا المحل (سرا) من أسرار الله تعالى في مقام المعرفة الإلهية (لم يزل أهل الله) تعالى العارفين به (يغارون على مثل هذا) السر (أن يظهر) عند غيرهم (لما فيه)، أي في إظهار ذلك (من رد دعواهم) في أنفسهم القائمة بالحق (أنهم الحق فإن الحق سبحانه لا يغفل أصلا)، كما قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال : "لا يضل ربي ولا ينسى" [طه: 52].  وقال سبحانه: "لا تأخذه سنة ولا نوم " [البقرة : 255].
(والعبد) المخلوق وإن كان في أعلى درجات المقربين (لا بد له أن يغفل عن شيء دون شيء) لقصوره وعجزه عن كمال الحق وقدرته، فإن العارف مخلوق بالقوة الإلهية وهي ظاهرة فيه، لأنها قيومة وإن سميت عنده باسم الهمة كما قدمناه.
(فمن حيث إن) منه (الحفظ)، أي حفظ الوجود (لما خلق) بهمته التي هي في حقيقة الأمر نفس القوة الإلهية القيومة عليه (له أن يقول) من هذا الوجه (أنا الحق) .

إذ هذا القول إذا صدر منه إنما يصدر أولا عن تلك القوة الإلهية التي هو قائم بها صدورا حقيقيا ثم يصدر بطريق المجاز عن العارف نفسه صدورا ثانيا هو محل الالتباس وفتنة أهل الظاهر من عامة المؤمنين.
(ولكن ما حفظه)، أي العارف (لها)، أي تلك الصورة التي صدرت عن قوة الله تعالى هو قائم بها المسماة بهمته هو .
(حفظ الحق) تعالی بعينه لتلك الصورة بل بينهما فرق (وقد بينا)، أي كشفنا و أوضحنا (الفرق) هنا بين حفظ الله تعالی لتلك الصورة وحفظ ذلك العارف لها، وذلك ما تقدم من وجود الغفلة في العارف إذا شهد حضرة ما بعد ضبطه جميع الحضرات حيث صارت الصور يحفظ بعضها بعضا.
وتميز حفظ الله تعالى عن حفظ ذلك العارف، فإن حفظ العارف لمحة من لمحات حفظ الحق تعالی.
وحفظ الحق تعالى هو الباقي الدائم على حسب ما يريد سبحانه ، فإذا لاحظ العارف تلك اللمحة فصدق بها في قوله :" أنا الحق" لا يلزم أن يكون حفظه لتلك الصورة هو حفظ الحق تعالى لها في جميع اللمحات . حتى يصح له قوله : "أنا الحق دائما" .  

وقد بينه بقوله : (ومن حيث ما غفل)، أي غفلته يعني العارف (عن صورة ما) من تلك الصور (و) عن (حضرتها)، أي حضرة تلك الصورة (فقد تمیز) حينئذ (العبد) بالغفلة (من الحق تعالی) الذي لا يغفل أبدا .
(ولا بد أن يتميز) العبد من الحق تعالی أيضا (مع بقاء الحفظ لجميع) تلك (الصور) الصادرة عن العارف (بحفظ) العارف (صورة واحدة منها)، أي من تلك الصور (في) شهود (الحضرة) الإلهية (التي ما غفل عنها فهذا حفظ) من العارف لتلك الصور (بالتضمن)، أي حاصل في الضمن حفظه لتلك الصورة الواحدة منها .
(وحفظ الحق) تعالی (ما خلق) بهمة ذلك العارف من جميع الصور (ليس كذلك)، أي ليس هو بالتضمن (بل حفظه سبحانه لكل صورة) حفظ حاصل منه تعالى (على التعيين) كل صورة بالاستقلال.
(وهذه) المسألة التي هي بيان هذا السر الذي لم يزل أهل الله تعالى يغارون عليه أن يظهر ومسألة خلق العارف بهمته (مسألة أخبرت)، أي أخبرني مخبر من الغيب أو الشهادة (أنه)، أي الشأن (ما سطرها) أي كتبها (أحد) من أهل طريقتنا (في كتاب) أصلا (لا أنا) فيما لي من الكتب قبل هذا الكتاب (ولا غيري إلا في هذا الكتاب) الذي هو فصوص الح?م .
(فهي)، أي هذه المسألة (يتيمة الوقت) حيث ظهرت فيه بلا مثيل لها (وفريدته)، أي الوقت حيث انفردت فيه دون غيره من الأوقات (فإياك) يا أيها العارف (أن تغفل عنها)، أي عن هذه المسألة التي نبهتك عليها .
(فإن تلك الحضرة) الإلهية (التي يبقى لك الحضور فيها مع الصورة التي هي) محفوظة بتلك الحضرة (مثلها) من حيث كونها حافظة بطريق التضمن لجميع تلك الصور كما تقدم بيانه (مثل الكتاب) العزيز (الذي قال الله) تعالى (فيه)، أي في وصفه (ما فرطنا)، أي ما نقصنا وما تركنا (في الكتاب) وهو القرآن العظيم (من شیء) إذ كل شيء فيه من الأزل إلى الأبد.
الأشياء المعلومة له تعالى الموجودة به سبحانه وما سيوجد (فهو)، أي الكتاب (الجامع للواقع)، أي الموجود من جميع الأشياء (وغير الواقع) أيضا من سائر المعلومات الممكنة والممتنعة (ولا يعرف ما قلناه) هنا من الكلام (إلا من كان قرآنا) منزلا من حضرة الحق تعالى (في نفسه)، أي عند نفسه من حيث شهوده الذوقي مما لا يعرفه إلا العارفون.
(فإن المتقي الله)، أي المحترز به تعالی منه بأن احترز من الكفر به بالإيمان به وهي تقوى العوام، ومن معصيته بطاعته وهي تقوى الخواص، ومما سواه بشهوده فيما سواه وهي تقوى العارفين، وهم خواص الخواص.
(يجعل له)، أي للمتقي ما يجمع بين المراتب الثلاث وهي:
التقوى الكاملة (فرقانا) كما قال تعالى : " يا أیها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا" [الأنفال: 29].
والفرقان هو الفارق بين الحق والباطل، ينزله الله تعالى في قلوب الأنبياء عليهم السلام وحيا على قلوب العارفين به من الأولياء والورثة رضي الله عنهم إلهاما ما قال تعالى: "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ، ليكون للعالمين نذيرا" [الفرقان: 1].وهو الروح الأمري.
قال تعالى : " يلقى الروح من أمره ، على من يشاء من عباده " [غافر: 15] الآية. وهو تفصيل كل شيء، والقرآن مجمله، فمن كان قرآنا في نفسه التي إذا عرفها عرف ربه كما ورد في الأثر، كان فرقانا في صورته الظاهرية والباطنية .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهو مثل ما ذكرناه في هذه المسألة فيما يتميز به العبد من الرب. وهذا الفرقان أرفع فرقان.
فوقتا يكون العبد ربا بلا شك ... ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك
فإن كان عبدا كان بالحق واسعا ... وإن كان ربا كان في عيشة ضنك
فمن كونه عبدا يرى عين نفسه ... وتتسع الآمال منه بلا شك
ومن كونه ربا يرى الخلق كله ... يطالبه من حضرة الملك و الملك
ويعجز عما طالبوه بذاته ... لذا تر بعض العارفين به يبكي
فكن عبد رب لا تكن رب عبده ... فتذهب بالتعليق في النار والسبك )
(وهو)، أي الفرقان الذي يجعل للمتقي (مثل)، أي نظير (ما ذكرناه في هذه المسألة) المتقدم بيانها (فيما يتميز به العبد من الرب) ففي المسألة المتقدمة يتميز العبد بالغفلة والرب بعدمها، والعبد بالحفظ الضمني والرب بالحفظ الاستقلالي.
وهنا يتميز العبد بالتفصيل في الفرقان والرب بالإجمال في القرآن والإجمال وراء التفصيل.
قال الله تعالى: "والله من ورائهم محيط . بل هو قرآن مجی? . في لوح محفوظ ) [البروج: 20 - 22].
(وهذا الفرقان) الذي يجعله الله تعالى هدى للمتقين بالمراتب الثلاث (أرفع فرقان) بالنسبة إلى الفرقان الذي يجعله له الله تعالی الصاحب المرتبتين الأوليين، لأن هذا الفرقان في مرتبة حق الیقین فوق فرقان عين اليقين وفرقان علم اليقين .
(فوقتا)، أي في وقت (يكون العبد)، أي عبد الله تعالى القائم به سبحانه عند نفسه ?شفة وشهودة لا عبد الهوى القائم بالأسباب المعاشية والمعادية (ربا) من حيث فناؤه كله في بصيرته وظهور ربه له في ذوقه وشهوده (بلا شك) عنده في ذلك أصلا إذ الشك بقاء الأنانية ببقاء الرسوم الكونية ، فإذا زالت الرسوم بتجلى الحى القيوم زالت الأنانية فزالت مقتضياتها من النسبة الإدراكية فزال الشك.
لأنه من جملة ذلك (ووقتا)، أي في وقت آخر غير الوقت الأول على حسب ما يعطيه التجلي الدائم من صاحب الملك القائم (يكون العبد)، أي عبد الله المذكور (عبد) على ما هو عليه من مقتضى تجلي الاستتار بعد التجلي الأول تجلي الكشف.
(بلا إفك)، أي كذب وافتراء فإن كل تجلي يعطي مقتضاه على حسب مراد المتجلي الحق تعالى، فإذا تجلى على آثاره بذاته ?شف لها عن فنائها الأصلي وبقائه الأزلي الأبدي من غير شك ولا شبهة أصلا.
وإذا تجلى على آثاره بصفاته وأسمائه ?شف لها عن وجودها به وثبوتها بقوميته من غير شك ولا شبهة أصلا أيضا، فالتجلي الأول يفنى والثاني يبقى؛ ولهذا كان مقتضى الأول أن الرب ظاهر والعبد باطن في علم ربه الظاهر.
ومقتضى الثاني أن العبد ظاهر والرب باطن في علم عبده الظاهر، وفي قوله : يكون العبد ربة، إشارة إلى اعتبار جانب العبد لا عدم اعتباره بالكلية، وإلا فلا رب حيث لا عبد وبالعكس، لأنهما اسمان إضافيان لا يتحقق أحدهما بدون اعتبار الآخر.
(فإن كان)، أي ذلك العبد المستتر عنه ربه بظهوره (عبدا)، أي قائمة بربه في نفسه على معنى أن نفسه عنده شهادة وربه عنده غيب (?ان) في تلك الحالة ذلك العبد (بالحق)، أي بربه الذي هو الحق عنده في غيبه (واسعا) مستقر البال في عيش أرغد يفعل ما يقدر عليه بحسب العادة ولا يمنعه مانع.
(وإن كان)، أي ذلك العبد الذي استترت عنه نفسه بظهور ربه له (ربا)، أي فانية في نفسه بظهور تجلي ربه له على معنى أن ربه عنده شهادة ونفسه عنده غيب (?ان) في تلك الحالة ذلك العبد (في عيشه)، أي بقائه في الدنيا (ضنك)، أي ضيق لا يستقر له بال ولا يسكن له حال.
فمن وجه (كونه)، أي ذلك العبد المذكور (عبد) ظاهرة (بری) ذلك العبد (عين نفسه)، أي ذاته فيفرح بها.
(وتتسع الآمال)، أي المقاصد والأماني والأغراض النفسانية منه وحصول كل ما يريد (بلا شك) عنده في ذلك (ومن جهة كونه)، أي ذلك العبد (ربا) ظاهرة كما ذكرنا بعد محق ظلمة وجوده في نور شهوده (يرى الخالق)، أي المخلوق (?له يطالبه) بمقاصده وأغراضه (من حضرة الملك) بالضم، أي الشهادة (والملك) بالفتح، أي الملكوت يعني الغيب .
فإن أهل عالم الملك وأهل عالم الملكوت لهم مرادات وأماني يدعون بها ربهم على كل حال، فيرى ذلك جميع هذه المخلوقات بمقاصدها متوجها إليه .
(ويعجز)، أي ذلك العبد المذكور حينئذ (عما)، أي عن إعطاء ما (طالبوه بذاته)، أي بسبب ذاته، لأنه عبد عاجز، وإن فني وظهر منه رب قادر بعد فنائه .
فإن اعتبار كونه عبدا لا يزول من حضرة علم ربه كما قال موسى عليه السلام فيما حكاه الله عنه "لا يضل ربي ولا ينسى" [طه: 25].
يعني أن الرب المتجلي بالعبد إذا ظهر عند العبد وبطن ذلك العبد فلم يبق له وجود أصلا عنده.
فإن ربه لا يضل عنه ولا ينسى تجليه به، فالعبد عاجز على كل حال (لذا)، أي لأجل ما ذكرنا من عجز العبد مطلقا (تر) يا أيها الإنسان (بعض العارفين به)، أي بالله تعالى ينحصر في نفسه ويضيق عليه حاله حتى (تبكي) من غير سبب يقتضي ذلك في عالم الدنيا غير ما ذكر من رؤية عجزه في نفسه الفانية المختفية في تجلي نور ربه الباقي عن جميع ما تطالبه به العوالم إذا كشف له عنها كذلك.
(ف?ن) يا أيها العارف (عبد رب)، أي عبدة ظاهرة وربك باطن عنك مستتر بك في الفرق الثاني لا عبدة فقط من غير إضافة إلى رب، فإنها حالة أهل الغفلة المحجوبين في الفرق الأول (لا تكن) يا أيها العارف (رب عبده) الذي هو نفسه بحیث ی?ون ربك ظاهرا عندك وأنت باطن في غيبه ولم يقل لا تكن ربا هكذا بالإطلاق من غير إضافة إلى عبده.
لأن ذلك غير ممكن لما ذكرنا من أن الرب والعبد اسمان إضافيان، ولأن ذلك زندقة وكفرا بما يتوهم إمكانها ببعض رعاء الناس الأجانب عن هذه الطريقة، وقد وجدنا منهم كثيرا (فتنهب) حينئذ يا أيها العارف (بالتعليق). أي بالاشتعال والتوقد (في النار)، أي نار القهر الإلهي (والسبك) معطوف على التعليق، أي الانسباك يعني الإفراغ في قوالب الشر.
.


ثم فص الحكمة الإسحاقية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية الجزء الأول.شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس يوليو 18, 2019 9:05 am

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية

هذا نص الحكمة الإسماعيلية ذكرها بعد حكمة إسحاق عليه السلام، لأن فيه تتمة لمبحث الربوبية ولمناسبة الأخوة بين إسحاق وإسماعيل عليه السلام.
(فص حكمة علية) بالتشديد أي منسوبة إلى العلو كما تقدم (في كلمة إسماعيلية) إنما اختصت حكمة إسماعيل عليه السلام بكونها علية لأنه عليه السلام أبو العرب ومن العرب نبینا صلى الله عليه وسلم وأخوه إسحاق عليه السلام أبو العجم .
والعرب أفضل من العجم خصوصا ونبينا عليه السلام منهم فعلو إسماعيل عليه السلام بذريته التي منها محمد صلى الله عليه وسلم مما لا يخفى.
ولهذا كان لسان أهل الجنة في الجنة اللسان العربي ونزل القرآن العظيم باللغة العربية إكراما لنبينا عليه السلام ومدح الله تعالى القرآن بذلك فقال :"قرءانا عربيا غير ذي عوج"[الزمر: 28].
قال الشيخ رضي الله عنه : (أعلم أن مسمى الله أحدي بالذات كل بالأسماء.
وكل موجود فما له من الله إلا ربه خاصة يستحيل أن يكون له الكل.
وأما الأحدية الإلهية فما لواحد فيها قدم، لأنه لا يقال لواحد منها شيء ولآخر منها شيء، لأنها لا تقبل التبعيض. فأحديته مجموع كله بالقوة.
والسعيد من كان عند ربه مرضيا، وما ثم إلا من هو مرضي عند ربه لأنه الذي يبقي عليه ربوبيته، فهو عنده مرضي فهو سعيد.)
(اعلم) أيها السالك في طريق القادر المالك (أن مسمی) اسم (الله)، أي الذات العلية المسماة بهذا الاسم في الشرع المحمدي (إحدى)، أي أحد غیر منقسم ولا يمكن فيه الشركة (بالذات)، أي بحسب ذاته العلية من حيث هو في غيبه الأزلي الأبدي (كل)، أي هو كل شيء من المحسوسات والمعقولات في الظاهر والباطن والغيب والشهادة في الماضي والآتي على معنى أنه كثير بسبب وجود الأسماء الكثيرة ولم يذكر الصفات، لأن الصفات هي الأسماء قبل  ظهورها بالآثار فإذا ظهرت بالآثار فهي الأسماء.
(وكل موجود) من المحسوسات المعقولات (فما له من الله) تعالى الذي هو الخالق للكل الجامع لجميع الأسماء (إلا ربه)، أي مالكه الذي توجه على إيجاده مدة وجوده بما شاء من حضرات أسمائه العلية كل لمحة باسم خاص يقتضي حالة بخصوصة هو عليها ذلك الموجود في تلك اللمحة (خاصة)، أي لا غير من بقية الأسماء الإلهية غير الرب وبقية الأسماء تظهر شيئا فشيئا في دولة اسم الرب لا استقلالا فالاسم الرب له جميع الأسماء الإلهية في وقت توجهه على كل موجود
ظهر في ذلك الموجود بما يشاء منها ونظيره في الظهور بجميع الأسماء أيضا الاسم الرحمن المستوي على العرش فالاسم الرب مستو على عرش وجود كل شيء وهو العرش الكريم والاسم الرحمن مستو على عرش وجود السموات والأرض وما بينهما وهو العرش المجيد والاسم الله الجامع لجميع الأسماء أيضا مستو على عرش العلم الإلهي استواء أزلية أبدية وهو العرش العظيم.
(مستحيل أن يكون له)، أي لكل موجود من الله تعالى (الكل)، أي كل الأسماء إذ الحادث ضيق عن سعة الأسماء الإلهية ، فلا يسع منها إلا اسما بعد اسم يظهر فيه من تحت حيطة الاسم الرب فكان الاسم الرب في حال ظهوره لابسة وكان كل اسم يظهر به حلة يلبسها الاسم الرب ويظهر بها على ذلك الموجود واللابس، في حلة يلبسها لا يتغير في نفسه فلكل شيء اسم الرب خاصة في حلة من حلل تلك الأسماء.
(وأما) بالحضرة (الأحدية الإلهية) التي هي مقام الذات العلية من غير اعتبار الأسماء الإلهية (فما لأحد) من المخلوقات أصلا (فيها قدم)، أي وجود وثبوت (لأنه)، أي الشأن (لا يقال لواحد منها)، أي اعتبار واحد من اعتباراتها (شيء)، اي موجود ثابت (ولآخر)، أي لاعتبار آخر (منها شيء) أيضا موجود ثابت (لأنها)، أي الحضرة الأحدية المذكورة (لا تقبل التبعيض) الاعتباري أصلا بخلاف الحضرة الواحدية فإنها تقبل الاعتبارات الكثيرة ولهذا صدر عنها كل شيء وحصلت الكثرة في مظاهرها فالكل شيء قدم فيها (فأحديته تعالى مجموع كله) سبحانه، أي أسماؤه وصفاته وأفعاله وأحكامه (بالقوة) وهو ذاته العلية لا من حيث اعتبار أصلا.
(والسعيد)، أي صاحب السعادة ضد الشقاوة (من كان عند ربه)، أي مالكه الذي يربيه بدر قیومیته من ثدي آثاره الكونية المجعولة أسبابا معایشه ومعاديه حتی بوصله إلى نهاية كماله (مرضيا)، أي مقبولا فاعلا ما هو المطلوب منه في تلك
الحضرة (وما ثم) بالفتح، أي هناك يعني في هذا الوجود من جميع المخلوقات (إلا من)، أي مخلوق ولم يقل ما تغليبا للعقلاء إذ هم المراد في هذا الكلام (هو مرضي)، أي مقبول قائم بما هو مطلوب منه (عند ربه)، أي رب ذلك المخلوق المتجلي عليه باسمه الرب من حضرة اسم إلهي خاص يقتضي ظهور أثر خاص في ذلك المخلوق وذلك المخلوق قابل لما هو مقتضى ذلك الاسم وظاهر به متصف بمقتضاه سواء كان خيرة أو شرة (لأنه)، أي ذلك المخلوق (هو الذي يبقي عليه)، أي على ربه صفة (ربوبيته)، أي الرب سبحانه فكيف لا يكون مرضيا عنده لما قدمناه من أن الربوبية والعبودية صفتان إضافيتان لا يعقل الاتصاف بأحدهما بدون الآخرة .


ولا يقال : هذا يقتضي حدوث صفة الربوبية للرب سبحانه بسبب حدوث صفة العبودية للعبد، لأنا نقول العبد في حضرة العالم الإلهي عبد موصوف بصفة العبودية قبل ظهوره في عالم الوجود والعبد الظاهر في عالم الوجود لا يتوقف عليه شيء أصلا بل يتوقف هو على غيره وهو إيجاد مولاه له (فهو)، أي ذلك العبد (عنده)، أي عند ربه (مرضي به) كيفما كان فالرب الظاهر المتجلي باسم المضل على عبده الضال راض عن عبده أيضا، لأنه فاعل ما هو مقتضى المطلوب منه في ذلك الاسم من الضلال فهو مرضي عنه في تلك الحضرة وإن كان مغضوب عليه من حضرة الاسم المهدي وغيره وهكذا.
(فهو)، أي ذلك العبد حينئذ (سعید) حيث كان مرضيا عنه؛ ولهذا قال تعالى : " كل حزب بما لديهم فرحون" [المؤمنون: 53].
وقال تعالى : ولا ي هؤلاء وهؤلاء من عطاء ريه [الإسراء: 20]، وإذا كان سعيدا فلا يلزم أن يكون جميع السعادات سواء ولا كل سعید مجزية بما به يجزي ذلك السعيد الآخر بل كل .
اسم يتجلى به الاسم الرب على العبد له سعادة مخصوصة وكل سعادة لها جزاء مخصوص بل كل رضى لا يشبه الرضى الآخر والله واسع عليم .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( و لهذا قال سهل إن للربوبية سرا- و هو أنت: يخاطب كل عين- لو ظهر وهو لا يظهر فلا تبطل الربوبية لأنه لا وجود ليعين إلا بربه، والعي موجودة دائمة الربوبية لا تبطل دائما .
لبطلت الربوبية. فأدخل عليه «لو» و هو حرف امتناع لامتناع ، و هو لا يظهر فلا تبطل الربوبية لأنه  لا وجود لعين إلا بربه. و العين موجودة دائما فالربوبية لا تبطل دائما.
و كل مرضي محبوب، و كل ما يفعل المحبوب محبوب، فكله مرضي، لأنه لا فعل للعين، بل الفعل لربها فيها فاطمأنت العين يضاف إليها فعل، فكانت «راضية» بما يظهر فيها و عنها من أفعال ربها، «مرضية» تلك الأفعال لأن كل فاعل و صانع راض عن فعله و صنعته، فإن وفى فعله و صنعته حق ما عليه «أعطى كل شي ء خلقه ثم هدى» [طه : 50] أي بين أنه أعطى كل شي ء خلقه، فلا يقبل النقص و لا الزيادة. فكان إسماعيل بعثوره على ما ذكرناه عند ربه مرضيا. )

(ولهذا)، أي لكون الأمر كذلك (قال سهل) بن عبد الله التستري قدس الله سره (إن للربوبية)، أي لصفة الربوبية التي هي الله تعالی (سرا)، أي أمرة خفية لا يعلمه أحد إلا الله تعالى فيعلمه لمن يشاء من عباده (وهو)، أي ذلك السر (أنت) يا أيها العبد (يخاطب)، أي سهل رضي الله عنه بقوله : أنت (كل عين)، أي ذات مخلوقة مطلقة (لو ظهر)، أي تبين ذلك السر لأحد (لبطلت صفة (الربوبية)، أي زالت عن الرب سبحانه عند ذلك العبد الظاهرة له فينتقل ذلك العبد من مقام الأسماء إلى مقام الذات ومن مقام الواحدية إلى مقام الأحدية وهو الفناء المحض والانمحاق الصرف وسبب بطلان الربوبية حينئذ عند ذلك العبد بظهور ذلك السر بطلان العبودية عنده أيضا بفناء العبد واضمحلال رسومه فإذا عاد العبد إلى وجوده فعادت عبوديته عنده عادت ربوبية الحق له واستتر ذلك السر عنه وهكذا دائما .
(فأدخل) سهل رضي الله عنه (عليه)، أي على قوله ذلك حرف (لو) في قوله : الو ظهر (وهو)، أي لو (حرف امتناع الامتناع)، أي يفيد في الكلام امتناع الثاني الامتناع الأول فإذا قلت لو جاء زيد أكرمته فقد أفادت كلمة لو أن الإكرام انتفى المجيء (وهو)، أي ذلك السر (لا يظهر) أصلا إذ لا يلزم من بطلان وجود العبد بالفناء المحض عند ظهور التجلي الإلهي بطلان ثبوته في تقدير علم الحق تعالی علی ما كان عليه أزلا .
(فلا تبطل الربوبية)، حينئذ أصلا (لأنه)، أي الشأن في عدم بطلان الربوبية (لا وجود لعين)، أي مخلوق من المخلوقات (إلا بربه)، المتجلی به عليه (والعين)، أي ذات ذلك المخلوق (موجودة) بتجلي وجود ربها عليها (دائما) في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة (فالربوبية) أيضا موجودة (لا تبطل دائما وكل) مخلوق (مرضي) عنه من جهة ربه فهو (محبوب) لربه لأنه راض عنه .
(وكل ما)، أي شيء (یفعل)، أي يفعله المحبوب) فإنه (محبوب)، لمحبه وإلا لم يكن محبة (فكله)، أي كل ذلك المحبوب بجميع أفعاله (مرضي) عنه من جهة محبه. (لأنه)، أي الشأن في ذلك ( لا فعل)، أي لا تأثير (للعين)، أي لماهية ذلك  المخلوق في كل ما يفعل من خير أو شر (بل الفعل)، أي التأثير إنما هو (لربها )، أي لرب تلك العين (فيها)، أي في تلك العين .
(فاطمأنت)، أي سكنت وقبلت (العين عن أن يضاف)، أي ينسب (إليها)، أي لتلك العين (فعل)، أي تأثير في أمر ما (فكانت راضية)، أي تلك العين (بما يظهر فيها) (ويصدر عنها من أفعال ربها) المضافة إليها (مرضية منها تلك الأفعال) كلها
لأن كل فاعل لفعل.
(وصانع) لصنعة (راض عن فعله) ذلك (وصنعته) تلك كيفما كان ذلك الفعل وكانت تلك الصنعة (فإنه)، أي كل فاعل وصانع (وفی)، أي أكمل فعله وصنعته حق ما هي)، أي صنعته (عليه) مما هو مقتضی كل ماهية بحسب قابلیتها ويؤيد هذا قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: (وقال ربنا الى أعطى كل شيء )، من المحسوسات والمعقولات (خلقه)، أي خلقته التي هو عليها في حضرة العلم القديم والتقدير الأزلي ( "ثم هدى" [طه: 50]، أي بين) لمن شاء من عباده (أنه "أعطى كل شئ خلقه") كما ذكرنا (فلا يقبل ذلك) الشيء (النقص) من خلقه الذي له (ولا الزيادة) منه (فكان إسماعيل) النبي عليه السلام (بعثوره)، أي اطلاعه في مقام ولايته دون مقام نبوته ورسالته (على ما ذكرناه) في هذه الحكمة (عند ربه مرضيا) حيث قال تعالى في حقه : "وكان عند ربه مرضيا" [مريم: 55].
قال الشيخ رضي الله عنه : ( و كذا كل موجود عند ربه مرضي. ولا يلزم إذا كان كل موجود عند ربه مرضيا على ما بيناه أن يكون مرضيا عند رب عبد آخر لأنه ما أخذ الربوبية إلا من كل لا من واحد. فما تعين له من الكل إلا ما يناسبه، فهو ربه. ولا يأخذه أحد من حيث أحديته. و لهذا منع أهل الله التجلي في الأحدية ، فإنك إن نظرته به فهو الناظر نفسه فما زال ناظرا نفسه بنفسه، و إن نظرته بك فزالت الأحدية بك، و إن نظرته به و بك فزالت الأحدية أيضا. لأن ضمير التاء في «نظرته» ما هو عين المنظور، فلا بد من وجود نسبة ما اقتضت أمرين ناظرا ومنظورا، فزالت الأحدية وإن كان لم ير إلا نفسه بنفسه. ومعلوم أنه في هذا الوصف ناظر ومنظور.)

(وكذا كل موجود) محسوس أو معقول (عند ربه) الذي نقله من عدم عينه إلى وجود كونه (مرضي) عنه (ولا يلزم إذا كان كل موجود) من المخلوقات ("عند ربه  مرضيا" على ما بيناه) من الكلام في هذا المقام (أن يكون) ذلك الموجود (مرضيا) [مريم: 55] أيضا (عند رب عبد)، أي موجود (آخر لأنه)، أي الرب من حيث هو موصوف بصفة ربوبيته (ما أخذ)، أي اتصف بصفة (الربوبية إلا من) جهة عبودية (كل)، أي كل واحد من جميع العبيد والموجودات إذ هو رب كل شيء (لا) آخذ الربوبية فاتصف بها (من) جهة عبودية عبد (واحد) وموجود واحد فقط حتى يكون ذلك العبد عند ربه مرضية فقط دون غيره بل الأمر عام في جميع العبيد والموجودات .
ولهذا ورد في الآية : "وكان عند ربه مرضيا" بضمير راجع إلى العبد إسماعيل عليه السلام ولم تكن الآية وكان عند الرب مرضية للإشارة إلى ما ذكر في هذه الحكمة (فما تعين)، أي ثبت وتحقق (له) سبحانه وتعالى (من الكل)، أي من ربوبية كل واحد من العبيد والموجودات (إلا ما يناسبه) تعالی فرب المهتدي متجلي عليه بالهداية فهو الهادي ورب الضال متجلي عليه بالضلالة فهو المضل.
وهكذا رب المنتفع نافع ورب المتضرر ضار ورب المنتقم منه منتقم ورب المرحوم رحمن (وما يناسبه استعداده)، أي استعداد كل عبد (فهو)، أي ذلك المناسب للعبد في تأثير صفته التي هو فيها (ربه) غير ذلك لا يكون (ولا يأخذه)، أي الرب سبحانه (أحد) من عبيده وموجوداته (من حيث) حضرة (أحديته)، أي ذاته العلية سبحانه أصلا بل من حيث حضرات صفاته وأسمائه كما ذكرنا.
(ولهذا)، أي لكون الأمر كذلك (منع أهل الله)، أي العارفون به (التجلي)، أي انكشاف الحق تعالى (في) حضرة (الأحدية) التي له سبحانه ثم لما كان لأهل الله تعالی مقام الفناء في الوجود وفيه يقع التحقق بحضرة الأحدية ورد ذلك على كلامه فأجاب بمنع كون ذلك التحقق تجلية بالأحدية.
لأن التجلي يقتضي ثبوت متجلي ومتجلى له ومتجلی به والمتحقق بالأحدية في مقام الفناء ناظر إليه تعالی به سبحانه كما قال .
(فإنك) يا أيها العارف (إن نظرته) سبحانه في مقام الفناء (به) تعالى لا بنفسك فهو تعالى (الناظر نفسه) لا أنت ناظر إليه (فما زال) على ما هو عليه من قبل ومن بعد (ناظرا) جلا وعلا (نفسه بنفسه) فليس ذلك تجلية بأحديته على أحد ولا هو تجلی أصلا.
لأن التجلي هو الانكشاف للغير ولا أغيار ولا غير هنا فلا تجلى فهو بطون لا ظهور والتجلي ظهور لا بطون (وأن نظرته) سبحانه (بك)، أي بنفسك كان التجلي حينئذ (فزالت الأحذية بك)، أي بسبب نفسك فقد تجلى لك من حضرة الواحدية التي هي صفاته وأسماؤه لا الأحدية .
(وإن نظرته) سبحانه (به)، أي بنفسه (وبك)، أي بنفسك بأن تحققت في نفسك بالنزول الرباني كما ورد : ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا الحديث وهو الفرق الثاني مقام المقربين والورثة المحمديين (فزالت الأحدية) حينئذ (أيضا، لأن ضمير التاء) المثناة الفوقية (في) قولنا (نظرته ما هو عين المنظور) بل هو غيره (فلا بد) حينئذ (من وجود نسبة ما)، أي نوع من أنواع النسب الاعتبارية (اقتضت تلك النسبة (أمرين) ثابتين (ناظرة) وهو أنت (ومنظورة) وذلك هو (فزالت الأحدية) حيث ثبت ناظر و منظور (وإن كان) الرب سبحانه حينئذ (لم ير إلا نفسه) العلية (بنفسه) في باطن الأمر (ومعلوم أنه سبحانه (في هذا الوصف) حيث وجدت له تلك النسبة المقتضية للأمرين (ناظر) باعتبار (منظور) باعتبار آخر فقد زالت الأحدية على كل حال .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالمرضي لا يصح أن يكون مرضيا مطلقا إلا إذا كان جميع ما يظهر به من فعل الراضي فيه. ففضل إسماعيل غيره من الأعيان بما نعته الحق به من كونه عند ربه مرضيا. وكذلك كل نفس مطمئنة قيل لها «ارجعي إلى ربك» فما أمرها أن ترجع إلا إلى ربها الذي دعاها فعرفته من الكل، «راضية مرضية».
«فادخلي في عبادي» من حيث ما لهم هذا المقام. فالعباد المذكورون هنا كل عبد عرف ربه تعالى واقتصر عليه و لم ينظر إلى رب غيره مع أحدية العين: لا بد من ذلك «و ادخلي جنتي» التي بها ستري.
وليست جنتي سواك فأنت تسترني بذاتك.  فلا أعرف إلا بك كما أنك لا تكون إلا بي. )
(فالمرضي)، أي العبد الذي رضي ربه عنه (لا يصح أن يكون مرضيا عنه) من جهة ربه (مطلقا)، أي في كل حضرة من حضراته سبحانه حتى يكون مرضية عنه عند رب كل شيء (إلا إذا كان)، أي وجد (جميع ما يظهر به) ذلك العبد (من فعل الراضي) لا من فعله هو (فيه).
أي في ذلك العبد فحينئذ يصح أن يكون مرضية مطلقة لا في حضرة دون حضرة وذلك مثل قول الخضر عليه السلام ما فعلته عن أمري يعني بل عن أمر الله تعالى .
فالفعل أثر الأمر والأمر لله تعالی بخلاف ما لو كان الأمر للنفس كحال الغافل على معنى أن النفس مدعية له إن النفس لأمارة بالسوء وإلا فإن الأمر كله لله (ففضل إسماعيل) عليه السلام (غيره)، أي صار أفضل من غيره (من الأعيان)، أي العبيد الذين كل عند منهم مرضي عند ربه كما مر (بما نعته)، أي وصفه (الحق تعالی به من كونه"عند ربه ، مرضيا" [مريم: 55]، وربه رب كل شيء، لأنه قائم به لا بنفسه وأفعاله كلها عند أفعال ربه.
فهو بأمر ربه لا بأمر نفسه فنفسه مطمئنة لا أمارة ولا لوامة فهو مرضي عنه مطلقة من كل حضرة من حضرات ربه وبهذا فارق غيره من العبيد إلا من كان مثله.
(وكذلك)، أي كما فضل إسماعيل عليه السلام تفضل (كل نفس مطمئنة) أسلمت أمرها إلى ربها فقامت بأمر ربها فلم تدع أمره تعالى النازل إليها فليست أمارة ولا هي مترددة في ذلك فما هي لوامة (قيل)، أي قال قائل (لها) عند موتها الاختياري والاضطراري .
( أرجعي) عن كل شيء حتى عن نفسك وعن رجوعك ذلك (إلى ربك ) الذي أمره نازل إليك وقد تركت ادعاء أمره فإذا رجعت إليه ماتت من الدعاوی فزالت، وظهور ربها في مقامه ملتبسة بها (فما أمرها)، أي القائل (أن ترجع إلا إلى ربها الذي دعاها) أو (فعرفته) بظهوره (من الكل)، أي كل العبيد فرب النفس المطمئنة أعظم من رب النفس الأمارة واللوامة .
ثم قال : ("راضيه") عنه  [الفجر: 28] منه (فادخلي في زمرة عبادي)، أي العارفين أصحاب النفوس المطمئنة (من حيث ما لهم في هذا المقام المذكور .
فالعباد المذكورون هنا في هذه الآية. (كل عبد عرف ربه تعالی) المعرفة التامة (واقتصر عليه) سبحانه من حيث هو متجلي عليه بصفة ربوبيته الخاصة (ولم ينظر)، أي ذلك العبد (إلى رب عبد غيره) من بقية العبيد (مع) معرفته وتحققه بحضرة
(أحدية العين)، أي الذات الإلهية المتجلية من حيث واحديتها دون أحديتها بصفة الربوبية لكل عبد لما يناسبه كما سبق (لا بد من ذلك)، أي من اعتبار ثبوت الأحدية له تعالی عند بصيرة ذلك العبد.
(وادخلي) يعني يا أيتها النفس المطمئنة (جنتي) والجنة مشتقة من الاجتنان وهو الاستتار سميت بذلك لأن أشجارها تستر أرضها من كثرتها ونضارتها (التي) نعت للجنة (هي)، أي جنتي (ستري)، أي ما يستر حقیقتي مع أسمائي وصفاتي
(وليست جنتي) المذكورة (سواك)، يا أيها العبد العارف بربه، لأنك ساتر حقیقتي بحقيقتك وأسمائي وصفاتي بأسمائك وصفاتك، فأنت حجابي عند الأجنبي وأنت جنتي عندك وعند أمثالك من العارفين فادخل ذلك وتنعم فيها بذاتي وبأسمائي وصفاتي .
(فأنت تسترني) عنك وعن غيرك (بذاتك) الإنسانية الكاملة (فلا أعرف)، بالبناء للمفعول، أي لا يعرفني أحد (إلا بك)، أي بواسطتك ومن عرفني فقد وجدت عنده فلا أوجد عندك وعند أحد إلا بك (كما أنك) يا أيها العارف الكامل (لا تكون)، أي لا توجد عندك وعند غيرك (إلا بي) من حيث إظهاري لك من عدمك الأصلي .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن عرفك عرفني و أنا لا أعرف فأنت لا تعرف. فإذا دخلت جنته دخلت نفسك فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها. فتكون صاحب معرفتين : معرفة به من حيث أنت، و معرفة به بك من حيث هو لا من حيث أنت.
فأنت عبد وأنت رب   ... لمن له فيه أنت عبد
و أنت رب و أنت عبد ... لمن له في الخطاب عهد
فكل عقد عليه شخص ... يحله من سواه عقد )
(فمن عرفك)، لأني ما ظهرت إلا بك (عرفني) على التحقيق (وأنا)، أي الحق سبحانه وتعالى (لا أعرف) بالبناء للمفعول، أي لا يمكن أن يعرفني أحد غيري كما أنا عليه في نفسي المعرفة التامة الذاتية (فأنت) أيضا يا أيها العارف (لا تعرف) بالبناء للمفعول، أي لا يعرفك أحد غيرك كما أنت عليه في نفسك المعرفة التامة الذاتية .
(فإذا دخلت) يا أيها العارف به (جنته) التي هي سترته وهي نفسك القائمة به تعالى فقد (دخلت نفسك) التي خلقك عليها ثابتة فيها بإثباته (فتعرف نفسك) حينئذ (معرفة أخرى) تامة ذاتية (غير المعرفة) الأولى الناقصة الصفاتية الأسمائية (التي عرفتها)، أي نفسك بها أولا (حين عرفت ربك بمعرفتك إياها) كما ورد في الأثر "من عرف نفسه فقد عرف ربه" (فتكون) حينئذ يا أيها العارف (صاحب معرفتين) بالله تعالى الأولى :
(معرفة به) سبحانه (من حيث أنت) وهي معرفته بصفاته وأسمائه المتوجهة على إيجادك وتكوينك (و) الثانية : (معرفة به) سبحانه (بك)، أي بنفسك (من حيث هو) قائم على كل نفس بما كسبت، لا من حيث كل نفس بل من حيث هو سبحانه، وهي المعرفة الذاتية.
ولهذا قال (لا من حيث أنت) موجود عنه سبحانه .
والحاصل أنك في المعرفة الأولى عرفت نفسك الوهمية الكونية، فعرفت ربك من حيث ما هو متجلي عليك .
وفي المعرفة الثانية عرفت نفسك الحقيقية المشار إليها بقوله تعالى في بعض الكتب المنزلة : «يا ابن آدم خلقتك من أجلي، وخلقت الأشياء كلها من أجلك» إلى آخره، يعني خلقتك لأظهر بك عندك وعند غيرك فتكون مظهري فنفسك المخلوقة إلى غير نفسي الخالقة لك لكن معرفة نفسك المخلوقة لي موصلة إلى معرفة نفسي الخالقة لك،فإذا عرفت نفسي الخالقة لك بعد معرفة نفسك المخلوقة لي فقد عرفتني حق المعرفة وفي ذلك يقول رضي الله عنه.
(فأنت) یا صاحب المعرفتين حينئذ (عبد) من حيث معرفتك الأولى التي عرفت بها نفسك الوهمية فعرفت ربك المحقق، وعرفت كونا فعرفت عينا، وعرفت أثرة فعرفت مؤثرة.
(وأنت) أيضا (رب) من حيث معرفتك الثانية التي عرفت بها نفسك الحقيقية عرفت قيوما عليك فعرفت قديمة، وعرفت موجودة وما سواه، فان مضمحل فعرفت حقا، فأنت برسومك عبد وبلا رسومك رب، وأنت عبد وبلا أنت رب فأنت عبد (لمن)، أي للذي (له) خبر مقدم للمبتدأ الثاني (فيه) خبر مقدم أيضا للمبتدأ الأول، أي أنت ظاهر في وجوده بماهيتك المعدومة (أنت) مبتدأ أول (عبد) مبتدأ ثاني، أي أنت عبد لمن أنت فيه عبد له، وهو ربك الظاهر لك في معرفتك الأولى، المعرفة الصفاتية الأسمائية، وأنت رب أيضا لمن أنت فيه عبد له لأنك ارتقيت إلى المعرفة الثانية وهي المعرفة الذاتية، فأنت رب لمن كان ربك في المعرفة الأولى، فالذي تعرفه من الرب سبحانه أنت عبده وهو ربك في المعرفة الأولى.
فإذا تحققت بما لم تكن تعرفه في المعرفة الأولى وعرفته في المعرفة الثانية، فالذي تعرفه في المعرفة الثانية رب لمن كنت تعرفه في المعرفة الأولى، فإذا تحققت بهذه المعرفة الثانية رسخت فيها وعرفت الأمر على ما هو عليه فأنت كامل.
(وأنت رب) من حيث نفسك الحقيقية .
(وأنت عبد) أيضا من حيث نفسك الوهمية فربوبيتك (لمن له في الخطاب عهد) وهو الذي قال : بلى لما قيل : ( ألست بربكم) وعبوديتك أيضا لمن له في الخطاب عهد وهو القائل "ألست بربكم".
والقائل :" ألست بربكم" هو القائل : "بلى" ولكن القول من هذه الحضرة غير القول من هذه الحضرة الأخرى.
وهذا كالقلب فإنه مخاطب اسم فاعل من حضرة ومخاطب اسم مفعول من حضرة أخرى، والقلب بمعنى المصدري هو سبب تسمية القلب الذي هو الحقيقة الإنسانية و "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع" [ق: 37].
وهو الذي وسع الحق دون سمواته وأرضه وإذا وسع الحق فما وسع إلا نفسه، والذي تعرفه بما تسميه قلبك هو في السموات وفي الأرض، فليس هو الذي وسع الحق تعالی فافهم.  وحيث كان الأمر كذلك.
(فكل عقد)، أي اعتقاد في معرفة الحق سبحانه ثابت (عليه)، أي على ذلك العقد (شخص) من الناس وقت من الأوقات (يحله)، أي يحل ذلك العقد ويبطله (من) شخص (سواه)، أي سوى ذلك الشخص الأول (عقد) آخر أي اعتقاد غير ذلك الاعتقاد مع وسع الحق تعالی وضيق الكون عن استيفاء معاني حضراته .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( فرضي الله عن عبيده، فهم مرضيون، و رضوا عنه فهو مرضي. فتقابلت الحضرتان تقابل الأمثال والأمثال أضداد لأن المثلين لا يجتمعان إذ لا يتميزان و ما ثم إلا متميز فما ثم مثل، فما في الوجود مثل، فما في الوجود ضد، فإن الوجود حقيقة واحدة و الشي ء لا يضاد نفسه.
فلم يبق إلا الحق لم يبق كائن ... فما ثم موصول و ما ثم بائن
بذا جاء برهان العيان فما أرى ... بعيني إلا عينه إذ أعاين
«ذلك لمن خشي ربه» أن يكونه لعلمه بالتمييز. دلنا على ذلك جهل أعيان في الوجود بما أتى به عالم. فقد وقع التمييز بين العبيد، فقد وقع التمييز بين الأرباب.)

(فرضي) الله تعالى (عن عبيده) الموصوفين بالعبودية لربوبيته القائمين له بالعبودية في قیومیته عليهم بالربوبية فرضاه عنهم رضاه عن نفسه، لأن ما هو صادر منهم مما يقتضي رضاه عين ما هو صادر منه فمقتضى رضاه منهم عين مقتضی رضاه منه (فهم)، أي عباده المذكورون (مرضيون) عنهم منه (ورضوا) أيضا هم (عنه) بما أعطاهم مما اقتضى رضاهم (فهو) سبحانه (مرضي) عنه منهم.
(فتقابلت الحضرتان) حيث صدر من أحدهما ما صدر من الأخرى فهو رضي وهم رضوا، وهو مرضي عنه، وهم مرضيون عنهم (تقابل)، أي مثل تقابل (الأمثال) الصدور الرضى من كل منهما في حق الآخر، ووقوعه في كل منهما على الآخر
(والأمثال أضداد، لأن المثلين) حقيقة كالبياض والبياض مثلا، والسواد والسواد (لا يجتمعان) أصلا فلو اجتمعا في حال اجتماعهما بقيا مثلين كما كانا أمكن أن يكون في مكان أحدهما ضده، فيجتمع الضدان وهو ممتنع، فلو اجتمع المثلان الكان مثلا واحدة لا مثلين، ولو اجتمع البياضان والسوادان في جرم واحد لكان بياضا واحدا أو سوادا واحدا كما هو مقدر في علم الكلام.
(إذ)، أي لأنهما يعني المثلين (لا يتميزان)، أي لا يتميز أحدهما عن الآخر لوجود ما لكل منهما للآخرة وهما المثلان حقيقة كما ذكر، ولو نقص أحدهما عن الآخر بأمر لم يكونا مثلين، التميز أحدهما عن الآخر بما نقص به أحدهما عن الآخر من ذلك الأمر.
(وما ثمة)، أي هناك، يعني في الوجود (إلا) موجود (متميز عن غيره من جميع الموجودات (فما ثمة)، أي هناك يعني في هذا الوجود (مثل) لغيره أصلا بل كل حقيقة مباينة للأخرى، وإن تقاربت بعض الحقائق مع بعض، فاقتضى ذلك التقارب المحبة، وتباعدت بعض الحقائق عن بعض، فاقتضى ذلك التباعد البغض والنفرة والعداوة .
(فما في) هذا الوجود (مثل) لكل شيء منه أصلا (فما في) هذا (الوجود ضد) لشيء منه أصلا، إذ لا بد من المماثلة من وجه، والمفارقة من وجه فالسواد والبياض ضدان في كون لون أحدهما مباينة للون آخر فقط، وهما مثلان في أن كل واحد منهما لون، وكل واحد منهما حادث، وكل واحد منهما عرض.
وكذلك المثلان كالبياض والبياض والسواد والسواد كل واحد منهما مماثل للآخر في أن هذا بياض، وهذا بياض وهذا سواد وهذا سواد، وهما ضدان في أن كل واحد منهما في جرم غیر جرم الآخر، وكل واحد منهما متصف به شيء غير الشيء المتصف بالآخر فلا مثل ولا ضد، لأن كلا منهما مثل وضد من وجهين .
(فإن الوجود) كله (حقيقة واحدة)، وإن اختلفت منه عليه شؤونه ومظاهره (والشيء) الواحد (لا يضاد نفسه)، أي لا يكون ضد لنفسه ولا يباين نفسه أصلا.
(فلم يبق) حينئذ حيث كانت الوجود كله حقيقة واحدة (إلا الحق) سبحانه وتعالى وحده (لم يبق) معه (كائن)، أي مخلوق من مخلوقاته أصلا، لأن الوجود واحد وقد ظهر من كل محسوس، وكل شيء معقول وصورة كل محسوس وكل معقول ظاهرة من نفس الوجود، ولا بقاء لها كما هو المشاهد بالتغير والزوال، فلا وجود لها وإن ظهرت ثم استترت ثم ظهرت، فإن الظهور لا يلزم منه الوجود كما أن ظهور الشيء بنور غيره لا يمنع من ظلمته في نفسه.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس يوليو 18, 2019 9:07 am

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الثاني :
فقد ظهرت الأشياء بنور الشمس ولا نور لها في نفسها، وقد حققنا هذا في رسالتنا في وحدة الوجود، وإذا لم يكن مع الحق تعالی ?ائن أصلا (فما ثمة)، أي هناك (موصول) بالحق تعالی من ?ل محسوس ومعقول أصلا (وما ثمة)، أي هناك أيضا (بائن)، أي منفصل عن الحق تعالی أصلا من كل محسوس ومعقول ولا يتصور في الحق تعالی شيء في ذلك أصلا.


(بذا)، أي بهذا الأمر المذكور الذي هو انتفاء اتصال شيء بالحق تعالی وانتفاء انفصال شيء أيضا عن الحق تعالی (جاء) إلى قلوب العارفين بالحق تعالی (برهان)، أي دليل (العيان)، أي الكشف والشهود (فما أرى)، أي أشاهد (بعيني) تثنية عين أي غين القلب وعين الوجه والعينين اللتين هما في الوجه أو العين بمعنی الذات وثناهما باعتبار الذات الروحانية والذات الجسمانية والظاهرة والباطنة والغائبة والحاضرة (إلا عينه)، أي ذاته الظاهرة بصورة كل شيء معدوم ولا موجود غيرها، فلا تتغير أصلا، وإن ظهرت بصورة كل شيء كما قال سبحانه : كل شيء مالك إلا وجهه [القصص: 88].
أي إلا ذاته تعالى، وسميت وجها لتوجهها على تكوين كل شيء (إذ)، أي حين (أعاين) من المعاينة وهي الرؤية يعني كلما رأيت شيئا رأيت ذاته تعالى ولا شيء معها كما قال الصديق رضي الله عنه، ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله فيه.
وفي الحديث : «ألا كل شيء ما خلا الله باطل» ، وقال الله تعالى مشيرة إلى الجنة (ذلك)، أي نعيم الآخرة إنما يكون (لمن)، أي للإنسان الذي (خشي)، أي خاف وهاب (ربه)، الذي خلقه وكونه من العدم (أن يكون هو)، أي يقول : أنا هو في نفسه أو يجد ذلك (لعلمه)، أي ذلك الخاشي من ربه (بالتمييز) بينه وبين ربه كما تقدم أنه لا مثل في الوجود فلا ضد، لأن الوجود حقيقة واحدة والشيء لا يضاد نفسه كما أنه لا يماثلها، فلا بد من التميز بالاعتبارات في تلك النفس الواحدة كما قال تعالى: ( "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" ) [النساء: 1]، الآية.


والنفس الواحدة هي نفس آدم عليه السلام وهي واحدة بالنص.
وكثرتها واختلافها بالعوارض الاعتبارية، فقد تميز بعضها عن بعض، ولا يتميز في نفس الأمر.
لأن النفس الواحدة لم تزل في ذاتها واحدة، كما أن النفس تلك النفس الآدمية وهي الحقيقة المحمدية كذلك، كما أن نفس تلك الحقيقة المحمدية وهي الحقيقة الأصلية الإلهية كذلك، ولما كثرت العوارض والاعتبارات على هذه النفوس الثلاثة اختلفت وتعددت بالعرض لا بالذات، ولا بالاعتبار العدمي، لا بأمر له حقيقة الوجود، إذ الوجود واحد لا يتكرر وذلك هو الجنة أمر متميز بالعرض والاعتبار، وكذلك من، فإنها كناية عن الإنسان، وكذلك خشي، فإنه فعل مشتق من الخشية وهي أمر متميز أيضا بالعرض والاعتبار، وكذلك ربه، فإن هذا الاسم ما أطلق على حقيقة الوجود إلا باعتبار أمر آخر.
ومع وجود هذا التمييز لا يكون اتحاد العين أصلا (لما)، أي حين (دلنا على ذلك)، أي وجود التمييز المذكور (جهل أعيان)، أي ذوات إنسانية كثيرة (في) هذا (الوجود) الحاضر (بما)، أي بالعلم الذي ( أتى به عالم).


وقال الخضر لموسى عليه السلام: «ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور بفمه من ماء البحر» فجمع بينه وبينه في المشاركة في العلم الواحد. ثم قال له مرة أخرى: «أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علم?ه الله تعالى لا أعلمه أنا ». الحديث.
فميز بينه وبينه في ذلك العلم الواحد الذي هو كما أخذ العصفور من البحر (فقد وقع التمييز بين العبيد) من عدم التمييز بينهم في أصل الحقيقة، ولكن حيث تذكر القيود ?العبيد فلا بد من اعتبار التميز حتى لا يناقض الأمر (و) حيث وقع التمييز بين العبيد فقد وقع التميير أيضا (بين الأرباب) فرب الجاهل متميز بخصوص تجلي على الجاهل عن رب العالم، وهكذا فالكل متميزون عبيدا وأربابا ، فما في الوجود إلا متميز.
وهذا معنى قوله فيما سبق : فما ثم مثل فما في الوجود مثل.
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( و لو لم يقع التمييز لفسر الاسم الواحد الإلهي من جميع وجوهه بما يفسر الآخر. و المعز لا يفسر بتفسير المذل إلى مثل ذلك،
لكنه هو من وجه الأحدية كما تقول في كل اسم إنه دليل على الذات و على حقيقته من حيث هو. فالمسمى واحد: فالمعز هو المذل من حيث المسمى، و المعز ليس المذل من حيث نفسه و حقيقته، فإن المفهوم يختلف في الفهم في كل واحد منهم:
فلا تنظر إلى الحق ... و تعريه عن الخلق
و لا تنظر إلى الخلق ... و تكسوه سوى الحق
و نزهه و شبهه ... و قم في مقعد الصدق
و كن في الجمع إن شئت ... و إن شئت ففي الفرق
تحز بالكل- إن كل ... تبدى- قصب السبق
فلا تفنى و لا تبقى ... و لا تفني و لا تبقي
و لا يلقى عليك الوحي ... في غير و لا تلقي  ).
 
(ولو لم يقع التمييز) بين الأرباب أيضا كما هو بين العبيد (لفسر) بالبناء للمفعول، أي فسر مفسر (الاسم الواحد الإلهي) بالاسم اللطيف مثلا (من جميع وجوهه)، لأنه قد يشاركه في بعض الوجوه الرحمن والرحيم والجبار، والمتكبر ونحو ذلك. .
ومع هذا لا يفسر بتفسيره (بما يفسر به) الاسم (الآخر) كالاسم المنتقم مثلا (و) الاسم (المعز لا يفسر)، أي لا يجوز تفسيره (بتفسير الاسم المذل)، لأنه على النقيض من معناه (إلى مثل ذلك) من بقية الأسماء الإلهية (لكنه)، أي الاسم الأول (هو)، أي الاسم الثاني.
فالمعز هو الاسم المذل وهكذا في جميع الأسماء (من وجه) حضرة (الأحدية) التي هي الذات العلية (كما تقول في كل اسم) إلهي (إنه)، أي ذلك الاسم (دليل على الذات) الإلهية من وجه (و) دليل أيضا (على حقيقته)، أي حقيقة ذلك الاسم (من حيث هو)، أي من حيث المعنى المفهوم من ذلك الاسم من وجه آخر غير الأول. (فالمسمى) بالأسماء كلها (واحد) من حيث الذات العلية وهو الله تعالى وكثير من حيث اعتبار معنى أسمائه الأزلية فيه.
(فالمعز) من الأسماء الإلهية (هو) الاسم (المذل من حيث) ذات (المسمى) بتلك الأسماء والاسم المعز (ليس هو) الاسم (المذل من حيث نفسه)، أي نفس ذلك الاسم (وحقيقته)، أي مقتضي معناه المفهوم من لفظه (فإن المعنى المفهوم يختلف) باختلاف ألفاظ الأسماء الإلهية (في الفهم في كل واحد منهما)، أي من الاسم المعز والاسم
المذل، وكذلك بقية الأسماء ويتفرع على ما تقدم من الكلام قوله في هذا النظام.
(فلا تنظر) يا أيها العارف بالله تعالى (إلى الحق) سبحانه وتعالى المتجلی علی قلبك بصور جميع ما تدركه من المحسوسات والمعقولات (وتعريه)، أي تجرده عز وجل (عن) ملابس صور (الخلق)، أي المخلوقات على اختلافها بأن تنظر إليه خالية عن صورة شيء من الأشياء، فإن هذا محال عند أهل المعرفة، فإنك إن خليته وجردته عن الصورة الحسية لما تقدر أن تخليه وتجرده عن الصور الخيالية والمعنوية وإن أخليته وجردته عن الكل فأنت معطل له وجاحد لوجوده، ومع ذلك فأنت مثبت له في ملابس الصور الكونية أيضا، فإن نفيه من ذلك كله معنى من المعاني وخيال من الخيالات الفكرية، فقد أثبت له ما نفيت عنه بمجرد نفيك وأنت لا تشعر .


(ولا تنظر) يا أيها العارف أيضا (إلى) شيء من (الخلق)، أي المخلوقات المحسوسة والمعقولة (وتكسوه)، أي تلبسه (سوی) وجود (الحق) سبحانه وتعالى فإن الخلق جميعهم من جهة أنفسهم معدومون، ولولا كسوة وجود الحق سبحانه لهم لما صح انتساب الوجود إليهم، والمراد عدم شهود انفكاك الحق عن الخلق والخلق عن الحق، ولا يلزم من ذلك ما يشكل في عقول القاصرين من لزوم الحلول أو الاتحاد أو الانحلال، لأن تصور الإمكان شيئا من ذلك موقوف على ثبوت وجودين مستقلين، كل واحد منهما قائم بنفسه حتى يتصور أن يحل أحدهما في الآخر أو يختلط به أو يتحد به أو ينحل عنه، ونحو ذلك من وساوس أصحاب الأفكار القاصرين عن درجات علماء الأنوار والأسرار.
وأما إذا كان الوجود حقيقة واحدة مستقلة وجميع ما عداها مما هو صادر عنها أمور عدمية في نفسها، ظهر فيها ذلك الوجود الواحد باعتبار أنه متوجه عليها، فالوجود الذي هو الثبوت والتحقق الظاهر لكل شيء محسوس أو معقول هو الوجود الواحد الذي هو عين تلك الحقيقة الواحدة والزائد عليه مما هو مسمي باسم كل شيء لا وجود له أصلا من نفسه، فلا يشكل عليه إشكال أصلا.


(ونزهه)، أي قل بتنزيهه سبحانه وتعالى وتبعيده و تقدیسه عن مشابهة كل شيء محسوس أو معقول، واعتقد ذلك في نفسك ولا تقتصر عليه فقط فيدخل التعطيل في اعتقادك كما ذكرنا (وشبهه) أيضا سبحانه وتعالى مع ذلك، أي قل واعتقد أنه عز وجل ظاهر بصورة كل شيء قد نزهته عنه من محسوس ومعقول، ولا تقتصر على ذلك وحده فتكون من المجسمة الضالة المضلة ، بل اجمع بينهما يخرج لك الحق منهما من بين فرث ودم لبنا خالصة سائغا للشاربين، ولا تظن أن هذا أمر متناقض،
لأنه تعالى إذا كان في نفسه على ما هو عليه منزه عن مشابهة كل شيء لا يمتنع مع ذلك أن يكون ظاهرة بصورة كل شيء، قد تنزه عنه ظهورة وهمية عند الحس والعقل، لأن جميع المخلوقات بالنسبة إليه تعالى أمور وهمية خيالية لا حقيقة لها ولا وجود لها أصلا في نفسها كما ذكرنا ، فإذا ظهر تعالى كما هو ظاهر كذلك بأي صورة شاء، أو بأي صور شاء.
أو لجميع الصور على حسب ما يشاء سبحانه، وذلك الظهور المصور بعضها عن بعض، فلا مانع من ذلك مع كمال تنزهه في نفسه تبارك وتعالى، وكمال تقدیسه عما تدركه العقول أو تعرفه العارفون، بل لا بد من ذلك عند أصحاب المعرفة وأرباب الحقائق القائمين بالبواطن والظواهر في الشرائع والطريق.
(وقم) أمر من الإقامة وهي اللزوم وعدم الانتقال (في مقعد)، أي موضع القعود (الصدق) وهذا ضد الكذب ويشمل الأقوال والأفعال والأحوال.


قال تعالى : "إني ألمتقين في جنات و نهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر" [القمر: 54 - 55].
فالجنات جمع جنة من الاجتنان وهو الستر، ولا شك أن الصور الحسية والعقلية أستار للحقيقة الإلهية كما ذكرنا في التشبيه .
والنهر: من النهر بالسكون وهو الشق وخرق حجاب الغفلة عن عين البصيرة، شق فهو نهر .
ومقعد الصدق دوام الاطلاع على شهود الغيب مع الرسوخ في أحكام الشهادة تقتضي الغيبة والاستغراق عن مشاهدة المحسوسات والمعقولات من جهة كونها محسوسات ومعقولات والمليك أبلغ من الملك، والعندية لزيادة الحرف فهو المستولي على جميع المحسوسات والمعقولات.
والمقتدر : الذي يخلق بأسباب وآلات، بخلاف القادر : فإنه الذي يخلق بلا سبب ولا آلة.
والحق تعالى وإن كان لا يتوقف فعله وتخليقه على سبب ولا آلة، ولكنه تعالی جرت عادته أن يخلق بأسباب وآلات مع عدم الاحتياج إليها أصلا، وقد خلق الموجود الأول من غير سبب ولا آلة، فذلك المخلوق الأول عبد القادر، وكل ما عداه من المخلوقات عبد المقتدر، وهذا جهة التنزيه ، لأنه إثبات المغيب ولاستيلائه على عالم الشهادة مع كمال اقتداره.
فمقعد الصدق : تنزیه وتشبيه، غيب وشهادة ، حق وخلق، أول وآخر، ظاهر وباطن، وهو بكل شيء عليم.
فعلمه لم ينفك عن كل شيء فهو ظاهر بكل شيء ولم يرد أنه تعالی عالم بذاته وصفاته وأسمائه على الخصوص في العلم غير مثل هذه الآية، لأنه إذا علم كل شيء فقد علم ذاته وصفاته وأسماؤه.
فكل شيء مخلوقه وكل شيء معلومه وهو الظاهر بكل شيء كما قال : وخلق كل شيء، وهو بكل شيء عليم، وإليه الإشارة بقوله سبحانه : " إنا كل شيء خلقته بقدر"  [القمر: 49]. في قراءة من رفع كل على أنه خبر إنا فهو التشبيه والتنزيه الذي أشار إليه الشيخ قدس سره .
(وكن) يا أيها العارف (في) مقام (الجمع) بشهود الحق تعالی ولا شيء معه (إن شئت)، أي أردت ذلك (و) كن (إن شئت ففي) مقام (الفرق) بشهود الخلق فالجمع من اسمه تعالى الأول، والفرق من اسمه الآخر والجمع من اسمه الظاهر والفرق من اسمه الباطن.

(تحز) من حاز إذا جمع ونال (بالكل)، أي بالجمع وبالفرق إذا كنت في هذا تارة وفي هذا تارة أخرى ولم تقتصر على أحدهما فقط، لأن كل واحد منهما مذموم شرعا إذا اقتصر عليه العبد، فالجمع وحده زندقة والفرق وحده شرك (إن كل)، أي كل واحد منهما.

(تبدی)، أي انكشف لك وظهر (قصب) مفعول تحز واحدها قصبة (السبق)، أي المسابقة، وكان العرب يغرزون قصبات في طرف الميدان و يتراكضون بالخيول، فكل من سبق أخذ تلك القصبات فحاز قصب السبق، وهو هنا استعارة للظفر والفوز بالمراتب العالية والمقامات السامية.

(فلا تفنى)، أي تنمحي وتضمحل فقط في الجمع، وتدوم على المحافظة في ذلك، فإنك تصل إلى الزندقة ونفي الشرائع وإلغاء الأحكام وتسفيه الخطابات الإلهية (ولا تبقى)، أي تثبت بنفسك موجودة على الاستقلال بالحركات والسكنات فقط أيضا في الفرق.
وتدوم على المحافظة في ذلك، فإنك تصل إلى الشرك بالله تعالی وادعاء التأثير في ملك الله تعالی و منازعة الربوبية في أحكامها على العباد .

(ولا تفني) بضم التاء المثناة فوق من أفناه متعدية إذا أعدمه و محقه، أي تعدم غيرك من كل محسوس ومعقول و تمحقه من عين البصيرة والبصر وتقف عند ذلك فقط، فإن فيه نفي ما يجب الإيمان به من الأنبياء والكتب والملائكة والآخرة وغير ذلك وهو كفر (ولا تبقي) بضم المثناة فوق أيضا من أبقاه إذا اعتقد بقاءه وثبوته ووجوده بنفسه.
أي لا تعتقد قيام شيء بنفسه وثبوته بحوله وقوته من دون ملاحظة القيومية الإلهية على كل شيء وتقف عند ذلك فقط، فإن ذلك شرك بالله تعالى وادعاء وجود إله آخر بل آلهة أخرى مع الله تعالى في ملكه، فإنه لا يقوم بنفسه إلا الإله لا المخلوق، واعتقاد ذلك في شيء من الأشياء كفر لا محالة، ولولا خفاء هذا المعنى في نفوس أهل الغفلة وإظهارهم الاعتراف بافتقار كل شيء إلى الحق سبحانه في كل لمحة بألسنتهم لحكم الشرع بكفرهم.
(ولا يلقي) بالبناء للمفعول، أي لا يلقي الله تعالى (عليك) يا أيها العارف
(الوحي)، أي الإلهام الفائض من حضرة القدس والجناب الإلهي (في غير) من الأغيار أصلا، إذ الأغيار بسبب رؤيتك الأشياء بعين الغفلة والاغترار ومع وجود الوحي الإلهامي لا غفلة ولا اغترار فلا أغيار (ولا تلقي) بضم التاء الفوقية، أي لا تلقي أنت الوحي الإلهامي والفيض الرحماني على غير من الأغيار أصلا، ومتى سمع كلامك أحد من الناس وكان عند نفسه غير من الأغيار بأن كان غافلا عن شهود الحق تعالى فإنه لا يفهم كلامك ولا ينتفع بما تلقي عليه من علومك وإن حفظ العبارات، فإنه بعيد عن فهم الإشارات

ثم قال من تتمة حكمة إسماعيل عليه السلام قوله:
قال الشيخ رضي الله عنه : ( الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، و الحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات فيثني عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز. «فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله» لم يقل و وعيده.
بل قال «و نتجاوز عن سيئاتهم» مع أنه توعد على ذلك. فأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد. و قد زال الإمكان في حق الحق لما فيه من طلب المرجح.
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ... و ما لوعيد الحق عين تعاين
و إن دخلوا دار الشقاء فإنهم ... على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد ... و بينهما عند التجلي تباين
يسمى عذابا من عذوبة طعمه ... و ذاك له كالقشر و القشر صاين ).

(الثناء)، أي المدح إنما يكون (بصدق)، أي إنجاز (الوعد) وهو مخصوص بالثواب والخير يقال: وعده وعدة جازاه بالخير (لا) الثناء والمدح (بصدق)، أي إنجاز (الوعيد) وهو مخصوص بالعقاب والشر يقال و عده وعیدا جازاه بالشر .
قال الشاعر من الحماسة:
وإني وإن أوعدته أو وعدته  ….. لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فقد مدح نفسه وأثنى عليها بأنه إن توعد أحدة بوعيد في الشر أخلفه ولم يوفي به، وإن وعد أحدا بوعد في الخير أنجزه و وفی به. وهذا من أخلاق الكرام وصفات الأكابر العظام.
(والحضرة الإلهية) حضرة الحق تعالی (تطلب) من العباد أو بحسب رتبتها وهو الكمال المطلق الذاتي (الثناء)، أي المدح (المحمود)، أي الثناء الجميل بما هو أهل له (بالذات) متعلق بتطلب ، أي طلبها ذلك طلبة ذاتية، لأنه مقتضی الألوهية والربوبية بالنظر إلى المألوه والمربوب (فیثنی) بالبناء للمفعول.
أي يثنی المثنى من الخلق (عليها)، أي على الحضرة الإلهية (بصدق الوعد)، أي إنجازه والوفاء لأهله (لا) يثني عليها (بصدق الوعيد) في الشر وإنجازه لأهله ولا يلزم من ذلك وقوع الكذب في خبر الله تعالى .

وقد قال الله تعالى : "ومن أصدق من الله قيلا" [النساء: 122]، لأن الصدق والكذب من صفات الخبر.

والوعد والوعيد من قبيل الإنشاءات، لأن المراد بهما الإيقاع في المستقبل لا الإخبار بالوقوع فيه، وإن ورد في النصوص بصيغة الخبر فبقي الوعد والوعيد على احتمال الوقوع وعدمه وصاحبه مخير في ذلك على السواء، لكن لما كان إنجاز الوعد في الخير ثناء محمودة امتنع عدمه لاقتضاء الحضرة الإلهية للثناء المحمود، وكان إنجاز الوعيد في الشر ليس ثناء محمودة فلم يمتنع عدمه وأمكن جوازه، ولئن كان إخبارة عن الإيقاع في المستقبل، فلا يقبح من الله تعالى شيء أصلا كما لا يقبح الإضلال فإنه تعالى يضل من يشاء خصوصا، وعدم الصدق في الوعيد خير وكرم كما مر.

(بل) يثني عليها، أي على الحضرة الإلهية (بالتجاوز) والعفو والصفح عن الذنوب. قال تعالى في صدق الوعد ("فلا تحسبن") یا محمد صلى الله عليه وسلم ("الله") تعالى الذي وعد رسله بالنصر على الأعداء ("مخلف" )، أي غير منجز (" وعده") في الخير والجزاء الحسن ("رسله") [إبراهيم: 47] .

الذين أرسلهم الله إلى الخلق 
(ولم يقل) سبحانه وتعالى بعد قوله وعده (و وعیده)، فلا نص في عدم خلف الوعيد وإنما النص في عدم خلف الوعد (بل قال تعالى) في خلف الوعيد وفي التجاوز والعفو (ونتجاوز)، أي نصفح (عن سيئاتهم)، أي ذنوبهم فضلا وكرما (مع أنه) تعالی (توعد)، أي جاء الوعيد بالشر منه سبحانه (على ذلك)، أي فعل السيئات، فهذا النص في خلف الوعيد.
(فأثنى) سبحانه وتعالى (على إسماعيل) عليه السلام، أي مدحه تعالی با (" إنه كان صادق")، أي صادقا في (الوعد) كما قال تعالى عنه عليه السلام : " إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا " [مريم: 54] وهو ثناء منه تعالی على مخلوق من مخلوقاته، وهو تعالی أحق بهذا الثناء من كل مخلوق، وهو أولى بالتجاوز والكرم.
ولا شك أن الذي أثنى عليه تعالى بأنه صادق الوعد عبد ممكن حادث قائم برب واجب قدیم (وقد زال)، أي فني واضمحل (الإمكان) وهو الصورة العبدية المسماة من حيث الظاهر بذلك الاسم (في حق)، أي شأن (الحق سبحانه) وتعالى الذي كان قائمة على تلك النفس بما كسبت (لما)، أي لأجل ما (فيه)، أي في الإمكان (من طلب المرجح)، أي الفاعل والعلة، وذلك أمر زائد في الوجود وحينئذ.

(فلم يبق) في الوجود (إلا صادق الوعد) من قوله تعالى : ولا "كان صادق الوعد" (وحده)، وزال كان لأنها زمانية والزمان عرض ممكن واسمها المستتر وهو ضمیر إسماعيل عليه السلام، لأنه ممكن أيضا.
وقد زال الممكن وبقي الواجب وهو الله تعالى، فكان ثناء منه تعالى على نفسه سبحانه بأنه "صادق الوعد" (وما لوعيد الحق) تعالى في الشر (عين)، أي حقيقة (تعاين) بالبناء للمفعول من المعاينة وهي التحقق، أي ليس الوعيد بأمر محقق بل هو موهوم كأحوال أهل الوعيد في الدنيا فإنهم في التباس من الحق تعالی، واشتغال بالباطل الموهوم فجزاؤهم في الآخرة كذلك، لأنه عين أعمالهم كما قال عليه السلام: «إن هي إلا أعمالكم تحصى لكم فترد عليكم».

فالنار والعذاب والزبانية والحميم والحيات والعقارب والسلاسل والأغلال، كل ذلك كائن إلى أبد الآبدين في حق الكافرين وإلى أمد معلوم في حق عصاة المؤمنين.
ولكن كل ذلك نظير أحوالهم في الدنيا وأعمالهم وما التبس عليهم واشتغلوا به من الأباطيل؛ ولهذا يبقون فيه ولا يفنون ولا ينمحقون، فالقوة الواهمة هي المستولية عليهم في الحياة الدنيا .
وفي الآخرة بالعكس من أهل الجنة، فإن الوهم ليس له استيلاء على أحد من أهل الجنة في الدنيا ولا في الآخرة لملازمة التحقيق ومتابعة الحق والمداومة في الصدق، فجزاؤهم هوالحق على ما عملوا من الحق.
(وإن دخلوا)، أي أهل الوعید (دار الشقاء) في يوم القيامة وهي جهنم (فإنهم) يبقون فيها كما ورد في حقهم من أنواع العذاب، ولكنهم بعد ذهاب استيلاء الوهم

عليهم وتحققهم في أنفسهم بوضع الجبار قدمه كما ورد في الحديث: «لا تزال النار يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع الجبار قدمه فيها فتقول قط قط " إلى آخره، أي يكفي يكفي (على لذة فيها)، أي في دار الشقاء لموافقة أمزجتهم لذلك وهو (نعیم) آخر (مباین)، أي مخالف (نعیم جنات)، أي جنات (الخلد) فلكل قوم نعيم يليق بهم ويذوقونه دون الآخرين.
(فالأمر) الإلهي (واحد) في أهل النار وفي أهل الجنة وعند الفريقين لذة ونعيم باعتبار شهود الأمر الواحد والممد الواحد الذي قال : "كلا نمد هؤلاء وهؤلاء"  [الإسراء: 20] .
(وبینهما)، أي بين نعيم أهل النار ونعيم أهل الجنة (عند التجلي) على أهل النار الذي كني عنه بوضع القدم كما مر في الحديث (تباين) أي تباعد، فنعيم أهل النار صورته صورة عذاب ونكال وحميم وسلاسل وأغلال، ونعيم أهل الجنة صورته صورة تمتع بالحور والولدان والقصور وأنواع اللذائذ، فنعيم أهل النار نعیم روحاني، ونعيم أهل الجنة نعیم جسماني، وذلك بعد استغاثتهم من العذاب وقولهم: يا مالك ليقض علينا ربك، من كثرة استيلاء الأوهام على نفوسهم كما كانوا في الدنيا جزاء وفاقا .

فإذا تحققوا بوضع القدم زال ذلك عنهم وانطبقت عليهم جهنم، وتلذذوا بالعذاب حيث كان معروفا عندهم على التحقيق أنه صادر من المحبوب الحقيقي الذي هو رب الأرباب، فإن لذة أهل الجنة في تعذيب المحبوب لهم، وتعذيبه يرونه عذبة ولا يحسون بالألم فيه.
وكذلك أهل النار إذا كشف عنهم الحجاب فالعذاب بمعنى الألم، والعقوبة إنما هو في الحقيقة نفس الحجاب الذي كانوا محجوبین به وذلك في الدنيا، وفي القيامة فقط .
كما قال تعالى :"إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" [المطففين : 15]، أي في يوم القيامة، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار انقضى يوم القيامة، وجاء يوم الخلود .
كما قال تعالى: " ذلك يوم الخلود"  [ق: 34]، فإذا زال الحجاب بالتجلي على أهل النار، المكنى عنه في الحديث بوضع القدم، والمشار إليه في قوله تعالى : "فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " [الحديد: 13] الآية.
فالباطن الذي فيه الرحمة هو التجلي، والعذاب في الظاهر، فعند ذلك ينقلب العذاب عذوبة لهم مع بقائه كما كان على الأبد.
ولهذا قال:
(یسمی)، أي ذلك العذاب عذاب أهل النار (عذابا ) مشتقا (من) العذوبة وهي الحلاوة لأجل (عذوبة طعمه) في أذواقهم وإن بقيت عينه في الظاهر معاقبة وإيجاعا (وذاك)، أي ما هو في الظاهر من صورة المعاقبة (له)، أي لما في الباطن من اللذة والعذوبة.
(كالقشر) الذي يكون للبوب والحبوب (والقشر صائن)، أي حافظ ساتر لما في داخله من اللب، وذلك بعد استيفاء مدة ما هم فيه من استيلاء الأوهام على خیالاتهم الفاسدة حتى يتحققوا بالواحد الحق في كل ما التبس عليهم فيه، ويشهدونه في الظواهر والبواطن، ويرجعون إلى ما كانوا فيه من البواطن .

وهذه المسألة من الأسرار ولا طريق إليها من جانب أهل العقول والأفكار، وليس فيها مصادمة شيء من ظواهر أحكام الشريعة، ولا مخالفة لما عند علماء الظاهر بحسب الظاهر أن أسرار البواطن مستورة عن المقيد بأغلال الطبيعة .

تم فص الحكمة الإسماعيلية.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الأول .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس يوليو 18, 2019 9:23 am

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الأول .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية
هذا نص الحكمة اليعقوبية، ذكره بعد حكمة إسماعيل عليه السلام لبيان أن ما ذكره في حكمة إسماعيل عليه السلام من الدين الذي هو عند الله تعالى وعند من هو عند الله لا من الدين الذي عند الخلق، ولأن يعقوب عليه السلام ابن إسحاق فناسب أن يذكر الولد بعد أبيه وإن فصل بأخيه إسماعيل عليه السلام احتراما للعمومة وتتميما للنعمة الموهوبة لإبراهيم عليه السلام حيث قال كما حكى الله تعالی عنه : "الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق" [إبراهيم: 39].
(فص حكمة روحية) منسوبة إلى الروح كما مر بیانه (في كلمة يعقوبية) إنما اختص يعقوب عليه السلام بالروحية، لأنه كان الغالب على يعقوب عليه السلام الميل إلى الجمال ومحبة الحسن الظاهر في الصور الكونية، وهذا حظ الروح ولذة الروحانيين . ولهذا ورد أن نعيم الملائكة عليهم السلام رؤية الوجوه الحسان والتمتع بمشاهدة ذلك من غير شيء زائد على ذلك من شهوة بطن أو فرج، فإن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون.
وكان يعقوب عليه السلام روحانية من غلبه استيلاء الروح على باطنه ولهذا أحب ابنه يوسف عليه السلام وهام قلبه به، لأن يوسف عليه السلام أعطي شطر الحسن كما ورد في الحديث .
قال الشيخ رضي الله عنه : (الدين دينان، دين عند الله وعند من عرفه الحق تعالى ومن عرف من عرفه الحق. ودين عند الحق، وقد اعتبره الله. فالدين الذي عند الله هو الذي اصطفاه الله وأعطاه الرتبة العليا على دين الخلق فقال تعالى «ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون»: أي منقادون إليه. )

(الدين)، أي الملة والشريعة والحق الذي ينقاد إليه أهل الإسلام من أمة محمد عليه السلام إذ أديان الكفر كثيرة (دینان) الأول (دین) هو (عند الله)، أي في حضرته سبحانه وتعالى لا يعامل خلقه إلا بمقتضاه في الدنيا والآخرة (وعند كل من عرف) به (الحق تعالی) بأن ألهمه إياه كما ورد في الحديث «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويلهمه رشده» رواه الطبراني وأبي نعيم وابن السري وغيرهم .
(و) عند أيضا (من عرفه من عرف الحق) كاتباع الأولياء رضي الله عنهم من المريدين الصادقين .
(و) الثاني : (دین) هو (عند الخلق)، أي المخلوقين وهم عوام المؤمنین غیر الأولياء العارفين واتباعهم في قدم الصدق إلى يوم الدين (وقد اعتبره)، أي هذا الدين الثاني (الله تعالى وألزم أهله به وقبله منهم وجازاهم عليه وإن لم يكن هو الدين الذي عنده سبحانه كما سيأتي (فالدين) الأول (الذي) هو (عند الله) تعالى وعند من عرفه الله تعالی به وعند من عرف من عرفه الله تعالى كما مر (هو) الدين (الذي اصطفاه)، أي استخلصه الله تعالى به، وجعله صفوة، أي خلاصة من بين جميع الأديان .
(وأعطاه) سبحانه (الرتبة)، أي المنزلة (العلية)، أي الرفيعة (على) الدين الثاني الذي هو (دین الخلق فقال) الله (تعالی): "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإليه في الآخرة لمن الصالحين . إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " [البقرة : 130-131].
(ووصى بها)، أي بالملة المذكورة وبقوله : "أسلمت لرب العالميين" على معنى الكلمة ("إبراهيم") عليه السلام ("بنيه")، أي أولاده : إسماعيل وإسحاق عليهما السلام ("ويعقوب" ) معطوف على إبراهيم عليه السلام، أي وصى یعقوب أيضا بنیه بها وصورة تلك الوصية قول أبيهما ("يابني")، أي يا أولادي .
("إن الله") سبحانه (" اصطفى")، أي اختار وانتقي ("لكم") من بين سائر الأديان ("الدين") الذي عنده سبحانه وبيانه ("فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون" [البقرة : 132]، أي منقادون) مستسلمون (إليه) سبحانه لا حول لكم ولا قوة إلا به عن كشف منكم لذلك وشهود لا بمجرد التصديق بذلك مع الغفلة.

قال الشيخ رضي الله عنه : (وجاء الدين بالألف واللام للتعريف والعهد، فهو دين معلوم معروف وهو قوله تعالى «إن الدين عند الله الإسلام» وهو الانقياد. فالدين عبارة عن انقيادك. والذي من عند الله تعالى هو الشرع الذي انقدت أنت إليه.
فالدين الانقياد ، والناموس هو الشرع الذي شرعه الله تعالى. فمن اتصف بالانقياد لما شرعه الله له فذلك الذي قام بالدين وأقامه، أي أنشأه كما يقيم الصلاة. فالعبد هو المنشئ للدين والحق هو الواضع للأحكام. فالانقياد هو عين فعلك، فالدين من فعلك.
فما سعدت إلا بما كان منك. فكما أثبت للسعادة لك ما كان فعلك كذلك ما أثبت الأسماء الإلهية إلا أفعاله وهي أنت وهي المحدثات. فبآثاره سمي إلها و بآثارك سميت سعيدا. )

(وجاء الدين) في قوله : " أصطفى لكم الدين" (بالألف واللام للتعريف والعهد) الذهني أو الذكري بلفظ الملة فإنها ترادفه (فهو دين معلوم) عندهم (معروف) بينهم بحيث لا يحتاج إلى بيان (وهو قوله تعالى :" إن الدين ") الكامل الحق ("عند الله الإسلام") (وهو) [آل عمران: 19]، أي الإسلام معناه (الانقياد) لله تعالی بامتثال جميع أوامره واجتناب جميع مناهيه بحوله سبحانه وقوته لا بحول العبد وقوته كما ورد في بعض خطب النبي صلى الله عليه وسلم : «الحمد لله المحمود بنعته المعبود بقدرته»
(فالدين) الذي هو عند الله وهو دين الإسلام (عبارة عن انقیادك)، أي استسلامك وإطاعتك لله سبحانه، في كل ما ورد عنه سبحانه به سبحانه لا بنفسك .
(و) أما الدين (الذي) جاء (من عند الله) إلى الخلق فإنه (هو الشرع الذي انقدت)، أي أطعته واستسلمت (أنت) يا أيها المكلف به (إليه) لا نفس الانقياد الحاصل منك فقد فهمت أحكاما إلهية، وعلمتها وعملت بها على حسب ما تريد فهي الشرع الذي خاطب الله تعالى بها جميع المكلفين .
(فالدين) هو (الانقياد) منك لما شرع لك (والناموس)، أي القانون الوضعي الإلهي (هو الشرع) المحمدي (الذي شرعه) أي بينه وأوضحه ( الله تعالی له ) لعباده على ألسنة الوسائط.
قال تعالى : "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم" [الشورى: 13]، الآية .
(فمن اتصف) من المكلفين (بالانقياد)، أي التسليم والامتثال (لما شرعه)، أي بينه وأوضحه (الله تعالى له) من الاعتقادات والعمليات (فذلك) هو العبد (الذي قام بالدين المحمدي) على وجه العدل (وأقامه) يعني أقام الدين (أي أنشأه)، وأتى به على وجه الكمال قال تعالى : "أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا" [الشورى : 13].
وقال عليه السلام: «الصلاة عماد الدين فمن أقامها فقد أقام الدين ومن تركها فقد هدم الدين»، (كما يقيم الصلاة)، أي ينشئها ويفعلها على أكمل الوجوه  (فالعبد) المكلف (هو المنشيء)، أي العامل الفاعل (للدین)، لأن الاعتقادات الصحيحة وترك الباطل منها يصدر عنه بخلق الله تعالى له ذلك، وكذلك جميع الأعمال البدنية فعلا وكفا صادر منه، والله تعالى خلق لجميع ذلك فيه، فالفاعل العامل متصف بما فعله وعمله والخالق غير متصف بذلك (والحق) تعالی (هو الواضع للأحكام) الشرعية التي ينشئها العبد بفعله وعمله، كما ذكرنا .
(فالانقياد) لجميع ذلك والقيام به (عين فعلك) يا أيها المكلف (فالدين من فعلك، فما سعدت) يا أيها المكلف (إلا بما كان منك) من الدين، والدین انقیادك فهو عملك فما سعدت إلا بعملك (فكما أثبت السعادة في الدارين (لك ما كان فعلك) من الدين (كذلك ما أثبت الأسماء الإلهية له تعالى إلا أفعاله) في مخلوقاته بما يريد على مقتضی حكمته البالغة، فلولا فعله ما ظهر اسمه سبحانه، فأفعالك أثبتت لك السعادة، وأفعاله أثبتت له الكمال، وأفعاله من جملة كماله.
فكذلك أفعالك من جملة كمالك (وهي) أي أفعاله التي أثبتت له الأسماء وأظهرتها بإظهار آثارها (أنت) يا أيها المكلف، أي ذاتك وصفاتك في ظاهر و باطنك وجميع أفعالك في الخير والشر (وهي)، أي أفعاله جميع (المحدثات) أيضا، أي المخلوقات المحسوسة والمعقولة.
و (فبآثاره)، أي مخلوقاته الصادرة عنه من حضرات أسمائه وصفاته (سمي) سبحانه وتعالى (إلها)، أي معبودة بحق في السموات والأرض، لأنه سبحانه ما استحق العبادة إلا من كونه خالقا و رازقا إلى آخر أسمائه ، فعنده حاجة كل عبد فهو الإله الحق وما عداه من الآلهة باطل، لأنه لا تأثير له في شيء أصلا.
كما قال تعالى :" قل أتعبدون من دون" [المائدة: 76]، " ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون" [الأعراف : 191] الآية .
(وبآثارك)، أي أفعالك الصادرة عنك بسبب اتصاف بصفات المعاني وهي:
الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام.
وبالصفات المعنوية أيضا ، وهي: كونك حيا وعالما وقادرا ومريدا وسميعا وبصيرا ومتكلما إلى غير ذلك من الصفات بخلق الله تعالی فيك جميع ذلك.
ولا تأثير لك أصلا مباشرة ولا تولدة (سمیت) يا أيها المكلف (سعيدا) في الدنيا والآخرة، وكذلك تسمى شقية بآثارك في نقيض الخير من أنواع الشر.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فأنزلك الله تعالى منزلته إذا أقمت الدين وانقدت إلى ما شرعه لك. فأنزلك الله تعالى منزلته إذا أقمت الدين وانقدت إلى ما شرعه لك.
وسأبسط في ذلك إن شاء الله ما تقع به الفائدة بعد أن نبين الدين الذي عند الخلق الذي اعتبره الله.  فالدين كله لله وكله منك لا منه إلا بحكم الأصالة. قال الله تعالى «ورهبانية ابتدعوها» وهي النواميس الحكمية التي لم يجيء الرسول المعلوم بها في العامة من عند الله بالطريقة الخاصة المعلومة في العرف.)

(فأنزلك)، أي أقامك الله (تعالی منزلته)، أي في مقامه (إذا أقمت)، أي أدمت القيام (في الدين) وهو الطاعة في الظاهر والباطن (وانقدت)، أي استسلمت (إلى ما شرعه)، أي بينه وأوضحه الحق تعالی (لك) يا أيها المكلف من الأحكام.
(وسأبسط)، أي أطيل الكلام في ذلك الأمر المذكور (إن شاء الله تعالی ما)، أي الذي أو شيئا (تقع به الفائدة)، أي الانتفاع للمريدين والأتباع (بعد أن نبين)، أي نشرح النوع الثاني من الدين كما مر وهو (الدين الذي عند الخلق)، أي المخلوقين (الذي اعتبره الله) تعالى، أي قبله ممن أتى به عاجزا عن غيره، لأنه مقدار الطاقة .
قال تعالى: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " [البقرة: 286] (فالدين كله)، أي الانقياد والطاعة إما لأمر الله تعالى كما في النوع الأول أو بمقدار وسع النفس من ذلك كما في النوع الثاني (الله تعالی). أما في الأول فلأنه منه وإليه قال تعالى :
"وإليه ترجع الأمر كله" [هود: 123]، وقال تعالى في سادات هذا النوع الأول: "وهم بأمره، يعملون" [الأنبياء: 27] "وما فعلته عن أمري" [الكهف: 82] "يا أيتها النفس المطمئنة " [الفجر: 27].
أي على أمر الله تعالی بعد قوله في موضع آخر: "إن النفس لأمارة بالسوء" [يوسف: 53].
وأما في الثاني فلأنه كان بقصده تعالی فعلا وكفا كما قال سبحانه: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " [البينة: 5] الآية .
(و) الدين (كله) أيضا ناشيء (منك) يا أيها المكلف لأنك أنت الذي تنقاد الحكمه سبحانه عليك وتطيعه في الأمر والنهي به سبحانه أو بنفسك، والدین هو الانقياد والطاعة كما ذكر (لا) ناشئا (منه ) سبحانه، لأنه هو الخالق لجميع أفعالك، الا هو المتصف بكونه فعلها.
وأنت المتصف بكونك فعلتها ولست خالقا لها كأعضائك، فيدك مثلا ما خلقتها أنت بل هو الخالق لها فيك وهي يدك لا يده، لأنه خلقها لك لتكون من أعضائك، وكذلك رجلك، وفمك ونحو ذلك ومثل هذا أعمالك كلها كما أوضحنا في كتابنا المطالب الوفية وغيره في عقائد العامة من المؤمنين (إلا بحكم الأصالة)، فإن الدين كله منه سبحانه ، لأنه الخالق للعبد وأفعاله كلها له، وحكمة ذلك ليظهر هو سبحانه بما شاء من مظاهر أسمائه وصفاته بمقتضی أسمائه وصفاته، فالأصل هو الظاهر لا غير والفرع الاعتباري هو العبد المكلف .
(قال تعالى) في حق هذا النوع الثاني من الدين وهو الدين الذي عند الخلق (ورهبانية) من الرهبة وهي الخوف، فكأنها حالة أو أعمال منسوبة إلى الرهبة، لأنهم ما اتصفوا بها وعملوها إلا من رهبتهم وخوفهم عقاب الله لهم في الآخرة.
وكانت هذه في ملة عيسى عليه السلام قبل أن تنسخ ثم جاءت في ملتنا في حق العموم (ابتدعوها)، أي اخترعوها بتحسين عقولهم ما ينبغي أن تكون عليه من الكميات والكيفيات والاتصاف بها والقيام بمقتضاها، وإن استندوا في فهم ذلك كله بعقولهم إلى ما خيلت لهم كلمات الكتاب والسنة من المعاني، وقاسوا بعضها على بعض، وقد قبل منهم ذلك وإن كان خطأ، لأنه غاية وسعهم كما قال عليه السلام من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد». رواه ابن حبان والحاكم و أبو داود.
(وهي)، أي الرهبانية المذكورة (النواميس)، أي القوانين (الحكمية)، أي المنسوبة إلى حكمة الحكماء وهم علماء العقول والأفهام الدقيقة التي نعت للنوامیس (لم يجيء الرسول إلى العباد (المعلوم) في كل زمان إلى زمان رسولنا محمد عليه السلام (بها)، أي بتلك النواميس (في) حق (العامة) أي عامة الناس (من عند الله) تعالى (بالطريقة الخاصة) أي بالوحي النبوي (المعلومة) من الأنبياء عليهم السلام في العرف)، أي اصطلاح أهل كل زمان وكان في زمان عيسى عليه السلام حكماء ماهرون كجالینوس وأفلاطون الإلهي وأرسطاطالیس وغيرهم ولهم نواميس و قوانین اخترعوها لما لم يبق في الفترة دین عیسى علیه السلام .
وبعد رفع عیسی علیه السلام اخترع الرهابين أيضا من أمة عيسى عليه السلام لما ساحوا في الأرض وفروا من ملوك زمانهم رهبانية استحسنوها بعقولهم تعظيما لملة عيسى عليه السلام وقيامها بها على زعمهم فهي النواميس المذكورة .
وفي هذه الأمة أيضا عند العباد والزهاد ما يضارع ذلك من القوانين العقلية في الامتثال والاجتناب، اخترعوها جهلا منهم بالأحكام الشرعية المحمدية، أو استحسانا بآرائهم الخسيفة وطبائعهم الكثيفة من زيادات ونقصان في أحكام الله تعالی مشرعة بأصلها دون وصفها وبالعكس.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( (فلما وافقت الحكمة والمصلحة الظاهرة فيها الحكم الإلهي في المقصود بالوضع المشروع الإلهي، اعتبرها الله اعتبار ما شرعه من عنده تعالى، «و ما كتبها الله عليهم».
ولم فتح الله بينه وبين قلوبهم باب العناية والرحمة من حيث لا يشعرون جعل في قلوبهم تعظيم ما شرعوه يطلبون بذلك رضوان الله على غير الطريقة النبوية المعروفة بالتعريف الإلهي.
فقال: «فما رعوها»: هؤلاء الذين شرعوها وشرعت لهم: «حق رعايتها» «إلا ابتغاء رضوان الله» وكذلك اعتقدوا، «فآتينا الذين آمنوا» بها «منهم أجرهم» «وكثير منهم»: أي من هؤلاء الذين شرع فيهم هذه العبادة «فاسقون» أي خارجون عن الانقياد إليها والقيام بحقها.  ومن لم ينقد إليها لم ينقد مشرعه بما يرضيه. لكن الأمر يقتضي الانقياد)

(فلما وافقت الحكمة) الباطنة والمصلحة الظاهرة الموجودة (فيها)، أي في النواميس المذكورة (الحكم بالنصب مفعول وافقت (الإلهي في) الأمر (المقصود) من الشارع (بالوضع)، أي الاصطلاح (المشروع)، أي المبين الذي بينه الله تعالی ورسوله نفعا للعباد المكلفين (الإلهي)، أي المنسوب إلى الإله الحق جل وعلا من جهة كون ذلك بمجرد انقیاد تحكم الغيب في الشهادة.
والتعلق من كلية الحادث بجناب القديم سبحانه ليطهر من دنس الجهل النفساني، وأوساخ الطبيعة الأرضية في ظاهره، وباطنه فليلتحق بالمجردات الفلكية في الانقياد للحضرة الغيبية، ويقرب من جناب القدس، فيحظى بعد الانسلاخ من العالم الفاني والاتصال بالعالم الباقي باللذائذ الدائمة والأحوال الملائمة.
وإن كانت هذه المقاصد والفوائد إنما تحصل بمتابعة الشرع الصحيح المنقول إلينا على وجهه من غير زيادة ولا نقصان بعد تحرير أحكامه والقيام بمقتضاه في الظاهر والباطن، ولكن هذا المقدار منه لا يحصل للعبد إلا في زمان النبوة، وقد انقضى و سيتجدد إن شاء الله تعالى في زمان نزول عيسى عليه السلام.
وكان ذلك حاصلا في زمان ظهور الخلافة عن النبوة حتى مات الحسن بن علي رضي الله عنهما، وصار الأمر ملكا عضدا وسلطنته ظاهرة، واختفت الخلافة النبوية في الأمة من واحد إلى واحد حتى أراد الحسين أخو الحسن رضي الله عنهما أن يظهرها بعد موت أخيه، فلم يمكنه ذلك حتى قتل بكربلاء وستظهر إن شاء الله في آل البيت في الإمام المهدي فيبطل الملك وتبطل السلطنة في الإسلام استقلالا وتظهر الخلافة فتمتلئ الأرض عدلا كما امتلأت جورة وحيث تعسر الوصول إلى ذلك في حق العموم.
(اعتبرها)، أي تلك الرهبانية وما في معناها مما ذكرنا في هذه الأمة (الله) تعالی ولهذا أقر الشارع الخطأ في أحكام الله تعالى من المجتهدين، وأخبر أن لهم فيه ثوابا حيث لم يقصروا في بذلك المجهود لنيل المقصود في قوله عليه السلام :
"من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد". رواه ابن حبان والحاكم و أبو داود.
ووجب على غير المجتهد متابعة المجتهد على خطئه وجعل ذلك شرعة للأمة مثابين عليه عند الله تعالى إذا عملوا بمقتضاه حيث تعسر الوصول إلى الأحكام الشرعية الحقيقية التي شرعها الله تعالى للأمة كما ذكرنا (اعتبارا)، أي مثل اعتباره سبحانه (ما)، أي الحكم الذي (شرعه) للعباد (من عنده تعالی) من غير فرق حيث أصاب بفعله وعاقب بتركه (وما كتبها)، أي فرضها الله تعالى (عليهم) لأنها ليست شرعه المطلوب في نفس الأمر وإن جعلوها هم نفس شرعه المطلوب بمقدار جهدهم في تعرفهم، كمن اشتبهت عليه القبلة وليس هناك من يعرفها ليسأله عنها ، فإذا أراد أن يصلي يجتهد فإذا وصل اجتهاده إلى جهة وجبت صلاته إليها وإن كانت خطأ في نفس الأمر، وهو مثاب على تلك الصلاة حتى لو تبين خطؤه بعد الفراغ منها، ومضت على الصحة.
(و) لكن (لما فتح الله) تعالى (بينه) سبحانه (وبين قلوبهم)، أي قلوب أهل تلك الرهبانية وما يتبعها (باب العناية)، أي المعونة لهم في طريق طلب الهداية منه سبحانه (و) باب (الرحمة) منه لأنفسهم وأمثالهم (من حيث لا يشعرون)، أي لا يعلمون بذلك (جعل) جواب لما (في قلوبهم تعظیم ما شرعوه) من تلك الرهبانية وما يلتحق بها لأنفسهم وأمثالهم .
والحال أنهم (يطلبون بذلك) الذي شرعوه ("رضوان الله ") تعالی عنهم (على غير الطريقة النبوية) في الأحكام الشرعية (المعروفة) عند الأنبياء عليهم السلام، ومن تلقاها منهم بالأخذ والإلهام (بالتعريف الإلهي) من الوحي النبوي (فقال) تعالى عنهم بعد ذلك ("فما رعوها")، أي قاموا بحقوقها والمحافظة عليها بالوجه الذين شرعوها به.
(هؤلاء)القوم (الذين شرعوها) في البعض(وشرعت) بالبناء للمفعول، أي شرعها الله تعالى (لهم في البعض الآخر). كأصل الصلاة والصوم مثلا.
واختلف المجتهدون في شروط ذلك وأركانه وسننه ومفسداته ونحو ذلك .
والأول في جميعها والثاني في تقرير ذلك واعتباره ("حق رعايتها")، أي المقدار الذي اعتبروه فيها هم مما لا بد منه .
("إلا ابتغاء" )، أي طلب وإرادة ورضوان الله تعالی عنهم بذلك.
(وكذلك)، أي مثل ما ذكر من ابتغاء الرضوان بالمحافظة عليها وأدائها على الوجه الأكمل بحسب نظرهم الذي شرعوها مشتملة عليه (اعتقدوا) أنها حق من الله جزمة بقلوبهم .
قال تعالى ("فأتيناه")، أي أعطينا في الآخرة يوم الجزاء ("الذين آمنوا")، أي صدقوا (بها)، أي بتلك الرهبانية وما يلتحق بها و اعتقدوها حقا ("منهم")، أي من أولئك القوم الذين شرعوها (و أجره ه)، أي ثوابهم فضلا منه تعالى وإحسانا .

(" كثير منهم " أي من هؤلاء الذين شرع) بالبناء للمفعول، أي شرع الله تعالی أصل ذلك أو باعتباره والإقرار عليه (فيهم هذه العبادة) المنقسمة إلى أقسام كثيرة وما يتبعها من المعاملات التي هي معونة فيها (" فاسقون " [الحديد: 27]، أي خارجون عن الانقياد إليها)، والعمل بها والقيام بحقها على الوجه المشروع عندهم فيها .
(و) كل (من لم ينقد إليها)، أي يحافظ عليها ويهتم بفعلها في نفسه على أتم ما يعرف من وجوه الاستحسان (لم ينقد إليه)، أي يطعه (مشرعه)، أي من شرعه له ذلك الأمر من حيث هو في نفسه بحسب تجليه الخاص.
أو بسبب اعتباره لما شرعه وإقراره عليه (بما يرضيه) من الجزاء الوافي (لكن الأمر) الإلهي النافذ في الخلق على كل حال (يقتضي الانقياد) إليه من كل واحد.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وبيانه أن المكلف إما منقاد بالموافقة وإما مخالف، فالموافق المطيع لا كلام فيه لبيانه، وأما المخالف فإنه يطلب بخلافه الحاكم عليه من الله أحد أمرين إما التجاوز والعفو، وإما الأخذ على ذلك، ولا بد من أحدهما لأن الأمر حق في نفسه.
فعلى كل حال قد صح انقياد الحق إلى عبده لأفعاله وما هو عليه من الحال. فالحال هو المؤثر.
فمن هنا كان الدين جزاء أي معاوضة بما يسر وبما لا يسر  فبما يسر «رضي الله عنهم ورضوا عنه» هذا جزاء بما يسر، «ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا» هذا جزاء بما لا يسر. «ونتجاوز عن سيئاتهم» هذا جزاء.   فصح أن الدين هو الجزاء )

(وبيانه)، أي اقتضاء الانقياد (أن) العبد (المكلف) بالأحكام الشرعية لا يخلو حاله (إما) أنه (منقاد) لأمر الله تعالى (بالموافقة) لما يقتضيه الأمر من الفعل أو الكف في الظاهر والباطن (وإما) أنه (مخالف) لمقتضى الأمر في فعل أو كف في الظاهر أو الباطن (فالموافق المطيع) من غير مخالفة مطلقة (لا كلام فيه)، أنه منقاد الأمر الله تعالى (لبيانه)، أي لوضوحه وانكشافه من غير شبهة.
(وأما) العبد (المخالف) لأمر الله تعالى في فعل أو كف في الظاهر أو الباطن (فإنه يطلب بخلافه)، أي بسبب مخالفته وترك طاعته.
(الحاكم) نعت للخلاف (عليه من) ظرف تقدیر (الله تعالی) النافذ فيه (أحد) مفعول يطلب (أمرين إما) الأمر الأول فهو (التجاوز)، أي المسامحة له من الله تعالى (والعفو) عنه فضلا من الله تعالى عليه وإحسانا إليه .
(واما) الأمر الثاني فهو (الأخذ)، أي المؤاخذة (على ذلك)، أي الخلاف الذي صدر منه عدلا من الله تعالى في حقه (ولا بد من وجود (أحدهما) بمقتضى الخلاف المذكور .
(لأن الأمر) الإلهي النافذ في الخلق كلهم (حق في نفسه) فلا بد أن يقتضي حالا للمكلف ينتفع به ذلك المكلف أو يتضرر به ولا يكون عبثا أصلا.
فعلى كل حال من أحوال المكلف الملائمة وغيرها (قد صح انقياد الحق) سبحانه (إلى عبده) وإطاعته له (لأفعاله)، أي لأجل أفعال العباد التي تصدر منه فتقتضي جزاء نافعا أو مضرا (و) لأجل (ما هو)، أي العبد (عليه من الحال) المقتضى لأمر ما .
(فالحال) الذي يكون عليه العبد (هو المؤثر) في جزاء العبد من ربه
(فمن هنا)، أي كون حال العبد هو المؤثر في جزاء العبد (كان الذين) الذي يجب . الانقياد إليه (جزاء وفاقة، أي معاوضة) من الله تعالى لعبده (بما يسر) العبد إن كان حاله خيرة (وبما لا يسر) العبد إن كان حاله شرا (معا)، أي كلا الأمرين يسمى جزاء فبما)، أي في المعارضة بالأمر الذي يسر.
قال الله تعالى: "رضى الله عنهم ورضوا عنه"  في المائدة : 119] مقابلة ما كان منهم من الطاعات الخالصة لله تعالی.
(وهذا) الرضوان المذكور (جزاء) من الله (بما يسر) العبد .
وقال الله تعالی : ("ومن يظل") غيره أو نفسه ("منكم") يا أيها المكلفون (" نذقه عذابا كبيرا") [الفرقان : 19] في القيامة (هذا جزاء ) من الله تعالى للعبد (بما لا يسر) العبد.
وقال الله تعالى : ( "ونتجاوز")، أي نعفو ونصفح ("عن سيئاتهم") [الأحقاف : 16]، أي معاصيهم وذنوبهم.
(هذا) أيضا (جزاء) من الله تعالى للعبد بما يسر العبد، فالجزاء على الدين ثلاثة أنواع :
نوعان في الفضل بما يسر العبد ونوع واحد في العدل بما لا يسر العبد، لأن الدين والانقياد إما إلى خير أو إلى شر.
والشر على قسمين إما معفو عنه أو غير معفو عنه.
(فصح) من هذا (أن الدين هو الجزاء)، لأنه الانقياد لما مر، فلم ينقد إلا إلى عين جزائه من ربه، وجزاؤه من ربه عین انقياده ولكن لم تتبين الحقيقة.
فإن الثمر يخرج في الابتداء زهرا ثم يعقد فيصير ثمرا نضيجا ، وصورة الزهر غير صورة الثمر.
وصورة الانقياد وهو الدين هو الأعمال غير صورة الثواب أو العقاب وهو الجزاء في الآخرة، والشجرة هي الجسد.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكما أن الدين هو الإسلام والإسلام عين الانقياد فقد انقاد إلى ما يسر وإلى ما لا يسر وهو الجزاء. هذا لسان الظاهر في هذا الباب.
وأما سره وباطنه فإنه تجلي في مرآة وجود الحق: فلا يعود على الممكنات من الحق إلا ما تعطيه ذواتهم في أحوالها، فإن لهم في كل حال صورة، فتختلف صورهم لاختلاف أحوالهم، فيختلف التجلي لاختلاف الحال، فيقع الأثر في العبد بحسب ما يكون.  فما أعطاه الخير سواه ولا أعطاه ضد الخير غيره، بل هو منعم ذاته ومعذبها. فلا يذمن إلا نفسه ولا يحمدن إلا نفسه. «فلله الحجة البالغة» في علمه بهم إذ العلم يتبع المعلوم. )

(وكما أن الدين هو الإسلام)، أي الاستسلام والانقياد (والإسلام) هو (عين الانقياد) والطاعة (فقد انقاد) صاحب الدين والإسلام (إلى ما يسر) العبد (وإلى ما لا يسر وهو)، أي ما يسر وما لا يسر (الجزاء) من الله تعالى للعبد على الدين (هذا) المذكور في هذا المحل من الكلام (لسان أهل الظاهر) من معاني الأسرار الإلهية (في هذا الباب) وهو بيان الدين والإسلام.
(وأما سره)، أي سر ما ذكر من الدين والإسلام (وباطنه) الذي لا يتنبه له إلا العارفون من أهل الله تعالى (فإنه)، أي الدين المذكور (تجل)، أي ظهور وانكشاف من العبد (في مرآة وجود الحق تعالی) على طريقة الاستعارة.
وإلا فيستحيل حلول الأعراض الحادثة في الذات القديمة أو في صفاتها كما هو معروف في عقائد أهل البداية من الرسميين. وقد قررنا هناك في كتبه وإذا كان كذلك (فلا يعود)، أي يرجع (على الممكنات) الظاهرة بتقديره سبحانه في قيومية وجوده تعالى على كل ممكن من معرفة وجود الحق سبحانه (إلا) مقدار (ما تعطيه ذواتهم) الحادثة .
(في) جملة (أحوالها) المقدرة لها من الأزل (فإن لهم)، أي للممكنات بتغليب العقلاء منهم أو باعتبار أن كلهم عقلاء في نظر العارف (في كل حال) من أحوالهم (صورة) هم عليها في حضرة الإمكان مكشوف عنها بعلم القديم ثم في حضرة الكون مكشوف عنها بسمع القديم وبصره (فتختلف صورهم) التي هم عليها (لاختلاف أحوالهم) في حضرة الإمكان وحضرة الكون (فيختلف التجلي)، أي الانكشاف الإلهي عليهم.
(لاختلاف الحال) التي هم فيها، فإنه على قدر الاستعداد یكون التجلي من رب العباد (فيقع الأثر) من خير أو شر (في) نفس (العبد بحسب ما يكون) عليه ذلك العبد من الحال.
(فما أعطاه)، أي العبد (الخير) الذي هو أثر التجلي (سواه)، أي سوى ذلك العبد باعتبار استعداده له (ولا أعطاه)، أي العبد أيضا (ضد الخير) وهو الشر الذي هو أثر التجلي (غيره)، أي غير ذلك العبد.
(بل هو)، أي ذلك العبد (منعم ذاته) في الجنة (ومعذبها) في النار بسبب الحال الذي هو عليه، والاستعداد المقتضي للتجلي الخاص الذي يقع به الأثر الملائم وغير الملائم .
فالعبد هو الذي استعد للخير أو للشر، فاتصف بالحال المقتضي لذلك، فتجلی علیه ربه فأعطاه خلقه، ثم ظهر أثر ذلك التجلي فيه فهداه إلى عين ما هو فيه بالقوة حيث خرج إلى الفعل.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس يوليو 18, 2019 9:30 am

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الثاني :
وهذا قوله تعالى : "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى" [طه: 50]، أي عرف ذلك الشيء على خلقه الذي هو استعداده (فلا) يليق بالعبد حينئذ أن (يذمن) على الشر الذي يصدر منه (إلا نفسه)، فإنها هي التي استعدت له بحالها، فأعطاها التجلي الإلهي ما استعدت له وهو الشر، ولهذا قال آدم عليه السلام: "ربنا ظلمنا أنفسنا" [الأعراف: 23]
وقال تعالى: "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" [النحل: 118] .
(ولا) يليق بالعبد أيضا أن (يحمدن) على الخير، الذي يصدر منه (إلا نفسه) فإنها هي التي استعدت لذلك فأعطاها التجلي الإلهي ذلك الخير وإن كان من آداب الكاملين الاجراء على الأصل في الأول ونسبة الشر إلى النفس، ومخالفة الأصل في الثاني ونسبة الخير إلى الله تعالی.
والسر في ذلك أن التجلي على قسمين:
تجلي ذاتي وهو الذي أعطى الاستعداد الكل حقيقة كونية في حضرة الإمكان قبل الاتصاف بالوجود.
وتجلي صفاتي وهو الذي أعطى كل مستعد مما استعد له من الخير أو الشر فحصل به الاتصاف بالوجود.
وللعبد المكلف حالتان:
حالة غفلة ونقصان يصدر منه فيها الشر فيناسبها أن ينسب الشر إلى نفسه، لأنه المستعد له .
والتجلي الصفاتي ما أفاض عليه إلا عين ما استعد له فالشر من نفسه في هذا التجلي لا من التجلي الحق .
وحالة يقظة وكمال يصدر منه فيها الخير فيناسبها أن ينسب الخير إلى الحق تعالی، لأنه بتجليه الذاتي هو الذي أعطى العبد ذلك الاستعداد المقتضي لحكم التجلي الصفاتي عليه بعين ما استعد له من الخير.
فالخير من الحق تعالى في هذا التجلي الذاتي لا من نفس العبد، ولهذا كان أهل الخير من السعداء فوق أهل الشر من الأشقياء، لأنهم فوقهم في النظر الدقيق والمعرفة الإلهية، لأنهم من الذات الإلهية يستمدون وإليها يرجعون، وأهل الشر من الصفات الإلهية يستمدون وإليها يرجعون، "قد علم كل أناس مشربهم" [البقرة: 60].

("فلله") سبحانه وتعالى ("الحجة") على مخلوقاته ("البالغة") [الأنعام: 149]، أي القوة النافذة بحيث تخرس كل مخلوق فلا يستطيع ردها (في علمه) سبحانه (بهم)، أي بالمخلوقات فإنه علم كيفية ما هم عليه في حضرة إمكانهم وما استعدوا له، فما أعطاهم إلا ما علم منهم.
(إذ)، أي لأن (العلم) مرتبته (أنه يتبع المعلوم) على ما هو عليه، لأنه صفة كاشفة والكاشف تابع للمكشوف على ما هو عليه، وإلا لم يكن كاشفة كما مر مفصلا.
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم السر الذي فوق هذا في مثل هذه المسألة أن الممكنات على أصلها من العدم، وليس وجود إلا وجود الحق بصور أحوال ما هي عليه الممكنات في أنفسها وأعيانها.
فقد علمت من يلتذ ومن يتألم وما يعقب كل حال من الأحوال وبه سمي عقوبة وعقابا وهو سائغ في الخير والشر غير أن العرف سماه في الخير ثوابا وفي الشر عقابا، وبهذا سمى أو شرح الدين بالعادة، لأنه عاد عليه ما يقتضيه ويطلبه حاله.
فالدين العادة قال الشاعر: كدينك من أم الحويرث قبلها أي عادتك.
ومعقول العادة أن يعود الأمر بعينه إلى حاله: وهذا ليس ثم فإن العادة تكرار.)
ومعقول العادة أن يعود الأمر بعينه إلى حاله، وهذا ليس ثم فإن العادة ت?رار .
(ثم السر الذي فوق هذا)، أي الحكمة التي هي أعلى من المذكور (في هذه المسألة) التي هي مسألة الدين والانقياد، وأن الجزاء عليه هو عينه .
إعلم (أن جميع الممكنات) الموجودة في الحس والعقل لم تزل (على أصلها) الذي كانت عليه (من العدم) ما اكتسبت الوجود أصلا ولا تغيرت عما كانت عليه .
(وليس) لها (وجود) يظهر منها (إلا وجود الحق تعالی) ظاهرة (بصور أحوال ما هي عليه من الممكنات) المعقولة والمحسوسة (في أنفسها وأعيانها)، أي ماهياتها وعوارضها الممكنة الثابتة غير المنفية المعدومة، غير الموجودة المكشوف عنها بالعلم القديم في حضرة القيومية، وبالسمع القديم والبصر القديم في حضرة الاستواء على العرش والنزول إلى سماء الدنيا (فقد علمت) من هذا يا أيها العارف .
(من يلتذ)، أي ينعم ذاته بذاته في حضرات أسمائه وصفاته (ومن يتألم) في ذاته بذاته في تلك الحضرات، فإنه ما هناك غير الحق تعالی ولا لذة ولا ألم، لأنهما من جملة أحوال ما هي عليه الممكنات في أنفسها وأعيانها .
من حيث ظهور نفسه وعينه بها في الحضرات الكثيرة والأسماء التي لا يبلغها العدد ولا يحصيها الحد (و) قد علمت أيضا (ما يعقب كل حال من الأحوال) التي عليها الممكن في نفسه مما سمي خيرا وشرا.
(وبه)، أي بسبب أنه يعقب الحال (سمي) ما يعقب من الجزاء (عقوبة وعقابا) أيضا في الآخرة (وهو)، أي إسم العقوبة والعقاب (سائغ)، أي قابل أن يسمی به الجزاء (في الخير والشر) .
فيقال للثواب أيضا في الآخرة عقوبة وعقاب (غير أن العرف) الشرعي (سماه)، أي الجزاء في الخير ثوابا ومثوبة (وفي الشر عقابا) وعقوبة (ولهذا)، أي لكون الأمر كذلك (سمي) في اللغة العربية (أو شرح)، أي بين مع اختلاف المعنى (الدين) الذي هو الانقياد (بالعادة لأنه)، أي الدين (عاد)، أي رجع (عليه) من قبل نفسه (ما يقتضيه ويطلبه حاله) من الجزاء
(فالدين) معناه (العادة) إما بطريق الترادف في المعنى اللغوي أو بالخصوص في معنى الدين والعموم في معنى العادة. فالعام يشرح الخاص ويبينه .
(قال الشاعر) من العرب في ثبوت هذا المعنى (كدينك) بخطاب المذكر (من أم الحويرث) تصغير الحارث .
(قبلها) وهو شطر بیت (أي عادتك)، فالدين العادة (ومعقول العادة)، أي المعنى الذي يعقل منها (أن يعود الأمر) الأول الذي مضى (بعينه إلى حاله) الذي كان عليه (وهذا) المعنى (ليس ثم) بالفتح، أي هناك يعني غير موجود إذ لا يتكرر شيء في الوجود أصلا.
ثم علل معقول العادة بقوله (فإن العادة تكرار) لأنها مشتقة من الوجود بمعنی الرجوع.
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لك العادة حقيقة واحدة معقولة؛ والتشابه في الشور موجود تخين تعلم أن رندة بن عمرو في الإنسانية وما عادت الإنسانية، إذ لو عادت لتكترث وهي حقيقة واحدة والواحد لا يتكئر في تفسيه. ولم أين تريدة ليس عن عمرو في الشخصية فشخص زید ?ی شخص عمرو مع تحقق وجود الخيرية بما هي شخصية في الاتيني فنقول في الج عادت لهذا الشبير، وتقول في المحكم الصحيح لم تعد. )
 
(لكن العادة) التي هي التكرار (حقيقة معنوية معقولة)، أي أمر اعتباري ويتحققه العقل ويفهمه (والتشابه)، أي حصول الشبه (في الصور) المحسوسة والمعقولة (موجود) لا شك فيه (فنحن نعلم) قطعة (أن زيدا) اسم لشخص معين هو (عين عمرو) الذي هو اسم لشخص آخر معين (في) الحقيقة الواحدة (الإنسانية) وإنما افترقا في الصورتين الجسمانيتين والنفسانيتين (و) مع ذلك (ما عادت) الحقيقة الإنسانية الواحدة الموجودة فيهما على السواء بعينها، أي ما حصل فيها ت?رار باعتبار وجودها في زيد وفي عمرو (إذ لو عادت)، أي الحقيقة الإنسانية باعتبار وجودها فيهما (لتكثرت)، أي صارت كثيرة (وهي حقيقة واحدة) في نفسها (و) الأمر (الواحد لا يتكثر)، أي لا يصير كثيرة (في نفسه) أصلا .
(و) نحن( نعلم) أيضا، (أن زيدا) المذكور (ليس) هو (عين عمرو) المذكور (في) الهيئة (الشخصية) الجزئية المتعينة في الحس .
(فشخص زید)، أي جسده في نفسه الحيوانية المنفوخة فيه لا المنفوخ منها فإنها الإنسانية المذكورة (ليس) هو عين (شخص عمرو).
فإن الحس يحكم بالمغايرة بين الشخصين والعقل يتبعه في هذا الحكم (مع تحقق)، أي ثبوت
(وجود الشخصية) الواحدة الظاهرة (بما)، أي بالأمر الذي (هي شخصية به في الاثنين)، أي ماهية زيد وماهية عمرو، فالشخصية أيضا متعددة في الحكم بها إلا في وحدة وجودها، فهي واحدة بما هي شخصية به وإن تكثر ما سمي بها من
الأشخاص.
إذا تقرر هذا (فنقول) في العادة إنها (في الحس عادت)، أي تكررت وت?ثرت لهذا)، أي لأجل (الشبه المذكور) نظير قوله تعالى في ثمر الجنة " وأتوا به متشابها" [البقرة: 25].
أي يشبه بعضه بعضا وهو ما يثمر ظهور الحق من كل شيء في جنة المعارف، إذا دخلها العارف .
وقالت بلقيس عن عرشها: "كأنه هو" لما ن?ر لها عرشها وقيل :" أهكذا عرشك" [النمل: 42].
فتنبهت للشبه المذكور بطريق الإلهام ثم قالت: "وأسلمت مع سليمان " [النمل: 44]، يعني التبعية في العقد الصحيح وذلك عين المعرفة.

(ونقول) مع ذلك (في الحكم) منا على تلك العادة الحكم (الصحیح) الذي هو وجه التحقيق في ذلك (لم تعد) العادة أصلا ولا يتكرر في الوجود شيء أبدا إذ لو تكرر ما تغير والتغير ظاهر في كل شيء.


قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما ثم عادة بوجه وثم عادة بوجه، كما أن ثم جزاء بوجه وما ثم جزاء بوجه فإن الجزاء أيضا حال في الممكن من أحوال الممكن.
وهذه مسألة أغفلها علماء هذا الشأن، أي أغفلوا إيضاحها على ما ينبغي لا أنهم جهلوها فإنها من سر القدر المتحكم في الخلائق.
واعلم أنه كما يقال في الطبيب إنه خادم الطبيعة كذلك يقال في الرسل والورثة إنهم خادمو الأمر الإلهي في العموم، وهم في نفس الأمر خادمو أحوال الممكنات. وخدمتهم من جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم. فانظر ما أعجب هذا! )
(فما ثم)، أي هناك في هذا الوجود (عادة) تعود بعينها في ذات أو شخص أصلا (بوجه)، أي باعتبار وجه وهو حقيقة الأمر في نظر العارفین (و) مع ذلك أيضا (ثم)، أي هناك في هذا الوجود (عادة) تعود بعينها في كل ذات وشخص (بوجه)، أي باعتبار وجه آخر غير الأول وهو ما يظهر للحس والعقل .
(كما)، أي مثل ما ذكر في العادة (أن ثم)، أي هناك في الآخرة (جزاء) على الأعمال بنعيم الجنة إن كانت الأعمال خيرة وعذاب النار إن كانت الأعمال شرة (بوجه)، أي باعتبار ما يظهر للحس والعقل.
(وما ثم)، أي هناك (جزاء) أصلا بخير ولا بشر على الأعمال (بوجه) آخر، لأن اجزاء عين العمل الصادر من المكلف وغيره سمي عملا في دار الظهور بالنفوس خلافة إلاهية و سیسمی جزاء في دار الظهور بالقلوب المؤمنة التي ينبع منها النعيم أو بالأفئدة الكافرة التي ينبع منها العذاب الأليم والأعمال من الفريقين صورة تتبدل بالأمثال وكذلك الجزاء، فالجزاء هو الأعمال بوجه أيضا وليس هو الأعمال بوجه آخر والعدل الإلهي ناظر إلى الأزل والفضل إلى الثاني .
وقال تعالى : " هل تجزون إلا ما كنت تعملون" [النمل: 90].
(فإن الجزاء) في الآخرة (أيضا)، أي كالعادة فيما ذكر (حال) متبدل بأمثال (في) الشخص (الممكن من) جملة (عين أحوال الممكن) يتصف بها في الآخرة.
فما ثم إلا أحوال للممكن المعدوم العين الموجود الحكم يتصف بها في الدنيا فتسمى أعمالا ، ويتصف بها في الآخرة فتسمى جزاء وقد كان متصفا بها في الحضرة العلمية الإلهية فسميت قضاء وقدرة، وما ثم غير الأحوال والعين الواحدة تتعدد وتتكثر باعتبارها، فيظهر العالم الموهوم المسمی مكلفین .
(وهذه)، أي مسألة العادة والجزاء (مسألة أغفلها)، أي أعرض عن بيانها (علماء هذا الشأن) من العارفين المحققين (أي أغفلوا إيضاحها)، أي بيانها وتفصيلها على ما ينبغي أن تشرح به من العبارات في كتبهم (لا) أن المراد بكونهم أغفلوها (أنهم جهلوها) فلم يعلموها فغفلوا عنها فأغفلوها .
لذلك (فإنها)، أي هذه المسألة (من سر القدر)، أي التقدير الإلهي (المتحكم في جميع الخلائق) فكيف يجهلونها وهم العارفون، فإن جميع ما عليه أعيان الممكنات من الأحوال هو ما علمه الله تعالى منها.
فقدره عليها وحكم به لها، ثم أظهره فيها أعمالا وأقوالا وهيئات نفسانية وجسمانية في الدنيا ونعيما وعذابا في الآخرة، من غير أن يتكرر شيء من ذلك عليها باعتبار نفس الأمر.
ويتكرر ذلك عليها بحسب النظر الحسي والعقلي، ومعرفة هذا من ضرورات العارفين، فلا يجهلونه، لأنهم يعرفون به معروفهم الظاهر لهم بجميع ذلك.
والباطن عنهم بما لا يعلمه إلا هو من العين الذاتية الوجودية المسماة بالأعيان الكثيرة الصفاتية الفعلية الإمكانية العدمية.
(واعلم) يا أيها السالك (أنه)، أي الشأن (كما)، أي مثل ما يقال عند أهل العلم الظاهر (في) حق (الطبيب) الذي هو عالم بعلم الطب يعرف الأمزجة الحيوانية فيسعى في تعديل انحرافها بالأدوية والمعالجات.
(إنه)، أي ذلك الطبيب (خادم الطبيعة) المتركبة في الأجسام الحيوانية المنقسمة إلى حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة ، يمنع زيادة بعضها على بعض المقتضي للأمراض المناسبة لذلك الزائد بما عنده من بسائط الأدوية ومركباتها والكيفيات المختلفة من المعالجة .
(كذلك يقال في الرسل) من الأنبياء عليهم السلام (والورثة) لهم من العارفین الكاملين المحققين الذين فيهم الكمال والتكميل (أنهم خادمو الأمر الإلهي) الواحد الذي هو كلمح البصر المنصبغ بصيغة جميع المخلوقات من حيث ذواتهم وصفاتهم وأحوالهم الظاهرة والباطنة.
كما قال تعالى : "ذلك أمر الله أنزله إليكم" [الطلاق : 5]، وقوله سبحانه : "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر" [القمر: 50]، وقوله : "ألا له الخلق والأمر" [الأعراف : 54]، وقوله: "ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره" [الروم: 25].

(في) اعتبار (العموم)، أي أمر التكليف من حيث الأعمال وأمر التكوين من حيث الأحوال، فهم خادمون أمر التكوين بأمر التكليف .
فموضوع دعوتهم أشخاص المكلفين وأحوالهم من حيث الأمر المقوم للكل في الكل لا من حيث نفس الأشخاص، لأن المطلوب انتفاء استقلالها الوهمي بالإخلاص الذي هو الكيفية المطلوبة في التقوی.
قال تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء" [البينة: 5]، أي مائلين عن الباطل الذي هو غير الحق تعالى إلى الحق تعالی، وذلك رجوعهم إلى الأمر الذي تخدمه الرسل والورثة .
(وهم)، أي الرسل والورثة (في نفس الأمر) مع قطع النظر عن أمر التكليف (خادمون أحوال الممكنات) من المكلفين وغيرهم، وذلك ظواهر أمر التكوين، فقد خدموا ظاهر أمر التكوين بباطنه وهو أمر التكليف، والأمر الإلهي واحد تكلیف بظاهره وتكوين بباطنه.
كما قررناه في كتابنا «خمرة الحان ورنة الألحان شرح رسالة الشيخ رسلان» (وخدمتهم)، أي الرسل والورثة عليهم السلام لأحوال الممكنات (من جملة أحوالهم)، أي أحوال الرسل والورثة : (التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم) في حضرة العلم الإلهي القديم.
فلا خدمة منهم إلا باعتبار الاسم الظاهر، لأنهم لم يظهروا إلا بأحوالهم الثابتة في العلم القديم، كالمخدومين من الممكنات لم يمتثلوا ولم يخالفوا إلا على طبق ما هم عليه من أحوالهم الثابتة في العلم القديم.
فليسوا بمخدومین من هذا الوجه ومخدومون من هذا الوجه الذي فيه الرسل والورثة خادمون.
(فانظر) يا أيها السالك (ما أعجب هذا) الشأن الذي للرسل والورثة بل لجميع الممكنات .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( إلا أن الخادم المطلوب هنا إنما هو واقف عند مرسوم مخدومه إما بالحال أو بالقول، فإن الطبيب إنما يصح أن يقال فيه خادم الطبيعة لو مشى بحكم المساعدة لها، فإن الطبيعة قد أعطت في جسم المريض مزاجا خاصا به سمي مريضا، فلو ساعدها الطبيب خدمة لزاد في كمية المرض بها أيضا، وإنما يردعها طلبا الصحة والصحة من الطبيعة أيضا بإنشاء مزاج آخر يخالف هذا المزاج.
فإذن ليس الطبيب بخادم للطبيعة، وإنما هو خادم لها من حيث إنه لا يصلح جسم المريض ولا يغير ذلك المزاج إلا بالطبيعة أيضا.
ففي حقها يسعى من وجه خاص غير عام لأن العموم لا يصح في مثل هذه المسألة. فالطبيب خادم لا خادم أعني للطبيعة، )
(إلا أن الخادم المطلوب هنا) في الطبيب الذي يخدم الطبيعة والرسل والورثة الذين يخدمون أحوال الممكنات (إنما هو)، أي ذلك الخادم المذكور (واقف عند رسوم)، أي ما يقتضيه حال (مخدومه ) من طبيعة أو حال ممكن (إما) مرسوم
(بالحال) كما إذا اقتضی حال المريض تناول الدواء الفلاني فيعطيه الطبيب ذلك.
أو اقتضی حال المكلف العمل الفلاني، أو الكف الفلاني في علم الرسول، أو الوارث فيرشده إلى ذلك.
(أو بالقول) كما إذا صرح المريض أو المكلف بالطلب لمثل ذلك ، (فإن الطبيب إنما يصح أن يقال فيه إنه خادم الطبيعة)، كما سبق (لو مشى)، أي الطبيب (بحكم المساعدة) منه (لها)، أي تلك الطبيعة .
(فإن الطبيعة) ربما (قد أعطت في جسم المريض) بغلبتها فيه (مزاجا، خاصا) وهو الداء (به)، أي بذلك المزاج (يسمي مريضا فلو ساعدها)، أي تلك الطبيعة الغالبة في جسم المريض (الطبيب خدمة) بأن خدمها بالزيادة فيها بما يقويها من حيث خصوصها كطبيعة الحرارة إذا قواها بالأدوية الحارة (لزاد في كمية)، أي مقدار (المرض) الحاصل في جسم المريض (بها)، أي بتلك الطبيعة الغالبة.
(أيضا) على ذلك المرض الحاصل بغلبتها أولا فلم يكن خادمها من هذا الوجه، ولا ذلك مراد من قال عنه إنه خادم الطبيعة، لأنه ليس بطبيب للمرضى حينئذ بل هو ممرض أو مزيد للمرض .
(وإنما) شأن الطبيب الذي يقال عنه إنه خادم الطبيعة أنه (يردعها)، أي يكف الطبيعة بإعطاء المريض ما يضادها من الأدوية وبمعالجتها بما يمنعها من المضي في مقتضی غلبتها بالاستفراغ ونحوه (طلبا) منه (للصحة)، أي العافية في جسم المريض.
وهذا معنى خدمة الطبيب للطبيعة، وحاصله أنه يمنعها من ظلمها لغيرها بالغلبة عليه، ويمنع غيرها من ظلمه لها بغلبته عليها، فيوقفها موقف الاعتدال في الجملة على حسب ما يمكنه .
(والصحة)، أي العافية في الجسم (من) جملة (الطبيعة أيضا) مثل المرض (بإنشاء)، أي بسبب حصول (مزاج آخر) في جسم المريض يسمى صحة (يخالف هذا المزاج) المسمى مرضا.
فالطبيب خادم الطبيعة في حال غلبتها على غيرها يردعها بإرجاعها إلى الاعتدال، وخادم الطبيعة أيضا في حال اعتدالها باستدامة ذلك الاعتدال (فإذن)، أي حيث تقرر ما ذكر (ليس الطبيب بخادم للطبيعة) من حيث هي الطبيعة ولا خادم لها من جهتها، هي مساعدة منه لها لتقوى وتزيد وتنفذ فيما توجهت عليه في الجسم .
(وإنما هو)، أي الطبيب (خادم لها)، أي للطبيعة (من حيث إنه لا يصح جسم المريض)، أي يصل إلى العافية من مرضه (ولا يغير ذلك المزاج) الأول المسمی مرض (إلا بالطبيعة أيضا) بأن يردعها عن الغلبة فتعود إلى الاعتدال فيخدم الطبيعة لخدمتها للمزاج لا لنفسها وخدمتها للمزاج طبيعة أيضا بإنشاء مزاج آخر.
كما ذكر (ففي حقها)، أي الطبيعة (یسعی) أي الطبيب (من وجه خاص) وهو وجه خدمتها للمزاج بقبول ردعه لها وكفها عن الغلبة (غير عام) فيما يساعدها من حيث هي طبيعة (لأن العموم) في خدمة الطبيعة من جهة الطبيب (لا يصح في مثل هذه المسألة) أصلا وإلا لكان الطبيب ممرضة وانعكس الغرض المطلوب منه إلى ضده (فالطبيب) على هذا (خادم) من وجه (لا خادم) من وجه آخر (أعني الطبيعة) كما ذكر.


قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك الرسل والورثة في خدمة الحق. والحق على وجهين في الحكم في أحوال المكلفين، فيجري الأمر من العبد بحسب ما تقتضيه إرادة الحق، وتتعلق إرادة الحق به بحسب ما يقتضي به علم الحق، ويتعلق علم الحق به على حسب ما أعطاه المعلوم من ذاته: فما ظهر إلا بصورته. فالرسول والوارث خادم الأمر الإلهي بالإرادة، لا خادم الإرادة.
فهو يرد عليه به طلبا لسعادة المكلف فلو خدم الإرادة الإلهية ما نصح وما نصح إلا بها أعني بالإرادة.
فالرسول والوارث طبيب أخروي للنفوس منقاد لأمر الله حين أمره، فينظر في أمره تعالى وينظر في إرادته تعالى، فيراه قد أمره بما يخالف إرادته ولا يكون إلا ما يريد، ولهذا كان الأمر.
فأراد الأمر فوقع، وما أراد وقوع ما أمر به بالمأمور فلم يقع من المأمور، فسمي مخالفة ومعصية. )

(كذلك الرسل) من الله تعالى إلى المكلفين (والورثة) عنهم بعدهم خادمون الأحوال الممكنات من وجه حيث كان مطلوبهم اعتدال تلك الأحوال واستقامتها من المكلفين على طبق الأمر الإلهي، وليسوا بخادمين لأحوال الممكنات من وجه آخر.
ولهذا لم يساعدوا شيئا من تلك الأحوال على غيرها من الأحوال مما تقتضيه الخدمة، فيما تلك الأحوال بصدده، وإنما هم قائمون (في خدمة الحق تعالی) ليظهر من غير احتجاب في الظواهر والبواطن، ويتميز أمره عن خلقه عند خلقه .
(والحق) سبحانه وتعالى قائم (على وجهين)، أي اعتبارين (في الحكم في أحوال المكلفين) وفي غير المكلفين أيضا لكن المعتبر هنا بیان أحوال المكلفين.
لأن الكلام فيهم من جهة العادة والجزاء لأنهم أهل الدين والانقياد (فيجري الأمر) الإلهي المتصور بصور الممكنات (من) جهة (العبد) الذي هو من جملة تلك الصور، أي معتبرة من جهته في جميع أعماله وأقواله وأحواله (بحسب)، أي على مقدار (ما تقتضيه)، أي تتوجه عليه (إرادة الحق تعالی) من الأزل وهذا هو الوجه الأول والاعتبار الأول في الحكم من الحق تعالى في أحوال المكلفين .
(و) الوجه الثاني والاعتبار في ذلك أنه (تتعلق إرادة الحق) تعالی (به)، أي بما تقتضيه إرادته سبحانه أو بالعبد (بحسب)، أي على مقدار (ما يقتضي)، أي يحكم ويلزم (به علم الحق) تعالى في الأزل (ويتعلق علم الحق) تعالی (به)، أي بما يقتضي به علم الحق سبحانه أو بالعبد (على حسب)، أي مقدار (ما أعطاه المعلوم)، بعلم الحق تعالى الذي هو ذلك العبد وجميع أحواله وأعماله وأقواله (من ذاته) المعدومة بالعدم الأصلي هي وأحوالها المكشوف عنها بعلم الحق تعالى من الأزل كشفة تامة لا يحتمل النقيض أصلا (فما ظهر) ذلك العبد بالوجود الحادث في هذا العالم (إلا بصورته) التي كان عليها في عدمه الأصلي.
فعلم الحق تعالی بها في الأزل وهو معدوم وأراد له عين ما علم منه، فحكم عليه بما أراد له وأوجده على طبق ما حكم عليه وأراد له، فظهر كذلك.
فأخذ منه ما وجده فيه من الأحوال وهذا أحد الوجهين المذكورين للحق تعالى، وأعطاه عين ما أخذ منه.
وهذا هو الوجه الثاني في حكم الحق تعالى في أحوال المكلفين.
(فالرسول) من الله تعالى للمكلفين (والوارث) بالنيابة عنه بعده كل منهما (خادم للأمر الإلهي) الذي هو مطلق بالنظر إليه تعالی و متقید بصور ما كشف عنهم من أعيان الكائنات العدمية وأحوالها من حيث هو علم كشفة أزلية.
وظاهرا بتلك الأعيان وأحوالها من حيث هو قيوم قادر على حسب ترتيب تلك الكائنات بحسب أحوالها المختلفة بالنظر إليها لا إليه سبحانه (بالإرادة) الإلهية القديمة.
أي على حسب ما تقتضي من الخدمة إذ الخدمة منهما من جملة أحوالهما، وأحوال الكائنات الثابتة لأعيانها بكشف العلم القديم وحكم الإرادة ، فهما بالإرادة يخدمان لأنهما من جملة مراداتها.
(لا) كل منهما (خادم الإرادة)، لأن خدمتها سبقت بها الإرادة من كشف العلم القديم عن أحوالهما التي هما عليها في عدمها الأصلي، فهما بها يخدمان ما تقتضيه من أحوال المكلفين لا هما يخدمانها (فهو)، أي كل من الرسول والوارث (برد)، أي يمنع الزيادة الضارة (عليه)، أي على الأمر الإلهي المذكور (به)، أي بالأمر الإلهي المذكور .
قال تعالى : "والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون" [يوسف : 21] لعدم معرفتهم بالأمر الإلهي الذي قامت به الرسل والورثة من حيث هم قائمون به على وجه الخصوص المسمى الله .
وهم خاصة الناس، وعامة الناس الذين لا يعلمون إنما يعلمون بوجه العموم، فمعلومهم الأمر المغلوب من حيث صورهم.
وذلك قوله تعالى: "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا" [غافر: 51] .
وهم الورثة والرسل "في الحياة  الدنيا" [غافر : 51]، وهي مقام الدعوة إلى الله تعالى بالله تعالی.
قال سبحانه:" قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " [ يوسف: 108] الآية .
"ويوم يقوم الأشهاد" [غافر : 51] من كل نفس كما قال سبحانه: " وجائت كل نفس معها سائق وشهيد " [ق: 21] .

(طلبا)، أي لأجل طلب الرسول والوارث (لسعادة المكلف) في الدارين، وسعادته موجودة على كل حال من حضرات مختلفة، كل حضرة لها سعادة تحضر، وسيأتي هذا إن شاء الله تعالی عند تعرض المصنف قدس الله سره له.
(فلو) أن الرسول والوارث (خدم الإرادة ) الإلهية على حسب ما تقتضيه من أحوال المكلف (ما نصح) في خدمة، لأنه يكون حينئير داعية إلى الضلال كما أنه داع إلى الهدى لأنهما مقتضى الإرادة التي لا ينفذ إلا مقتضاها.
(و) الرسول والوارث (ما نصح) في خدمته (إلا بها أعني بالإرادة) الإلهية من جهة أن نصحه ودعوته إلى الهدی وكفه عن الضلال كان بمقتضى الإرادة الإلهية إذ لا يخرج عنها شيء أصلا.
(فالرسول والوارث) على مقتضى ما ذكر (طبيب أخروي)، أي منسوب إلى الآخرة (للنفوس) البشرية يشفيها من مرض الأعراض عن فشوها، وإن وقع الشفاء به في الدنيا فإنه ليس المطلوب ولا لأجله كانت البعثة (منقاد)، أي مطيع ذلك الرسول والوارث (لأمر الله تعالی) أمر التكليف (حين أمره) به وكلفه بما كلف به من الأحكام، والدعوة إليه سبحانه في حقه وفي حق غيره (فينظر ذلك) الرسول والوارث.
(في أمره تعالی) بما أمره به (وينظر) أيضا (في إرادته تعالی) لكل ما هو واقع من أحوال المكلفين (فيراه)، أي يرى الحق تعالی (قد أمره) في شأن الأمة (بما يخالف إرادته تعالی) بهم (ولا یكون)، أي لا يوجد من المخلوقات أصلا (إلا ما يريد) الحق تعالی منهم من الأحوال التي هم عليها في عدمهم الأصلي المكشوف عنه بعلم الله تعالى القديم كما سبق بيانه .
(ولهذا)، أي لكونه لا يكون إلا ما يريد سبحانه  (كان الأمر) من الله تعالى للمكلفين على ألسنة الوسائط من الملائكة والبشر لأنه تعالى لا يريد ظلما للعالمين.
فأراد لهم ما هو مقتضى أحوالهم المكشوف عنها بعلمه، وأوجد ما أراده وما أراد أن يظلمهم بمنعهم ما هو مقتضى أحوالهم، فأرسل إليهم من يبلغهم مراده تعالى منهم من الخير والهدى، ليظهر لهم التفاوت بين مرادهم منهم من حيث هو تعالى، ومراده منهم من حيث هم، وما هو بظلام للعبيد.
فمراده من حيث هو يسمى أمرا تكليفيا، ومراده من حيث هم يسمى أمرا تكوينيا ، وإرادته على طبق علمه سبحانه، وعلمه على طبق المعلوم، فالرسل والورثة مظاهر الذات المستجمعة، وجميع من عداهم مظاهر الصفات والأسماء الجامعة، والأمر عین الدعوة إلى المقام الذاتي، والدخول في زمرة الرسل والورثة، والتأثير للصفات والأسماء لا للذات .

(فأراد) الحق تعالی (الأمر) التكليفي لأنه خير محض (فوقع) منه سبحانه للمكلفين على ألسنة الوسائط (وما أراد) سبحانه (وقوع ما أمر به) من ذلك الخير (بالمأمور) من المكلفين لأنه أراد ما علمه وما علم من المأمور وقوع ما أمر به ليريده منه (فلم يقع من المأمور) ما أمره تعالى به، لأن لا يكون إلا ما يريده تعالى ولا يريد إلا ما يعلمه ولا يعلم إلا ما هو عليه المأمور في عدمه الأصلي.
(فسمي) عدم وقوع الأمر من المأمور (مخالفة) لأمر الله تعالى (ومعصية) الله تعالی صدرت من مأمور مكلف .


.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس يوليو 18, 2019 9:31 am

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الثالث :
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالرسول مبلغ: ولهذا قال شيبتني «هود» وأخواتها لما تحوي عليه من قوله «فاستقم كما أمرت» فشيبه «كما أمرت فإنه لا يدري هل أمرت بما يوافق الإرادة فيقع، أو بما يخالف الإرادة فلا يقع.
ولا يعرف أحد حكم الإرادة إلا بعد وقوع المراد إلا من كشف الله عن بصيرته فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها على ما هي عليه، فيحكم عند ذلك بما يراه. وهذا قد يكون لآحاد الناس في أوقات لا يكون مستصحبا.
قال: «ما أدري ما يفعل بي ولا بكم» فصرح بالحجاب، وليس المقصود إلا أن يطلع في أمر خاص لا غير. )

(فالرسول مبلغ) عن الله تعالى الأمر إلى الأمة، والوارث نائبه في ذلك فهو تابع له على كل حال وإن لم يذكره هنا ؛ (ولهذا)، أي لكونه مبلغا وليس له من الأمر.
شيء والأمر كله مع اطلاعه على ما ذكر من عدم موافقة الأمر الإلهي للإرادة الإلهية في كثير من الأحوال.
(قال) الرسول عليه السلام كما ورد في الحديث : (شیبتنی) سورة (هود) عليه السلام (وأخواتها) من السور وما كان ذلك إلا (لما تحتوي عليه) تلك السورة من قوله تعالى : ( فاستقم) يا أيها الرسول، أي كن مداوما أمر المكلفين ونهيهم (" كما أمرت")، أي أمرناك بذلك ولا تترك الدعوة مع أنه يرى الإرادة الإلهية نافذة في الخلق على خلاف ما أمر به الحق (فشيبه) من ذلك.
أي أظهر الشيب في لحيته عليه السلام قوله تعالى: ("كما أمرت" (فإنه عليه السلام لا يدري هل) هو (أمر) في شأن الأمة باعتبار أشخاصهم المعينة عنده (بما يوافق الإرادة الإلهية فيقع ذلك الأمر بما يخالف الإرادة) الإلهية .


(فلا يقع) ذلك الأمر وهذا ابتلاء من الله تعالى للرسول عليه السلام، ولهذا شيب ذلك كما ورد : «أشد الناس بلاء الأنبياء» .
ومن هذا القبيل قول موسى عليه السلام: " إن هي إلا فيتنئك تضل يا من تشاء وتهدي من تشاء" [الأعراف: 155]. مع أمره له عليه السلام بإنذار فرعون وقومه.


(ولا يعرف أحد) من المخلوقين (حكم الإرادة الإلهية)، أي ما تحكم به على كل شيء الحكم العدل المطابق للعلم القديم الكاشف عن كل شيء معدوم بالعدم الأصلي (إلا بعد وقوع المراد) وظهوره واتصافه بالوجود الإضافي الحادث (إلا من كشف الله) تعالى (عن بصيرته) من رسول أو نبي أو وارث أو ولي (فأدرك أعيان الممكنات) مع جميع أوصافها في الظاهر والباطن مرسومة (في حال ثبوتها)، أي كشف العلم الإلهي القديم عنها ثابتة في عدمها الأصلي لا منفية.
فإن الثبوت ضد النفي فالشيء إذا كان ثابتا لا يكون منفية، وإذا كان منفية لا يكون ثابتة، ولا يلزم من الثبوت الوجود فقد يكون الشيء ثابتة معدومة، وقد يكون ثابتة موجودة، والوجود ضد العدم.
وأعيان الممكنات في الأزل ثابتة في نفسها مكشوف عنها بالعلم الإلهي القديم، على معنى أنها ليست منفية، إلا أنها موجودة لأن وجودها حادث وثبوتها قدیم.


(على ما هي عليه) في حال وجودها إذا وجدت من غير زيادة ولا نقصان (فيحكم) من كشف عن بصيرته (عند ذلك بما يراه) من موافقة الأمر الإلهي للإرادة القديمة الإلهية أو عدم موافقته لها .
(وهذا) الكشف المذكور (قد یكون)، أي يوجد (لآحاد الناس)، أي أفراد منهم كبعض الرسل والأنبياء والأولياء (في أوقات) دون أوقات كما سبق في تقريره من المصنف قدس الله سره في أوائل الفص الشيثي ومر كلامنا فيه .


(لا يكون) هذا الكشف (مستصحبا)، أي ملازمة صاحبه في كل وقت كما (قال) الله تعالى للكامل المكمل صلى الله عليه وسلم (قل "وما أدري") عند انحجابه عن هذا الكشف المذكور في بعض الأوقات استدامة المقام العبودية ("وما يفعله" [الأحقاف: 9])، أي يفعل الحق تعالی ("بي ولا بكم" فصرح) صلى الله عليه وسلم (بالحجاب) عن الكشف المذكور في بعض الأعيان مع أنه عليه السلام قال: «إن الله قد رفع لي الدنيا فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة كأنما أنظر إلى كفي هذه» ، أخرجه الطبراني .
وفي حديث أبي داود: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فما ترك شيئا إلى قيام الساعة إلا حدثنا به».
وفي الحديث الصحيح: «فعلمت علم الأولين والآخرين وإنما كان هذا من النبي عليه السلام في بعض الأحيان».


(وليس المقصود)، أي مقصودنا هنا بقولنا إلا كشف الله عن بصيرته فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها على ما هي عليه (إلا أن يطلع) صاحب هذا الكشف (في أمر خاص) من أمور الممكنات أو أمر شخص خاص (لا غير) إذ ليس المقصود الاطلاع على جميع أعيان الممكنات، فإنه مختص بالحق تعالی لعدم تناهي الأعيان الممكنة في الحضرة الثبوتية العلمية .

تم فص الحكمة اليعقوبية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الأول .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس يوليو 18, 2019 9:40 am

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الأول .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية
هذا نص الحكمة اليوسفية ذكره بعد حكمة يعقوب عليه السلام، لأنه ابنه والأب مقدم على الابن والابن مؤخر عن الأب في رتبة الوجود.
ولأن علم الخيال الذي يبحث عنه في الحكمة اليوسفية ، هو من أحد الطرق الموصلة إلى معرفة أعيان الممكنات في حال ثبوتها.
فناسب تتميم المبحث السابق بما منه (فص حكمة نورية)، أي منسوبة إلى النور كما سبق بيانه (في كلمة يوسفية)، إنما اختصت حكمة يوسف عليه السلام بكونها نورية، لأن النور ممد الجمال الصوري في الهياكل الإنسانية، لأنه إشراق وجه الروح إلى جهة الجسم.
ويوسف عليه السلام كان الجمال النوراني مشرقة على صورته الظاهرة والباطنة؛ ولهذا شهد له النبي صلى الله عليه السلام وسلم أنه أعطي شطر الحسن، وهو أعطي الحسن كله. لأنه أعطي هذا الشطر الذي هو عين الحضرة الصفاتية والاسمائية. 
وأعطي الشطر الآخر الذي هو عين الحضرة الذاتية الإلهية فكمل له الحسن ؟  ذات وصفات وأسماء .


قال الشيخ رضي الله عنه : (هذه الحكمة النورية انبساط نورها على حضرة الخيال وهو أول مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية. تقول عائشة رضي الله عنها: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا خرجت مثل فلق الصبح «تقول لا خفاء بها. وإلى هنا بلغ علمها لا غير.
وكانت المدة له في ذلك ستة أشهر ثم جاءه الملك، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»، وكل ما يرى في حال النوم فهو من ذلك القبيل، وإن اختلفت الأحوال.
فمضى قولها ستة أشهر، بل عمره كله في الدنيا بتلك المثابة: إنما هو منام في منام.)
(هذه الحكمة النورية) من حقيقة يوسف عليه السلام (انبساط نورها) دائما (على حضرة الخيال) من كل إنسان في النوم وفي اليقظة.
حتى أنني بما جربته أني إذا قصت على رؤيا منام وطلب مني تعبيرها أتوجه بكليتى قبل إمرار صورة تلك الرؤيا على خيالي إلى يوسف عليه السلام بالنورية.
وأصلي وأسلم عليه في نفسي أو في لساني، ثم أتكلم في تعبير تلك الرؤيا ، فلا أكاد أخطىء إن شاء الله تعالى، وإذا لم أفعل كذلك أخطأت كثيرة (وهو)، أي الخيال المنبسط عليه تلك الحضرة النورية أول مباديء الوحي الإلهي (في أهل العناية الإلهية من الرسل والأنبياء عليهم السلام، ولهذا ورد في الحديث : «الرؤيا الصالحة جزء من النبوة»).
"" أضاف المحقق : يقول الشيخ ابن العربي الطائي الحاتمي :
" الخيال أحق باسم النور من جميع المخلوقات الموصوفة بالنورية ، فنوره لا يشبه الأنوار ، وبه تدرك التجليات وهو نور عين الخيال لا نور عين الحس .""

وفي رواية : «ذهبت النبوات وبقيت المبشرات»، أورده ابن حجر العسقلاني في الإصابة في تمييز الصحابة . «الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تری له ».رواه الحاكم في المستدرك ،والطبراني في الكبير ورواه غيرهما.

فبقي من الوحي عالم الخيال في المنام بين الأمة غير ذاهب .
(تقول عائشة رضي الله عنها أول ما بدئ)، أي بدأ الله تعالى (به رسول الله) صلى الله عليه وسلم  (من الوحي) النبوي (الرؤيا) في المنام الصادقة المنزهة عن كونها أضغاث أحلام (فكان) صلى الله عليه وسلم (لا يرى الرؤيا) في منامه (إلا خرجت) تلك الرؤيا أي ظهرت في اليقظة بعين ما رأى في المنام (مثل فلق الصبح)، أي ضوئه المنتشر في أقطار الأرض بحيث لا يخفى (تقول)، أي عائشة رضي الله عنها (لا خفاء بها)، أي بتلك الرؤيا (وإلى هنا)، أي كون أول مبادئ الوحي كان الرؤيا الصادقة من النبي صلى الله عليه وسلم الظاهرة التي لا خفاء بها .
(بلغ)، أي وصل (علمها)، أي علم عائشة رضي الله عنها حين قالت ذلك (لا غير) مما هو فوق ذلك مما كان يعرفه النبي ة ويعرفه أبوها الصديق رضي الله عنه، ومن ضاهاه من الصحابة أرباب المقامات الاختصاصية .
(وكانت المدة) التي يرى فيها النبي الرؤيا الصادقة فتخرج ظاهرة مثل فلق الصبح (له)، أي للنبي عليه السلام في ذلك الأمر المذكور (ستة أشهر) فقط كما جاء في الأخبار الصحيحة (ثم جاء الملك)، أي جبريل بالوحي القرآني
(وما علمت) أي عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال : إن الناس نيام)، أي نائمون بنوم الغفلة في الحياة الدنيا الوهمية عن اليقظة الحقيقية بالحياة الآخرة

(فإذا ماتوا) عن حياتهم الموهومة لهم موتا اختيارية أو اضطرارية (انتبهوا) من نورهم ذلك وقاموا بالحياة الحقيقية الأبدية الإلهية.
كما قال تعالى:" يوم يقوم الناس لرب العالمين" [المطففين: 6].
وقال تعالى: "ومن آياته منامكم بالليل والنهار" [الروم: 23]، فقد استوعب نوم الغافلين الليالي والأيام (وكل ما)، أي شيء (يرى)، أي يراه أحد (في حال النوم فهو من ذلك القبيل) الذي قالت عائشة رضي الله عنها فهو من جملة الوحي الإلهامي عند أهل المعرفة.
(وإن اختلفت الأحوال) من الرائي لذلك بالصلاح والفساد، لأن الناس الموصوفين بأنهم نيام غیر مخصوصین من العموم، ولكن لا يعرف هذا غير أرباب الكمال من خاصة الرجال .
(فمضى)، أي ذهب (قولها)، أي عائشة رضي الله عنها وكانت المدة له في ذلك (ستة أشهر)، إلى مقدار ما تعلم من ذلك (بل) كان عمره) صلى الله عليه وسلم  (كله في) الحياة (الدنيا بتلك المثابة) التي قالت عائشة رضي الله عنها بمقتضى قوله عليه السلام : «الناس نيام».
وقول الله تعالى له : "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي" [الكهف: 110].
فانظر قوله:"يوحى إلى " ، أي في جميع أحوالي كما قال تعالى: "إن هو إلا وحي يوحى" [النجم: 4] .
(إنما هو)، أي عمره صلى الله عليه وسلم بسبب كونه من جملة الناس الذين أخبر عنهم أنهم نیام وقوله : «إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ».
(منام) كان ينامه (في منام) هو يقظة الحياة الدنيا إلا مدة ذلك ستة أشهر فقط يعني كل نوم كان ينامه فهو كذلك في مدة عمره عليه السلام.

قال الشيخ رضي الله عنه : (وكل ما ورد من هذا القبيل فهو المسمى عالم الخيال ولهذا يعبر، أي الأمر الذي هو في نفسه على صورة كذا ظهر في صورة غيرها، فيجوز العابر من هذه الصورة التي أبصرها النائم إلى صورة ما هو الأمر عليه إن أصاب كظهور العلم في صورة اللبن.
فعبر في التأويل من صورة اللبن إلى صورة العلم فتأول أي قال: مآل هذه الصورة اللبنية إلى صورة العلم.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه أخذ عن المحسوسات المعتادة فسجي وغاب عن الحاضرين عنده: فإذا سري عنه رد. فما أدركه إلا في حضرة الخيال، إلا أنه لا يسمى نائما.)

(وكل ما ورد من رؤياه) المنامية عليه السلام ورؤيا غيره أيضا (من هذا القبيل)، أي منام في منام مدة العمر (فهو)، أي الوارد من ذلك (المسمى عالم الخيال)، لأن الله تعالى يخلقه للنائم فكشف له عنه، فیدركه النائم بقوة خياله فهو عالم، أي موجود عنده لا عند غيره ممن ليس بنائم.
(ولهذا)، أي لكون المسمى عالم الخيال (يعبر)، أي يعبره المعبرون (أي) بيان للضمير المستتر في الفعل الأمر الذي يراه النائم (وهو في نفسه على صورة كذا)، أي صورة كانت من الصور المحسوسة أو المعنوية المعقولة (ظهر)، أي ذلك الأمر باعتبار حالة النوم (في صورة) أخرى محسوسة (غيرها)، أي غير تلك الصورة الأولى التي هو عليها ذلك الأمر.
(فيجوز)، أي يمر ويتجاوز الإنسان (العابر)، أي المعبر لتلك الرؤيا المنامية (من هذه الصورة) الثانية التي أبصرها النائم في منامه المنسوبة لذلك الأمر إلى (صورة ما هو) ذلك (الأمر عليه) من صورته التي هو عليها في عالم محسوسة كانت أو معقولة (إن أصاب) ذلك العابر في تعبيره (كظهور) صورة (العام) المعنوية في المنام (في صورة اللبن)، أي الحليب المحسوسة لمن رأى ذلك (فعبر)، أي جاوز العابر (في التأويل من صورة اللبن) المرئية في المنام.

(إلى صورة العلم فتأول) ذلك (أي قال مآل)، أي مرجع (هذه الصورة اللبنية)، أي المنسوبة إلى اللبن التي رآها الرائي في المنام (إلى صورة العلم) في اليقظة، وهكذا في كل رؤيا عبرها العابر وأولها المؤول.
(ثم إنه)، أي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (كان إذا أوحي إليه)، أي إذا أوحى الله تعالى إليه بالملك (أخذ بالبناء للمفعول، أي غاب (عن) الأشياء المحسوسات المعتادة) للناس (فسجي)، أي غطي بثوب ونحوه (وغاب عن) الجماعة (الحاضرين عنده فإذا سري)، أي ذهب ذلك الحال (عنه رد) صلى الله عليه وسلم إلى المحسوسات المعتادة (فما أدركه)، أي الوحي (إلا في حضرة الخيال إلا أنه)، أي النبي في تلك الحالة (لا يسمى نائما)، لأن النوم فتور يأتي من قبل الطبيعة لضعف تماسكها في بعض الأحيان من تراكم الأبخرة الرطبة المتصاعدة إلى الدماغ.
وهذه الحالة من قبل الروح الإنساني القدسي وتوجهه إلى إفادة النفس المتشعبة في الجسم التي هي شعاع ذلك الروح الإنساني، فتفيض ما أفاضته في الصور الطبيعية فتزول المعاني في الصور الطبيعية.
هو القدر المشترك بين حالة النائم وهذه الحالة، والفرق بينهما من جهة المبدأ الفياض.
ولهذا ورد في الحديث : أن رؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة». رواه مسلم وابن حبان وغيرهما.
وفي رواية : «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة». رواه البخاري والنسائي وغيرهما.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك إذا تمثل له الملك رجلا فذلك من حضرة الخيال، فإنه ليس برجل وإنما هو ملك، فدخل في صورة إنسان.
فعبره الناظر العارف حتى وصل إلى صورته الحقيقية، فقال هذا جبريل أتاكم يعلمكم  دينكم.
و قد قال لهم ردوا علي الرجل فسماه بالرجل من أجل الصورة التي ظهر لهم فيها.
ثم قال هذا جبريل فاعتبر الصورة التي مآل هذا الرجل المتخيل إليها. فهو صادق في المقالتين:
صدق للعين في العين الحسية، وصدق في أن هذا جبريل، فإنه جبريل بلا شك. )
(وكذلك)، أي مثل ما ذكر (إذا تمثل له الملك) الذي يوحي إليه (رجلا)، أي في صورة رجل كما كان يأتيه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي (فذلك) التمثل (من حضرة الخيال) أيضا .
(فإنه)، أي الملك المتمثل (ليس برجل) من بني آدم (وإنما هو ملك) من الملائكة (فدخل) ذلك الملك (في صورة إنسان) فالحقيقة الروحانية للملك والإنسانية فيه خيالية (فعبره الناظر) إلى تلك الصورة الإنسانية (العارف) بذلك التمثيل يعني جاوز من تلك الصورة الإنسانية (حتى وصل إلى صورته)، أي صورة ذلك الملك الحقيقية التي هو عليها في نفسه .
والحاصل أن الأرواح سواء كانت ملكية أو إنسانية أو جنية أو شيطانية أو حيوانية أو غير ذلك قابلة للتشكل والدخول في أي صورة شاءت من الصو.
غير أن تلك القابلية فيها إما بالفعل كالأرواح الملكية والجنية والشيطانية وبعض الإنسانية، أو بالقوة كالأرواح الحيوانية وغيرها، وكل هذا بواسطة القوة المتخيلة ووجود عالم الخيال واتصاله بعالم الأرواح في الكل، والوحي يكون بتجريد النبي عن صورته الحسية الخيالية ودخوله في صورة ملكية خيالية أخرى.
وهو حال غيبته عن الحاضرين عنده ، أو بتجريد الملك عن صورته الخيالية ونزوله في الصورة الحسية الخيالية الإنسانية.

وهو مجيئه في صورة دحية الكلبي أو صورة الأعرابي والصور كلها خيالية في الملأ الأعلى والأدنى، والحقائق كلها روحانية في الأعلى والأدنى أيضا، فكل ما هو غير الحق تعالی عالم روحاني له قوة خيال يظهر بها في كل صورة إما بالفعل أو بالقوة (فقال) عليه السلام عند ذلك التعبير لهم عنه كما يعبر لهم رؤيا المنام بصورة غير صورة ما رأوا (هذا)، أي الرجل الذي رأيتموه (جبرائیل) علیه السلام (أتاكم) في عالم منامكم الذي هو يقظتكم في الدنيا.
(یعلمكم دینكم) بسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم على حسب ما ورد في بقية الحديث.
(وقد قال)، أي النبي صلى الله عليه وسلم (لهم ردوا على الرجل فسماه)، أي الملك (بالرجل من أجل الصورة التي ظهر لهم) ذلك الملك (فيها ثم قال) صلى الله عليه وسلم  (هذا جبرائیل) علیه السلام (فاعتبر الصورة) الجبرائيلية (التي مآل)، أي مرجع (هذا الرجل المتخيل) لهم في التأويل.
(إليها فهو) صلى الله عليه وسلم  (صادق في المقالتين صدق) في المقالة الأولى ردوا على الرجل (العين) التي ظهر بها الملك له ولهم في صورة الرجل (في العين الحسية) الباصرة، فإنها لا ترى إلا الصورة المحسوسة (وصدق في أن هذا جبرائیل) علیه السلام في عين القلب التي هي البصيرة العارفة بذلك (فإنه)، أي ذلك الرجل (جبرائیل) علیه السلام (بلا شك) في نفس الأمر فقد أوفي عليه السلام كل عين حقها وأعطى كل عالم مقتضاه وهو الكمال المطلوب.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( و قال يوسف عليه السلام: «إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين»: فرأى إخوته في صورة الكواكب و رأى أباه و خالته في صورة الشمس و القمر.
هذا من جهة يوسف، ولو كان من جهة المرئي لكان ظهور إخوته في صورة الكواكب وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس والقمر مرادا لهم.
فلما لم يكن لهم علم بما رآه يوسف كان الإدراك من يوسف في خزانة خياله، وعلم ذلك يعقوب حين قصها عليه فقال: «يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا» ثم برأ أبناءه عن ذلك الكيد وألحقه بالشيطان، وليس إلا عين الكيد.
فقال: «إن الشيطان للإنسان عدو مبين» أي ظاهر العداوة. ثم قال يوسف بعد ذلك في آخر الأمر: «هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا» أي أظهرها في الحس بعد ما كانت في صورة الخيال، فقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «الناس نيام»،)

"إن الشيطان للإنسان عدو مبين" [يوسف: 5] أي ظاهر العداوة .
ثم قال يوسف بعد ذلك في آخر الأمر: "هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا". أي أظهرها في الحس بعد ما كانت في صورة الخيال، فقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : «الناس نيام».
(وقال يوسف عليه السلام) في رؤياه التي قصها على أبيه (" إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " [يوسف: 4] .
فرأى عليه السلام (إخوته) الاثنى عشر (في صورة الكواكب ورأى أباه يعقوب) عليه السلام  (في صورة الشمس) (وخالته) أخت أمه  كان أبوه قد تزوجها بعد موت أمه في صورة (القمر) .
(هذا) الأمر كان (من جهة يوسف) عليه السلام في عالم خياله (ولو كان) الأمر كذلك (من جهة المرئي لكان ظهور إخوته) عليهم السلام (في صورة الكواكب وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس والقمر مرادا لهم) من جهة عالم خيالهم أن يظهروا كذلك ليوسف عليه السلام.
مثل ظهور الملك "جبريل" في صورة الأعرابي من جهة عالم خياله أمر مراد له أن يظهر فيه للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة رضي الله عنهم.
(فلما لم يكن لهم)، أي لإخوة يوسف عليه السلام لأبيه وخالته (علم بما رآه يوسف عليه السلام) منهم في المنام في عالم خياله (كان الإدراك) في تلك الصور
من جهة (يوسف عليه السلام في خزانة خياله) بحسب منامه .
(وعلم ذلك)، أي أن تلك الصور من جهة يوسف عليه السلام لا من جهة المرئي (يعقوب أبوه عليهما السلام حين قصها)، أي هذه الرؤيا المنامية (عليه فقال ) يعقوب عليه السلام (" يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا") [يوسف: 5] .
بسبب علمهم من ذلك رفعتك عليهم وانقيادهم لك طوعا لسلطانك.
(ثم برأ) يعقوب عليه السلام (بنیه) عليهم السلام (عن ذلك الكيد) الذي علم أنه يصدر منهم في حق يوسف عليه السلام (وألحقه)، أي ذلك الكيد (بالشيطان وليس الشيطان في ذلك إلا عين الكيد) الذي وقع منهم في حق يوسف عليه السلام فإنهم أنبياء كما هو نبي وهم معصومون من الذنوب.
فإذا صدر منهم ذنب كان من عمل الشيطان الذي يجري من الإنسان في جسده مجرى الدم لا من علمهم، كما قال موسى لما وكز القبطي فقضى عليه إنه من عمل الشيطان.
ثم قال : و"وقتلت منهم نفسا" [القصص: 33]، أي بالنظر إلى رؤيتهم ذلك، فإن الشيطان استعمل" الغضب" يد موسی علیه السلام في القتل دون الحقيقة الإنسانية المعصومة من الذنوب ، فكان ظهور صور الذنوب على أجسام الأنبياء عليهم السلام نظير ظهور ذلك على أجسام
غيرهم من الناس الذي لم يكن ذلك عن تعمد منهم كما قال عليه السلام «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » فليست ذنوبا صغائر ولا كبائر وإنما هي صور الذنوب فقط.
الحديث أورده العجلوني في كشف الخفاء وأورده السيوطي في التفسير بلفظ : «رفع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه». وعزاه إلى ابن عدي في الكامل وأبي نعيم في التاريخ. و روي الحديث بألفاظ اخرى متقاربة منها: «وضع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

قال تعالى: "ولكن يؤاكم ما كسبت قلوبكم" [البقرة : 225]، وأما غير الأنبياء عليهم السلام إذا صدرت منهم الذنوب فإن الشيطان يستعمل فيها حقائقهم الإنسانية مع أعضائهم الجسمانية فتكون ذنوبة من الصغائر والكبائر.
وكون الشيطان نفس الكيد، لأنه قوة نارية اتصلت بأجسام النبيين فحفظ الله تعالى منها إنسانيتهم وعصمها فلم يصدر عنها ذنب أصلا وإنما صدر ذلك من الشيطان باستعمال أجسامهم كما ورد أن الله سلط الشيطان على جسد أيوب عليه السلام وحفظ قلبه.
فكان البلاء في جسده دون قلبه، وفي آدم عليه السلام حتى أكل من الشجرة فأهبط الله تعالی جسده إلى الأرض بسبب عصيانه الصوري. وهو في الحقيقة عصیان الشيطان العصيان الحقيقي.
وقلب آدم عليه السلام الذي هو إنسانيته المكلفة لم تبرح من حضرة الحق تعالی كباقي النبيين عليهم السلام، وهي المعصومة دون غيرهم من الناس، فإن التكليف واقع من الله تعالى على الإنسانية المتصلة بالجسد لا على الجسد.
ونظير هذا قصة الغرانيق التي وقعت لنبينا صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى فيها قوله سبحانه : "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " [الحج: 52]، الآية .
أرأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر وأخذ عن زوجته وكان يخيل له أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، والسحر استعمال الشياطين.
فكان ذلك في جسد النبي دون قلبه وأنزل الله عليه المعوذتين في شأن ذلك ولا ينافي هذا قول علماء الكلام إن الأنبياء معصومون من الصغائر والكبائر عمدها وخطئها.

فإن هذا ليس من الذنوب بالنظر إلى الأنبياء عليهم السلام أصلا، وإن صدر على خواطرهم، فإنه من عمل الشيطان .
كما قال تعالى حكاية عنهم وليس من عملهم، ولعل للأنبياء عليهم السلام في حالة صدور ذلك عنهم حالة نفسانية خصوصية يعرفونها نظير الخطأ أو النسيان فينا.
فالنائم إذا رأى في منامه أنه فعل ذنبا فإنه ليس بذنب أصلا، ويؤيده قوله تعالى: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي" [طه: 115]، فقد سمى تعالى تلك الحالة نسيانا ولا
يقاس غير الأنبياء على الأنبياء والأمر ذوقي لا خيالي، والله أعلم.
(فقال) يعقوب عليه السلام ("إن الشيطان للإنسان") [يوسف : 5] من طرف يوسف وإخوته عليهم السلام وعدو مبيه [يوسف: 5]، (أي ظاهر العداوة) لا تخفي عداوته (ثم قال يوسف) لأبيه عليه السلام (بعد ذلك في آخر الأمر) بعد أن وقع الكيد له من إخوته ونجاه الله تعالى من ذلك .

وأتته إخوته ووضع أبويه على العرش وخروا له سجدا (هذا)، أي ما وقع الآن (تأويل)، أي مآل، أي مرجع (رؤياي) المنامية (من قبل قد جعلها ربي حقا) بعدما كانت خيالا لا باطلا في غير صورتها الآن .
(أي أظهرها) في صورتها الأصلية (في) عالم (الحس بعدما كانت في صورة الخيال فقال له)، أي ليوسف عليه السلام بلسان الحال نظرا إلى مقابلة الكاملين (النبي صلى الله عليه وسلم الناس) في عالم الحس في الحياة الدنيا الذي سماه يوسف عليه السلام حق أي أمرة حقيقية (نیام) جمع نائم، فإذا ماتوا انتبهوا ، وكذلك إذا ماتوا نیام، فإذا بعثوا انتبهوا.
قال تعالى : "قالوا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا" [يس : 52]، والمرقد موضع الرقود وهو النوم وكذلك إذا بعثوا نيام، فإذا استقروا في جنة أو نار انتبهوا ، والانتباه الحقيقي الذي ليس بعده نوم وقت رؤية الحق تعالی و ظهور أمره مجردا عن كل صورة، لأن الصورة كلها خيالية كما قدمناه والحقائق كلها أمرية روحانية .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكان قول يوسف: «قد جعلها ربي حقا» بمنزلة من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤيا رآها ثم عبرها.
ولم يعلم أنه في النوم عينه ما برح، فإذا استيقظ يقول رأيت كذا ورأيت كأني استيقظت وأولها بكذا. هذا مثل ذلك.
فانظر كم بين إدراك محمد صلى الله عليه و سلم و بين إدراك يوسف عليه السلام في آخر أمره حين قال: «هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا». معناه حسا أي محسوسا، و ما كان إلا محسوسا، فإن الخيال لا يعطي أبدا إلا المحسوسات، غير ذلك ليس له.
فانظر ما أشرف علم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم. و سأبسط من القول)

فنقول :
(فكان قول يوسف عليه السلام : "قد جعلها ربي حقا " [يوسف : 100] بمنزلة من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤيا) منامية (رآها ثم عبرها) في نومه (ولم يعلم ذلك) الرائی (المعبر أنه ) في حالة الرؤيا وحالة الاستيقاظ والتعبير لتلك الرؤيا (في النوم عينه)، أي عين ذلك النوم الأول الذي كانت فيه الرؤيا (ما برح) عنه (فإذا استيقظ) من ذلك النوم اليقظة الحقيقية.
(يقول رأيت) في منامي (كذا ورأيت) في منامي أيضا (كأني استيقظت) من منامي (وأولتها)، أي تلك الرؤيا (بكذا هذا) المذكور .
(مثل ذلك) الذي قاله يوسف عليه السلام (فانظر) يا أيها السالك (كم) من التفاوت في الرتبة (بين إدراك) نبينا (محمد صلى الله عليه وسلم وبين إدراك يوسف عليه السلام في آخر أمره) لما كان عزیز مصر (حين قال : "هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا" [يوسف: 100] معناه)، أي معنى حقا جعلها ربي (حسا، أي) أمرا (محسوسا) يدرك بالحواس (وما كان) ذلك التأويل (إلا) أمرا (محسوسا) له صورة في الحس.
(فإن) عالم (الخيال لا يعطي أبدا إلا) الأمور (المحسوسات)، أي المدركات بالحس (غير ذلك) الأمر (ليس له)، أي الخيال.
(فانظر) يا أيها السالك (ما أشرف علم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم  ) الذي أخذوه من مشكاة نبوته عليه السلام بالمتابعة والاقتداء ، فإن الأنبياء الماضين عليهم السلام لم يعلموا ذلك من حيث مقام نبوتهم بسبب عدم كونهم من هذه الأمة والورثة من الأولياء في هذه الأمة.

ما نالوه من جهة نبوة أنفسهم، وإنما نالوه من نبوة نبيهم، ولا يلزم بذلك تفضيلهم على الأنبياء الماضين.
لأن حصول العلم من الغير السابق إليه لا يلزم الفضيلة به، وإنما الفضيلة لمن تبيعوه في حصوله وهو محمد صلى الله عليه وسلم  ، لأن الحاصل له عليه السلام من نبوته الكاملة.
قال صلى الله عليه وسلم : «لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي» ومن هنا قول المصنف قدس سره : "خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله" والبحر هو علم محمد صلى الله عليه وسلم المختص به.
وفي رواية : بحارة. كناية عن علومه عليه السلام.
ووقوف الأنبياء عليهم السلام بساحله : اطلاعهم على أنه نبي آخر الزمان وأنه سيبعثه الله تعالى من غير اطلاع على تفاصيل علومه ولا خوض فيها.
(و سأبسط القول في) بيان هذه (الحضرة ) الخيالية التي كان يوسف عليه السلام عالما بها ، فانتسب إليه تعبير الرؤيا لأجل ذلك (بلسان) الولي الوارث مقام (یوسف عليه السلام) من المقام (المحمدي) الجامع لجميع مقامات الأنبياء عليهم السلام (ما)، أي بسطا وبيانا (ستقف عليه)، أي تعرفه قريبا (إن شاء الله تعالی فنقول) في بيان ذلك .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( اعلم أن المقول عليه «سوى الحق» أو مسمى العالم هو بالنسبة إلى الحق كالظل للشخص، وهو ظل الله ، وهو عين نسبة الوجود إلى العالم لأن الظل موجود بلا شك في الحس ، ولكن إذا كان ثم من يظهر فيه ذلك الظل: حتى لو قدرت عدم من يظهر فيه ذلك الظل: كان الظل معقولا غير موجود في الحس، بل يكون بالقوة في ذات الشخص المنسوب إليه الظل.
فمحل ظهور هذا الظل الإلهي المسمى بالعالم إنما هو أعيان الممكنات: عليها امتد هذا الظل، فتدرك من هذا الظل بحسب ما امتد عليه من وجود هذه الذات.
ولكن باسمه النور وقع الإدراك و امتد هذا الظل على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول .
ألا ترى الظلال تضرب إلى السواد تشير إلى ما فيها من الخفاء لبعد المناسبة بينها و بين أشخاص من هي ظل له؟. وإن كان الشخص أبيض فظله بهذه المثابة.
ألا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر سوداء وقد تكون في أعيانها على غير ما يدركها الحس من اللونية، و ليس ثم علة إلا البعد؟. وكزرقة السماء.
فهذا ما أنتجه البعد في الحس في الأجسام غير النيرة. )

(اعلم) يا أيها السالك (أن) الشيء (المقول عليه) عند الحس والعقل (سوی الحق) تعالى من جميع المخلوقات .
(أو مسمي العالم) بفتح اللام لأن الله تعالى يعلم به (هو) كله (بالنسبة إلى) وجود (الحق) تعالى في نفسه (كالظل) الممتد (للشخص) في النور (فهو)، أي سوى الحق تعالى المسمی عالما (ظل الله) تعالى.
أي أثره الظاهر عنه على صورة ما علمه فأراده في الأزل (فهو)، أي ذلك الظل (عين نسبة الوجود إلى العالم) والعالم على أصله من العدم (لأن الظل) الممتد عن الشخص في النور (موجود بلا شك في الحس ولكن)، إنما يكون موجودا (إذا كان ثم)، أي هناك (من يظهر فيه ذلك الظل حتى لو قدرت عدم من يظهر فيه ذلك الظل) من أرض أو ماء أو نحو ذلك (كان الظل) حينئذ أمرا (معقولا غير موجود في الحس) بالفعل بل يكون موجودة (بالقوة في ذات الشخص المنسوب إليه) ذلك (الظل) إذا علم هذا.
(فمحل ظهور هذا الظل الإلهي) الذي هو الوجود المفاض من الحق تعالی على ما سواه من الممكنات (المسمى ذلك) الظل (بالعالم) باعتبار الوجود المستفاد من الحق تعالى (إنما هو أعيان الممكنات) العدمية بالعدم الأصلي (عليها)، أي على تلك الأعيان (امتد هذا الظل) الوجودي .
(فيدرك) بالبناء للمفعول أي يدرك المدركون (من هذا الظل) الممتد (بحسب)، أي مقدار (ما امتد عليه) من أعيان تلك الممكنات (من وجود هذه الذات) القديمة التي هذا ظلها امتد فظهر منها مقدار ما ظهر من أعيان الممكنات ، ويظهر على حسب ما ترتبت تلك الممكنات في أزلها العدمي (ولكن باسمه) تعالی (النور) كما قال تعالى : "الله نور السموات والأرض" [النور: 35]، أي منورهما .
(وقع الإدراك) لذلك الظل لأن به كان ظهوره ولولا النور ما تبين الظل المستور، فالنور سبب إدراك الكائنات بعضها لبعض؛ ولهذا كان الإدراك بمعنی باطني يأتي للكائنات من ورائها فلو استقبلته لما رأت شيئا لانطماسها به .
قال تعالى: "والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " [البروج : 20 - 22]. والقرآن نور كما قال الله تعالى: "النور الذي أنزلنا" [التغابن: 8] .
(وامتد هذا الظل) الوجودي من عين الوجود (على أعيان الممكنات) العدمية (في صورة)، أي هوية (الغيب) الذاتي الإلهي (المجهول) مطلقا على معنى أن ذلك الامتداد في صورة ذلك الغيب المذكور.
أي في مراتب صفاته وأسمائه وأحكامه وأفعاله المسماة صورته باعتبار تعينها من ذاته التعين الأزلي باستعداد الكائنات العدمية الغير المجعولة المستعدة للجعل بتلك الصورة الغيبية وهو الأمر الذي قال تعالى : "ذلك أمر الله أنزله إليكم" [الطلاق: 5]، وهو التوجه الأزلي المسمى بالوجه .
في قوله سبحانه : "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88]
وقوله تعالى : "فأينما تولوا فثم وجه الله إن" [البقرة : 115].
(ألا ترى) يا أيها السالك (أن الظلال) جمع ظل، أي ظلال الأشياء في الأنوار (تضرب)، أي تميل (إلى) لون (السواد) كأنها (تشير) بذلك (إلى ما فيها)، أي في نفس الظلال (من الخفاء) بالنسبة إلى ظهور ما هي ظلال عنه بها.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الأول .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس يوليو 18, 2019 9:57 am

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الأول .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية
هذا نص الحكمة اليوسفية ذكره بعد حكمة يعقوب عليه السلام، لأنه ابنه والأب مقدم على الابن والابن مؤخر عن الأب في رتبة الوجود.
ولأن علم الخيال الذي يبحث عنه في الحكمة اليوسفية ، هو من أحد الطرق الموصلة إلى معرفة أعيان الممكنات في حال ثبوتها.
فناسب تتميم المبحث السابق بما منه (فص حكمة نورية)، أي منسوبة إلى النور كما سبق بيانه (في كلمة يوسفية)، إنما اختصت حكمة يوسف عليه السلام بكونها نورية، لأن النور ممد الجمال الصوري في الهياكل الإنسانية، لأنه إشراق وجه الروح إلى جهة الجسم.
ويوسف عليه السلام كان الجمال النوراني مشرقة على صورته الظاهرة والباطنة؛ ولهذا شهد له النبي صلى الله عليه السلام وسلم أنه أعطي شطر الحسن، وهو أعطي الحسن كله. لأنه أعطي هذا الشطر الذي هو عين الحضرة الصفاتية والاسمائية. 
وأعطي الشطر الآخر الذي هو عين الحضرة الذاتية الإلهية فكمل له الحسن ؟  ذات وصفات وأسماء .


قال الشيخ رضي الله عنه : (هذه الحكمة النورية انبساط نورها على حضرة الخيال وهو أول مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية. تقول عائشة رضي الله عنها: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا خرجت مثل فلق الصبح «تقول لا خفاء بها. وإلى هنا بلغ علمها لا غير.
وكانت المدة له في ذلك ستة أشهر ثم جاءه الملك، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»، وكل ما يرى في حال النوم فهو من ذلك القبيل، وإن اختلفت الأحوال.
فمضى قولها ستة أشهر، بل عمره كله في الدنيا بتلك المثابة: إنما هو منام في منام.)
(هذه الحكمة النورية) من حقيقة يوسف عليه السلام (انبساط نورها) دائما (على حضرة الخيال) من كل إنسان في النوم وفي اليقظة.
حتى أنني بما جربته أني إذا قصت على رؤيا منام وطلب مني تعبيرها أتوجه بكليتى قبل إمرار صورة تلك الرؤيا على خيالي إلى يوسف عليه السلام بالنورية.
وأصلي وأسلم عليه في نفسي أو في لساني، ثم أتكلم في تعبير تلك الرؤيا ، فلا أكاد أخطىء إن شاء الله تعالى، وإذا لم أفعل كذلك أخطأت كثيرة (وهو)، أي الخيال المنبسط عليه تلك الحضرة النورية أول مباديء الوحي الإلهي (في أهل العناية الإلهية من الرسل والأنبياء عليهم السلام، ولهذا ورد في الحديث : «الرؤيا الصالحة جزء من النبوة»).
"" أضاف المحقق : يقول الشيخ ابن العربي الطائي الحاتمي :
" الخيال أحق باسم النور من جميع المخلوقات الموصوفة بالنورية ، فنوره لا يشبه الأنوار ، وبه تدرك التجليات وهو نور عين الخيال لا نور عين الحس .""

وفي رواية : «ذهبت النبوات وبقيت المبشرات»، أورده ابن حجر العسقلاني في الإصابة في تمييز الصحابة . «الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تری له ».رواه الحاكم في المستدرك ،والطبراني في الكبير ورواه غيرهما.

فبقي من الوحي عالم الخيال في المنام بين الأمة غير ذاهب .
(تقول عائشة رضي الله عنها أول ما بدئ)، أي بدأ الله تعالى (به رسول الله) صلى الله عليه وسلم  (من الوحي) النبوي (الرؤيا) في المنام الصادقة المنزهة عن كونها أضغاث أحلام (فكان) صلى الله عليه وسلم (لا يرى الرؤيا) في منامه (إلا خرجت) تلك الرؤيا أي ظهرت في اليقظة بعين ما رأى في المنام (مثل فلق الصبح)، أي ضوئه المنتشر في أقطار الأرض بحيث لا يخفى (تقول)، أي عائشة رضي الله عنها (لا خفاء بها)، أي بتلك الرؤيا (وإلى هنا)، أي كون أول مبادئ الوحي كان الرؤيا الصادقة من النبي صلى الله عليه وسلم الظاهرة التي لا خفاء بها .
(بلغ)، أي وصل (علمها)، أي علم عائشة رضي الله عنها حين قالت ذلك (لا غير) مما هو فوق ذلك مما كان يعرفه النبي ة ويعرفه أبوها الصديق رضي الله عنه، ومن ضاهاه من الصحابة أرباب المقامات الاختصاصية .
(وكانت المدة) التي يرى فيها النبي الرؤيا الصادقة فتخرج ظاهرة مثل فلق الصبح (له)، أي للنبي عليه السلام في ذلك الأمر المذكور (ستة أشهر) فقط كما جاء في الأخبار الصحيحة (ثم جاء الملك)، أي جبريل بالوحي القرآني
(وما علمت) أي عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال : إن الناس نيام)، أي نائمون بنوم الغفلة في الحياة الدنيا الوهمية عن اليقظة الحقيقية بالحياة الآخرة

(فإذا ماتوا) عن حياتهم الموهومة لهم موتا اختيارية أو اضطرارية (انتبهوا) من نورهم ذلك وقاموا بالحياة الحقيقية الأبدية الإلهية.
كما قال تعالى:" يوم يقوم الناس لرب العالمين" [المطففين: 6].
وقال تعالى: "ومن آياته منامكم بالليل والنهار" [الروم: 23]، فقد استوعب نوم الغافلين الليالي والأيام (وكل ما)، أي شيء (يرى)، أي يراه أحد (في حال النوم فهو من ذلك القبيل) الذي قالت عائشة رضي الله عنها فهو من جملة الوحي الإلهامي عند أهل المعرفة.
(وإن اختلفت الأحوال) من الرائي لذلك بالصلاح والفساد، لأن الناس الموصوفين بأنهم نيام غیر مخصوصین من العموم، ولكن لا يعرف هذا غير أرباب الكمال من خاصة الرجال .
(فمضى)، أي ذهب (قولها)، أي عائشة رضي الله عنها وكانت المدة له في ذلك (ستة أشهر)، إلى مقدار ما تعلم من ذلك (بل) كان عمره) صلى الله عليه وسلم  (كله في) الحياة (الدنيا بتلك المثابة) التي قالت عائشة رضي الله عنها بمقتضى قوله عليه السلام : «الناس نيام».
وقول الله تعالى له : "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي" [الكهف: 110].
فانظر قوله:"يوحى إلى " ، أي في جميع أحوالي كما قال تعالى: "إن هو إلا وحي يوحى" [النجم: 4] .
(إنما هو)، أي عمره صلى الله عليه وسلم بسبب كونه من جملة الناس الذين أخبر عنهم أنهم نیام وقوله : «إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ».
(منام) كان ينامه (في منام) هو يقظة الحياة الدنيا إلا مدة ذلك ستة أشهر فقط يعني كل نوم كان ينامه فهو كذلك في مدة عمره عليه السلام.

قال الشيخ رضي الله عنه : (وكل ما ورد من هذا القبيل فهو المسمى عالم الخيال ولهذا يعبر، أي الأمر الذي هو في نفسه على صورة كذا ظهر في صورة غيرها، فيجوز العابر من هذه الصورة التي أبصرها النائم إلى صورة ما هو الأمر عليه إن أصاب كظهور العلم في صورة اللبن.
فعبر في التأويل من صورة اللبن إلى صورة العلم فتأول أي قال: مآل هذه الصورة اللبنية إلى صورة العلم.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه أخذ عن المحسوسات المعتادة فسجي وغاب عن الحاضرين عنده: فإذا سري عنه رد. فما أدركه إلا في حضرة الخيال، إلا أنه لا يسمى نائما.)

(وكل ما ورد من رؤياه) المنامية عليه السلام ورؤيا غيره أيضا (من هذا القبيل)، أي منام في منام مدة العمر (فهو)، أي الوارد من ذلك (المسمى عالم الخيال)، لأن الله تعالى يخلقه للنائم فكشف له عنه، فیدركه النائم بقوة خياله فهو عالم، أي موجود عنده لا عند غيره ممن ليس بنائم.
(ولهذا)، أي لكون المسمى عالم الخيال (يعبر)، أي يعبره المعبرون (أي) بيان للضمير المستتر في الفعل الأمر الذي يراه النائم (وهو في نفسه على صورة كذا)، أي صورة كانت من الصور المحسوسة أو المعنوية المعقولة (ظهر)، أي ذلك الأمر باعتبار حالة النوم (في صورة) أخرى محسوسة (غيرها)، أي غير تلك الصورة الأولى التي هو عليها ذلك الأمر.
(فيجوز)، أي يمر ويتجاوز الإنسان (العابر)، أي المعبر لتلك الرؤيا المنامية (من هذه الصورة) الثانية التي أبصرها النائم في منامه المنسوبة لذلك الأمر إلى (صورة ما هو) ذلك (الأمر عليه) من صورته التي هو عليها في عالم محسوسة كانت أو معقولة (إن أصاب) ذلك العابر في تعبيره (كظهور) صورة (العام) المعنوية في المنام (في صورة اللبن)، أي الحليب المحسوسة لمن رأى ذلك (فعبر)، أي جاوز العابر (في التأويل من صورة اللبن) المرئية في المنام.

(إلى صورة العلم فتأول) ذلك (أي قال مآل)، أي مرجع (هذه الصورة اللبنية)، أي المنسوبة إلى اللبن التي رآها الرائي في المنام (إلى صورة العلم) في اليقظة، وهكذا في كل رؤيا عبرها العابر وأولها المؤول.
(ثم إنه)، أي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (كان إذا أوحي إليه)، أي إذا أوحى الله تعالى إليه بالملك (أخذ بالبناء للمفعول، أي غاب (عن) الأشياء المحسوسات المعتادة) للناس (فسجي)، أي غطي بثوب ونحوه (وغاب عن) الجماعة (الحاضرين عنده فإذا سري)، أي ذهب ذلك الحال (عنه رد) صلى الله عليه وسلم إلى المحسوسات المعتادة (فما أدركه)، أي الوحي (إلا في حضرة الخيال إلا أنه)، أي النبي في تلك الحالة (لا يسمى نائما)، لأن النوم فتور يأتي من قبل الطبيعة لضعف تماسكها في بعض الأحيان من تراكم الأبخرة الرطبة المتصاعدة إلى الدماغ.
وهذه الحالة من قبل الروح الإنساني القدسي وتوجهه إلى إفادة النفس المتشعبة في الجسم التي هي شعاع ذلك الروح الإنساني، فتفيض ما أفاضته في الصور الطبيعية فتزول المعاني في الصور الطبيعية.
هو القدر المشترك بين حالة النائم وهذه الحالة، والفرق بينهما من جهة المبدأ الفياض.
ولهذا ورد في الحديث : أن رؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة». رواه مسلم وابن حبان وغيرهما.
وفي رواية : «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة». رواه البخاري والنسائي وغيرهما.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك إذا تمثل له الملك رجلا فذلك من حضرة الخيال، فإنه ليس برجل وإنما هو ملك، فدخل في صورة إنسان.
فعبره الناظر العارف حتى وصل إلى صورته الحقيقية، فقال هذا جبريل أتاكم يعلمكم  دينكم.
و قد قال لهم ردوا علي الرجل فسماه بالرجل من أجل الصورة التي ظهر لهم فيها.
ثم قال هذا جبريل فاعتبر الصورة التي مآل هذا الرجل المتخيل إليها. فهو صادق في المقالتين:
صدق للعين في العين الحسية، وصدق في أن هذا جبريل، فإنه جبريل بلا شك. )
(وكذلك)، أي مثل ما ذكر (إذا تمثل له الملك) الذي يوحي إليه (رجلا)، أي في صورة رجل كما كان يأتيه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي (فذلك) التمثل (من حضرة الخيال) أيضا .
(فإنه)، أي الملك المتمثل (ليس برجل) من بني آدم (وإنما هو ملك) من الملائكة (فدخل) ذلك الملك (في صورة إنسان) فالحقيقة الروحانية للملك والإنسانية فيه خيالية (فعبره الناظر) إلى تلك الصورة الإنسانية (العارف) بذلك التمثيل يعني جاوز من تلك الصورة الإنسانية (حتى وصل إلى صورته)، أي صورة ذلك الملك الحقيقية التي هو عليها في نفسه .
والحاصل أن الأرواح سواء كانت ملكية أو إنسانية أو جنية أو شيطانية أو حيوانية أو غير ذلك قابلة للتشكل والدخول في أي صورة شاءت من الصو.
غير أن تلك القابلية فيها إما بالفعل كالأرواح الملكية والجنية والشيطانية وبعض الإنسانية، أو بالقوة كالأرواح الحيوانية وغيرها، وكل هذا بواسطة القوة المتخيلة ووجود عالم الخيال واتصاله بعالم الأرواح في الكل، والوحي يكون بتجريد النبي عن صورته الحسية الخيالية ودخوله في صورة ملكية خيالية أخرى.
وهو حال غيبته عن الحاضرين عنده ، أو بتجريد الملك عن صورته الخيالية ونزوله في الصورة الحسية الخيالية الإنسانية.

وهو مجيئه في صورة دحية الكلبي أو صورة الأعرابي والصور كلها خيالية في الملأ الأعلى والأدنى، والحقائق كلها روحانية في الأعلى والأدنى أيضا، فكل ما هو غير الحق تعالی عالم روحاني له قوة خيال يظهر بها في كل صورة إما بالفعل أو بالقوة (فقال) عليه السلام عند ذلك التعبير لهم عنه كما يعبر لهم رؤيا المنام بصورة غير صورة ما رأوا (هذا)، أي الرجل الذي رأيتموه (جبرائیل) علیه السلام (أتاكم) في عالم منامكم الذي هو يقظتكم في الدنيا.
(یعلمكم دینكم) بسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم على حسب ما ورد في بقية الحديث.
(وقد قال)، أي النبي صلى الله عليه وسلم (لهم ردوا على الرجل فسماه)، أي الملك (بالرجل من أجل الصورة التي ظهر لهم) ذلك الملك (فيها ثم قال) صلى الله عليه وسلم  (هذا جبرائیل) علیه السلام (فاعتبر الصورة) الجبرائيلية (التي مآل)، أي مرجع (هذا الرجل المتخيل) لهم في التأويل.
(إليها فهو) صلى الله عليه وسلم  (صادق في المقالتين صدق) في المقالة الأولى ردوا على الرجل (العين) التي ظهر بها الملك له ولهم في صورة الرجل (في العين الحسية) الباصرة، فإنها لا ترى إلا الصورة المحسوسة (وصدق في أن هذا جبرائیل) علیه السلام في عين القلب التي هي البصيرة العارفة بذلك (فإنه)، أي ذلك الرجل (جبرائیل) علیه السلام (بلا شك) في نفس الأمر فقد أوفي عليه السلام كل عين حقها وأعطى كل عالم مقتضاه وهو الكمال المطلوب.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( و قال يوسف عليه السلام: «إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين»: فرأى إخوته في صورة الكواكب و رأى أباه و خالته في صورة الشمس و القمر.
هذا من جهة يوسف، ولو كان من جهة المرئي لكان ظهور إخوته في صورة الكواكب وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس والقمر مرادا لهم.
فلما لم يكن لهم علم بما رآه يوسف كان الإدراك من يوسف في خزانة خياله، وعلم ذلك يعقوب حين قصها عليه فقال: «يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا» ثم برأ أبناءه عن ذلك الكيد وألحقه بالشيطان، وليس إلا عين الكيد.
فقال: «إن الشيطان للإنسان عدو مبين» أي ظاهر العداوة. ثم قال يوسف بعد ذلك في آخر الأمر: «هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا» أي أظهرها في الحس بعد ما كانت في صورة الخيال، فقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «الناس نيام»،)

"إن الشيطان للإنسان عدو مبين" [يوسف: 5] أي ظاهر العداوة .
ثم قال يوسف بعد ذلك في آخر الأمر: "هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا". أي أظهرها في الحس بعد ما كانت في صورة الخيال، فقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : «الناس نيام».
(وقال يوسف عليه السلام) في رؤياه التي قصها على أبيه (" إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " [يوسف: 4] .
فرأى عليه السلام (إخوته) الاثنى عشر (في صورة الكواكب ورأى أباه يعقوب) عليه السلام  (في صورة الشمس) (وخالته) أخت أمه  كان أبوه قد تزوجها بعد موت أمه في صورة (القمر) .
(هذا) الأمر كان (من جهة يوسف) عليه السلام في عالم خياله (ولو كان) الأمر كذلك (من جهة المرئي لكان ظهور إخوته) عليهم السلام (في صورة الكواكب وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس والقمر مرادا لهم) من جهة عالم خيالهم أن يظهروا كذلك ليوسف عليه السلام.
مثل ظهور الملك "جبريل" في صورة الأعرابي من جهة عالم خياله أمر مراد له أن يظهر فيه للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة رضي الله عنهم.
(فلما لم يكن لهم)، أي لإخوة يوسف عليه السلام لأبيه وخالته (علم بما رآه يوسف عليه السلام) منهم في المنام في عالم خياله (كان الإدراك) في تلك الصور
من جهة (يوسف عليه السلام في خزانة خياله) بحسب منامه .
(وعلم ذلك)، أي أن تلك الصور من جهة يوسف عليه السلام لا من جهة المرئي (يعقوب أبوه عليهما السلام حين قصها)، أي هذه الرؤيا المنامية (عليه فقال ) يعقوب عليه السلام (" يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا") [يوسف: 5] .
بسبب علمهم من ذلك رفعتك عليهم وانقيادهم لك طوعا لسلطانك.
(ثم برأ) يعقوب عليه السلام (بنیه) عليهم السلام (عن ذلك الكيد) الذي علم أنه يصدر منهم في حق يوسف عليه السلام (وألحقه)، أي ذلك الكيد (بالشيطان وليس الشيطان في ذلك إلا عين الكيد) الذي وقع منهم في حق يوسف عليه السلام فإنهم أنبياء كما هو نبي وهم معصومون من الذنوب.
فإذا صدر منهم ذنب كان من عمل الشيطان الذي يجري من الإنسان في جسده مجرى الدم لا من علمهم، كما قال موسى لما وكز القبطي فقضى عليه إنه من عمل الشيطان.
ثم قال : و"وقتلت منهم نفسا" [القصص: 33]، أي بالنظر إلى رؤيتهم ذلك، فإن الشيطان استعمل" الغضب" يد موسی علیه السلام في القتل دون الحقيقة الإنسانية المعصومة من الذنوب ، فكان ظهور صور الذنوب على أجسام الأنبياء عليهم السلام نظير ظهور ذلك على أجسام
غيرهم من الناس الذي لم يكن ذلك عن تعمد منهم كما قال عليه السلام «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » فليست ذنوبا صغائر ولا كبائر وإنما هي صور الذنوب فقط.
الحديث أورده العجلوني في كشف الخفاء وأورده السيوطي في التفسير بلفظ : «رفع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه». وعزاه إلى ابن عدي في الكامل وأبي نعيم في التاريخ. و روي الحديث بألفاظ اخرى متقاربة منها: «وضع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

قال تعالى: "ولكن يؤاكم ما كسبت قلوبكم" [البقرة : 225]، وأما غير الأنبياء عليهم السلام إذا صدرت منهم الذنوب فإن الشيطان يستعمل فيها حقائقهم الإنسانية مع أعضائهم الجسمانية فتكون ذنوبة من الصغائر والكبائر.
وكون الشيطان نفس الكيد، لأنه قوة نارية اتصلت بأجسام النبيين فحفظ الله تعالى منها إنسانيتهم وعصمها فلم يصدر عنها ذنب أصلا وإنما صدر ذلك من الشيطان باستعمال أجسامهم كما ورد أن الله سلط الشيطان على جسد أيوب عليه السلام وحفظ قلبه.
فكان البلاء في جسده دون قلبه، وفي آدم عليه السلام حتى أكل من الشجرة فأهبط الله تعالی جسده إلى الأرض بسبب عصيانه الصوري. وهو في الحقيقة عصیان الشيطان العصيان الحقيقي.
وقلب آدم عليه السلام الذي هو إنسانيته المكلفة لم تبرح من حضرة الحق تعالی كباقي النبيين عليهم السلام، وهي المعصومة دون غيرهم من الناس، فإن التكليف واقع من الله تعالى على الإنسانية المتصلة بالجسد لا على الجسد.
ونظير هذا قصة الغرانيق التي وقعت لنبينا صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى فيها قوله سبحانه : "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " [الحج: 52]، الآية .
أرأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر وأخذ عن زوجته وكان يخيل له أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، والسحر استعمال الشياطين.
فكان ذلك في جسد النبي دون قلبه وأنزل الله عليه المعوذتين في شأن ذلك ولا ينافي هذا قول علماء الكلام إن الأنبياء معصومون من الصغائر والكبائر عمدها وخطئها.

فإن هذا ليس من الذنوب بالنظر إلى الأنبياء عليهم السلام أصلا، وإن صدر على خواطرهم، فإنه من عمل الشيطان .
كما قال تعالى حكاية عنهم وليس من عملهم، ولعل للأنبياء عليهم السلام في حالة صدور ذلك عنهم حالة نفسانية خصوصية يعرفونها نظير الخطأ أو النسيان فينا.
فالنائم إذا رأى في منامه أنه فعل ذنبا فإنه ليس بذنب أصلا، ويؤيده قوله تعالى: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي" [طه: 115]، فقد سمى تعالى تلك الحالة نسيانا ولا
يقاس غير الأنبياء على الأنبياء والأمر ذوقي لا خيالي، والله أعلم.
(فقال) يعقوب عليه السلام ("إن الشيطان للإنسان") [يوسف : 5] من طرف يوسف وإخوته عليهم السلام وعدو مبيه [يوسف: 5]، (أي ظاهر العداوة) لا تخفي عداوته (ثم قال يوسف) لأبيه عليه السلام (بعد ذلك في آخر الأمر) بعد أن وقع الكيد له من إخوته ونجاه الله تعالى من ذلك .

وأتته إخوته ووضع أبويه على العرش وخروا له سجدا (هذا)، أي ما وقع الآن (تأويل)، أي مآل، أي مرجع (رؤياي) المنامية (من قبل قد جعلها ربي حقا) بعدما كانت خيالا لا باطلا في غير صورتها الآن .
(أي أظهرها) في صورتها الأصلية (في) عالم (الحس بعدما كانت في صورة الخيال فقال له)، أي ليوسف عليه السلام بلسان الحال نظرا إلى مقابلة الكاملين (النبي صلى الله عليه وسلم الناس) في عالم الحس في الحياة الدنيا الذي سماه يوسف عليه السلام حق أي أمرة حقيقية (نیام) جمع نائم، فإذا ماتوا انتبهوا ، وكذلك إذا ماتوا نیام، فإذا بعثوا انتبهوا.
قال تعالى : "قالوا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا" [يس : 52]، والمرقد موضع الرقود وهو النوم وكذلك إذا بعثوا نيام، فإذا استقروا في جنة أو نار انتبهوا ، والانتباه الحقيقي الذي ليس بعده نوم وقت رؤية الحق تعالی و ظهور أمره مجردا عن كل صورة، لأن الصورة كلها خيالية كما قدمناه والحقائق كلها أمرية روحانية .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكان قول يوسف: «قد جعلها ربي حقا» بمنزلة من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤيا رآها ثم عبرها.
ولم يعلم أنه في النوم عينه ما برح، فإذا استيقظ يقول رأيت كذا ورأيت كأني استيقظت وأولها بكذا. هذا مثل ذلك.
فانظر كم بين إدراك محمد صلى الله عليه و سلم و بين إدراك يوسف عليه السلام في آخر أمره حين قال: «هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا». معناه حسا أي محسوسا، و ما كان إلا محسوسا، فإن الخيال لا يعطي أبدا إلا المحسوسات، غير ذلك ليس له.
فانظر ما أشرف علم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم. و سأبسط من القول)

فنقول :
(فكان قول يوسف عليه السلام : "قد جعلها ربي حقا " [يوسف : 100] بمنزلة من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤيا) منامية (رآها ثم عبرها) في نومه (ولم يعلم ذلك) الرائی (المعبر أنه ) في حالة الرؤيا وحالة الاستيقاظ والتعبير لتلك الرؤيا (في النوم عينه)، أي عين ذلك النوم الأول الذي كانت فيه الرؤيا (ما برح) عنه (فإذا استيقظ) من ذلك النوم اليقظة الحقيقية.
(يقول رأيت) في منامي (كذا ورأيت) في منامي أيضا (كأني استيقظت) من منامي (وأولتها)، أي تلك الرؤيا (بكذا هذا) المذكور .
(مثل ذلك) الذي قاله يوسف عليه السلام (فانظر) يا أيها السالك (كم) من التفاوت في الرتبة (بين إدراك) نبينا (محمد صلى الله عليه وسلم وبين إدراك يوسف عليه السلام في آخر أمره) لما كان عزیز مصر (حين قال : "هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا" [يوسف: 100] معناه)، أي معنى حقا جعلها ربي (حسا، أي) أمرا (محسوسا) يدرك بالحواس (وما كان) ذلك التأويل (إلا) أمرا (محسوسا) له صورة في الحس.
(فإن) عالم (الخيال لا يعطي أبدا إلا) الأمور (المحسوسات)، أي المدركات بالحس (غير ذلك) الأمر (ليس له)، أي الخيال.
(فانظر) يا أيها السالك (ما أشرف علم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم  ) الذي أخذوه من مشكاة نبوته عليه السلام بالمتابعة والاقتداء ، فإن الأنبياء الماضين عليهم السلام لم يعلموا ذلك من حيث مقام نبوتهم بسبب عدم كونهم من هذه الأمة والورثة من الأولياء في هذه الأمة.

ما نالوه من جهة نبوة أنفسهم، وإنما نالوه من نبوة نبيهم، ولا يلزم بذلك تفضيلهم على الأنبياء الماضين.
لأن حصول العلم من الغير السابق إليه لا يلزم الفضيلة به، وإنما الفضيلة لمن تبيعوه في حصوله وهو محمد صلى الله عليه وسلم  ، لأن الحاصل له عليه السلام من نبوته الكاملة.
قال صلى الله عليه وسلم : «لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي» ومن هنا قول المصنف قدس سره : "خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله" والبحر هو علم محمد صلى الله عليه وسلم المختص به.
وفي رواية : بحارة. كناية عن علومه عليه السلام.
ووقوف الأنبياء عليهم السلام بساحله : اطلاعهم على أنه نبي آخر الزمان وأنه سيبعثه الله تعالى من غير اطلاع على تفاصيل علومه ولا خوض فيها.
(و سأبسط القول في) بيان هذه (الحضرة ) الخيالية التي كان يوسف عليه السلام عالما بها ، فانتسب إليه تعبير الرؤيا لأجل ذلك (بلسان) الولي الوارث مقام (یوسف عليه السلام) من المقام (المحمدي) الجامع لجميع مقامات الأنبياء عليهم السلام (ما)، أي بسطا وبيانا (ستقف عليه)، أي تعرفه قريبا (إن شاء الله تعالی فنقول) في بيان ذلك .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( اعلم أن المقول عليه «سوى الحق» أو مسمى العالم هو بالنسبة إلى الحق كالظل للشخص، وهو ظل الله ، وهو عين نسبة الوجود إلى العالم لأن الظل موجود بلا شك في الحس ، ولكن إذا كان ثم من يظهر فيه ذلك الظل: حتى لو قدرت عدم من يظهر فيه ذلك الظل: كان الظل معقولا غير موجود في الحس، بل يكون بالقوة في ذات الشخص المنسوب إليه الظل.
فمحل ظهور هذا الظل الإلهي المسمى بالعالم إنما هو أعيان الممكنات: عليها امتد هذا الظل، فتدرك من هذا الظل بحسب ما امتد عليه من وجود هذه الذات.
ولكن باسمه النور وقع الإدراك و امتد هذا الظل على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول .
ألا ترى الظلال تضرب إلى السواد تشير إلى ما فيها من الخفاء لبعد المناسبة بينها و بين أشخاص من هي ظل له؟. وإن كان الشخص أبيض فظله بهذه المثابة.
ألا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر سوداء وقد تكون في أعيانها على غير ما يدركها الحس من اللونية، و ليس ثم علة إلا البعد؟. وكزرقة السماء.
فهذا ما أنتجه البعد في الحس في الأجسام غير النيرة. )

(اعلم) يا أيها السالك (أن) الشيء (المقول عليه) عند الحس والعقل (سوی الحق) تعالى من جميع المخلوقات .
(أو مسمي العالم) بفتح اللام لأن الله تعالى يعلم به (هو) كله (بالنسبة إلى) وجود (الحق) تعالى في نفسه (كالظل) الممتد (للشخص) في النور (فهو)، أي سوى الحق تعالى المسمی عالما (ظل الله) تعالى.
أي أثره الظاهر عنه على صورة ما علمه فأراده في الأزل (فهو)، أي ذلك الظل (عين نسبة الوجود إلى العالم) والعالم على أصله من العدم (لأن الظل) الممتد عن الشخص في النور (موجود بلا شك في الحس ولكن)، إنما يكون موجودا (إذا كان ثم)، أي هناك (من يظهر فيه ذلك الظل حتى لو قدرت عدم من يظهر فيه ذلك الظل) من أرض أو ماء أو نحو ذلك (كان الظل) حينئذ أمرا (معقولا غير موجود في الحس) بالفعل بل يكون موجودة (بالقوة في ذات الشخص المنسوب إليه) ذلك (الظل) إذا علم هذا.
(فمحل ظهور هذا الظل الإلهي) الذي هو الوجود المفاض من الحق تعالی على ما سواه من الممكنات (المسمى ذلك) الظل (بالعالم) باعتبار الوجود المستفاد من الحق تعالى (إنما هو أعيان الممكنات) العدمية بالعدم الأصلي (عليها)، أي على تلك الأعيان (امتد هذا الظل) الوجودي .
(فيدرك) بالبناء للمفعول أي يدرك المدركون (من هذا الظل) الممتد (بحسب)، أي مقدار (ما امتد عليه) من أعيان تلك الممكنات (من وجود هذه الذات) القديمة التي هذا ظلها امتد فظهر منها مقدار ما ظهر من أعيان الممكنات ، ويظهر على حسب ما ترتبت تلك الممكنات في أزلها العدمي (ولكن باسمه) تعالی (النور) كما قال تعالى : "الله نور السموات والأرض" [النور: 35]، أي منورهما .
(وقع الإدراك) لذلك الظل لأن به كان ظهوره ولولا النور ما تبين الظل المستور، فالنور سبب إدراك الكائنات بعضها لبعض؛ ولهذا كان الإدراك بمعنی باطني يأتي للكائنات من ورائها فلو استقبلته لما رأت شيئا لانطماسها به .
قال تعالى: "والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " [البروج : 20 - 22]. والقرآن نور كما قال الله تعالى: "النور الذي أنزلنا" [التغابن: 8] .
(وامتد هذا الظل) الوجودي من عين الوجود (على أعيان الممكنات) العدمية (في صورة)، أي هوية (الغيب) الذاتي الإلهي (المجهول) مطلقا على معنى أن ذلك الامتداد في صورة ذلك الغيب المذكور.
أي في مراتب صفاته وأسمائه وأحكامه وأفعاله المسماة صورته باعتبار تعينها من ذاته التعين الأزلي باستعداد الكائنات العدمية الغير المجعولة المستعدة للجعل بتلك الصورة الغيبية وهو الأمر الذي قال تعالى : "ذلك أمر الله أنزله إليكم" [الطلاق: 5]، وهو التوجه الأزلي المسمى بالوجه .
في قوله سبحانه : "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88]
وقوله تعالى : "فأينما تولوا فثم وجه الله إن" [البقرة : 115].
(ألا ترى) يا أيها السالك (أن الظلال) جمع ظل، أي ظلال الأشياء في الأنوار (تضرب)، أي تميل (إلى) لون (السواد) كأنها (تشير) بذلك (إلى ما فيها)، أي في نفس الظلال (من الخفاء) بالنسبة إلى ظهور ما هي ظلال عنه بها .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس يوليو 18, 2019 9:58 am

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية

(لبعد المناسبة بينها)، أي بين تلك الظلال (وبين أشخاص من هي ظل له) تنزيها له وهو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى : "تسبح له السموات السبع والأرض  ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده" [الإسراء : 44] الآية.
وإن كان ذلك الشخص الذي امتد الظل عنه (أبيض فظله بهذه المثابة) يعني أسود اللون (ألا ترى) ما يؤيد ظهور الظل أسود لبعد المناسبة (أن الجبال) البيض (إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر) له (سوداء) بخلاف لونها إشارة إلى البعد
 
وقد تكون تلك الجبال (في أعيانها على غير ما يدركها الحس) البصري (من اللونية وليس ثم)، أي هناك (علة) لتغير لون المرئي بخلاف لونه عند الحس (إلا البعد) عن حس الرائي (و?زرقة السماء) مع أن لونه أبيض شفاف (فهذا ما)، أي الأمر الذي أنتجه البعد بين الرائي والمرئي (في الحس) البصري (في الأجسام غير النيرة)، أي المنيرة كالأجرام ذات الظلال والجبال." الكواكب والقمر تبدوا منيرة وحقيقتها غير ذلك فهى معتمة فى ذاتها ولكنها تعكس النور الساطع عليها من الأصل وهو نور الشمس."
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( و كذلك أعيان الممكنات ليست نيرة لأنها معدومة و إن اتصفت بالثبوت لكن لم تتصف بالوجود إذ الوجود نور . غير أن الأجسام النيرة يعطي فيها البعد في الحس صغرا ، فهذا تأثير آخر للبعد.
فلا يدركها الحس إلا صغيرة الحجم وهي في أعيانها كبيرة عن ذلك القدر وأكثر كميات، كما يعلم بالدليل أن الشمس مثل الأرض في الجرم مائة وستين مرة، و هي في الحس على قدر جرم الترس مثلا. فهذا أثر البعد أيضا.)
 
(وكذلك أعيان الممكنات ليست نيرة)، أي مستنيرة (لأنها)، أي أعيان الممكنات (معدومة) بالعدم الأصلي لها (وإن اتصفت) في حال عدمها ذلك (بالثبوت) ضد النفي فهي ثابتة بكشف علم الحق تعالی عنها وتعلقه بها .
وتخصيص إرادة الحق تعالى لها على طبق علمه بها وتوجه قدرته عليها من الأزل فليست منفية أزلا .
(لكن لم تتصف بالوجود)، لأنه ضد العدم وهي معدومة لا موجودة (إذ الوجود نور) والنور هو الحق تعالى لا غيره.
فإذا امتد نوره عليها من ورائها نسب إليها الوجود الذي هو ظل وجوده عند غير المحققين.
مداه استعدادها لقبول امتداد ذلك الظل الوجودي عليها بحسب ما كشف بعلمه عنها، وخصصها به بالإرادة ، وتوجه عليها بالقدرة على طبق الإرادة والعلم (غير أن الأجسام النيرة) كالكواكب (يعطي فيها البعد )عن الرائي (في الحس) البصري (صغرا) ليست هي عليه في نفسها فهذا تأثير آخر.
(للبعد فلا يدركها)، أي الأجسام النيرة (الحس البصري إلا صغيرة الحجم)، أي المقدار (و) الحال (هي)، أي تلك الأجسام النيرة (في أعيانها كبيرة عن ذلك القدر) الذي أدركها فيه الحس (وأكبر) من ذلك القدر (كميات)، أي مقادير (كما تعلم بالدليل) الذي ذكره في علم الهيئة (أن الشمس مثل الأرض في الجرم)، أي المقدار (مائة وستة وستين و ربعا وثمن مرة) ثم أعظم الكواكب خمسة عشرة كوكبا من الكواكب الثابتة ، كل واحد منها مثل أربعة وتسعين مرة ونصف مثل الأرض. 


ثم زحل هو مثل تسع وتسعين مرة ونصف مثل الأرض، ثم المشتري وهو مثل اثنين وثمانين ونصف وربع مرة مثل الأرض، ثم سائر الكواكب الثابتة الباقية، كل واحد منها يصغر عن الآخر على مراتبها حتى يكون أصغرها مثل ستة عشر مرة من الأرض، ثم المريخ وهو مثل مرة ونصف من الأرض، ثم القمر أصغر من الأرض ويقع من الأرض مثل جزء من تسعة وثلاثين جزءا وربع جزء من الأرض، ثم الزهرة وهي جزء من أربعة وأربعين جزءا من الأرض، ثم عطارد وهو جزء من مائة واثنين وثلاثين جزءا من الأرض . ذكره الشيخ شهاب الدین عمر السهروردي في رشف النصائح .
(و) الحال (هي)، أي الشمس مع هذا العظام في المقدار ظاهرة (في الحس) البصري للرائي (على قدر جرم)، أي سعة (الترس مثلا فهذا) الصغر في الجرم الكبير
أثر البعد بين الرائي والمرئي (أيضا) كما أن أثره ما تقدم من سواد اللون وفي رشف النصائح، وأما أبعاد الأفلاك من الأرض، فإن من مركز الأرض إلى أقرب بعد ذلك القمر مائة ألف وثمانية وعشرين ألف وأربعة وتسعين ميلا، والميل ثلاثة آلاف ذراع، وغلظ فلك القمر مائة وستة عشر ألفا وثمانمائة وأربعون ميلا وأبعد بعد القمر الذي هو أقرب بعد فلك عطارد مائتان وأربع وأربعون ألف وتسعمائة وثمانية وثلاثون ميلا وغلظ فلك عطارد ثلاثمائة وثمانية وثمانون ألفا، أو ثمانمائة وخمسون ميلا، وعلى هذا الترتيب كل فلك بالنسبة إلى الفلك الآخر حتى قيل نسبة الأرض إلى فلك البروج جزء من ألف ألف وثلاثمائة ألف وستة وخمسون ألف وثلاثمائة وأربعة وستون جزء من درجة واحدة إذا علمت هذا.
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما يعلم من العالم إلا قدر ما يعلم من الظلال، و يجهل من الحق على قدر ما يجهل من الشخص الذي عنه كان ذلك الظل.
فمن حيث هو ظل له يعلم، و من حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظل من صورة شخص من امتد عنه بجهل من الحق.
فلذلك نقول إن الحق معلوم لنا من وجه مجهول لنا من وجه: «أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل و لو شاء لجعله ساكنا» أي يكون فيه بالقوة.
يقول ما كان الحق ليتجلى للممكنات حتى يظهر الظل فيكون كما بقي من الممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود.
 
«ثم جعلنا الشمس عليه دليلا» وهو اسمه النور الذي قلناه، و يشهد له الحس: فإن الظلال لا يكون لها عين بعدم النور.
«ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا»: و إنما قبضه إليه لأنه ظله، فمنه ظهر و إليه يرجع الأمر كله. فهو لا غيره. )
 
(فما تعلم من العالم) الظاهر المسمى بغير الحق تعالى (إلا قدر ما تعلم من الظلال) الممتدة عن الشخوص نظير امتداد ظل وجود الحق تعالى بالتوجه الذي هو عين أمر القديم على أعيان الممكنات العدمية .
(وتجهل من الحق) سبحانه (على قدر ما تجهل من الشخص الذي عنه كان ذلك الظل، فمن حيث هو)، أي ذلك الوجود الممتد على أعيان الممكنات العلمية المسمى بالأمر وبالوجه حيث كل شيء هالك إلا وجهه [القصص: 88] .
(ظل له)، أي للحق تعالی (يعلم)، أي الحق تعالی ويرى ولا يرى معه غيره .
(ومن حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظل) الممتد (من صورة شخص من امتد عنه) حيث خفي ذلك في الظل ولم يتبين من بعد المناسبة كما سبق.
(يجهل مقدار ذلك من الحق تعالی) فلا يعلم أصلا (فلذلك)، أي لكون الأمر كما ذكر (نقول) معشر المحققين (إن الحق) تعالی (معلوم لنا من وجه) أمره ووجهه الظاهر فينا ونحن عدم بالعدم الأصلي.
ومع ذلك هو (مجهول لنا من وجه) آخر هو ذاته القديمة الأزلية على ما هي عليه من حيث هي ذاته، فلا تعلم أصلا.
قال الله تعالى تأييدا لما ذكر ("ألم تر") يا محمد (" إلى ربك") الذي هو الذات المغيبة عنك (" كيف مد الظل")، أي الوجود الأمري والتوجه الأزلي على أعيان الممكنات العدمية.
("ولو شاء") سبحانه ("لجعله")، أي ذلك الظل ("ساكنا") [الفرقان : 45] غير متحرك بحركة استعداد أعيان الكائنات لامتداده عليها وميله عنها منها (أي يكون) ذلك الظل الممتد عنه (فيه)، أي في الحق تعالی (بالقوة)، لأن امتداده على أعيان الكائنات ما كان إلا على مقدار استعداد الكائنات القبول امتداده عليها، أى مقدار ذلك الاستعداد.
وذلك الاستعداد أمر ذاتي لأعيان الممكنات العدمية غير مجعول فيها كما أنها غير مجعولة أيضا في عدمها الأصلي.
والجعل إنما هو إفاضة الوجود عليها بمقدار استعدادها لإفاضته، فما شاء امتداد ذلك الظل عليها إلا لاستعدادها له على مقدار الاستعداد.
فلو لم يكن لها استعداد لقبوله ما شاء لها ذلك الامتداد، وشاء عدم الامتداد فكان الظل ساكنا فيه غير ممتد منه عليها، لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلم، ولا يعلم إلا ما هي عليه في أعيان المم?نات من الاستعداد وغيره .


قال تعالى : " الذي أعطى كل شيء خلقه " [طه: 50]، وإنما أحال جعله سا?نا على أقرب الأسباب وهو المشيئة وسبب المشيئة العلم وسبب العلم، ما هي عليه أعيان الممكنات العلمية في نفسها من استعداده وغيره.
 ونظيره قوله تعالى: "ولو شاء لهداكم أجمعين" [النحل: 9]، أي لو كنتم كذلك لعلمكم كذلك لشاء لكم أن تكونوا كذلك وهو إضافة الحكم إلى أقرب أسبابه إليه وهو السبب المؤثر فيه فحاصل ذلك أنه تعالی.
(يقول) لو شاء (ما كان الحق) تعالى (يتجلى)، أي ينكشف بالوجوه (للمكنات) العلمية (حتى يظهر) عليها (الظل) الوجودي (فی?ون) حينئذ أمر الممكنات العدمية الظاهرة بالوجود الممتد عليها (كما)، أي مثل الذي (بقي من الممكنات) العدمية بالعدم الأصلي (التي ما ظهر لها عين في الوجود) وهذا معنى جعل الظل ساكنا، أي غير ممتد على شيء من الأشياء الهالكة أصلا ("ثم جعلنا الشمس عليه ") [الفرقان: 45]، أي على ذلك الظل الممدود على أعيان الكائنات العدمية ("دليلا") بحيث تدل عليه، أي تكشف عنه وتظهره.
(وهو)، أي الدليل على الظل الذي هو الشمس (اسمه) تعالی (النور الذي قلناه) فيما مر قريبا أن الإدراك وقع به (ويشهد له)، أي لكون الشمس دليلا على الظل الممدود (الحس البصري، فإن الظلال) الممدودة من الشخوص (لا يكون لها عين) أصلا (بعدم النور) فلا يدل عليها إلا النور (ثم قبضناه)، أي الظل الوجودي الممدود على أعيان الكائنات العدمية (إلينا)، أي إلى حضرة الذات الأزلية الممتد هو عنها بسبب استعداد الأعيان وقبولها الامتداد عليها (قبضا يسيرا)، أي شيئا فشيئا على حسب مقادیر استعدادات الممكنات القبول فيضانه وامتداده عليها فإن الاستعداد بقسط كما هو مرتب.
(وإنما قبضه)، أي الظل (إليه) سبحانه (لأنه ظل فمنه) تعالى (ظهر)، أي ذلك الظل (وإليه تعالی يرجع) قال عز وجل ("و إليه يرجع الأمر") فسمي الظل أمرا كما سماه وجها.
لأنه توجهه القديم كما مر ("كله") [هود: 123].
من حيث تعدده الاعتباري بسبب كثرة استعدادات أعيان الممكنات القابلة لامتداده عليها (فهو)، أي ذلك الظل الذي هو الأمر الإلهي والوجه الباقي بعد فناء كل شيء.
(هو)، أي الحق سبحانه وتعالى (لا) ذلك الظل والأمر والوجه (غیره تعالی) وأعيان المم?نات على ما هي عليه من عدمها الأصلي.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات.
فمن حيث هوية الحق هو وجوده، و من حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات.
فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل، كذلك لا يزول باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق.
فمن حيث أحدية كونه ظلا هو الحق، لأنه الواحد الأحد.
و من حيث كثرة الصور هو العالم، فتفطن و تحقق ما أوضحته لك.
و إذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ما له وجود حقيقي، و هذا معنى الخيال .
أي خيل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق وليس كذلك في نفس الأمر.
ألا تراه في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه، ويستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال لأنه يستحيل على الشي ء الانفكاك عن ذاته؟
فاعرف عينك ومن أنت و ما هويتك و ما نسبتك إلى الحق، و بما أنت حق و بما أنت عالم و سوى و غير و ما شاكل هذه الألفاظ. )

(فكل ما)، أي شيء محسوس أو معقول (تدركه) يا أيها الإنسان (فهو وجود الحق) سبحانه (في أعيان الممكنات) العدمية ممسك لها بتوجهه عليها فظاهر بها من غير أن يتغير عما هو عليه أزلا، فإن المعدوم لا يغير الوجود.
(فمن حيث هوية)، أي ذات (الحق) سبحانه (هو)، أي الحق تعالى (وجوده)، أي وجود كل ما تدركه بالحس أو العقل (ومن حيث اختلاف الصور) الحسية والعقلية (فيه) كل ما تدركه بالحس والعقل (هو)، أي كل ما تدركه (أعيان الممكنات) العدمية ظهرت في ظل الوجود القديم المسمى بالأمر والوجه كما قدمناه.
(فكما لا يزول عنه)، أي عن كل ما تدركه (باختلاف الصور) الحسية والعقلية (اسم الظل) الممتد عن الوجود والقديم، لأن كل ما تدركه أعيان ممكنة علمية في نفسها بالعدم الأصلي، فلا تغير من الوجود الممتد المسمى بالظل شيئا كما أن اختلاف الصور لا يغير من وجه المرآة الصقيلة شيئا في عين الرائي .
(كذلك لا يزول عنه)، أي عن كل ما تدركه (باختلاف الصور) الحسية والعقلية (اسم العالم) الحادث المتغير المتجدد في كل وقت (أو اسم سوی)، أي غير (الحق) تعالی، لأنه غير الحق تعالى حقيقة، لأنه أعيان عدمية قائمة بإيجاد الله تعالى الذي هو أمره ووجهه.
(فمن حيث أحدية كونه)، أي كون كل ما تدركه (ظلا) وجودية للوجود القديم (هو)، أي كل ما تدركه (الحق) تعالى من غير اعتبار أعيان الممكنات العدمية وإن ظهرت بظهوره سبحانه (لأنه تعالی) هو (الواحد) في صفاته (الأحد) في ذاته (ومن حيث كثرة الصور الحسية والعقلية (هو)، أي كل ما تدركه
العالم الحادث المتغير (فتفطن) يا أيها السالك (وتحقق ما أوضحته لك) من البيان في هذا المكان.
(وإذا كان الأمر)، أي الشأن في نفسه (على) حسب (ما ذكرته لك) هنا (فالعالم) المسمى بغير الحق تعالی من كل محسوس أو معقول في الدنيا والآخرة كله أمر (متوهم في بعضه للبعض (ما له)، أي العالم (وجود حقيقي) وإنما الوجود الحقيقي للحق تعالی وللعالم الوجود المجازي وهو المستعمل في غير ما وضع العلاقة السببية .
(وهذا) الأمر المتوهم المنتفي عنه الوجود الحقيقي القائمة بنسبة الوجود إليه هو (معنى الخيال) الذي الآن في صدد بیانه (أي خيل لك) يا أيها الإنسان هذا العالم المحسوس والمعقول (أنه أمر زائد) على الحق تعالی (قائم بنفسه) من حيث ما أعطاك نظر الحس والعقل وغابت عنك المعرفة الحقيقية (خارج)، أي منفصل
(عن الحق) كما هو نظر جميع الناس من علماء وجاهلين ما عدا هذه الطائفة العارفين، الذين خرقوا حجاب الوهم وأرتكزوا على مراكز الحقيقة و تأدبوا بآداب الشريعة.
(وليس كذلك)، أي كما خيل لك (في نفس الأمر)، فإن الكتاب والسنة وإجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم سلفا وخلفا مما أنت قائل به أيضا كلامة لا تحققا يرد عليك ما خيل لك من زيادة وجود العالم.
وأنه وجود حقيقي قائم بنفسه خارج عن الحق، وإنما مقتضى الأدلة القطعية عندك أن وجود العالم وجود عرض له بعد أن لم يكن، مستفادة من الحق تعالی غیر قائم بنفسه أصلا.
ولا منقطع عن قيومية الحق تعالی عليه، بل الأدلة صريحة بأن الكل فان منعدم بالعدم الأصلي، وإن تبين بالتجلي الإلهي النوراني كما ورد: "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88]، وقوله : "كان الله ولا شيء معه" إلى غير ذلك.اورده ابن حبان والحاكم وابن أبي بريدة والعجلوني
وإن أول ذلك مؤول مخالف، وتكلف له ليخرجه عن مفهومه، ويطابق بينه وبين الوهم الحسي، نصرة للحس والعقل على الشرع، "والله بكل شيء عليم" [لبقرة : 282].
(ألا تراه)، أي الظل الممتد عن الشخص (في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه) اتصالا به من غير لصوق لعدم المناسبة بينهما (يستحيل عليه)، أي على ذلك الظل (الانفكاك)، أي الانفصال (عن ذلك الاتصال) المذكور ولا لما كان ظلا عن ذلك الشخص بل كان وجود مستقلا مثل ذلك الشخص (لأنه)، أي الشأن
يستحيل على الشيء الواحد (الانفكاك)، أي الانفصال (عن ذاته)، وإلا لما كان شيئا واحدا بل كان شيئين.
(فاعرف) يا أيها السالك (عينك)، أي ذاتك الممكنة العدمية بالعدم الأصلي (و) اعرف (من أنت) فإنك عين ممكنة عدمية بالعدم الأصلي (و) اعرف (ما هويتك)، أي ذاتك وماهيتك فإنها عدم صرف.
(و) اعرف (ما نسبتك إلى) وجود (الحق تعالی)، فإن نسبتك مثل نسبة لوم الزجاج الأحمر أو الأخضر إلى شعاع الشمس إذا انصبغ به أو وجه المرأة الصافية إذا انصبغ بلون الصورة المقابلة له (و) اعرف (بما) بأي أمر (أنت حق).
فإنك وجود حق بوجود الذي هو منصبغ بك انصباغة عدمية لأنك عين ممكنة عدمية بالعدم الأصلي، فليس الانصباغ حقيقية بل هو بحسب ما يظهر لك في الحس والعقل.
وهذا الظهور وما به كان هذا الظهور لك من حسك وعقلك من جملة عينك الممكنة العدمية بالعدم الأصلي، والانصباغ العدمي لوجود الحق تعالی سبحانه حاصل بذلك أيضا .
(و) اعرف (بما)، أي بأي أمر (أنت عالم) بفتح اللام (وسوى) للحق تعالی (وغير) الحق تعالى (وما شاكل)، أي ماثل (هذه الألفاظ) من ذلك عبدة ومخلوقة ومصنوعة وحادثة (فإنك كذلك بالماهية الممكنة العلمية بالعدم الأصلي الشاملة لصورتك الظاهرة والباطنة.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وفي هذا يتفاضل العلماء، فعالم وأعلم. فالحق بالنسبة إلى ظل خاص صغير وكبير، وصاف وأصفى، كالنور بالنسبة إلى حجابه عن الناظر في الزجاج يتلون بلونه، وفي نفس الأمر لا لون له. ولكن هكذا تراه.
ضرب مثال لحقيقتك بربك. فإن قلت: إن النور أخضر لخضرة الزجاج صدقت وشاهدك الحس، وإن قلت إنه ليس بأخضر ولا ذي لون لما أعطاه لك الدليل، صدقت وشاهدك النظر العقلي الصحيح.
فهذا نور ممتد عن ظل وهو عين الزجاج فهو ظل نوري لصفائه.
كذلك المتحقق منا بالحق تظهر صورة الحق فيه أكثر مما تظهر في غيره. فمنا من يكون الحق سمعه وبصره وجميع قوة وجوارحه بعلامات قد أعطاها الشرع الذي يخبر عن الحق.
مع هذا عين الظل موجود، فإن الضمير من سمعه يعود عليه: وغيره من العبيد ليس كذلك. فنسبة هذا العبد أقرب إلى وجود الحق من نسبة غيره من العبيد.)


(وفي هذا) العرفان (تتفاضل العلماء) بالله سبحانه (فعالم) بالله (و) آخر (أعلم منه) بالله. قال تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" [فاطر: 28]، أي بالله .
وقال عليه السلام لأصحابه رضي الله عنهم: «أنا أعلمكم بالله وأكثركم منه خشية».
ورد بمسند ابن حميد و رواه البخاري في صحيحه بلفظ: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا".
فالحق سبحانه (بالنسبة إلى ظل) شيء (خاص) امتد ذلك الظل الوجودي المسمى أمرة ووجها على ذلك الشيء الخاص وهو عين ممكنة معدومة بالعدم الأصلي
(صغير) ذلك الشيء الخاص كالذرة (وكبير) كالجبل .
(وصاف)، أي لطيف كالنفوس الحيوانية وقواها المنبثة في الأجسام (وأصفى) كالأرواح والعقول المجردة (كالنور)، أي بمنزلة شعاع الشمس مثلا (بالنسبة إلى حجابه)، أي حجاب ذلك النور الذي هو الشعاع (عن) عين (الناظر) إليه حجاب حاصلا (بالزجاج) الأحمر أو الأخضر وغير ذلك.

(فإنه يتلون) ذلك النور (بلونه)، أي بلون ذلك الزجاج في نظر الحس عند الناظر (وفي نفس الأمر) مع عدم اعتبار نظر الحس عند الناظر (لا لون له)، أي لذلك النور الظاهر أصلا (ولكن هكذا)، أي على حسب ألوان الزجاج (تراه)، أي ترى النور الظاهر بلون الزجاج يا أيها الإنسان (ضرب) مفعول ثان لتراه (مثال الحقیقتك) يا أيها الإنسان في ظاهر و باطنك مع جميع أحوالك القائمة (بربك) الحق سبحانه وتعالی.
(فإن رأيته) كذلك ومع ذلك (قلت إن النور) الظاهر لك بلون الزجاج (أخضر) مثلا (كخضرة الزجاج صدقت وشاهدك) على صدق قولك (الحس)، أي نظر العين منك ومن غيرك.
(وإن قلت إنه)، أي ذلك النور (ليس بأخضر ولا) هو بنور (ذي)، أي صاحب (لون) من الألوان أصلا (لما)، أي على مقتضی الوصف الذي (أعطاه لك الدليل) بأن النور لا لون له أصلا وهو منزه عن جميع الألوان .
(صدقت) في ذلك (وشاهدك) على صدق قولك (النظر)، أي الدليل (العقلي)، أي المنسوب إلى العقل (الصحیح) الذي لا شبهة فيه أصلا وذلك أن النور لو كان له لون يخصه لما قبل أن يظهر في ألوان الزجاج على مقتضى ما هي عليه السلام.
تلك الألوان فى نفسها وهو ظاهر كذلك من غير أن يغير من لون الزجاج شيئا مع تضاد تلك الألوان وعدم مناسبة بعضها لبعض وعدم المشابهة بينها، فإن اللون الأسود غير اللون الأحمر والأصفر والأزرق والأخضر وغير ذلك.
فلا لون للنور من حيث هو أصلا ولو كان له لون في نفسه على ما هو عليه لغير شيئا من ألوان الزجاج حين ظهوره ومصبوغ به إذا علمت ما ذكر .

(فهذا)، أي شعاع الشمس الذي هو ظل عنها (نور ممتد عن ظل) أيضا (هو)، أي ذلك الظل (عين الزجاج) الملون فقد امتد النور الذي هو نور الشمس مثلا وهو شعاعها عن الشمس فهو ظل الشمس وعن عين الزجاج الملون أيضا فهو ظل عين الزجاج الملون (فهو) أي ذلك النور الممتد على عين الزجاج الملون (ظل نوري) على ما هو عليه في نفسه لا لون له أصلا وإن تلون بلون الزجاج (لصفائه) في نفسه مع قطع النظر عن لون الزجاج.
(كذلك)، أي مثل ما ذكر من ضرب المثال الإنساني (المتحقق منا) معشر المحققين (بالحق) تعالى، فإنه (تظهر) له (صورة الحق) تعالى (فيه) وهو الوجود المطلق المنزه عن مشابهة كل ما عداه (أكثر مما تظهر)، أي من ظهورها (في غيره)، أي غير ذلك المتحقق من جميع السالكين والعارفين وأما المنقطعون فلا ظهور للحق تعالى فيهم لهم أصلا وإن صدقوا لوجدوه وعبدوه في صورة تخيلاتهم فإنهم غافلون عن ظهوره لهم بهمن
و (فمنا)، أي معشر المحققين (من یكون) وجود (الحق) تعالی (سمعه) الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به (وجميع قواه) الباطنة (وجوارحه) الظاهرة كیده ورجله (بعلامات) عنده (قد أعطاها له الشرع) المحمدي (الذي يخبر عن الحق تعالی) وهو التقرب بنوافل الأعمال إلى حضرة ذي الجلال بوصف الإخلاص والرغبة والإقبال.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي في حديثه القدسي: «ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه وإن استعاذني لأعيذنه».
(ومع هذا)، أي مع كون الحق تعالی سمعه وبصره كما ذكر (عين الظل) الذي هو مقید بلون الزجاج (موجود) بوجود ظل الشمس الذي هو شعاعها (فإن الضمير من) قوله صلى الله عليه وسلم كنت سمعه وبصره ويده ورجله (يعود عليه).

أي على ذلك الظل المنبعث عن الزجاج الذي هو في نفس الأمر ظل الشمس، لأن شعاعها المنبعث عنها وهو أيضا ظل الزجاج المنبعث عنه من حيث هو متلون بلون الزجاج وهو العبد الذي قيل عنه : «ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل» الحديث .
فالعبد موجود والحق تعالی أيضا موجود، والوجود واحد مطلق لله تعالى، مقيد بالقيود الإمكانية العدمية للعبد الحادث (وغیره)، أي غير ذلك العبد المتحقق بما ذكر (من) بقية (العبيد ليس كذلك) قال تعالى : "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب " [الزمر: 9].

وقال تعالى: "أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض أم نجعل المتقين كالفجار " [ص: 28] إلى غير ذلك من الآيات .
(فنسبه هذا العبد) المتحقق بما ذكر من المعرفة عن كشف و شهود وذوق لا عن مجرد تخيل في النفس وحفظ للمعنى (أقرب عنده إلى وجود الحق) تعالى (من نسبة غيره من العبد) إلى وجود الحق تعالی.
كما قال سبحانه : " ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون" [الواقعة: 85].
وقال سبحانه: «نحن أقرب إليه من حبل الوريد" [ق: 16].
وقال سبحانه:: "استمع يوم ينادون من مكان قريب" [ق: 41].
وقال سبحانه: : " أولئك ينادون من مكان بعيد" [فصلت : 44].


.
يتبع


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الخميس يوليو 18, 2019 10:12 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالخميس يوليو 18, 2019 10:00 am

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإذا كان الأمر على ما قررناه فاعلم أنك خيال وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس أنا خيال.

فالوجود كله خيال في خيال، والوجود الحق إنما هو الله خاصة من حيث ذاته و عينه لا من حيث أسماؤه، لأن أسماءه لها مدلولان: المدلول الواحد عينه و هو عين المسمى، و المدلول الآخر ما يدل عليه مما ينفصل الاسم به من هذا الاسم الآخر و يتميز.
فأين الغفور من الظاهر ومن الباطن، وأين الأول من الآخر.؟
فقد بان لك بما هو كل اسم عين الاسم الآخر وبما هو غير الاسم الآخر.
فبما هو عينه هو الحق، وبما هو غيره هو الحق المتخيل الذي كنا بصدده.
فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه ولا ثبت كونه إلا بعينه. )

(وإذا كان الأمر) الإلهي في نفسه (على) حسب (ما قررناه) لك (فاعلم) يا أيها السالك (أنك) في الدنيا والآخرة (خیال) لا حقيقة وجود لك بل لك مجاز الوجود كما تقرر فيما مر.
(وجميع ما تدركه) من المحسوسات والمعقولات (مما تقول فيه) بلسانك أو بقلبك (ليس أنا) لأنك تراه غيرك (خیال) أيضا مثلك (فالوجود) المحسوس والمعقول على اختلاف أنواعه في الدنيا والآخرة (كله خیال) ظاهر (في) حس وعقل (خیال) ذلك الحس والعقل أيضا.
(والوجود الحق تعالی) الحقيقي (إنما هو الله) تعالی (خاصة من حيث ذاته) سبحانه (وعينه) الأزلية القديمة الأبدية المطلقة عن جميع القيود، المنزهة عن مشابهة كل شيء محدود .
(لا من حيث أسماؤه) سبحانه .
(لأن أسماءه) تعالی (لها مدلولان)، أي جهتان تدل عليهما:-
(المدلول الواحد) أسماؤه تعالى (عينه)، أي ذاته لا زائد عليها أصلا (وهو) كون الاسم (عين المسمى .)
(والمدلول الآخر) أسماؤه تعالى هي (ما تدل عليه مما)، أي من الأمر الذي (ينفصل) هذا (الاسم) الإلهي (به عن هذا الاسم الآخر ويتميز) به اسم عن اسم .


وهو خصوص التعين الإلهي بأعيان الممكنات العدمية في الأزل مما يرجع إليه تعالی عندنا كونه مصدر جميع الكائنات، وهذا معنى قولهم إن الصفات الإلهية ليست عين الذات ولا غيرها فإنهما نقیضان يلزم من ارتفاعهما ثبوتهما، فهي عين الذات باعتبار وغيرها باعتبار آخر.
(فأين) الاسم (الغفور) للذنوب ودلالته على معنى العفو والمسامحة (من) الاسم (الظاهر) في كل شيء ودلالته على معنى الظهور والتجلي والانكشاف (و) أين الاسم (الظاهر من) الاسم (الباطن) لبعده عن مشابهة كل شيء ودلالته على معنى الخفاء والغيبة عن علم كل شيء به مطلقا .


(وأين) الاسم الأول من حيث سبقه على كل شيء ودلالته على القدم والأزلية (من) الاسم (الآخر) من حيث دوامه واستمراره على ما هو عليه بعد فناء كل شيء واضمحلاله له ودلالته على البقاء والأبدية (فقد بان)، أي ظهر (لك) من هذا التقرير (بما)، أي بأي اعتبار (هو).
أي ذلك الاعتبار كل اسم من الأسماء الإلهية (عين الاسم الآخر)، أي بأي اعتبار (وبما هو)، أي كل اسم إلهي (غير الاسم الآخر) ثم بين هذا الأمر بقوله .
(فبما)، أي فـ بالاعتبار الذي (هو)، أي كل اسم إلهي (عينه)، أي عين الاسم الآخر (هو)، أي كل اسم إلهي عين (الحق) سبحانه الوجود المطلق القديم (وبما)، أي باعتبار الذي (هو)، أي كل اسم إلهي (غيره)، أي غير الاسم الآخر (هو)، أي كل اسم (الحق المتخيل) بصيغة اسم المفعول، أي (الذي) هو ظاهر بصور أعيان الممكنات العلمية الذي يتخيله العارف به في كل ما يراه حسة أو عقلا الذي (كنا) فيما سبق من الكلام (بصدده)، أي بصدد بیانه (فسبحان) تنزیه له تعالى من الشيخ قدس سره (من) هو الحق تعالى الذي (لم يكن)، أي يوجد (عليه دلیل سوى نفسه)، فإنه عين كل دلیل حسي أو عقلي أو شرعي، لأنه الظاهر بصورة ذلك من حيث إن ذلك ممكن عدمي بالعدم الأصلي (ولا ثبت كونه)، أي وجوده عند أحد (إلا بعينه)، أي بعين وجوده الظاهر بأعيان الممكنات العدمية .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما في الكون إلا ما دلت عليه الأحدية. وما في الخيال إلا ما دلت عليه الكثرة. فمن وقف مع الكثرة كان مع العالم ومع الأسماء الإلهية وأسماء العالم.
ومن وقف مع الأحدية كان مع الحق من حيث ذاته الغنية عن العالمين.
وإذا كانت غنية عن العالمين فهو عين غنائها عن نسبة الأسماء لها، لأن الأسماء لها كما تدل عليها تدل على مسميات أخر يحقق ذلك أثرها.
«قل هو الله أحد» من حيث عينه: «الله الصمد» من حيث استنادنا إليه: «لم يلد» من حيث هويته ونحن، «ولم يولد» كذلك، «ولم يكن له كفوا أحد» كذلك.
فهذا نعته فأفرد ذاته بقوله: «الله أحد» وظهرت الكثرة بنعوته المعلومة عندنا.
فنحن نلد ونولد ونحن نستند إليه ونحن أكفاء بعضنا لبعض.
وهذا الواحد منزه عن هذه النعوت فهو غني عنها كما هو غني عنا.
وما للحق نسب إلا هذه السورة، سورة الإخلاص، وفي ذلك نزلت.)

(فما في) هذا (الكون) ، أى الوجود المجازي الحادث (إلا ما دلت عليه) صفة (الأحدية) الإلهية من حيث ظهور هذا الوجود المطلق القديم بكل ممكن عدمي، فهو هو في عين كل ممكن لم يتغير ولم يتبدل عما هو عليه في نفسه من إطلاقه.
(وما في الخيال) الذي هو أعيان الممكنات العدمية بالعدم الأصلي الظاهرة بظهور الوجود الواحد المطلق القديم (إلا ما دلت عليه الكثرة) الحسية والعقلية (فمن وقف من الناس (مع الكثرة) الخيالية الظاهرة في الحس والعقل (كان) واقفا (مع العالم) بفتح اللام المسمى غير الحق تعالى (ومع الأسماء الإلهية) من وجه كونها غير الحق تعالى (و) مع (أسماء العالم) بفتح اللام فهو محجوب عن الحق تعالی بوقوفه ذلك .

(ومن وقف مع) صفة الذات (الأحدية) الإلهية الظاهرة في كل شيء من غير أن يغيرها شيء مطلقا عما هي عليه في نفسها (كان) واقفة (مع الحق) تعالى (من حيث ذاته) سبحانه (الغنية عن العالمين) بحكم قوله تعالى :" إن الله لغني عن العالمين" العنكبوت : 6] .  وقوله سبحانه :" ليس كمثله شيء" [الشورى : 11].
(وإذا كانت) تلك الذات الإلهية (غنية عن العالمين فهو)، أي ذلك الغني (عين غنائها عن نسبة الأسماء) الإلهية (إليها) من وجه كون الأسماء غيرها كما مر (لأن الأسماء) الإلهية (لها)، أي لتلك الذات (كما تدل عليها ) من حيث أسماؤها بوجه كونها غيرها، لأن الدال غير المدلول .

(تدل) أيضا (على مسميات أخر) هي حضرات تلك الذات وتعيناتها المعروفة عند العارف .
(يحقق ذلك)، أي يثبته على طبق ما ورد به الشرع المحمدي وأتي به الكشف الذوقي للعارفين (أثرها)، أي أثر تلك الأسماء الإلهية من الأعيان الممكنة الظاهرة بنسبة الوجود إليها .
قال تعالى في سورة الإخلاص: ("قل") یا محمد "صلى الله عليه وسلم"  ("هو")، أي الشأن ("الله أحد")، أي موصوف بالأحدية (من حيث عينه)، أي ذاته (" الله الصمد")، أي المصمود إليه، يعني المقصود بالحوائج من كل شيء فهو صمد.
(من حيث استنادنا) معشر الكائنات (إليه) سبحانه ("لم یلد")، أي لم يتولد منه شيء (من حيث هويته)، أي ذاته المطلقة الوجود، الخارجة عن أن تخاطبها الحدود.
(و) من حيث (نحن) أيضا معشر الكائنات العدمية الظاهرة لنا في صورها الحسية والعقلية ("ولم يولد")، أي لم يتولد هو من شيء أصلا .
(كذلك أيضا)، أي من حيث هويته ومن حينه نحن أيضا ("ولم يكن له ") سبحانه ("كفوا")، أي مكافئا يعني مماثلا ومشابها (" أحد") [الإخلاص] من المحسوسات والمعقولات .
(كذلك أيضا)، أي من حيث هويته وحيث نحن (فهذا) الشأن المذكور (نعته)، أي وصفه سبحانه (فأفرد) عز وجل (ذاته) الأزلية (بقوله : " الله أحد" وظهرت الكثرة) من حيث هو ظاهر في كل شيء محسوس ومعقول ظهورا (بنعوته)، أي بسبب أوصافه أو أسمائه (المعلومة عندنا) مما دل عليها الشرع.
فنحن معشر الكائنات (نلد) أي يتولد منا غيرنا (ونولد) نحن من غيرنا ونحن نستند إليه سبحانه في وجودنا وفي جميع صفاتنا وأفعالنا وأحوالنا (ونحن أكفاء)، أي أمثال يشبه (بعضنا البعض وهذا الواحد) الأحد (منزه عن النعوت) كلها .
أي الأوصاف التي نحن موصوفون بها (فهو) سبحانه (غني) بالذات الأزلية (عنها)، أي عن هذه النعوت المذكورة (كما هو غني عنا معشر الكائنات (وما للحق نسب إلا هذه السورة المذكورة وهي (سورة الإخلاص) سميت بذلك لاشتمالها على
خالص التوحيد، ولأن الإخلاص مشروط بالتحقق بمعانيها، ولأن الكشف عن أسرارها يوصل إلى مقام الإخلاص (وفي ذلك)، أي في بيان نسب الحق تعالی نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الكافرون:" انسب لنا ربك من أي شيء هو". رواه الترمذي و الحاكم في المستدرك  وغيرهما .


قال الشيخ رضي الله عنه : فأحدية الله من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا أحدية الكثرة، و أحدية الله من حيث الغنى عنا و عن الأسماء أحدية العين، و كلاهما يطلق عليه الاسم الأحد، فاعلم ذلك. فما أوجد الحق الظلال وجعلها ساجدة متفيئة عن اليمين والشمال إلا دلائل لك عليك وعليه لتعرف من أنت وما نسبتك إليه وما نسبته إليك حتى تعلم من أين أو من أي حقيقة إلهية اتصف ما سوى الله بالفقر الكلي إلى الله، وبالفقر النسبي بافتقار بعضه إلى بعض)

(فأحدية الله) تعالى (من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا ) أن تكون آثارا لها فتظهر له تعالی بنا (أحدية الكثرة)، فهو تعالى أحد في عين كل شيء محسوس أو معقول، يعني لا يشبه ظهوره في عين شيء ظهوره في عين الشيء الآخر.
فكل شيء بهذا الاعتبار موصوف بظهور هذه الأحدية فيه، فكل شيء لا يشبه كل شيء (وأحدية الله ) تعالى (من حيث الغنى) الذاتي (عنا) معشر الكائنات (وعن الأسماء)، أي أسمائه تعالى من وجه كونها غيره سبحانه (أحدية العين)، أي الذات الإلهية.

(وكلاهما) أحدية الكثرة وأحدية العين (يطلق عليه)، أي على كل واحد منهما (اسم الأحد) وذلك وارد في قوله تعالى : "قل هو الله أحد" ، فـ الهو أحدية العين ، والله أحدية الكثرة، والخبر عنهما واحد وهو لفظ أحد.
(فاعلم) يا أيها السالك (ذلك) المذكور (فما أوجد الحق) تعالى (الظلال) جمع ظل وهي ظلال الأجسام الكثيفة في الأنوار (وجعلها)، أي تلك الظلال (ساجدة)، أي فانية من أنفسها معدومة مضمحلة في وجود الأشخاص الجسمانية التي هي ظلال عنها (متفيئة عن الشمال)، أي شمال الشخوص (وعن اليمين)، أي يمين الشخوص على حسب النور وتوجهه فإذا كان النور عن اليمين كانت الظلال عن الشمال وبالعكس كما يراه الحس في الدنيا إلا دلائل واضحة (لك) .

يا أيها السالك (عليك)، أي على نفسك (وعليه)، أي على ربك سبحانه (لتعرف من أنت) من حيث إنك أثر ظاهر عن مؤثر.
كالظل يظهر عن الشخص وليس هو جزء منه ، ولم يتأثر الشخص بظهوره عنه، ظاهر عن كل مؤثر كالظل يظهر عن الشخص وليس هو جزء منه ولم يتأثر الشخص بظهوره عنه ولا هو مماثل له بوجه أصلا إلا أنه ظله قائم به موجود به وجودة لا يشبه وجود الشخص ولا هو عدم صرف كما كان قبل أن يكون.

وزواله بشخصه أيضا لا بشيء غيره أصلا ما دام النور متوجها على الشخص، فإن توجه النور إلى جهة الظل انتقل الظل إلى الجهة التي كان فيها النور، وهكذا فإن النور بمنزلة الذات الإلهية.
والشخص بمنزلة الأسماء الإلهية التي امتد عنها ظل الممكنات، فكل ممكن تجلی عليه النور الذاتي انعدم في الحال وزال عنه تجلي الأسماء الإلهية ، فإذا استتر عنه النور الذاتي تجلت عليه الأسماء الإلهية فأوجدته بوجهها الذي تغایر به الذات الإلهية ، وهو الوجه الذي من طرف الآثار الكونية .
(و) تعرف (ما نسبتك إليه) سبحانه فإن نسبتك إليه نسبة الظل إلى شخصه كما ذكرنا (و) تعرف (ما نسبته)، أي الحق تعالى (إليك) يا أيها السالك وكذلك كل مخلوق مثلك.

فإن نسبته إليك سبحانه نسبة الشخص إلى ظله من حيث أسماؤه وصفاته ونسبة النور إلى الظل من حيث ذاته تعالى.
ولا يغنيك إلا شهود الذات الإلهية النورية، ولا يوجدك ويبقيك إلا شهود الأسماء الإلهية بالنور الذات الإلهي (حتى تعلم) يا أيها السالك (من أين)، أي من أي ذات وهي ذات الحق تعالی وعينه النورية الوجودية المطلقة.

(أو من أي حقيقة إلهية)، أي حضرة جامعة للذات والاسم الإلهي (اتصف ما سوی)، أي غير (الله تعالی) من كل شيء محسوس أو معقول (بالفقر)، أي بالافتقار والاحتياج (الكلي) الذي هو من حيث ذات ذلك الشيء وصفاته وجميع أحواله في ظاهره وباطنه إلى الله تعالى .
وذلك من حيث أن الظل صادر عن الشخص بصورته وهيئته وأحواله من حركة وسكون، وصادر عن النور الذي هو خلف الشخص بثبوته ووجوده وارتسامه في نفسه .

فقد اشترك الشخص والنور في إظهار الظل، والظل ظاهر عنهما معا لا عن أحدهما فقط، لكن كل واحد منهما له فيه تأثير باعتبار، إذ لو لم يكن الشخص ما كان الظل، وكذلك لو لم يكن النور ما كان الظل، فالشخص يرسم صورة مخصوصة يقتضيها.
والنور يكشف عن تلك الصورة ويظهر للحس فافتقار الظل إلى النور، والشخص بافتقار كلي نظر افتقار كل شيء محسوس أو معقول إلى الله تعالی من حيث ذاته تعالى، ومن حيث أسمائه وصفاته.

فإن الأسماء والصفات الإلهية لها رسم كل شيء أزلا، وتخصيص صورته بما تقتضيه من حال حسي أو معنوي على اختلاف ذلك.
والذات الإلهية لها إظهار ذلك الشيء على حسب ما هو عليه والكشف عنه ، لأنها النور الذي يظهر به كل مستور.
قال الله تعالى : "الله نور السموات والأرض" [النور: 35]. وفي الحديث من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: «اللهم إني أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السموات والأرض، وأشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل على غضبك، أو تنزل على سخطك».رواه الطبراني والمقدسي في المختارة.

(و) اتصف أيضا (بالفقر)، أي الافتقار (النسبي) الذي هو مجرد نسبة افتقار واحتياج فقط بلا حقيقة افتقار ولا احیتاج في نفس الأمر (بافتقار)، أي بسبب افتقار (بعضه)، أي بعض ما سوى الله تعالى.
(إلى بعض) آخر من ذلك السوي، فإنه اتصف بهذا النوع من الافتقار، الذي هو مجرد نسبة الافتقار فقط، باعتبار عدم انفكاك ما سوى الله تعالى الذي هو الظل عن شخصه، الذي هو حضرة الأسماء الإلهية.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالسبت أغسطس 17, 2019 5:43 pm

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الأول
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية
هذا نص الحكمة الهودية ذكره بعد حكمة يوسف عليه السلام، لأن علم هود عليه السلام المتعلق بمعرفة استقامة الكل، وأخذ الحق بناصية كل دابة تدب من العدم إلى الوجود، نظير علم الخيال الذي هو علم يوسف عليه السلام من جهة تساويهما في اعتبار الوصف الواحد العام مع ملاحظة الأوصاف الخاصة في ضمنه.
قال رضي الله عنه : (فص حكمة أحدية) منسوبة إلى ظهور الأحد سبحانه في كل واحد (في كلمة هودية) إنما اختصت حكم هود عليه السلام بكونها أحدية.
لأن ظهور الاستقامة في كل شيء، لأنه على صراط ربه المستقيم فيما أراده منه يقتضى ظهور أحدية الأسماء الذاتية سبحانه وخفاء واحدية الأسماء الصفاتية، فيبطن الحكم وتظهر الحكمة. وهذه الحكمة ذاتية فهي أحدية وهو مشهد هود عليه السلام الغالب على بصيرته فيما أظهر الله تعالى لأهل الكشف بكلامه القديم من حال سريرته [شعر]
قال الشيخ رضي الله عنه:
(إن لله الصراط المستقيم ... ظاهر غير خفي في العموم
في صغير وكبير عينه ... وجهول بأمور وعليم
ولهذا وسعت رحمته ... كل شيء من حقير وعظيم
«ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم». فكل ماش فعلى صراط الرب المستقيم.
فهو غير مغضوب عليهم من هذا الوجه ولا ضالون. فكما كان الضلال عارضا كذلك الغضب الإلهي عارض، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي السابقة.
وكل ما سوى الحق دابة فإنه ذو روح. وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره. فهو يدب بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم، فإنه لا يكون صراطا إلا بالمشي عليه.
إذا دان لك الخلق ... فقد دان لك الحق
وإن دان لك الحق ... فقد لا يتبع الخلق
فحقق قولنا فيه ... فقولي كله الحق
فما في الكون موجود ... تراه ما له نطق
وما خلق تراه العين ... إلا عينه حق
ولكن مودع فيه ... لهذا صوره حق )
قال رضي الله عنه : (إن الله) سبحانه من حيث ذاته المطلقة الأزلية (الصراط)، أي الطريق (المستقيم) غير المعوج أصلا، وذلك هو حضرة أسمائه تعالى وصفاته التي تظهر الذات المطلقة فيها بقدم الأمر والوجه على حسب ما ترتبت الممکنات العدمية في الأزل شيئا فشيئا، فيشبه المشي في الطريق برفع قدم ووضع قدم أعلى من الأول.
كما قال تعالى في وصف نفسه أنه "رفيع ادرجات" [غافر : 15] وأنه "كل يوم هو في شأن" [الرحمن : 29]، وليس إلا الممکنات وأحوالها المختلفة فهي الدرجات التي هو رفيعها كلها .
قال سبحانه : "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا ألعلم درجات" [المجادلة : 11]، وهي شؤونه أيضا التي هو كل يوم فيها في شأن وهذا اليوم كلمح بالبصر.
 لأنه يوم الأمر الذي قدره سبحانه به في قوله: (وما أمرنا إلا واحدة كلمچ بالبصر ) [القمر: 50].
قال رضي الله عنه : (ظاهر) أي ذلك الصراط المستقيم لكل أحد (غير خفي) على أحد (في العموم)، أي في عموم الكائنات كلها .
(في كبير)، أي ظهور ذلك الصراط في كل شيء كبير (وصغير) من المحسوسات والمعقولات (عينه)، أي عين ذلك الكبير والصغير من غير اعتبار الصبغة العدمية بالعدم الأصلي (و) في كل (جهول) أيضا (بأمور) ظاهرة أو خفية وعليم) بأمر من الأمور وما بين ذلك .

قال رضي الله عنه : (ولهذا)، أي لكون صراطه المستقيم الذي هو عليه سبحانه ظاهر في كل شيء (وسعت رحمته) وهي ذاته الرحمة بالإيجاد والإمداد (كل شيء من) شيء (حقیر و) شيء (عظيم) في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: "ورحمتي وسعت كل شيء" [الأعراف: 156]، وقال تعالى حكاية عن هود عليه السلام أنه قال: ("وما من دابة إلا هو") سبحانه وتعالى وهی كناية عن ذاته العلية في مقام الأحدية ("آخذ بناصيتها")، والناصية مقدم الرأس، والرأس موضع ظهور سلطان الروح المنفوخ في القلب.

ومن الرأس ينتشر ذلك السلطان في جميع الحواس الظاهرة والباطنة، وخص ناصيته لأنها موضع الحبال في الحيوان، ثم إذا أريد العموم في غير الحيوان أيضا من كل شيء قصد التشبيه فيما هو بمنزلة الرأس له والناصية.
وأيضا فإنه لما ذكر الدابة وأريد عمومها في جميع الكائنات كما سيأتي ذكر الناصية، لأن من عادة الدواب أن تؤخذ من نواصيها وتساق حيث يريد صاحبها ("إن ربی") الذي أشهده في مقام أحديته وهو ما کنی عنه بقوله هو وأتى بالهوية الذاتية المطلقة ("على صراط")، أي طريق واضح ("مستقيم") [هود: 56] غير ذي عوج.
وهو الذي أنزله سبحانه على نبينا صلى الله عليه وسلم وسماه القرآن، أي المجموع من القرء وهو الجمع، لأنه جامع من حيث هو ممسك كل حقيقة كونية ومجموع بها من حيث هي حقيقة في نفسها، لأنه عينها بالوجود وهي غيره بالصورة.
قال تعالى: " قرآنا عربيا غير ذي عوج" [الزمر: 28].

قال رضي الله عنه : (فكل ماش) على أرض وجوده من الأشياء الممکنات (فعلی صراطه)، أي طريق الرب سبحانه (المستقيم) الذي لا اعوجاج فيه، لأنه عين إرادته القديمة توجه على الأعيان الممكنة، فمشى عليه بذاته ومشت الأعيان الممكنة أيضا عليه بذواتها ، فهو صراط سبق مشيه فيه على الاستقلال.
وهي مشت فيه بحكم التبعية له سبحانه ، لأنه آخذ بنواصيها (فهم)، أي المغضوب عليهم من الممكنات، والضالون منهم غير مغضوب عليهم من هذا الوجه الذي به مشوا على صراط الإرادة (ولا ضالون)، لأنهم مشوا بحكم التبعية للماشي بالاستقلال، فهو مستقيم في مشيه ذلك، وهم كذلك مستقيمون بهذا الاعتبار.
قال رضي الله عنه : (فكما كان الضلال) الذي اتصف به من اتصف (عارضا له) في الحياة الدنيا على أصل خلقته وفطرته (كذلك الغضب الإلهي) المتصف به سبحانه على من غضب عليهم (عارض) أيضا ظهور اتصافه به عندنا وإن كان هو أيضا من جملة الحضرات الإلهية القديمة.

لكن ظهوره إنما هو بظهور الأحوال في العبد المقتضية لظهوره والأحوال في العبد المقتضية لظهوره، خلاف الأصل من العبد، فكذلك هو في الحضرات الإلهية خلاف الأصل من الحق.
(والمآل)، أي المرجع للكل بعد زوال خلاف الأصل من الطرفين : طرف العبد وطرف الرب وهو المسمى بالعارض (إلى الرحمة التي وسعت كل شيء) وهو الوجود المطلق، وحيث وسعت كل شيء، فكل شيء فيها عينها، وقد انمحت الصور التي تتمايز الأشياء في نفسها بحكم قوله سبحانه : "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88].

ولم يسعها شيء أصلا، ولهذا تعددت، فالعارض الذي أطلق على ضلال العبد وغضب الرب راجع إلى الصورة الممكنة العدمية.
لأنها تعرض اللوجود المطلق فتقيده، والقيد منه عين غضبه، وتعطي الممكن وجودة بجهلها الأصلي الذي هو عين عدمها، فيكون الضلال (وهي) الرحمة (السابقة) إلى كل حقيقة كونية من الأزل، لأنها عينها، ولصورة أمر عارض لها منها كما ذكرنا .
قال رضي الله عنه : (وكل ما سوى الحق) تعالى من الممكنات (دابة فإنه)، أي كل ما سوى الحق (ذو روح) لظهور صورته في الحس أو العقل عن الصورة الأمرية الروحانية وقيامها بها.

فالأرواح مختلفة باختلاف صور أجسامها، لأن صور أجسامها كانت في غيبها فصارت هي في غيب صور أجسامها، فمنها أرواح معنوية، لأن صور أجسامها معاني عقلية أو وهمية، ومنها أرواح حسية، لأن صور أجسامها حسية، ومنها أرواح جمادية وأرواح نباتية وأرواح حيوانية وأرواح إنسانية وأرواح نورانية ملكية وأرواح نارية جنية .
وكل هذه النسب باعتبار صور أجسامها التي ظهرت من غيبها، فصارت هي في غيب صور أجسامها فسميت بذلك نفوسنا، فإذا رجعت كما كانت سمیت قلوبة فكانت مؤمنة، ولا بد أن تؤمن كلها.

ولهذا قال تعالى : "يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ" [الأنعام: 158]، وهو نفع اللذة لا نفع المعرفة، فإن نفع المعرفة حاصل للكل ونفع اللذة نفع الجنة ونفع المعرفة حاصل لأهل النار أيضا .
قال تعالى في حق الكافر :" فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" [ق: 22]، فإذا كانت القلوب مؤمنة وسعت الرب سبحانه كما قال: «وسعني قلب عبدي المؤمن» وهذا هو المال إلى الرحمة.
قال رضي الله عنه : (وما ثم)، أي هناك في هذا الوجود الحادث (من يدب) على أرض نفسه (بنفسه) أصلا (وإنما يدب بغیره) فالأرواح تدب بالأمر الإلهي، والصور تدب بالأرواح (فهو)، أي كل ما هو في هذا الوجود الحادث من أرواح وصور (يدب بحكم التبعية الذي هو على الصراط المستقيم) وهو الله تعالى.

ولهذا سماه صراطا ، أي طريقا (فإنه لا يكون صراطا إلا بالمشي عليه)، ولولا المشي عليه ما كان صراطا.
قال الشيخ رضي الله عنه في بقية هذا المبحث من النظم (شعر):
(إذا دان)، أي انقاد وأطاع (لك) يا أيها العارف بالله تعالى (الخلق)، أي المخلوقات كلها أو بعضها (فقد دان)، أي أطاع (لك الحق) سبحانه على حسب طاعة الخلق كلا أو بعضا، لأنهم إذا مشوا على الصراط المستقيم بحكم التبعية له
الزم ذلك المذكور، والمسمى خلقا هو الحق الذاتي من حيث الوجود، والمسمى حقا هو الحق الصفاتي الأسمائي من حيث الشهود، والحق المشهود تابع للحق الموجود، لأن الحق الموجود وهو الأصل، فإذا دان لك يا أيها العارف به فقد دان لك الحق الصفاتي الاسمائي بالأولى والأحرى.

قال رضي الله عنه : (وإن دان لك) يا أيها العارف (الحق) سبحانه وهو الظاهر لك من حيث شهودك (فقد لا يتبع) في الإطاعة لك (الخلق) من حيث الوجود الذاتي كما ذكرنا ، لأن الأصل لا يصير تبعا أصلا، (فحقق).
أي اعرف على وجه التحقيق (قولنا فيه)، أي في الحق تعالى هذا القول المذكور ولا تحتجب عنه بالألقاب والتسمية (فقولي كله الحق)، لا غيره وإن تسمى بخلق من جهة وبحق من جهة أخرى.
قال رضي الله عنه : (فما في) هذا الكون الحادث شيء (موجود) أصلا (تراه) يا أيها الإنسان محسوسا كان أو معقولا ساكتا (ما)، أي ليس (له نطق)، أي تكلم أصلا بل كل الكائنات ناطقة.
قال تعالى: " الذي أنطق كل شيء " [فصلت: 21] ولا يلزم أن يكون كل النطق في عالم واحد، فإن الله تعالى رب العالمين، وكل عالم ناطق في عالمه بكلام فصيح يسمعه ويفهمه كل من دخل في ذلك العالم بعد تجرده في عالمه هو.

أرأيت بأن النائم في مكان لما تجرد عن عالم نطقه وتكلمه بين أمثاله من بني آدم ودخل في عالم آخر من عوالم الله تعالی کیف نطق وتكلم مع أمثاله في ذلك العالم، وسمع نطقهم وتعليمهم، وهو في ذلك المكان نائم ساکت لا نطق له ولا تكلم أصلا عند أمثاله في عالم يقظة من منامه.
ولا هو يسمع بنطق من تكلم عنده في ذلك المكان، وكم لله سبحانه في طي الوجود عوالم كثيرة لا يحيط بعددها إلا الله تعالی وجميعها عامرة بالمخلوقين الناطقين المتكلمين بالكلام المسموع المفهوم والله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور.

قال رضي الله عنه : (وما خلق)، أي مخلوق من مخلوقات الله (تراه العين) الباصرة من المحسوسات والعين الفاهمة من المعقولات (إلا عينه)، أي عين ذلك الخلق يعني هويته وحقيقته القائمة عليه بما کسب من أحواله (حق)، أي أمر إلهي موجود وهو وجود مطلق قائم بنفسه وقيوم على ذلك الخلق.
ولكن هذا الحق (مودع) بصيغة اسم المفعول (فيه)، أي في ذلك الخلق، وهذا الإيداع باعتبار عدم ظهور ذلك الحق المودع إلا من ذلك الخلق المودع فيه وبالعكس والحق وجود صرف، والخلق عدم صرف.
فلا حلول ولا اتحاد لانتفاء المناسبة بينهما (لهذا)، أي للحق (صور)، أي صور ذلك الخلق جمع صورة كما قالوا في قوله تعالى: "ونفخ في الصور" [الكهف: 99]، أنه جمع صورة، فكل صورة
الواحد من الخلق (حق) بضم الحاء المهملة، أي وعاء ساتر للحق سبحانه ، فلا يظهر الحق إلا إذا فنيت تلك الصورة وانفتح الحق بالضم وانكسر ذلك الوعاء.

قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم أن العلوم الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة.
فإن الله تعالى يقول : «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يسعى بها.
فذكر أن هويته هي عين الجوارح التي هي عين العبد. فالهوية واحدة والجوارح مختلفة.
ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها من عين واحدة تختلف باختلاف الجوارح، كالماء حقيقة واحدة مختلف في الطعم باختلاف البقاع، فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج، وهو ماء في جميع الأحوال لا يتغير عن حقيقته وإن اختلفت طعومه. )

قال رضي الله عنه : (اعلم) يا أيها السالك (أن العلوم الإلهية)، أي المنسوبة إلى الإله تعالى (الذوقية)، أي التي لا تنال إلا بالذوق والكشف دون الفكر والخيال (الحاصلة لأهل الله تعالی)، أي الطائفة المنسوبين في إيجادهم وإمدادهم عندهم إلى الله تعالی المنقطعين عن كل ما سواه المتصلين بجنابه سبحانه .
قال رضي الله عنه : (مختلفة) تلك العلوم في نفسها متفاوتة وضوحا وانکشافة (باختلاف القوى الحاصلة) لأهل الله تعالى (منها)، أي من تلك العلوم فإنها تمد أهل الله تعالى من طرف الحق تعالی بالقوة الأزلية.
وتختلف في وضوحها وانکشافها لهم باختلاف ما قبلوا بسببها من ظهور القوة الأزلية بهم (مع كونها)، أي تلك العلوم من طرف الحق سبحانه (ترجع إلى عين واحدة) هي عين العلم الإلهي القديم الذي هو نفس الوجود المطلق من حيث هو ينبوع كل ما سواه تعالى.

وذلك مشهودة لكل (فإن الله تعالى يقول) في الحديث القدسي: "ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته (كنت سمعه)"، أي سمع ذلك العبد (الذي يسمع به) إذا سمع (وبصره الذي يبصر به) إذا أبصر (ويده التي يبطش بها) إذا بطش (ورجله التي يسعى بها) إذا سعی.
قال رضي الله عنه : (فذكر) تعالى (أن هويته)، أي ذاته المطلقة (عين الجوارح)، أي الأعضاء الإنسانية (التي هي عبد العبد) مع قطع النظر عن صورة الجوارح المسماة باليد والرجل والسمع والبصر.

فإنها ممکنات عدمية بالعدم الأصلي وظهورها موجودة إنما هو بمحبة الله تعالی لذلك العبد الغافل المحجوب بحجاب نفسه، وكونه سبحانه عينها كلها، ولكن ذلك العبد غير عالم بذلك وغير ملتفت إليه لكفرانه نعمة ربه ، بسبب عدم تقربه إليه تعالی بالأعمال الصالحة، ليعرف ربه بذلك ويطلعه على ما هو معامله به .

قال رضي الله عنه : (فالهوية) الإلهية (واحدة) من حيث هي (والجوارح) في العبيد (مختلفة) كثيرة (ولكل جارحة) في كل عبد عارف (علم من علوم الأذواق) المختصة بها الأولياء میراثا عن الأنبياء عليهم السلام (يخصها)، أي يخص ذلك العلم تلك الجارحة من جوارح ذلك العبد حاصل ذلك العلم لتلك الجارحة .
قال رضي الله عنه : (من عين) إلهية (واحدة تختلف) تلك العين الواحدة في ظهورها وتجليها بمجموع ذلك العبد الذي هو آثارها (باختلاف الجوارح) من ذلك العبد (کالماء) الذي ينزل من السماء (حقيقة واحدة) لا يختلف في نفسه وإنما (يختلف في الطعم باختلاف البقاع) جمع بقعة.

أي الأماكن التي يكون فيها من الأرض (فمنه) ماء (عذب)، أي حلو (فرات)، أي صافي خفيف (ومنه) ماء (ملح أجاج)، أي مر، وينزل الماء أيضا في الأواني المختلفة المقدار، وفي الزجاجات المختلفة الألوان.
فيختلف مقداره بهيئة الإناء ويختلف لونه بلون الزجاجة (وهو)، أي الماء ماء في جميع هذه الأحوال لا يتغير أصلا (عن حقيقته) الواحدة التي هو عليها في نفسه (وإن اختلفت طعومه) باختلاف بقاع الأرض وتفاوت منابعه واختلفت مقادیره وهيئاته باختلاف أوانيه واختلفت ألوانه باختلاف زجاجاته .

قال تعالى: "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ولی خبث لا يخرج إلا نكدا" [الأعراف: 58]، وهكذا أحوال علوم أهل الله تعالی علوم الأذواق المختصة بهم،
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهذه الحكمة من علم الأرجل وهو قوله تعالى في الأكل لمن أقام كتبه: «ومن تحت أرجلهم». فإن الطريق الذي هو الصراط هو للسلوك عليه والمشي فيه، والسعي لا يكون إلا بالأرجل.
فلا ينتج هذا الشهود في أخذ النواصي بيد من هو على صراط مستقيم إلا هذا الفن الخاص من علوم الأذواق.
«فيسوق المجرمين» وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكهم عن نفوسهم بها، فهو يأخذ بنواصيهم والريح تسوقهم- وهو عين الأهواء التي كانوا عليها- إلى جهنم، وهي البعد الذي كانوا يتوهمونه.
فلما ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب فزال البعد فزال مسمى جهنم في حقهم، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق لأنهم مجرمون.
فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة، وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها، وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة. )

قال رضي الله عنه : (وهذه الحكمة) التي هي معرفة اختلاف العلوم الإلهية باختلاف أهلها (من علم الأرجل) بحسب ما تقتضيه الرجل في قولك : كنت رجله التي يسعى بها كما مر (وهو قوله تعالى في الأكل) الروحاني بعد الجسماني (لمن أقام كتبه) "ولو أنه أقاموا التورية والإنجيل وما أنزل إليهم ممن هم أكثروا من فوقهم ("ومن تحت أرجلهم" ) [المائدة: 66]، وهو علم سير الحقيقة الإلهية في مواطن الممكنات العدمية ونزولها في المنازل الاختصاصية .
(فإن الطريق الذي هو الصراط)، الذي سبق ذكره في قوله تعالى: "إن ربي على صراط مستقيم" [هود: 56] (هو)، أي الطريق لا يكون إلا (للسلوك عليه والمشي فيه) فإنه مشتق من الطرق لأنه يطرق، أي يضرب بأقدام الناس و حوافر الدواب كما أن الصراط من الصرط وهو الابتلاع والازدراد، لأنه يبتلع المارة فيه ويزدردهم (والسعي لا يكون إلا بالأرجل فلا ينتج هذا الشهود) الإلهي الخاص.

قال رضي الله عنه : (في أخذ النواصي) من جميع الدواب التي تدب من العدم إلى الوجود (بید من هو على صراط مستقیم) وهو الرب سبحانه (إلا هذا الفن)، أي العلم (الخاص من علوم الأذواق) الوجدانية المختلفة باختلاف أهلها والكل من عين واحدة بل هو من تلك العين الواحدة .
(فيسوق الله المجرمين) من قوله تعالى : "ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " [مريم: 86] . (وهم)، أي المجرمون (الذين استحقوا)، أي تهيئووا واستعدوا فنالوا
(المقام الذي ساقهم إليه) وهو جهنم وكان سوقهم منه تعالى إليه (بريح الدبور) وهي التي تهب من مغرب الشمس وكانت دبورة لأنها على إدبار النهار واختفاء الشمس، وتدل فيهم على أدبار أحوالهم واختفاء شمس الأحدية الإلهية تحت أراضي نفوسهم وانحجابها عنهم بهم.
وهذا من قوله تعالى: "فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها" [الأحقاف : 24 - 25] .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالسبت أغسطس 17, 2019 5:44 pm

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الثاني
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية
ولذا قال (التي أهلكهم) أي الله تعالى (عن نفوسهم بها) أي تلك الريح وهو عين الدمار (فهو)، أي الله تعالى (يأخذ بنواصيهم)، لأنه مالكهم (والريح) الدبور التي تدمرهم بإذن ربها (تسوقهم وهي)، أي تلك الريح (عین الأهواء ) النفسانية التي كانوا عليها في الحياة الدنيا کنی عنها بريح الدبور، لأنها نشأت فيهم من أجل احتجابهم عن شمس أحدية الحق تعالی .
كما تنشأ ريح الدبور عن غيبة الشمس وحركة غروبها في جهة المغرب إلى جهنم وهي البعد عن الله تعالى (الذين كانوا) أي المجرمون (يتوهمونه) بحضورهم مع الأغيار ولا أغيار.

قال رضي الله عنه : (فلما ساقهم) الله تعالى (إلى ذلك الموطن) الذي يتوهمونه على خلاف ما هو عليه (حصلوا في عين القرب) الذي هم عليه في نفس الأمر في غير شعور منهم
فزال عنهم (البعد) الذي كانوا يتوهمونه بحكم المغايرة المجعولة فيهم بأهواء نفوسهم مع أنها عين أخذه تعالی بنواصيهم.
وعين سوقه لهم بتلك الأهواء المكنى عنها بالريح (فزال) من زوال البعد عنهم (مسمى جهنم في حقهم)، أي المجرمين يعني من جهة أذواقهم لا في حق غيرهم ممن يراهم في جهنم (ففازوا بنعيم القرب) من الله تعالى (من جهة الاستحقاق) بحكم العدل الإلهي (لأنهم)، أي هؤلاء المذكورين (مجرمون)، أي أصحاب جرائم، وهي الذنوب، وأكبر الذنوب الكفر والشرك .

قال رضي الله عنه : (فما أعطاهم هذا المقام الذوقي) الذي هو في أذواقهم فقط لا في ظواهرهم (اللذيذ) من جهة ما هو وجيع وأليم كضرب المحبوب لمحبه ضربة وجيعة من جهة ما هو ضرب، وفيه اللذة للمحب إذا انكشف له محبوبه، وأنه هو الضارب له من جهة أخرى ذوقية لا يعرفها إلا المحب العاشق.

قال أبو يزيد البسطامي قدس سره :
وكل مآربي قد نلت منها سوى    …… ملذوذ وجدي بالعذاب
"" أضاف المحقق :
للحسين بن منصور الحلاج المولود سنة 244 هـ والبيت الثاني هو :
أريدك لا أريدك للثواب   ….. ولكن أريدك للعقاب
فكل مآربي قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدي بالعذاب  ""
فقد أخبر أنه نال من محبوبه جميع مقاصده إلا مقصدا واحدا لم ينله فطلبه من محبوبه وهو اللذة العشقية التي تحصل بعذاب المحبوب له.
فقد طلب العذاب من محبوبه لتحصل له لذة العذاب بسبب ما عنده من المحبة، وأهل النار إذا دخلوا إليها وعذبوا بعذابها لا يخفف عنهم من عذابها شيئا إلى ما لا نهاية له وهو الخلود في حق الكافرين.

فهم محجوبون عن ربهم الذي هم قائمون به في أطوار وجودهم وهي الحضرة الأسمائية الإلهية كما قال تعالى : "إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " [المطففين : 15]، وموتهم من هذه الحياة الدنيا كشف عن غطائهم، أي غطاء نفوسهم المربربة بربهم فزالت نفوسهم واختفى عنهم ربهم فانحجبوا عنه.
وانكشفت لهم الهوية الذاتية التي تغني كل من شاهدها، فلهم بها نعیم القرب واللذة التي هي عين فنائهم عما هم فيه من عذاب الكفر.
وهذا الفناء ذوقي لا عيني فيجده الذائق، ولا يحس به المعاين، فهم في العذاب ظاهرة، والحجاب عن ربهم خالدون مخلدون في النار والزمهرير، لأن ربهم الذي هم محجوبون عنه في الآخرة ظهر بهم في الدنيا بأنواع الضلالات والكفر والجرائم وهم لا يشعرون.

وزين لهم أعمالهم، فلما ماتوا زالوا عن دعوى الوجود التي كان فيها الكل، قد ذاقوا نعیم الفناء الذي هو عين القرب إليه تعالى، كما ذاقه العارفون في الدنيا، فإذا ردوا بعد موتهم إلى تخیل وجودهم في عالم البرزخ وقع الحجاب لهم عن ربهم الذي أعطاهم عين ما اتصفت به نفوسهم.

فتعذبوا بعذاب النار على الجرائم التي كان بسبب اتصافهم بها عين حجابهم عن ربهم، وهم في الآخرة في جهنم أبد الآبدين، عذابهم من جهة حجابهم عن ربهم، ونعيمهم من جهة فنائهم الذي يرجعون فيه إلى أعيانهم الثابتة في الحضرة العلمية ، وهي لذة أهل الجنة أيضا، وكل ميت من حين الموت إلى الأبد كذلك.

ولأهل الجنة زيادة على ذلك لذة الرؤية لربهم الذي حجب عنه الكافرون وكما ذكرنا.
قال تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" [القيامة : 22 - 23].
وقال صلى الله عليه وسلم : «إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا» فالموت يقتضي کشف غطاء دعوی الوجود، وفيه لذة زوال تعب دعوى الوجود، وهي اللذة التي ستصحب أهل النار بل أهل الآخرة كلهم.

وإن كانوا يحيون بالحياة الأخروية الأبدية، فإنها غير الحياة الدنيوية الوهمية.
والحاصل أن التكليف بالأعمال في الدنيا إنما كان من حضرة الربوبية التي أشهدت كل إنسان على نفسه بالإقرار لها.
في قوله تعالى: «وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا " [الأعراف: 172]، ثم إن هذه الحضرة جاءت منها المرسلون إلى الخلق يكلفونهم بمقتضى ما أخذ عليهم من الميثاق.
ولهذا قال عليه السلام: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا" فيقول: «هل من مستغفر فأغفر له» الحديث . رواه البخاري ومسلم.

فما قال ذلك إلا الرب لا غيره من الأسماء، فإذا عمل أهل الجنة للجنة، وأهل النار للنار كانت أعمالهم عين ما هو جزاؤهم إذا انقلبوا بالموت من دعوى وجودهم إلى حضرة ثبوتهم.
فأهل الجنة يتنعمون في الجنة برؤية ربهم زيادة على نعيم الجنة بحسب أعمالهم الصالحة، وأهل النار يعذبون بالنار بحجابهم عن ربهم زيادة على عذابهم بالنار بحسب أعمالهم القبيحة.
فنعيم الرؤية لأهل الجنة نعيم روحانی ونعيم الجنة نعيم جسمانی.
وعذاب الحجاب لأهل النار عذاب روحانی، وعذاب النار عذاب جسماني.
والفريقان لهم لذة ذوقيه بمقام القرب الذاتي الإلهي يكونون فيه باطنة من حين زوال الحياة الدنيا إلى الأبد.

وأهل النار لا يزالون في الآخرة يتعذبون و" كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب" [النساء: 56].
وهو مع ذلك يمدهم من هذا المقام الذاتي بلذة القرب، ولهذا يحتملون ما يقاسونه من ألم العذاب في النار ما لولاه لذابوا في أقل قليل، وهم فيها يصطرخون وينادون : " يا مالك ليقض علينا ربك " ، فيقول لهم: "إنكم ماكثون" [الزخرف: 77]، حتى يضع الجبار قدمه في النار كما ورد في الحديث وينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط. رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وهذا كناية عن غلبة القرب الذاتي عليهم الذي فيه الكل ورسوخهم فيه، فعند ذلك يحصل في أذواقهم ما صرح به الشيخ المصنف قدس الله سره في هذا الكتاب وغيره من كتبه من اللذة بالعذاب مع بقاء عينه عذابا مؤلما موجعا.

وهذا البيان من فتوح الوقت والحمد الله على إنعامه (من جهة المنة)، أي الفضل الإلهي عليهم كما هو حال نعيم أهل الجنة .
قال : «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال : "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" وهذا عين الفضل .رواه الطبراني و صحيح ابن حبان ومسند أحمد .
قال رضي الله عنه : (وإنما أخذوه)، أي أخذ أهل النار هذا المقام الذوقي اللذيذ (بما استحقته حقائقهم)، أي حقائق نفوسهم وهي حضرات أمر ربهم القائم عليهم بما كسبوا في الدنيا وما جوزوا به في الآخرة (من أعمالهم التي كانوا عليها) في الدنيا واتصفوا بنتائجها في الآخرة ولا تستحق حقائقهم إلا عين العدل والفضل زيادة على ذلك وهو لأهل الجنة .
قال تعالى: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " [يونس: 26]. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ونعيم القرب الذاتي هو عين الحسني التي للذين أحسنوا ، والزيادة هي الجنة.
وأهل النار أحسن الله بهم في الدنيا ولم يحسنوا هم فلهم الحسنى من غير زيادة، لوجود الإحسان في حقائقهم.
ولهذا كانوا يرونه لما كانوا يسجدون کرهة في عين سجودهم للأصنام، لكن رؤية ذاتية في حضرة وجوده المطلق الذي هم موجودون به مع كل شيء عندهم قال تعالى : "ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها" [الرعد: 15].
وقال تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " (الإسراء : 23).
وما قضی به تعالی واقع لا محالة (وكانوا)، أي المجرمون في السعي في أعمالهم في الدنيا التي هم عاملون لها (على صراط الرب المستقيم) وهو قيامهم بأسمائه تعالى (لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة)، أي هو على صراط مستقیم، وهو الله تعالی.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما مشوا بنفوسهم وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب.
«ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون»: وإنما هو يبصر فإنه مكشوف الغطاء «فبصره حديد». وما خص ميتا من ميت أي ما خص سعيدا في القرب من شقي.
«ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» وما خص إنسانا من إنسان. فالقرب الإلهي من العبد لا خفاء به في الإخبار الإلهي.
فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عين أعضاء العبد وقواه، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى فهو حق مشهود في خلق متوهم.
فالخلق معقول والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود.
وما عدا هذين الصنفين فالحق عندهم معقول والخلق مشهود. فهم بمنزلة الماء الملح الأجاج، والطائفة الأولى بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ لشاربه. )

قال رضي الله عنه : (فما مشوا) في أعمالهم تلك واكتسبوها في الدنيا (بنفوسهم وإنما مشوا) فيه بمن ساقهم إلى ذلك و اضطرهم إلى فعله مع علمهم بحكمة في الآخرة.
وإن كان ذلك العلم عندهم ظنا أو شكا أو جحودة بمقتضى ما قال ولقد وصلنا لهم القول فقامت عليهم حجته بمجرد وصول القول إليهم (بحكم الجبر لهم) على اختيارهم ذلك وإرادته فكان مآلهم قال رضي الله عنه : (إلى أن وصلوا إلى عين القرب) الذاتي الذي فيه الكل أزلا وأبدا . قال تعالى : " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) " سورة الواقعة
قال رضي الله عنه : (ونحن) وهو كناية عن الوجود المطلق الظاهر بالممکنات العدمية (أقرب إليه)، أي إلى امرىء بلغت روحه الحلقوم، وأنتم حينئذ تنتظرون بلوغ روحه إلى ذلك (منکم) يا أيها الناظرون (ولكن لا تبصرون) أنتم هذا القرب المذكور (وإنما هو)، أي ذلك الميت (يبصر هذا) القرب الذاتي (فإنه)، أي ذلك الميت (مکشوف الغطاء) النفساني، فإن الموت من أوصاف النفوس.
وكذلك الحياة (فبصره)، أي ذلك الميت (حديد)، أي قوي في التحقق بذلك، ورؤية ذلك القرب وهو البصر الروحاني .
قال تعالى: "فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" [ق: 22].
قال رضي الله عنه : (وما خص) تعالی بکشف الغطاء و حدة البصر (میتا من میت، أي ما خص سعيدة في القرب) الذاتي المذكور (من شقي) فقربه تعالى إلى كل شيء القرب الذاتي على السواء وهو الظهور بالوجود بعد ترك دعواه .
وقال تعالى أيضا : ("ونحن أقرب إليه")، أي إلى الإنسان ("من حبل الوريد") [ق: 16].
وهو العرق الذي يجري فيه الدم وتقوم به الحياة الدنيوية (وما خص) تعالى بهذا القرب (إنسانا من إنسان) بل عم الكل وهذا هو القرب الذاتي أيضا الذي هي عليه جميع الممکنات، علمه من علمه وجهله من جهله، فعالمه متنعم به دون جاهله في الدنيا، ولا جهل به في الآخرة للكل.
فإذا غلب على أحد أوجب نعيمه في الدنيا أو الآخرة، والقرب الآخر الاختصاصي وهو القرب الاسمائي حاصل في الدنيا لأهل الوصول ولأهل الجنة خاصة في الآخرة.
 ولا ذوق لأهل النار فيه أصلا لا دنيا ولا آخرة وهو قوله تعالى : " ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى" [النجم: 8 - 9].
ولهذا وقع فيه التشبيه بقاب القوسين بخلاف القرب الأول الذاتي، فإنه لا تشبيه فيه أصلا لاقتضاء الفناء عن الوجود المشهود والرجوع إلى الثبوت المعهود.
قال رضي الله عنه : (فالقرب) الذاتي (الإلهي) المذكور هنا لله تعالى (من العبد لا خفاء به) أصلا (في الأخبار الإلهية) الواردة على ألسنة المرسلين.
ثم شرع في بيانه فقال : (فلا قرب أقرب من أن تكون هويته)، أي ذاته يعني وجوده تعالى المطلق الذي قام به کل شيء (عين أعضاء العبد) وعين (قواه) من حيث الظهور والوجود مع قطع النظر عن خصوص الصور الإمكانية العدمية بالعدم الأصلي .
قال رضي الله عنه : (وليس العبد) الذي لا يزال يتقرب بالنوافل كما ورد في الحديث ، فهو يشهد ذلك عيانا في ظاهره وباطنه (سوى هذه الأعضاء والقوى) الواردة في الحديث من حيث هي موجودة مشهودة، لا من حيث هي مسماة بالأسماء كاليد والرجل والسمع والبصر .
قال تعالى: "ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان " [يوسف: 40] الآية.
فما عبدوا من الأصنام إلا مجرد الأسماء لأنهم ما عرفوا منها إلا ذلك ولو عرفوها حق المعرفة لعرفوا الله تعالى الذي قامت بوجوده.
وكذلك ما عرفوا من نفوسهم إلا مجرد أسماء الأعضاء والقوى، ولو عرفوا ذلك حق المعرفة لعرفوا الله تعالى.
 فكان عين سمعهم وبصرهم ويدهم ورجلهم كما ورد في الحديث .
قال رضي الله عنه : (فهو)، أي العبد على الحقيقة (حق)، أي وجود مطلق قدیم (مشهود)، أي ظاهر يشهده كل أحد يعرفه أو يجهله أو ينكره (في خلق) من حيث الصور الإمكانية العدمية الظاهرة والباطنة (متوهم) وجوده ولا وجود له أصلا وسبب هذا التوهم غلبة النظر العقلي وسبب المعرفة غلبة النور الإيماني على العقل حتى يكون الدليل هو الله دون العقل إذا عرفت هذا. .
قال رضي الله عنه : (فالخلق) المتوهم أمر (معقول)، أي مدرك بالعقل (والحق) سبحانه وجود (محسوس مشهود عند المؤمنين) بالغيب من حيث هو غيب لا بما تصوروا من ذلك الغيب وربطوا بعقولهم وهم السالكون في طريق الله تعالى (و) عند (أهل الكشف) الروحاني (والوجود) الحق وهم العارفون المحققون (وما عدا)، أي غير (هذين الصنفين) من علماء الكلام وغيرهم من الفرق والعامة .
(فالحق) سبحانه (عندهم) أمر (معقول) يعقلونه بعقولهم ويضبطونه في خيالهم وتطمئن نفوسهم إلى ذلك.
والعلماء منهم ينزهونه عن مشابهة المحسوسات وبقية المعقولات غيره (والخلق) عندهم (مشهود) لهم محسوس معقول (فهم) عند أهل الكشف والوجود في نظر أذواقهم (بمنزلة الماء الملح الأجاج)، فإن الحق الظاهر بهم التبس عليهم بهم فغلبت صورهم الممكنة على وجوده المطلق فيهم.
فادعوا الوجود فتقيد المطلق عندهم بهم، كالماء النازل من السماء إذا خالط الأرض فغيرته وأظهرته ملحا أجاجا، ولهذا لما غاب عنهم منهم قائمون به في ظواهرهم وبواطنهم
هم معترفون بذلك لكن اعترافا غيبيا ولم يجروا على مقتضاه، وهو الحق تعالی عبدوه معقولا وعرفوه متخيلا بخيالهم وأنكروه محسوسا وكفروا من يقول بذلك ولم يؤمنوا بالكتاب كله والله يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
قال رضي الله عنه : (والطائفة الأولى) المنقسمون إلى صنفين سالكين و واصلين، الحق عندهم هو الظاهر في جميع المظاهر.
والخلق هو المعقول المضبوط من ظهوره سبحانه في المحسوس والمعقول، فهم قد آمنوا بالكتاب كله وصدقوا بالحق مطلقة موجودة حقا على ما هو عليه في الأزل ولم يلتبس عليهم بما عقلوه من خلقه في المحسوس والمعقول فكانوا (بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ لشاربه) الذي نزل من السماء وبقي على أصل وصفه لطيب الأرض التي وقع عليها فإنها تشربته ثم أخرجته منها على ما هو عليه في نفسه.
فكأنما ائتمنت على أمانة فأدتها على ما هي عليه ولم تخن فيها شيئا، ولم تتصرف في شيء منها أصلا، بخلاف الطائفة التي ذكرت قبل هذه فإنها ائتمنت فخانت، وغيرت ما أودعته، وتصرفت فيه بعقولها، وخاضت بتخيلها .

قال الشيخ رضي الله عنه الله عنه : (فالناس على قسمين: من الناس من يمشي على طريق يعرفها ويعرف غايتها، فهي في حقه صراط مستقيم.
ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها ولا يعرف غايتها وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر.
فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة، وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة.
فهذا علم خاص يأتي من أسفل سافلين، لأن الأرجل هي السفل من الشخص، وأسفل منها ما تحتها وليس إلا الطريق. فمن عرف أن الحق عين الطريق عرف الأمر على ما هو عليه، فإن فيه جل وعلا تسلك وتسافر إذ لا معلوم إلا هو، وهو عين الوجود والسالك والمسافر.
فلا عالم إلا هو فمن أنت؟ )


قال رضي الله عنه : (فالناس) في قسمة أخرى (على قسمين) :
فالقسم الأول من الناس (من يمشي) في الدنيا (على طريق يعرفها)، أي يعرف تلك الطريق (ويعرف غايتها)، أي ما ينتهي إليه أمر تلك الطريق وما تنتجه من السعادة الأبدية .
(فهي)، أي تلك الطريق (في حقه)، أي في حق هذا القسم (صراط مستقیم)، أي واضح عنده غیر معوج لأنه على بصيرة من أمره، فإذا دعا إليها كانت دعوته على بصيرة كالأنبياء والأولياء، ومن
تابعهم من المؤمنين بهم وبما هم عليه والمسلمون لهم ما هم فيه من غير تحكم عقلي ولا تصرف خيالى .
وهو قوله تعالی : "محمد رسول الله والذين معه" [الفتح: 29] الآية ، أي معه بالإيمان بما هو مؤمن به على حد ما هو مؤمن به .
وهو قول بلقيس : "وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين" [النمل: 44]، ولو أسلمت لا مع سليمان لم تكن أسلمت بل نازعت بعقلها ونافست بنفسها.
فاعلم ما هو الإيمان والإسلام، ولا يلتبس عليك بمجادلات أهل الكلام من حيث هم أهل الكلام؛ ولهذا ذم السلف علم الكلام كالإمام الشافعي رحمه الله تعالی علیه وغیره.
وقولي : من حيث هم أهل الكلام إذ لا يلزم من ذم العلم أهله فإنه قد يكون عندهم لأجل رد الخصوم ورد المبتدعة لا للاعتقاد و كتعلم الفلسفة والسحر للرد لا للعمل.

قال رضي الله عنه : (و) القسم الثاني (من الناس من يمشي في الدنيا على طريق يجهلها)، أي يجهل تلك الطريق (ولا يعرف غايتها)، أي ما تنتهي إليه وما تنتجه (وهي)، أي هذه الطريق المجهولة للماشي فيها عن الطريق الأولى (التي عرفها الصنف الآخر) الأول إذ الطريق واحدة لا يمكن تعددها.
لأن المقصود واحد وهو طلب الحق ونيل السعادة الأبدية به، ولكنها اختلفت وتعددت باختلاف أحوال الماشين عليها والسالكين فيها، والكل سالكون فيها .
قال تعالى: "وهو عليهم عمى" [فصلت : 44]، وقال تعالى: "يضل به كثيرا ويهډی به، كثيرا "[البقرة: 26]، فهو واحد حق، وإن تفاوتت رتب المهتدين به والضالین به التفاوت استعدادهم
فالعارف بالطريق الحق (يدعو إلى الله) تعالى كل من قبل دعوته (على بصيرة) من ذلك الطريق.
قال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" [يوسف : 108]، فانظر كيف الاتباع يلحق بالمتبوع فيقتضي الشركة في البصيرة والدعوة عليها، وما ضل من ضل إلا بادعائهم المتابعة وسلوكهم بعقولهم و أنظارهم، وتصرفهم بخيالهم فيما أمر وبالإسلام له والإيمان به .
قال رضي الله عنه : (وغير العارف) بالطريق الحق، وإن كان ماشيا عليه إذ لا طريق غيره لكن لا يعرفه المعرفة الذوقية أو معرفة التصديق بها في أهلها (يدعو إلى الله) تعالى أيضا غيره من كان يقبل دعوته لكن (على التقليد) لغيره لا على البصيرة .
(و) على (الجهالة) لا على العلم الذوقي فهو الضال المضل والله يعلم المفسد من المصلح.
(فهذا) العلم المذكور هنا في شأن الحق والخلق وما الناس عليه فيهما من أحوال الطريق (علم خاص) لا يعرفه إلا العارفون .
قال رضي الله عنه : (يأتي) إلى العارف (من) جهة (أسفل سافلين) وهو عالم الصور الجسمانية (لأن الأرجل هي)

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالسبت أغسطس 17, 2019 5:44 pm

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الثالث
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية

الجهة (السفل من الشخص) الماشي بها في الطريق (وأسفل منها)، أي من الأرجل (ما تحتها)، أي تحت الأرجل (وليس) الذي تحتها (إلا الطريق) الذي هي ماشية فيه .
(فمن عرف الحق) تعالى أنه (عين الطريق) الذي هو ماشي فيه، لأنه الحامل له بحكم قوله تعالى : "وحملناهم في البر والبحر" [الإسراء: 70].
والطريق يحمل الماشي فيه وهو المحيط بهم بحكم قوله سبحانه : "وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس" [الإسراء: 60]. وقوله :والله "بكل شيء محيط" [فصلت: 54].
والقيوم على جميع أحوالهم الظاهرة والباطنة بحكم قوله : "قل من يملك "السمع والأبصار والأفئدة » [النحل: 78]، وقوله: "الله لا إله إلا هو الحى القيوم" [البقرة : 255]
قال رضي الله عنه : (عرف الأمر)، أي الأمر الإلهي (على ما هو عليه) في نفسه عرف أنه تعالى هو الصراط المستقيم الذي جميع المخلوقات ماشون عليه فهو الماشي بهم فيه بحكم قوله سبحانه کما مر: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " [هود: 56].
ولما كان كل صراط مستقیم علم الله تعالى الخلق أن يقولوا في فاتحة الكتاب : "اهدنا الصراط المستقيم * صرط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " [الفاتحة: 6 - 7]. وهو الصراط الخاص المعروف عند أهله للماشين.
قال رضي الله عنه : (فإن فيه)، أي الحق (جل وعلا نسلك) من أنفسنا إلى ربنا (ونسافر إليه) تعالی إذ لا معلوم على الحقيقة (إلا هو)  سبحانه (وهو) تعالی (عين السالك والمسافر) أيضا على الحقيقة. لأنه الوجود المطلق الذي قام به كل شيء معه أصلا.
 فهو قائم بنفسه وإذا كان كذلك (فلا عالم) على الحقيقة في جميع العوالم (إلا هو) سبحانه ولا شيء سواه.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن أنت؟ فاعرف حقيقتك وطريقتك، فقد بان لك الأمر على لسان الترجمان إن فهمت.
وهو لسان حق فلا يفهمه إلا من فهمه حق، فإن للحق نسبا كثيرة و وجوها مختلفة.
ألا ترى عادا قوم هود كيف «قالوا هذا عارض ممطرنا» فظنوا خيرا بالله تعالى وهو عند ظن عبده به.
فأضرب لهم الحق عن هذا القول فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب،  فإنه إذا أمطرهم فذلك حظ الأرض وسقى الحبة فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد فقال لهم: «بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم»: فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة فإن بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة والسدف المدلهمة، )
قال رضي الله عنه : (فمن أنت) يا أيها السالك (فاعرف حقيقتك) التي هي ذلك الوجود المطلق، فإنك به أنت لا بنفسك، وما عداه من حسك وعقلك ومحسوسك ومعقولك أمور ممکنات علمية بالعدم الأصلي قائمة به سبحانه.
 (و) اعرف (طريقتك) التي أنت سالك فيها ما هي؟
فإنها هو أيضا لأنك سالك به فيه إليه (فقد بان)، أي انكشف لك الأمر الإلهي (على لسان الترجمان) وهو المصنف رضي الله عنه .
قال رضي الله عنه : (إن فهمت) ما ذكر لك هنا، وإن لم تفهم فاستعن عن فهمه بالتصديق به على حد ما هو الصواب في علم قائله، وسلمه له على ذلك الحد الذي يعلمه قائله.
واعترف بقلبك وقالبك العجز عنه مع علوه واحترامك له، واحذر أن تنكره أو تسيء به ظنا من عدم فهمك له، فإن الله تعالى يمدك بنور منه إن آمنت به وأسلمت له ووكلته لفهم قائله، ويمدك الشيطان بإذن ربه بظلمة تقتضي خسرانك وحرمانك إن أنكرته أو أسأت به ظنا لعدم فهمك له .

قال رضي الله عنه : (وهو)، أي لسان الترجمان المذكور (لسان حق) من قوله سبحانه في حديث نبيه صلى الله عليه وسلم  : «ولسانه الذي ينطق به» رواه البيهقي وأبو يعلى  والبزار وغيرهم .
قال رضي الله عنه : (فلا يفهمه)، أي لسان هذا الترجمان (إلا من فهمه حق) أي يفهمه بالحق لا بنفسه وعقله عن كشف منه وحضور (فإن للحق تعالی) من حيث هو وجود مطلق (نسبا) جمع نسبة (كثيرة) نعت للنسب والنسبة مجرد إضافة لا وجود لها في نفسها .
فله تعالى من الحيثية المذكورة إضافة إلى كل شيء معدوم بالعدم الأصلي فيظهر موجودا بوجوده سبحانه (ووجوها)، أي تلك النسب يعني بوجوه ما هي مضافة إليه (مختلفة)، أي كل نسبة إلى شيء محسوس أو معقول أو موهوم بمقتضى استعداد ذلك الشيء لإضافة الوجود إليه، والأشياء مختلفة الاستعداد فهي مختلفة القبول فهي مختلفة النسب.
قال رضي الله عنه : (ألا ترى) يا أيها السالك وهو بيان الاختلاف النسب لاختلاف القبول الاختلاف الاستعداد (عادا) الأولى وهم (قوم هود عليه السلام كيف قالوا) عن السحاب الذي رأوه مستقبل أوديتهم ("هذا عارض")، أي سحاب ("ممطرنا") [الأحقاف : 24].
أي منزل علينا المطر فظنوا خيرا بالله سبحانه وإن كانوا لم يعرفوا الحق الذي هو عين الوجود المطلق الظاهر لهم في صورة السحاب الممكنة العدمية .
ولم يروا ولم يعرفوا غير تلك الصورة الممكنة العدمية، المسماة بالسحاب الظاهرة لهم بقيومية الحق الذي هو الوجود المطلق.
فإنهم في نفس الأمر حين ظنوا أن ذلك السحاب فيه مطر سينزل عليهم فيسقي أراضيهم فتنبت لهم فينتفعون بذلك.
قد ظنوا خيرا بالله سبحانه المتجلي عليهم في تلك الصورة السحابية العدمية بالعدم الأصلي، بحيث لم يتغير سبحانه حين تجليه بها عن إطلاقه القديم.
ولم يتقيد بها إلا عند من أراد أن يتجلى بها عليهم، وإن كانوا لم يشعروا بذلك.
فإنهم لم يشعروا بتجليه سبحانه عليهم في صورة نفوسهم وأجسامهم، بل صورة كل شيء محسوس لهم ومعقول كما ذكرنا فضلا عن أن يشعروا بالتجلي في تلك الصورة السحابية به.

والتكلم الآن من حيث الحقائق لا من حيث الظواهر العقلية فاقتضى ذلك (وهو)، أي الله سبحانه موجود (عند ظن عبده) كما ورد في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا».
فإن خصصنا العبد بعبد الاختصاص كان المراد بظنه يقينه من قوله تعالى : "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون" [البقرة: 46].
وإن عممنا في العبد كما هو المناسب هنا كان باعتبار ظهوره تعالى في كل صورة لكل شيء، وإقبال كل شيء على ما هو مطلوبه من صورة كل شيء.
کالعطشان تجلى له في صورة الماء فظن به سبحانه خيرا من حيث لا يشعر بتجليه عليه السلام.
كذلك فكان سبحانه موجودا عند ظن عبده به بعين ما ظنه به من إزالة العطش عنه.
وهكذا في كل عبد من أهل السموات والأرض .
قال تعالى : "إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " [مريم: 93 - 95].
قال رضي الله عنه : (فاضرب لهم)، أي لقوم هود عليه السلام الحق سبحانه (عن هذا القول) وهو قولهم: "هذا عارض ممطرنا " [الأحقاف : 24] .( فأخبرهم) سبحانه في الإضراب المذكور (بما هو أتم) لهم وأكمل (وأعلى في  القرب) إلى جنابه لأنهم ظنوا به خيرا، وإن لم يشعروا بمن ظنوا به الخير (فإنه) سبحانه (إذا أمطرهم) وأعطاهم عين ما ظنوه (فذلك)، أي المطر (حظ).

أي نصيب (الأرض وسقي الجهة)، أي البستان وحائط النخل الذي لهم (فما يصلون) هم (إلى نتيجة ذلك المطر) بخروج الثمار والزروع و انتفاعهم بذلك (إلا عن بعد) من الأسباب (فقال لهم) سبحانه في ذلك الإضراب (بل هو)، أي الوجود المطلق الحق (ما)، أي الذي (استعجلتم به)، أي طلبتم أن يعجلكم، يعني يأتيكم بعجلة وسرعة من كثرة شوقكم إليه من حيث لا تشعرون.
واستعجالهم به كان في صورة العذاب الذي تخيلوه بنفوسهم، فكذبوا به حين أخبرهم به نبيهم. قال تعالى : "ويستعجلونك بالعذاب" [العنكبوت : 53]، وهم كذلك.

ثم قال تعالى إخبارا عما جاء به ذلك العارض الذي رأوه فظنوه ممطرا هو (ريح فيها)، أي في تلك الريح ("عذاب أليم" )، أي موجع (فجعل) سبحانه (الريح إشارة إلى ما) كان لهم (فيها)، أي في تلك (من الراحة لهم) من إتعابهم (فإن بهذا الريح) التي هي "ريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية " [الحاقة: 68] .
قال رضي الله عنه : (أراحهم) سبحانه، أي أراح نفوسهم وأرواحهم (من هذه الهياكل)، أي الأجسام التي كانت لهم (المظلمة) بظلمات الغفلة والجهل بالله تعالى، والعمى عن الحق والتكذيب به، والغرور بالحياة الدنيا .

(و) من هذه (المسالك)، أي الطريق التي كانوا سالكين فيها بعقولهم وخيالاتهم فكانوا ضالين مضلين (الوعرة)، أي ذات الوعر غير السهل (والسدف) جمع سدفة وهي الظلمة (المدلهمة)، أي الشديدة السواد المهلكة، وهي ظلمات العقول والنفوس الضالة عن الحق.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( و في هذه الريح عذاب أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه، إلا أنه يوجعهم لفرقة المألوف. فباشرهم العذاب فكان الأمر إليهم أقرب مما تخيلوه فدمرت كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم» وهي جثتهم التي عمرتها أرواحهم الحقية.
فزالت حقية هذه النسبة الخاصة وبقيت على هياكلهم الحياة الخاصة بهم من الحق التي تنطق بها الجلود والأيدي والأرجل وعذبات الأسواط والأفخاذ.
وقد ورد النص الإلهي بهذا كله، إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة، ومن غيرته «حرم الفواحش» وليس الفحش إلا ما ظهر.
وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له. )
قال رضي الله عنه : (وفي هذا الريح) المريحة مما ذكر (عذاب أي أمر) من الأمور الإلهية (يستعذبونه)، أي يجدونه عذبا لذيذا (إذا ذاقوه) من حيث كشفهم عن حقائق نفوسهم الهالكة الفانية بظهور الوجود المطلق القيوم عليهم بالموت الذي ذاقوه.
والنفوس هي التي تذوقه أولا عذابا مؤلما، فإذا زال حکم مغایرتها واستقلالها بالوجود ذاقته عذابا لذيذا بحکم الفناء عنه كما سبق، ولكن إن غلب عليهم هذا المشهد الذوقی، وهو غالب بحكم الموت المقتضي لكشف الغطاء النفساني الذي كانوا فيه.
قال رضي الله عنه : (إلا أنه)، أي هذا الأمر الذي يستعذبونه (يوجعهم) من جهة حكم نفوسهم التي ماتوا عليها (فرقة المألوف لهم) من الدعوى القائمة بنفوسهم والغفلة التي كانوا يتوهمونها نفس الأمر، فظهر لهم ما لم يكن في حسابهم.
قال تعالى : "وبدا لهم من الله ما لم يكونا يحتسبون" [الزمر: 47].
وذلك عين العذاب وعين تألمهم به، فإن الجعل المتولد من الزبل يتألم برائحة الورد ويتعذب بها، ولهذا قال تعالى في حق أصحاب الكهف السالكين في مسالك الفتوة على طريق خاص خلاف المعهود النبینا : "لو أطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا" [الكهف: 18].
وذلك لخلاف المألوف له في مسالك النبوة المحمدية من الأنس بالحق في الخلق، وهم في الوحشة من الخلق في الحق، والأنس بالحق في الحق، ولهذا آووا إلى الكهف لينشر لهم ربهم من رحمته، وهو عين الأنس به فيه.
ولو كان لهم به أنس في الخلق كمحمد صلى الله عليه وسلم لآووا إليه تعالى لا إلى الكهف في عين ما آووا إليه من الكهف، ولكن كمال الوحشة التي قامت بهم أدتهم إلى ذلك ففروا من الخلق إلى الخلق بالحق عكس ما فعل محمد صلى الله عليه وسلم  حين قال تعالى: "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى" [الكهف: 110].
فإنه فر من الحق إلى الحق بالخلق وهو نفسه، ولما كان حاله على النقيض من حالهم .
قال تعالى :"ما قال لهم فلو اطلع عليهم صلى الله عليه وسلم لأدركته الوحشة التي في نفوسهم وأخذه الرعب الذي عندهم ووحشتهم بالحق من الخلق ورعبهم كذلك ولهذا قالوا : "عمن هم خائفون منهم " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا " [الكهف: 20]، ومحمد صلى الله عليه وسلم قاسي من قومه بالفعل أكثر مما توهموه من قومهم بالقوة، ولم يستوحش ولم يخف .
ولما كانت هذه الوحشة وهذا الرعب فيهم بالحق لا بدعوى نفوسهم، أخبر الله تعالى أن ذلك كان يؤثر في النبي صلى الله عليه وسلم لو اطلع عليهم وهم في تلك الحالة.
قال رضي الله عنه : (فباشرهم)، أي نزل بقوم هود عليه السلام (العذاب) المذكور (فكان الأمر) الإلهي الذي هو نفس الأمر إليهم (أقرب مما تخيلوه) بنفوسهم وعقولهم من نزول المطر بذلك السحاب .
ثم ظهور ذلك الريح لهم عذاب أليم (فدمرت) تلك الريح كل شيء أتت عليه منهم (بأمر ربها) القائمة به، فالمدمر إنما هو أمر ربها الممسك لها في صورتها، فالريح مدمرة بأمر ربها استعانة، وأمر ربها مدمر بها ملابسة ومصاحبة، وهذان المعنيان للباء لا تنفك الباء عنهما في اللغة العربية ، وهما الأصل في جميع المعاني لحروف الباء.
قال رضي الله عنه : (فأصبحوا)، أي ذلك القوم المدمرون بالريح (لا ترى) يا أيها الناظر (إلا مساكنهم) التي كانت تسكنها نفوسهم وعقولهم الهالكة في الله المدمرة بأمره سبحانه.
(وهي)، أي تلك المساكن (جثثهم) جمع جثة وهي أجسامهم (التي عمرتها) في الحياة الدنيا (أرواحهم الحقية)، أي المنسوبة إلى الحق سبحانه من حيث إنها ظهور أمره بحكم قوله تعالى: " قل الروح من أمر ربي" [الإسراء: 85] .
قال رضي الله عنه : (فزالت) بدمارهم (حقيقة هذه النسبة)، أي نسبة أرواحهم الحقية إلى تعمير أجسامهم وهي النسبة النفسانية الخاصة بهم (وبقيت على هياكلهم)، أي أجسامهم (الحياة الخاصة بهم)، أي بالهياكل الجسمانية من حيث هي هياكل جسمانية وهي حياة روح التركيب الجسماني وهي الحياة الجمادية كحياة الأحجار .
و (من الحق)، فإن الحياة السارية في جميع العوالم من حضرة روح الله الذي هو مظهر أمره سبحانه من اسم إلهي منقسمة إلى أربعة أقسام مفرقة في العوالم، وقد جمعت كلها في الإنسان بما هو إنسان .
فالأولى الحياة الجمادية وروحها المنفوخ :
يقتضي إمساك أجزاء الجماد الطبيعية والعنصرية، فتظهر من ذلك نسبة خاصة هي نفس ذلك الجماد من حيث ترکیب طبيعته ومزاجه من حيث ترکیب عناصره، وموته زوال هذه الحياة عنه بانفكاك تركيبه وتفريق أجزائه الطبيعية والعنصرية .
والثانية الحياة النباتية وروحها المنفوخ :
يقتضي زيادة على الحياة الجمادية نموا وظهورا من بطون الكليات الطبيعية والعنصرية، وموته زوال حياته هذه بقطع قواه المستعدة للنمو والظهور المذكور.
والثالثة الحياة الحيوانية وروحها المنفوخ :
يقتضي زيادة على الحياة الجمادية والحياة النباتية حركة وسكونا بمقتضى الحس في المحسوسات، وموته زوال هذه الحياة عنه ببطلان الحس من القلب وانقطاع القوى منه المبثوثة في سائر البدن .
والرابعة الحياة الإنسانية وروحها المنفوخ :
يقتضي زيادة على الحياة الجمادية والحياة النباتية والحياة الحيوانية إدراكا وشعورا بالنظريات العقلية والفهوم الاستدلالية، وموته زوال هذه الحياة عنه بالكلية ، فالنبات جماد، والحيوان نبات جماد، والإنسان حيوان نبات جماد .
وهذه الحياة بأنواعها الأربعة حجاب على الحياة الإلهية السارية في العوالم كلها، فمن مات عن هذه كلها ظهرت له تلك الحياة.
فكان حيا بالله لا بروح أصلا کحياة أهل الآخرة (التي) نعت للحياة المذكورة وهي الحياة الجمادية التي لجسم الميت بعد موته (تنطق بها) يوم القيامة (الجلود)، أي جلود المكلفين، وتشهد عليهم بما عملوا بها . قال تعالى : " وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء" [فصلت : 21].
قال رضي الله عنه : (والأيدي والأرجل) قال تعالى: "يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " [النور: 24] .
(وعذبات) جمع عذبة وهي طرف الشيء المرسل (الأسواط) جمع سوط وهي الدرة التي يضرب بها (والأفخاذ) جمع فخذ وذلك من قوله عليه السلام: «لا تقوم الساعة حتى يكلم الرجل فخذه وعذبة سوطه بما فعل أهله»رواه الحاكم .
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنسان، وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه، وشراك نعله، وتخبره بما أحدث أهله من بعده» هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه . تعليق الذهبي على شرط مسلم".
قال رضي الله عنه : (وقد ورد النص الإلهي) في الكتاب والسنة (بهذا كله) وهو ما ذكرنا وغیره (إلا أنه)، أي الله تعالى (وصف نفسه) على لسان نبيه عليه السلام (بالغيرة) .
فقال عليه السلام: «إن الله غيور» . البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي والترمذي وغيرهم.
"عن عبد الله رضي الله عنه، قال: «لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه» رواه البخاري ".
قال رضي الله عنه : (ومن غيرته حرم الفواحش) فتحريم الفواحش أي المحرمات الشرعية البالغة في التحريم إلى الغاية لظهورها إنما كان بسبب غيرته سبحانه التي أظهرها في خلقه بحكم الغيرية في الأشياء.
فالغيرة الإلهية عين الغيرية ، والفواحش من الفحش، (وليس الفحش إلا ما ظهر) من العصيان.
(وأما فحش ما بطن) منه عن الغير وظهر لصاحبه (فهو) فحش (لمن ظهر له)، وهو قوله تعالى: " قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن" [الأعراف: 33]،
فالظاهر منها هو ما ظهر للغير، والباطن منها ظاهر لنفسه.
فالفواحش كلها ظاهرة إما للغير ولصاحبها أو لصاحبها فقط، فكل شيء محسوس أو معقول ظهر من كتم العدم.
فحكم عليه الحس أو العقل بالمغايرة للحق سبحانه القيوم علیه الظاهر فيه بوجوده المطلق المنزه عنه فاحشة حرمها الحق تعالی من غيرته سبحانه أن يكون في الوجود غيره يعرف أو يذكر.
فاقتضى تحريمه لذلك لا يعرف سبحانه ولا يذكر في عین ما حرم، فليست الغيرة إلا عن الغيرية، وليست الغيرية إلا عين التحريم، والكل من عين واحدة، فهو غيره ابتداء وتحريم انتهاء من جهته سبحانه.
وغيرته ابتداء والفواحش انتهاء من جهتنا وجهتنا هي جهته، فالغيرة عين الغيرية والتحريم عين الفاحشة.
بل التحريم منه عين الغيرة، والفاحشة منا عین الغيرية، والكل وجود واحد ظهر بأحكام كما ظهر بأعيان، والله واسع عليم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما حرم الفواحش أي منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء، فسترها بالغيرة وهو أنت من الغير.
فالغير يقول السمع سمع زيد، والعارف يقول السمع عين الحق، وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء. فما كل أحد عرف الحق:
فتفاضل الناس وتميزت المراتب فبان الفاضل والمفضول.
واعلم أنه لما أطلعني الحق وأشهدني أعيان رسله عليهم السلام وأنبيائه كلهم البشريين من آدم إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين في مشهد أقمت فيه بقرطبة سنة ست وثمانين و خمسمائة، ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلا هود عليه السلام فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم، و رأيته رجلا ضخما في الرجال حسن الصورة لطيف المحاورة عارفا بالأمور كاشفا لها.
ودليلي على كشفه لها قوله: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم». وأي بشارة للخلق أعظم من هذه؟
ثم من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن، ثم تمها الجامع للكل محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبر به عن الحق بأنه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان: أي هو عين الحواس. والقوى الروحانية أقرب من الحواس. فاكتفى بالأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحد. )

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالسبت أغسطس 17, 2019 5:45 pm

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الرابع
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية
قال رضي الله عنه : (فلما حرم) سبحانه (الفواحش أي منع أن تعرف) لغيره من بقية مظاهره (حقيقة ما ذكرناه) من أحوال قوم هود عليه السلام.
لأن سر الله تعالی بينه وبينهم لم يطلع عليه أحد ولا الريح التي دمرتهم، فإنها فعلت ما فعلته بأمر ربها ولم تدر ما فعلته.
كالتسعة عشر زبانية النار يفعلون ما يفعلون مع أهل النار من أنواع العذاب، ولا يطلعهم الله تعالى على الأسرار التي بينه وبين المعذبين من المخلدين في النار.
لأن تلك الأسرار أمور ذوقية وجدانية لا يعرفها إلا صاحبها، وكم في طي النقمة من نعمة.
فلما حفظوا الله و وقوه بنفوسهم في الدنيا من نسبة الظلم إليه وقبائح الفواحش مع أن الكل خلقه وإيجاده، حفظ أذواقهم ووقاها سبحانه في الآخرة من الألم والوجع الذي هو مقتضى العذاب، فكان وقايتهم له بظواهرهم في الدنيا عین وقايته الهم بظواهرهم في الآخرة، فكفروه في الدنيا أي ستروه غيرة عليه، فسترهم في الآخرة غيرة عليهم.
قال رضي الله عنه : (وهي)، أي حقيقة ما ذكر (أنه)، أي الحق تعالی (عين الأشياء) من حيث إنها كلها مراتب ظهوراته وهو حقيقة الظاهر بها كلها .
قال رضي الله عنه : (فسترها)، أي الأشياء من حيث هي عنه (بالغيرة) التي هي صفته سبحانه (وهو) أي ذلك الساتر الذي هو الغيرة (أنت) يا أيها الإنسان لأن الغيرة مشتقة (من الغير) ولا غير في نفس الأمر من قامت به صفة الغيرة وهو الحق تعالى، فالغير صفة من صفاته سبحانه، فهو العين وهو الغيرفالغير يقول من حيث مقتضى ما اتصف به من صفة الغيرية (السمع سمع زيد)، لأن الغيرية التي هي صفته أعطته أن يقول كذلك، فلم يخرج عن صفته فصدق على حسب مقتضاها.
قال رضي الله عنه : (والعارف يقول) بمقتضى ما اتصف به من صفة العينية (السمع)، أي سمع زيد (عین الحق) تعالی، لأن العينية التي هي صفة أعطته أن يقول ذلك، فلم يخرج عن صفته، فصدق وتلاه شاهد منه على لسانه في مظهر خصوص النبوة المحمدية ، فقال: «كنت سمعه الذي يسمع به» الحديث .
قال رضي الله عنه : (وهكذا) الكلام في جميع (ما بقي من القوى والأعضاء فما كل أحد) من الناس (عرف الحق) تعالى بهذه المعرفة العينية، لأنه ليس كل أحد متصف بصفة العينية الإلهية، بل بعضهم متصف بصفة العينية الإلهية، وبعضهم متصف بصفة الغيرية الإلهية، وكلا الصفتين والموصوف واحد وهو الحق تعالی.
 فظهر بهذه في قوم و ظهر بهذه في قوم في كل زمان ومكان على مراتب ودرجات كثيرة إلى أن يرجع إليه الأمر كله (فتفاضل الناس) في العلم بالحق تعالى (وتميزت المراتب) التي هم موصوفون بها بالعلم الإلهي (فبان الفاضل) منهم (والمفضول).

قال المصنف رضي الله عنه : (واعلم) يا أيها السالك (أنه)، أي الشأن (لما أطلعني)، أي كشف لي الحق تعالى (وأشهدني) في المنام الذي هو وحي المؤمنین كما كان فيه يوحي للأنبياء والمرسلين، أو في عالم السير إلى الله في الله بالله، الذي يأخذ عن الحس والعقل، ويرفع حجاب المحسوسات والمعقولات .
قال رضي الله عنه : (أعيان رسله)، أي رسل الله تعالى (وأنبيائه کلهم البشريين)، أي المنسوبين إلى البشر (من آدم إلى محمد )، أي على محمد صلى الله عليه وسلم (وعليهم)، أي على بقية الأنبياء والمرسلين (أجمعين في مشهد) ذوقي .
(أقمت)، أي أقامني الحق تعالی (فیه)، أي في ذلك المشهد (بقرطبة) من جملة جزيرة الأندلس من بلاد المغرب (سنة ست وثمانين وخمسمائة) من الهجرة النبوية (ما كلمني أحد) في ذلك المشهد (من تلك الطائفة)، أي الرسل والأنبياء عليهم السلام .
قال رضي الله عنه : (إلا هود عليه السلام فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم)، أي الرسل والأنبياء عليهم السلام، أي اجتماعهم لي في مشهدي ذلك حتى رأيتهم أي ذكر له استعداده الذي به استحق اجتماعه بهم في حضرة سلوكه.
قال رضي الله عنه : (ورأيته)، أي هود عليه السلام (رجلا ضخما)، أي كبير الجثة (في الرجال) قد زاده الله تعالى بسطة في العلم والجسم (حسن الصورة) الإنسانية الظاهرة (لطيف المحاورة)، أي الكلام وهو حسن الصورة الباطنة (عارفا بالأمور) الإلهية (كاشفا لها)، أي مبينة بذوقه وكلامه .
قال رضي الله عنه : (ودليلي على كشفه) عليه السلام (لها)، أي للأمور الإلهية (قوله) فيما حكاه الله تعالی عنه في القرآن ("ما من دابة إلا هو ابند بنایا إن ربي على صراط مستقيم") [هود: 56]، وقد سبق الكلام في ذلك .
(وأي بشارة للخلق أعظم من هذه ) البشارة التي هي أخذ الحق تعالی بناصية كل دابة وقودها إليه سبحانه على الصراط المستقيم .
فالاعوجاج الذي في أعمال بعض الدواب، الذين هم شر الدواب كما قال تعالى: " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون" [الأنفال: 22] أمر عرضي ليس من أصل خلقتهم .
كما قال تعالى: "فطرت الله التي فطر الناس عليها" [الروم: 30] فالغضب الذي منه تعالى في مقابلة ذلك أمر عارضي على الرحمة الأصلية التي وسعت كل شيء، فلا بد أن يتكافأ الأمران وتتقابل الحضرتان ظاهرة، أو يرجع كل شيء إلى أصله باطنا كما سبق تقريره.
قال رضي الله عنه : ( من امتنان الله تعالى علينا) معشر هذه الأمة (أن أوصل إلينا) سبحانه (هذه المقالة) التي قالها هود عليه السلام من هذه الآية (عنه) عليه السلام (في القرآن) المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم .
قال رضي الله عنه : (ثم تممها)، أي تمم هذه المقالة (الجامع للكل)، أي لمشارب كل الأنبياء والرسل وأتباعهم (محمد) نبينا (صلى الله عليه وسلم ) أجمعين وسلم (بما أخبر به) و في الحديث القدسي حديث المتقرب بالنوافل (عن الحق) تعالی.
(بأنه عين السمع) الذي يسمع به العبد (والبصر) الذي يبصر به واليد التي يبطش بها (والرجل) التي يسعى بها (واللسان) الذي ينطق به (أي هو)، أي الحق سبحانه (عين الحواس)، التي يحس بها العبد (والقوى الروحانية) كالفكر والخيال (أقرب) إليه تعالى (من الحواس) الجسمانية في أنه عينها إذ الروح من أمره تعالی بلا واسطة كما قال سبحانه: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي" [الإسراء: 85] الآية.
والقوى الجسمانية الحساسة عن أمره تعالى أيضا لكن بواسطة الروح تتعين في الجسم الحيواني قال رضي الله عنه : (فاكتفى) سبحانه في بيان قربه إلى العبد (بالأبعد) عنه (المحدود) بحدود الجسم، فإن السمع محدود بالأذن، والبصر بالعين، واليد والرجل واللسان محدودات بصورها الظاهرة (عن الأقرب) إليه سبحانه (المجهول الحد) وهو القوى الروحانية الباطنة ليكون مفهوما بالطريق الأولى .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( فترجم الحق لنا عن نبيه هود مقالته لقومه بشرى لنا، وترجم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله مقالته بشرى: فكمل العلم في صدور الذين أوتوا العلم «و ما يجحد بآياتنا إلا الكافرون» فإنهم يسترونها وإن عرفوها حسدا منهم و نفاسة و ظلما.
وما رأينا قط من عند الله في حقه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أو صله إلينا فيما يرجع إليه إلا بالتحديد تنزيها كان أو غير تنزيه.
أوله العماء الذي ما فوقه هواء وما تحته هواء. فكان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق. ثم ذكر أنه استوى على العرش، فهذا أيضا تحديد.
ثم ذكر أنه ينزل إلى السماء الدنيا فهذا تحديد. ثم ذكر أنه في السماء وأنه في الأرض وأنه معنا أينما كنا إلى أن أخبرنا أنه عينا.
ونحن محدودون، فما وصف نفسه إلا بالحد. وقوله ليس كمثله شيء حد أيضا إن أخذنا الكف زائدة لغير الصفة. )


قال رضي الله عنه : (فترجم الحق) سبحانه، أي حكى (لنا عن نبيه هود عليه السلام مقالته) تلك (لقومه بشرى لنا) برجوع الكل باطنا إلى عين الرحمة الواسعة .
(وترجم)، أي حکی لنا رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم عليه السلام عن الله) تعالی (مقالته) سبحانه بأنه عین قوانا الظاهرة والباطنة التي بها تقوى في الإدراك والعمل.
وليس إلا وجوده تعالى المطلق عن القيود المميزة فينا بين تلك القوى في الظاهر والباطن، ولهذا قال سبحانه : "كنت سمعه الذي يسمع به"، ولم يقل : كنت سمعه فقط، من غير أن يقول الذي يسمع به.
فقوله: كنت سمعه تشبيه وقوله : الذي يسمع به تنزيه .
فإن كل أحد لا يسمع بالجارحة الجسمانية ولا بقوتها العرضية، وإنما يسمع بالقيوم الحق الممسك بظهور وجوده المطلق لتلك الجارحة وقوتها العرضية.
وهكذا الكلام في البصر وغيره (بشرى) منه تعالى (لنا) بتحقیق مقالة هود عليه السلام وبيانها .
قال رضي الله عنه : (فكمل) صلى الله عليه وسلم  بها (العلم) الالهي (في صدور)، أي قلوب (الذين أوتوا)، أي آتاهم الله تعالى (العلم) كما قال سبحانه : " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم (وما يجحد بآيات) " ، أي ينكرها على كل ما أتى بها .
قال رضي الله عنه : ("إلا الكافرون") العنكبوت : 47]، بالله تعالى (فإنهم يسترونها)، أي الآيات.
(وإن عرفوها حسدا منهم) لمن أتى الله تعالى تلك الآيات له (ونفاسة)، أي منافسة وعداوة له بقلوبهم (وظلما) له بنفوسهم .
قال رضي الله عنه : (وما رأينا قط من عند الله) تعالى (في حقه تعالى في آية أنزلها) على نبيه عليه السلام (أو إخبار عنه) تعالى (أوصله) سبحانه (إلينا) على لسان رسوله عليه السلام في حديثه (فيما)، أي في الأمر الذي (يرجع إليه) تعالى (إلا بالتحديد) والتقييد (تنزیها ) له تعالی (کان) ذلك الوارد عنه (أو غير تنزيه) له سبحانه (أوله)، أي الوارد عنه فيما يرجع إليه تعالى (العماء)، أي السحاب الرقيق (الذي ما فوقه هواء)، أي فراغ (وما تحته هواء)، أي فراغ كما يكون السحاب المسخر بين السماء والأرض. وذلك ما روى الترمذي بإسناده إلى أبي رزین العقيلي.
قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟
قال: «كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء» .والعماء السحاب الرقيق، وقيل : الكثيف.سنن الترمذي و ابن ماجة
وقيل : الضباب.
وقال الإمام أحمد: يريد بالعماء، أي ليس معه شيء.
وروي في عمى مقصورة قال : وهو كل أمر لا يدركه الفطن .
قال الأزهري : قال أبو عبيد: إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم، وإلا فلا ندري كيف كان ذلك العماء
قال الأزهري : فنحن نؤمن به ولا نتكيف بصفته (فكان الحق) تعالى (فيه)، أي في ذلك العماء (قبل أن يخلق الخلق) كما ذكرناه في هذا الحديث.
قال رضي الله عنه : (ثم ذكر) تعالی في القرآن بعد أن خلق الخلق (" أنه واستوى على العرش") [الأعراف: 54]. قال سبحانه : "الرحمن على العرش استوى " [طه: 50].
(فهذا) الاستواء أيضا (تحديد له) تعالى (ثم ذكر) سبحانه (أنه نزل إلى سماء الدنيا) وهو ما ذكر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم  فيما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي بإسنادهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» . هذه رواية البخاري ومسلم وانفرد مسلم بروایات.
قال إن الله عز وجل : يمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول ينزل إلى سماء الدنيا فيقول:
هل من مستغفر؟
هل من تائب؟
هل من سائل؟
هل من داع؟ حتى ينفجر الفجر."
وله في رواية أخرى إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فيعطى؟
هل من داع فيستجاب؟
هل من مستغفر فيغفر له؟ حتى ينفجر الصبح"
وله في رواية أخرى: حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول : " أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له "الحديث إلى آخره. وقال : حتى يصلي الفجر
قال رضي الله عنه :  (فهذا) النزول أيضا (تحديد. ثم ذكر) تعالى (أنه في السماء) كما قال : "أم أمنتم من في السماء" [الملك: 17]، (وأنه) سبحانه (في الأرض) كما أخرج الترمذي وأبو داود بإسنادهما إلى العباس بن عبد المطلب في حديث طويل ذكر في آخره بعد أن بين مسافة كل سماء من سماء، وذكر العرش وأن بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء، إلى السماء والله عز وجل فوق ذلك.  
وفي رواية الترمذي بإسناده إلى أبي هريرة في حديث آخر طویل قال صلى الله عليه وسلم :
والذي نفسي بيده لو أنكم دلیتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله » رواه الترمذي، ثم قرأ: "هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم " [الحديد: 3] إلى غير ذلك من الأخبار (وأنه تعالى (معنا أينما كنا) كما قال سبحانه وهو معكم أينما کنتم (إلى أن أخبرنا سبحانه (أنه عیننا) كما قال تعالى: "هو أهل التقوى وأهل المغفرة " [المدثر : 56] .
وإن احتمل التأويل وورد في حديث المتقرب بالنوافل في قوله: «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» إلى آخره.
وفي حديث مسلم بإسناده إلى أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة : يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت لو أنك عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال : يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين، قال : أما علمت أنه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال : يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ، قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي».رواه مسلم
قال رضي الله عنه : (ونحن محددون)، أي مقيدون بقيود حسية ومعنوية في الظاهر والباطن (فما وصف) تعالی (نفسه) لنا (إلا بالحد) وهو المطلق عن جميع الحدود على ما هو عليه في نفسه بالبراهين العقلية مما تشير إليه الأدلة النقلية لكن لا من حيث ما وصف به نفسه فإنه ما وصف نفسه إلا بما يقتضي التحديد في الكتاب والسنة كما ذكرنا وقد ورد في حديث أخرجه السيوطي في جامعه الصغير.
قال رسول الله : «سألت جبرائیل هل ترى ربك قال: إن بيني وبينه سبعين حجابا من نور لو رأيت أدناها لاحترقت» . رواه الطبري والديلمي
وفي خبر آخر «أن دون الله يوم القيامة سبعين ألف حجاب»رواه الطبراني فى الكبير.
فإن هذا يقتضي كمال تنزيه الله تعالى عن مشابهة كل شيء لكن بذكر الحجب التي يظهر بها
يأتي التحديد (وقوله) تعالى: ("ليس كمثله ، شيء" حد)، أي تحديد (أيضا له) سبحانه (إن أخذنا الكاف) الداخلة على المثل (زائدة لغير الصفة)، أي صفة المثل بأن كان التقدير ليس مثله شيء فقد اقتضى الكلام تمييزه عن كل شيء وكل شيء محدود.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود. فالإطلاق عن التقيد تقييد، والمطلق مقيد بالإطلاق لمن فهم.
وإن جعلنا الكاف للصفة فقد حددناه، وإن أخذنا «ليس كمثله شيء» على نفي المثل تحققنا بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنه عين الأشياء، والأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها. فهو محدود بحد كل محدود.
فما يحد شيء إلا وهو الحق. فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود. فهو عين الوجود، «وهو على كل شيء حفيظ» بذاته، «ولا يؤده» حفظ شيء. فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشي ء غير صورته.
ولا يصح إلا هذا، فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود. )
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء السادس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالسبت أغسطس 17, 2019 5:46 pm

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء السادس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء السادس
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية
قال رضي الله عنه : (ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود، فالإطلاق عن التقييد تقیید) بالإطلاق (والمطلق) عن مشابهة كل شيء (مقيد) أيضا (بالإطلاق) عن مشابهة كل شيء (لمن فهم) المعاني وعرف مراتبها .
قال رضي الله عنه : (وإن جعلنا الكاف للصفة) وكان تقدير المعنى ليس مثل مثله شيء، حتى اقتضى الكلام إثبات المثل له ونفي المثل عن هذا المثل المثبت له (فقد حددناه) أيضا بإثبات المثل له وإن كان المراد بمثله ذاته كما يقال مثلك من يفعل كذا، أي أنت تفعل كذا أو مثله وصفاته أو على فرض وجود المثل له فكان تحديد له .
قال رضي الله عنه : (وإن أخذنا) معنى ("وليس كمثله، شئ" [الشورى : 11] على نفي المثل) والكاف لتأكيد النفي (تحققنا بالمفهوم)، أي مفهوم من نفينا المثل عنه على وجه التأكيد وكل مفهوم محدود فهو تحدید.
(و) ثبت (بالإخبار الصحيح) عنه تعالى وإن احتمل التأويل عند أهل الأغيار (أنه) سبحانه (عين الأشياء) كما قال تعالى : "إنا كل شيء خلقناه بقدر" [القمر: 49] على قراءة رفع كل بأنها خبر إن.
وقال تعالى: "قل انظروا ماذا في السموات والأرض" [يونس: 101]،
وقال أيضا : "وهو الله في السموات وفي الأرض" [الأنعام: 3]،
وقال : "فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم" [البقرة: 115].
قال رضي الله عنه : (والأشياء محدودة) بحدود تمیز بعضها عن بعض (وإن اختلفت حدودها) اختلافا كثيرا (فهو)، أي الحق تعالی (محدود بحد كل محدود) من الأشياء المحدودة (فما يحد شيء) بحد (إلا وهو)، أي ذلك الحد (حد للحق) تعالى .
وهذا كله من حيث ظهوره تعالى بصفة القيومية على كل محسوس أو معقول من تجلي اسمه الظاهر والآخر.

وأما إطلاقه الحقيقي الذي هو عليه في نفسه أزلا وأبدا من غير تغير أصلا، فهو أمر معجوز عنه يتعلق به إيمان العارفين على وجه الإسلام له فقط، وهو من تجلي اسمه الباطن والأول فهو تعالى: "الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم" [الحديد: 3].

فهو تعالى من تجلی اسمه الظاهر القيوم الذي لا يصير من حيث هذا التجلي باطنا أصلا، وهو أيضا من تجلی اسمه الباطن لا يصير ظاهرا أصلا، لأن أسماءه تعالى قديمة باقية لا تتغير ولا تتبدل (الساري) من حيث ظهور وجوده المطلق في قيود الصور الممكنة العدمية الثابتة بعلمه القديم وتقديره وقضائه إلى آجالها المقدرة.
قال رضي الله عنه : (في مسمى المخلوقات والمبدعات) من المحسوسات والمعقولات، وليس هذا السريان کسريان شيء في شيء لاستحالة وجود شيء مع الله تعالى بنفسه، وإنما الوجود الظاهر لما سواه هو عين وجوده ظهر بملابسة ما سواه، وكل ما سواه معدوم بالعدم الأصلي.
قال تعالى : "الله نور السموات والأرض" (النور: 35).
وفي الحديث من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : «أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السموات والأرض، وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل علي غضبك أو تنزل علي سخطك» إلى آخره . رواه الطبراني والمقدسي في المختارة.
ومن حكم ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: «الكون كله ظلمة وإنما أناره ظهور الحق فيه» (ولو لم يكن الأمر كذلك)، أي هو تعالی بالوجود المطلق ساري في كل محسوس ومعقول سريان ظهور في المعلومات بحيث لا يتغير بها أصلا ولا تتغير به عما هي عليه في عدمها الأصلي من الأحوال الممكنة .
قال رضي الله عنه : (ما صح)، أي ثبت واستقام (هذا الوجود) الذي جملة العالم من كل محسوس ومعقول (فهو)، أي الحق تعالی (عين الوجود) المطلق بالإطلاق الحقيقي وإن تقيد في ظهوره بكل صورة لا قيد له في نفس الأمر من حيث اسمه الباطن.
(فهو)، أي الحق تعالى كما قال في كلامه القديم (على كل شيء) محسوس أو معقول (حفیظ) يحفظ ذلك الشيء من أن يزول عن وجوده الموهوم.
(له بذاته) سبحانه التي هي الوجود المطلق المذكور ("ولا يؤده" )، أي لا يعيقه سبحانه (حفظ شيء) من الأشياء كما قال تعالى : " وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلى العظيم" [البقرة : 255] .
قال رضي الله عنه : (فحفظه تعالى للأشياء كلها) محسوساتها ومعقولاتها هو (حفظه) سبحانه (لصورته) التي هي كل صورة في الحس أو العقل لصدور الكل عنه وقيامه بوجوده قيام معدوم بموجود.
(أن يكون الشيء) الهالك إلا وجهه أي المعدوم إلا وجوده (غير صورته) سبحانه فكل الصور له ولا صورة له.
لأنه إذا كان عين صورة لم يكن عين صورة أخرى، فيتنزه عن الصورة الأخرى، وإذا كان عين الصورة الأخرى أيضا لم یکن عین الصورة الأولى، فيتنزه عن الصورة الأولى فهو عين الصور كلها، وهو منزه عن الصور كلها .
قال رضي الله عنه : (ولا يصح) في حقه تعالی عند العارفين به المحققين (إلا هذا) الأمر .
(فهو) تعالى (الشاهد من الشاهد و) هو أيضا (المشهود من المشهود) فهو الشاهد والمشهود كما أقسم سبحانه بقوله وشاهد ومشهود، ولم يقسم بغيره إذ ما ثم غيره، والغيرية من جملة حضراته سبحانه .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير.
فهو الكون كله ... وهو الواحد الذي
قام كوني بكونه ... ولذا قلت يغتذي
فوجودي غذاؤه ... وبه نحن نحتذي
فبه منه إن نظرت ... بوجه تعوذي
ولهذا الكرب تنفس، فنسب النفس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صور العالم التي قلنا هي ظاهر الحق  إذ هو الظاهر، وهو باطنها إذ هو الباطن، و هو الأول إذ كان و لا هي، و هو الآخر إذ كان عينها عند ظهورها.
فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول،  «وهو بكل شيء عليم» لأنه بنفسه عليم.
فلما أوجد الصور في النفس وظهر سلطان النسب المعبر عنها بالأسماء صح النسب الإلهي للعالم فانتسبوا إليه تعالى فقال: «اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي» أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم و أرداكم إلى انتسابكم إلى. )

قال رضي الله عنه : (فالعالم) بفتح اللام (كله) وهو ما سواه تعالى (صورة) على معنى أن كل صورة فهو صورته ومجموع الصور كلها صورته ظهر بها له فيها وتنزه عنها له فيها فبطن وظهر وما عنه بطن ولا لغيره ظهر .
قال رضي الله عنه : (وهو) سبحانه (روح العالم) بفتح اللام (المدبر له)، أي للعالم فهو كل الأرواح، وهو كل النفوس، وهو كل الأجسام، وهو كل الأحوال والمعاني، وهو المنزه عن جميع ذلك أيضا، إذ لا وجود إلا وجوده ، والجميع مراتبه وتقاديره العدمية التي هي على عدمها الأصلي.
قال تعالى : "وخلق كل شيء فقدره تقديرا" [الفرقان : 2]، فبين لنا أن التخليق للأشياء معناه التقدير لها فقط.
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال رسول الله : «إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم عن علم الله تعالی».رواه الحااكم وابن حبان والترمذي .
هذا تمام الحديث وجفاف القلم كناية عن عدم التغيير والتبديل عما هو في الأزل .
وإن وقع التغيير والتبديل في اللوح المحفوظ، لأنه من جملة الأحوال المخلوقة، أي المقدرة في ظلمة العدم من الأزل فلا تغيير ولا تبديل .
وليس المراد بجفاف القلم عدم جريانه بالكتابة؛ ولهذا ورد في حديث رزين بإسناده إلى أبي بن كعب ، قال : سمعت رسول الله يقول: «أول ما خلق الله عز وجل القلم
فقال له : اكتب فجرى بما هو كائن إلى الأبد».رواه ابن مندة وفى الشريعة للآجري و أبو الشيخ في العظمة وغيرهم.
"الحديث : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فجرى بما هو كائن إلى الأبد وفي الحديث قصة" .
"الحديث : عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: " أول ما خلق الله , عز وجل , القلم , فقال له: اكتب , فقال: ما أكتب؟ فقال: اكتب القدر، فجرى بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة قال: ثم ارتفع بخار الماء ففتق منه السماوات، ثم خلق النون، ثم بسط الأرض على ظهره فاضطربت فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإنها لتفخر عليها "

قال رضي الله عنه : (فهو)، أي الحق تعالى (الإنسان الكبير) الذي قامت به صور العالم كلها ، وهي منه فهو قيومها، وهو المدبر للعالم كله بالروح الأعظم الذي هو من أمره سبحانه، وهو القيوم على كل شيء، وجميع الصور صورته التي خلق عليها آدم عليه السلام، كما ورد في الحديث: «أن الله خلق آدم على صورته».
فآدم هو الإنسان الصغير في مقابلة ذلك الإنسان الكبير، وعلم آدم الأسماء كلها فتسمى بتلك الأسماء كلها.
فنزع سبحانه حلة الأسماء عن جميع العالم وألبسها لآدم عليه السلام، وعمر به دار الآخرة إلى الأبد، ويوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات.  
وفي الحديث: «ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن»  وهو الإنسان الكامل العالم للأسماء القائم بها في جملة العالم وتصاريف الأحوال.
قال رضي الله عنه : (فهو)، أي الحق سبحانه (الكون) الظاهر للحس والعقل من حيث الوجود لا الأشخاص العدمية إلا من حيث القيومية، فهو القائم عليها بما کسبت لا هي قائمة (كله)، أي روحانية وجسمانية .
قال رضي الله عنه : (و) مع ذلك (هو الواحد) الأحد الفرد الصمد (الذي قام)، أي ثبت (كوني)، أي وجودي الظاهر بالوهم (بكونه)، أي وجوده الحقيقي الظاهر بالتحقيق (فلذا قلت) عن وجوده الظاهر (أنه يغتذي)، أي يستمد من حيث هو ظاهر بصور الأشياء.
(فوجودي)، أي ثبوتي في الأزل بعلمه ووجودي الوهمي المجازي به (غذاؤه)، لأن ينسب إليه فيظهر به، لأنه له كما قال تعالي: "لله ما في السموات وما في الأرض" [البقرة : 284].
قال رضي الله عنه : (وبه)، أي بالحق سبحانه لا بغيره إذ لا غير (نحن) معشر بني آدم والمراد أهل الكمال منهم (نحتذي)، أي نتحاذی ونتقابل، فيقابلنا بوجوده ونقابله بصفاتنا، فنغذية بالصفات ويغذينا بالوجود، فنظهر نحن وهو، ونبطن نحن وهو، فـ "هو الأول والأخر والظهر والباطن" [الحديد: 3] ونحن كذلك .
قال رضي الله عنه : (فبه)، أي بوجوده سبحانه من وجه جماله (إن نظرت) يا أيها السالك (منه)، أي من وجوده (بوجه) جلاله (تعوذي)، أي استعاذتي واحتمائي والتجائي.
ولهذا ورد في الحديث: «وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»، وأصل هذا كمال الوسع الإلهي الذي لا يحصى .
كما قال تعالى : "علم أن لا تحصوه فتاب عليكم " [المزمل: 20]. ومن هنا قال من قال : العجز عن درك الإدراك إدراك.
قال رضي الله عنه : (ولهذا الكرب) الذي عنده من حيث هو عين الأشياء كلها وذلك توجهه القديم بإظهار أعيان الممكنات العلمية التي سبق بها کشف علمه وتقدير إرادته وقضاء قدرته ونفوذ أمره وتحقيق كلمته فكان کربا بسبب عدم احتمال الكتم في تلك الأعيان.
فهو حزن على مفارقة العينية الذاتية من حيث الحضرة الأسمائية، ومن هنا وقع الحب الإلهي للأعيان الممكنة، والحب منها له في قوله سبحانه : "يحبهم ويحبونه "
[المائدة : 54].
فإن المحبة تقتضي البعد كما تقتضي الوصلة بالقرب، فهي تطلب الضدين، ولا بد أن يغلب أحدهما، وهو کرب المحبة مما يجد سبحانه من جمال الحضرة وكمال النظرة (تنفس) بإظهار تلك الأعيان الممكنة من باطن العلم إلى ظاهر السمع الإلهي والبصر الإلهي .
 (فينسب النفس) بفتح الفاء (إلى الرحمن) كما ورد في الحديث: «أني لأجد نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن»، فكان الأنصار وهم أهل الصفة الذين قال الله تعالى في وصفهم : "يريدون وجهه" ، فسماهم نفس الرحمن من حيث إنه نفس بهم عن كرب الأسماء الإلهية.
فظهرت له من العلم إلى العين، فقرت بهم العين وارتفع البين من البين، وعلى مشاربهم وردت العارفون إلى يوم القيامة، وخص الرحمن بنسبة النفس إليه (لأنه) سبحانه (رحم به)، أي بذلك التنفس (ما طلبته النسب الإلهية) التي هي الصفات والأسماء (من إيجاد صور العالم) المحسوسة والمعقولة (التي قلنا) فيما سبق إنها (هي ظاهر الحق) سبحانه .
(إذ)، أي لأنه (هو) سبحانه (الظاهر و) مع ذلك (هو) أيضا (باطنها)، أي باطن تلك الصور لأنها ممكنة عدمية بالعدم الأصلي فلا حكم لها من ظهور أو بطون إلا (به)، وكذلك هو فهو بها الظاهر الباطن وهي به الظاهرة الباطنة فإذا أظهرها بطن بها وإذا أظهرته بطنت به .
(إذ)، أي لأنه (هو) سبحانه (الباطن) إذا كانت هي الظاهرة به (وهو)، أي الحق تعالى (الأول إذ)، أي لأنه (كان)، أي وجد سبحانه (ولا هي) لأنها ممكنة علمية بالعدم الأصلي.
(وهو) سبحانه أيضا (الآخر إذ)، أي لأنه (كان عينها)، أي عين تلك الصور (عند ظهورها) كما مر بيانه وهي أيضا الأول لأنها عينه عند بطونها، والآخر لأنها غيره عند ظهورها وبطونه ، فاتصفت بما اتصف به لأنها صورته وعلمه بذاته وتفصيل مجمل حضراته .
قال رضي الله عنه : (فالآخر) على حسب ما ذكر في حقه سبحانه (عين الظاهر، والباطن عین الأول) والصور المذكورة على هذا معه تعالى.
فإنه إذا كان هو الأول كانت هي الأول، لأنه أول بالبطون وهي عينه في البطون، وإذا كان هو الآخر كانت هي الآخر أيضا، لأنه الآخر بكونه عينها في الظهور، وهي الآخر بكونها غيره في الظهور.
وإذا كان هو الظاهر كانت هي الباطن، وإذا كانت هي الظاهر كان هو الباطن، فالآخر في حقها عين الظاهر في حقها، والباطن في حقها عين الأول في حقها .
قال رضي الله عنه : (وهو) سبحانه (بكل شيء) من تلك الصور (عليم) وكل صورة منها من حيث هي صورة بكل تجل منه سبحانه بها عليم أيضا على حسب ما يعطي ذلك التجلي من عينية أو غيرية.
وهو أيضا عليم بكل شيء على حسب ما يعطي ذلك الشيء والعلم واحد من الطرفين (لأنه) سبحانه (بنفسه) بفتح الفاء وهو أعيان الصور الممكنة العدمية (عليم)، فهو عليم بكل شيء، فالنفس بقيد العدم والأشياء بقيد الوجود.
قال رضي الله عنه : (فلما أوجد الصور) وهي أعيان الأشياء الممكنة (في النفس) بفتح الفاء لأنه تنفس وجود بنفس موجود (وظهر) بالوجود (سلطان)، أي حكم سلطنة (النسب) جمع نسبة وهي الإضافات الإلهية.
(المعبر عنها) في لسان الشرع (بالأسماء) الإلهية فإنها تعينات في الذات الإلهية المطلقة بسبب قيام الممکنات العدمية بتلك الذات وصدورها عنها بحكمها (صح النسب الإلهي للعالم) بفتح اللام بينه وبين الحق تعالی، لأنه صادر عنه.
قال رضي الله عنه : (فانتسبوا)، أي أفراد العالم الحاصلون من توجه أسمائه تعالى (إليه تعالی)، لأنهم صدروا عنه بحكم: "كل من عند الله" [النساء: 78]، وقاموا به بحكم: "أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" [الرعد: 33] ومرجعهم إليه بحكم: "وإليه ترجعون" [البقرة : 245]، "وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ" [أل عمران : 83] .
"وإليه تقلبون" . "وإليه المصير" [المائدة: 18]، "وأن إلى ربك المنتهى " [النجم: 42]،" وإليه يرجع الأمر كله" [هود: 28]، "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" [البقرة: 281]، "وإلى الله ترجع الأمور" [البقرة: 210].

قال رضي الله عنه : (فقال) : أي الحق تعالی كما ورد في الحديث (اليوم) إشارة إلى يوم القيامة (أضع نسبكم) الذي كان بينكم في الدنيا (وأرفع نسبي أي آخذ عنکم) دعوی ( انتسابكم) بینکم (إلى أنفسكم) وكذلك نسبة وجود بعضكم من بعض وهو قوله تعالى: "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومين ولا يتساءلون" [المؤمنون : 101].
 (وأردكم)، أي أراجعكم من النسبة المجازية (إلى) النسبة الحقيقية وهي عين (انتسابكم إلي) لصدوركم عني لا عن سبب أصلا لتقطع الأسباب، ثم يقول تعالى في ذلك اليوم .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( أين المتقون؟
أي الذين اتخذوا الله وقاية فكان الحق ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة، وهو أعظم الناس وأحقه وأقواه عند الجميع.
وقد يكون المتقي من جعل نفسه وقاية للحق بصورته إذ هوية الحق قوى العبد. فجعل مسمى العبد وقاية لمسمى الحق على الشهود حتى يتميز العالم من غير العالم.
«قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب» وهم الناظرون في لب الشيء الذي هو المطلوب من الشيء. فما سبق مقصر مجدا كذلك لا يماثل أجير عبدا.)
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء السابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالسبت أغسطس 17, 2019 5:47 pm

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء السابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء السابع
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية
قال رضي الله عنه : (أين المتقون) يعني أنهم كانوا في الدنيا منتسبين إلى الحق تعالى لا إلى آبائهم وأمهاتهم إلا من حيث النسبة المجازية الذاهبة بذهاب الدنيا ، وزوال علاقة المجاز التي هي مجرد السببية أو المحلية، فإن المتقين يعرفون ذلك.
ووصف التقوى ألزمهم ذلك وهم حجة الحق تعالى على الناس، ثم بين المتقين بقوله (أي) القوم الذين اتخذوا الله تعالى (وقاية لهم) عندهم فلم يكونوا هم عند أنفسهم بل كان هو عند أنفسهم فاتقوا بظهوره لهم ظهور أنفسهم لهم فهم عندهم هؤلاء هم وهم في الفناء والزوال .
قال رضي الله عنه : (فكان الحق) تعالی (ظاهرهم أي) ما يظهر لهم منهم وهو (عين صورهم الظاهرة) لهم من حيث حسهم وعقلهم، وهم الذين كانوا سمع الحق وبصره لتقربهم بالفرائض.
(وهو)، أي المتقي بهذا النوع من التقوى وهي تقوی خواص الخواص من كل شيء سوى الله تعالى كما أن تقوى الخواص من المعاصي وتقوى العوام من الكفر.
قال رضي الله عنه : (أعظم الناس) كلهم ولهذا كان من خواص الخواص (وأحقهم)، أي أحق الناس اسم المتقی وبصفة التقوى و باستحقاق ما للمتقين من الثناء في الدنيا والجزاء في الآخرة (وأقواهم)، أي أقوى الناس بصيرة في معرفة الله، وقلبا في خدمته بالأعمال الصالحة (عند الجميع).
أي جميع الناس من الخواص والعوام (وقد يكون المتقي) من خواص الخواص معناه بعكس ما ذكر يعني (من جعل نفسه) عنده (وقاية للحق) تعالی (بصورته) الظاهرة له بحسه وعقله فكان هو الظاهر لنفسه بربه وربه غيب عنه.
فقد اتقی ظهور ربه له بظهور نفسه بربه لا به (إذ)، أي لأنه (هوية)، أي ذات (الحق) تعالی ووجوده المطلق عين (قوی) جمع قوة (العبد) المتقرب بالنوافل كما مر في الحديث کسمعه وبصره لا أذنه وعينه .
قال رضي الله عنه : (فجعل)، أي هذا المتقي (مسمى العبد)، الذي هو مجموع الصورة الظاهرة والباطنة (وقاية لمسمى الحق) سبحانه (على) طريق (الشهود) فالحق سبحانه يشهد العبد ببصره ويسمعه بسمعه والعبد مشهود لا شاهد، والأول شاهد لا مشهود، والأول حال السالك والثاني حال الواصل، وكلاهما من خواص الخواص.
وهما النوعان الواردان في حديث الإحسان وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه».
وهو حال المتقي الأول فإنه يرى الله تعالى لا يرى معه غيره، فقد اتقى نفسه بربه وجعل ربه وقاية له من نفسه، وجيء فيه بأداة التشبيه وهي كان المقتضية لتشبيه رؤية تلك الحالة برؤية الله تعالى من حيث كمال الحضور معه سبحانه.
والفناء عن شهود كل شيء سواه، وهي رؤية الغائب في الحاضر، کرؤية زيد الغائب عنك عند رؤية داره أو ثوبه أو دابته بتذكرك له كمال التذكر.
بحيث تغيب عن الحاضر الذي أحضر ذلك الغائب عندك وتحضر عند الغائب.
وإليه أشار الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض قدس الله سره بقوله :
 ناب بدر التمام طيف محيا ... ك، لطرفي، بيقظتي، إذ حكاكا
فتراءيت في سواك لعين ... بك قرت، وما رأيت سواكا
وكذاك الخليل قلب قبلي ... طرفه، حين راقب الأفلاكا
ثم أشارة صلى الله عليه وسلم إلى النوع الثاني من الإحسان بقوله : "فإن لم تكن تراه فإنه يراك". "أضاف الجامع : فإن لم تكن = ان كنت فانيا في الله تراه بعين الحق و ترى نفسك "
أي فإن لم تكن ترى الحق في حال كونك كأنك تراه بأن غبت عن شهود الغائب عنك الذي كنت تشهده، وحضرت عند نفسك التي كنت تشهد بها ذلك الغائب
عنك، فكن في هذه الحالة بحيث أنه تعالى يراك.
لأنه بصرك الذي تبصر به وهذا أعلى من الأول، لأنه صحو من محو ورجوع إلى عين الحقيقة قال رضي الله عنه : (حتى يتميز) بحسب هذا النوع الثاني من التقوى إذ فيه ظهور العبد (العالم من غير العالم) بخلاف النوع الأول فإنه لا ظهور للعبد فيه أصلا قال الله تعالى ("قل") لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم ("هل يستوى ")، أي يتساوى عندهم وهو استفهام إنکاري، أي لا يستوي القوم (" الذين يعلمون")، أي يتصفون بالعلم (و) القوم ("الذين لا يعلمون") [الزمر: 9].
أي لا يتصفون بصفة العلم ("إنما يتذكر") ما ذكر ("أولوا")، أي أصحاب ("الألباب " وهم) [الرعد: 19].
أي أولو الألباب (الناظرون في لب الشيء الذي هو) باطن الشيء المطلوب من ذلك (الشيء) و"كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88] كما قال تعالی .
فوجهه سبحانه لب كل شيء فهو المطلوب
كما قال تعالى : "يردون وجهه" [الأنعام: 52]، وقال تعالى: "إنما نطعمكم لوجه الله" [الإنسان: 9] .
قال رضي الله عنه : (فما سبق مقصر) في السلوك إليه تعالى بالأعمال الصالحة (مجدا) في ذلك أبدا (كذلك لا يماثل أجير)، أي عامل بقصد الجزاء (عبدا)، أي عاملا بوصف العبودية للربوبية، فإن المجد العامل بالعبودية من الذين يعلمون، والمقصر العامل للجزاء من الذين لا يعلمون والعارف الكامل من أولي الألباب الذين يتذكرون .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإذا كان الحق وقاية للحق بوجه والعبد وقاية للحق بوجه.
فقل في الكون ما شئت: إن شئت قلت هو الخلق.
وإن شئت قلت هو الحق.
 وإن شئت قلت هو الحق الخلق.
وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه.
وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك فقد بانت المطالب بتعيينك المراتب.
ولو لا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه.
فلا تنظر العين إلا إليه ... و لا يقع الحكم إلا عليه
فنحن له وبه في يديه ... و في كل حال فإنا لديه
لهذا ينكر ويعرف وينزه ويوصف. )

وإذا كان الحق سبحانه (وقاية للعبد بوجه) في النوع الأول من التقوى (و) كان (العبد وقاية للحق) تعالی (بوجه) آخر في النوع الثاني من التقوى .
قال رضي الله عنه : (فقل) يا أيها السالك (في) هذا (الكون)، أي الوجود الموهوم النسبة المضاف إلى الأعيان الممكنة العلمية الظاهرة في الحس والعقل (ما شئت)، أي أردت من العبارات حيث عرفت الأمر على ما هو عليه في نفسه (إن شئت قلت هو)، أي هذا الكون المذكور (الخلق)، لأنه تقدير الله تعالى الذي قدره في الأزل في ظلمة العدم ثم ظهر به حيث أظهره بتجلي وجوده عليه (وإن شئت قلت هو)، أي الكون المذكور (الحق) تعالی، لأن الوجود المطلق الظاهر نوره على أعيان الممكنات العدمية بالعدم الأصلي.
قال رضي الله عنه : (وإن شئت قلت هو)، أي الكون (الحق) باعتبار الوجود المطلق الظاهر بنفسه ولا شيء معه إذ " كل شيء هالك إلا" هو (الخلق) باعتبار صور الأعيان الممكنة الظاهرة بنور الوجود المطلق (وإن شئت قلت إنه (لاحق من كل وجه) بل من وجه الوجود فقط (ولا خلق من كل وجه)، بل من وجه الصور الممكنة المحسوسة والمعقولة .
قال رضي الله عنه : (وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك) الأمر والوقوف من غير قطع بواحد، فإنك لا تقدر أن تخلص واحدة إلى الطرف لتعلقها بالأخرى.
 وإليه أشرت بقولي شعرا:
 إن الوجود حقيقة لا تدرك      ….. وقف المحقق عنده والمشرك
قال رضي الله عنه : (فقد بانت المطالب) التي هي مقاصد العارف، فإنه يعرف الكون بهذه المعارف المذكورة، ثم ينفيها ويقف في العجز عن الإدراك، ثم في العجز عن العجز، ويرجع إليها بغير ما تركها.
وهكذا وليس للأمر نهاية ولا للمعرفة غاية (بتعيينك) هذه المراتب المذكورة للكون في نفسك (ولولا التحديد الوارد) عن الله تعالى في حضرة ظهوره كما سبق بيانه.
قال رضي الله عنه : (ما أخبرت الرسل) عليهم السلام (بتحول الحق) تعالى في يوم القيامة (في الصور) لأهل المحشر (ولا وصفته)، أي الرسل عليهم السلام (بخلع الصور عن نفسه ) سبحانه، فإن هذا كله تحديد في ظهوره تعالى، وهو حق لا يغير الحق أصلا من حيث بطونه على ما هو عليه عز وجل.
أخرج الترمذي بإسناده عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال:  "يجمع الله تعالى الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطلع عليهم رب العالمين
فيقول: ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ، ولصاحب التصاویر تصاویره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون .
ويبقى المسلمون، فيطلع عليهم رب العالمين فيقول: ألا تتبعون الناس.
فيقولون: نعوذ بالله منك الله ربنا وهذا مكاننا حتى نری ربنا، وهو يأمرهم ويثبتهم، ثم يتوارى.
ثم يطلع فيقول: ألا تتبعون الناس
فيقولون نعوذ بالله منك، الله ربنا وهذا مكاننا حتى نرى ربنا وهو يأمرهم  ويثبتهم، ثم يتوارى .
ثم يطلع فيقول : ألا تتبعون الناس
فيقولون: نعوذ بالله منك نعوذ بالله منك نعوذ بالله منك الله ربنا، وهذا مكاننا حتى نرى ربنا، وهو يأمرهم ويثبتهم إلى آخر الحديث الطويل .ورواه البخاري ومسلم وغيرهما.

وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم والنسائي بإسنادهم إلى أبي سعيد الخدري إلى أن قال: حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله عز وجل من بر وفاجر .
أتاهم الله عز وجل في أدنى صورة من التي رأوه فيها .
قال : فما تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد
قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما کنا إليهم ولم نصاحبهم
فيقول: وأنا ربكم
فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثة حتى أن بعضهم ليكاد ينقلب .
فيقول : هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها .
فيقولون: نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله عز وجل من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود.
ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله تعالی ظهره طبقة واحدة كما أراد أن يسجد على قفاه .
ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة.
قال: فيقول: "أنا ربكم "
فيقولون : أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة.
ويقولون: اللهم سلم، سلم .
" قيل: يا رسول الله، وما الجسر؟ إلى آخر الحديث.  وهناك روايات أخرى غير هذا في كتب الحديث النبوي . .

قال رضي الله عنه : (فلا تنظر العين) من كل أحد (إلا إليه سبحانه) من حيث ظهوره تعالى في كل صورة وهو منزه عن كل شيء من حيث بطونه (ولا يقع الحكم) من كل أحد على كل شيء بشيء من الأشياء (إلا عليه) سبحانه من الحيثية المذكورة .
(فنحن) كلنا معشر الأعيان الممكنة العدمية بالعدم الأصلي (له) ليظهر بنا في حضرة ظهوره بتجلي وجوده وانکشاف نوره .
وقال تعالى : "لله ما في السماوات وما في الأرض" [البقرة : 284].
وقال سبحانه : "وله كل شئ" [النمل: 91].
(و) نحن أيضا قائمون إيجادا وإمدادا (به)،سبحانه تعالی، لأنه الحي القيوم الذي قامت السماوات والأرض بأمره (و) نحن أيضا (في يديه) يصرفنا كيف يشاء بما شاء ويحركنا ويسكننا."وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" [الأنعام : 13].
قال رضي الله عنه : (وفي كل حال) من أحواله التي لنا في الحس أو العقل أو الخير أو الشر أو القرب أو البعد (فإنا) كلنا (لديه)، أي عنده ولم نبرح من حضرته سواء كان بعضنا محسنا أو مجرما.
قال تعالى: " إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر" [القمر: 54 - 55].
وقال تعالى : "إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته " [الأعراف: 206] الآية.
وقال تعالى : "ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم" [السجدة : 12] الآية.
قال رضي الله عنه : (ولهذا) أي لكون الأمر كذلك (بنکر) سبحانه، أي ينكره قوم من الجاهلين به الغافلين عنه الكافرين له .
قال رضي الله عنه : (ویعرف) سبحانه، أي يعرفه قوم آخرون من المؤمنين به المتقين الكاملين (وينزه)، أي ينزهه قوم من المسلمين الحاکمین بعقولهم في إيمانهم به .
(ويوصف) سبحانه بما لا يليق بجنابه من أوصاف الحوادث عند قوم من المبتدعين الضالين، وجميع ذلك تجلياته سبحانه في حضرة ظهوره، لأنه الظاهر بكل شيء.
وهو في حضرة بطونه على ما هو عليه من إطلاقه الحقيقي، لأنه الباطن عن كل شيء، وأحكامه متوجهة منه تعالى على كل ذلك بألسنة رسله وأنبيائه عليهم السلام، فحكم بالكفر في اعتقاد وبالإيمان في اعتقاد وبالبدعة في اعتقاد وبالجهل به في اعتقاد و بالمعرفة به في اعتقاد والله يحكم لا معقب لحكمه له الحكم وإليه ترجعون.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن رأى الحق منه فيه بعينه فذلك العارف.
ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف.
ومن لم ير الحق منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل.
وبالجملة فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه يرجع بها إليه ويطلبه فيها :
فإذا تجلى له الحق فيها و أقر به، و إن تجلى له في غيرها أنكره وتعوذ منه وأساء الأدب عليه في نفس الأمر، وهو عند نفسه أنه قد تأدب معه فلا يعتقد معتقد إلها إلا جعل في نفسه، فالإله في الاعتقادات بالجعل، فما رأوا إلا نفوسهم و ما جعلوا فيها. )

قال رضي الله عنه : (فمن رأى الحق) تعالى (منه)، أي من نفسه وصورته یعني ظاهرة له من ذلك ، لأنه مظهرا له تعالى، أي آلة لظهوره سبحانه من حيث نحن وإلا فهو تعالی ظاهر لنفسه أزلا وأبدا ولا حاجة له في ظهوره إلى شيء أصلا (فيه).
أي في نفسه وصورته على معنى أن نفسه وصورته تفنى وتضمحل بظهوره سبحانه فيبقى هو تعالى الموجود الممسك للنفس والصورة الممكنة العلمية بالعدم الأصلي، ولا نفس ولا صورة في الوجود أصلا (بعينه)، أي بعين الحق تعالی، لأنه سبحانه كان عينه التي يبصر بها لا عينه التي لا يبصر بها التي هي عين القلب أو البصر الحادثة المخلوقة المشتملة على القوة العرضية كما ورد : «كنت بصره الذي يبصر به» (فذلك) العبد حينئذ هو العارف بالله تعالی.
قال رضي الله عنه : (ومن رأى الحق) تعالى (منه)، أي من ذات نفسه كما ذكرنا (فيه)، أي في ذات نفسه على حسب ما بيناه (بعين نفسه) هو لا بعين الحق تعالی (فذلك) العبد
غير العارف بالله تعالى وهو السالك الذي عليه بقية نفسانية (ومن لم ير الحق) تعالى (منه)، أي من نفسه وصورته بأن رأى نفسه وصورته هو موجودة مع الحق تعالی فكان عنده موجودان :
موجود محسوس له وهو نفسه وصورته.
وموجود معقول له وهو الحق تعالى .
قال رضي الله عنه : (ولا) رأى الحق تعالى (فيه)، أي في نفسه وصورته بل ادعى الوجود المستقبل في نفسه وصورته (وانتظر أن يراه)، أي يرى الحق تعالی بعين نفسه في الدنيا أو في الآخرة (فذلك) هو العبد (الجاهل) بالله تعالى المنقطع عنه المعرض بجانبه عن التوجه إلى جنابه غير السالك إليه ولا العارف به تعالى .
وإن قطع إربا إربا في عبادته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإنه عبد محجوب بالطاعة .
كما أن العاصي المذنب محجوب بالمعاصي والذنوب .
والكافر المشرك محجوب بالكفر والشرك.
فإن صدق هذا الجاهل بما عليه العارفون من المعرفة بالله وآمن بكلامهم وبعلومهم، فهو معهم على مشرب من مشاربهم، لأن المرء مع من أحب.
قال الجنيد رضي الله عنه: "الإيمان بكلام هذه الطائفية ولاية".
فإن كلب أصحاب الكهف لما آمن بهم وصدقهم وتبعهم، وهو باق على صفة الكلبية والنجاسة العينية لم يضره ذلك.
وذكره الله تعالى معهم في القرآن كما ذكروا وهو معهم في الجنة أيضا.
كما ورد في الأخبار، وفي الباب السادس والثمانين ومائتان من الفتوحات المكية للمصنف قدس الله سره قال ما ملخصه:
إنه إن قام بك التصديق فيما يتحقق به أهل طريق الله تعالى بأنه حق، وإن لم تذقه ولا تخالفهم، فإنك تكون على بينة من ربك.
وبتلك البينة التي أنت عليها توافقهم في ذلك، فأنت منهم في مشرب من مشاربهم، فإنهم أيضا ممن يوافق بعضهم بعضا فيما يتحققون به في الوقت ، وإن كان لا يدرك هذا ذوقا فيقر له ويسلمه له ولا ينكره لارتفاع التهمة.
 ومجالسة هؤلاء الأقوام الغير المؤمن بهم على خطر عظيم وخسران كما قال بعض السادات وأظنه رویما رضي الله عنه : من قعد معهم وخالفهم في شيء مما يتحققون به في سرائرهم نزع الله نور الايمان انتهى .
وقال سيدي أفضل الدين :
لو أن إنسانا أحسن الظن بجميع أولياء الله تعالی إلا واحدا منهم بغیر عذر مقبول في الشرع لم ينفعه حسن الظن عند الله تعالی .
ولذلك لا تجد وليا حق له قدم الولاية إلا وهو مصدق بجميع أقرانه من الأولياء لم يختلف في ذلك اثنان ، كما أنه لم يختلف في الله تعالی بنیان.
فمن آذى الأولياء بسوء ظنه فقد خرج من دائرة الشريعة.

ومن كلام الشيخ أبي المواهب الشاذلي رضي الله عنه:
من حرم احترام أصحاب الوقت فقد استوجب الطرد والمقت.
وقال الشيخ الأكبر رضي الله عنه المصنف لمتن هذا الكتاب :
معاداة الأولياء والعلماء العاملين كفر عند الجمهور .
وقال : من عادي أحدا من العلماء العاملين أو الشرفاء فقد عادی إيمانه .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثامن .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالسبت أغسطس 17, 2019 5:48 pm

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثامن .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الثامن
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية
وقال سيدي علي الخواص رضي الله عنه :
من عادى أحدا من الأولياء أو العلماء خالفه ضرورة، وفي مخالفة الولي والعالم الضلال والهلاك.
قال رضي الله عنه : (وبالجملة فلا بد لكل شخص) من الناس (من عقيدة) يعتقدها بقلبه (في ربه) سبحانه (يرجع) ذلك الشخص (بها)، أي بتلك العقيدة (إليه)، أي إلى ربه تعالى (ويطلبه) سبحانه .
قال رضي الله عنه : (فيها فإذا تجلی) أي انكشف (له)، أي لذلك الشخص (الحق) تعالى (فيها عرفه)، أي عرف الحق تعالى ذلك الشخص (وأقر)، أي صدق واعترف (به) سبحانه .
(وإن تجلی الحق) تعالی (له)، أي لذلك الشخص (في غيرها)، أي غير تلك العقيدة (نکره)، أي أنكره ولم يقر به (وتعوذ منه وأساء الأدب عليه)، أي على الحق تعالى (في نفس الأمر) من حيث لا يشعر بذلك ولا يدري، وهذا في الدنيا بقلبه أو بلسانه أو بهما، وفي الآخرة كذلك إذا تجلى له في المحشر كما مر ذكره في الحديث .

قال رضي الله عنه : (وهو)، أي ذلك الشخص (عند نفسه أنه قد تأدب معه)، أي مع الحق تعالی باستعاذته منه وإسائته الأدب معه وإنكاره له من كثرة جهله بربه (فلا يعتقد معتقد) من الناس مطلقة (إلها) يرجع إليه و يطلبه (إلا بما جعل).
أي يجعله ذلك (في نفسه فالإله في الاعتقادات بالجعل) وذلك في المتمسكين بالنظر العقلي وما يؤديهم إليه فکرهم، فيقيدون الإله في معنى يفهمونه، ثم ينزهونه عن كل ما سواه من محسوساتهم ومعقولاتهم.
فإذا شعروا بأن الذي ينزهونه معنی مفهوم لهم، أثبتوا معنى آخر فهموه، ونزهوه عن المعنى المفهوم لهم أولا، وعن كل شيء وهكذا، ولا يمكنهم أن يخرجوا عن المفاهيم العقلية أصلا ما دام الحق تعالى في بالهم وهم مستحضرون له.
قال رضي الله عنه : (فما رأوا) حينئذ (إلا نفوسهم وما جعلوا فيها)، أي في نفوسهم من الاعتقادات حيث رأوا قوة استعدادهم في إثبات المفهوم العقلي الذي اطمأنوا إليه أنه الحق تعالی ونزهوه عن مشابهة كل ما عداه من محسوس أو معقول ولو عقلوا لما اغتروا بتنزيههم ذلك المعنى المفهوم العقلي.
وبكشفهم عن كونه منزه عن مشابهة كل ما سواه من المحسوسات والمعقولات، فإن كل معنى عقلي وكل محسوس بتلك المثابة من وجه ما منزه به عن كل ما سواه، ومن وجه ما هو مفهوم عقلي يشبه غيره من المفاهيم العقلية، ومن وجه ما هو محدود يشبه المحسوسات أيضا .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فانظر: مراتب الناس في العلم بالله تعالى هو عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة.
وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك . فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه. فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد فإنه يقول «فأينما تولوا فثم وجه الله» وما ذكر أينا من أين.
وذكر أن ثم وجه الله، ووجه الشيء حقيقته.
فنبه بذلك قلوب العارفين لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا فإنه لا يدري العبد في أي نفس يقبض، فقد يقبض في وقت غفلة فلا يستوي مع من قبض على حضور. )

قال رضي الله عنه : (فانظر) يا أيها السالك (مراتب الناس في العلم بالله) في الدنيا على زعمهم أنهم عالمون به سبحانه (فإنه هو عين مراتبهم)، أي الناس (في الرؤية)، أي رؤية ربهم تعالی (یوم القیامة) كما سبق في الحديث (وقد أعلمتك) يا أيها السالك
(بالسبب الموجب لذلك)، أي لكون مراتب علمهم بالله عين مراتب رؤيتهم له في الآخرة، وذلك السبب هو اعتقادهم له بما جعلوه في نفوسهم من صورة استحضارهم له لجهلهم به وعدم رؤيتهم له منهم فيهم كما سبق بيانه .
قال رضي الله عنه : (فإياك) يا أيها السالك أي احذر (أن تتقيد) في الله تعالى (بعقد مخصوص)، أي اعتقاد معنی مفهوم لك بعقلك أنه هو الله تعالى كما فعل أرباب النظر العقلي والتقليد النقلي (وتكفر بما)، أي بكل عقد (سواه) من عقائد الناس كفعل من ذكرنا (فيفوتك خیر کثیر) من الكمال العلمي (بل يفوتك العلم) في الله تعالی (با لأمر ما هو عليه) كما فات المتقدمين بذلك من الجهة .
قال رضي الله عنه : (فکن) يا أيها السالك (في نفسك هیولی)، أي مادة كلية (الصور المعتقدات)، التي يعتقدها في الله تعالى جميع الناس في سائر الملل (كلها) مع تخطئتك لجميع الملل المقيدين اعتقادهم بعقد واحد و مكفرين من خالفهم في ذلك.
فإنهم الذين قال تعالى في حقهم: "في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها " [الأعراف: 38] .
قال رضي الله عنه : (فإن الإله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد) من عقائد الناس (دون عقد آخر) من عقائدهم لإطلاقه تعالى الإطلاق الحقيقي الذي تشير إليه أرباب الملل من حيث العبارة.
وتعدل عنه في نفسها من حيث ما تفهمه، فتنزهه عن كل ما سواه، ولا يشعر أحد منهم بأن قيده وحصره بفهمه له حين نزهه عن كل ما سواه.
فإن كل مفهوم محدود بالمعنى المنسوب إليه بالفهم مقيدة بما نسب إليه من المعنى الخاص قال رضي الله عنه : (فإنه)، أي الله تعالى يقول في كلامه القديم (" فأينما تولوا فثم وجه الله")، أي تتوجهوا بظواهركم أو بواطنكم ("فثم")، أي هناك ("وجه الله")."إن الله واسع عليم" [البقرة : 115] .
قال رضي الله عنه : (وما ذكر) سبحانه (أيا)، أي مكانا (من أين)، أي مكان يعني لم يخصص بل عمم في كل أين لكل جهة توجهت إليها همة طالب للحق سبحانه في تلك الجهة
(وذكر) تعالى (أن ثم)، أي هناك في الجهة التي وقع التوجه إليها ("وجه الله") تعالى (ووجه الشيء حقيقته)، أي ذاته وهويته الجامعة لصفائه وأسمائه .
قال رضي الله عنه : (فنبه) سبحانه (بهذا) الإخبار (قلوب العارفين به) أنه تعالى الظاهر على كل حال في كل شيء مع أنه سبحانه الباطن على كل حال عن كل شيء (لئلا تشغلهم العوارض)، أي الأمور التي تعرض لهم من عوائق الأحوال (في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا)، أي عموم ظهور الحق تعالى في كل أمر، فلا يحجبون عنه تعالی بشيء، ولا يشتغلون عن شهود ظاهريته تعالى بما هم فيه.
ولا ينكرونه سبحانه في كل تجلي من تجلياته وظهور من ظهوراته و تستغرقهم الأوقات في معرفته واستحضاره، فلا يغيبون عنه كما هو لا يغيب عنهم.
قال رضي الله عنه : (فإنه)، أي الشأن (لا يدري العبد) المخلوق (في أي نفس) بفتح الفاء (يقبض) فإن الأنفاس بيد الله تعالى والأعمار مقدرة بها (فقد يقبض) العبد (في وقت غفلة) بنفس ملهي عن الحق سبحانه (فلا يستوي) عند الله تعالى (مع من قبض على حضور)، أي استحضار لعظمة الله تعالى في تجليه بنوع من أنواع تجلياته.

قال الشيخ رضي الله عنه: ( ثم إن العبد الكامل مع علمه بهذا يلزم في الصورة الظاهرة والحال المقيدة التوجه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ويعتقد أن الله في قبلته حال صلاته، وهو بعض مراتب وجه لحق من «فأينما تولوا فثم وجه الله». فشطر المسجد الحرام منها، ففيه وجه الله.
ولكن لا تقل هو هنا فقط، بل قف عند ما أدركت والزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام والزم الأدب في عدم حصر الوجه في تلك الأبنية الخاصة، بل هي من جملة أينيات ما تولى متول إليها. فقد بان لك عن الله تعالى أنه في أينية كل وجهة، وما ثم إلا الاعتقادات.
فالكل مصيب، وكل مصيب مأجور وكل مأجور سعيد وكل سعيد مرضي عنه وإن شقي زمانا ما في الدار الآخرة.)

قال رضي الله عنه: (ثم إن العبد الكامل) في المعرفة الإلهية (مع علمه بهذا) الأمر المذكور في حق الله تعالى (يلزم في الصورة الظاهرة) التي له (والحال المقيدة) المتصف بها (التوجه بالصلاة) المفروضة وغير المفروضة (إلى شطر)، أي جهة (المسجد الحرام) حيث كان من الأرض (ويعتقد أن الله تعالی) سبحانه (في قبلته) وهو متوجه إليه تعالى (في حال صلاته) ووجهه مقابل له أينما توجه من حيث ظهوره تعالى فيما توجه إليه تعالی ذلك العبد لا من حيث بطونه تعالى بما لا يعلمه إلا هو.
وفي حديث الترمذي بإسناده إلى الحارث الأشعري قال فيه:
«وإن الله عز وجل أمركم بالصلاة، فإذا صلیتم فلا تلتفتوا فإن الله عز وجل ينصب وجهه لوجه عبده فى صلاته مالم يلتفت».رواه الحاكم و الترمذي ، الجامع الصحيح.
قال رضي الله عنه: (وهو) ، أي التوجه إلى شطر المسجد الحرام (بعض مراتب وجه الحق) تعالى المأخوذة
(من) قوله سبحانه : (" فأينما تولوا فثم وجه الله" فـ  "شطر المسجد  الحرام") بعض (منها)، أي من تلك الأينيات التي هي مراتب لوجه الحق تعالی (ففيه)، أي في شطر المسجد ("وجه الله") سبحانه .
قال رضي الله عنه: (ولكن لا تقل) يا أيها السالك (هو)، أي الحق تعالی (ههنا) في شطر المسجد الحرام (فقط) دون غيره من الجهات (بل قف) يا أيها السالك (عندما أدركت) وعرفت من أنه تعالى في كل وجهة من حيث ظاهريته كما مر غير مرة (والزم الأدب) الذي أمرت به على لسان الشارع (في استقبال شطر المسجد الحرام) حال صلاتك ولا تستقبل غير ذلك في الصلاة .

قال رضي الله عنه: (والزم الأدب) أيضا (في عدم حصر الوجه) الإلهي (في تلك الأينية الخاصة) شطر المسجد الحرام (بل هي)، أي تلك الأينية (من جملة أينيات ما تولى) من الناس (إليها) فهي وغيرها سواء في كون وجه الحق تعالی ظاهرة فيها من اسمه الظاهر لا فرق بينهما أصلا.

ولكن الخصوص شطر المسجد الحرام أمر تعبدي شرعي لا علة له غير مجرد الأمر الإلهي بالتوجه إلى ذلك، فللخصوص أدب وللعموم أدب، والكامل قائم بكلا الأدبين في ظاهره وباطنه علما وعملا.
قال رضي الله عنه: (فقد بان)، أي ظهر (لك) يا أيها السالك (عن الله) تعالى (أنه) ظاهر سبحانه من حيث تجلي اسمه الظاهر (في أبنية كل وجهة) لكل أحد، وهو سبحانه من حيث اسمه الباطن منزه عن كل شيء بل عن تنزيهنا له.

لأنه حكم منا على محكوم عليه مفهوم لنا، وكل محكوم عليه مفهوم لنا محدود محصور، وكل محدود محصور غیر مطلق وغير منزه عن القيود، فتنزيهنا تشبيه له، والتنزيه اللائق به ما هو عليه في نفسه مما لا يعلمه به عالم أصلا.
وإنما تعلق علم العالمين به من حيث تشبيهه وظهوره في الأينيات المذكورة، وتجليه لقلوب العارفين في كل صورة، ومن هذه الحضرة جاءت الشرائع وانتصبت الوسائل إليه والذرائع ووصف على ألسنة الأنبياء والمرسلين وتعلقت به قلوب السالكين والواصلين.

فمن عرف أنه مطلق في عين کونه مقيدة وصدق وآمن بأنه سبحانه منزه بالتنزيه الذي يعلمه هو سبحانه مما هو معجوز عنه في عين كونه مصورة محدودة .
فكان تعالی عنده جامعة بين النقيضين وموصوفة بالخلافين والضدين فهو العارف الكامل والعالم العامل ومن قيده بالإطلاق أو القيد فهو جاهل به تعالی وعلمه قاصر غير شامل.
قال رضي الله عنه: (وما ثم)، أي هناك في الأينيات المذكورة (إلا الاعتقادات) في الحق تعالی من كل معتقد من الناس (فالكل)، أي كل معتقد من الناس في الحق تعالى بأي اعتقاد اعتقده (مصيب) في اعتقاده ذلك.

لأن الحق تعالی تجلی عليه في ذلك الاعتقاد فخلقه له في بصيرته على حسب استعداده ، فكيف يكون أخطأ في اعتقاده ، وجميع الاعتقادات بهذه المثابة، لا ترجيح لأحدها على الآخر.
وما يتوهمه الجاهل من مطابقة اعتقاده للحق تعالى دون اعتقاد غيره، فإن كل ذي اعتقاد في اعتقاده كذلك، وليس اعتقاد من الاعتقادات مطابقة أصلا ولا مردودة أيضا على معتقده أصلا.
وإنما الكفر والضلال في حصر الحق تعالی من حيث ما هو عليه في ذلك الاعتقاد، ورؤية ذلك الاعتقاد لائقا بالحق تعالی مطابقا لنفس الأمر، خصوصا مع اعتقاد أن ذلك الاعتقاد مخلوق لله تعالى.
مثل الاعتقادات كلها تبارك الله تعالی في ذاته، وتقدس في صفاته وأسمائه عن ذلك علوا كبيرا.
قال رضي الله عنه: (وكل مصيب) من الناس في اعتقاده (مأجور) من الله تعالى على إصابته للحق (وكل مأجور) على إصابته للحق (سعيد وكل سعيد مرضي)، أي الله تعالی (عنه) راض (وإن شقی)، أي اتصف بالشقاوة (زمان) طويلا أو قصيرة (في الدار الآخرة)، وإن لقبه الله تعالى في الدنيا بلقب الكافر والفاسق أو غير ذلك، فإنه تعالى لقب غيره بلقب المؤمن أو التقى أو الصالح من غير علة ولا سبب ولكن بمجرد الحكم الربانی.
والحكمة المقتضية لذلك ولا غرض له تعالى أصلا مع أن الكل مخلوقون نه تعالى ، وهو الذي يخلق لهم ما يفعلونه بحوله سبحانه وقوته في ظواهرهم وبواطنهم، وهو تعالی متجلي على الكل في صور اعتقاداتهم كلهم.
وهو عالم سبحانه بأن جميع اعتقاداتهم غير مطابقة لما هو عليه سبحانه في حضرة اسمه الباطن، وإنما هي كلها مطابقة له تعالى من تجلی اسمه الظاهر.
وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب الإقامة الحجج في الآخرة ولتمييز القبضتين : قبضة السعادة وقبضة الشقاوة.
وأعد لهم في الآخرة جزاء وفاقا على حسب أعمالهم المنسوبة إليهم.
ومرجع الكل إلى الرحمة العامة التي هم فيها في الدنيا والآخرة مؤمنهم وكافرهم، وأهل الجنة في الجنة خالدون، وأهل النار في النار خالدون.
وما سماه نعيمة في حق هؤلاء لا يزول عنهم أبدا، وما سماه عذاب أليمة في حق هؤلاء لا يزول عنهم أبدا.
والشريعة حق والحقيقة حق ولكن الجاهل في عمر وإن كان إلى العلم انتمى، وشقاوة أهل الشقاوة في الآخرة نظیر شقاوة أهل السعادة في الدنيا وإن لم يسم ذلك شقاوة في حق السعداء ولا عذابا لهم لأجل الحكم الإلهي و التلقيب الرباني بل يسمی ابتلاء قال عليه الصلاة والسلام «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل».

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقد مرض وتألم أهل العناية- مع علمنا بأنهم سعداء أهل حق- في الحياة الدنيا. فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى جهنم، و مع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاص بهم، إما بفقد ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم، أو يكون نعيم مستقل زائد كنعيم أهل الجنان في الجنان و الله أعلم .)

قال رضي الله عنه : (فقد مرض وتألم) في الدنيا بأنواع الأمراض والأوجاع والآلام (أهل العناية) من الخاصة والعامة (مع علمنا) قطعة (بأنهم سعداء أهل حق في الحياة الدنيا) وكثير من الناس جرى عليهم لسان الشرع بالتلقيب بالكافرين والضالين المضلين والفاسقين والمبتدعين.
ثم انتسخ ذلك عنهم وزال حكمه بخلق الله فيهم الإيمان والهداية ، فلقبوا بالمؤمنين والصالحين والأولياء المقربين، وبعد أن توجه عليهم غضب الله تعالی وکانوا من أهل السخط والعقوبة زال ذلك عنهم.
وتبدل الغضب بالرضوان والمثوبة، وبالعكس من ذلك أيضا ولم يلزم منه فساد في ملك الله تعالى ولا تعطيل اسم من أسمائه ولا صفة من صفاته، لأن صفاته تعالى وأسماءه ثابتة له تعالى من الأزل إلى الأبد ولا توقف لها على ظهور أثر أصلا، بل الآثار موقوفة عليها لا هي موقوفة على الآثار، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

والمخلوقات كلها متغيرة متبدلة في كل حين كما هو المشاهد في الدنيا ، وكذلك في الآخرة وإن كانت الآخرة متسر مدة عليهم وأهل الجنة والنار باقون على الأبد.
ولكن تغيير أحوالهم في ظواهرهم وبواطنهم كائنة لا محالة ، فإذا أدركت الرحمة جميع أهل الآخرة وعمتهم مع بقاء أحوالهم فيها على ما هي عليه وتبدلها من حيث الأذواق باطنا فلا بعد في ذلك والنصوص بسبق الرحمة والغضب واردة.
والإشارة القرآنية على ذلك متعاضدة .
قال رضي الله عنه : (فمن) بعض (عباد الله) تعالى (من تدركهم تلك الآلام) والبلايا التي أدركت أهل السعادة في الحياة الدنيا تدركهم (في الحياة الأخرى في دار تسمى جهنم ومع هذا)، أي إدراك الأمر لهم في الحياة الأخرى (لا يقطع أحد من أهل العلم) بالله تعالى (الذين كشفوا الأمر) الإلهي في جميع العالمين (على ما هو عليه) في نفسه.

(أنه)، أي الشأن (لا يكون لهم)، أي لأهل الشقاء في الآخرة (في تلك الدار) التي تسمى جهنم (نعیم) روحاني ذوقي (خاص بهم) ليس مما يعهد في الحس والعقل إما بفقد ألم العذاب الذي (كانوا يجدونه) في نار جهنم مع بقاء صورة العذاب عليهم إلى الأبد (فارتفع عنهم) وجعه وبقيت عينه على ما هو عليه .
قال رضي الله عنه : (فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم) الذي كانوا يجدونه أولا مدة يوم القيامة حتى ينقضي كما انقضى يوم الدنيا، ويبدأ يوم الخلود كما قال سبحانه :
"ذلك يوم الخلود " [ق: 34] .
فيوم الخلود بعد أن ييأس أهل النار من الخروج منها وينادوا : "ونادوا يامالك ليقض علينا ربك" ، وهم فيها يصطرخون وأن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه : "قال إنكم ماكثون " [الزخرف: 77].
فإذا ابتدأ يوم الخلود أدركوا هذا النعيم الروحاني الذي كانوا بعضهم من طوائف أهل النار مؤمنین به في الدنيا ولاحظ لهم من النعيم الجسماني الذي كذب به من كذبه منهم.
قال رضي الله عنه : (أو يكون) لهم في النار (نعیم مستقل) غير الراحة وزوال الألم (زائد) على الراحة وزوال الألم المذكور (کنعيم أهل الجنان في الجنان).
وقد اختلف أهل الله تعالى في هذه المسألة وكلهم مجمعون بطريق الكشف والإشارة اللائحة من النصوص العقلية على أن المآل والمرجع إلى الرحمة وسبقها للغضب وتأخر الغضب عنها (والله أعلم ) بما هو الأمر عليه في نفسه وهو الحكيم الخبير .

تم فص الحكمة الهودية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالسبت أغسطس 17, 2019 5:50 pm

11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الفص الصالحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : ( 
من الآيات آيات الركائب ... و ذلك لاختلاف في المذاهب
فمنهم قائمون بها بحق ... و منهم قاطعون بها السباسب
فأما القائمون فأهل عين ... و أما القاطعون هم الجنائب
و كل منهم يأتيه منه ...   فتوح غيوبه من كل جانب )
هذا فص الحكمة الصالحية ذكره بعد حكمة هود عليه السلام لتتميم المقابلة بين أهل السعادة والشقاوة في الظهور عن الفردية بالتثليث.
وصدور الكل عن علم الله تعالى الحاكم عليهم بهم (فص حكمة فتوحية) منسوبة إلى الفتوح وهو الفيض الإلهي على القلوب بطريق الإلهام (في كلمة صالحية) إنما اختصت حكمة صالح عليه السلام بكونها فتوحا، لاشتمالها على إتيان فتوح الغيب من كل حقيقة كونية إلى نفسها بتوجه الأمر الإلهي عليها على طبق العلم الأقدس. 
و (من) بعض (الآيات) التي لله تعالى في الآفاق وفي الأنفس (آیات الركائب)، أي النوق الرواحل التي للقوم الراكبين، وهم المحمولون بها على متن القدرة الأزلية عن كشف منهم وشهود.
وقال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم لهم في البر والبحر ) [الإسراء: 70]، وتلك الركائب هي الحاملة لهم بهم لأنها عينهم إذ هي الآيات التي في الأنفس .
(وذلك)، أي كون الآيات منها آيات الركائب، أي الآيات الحاملة من العدم إلى الوجود مع أن الآيات كلها كذلك سواء كانت في الآفاق أو في الأنفس.
فإن التي في الآفاق هي في الأنفس أيضا فإن للآفاق أنفسا كما أن للأنفس آفاقا .
ولكن كل نفس يقال لما عداها آفاقا بالنسبة إليها، وهي بالنسبة إلى غيرها من الآفاق أيضا.
فكل الآيات آیات آفاق، وكل الآيات آيات أنفس، غير أن آيات الأنفس حاملات لحقيقة واحدة ، فكانوا ركائب بهذا السبب.
وإنما كان الأمر كذلك (لاختلاف في المذاهب) التي هي الطرق التي تسلكها الحقائق الإلهية في أعيان الممكنات العدمية.
(فمنهم)، أي من أهل تلك الآيات التي هي آيات الركائب (قوم قائمون بها)، أي بآيات الركائب (بحق) لا بنفس شاهدون مشهودون (ومنهم)، أي من أهلها قوم آخرون (قاطعون بها)، أي بآيات الركائب (السباسب) جمع سبسب وهي البرية الواسعة والمراد الطريق، أي قاطعون بها الطرق على السالكين، وهم الذين قاموا بها بأنفسهم لا بالحق سبحانه .
فأما القوم (القائمون بها) بالحق لا بالنفس (فـ) إنهم (أهل) شهود (عين)، أي أهل شهود الوجود المطلق الذي هو كل وجود مقيد فهو عينهم .
(وإن) القوم القاطعين بها السباسب، أي الطرق (هم الجنائب) جمع جنيب وهي التي تقاد وليس عليها راكب بعدم ظهور الحق لهم سبحانه في آيات نفوسهم.
 فهم الحاملون للأمانات العلمية والأسرار الإلهية لمن يشهدها منهم، وهم لا يعلمون ذلك لقيامهم بأنفسهم واشتغالهم بأحوالهم الكونية دون التجليات الإلهية، وهم حملة العلم لا أهل العلم. 
قال تعالى : "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا"  [الجمعة: 5].
(فكل منهم)، أي كل واحد من الطائفتين (يأتيه منه)، أي من قبل نفسه (فتوح)، أي فيض (غيوبه)، أي غيوب ذاته (من كل جانب) من جوانب الأسماء الإلهية والحضرات الأمرية الربانية .

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (  اعلم وفقك الله أن الأمر مبني في نفسه على الفردية و لها التثليث، فهي من الثلاثة فصاعدا. فالثلاثة أول الأفراد.
و عن هذه الحضرة الإلهية وجد العالم ، فقال تعالى «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون» و هذه ذات ذات إرادة و قول.
فلولا هذه الذات و إرادتها و هي نسبة التوجه بالتخصيص لتكوين أمر ما، ثم لو لا قوله عند هذا التوجه كن لذلك الشيء ما كان ذلك الشيء.
ثم ظهرت الفردية الثلاثية أيضا في ذلك الشيء، و بها من جهته صح تكوينه و اتصافه بالوجود، و هي شيئيته و سماعه و امتثاله أمر مكونه بالإيجاد.
فقابل ثلاثة بثلاثة:
ذاته الثابتة في حال عدمها في موازنة ذات موجدها، وسماعه في موازنة إرادة موجده،
وقبوله بالامتثال لما أمر به من التكوين في موازنة قوله كن، فكان هو فنسب التكوين إليه فلو لا أنه من- قوته التكوين من نفسه عند هذا القول ما تكون.)
 (اعلم) يا أيها السالك (وفقك الله) تعالى لمرضاته و للتحقق بأسمائه وصفاته في غيب ذاته (أن الأمر) الإلهي الذي هو قائم به كل شيء محسوس أو معقول (مبني في نفسه) من حيث هو أمر الله تعالى (على الفردية) كما قال سبحانه : "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " [القمر: 50]، ويستحيل تركبه ، وإلا لكان عرض يعرض فيكون حادثا وهو قدیم بالإجماع .
(ولها)، أي للفردية من حيث ظهورها وبطونها واقتضاؤها لآمر ومأمور (التثليث) فإن الفرد من حيث هو في نفسه غني عن الظهور والبطون، وله من حيث الظهور شأن، ومن حيث البطون شأن، فالواحد ثلاثة .
(فهي)، أي الفردية كما ذكرنا (من الثلاثة فصاعدا) إلى الخمسة إلى السبعة إلى التسعة إلى الأحد عشر وهكذا .
(فالثلاثة أول الأفراد) العددية (وعن هذه الحضرة الإلهية) الآمرية التي هي أول مراتب الأفراد العددية (وجد العالم) بفتح اللام أي جميع المخلوقات المحسوسة والمعقولة .
(فقال) الله (تعالى : "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" [النحل: 40] .فهذه ذات) 
وهي الأمر الإلهي من حيث هو في نفسه غني عن الظهور والبطون (وإرادة) وهي عين الأمر الإلهي من حيث البطون (وقول) وهو الأمر الإلهي من حيث الظهور .
فلولا هذه الذات الإلهية (وإرادتها وهي)، أي تلك الإرادة (نسبة التوجه)، أي النسبة التي هي التوجه (بالتخصيص) على طبق ما كشفه العلم الإلهي عن أعيان الممكنات العدمية .
(لتكوین)، أي نسبة الإيجاد إلى (أمر ما) من كل أمر محسوس أو معقول (ثم لولا قوله) سبحانه (عند هذا التوجه) الإرادي المذكور (کن)، أي أوجد بصيغة الأمر بالوجود (لذلك الشيء) المراد (ما كان ذلك الشيء) ولا وجد أصلا (ثم ظهرت الفردية الثلاثية أيضا في ذلك الشيء) المتكون عن الأمر الإلهي المذكور.
(وبها)، أي بسبب تلك الفردية المذكورة (من جهته)، أي جهة ذلك الشيء في نفسه (صح تكوينه) لنفسه عند نفسه (واتصافه بالوجود وهی)، أي الفردية الثلاثة التي ظهرت في الشيء أيضا (شيئية)، أي كونه شيئا أي مشيوء بمشيئة غيره وهو الحق تعالى.
(وسماعه) خطاب الله تعالی له بكن (وامتثاله أمر مكونه) سبحانه (بالإيجاد
فقابل) ذلك الشيء المتكون عن أمر الله تعالى (ثلاثة) منه (بثلاثة) من أمر الله تعالى (ذاته) وهي شيئيته (الثابتة)، أي غير المنفية لا الموجودة (في حال عدمها) الأصلي (في موازنة)، أي مقابلة (ذات موجدها)، أي موجد ذلك الشيء (وسماعه) الخطاب الأمر بالتكوين (في موازنة)، أي مقابلة (إرادة موجده) سبحانه (وقبوله بالامتثال لما أمره به) موجده تعالى (من التكوين في موازنة قوله تعالی) له (کن فکان).
أي وجد (هو)، أي ذلك الشيء (فنسب التكوین)، أي إيجاد نفسه (إليه فلولا أنه)، أي ذلك الشيء (في قوته التكوين من نفسه) لنفسه (عند هذا القول) له وهو ثابت غیر منفي معدوم غیر موجود (ما تكون) ذلك الشيء.

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (  فما أوجد هذا الشيء بعد أن لم يكن عند الأمر بالتكوين إلا نفسه.
فأثبت الحق تعالى أن التكوين للشيء نفسه لا للحق، والذي للحق فيه أمره خاصة.
وكذلك أخبر عن نفسه في قوله «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون» فنسب التكوين لنفس الشيء عن أمر الله وهو الصادق في قوله.
وهذا هو المعقول في نفس الأمر.
كما يقول الآمر الذي يخاف فلا يعصى لعبده قم فيقوم العبد امتثالا لأمر سيده.
فليس للسيد في قيام هذا العبد سوى أمره له بالقيام، والقيام من فعل العبد لا من فعل السيد.)

(فما أوجد هذا الشيء) في نفسه (بعد أن لم يكن عند الأمر) له (بالتكوين) من الحق تعالى (إلا نفسه)، أي نفس ذلك الشيء بالاستعداد الذي فيه لقبول التكوين وذلك الاستعداد غیر مجعول في ذلك الشيء بل هو عين ذات ذلك الشيء.
وهو معدوم ممکن بالعدم الأصلي، والعدم الأصلي غير مجعول في كونه عدمة أصلية ، لأن الجعل إفاضة الوجود على الممكن المعدوم من طرف الموجود الحق سبحانه .
(فأثبت الحق تعالى أن التكوين) الحاصل لكل شيء إنما هو منسوب (للشيء نفسه لا) منسوب (للحق) تعالى (و) إنما (الذي للحق) تعالى (فيه)، أي في تكوين ذلك الشيء (أمره)، أي أمر الحق تعالی لذلك الشيء بالتكوين (خاصة ولذا)، أي ولأجل هذا (أخبر) الله تعالى عن نفسه سبحانه (في قوله : "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" [النحل: 40] فنسب التكوين لنفس الشيء عن) امتثال
(أمر الله) تعالى (وهو)، أي الله تعالى (الصادق في قوله) ذلك . 
قال تعالى : "ومن أصدق من الله قيلا" [النساء: 122]، أي قولا.
(وهذا) المذكور (هو المعقول)، أي الذي يدرك بالعقول النورانية (في نفس الأمر) عند أهل الكشف (كما يقول الأمر)، أي المولى (الذي يخاف) بالبناء للمفعول أيضا ، أي يخافه غيره (ولا يعصى) بالبناء للمفعول أيضا، فلا يعصيه من خافه (لعبده قم) بصيغة الأمر له بالقيام (فيقوم) ذلك (العبد امتثالا ) منه (لأمر سیده).
 أي مولاه (فليس للسيد)، أي المولى (في) صدور (قیام هذا العبد) من العبد (سوى أمره له بالقيام) فقط (والقيام من فعل) ذلك (العبد لا من فعل السيد)، أي المولى، وإذا كان الأمر كذلك فلا يرد عليه أن التكوين حينئذ من فعل غير الله تعالى، لأن العبد في

المثال المذكور ليس مأمورا بإيجاد نفسه وإنما هو مأمور بفعل آخر وهو حين الأمر له موجود بوجود يساوي فيه مولاه الذي أمره.
وأما في مسألة الأمر الإلهي للكائنات العدمية بالتكوين، فإنه أمر بإيجاد النفس صادر من موجود حق إلى معدوم صرف .
فامتثاله للأمر وظهور تكوينه لنفسه عن نفسه بالأمر الإلهي كناية عن قبول تأثير فعل الله تعالى فيه، نظير الفعل المطاوع في اللغة العربية كقولهم: كسرت الإناء فانكسر.
فقوله : (کن) مثل قولهم: كسرت الإناء 
وقوله تعالى: "فيكون"، مثل قولهم : فانكسر، فإنه يسمى فعلا صادرة من الإناء مع أن الإناء مفعول لا فاعل، فهو مفعول من وجه وفاعل من وجه، وليس للكاسر في الإناء غير الكسر .
وأما الانكسار فهو فعل الإناء لا فعل الكاسر.
ولهذا إذا كان الإناء من حجر صلب ووجد الكسر، أي صورة الفعل من الكاسر ولم يوجد الانكسار كان الكاسر فاعلا .
 ولم يكن الإناء فاعلا لعدم قبوله وعدم استعداده لأثر فعل الكاسر فلم يصدر عنه فعل.
وفي حقيقة الأمر جميع الأفعال الصادرة من غير الحق تعالی من تكوين النفس وتحريكها وتسكينها في الخير والشر ظاهرا أو باطنا إنما هي انفعالات عن فعل الحق تعالى والانفعالات تسمى أفعالا مطاوعة.
 فيقال : كون الله تعالى الأشياء بأمره فتكونت هي في نفسها بنفسها وحركها وسكنها بأمره في الخير والشر في ظاهرها أو باطنها فتحركت وسكنت هي في نفسها بنفسها.
فلا يكون لله تعالى في ذلك غير مجرد الأمر لها المسمی فعلا من وجه وقولا من وجه فمن حيث إنه أثر فيها حملها وألجأها واضطرها إلى قبول مقتضاه على حسب استعدادها يسمی فعلا بطريق القهر لها كما قال تعالى:
"هو القاهر فوق عباده" [الأنعام: 18] والكل عباده . 
قال سبحانه : "إن الله من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا* لقد أحصاهم وعدهم عدا " [مريم: 93 - 94].
ولأنه فعل أمر أيضا فإنهم سموا الأمر فعلا، لأنه يفعل الامتثال في القابل له، ومن حيث إنه اقتضى فعلا آخر يصدر من الأشياء مطاوعة له على حسب مراده يسمی قوة، فكان نظير قول المولى الذي يخاف فلا يعصي لعبده قم.
فإنه يسمی فعلا من أنه فعل أمر، وقد ألجأ العبد واضطره إلى القبول، فكأنما كان القبول منفعة عنه ، وتسميته قوة على ظاهره، والله بكل شيء عليم .

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (  فقام أصل التكوين على التثليث أي من الثلاثة من الجانبين، من جانب الحق ومن جانب الخلق. ثم سرى ذلك في إيجاد المعاني بالأدلة:
فلا بد من الدليل أن يكون مركبا من ثلاثة على نظام مخصوص وشرط مخصوص، وحينئذ ينتج لا بد من ذلك، وهو  أن يركب الناظر دليله من مقدمتين كل مقدمة تحوي على مفردين فتكون أربعة واحد من هذه الأربعة يتكرر في المقدمتين لتربط إحداهما بالأخرى كالنكاح فتكون ثلاثة لا غير لتكرار الواحد فيهما. فيكون المطلوب )

(فقام أصل التكوین) للأشياء (على التثليث أي) لا يحصل التكوين بشيء مطلقة إلا (من الثلاثة من الجانبين من جانب الحق) الذي هو المكون بكسر الواو
(ومن جانب الخلق) الذي هو المكون بفتح الواو (ثم سرى ذلك)، أي التثليث (في إيجاد المعاني) المعقولة (بالأدلة )العقلية (فلا بد في) صحة (الدليل) العقلى (أن يكون مركبة من ثلاثة) أشياء (على نظام مخصوص) في التقديم والتأخير (وشرط مخصوص) كما ذكره علماء الميزان في مبحث القياس (وحينئذ)، أي إذا كان الدليل كذلك (ينتج) النتيجة المقصودة (لا بد من ذلك) الأمر المذكور .

(وهو)، أي النظام المخصوص (أن يركب الناظر)، أي المستدل بنظر عقله (دلیله) الذي يقيمه (من مقدمتین) تسمى إحداهما صغرى والأخرى كبرى (كل مقدمة) منها (تحتوي على مفردین)، لأنها جملة مفيدة.
فلا بد من تركيبها وأدني التركيب من كلمتين (فیکون) مجموع المقدمتین کلمات (أربعة) ویکون (واحد من هذه الكلمات الأربعة يتكرر)، أي هو لفظ واحد ولكنه يعد لفظين لذكره (في المقدمتين) فيذكر في المقدمة الأولى ثم يعاد ذكره أيضا في المقدمة الثانية (ليربط إحداهما)، أي إحدى المقدمتين (بالأخرى كالنکاح) بين الرجل والمرأة، فإن أحد أجزاء الرجل لا بد أن يخالط أحد أجزاء المرأة حتى يبقى كأنه جزء مکرر في الجانبين، فهو جزء من الرجل أصالة وجزء من المرأة بالعرض، وهو كونه مولجا فيها .
(فيكون ثلاثة أشياء لا غير التكرار الواحد فيهما)، أي في المقدمتين (فیکون)، أي فيوجد (المطلوب) الذي هو النتيجة حينئذ کالولد الذي يكون بالنكاح من الزوجين .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالسبت أغسطس 17, 2019 5:51 pm

11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي


كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
الفص الصالحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (  إذا وقع هذا الترتيب على الوجه المخصوص وهو ربط إحدى المقدمتين بالأخرى بتكرار ذلك الواحد المفرد الذي به يصح التثليث.
والشرط المخصوص أن يكون الحكم أعم من العلة أو مساويا لها، وحينئذ يصدق، وإن لم يكن كذلك فإنه ينتج نتيجة غير صادقة.
وهذا موجود في العالم مثل إضافة الأفعال إلى العبد معراة عن نسبتها إلى الله أو إضافة التكوين الذي نحن بصدده إلى الله مطلقا.
والحق ما أضافه الا إلى الشيء الذي قيل له كن.
ومثاله إذا أردنا أن ندل أن وجود العالم عن سبب فنقول كل حادث فله سبب فمعنا الحادث والسبب.
ثم نقول في المقدمة الأخرى والعالم حادث فتكرر الحادث في المقدمتين.
والثالث قولنا العالم، فأنتج أن العالم له سبب، )
(إذا وقع هذا الترتيب) بين المقدمتين (على الوجه المخصوص وهو)، أي ذلك الوجه المخصوص (ربط إحدى المقدمتين بالأخرى بتكرار ذلك الواحد المفرد) في المقدمة الأولى والثانية (الذي به)، أي بسببه (صح التثليث)، أي صار الإنسان ثلاثة.
(والشرط المخصوص) في المقدمة الأولى هو (أن يكون الحكم) المطلوب إثباته بالدليل لتحصيل النتيجة على طبقه (أعم من العلة) المثبتة له (أو مساوية)، أي للعلة (وحينئذ)، أي حيث يكون كذلك (يصدق)، أي ذلك الحكم وتكون نتيجة صادقة.
(وإن لم يكن كذلك) بأن كان الحكم أخص من العلة (فإنه)، أي ذلك الدليل (ينتج نتيجة غير صادقة وهذا)، أي عدم كون الحكم أعم من العلة أو مساويا لها بأن كان أخص منها .
(موجود في العالم) عند الجاهل (مثل إضافة الأفعال) الصادرة من العبد إلى العبد نفسه (معراة)، أي مجردة (عن نسبتها)، أي الأفعال (إلى الله) تعالى.
فإن هذا الحكم خاص بالنسبة إلى علته المثبتة له، وهي السبب الذي سيذكره في المثال (أو إضافة التكوين الذي نحن بصدده إلى الله تعالی مطلقا)، أي سواء كان تکوین ذوات العباد أو أفعالهم (والحق) تعالی (ما أضافه)، أي التكوين مطلقا (إلا إلى الشيء الذي قيل له كن) فيكون.
فإن هذا الحكم خاص أيضا بالنسبة إلى علة وهي السبب أيضا، فهاتان الإضافتان تقتضيان خصوص الحكم بالنسبة إلى علته حيث كان المحكوم عليه خاصة وهو العبد في الأولى مع أن الخالق لأفعاله هو الله تعالى وهو الكاسب لها، وهو الله تعالى في الثانية مع أن التكوين انفعال منسوب إلى العبد، وإن كان الله تعالی فاعلا .

لذلك بطريق الأمر للعبدية، وخصوص الحكم في مثل هذا يقتضي كذب النتيجة لأنها تحصل على طبقة.
كما أن الحكم إذا كان وهميا فإن النتيجة تكون وهمية كذلك.
فإذا قلت للصورة المنقوشة في الجدار على صورة فرس، هذه فرس وكل فرس صهال فالنتيجة قولك: هذه صهال وهو كذب .
(ومثاله)، أي مثال الدليل العقلي المذكور (إذا أردنا أن ندل على وجود هذا العالم عن سبب) إقتضي وجوده (فنقول) في بيان ذلك (كل حادث) سواء كان أفعال العباد أو ذواتهم (فله سبب) يقتضي وجوده .
(فعني) في هذه المقدمة شيئان (الحادث والسبب، ثم نقول في المقدمة الأخرى والعالم حادث فتكرر الحادث) مرتين (في المقدمتين) ولا نعده اثنين بل نعده واحدا .
(والثالث قولنا) في المقدمة الثانية (العالم) فهذه ثلاثة أشياء : 
الحادث والسبب والعالم بإسقاط المكرر وهو الحادث في المقدمة الثانية
 (فأنتج هذا الدليل أن العالم له سبب) يقتضي وجوده .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (  وظهر في النتيجة ما ذكر في المقدمة الواحدة وهو السبب.
فالوجه الخاص هو تكرار الحادث، والشرط الخاص عموم العلة لأن العلة في وجود الحادث السبب، وهو عام في حدوث العالم عن الله أعني الحكم.
فنحكم على كل حادث أن له سببا سواء كان ذلك السبب مساويا للحكم أو يكون الحكم أعم منه فيدخل تحت حكمه، فتصدق النتيجة.
فهذا أيضا قد ظهر حكم التثليث في إيجاد المعاني التي تقتنص بالأدلة.
فأصل الكون التثليث، ولهذا كانت حكمة صالح عليه السلام التي أظهر الله في تأخير أخذ قومه ثلاثة أيام وعدا غير مكذوب، فأنتج صدقا وهو الصحيحة التي أهلكهم الله بها فأصبحوا في ديارهم جاثمين.)

(وظهر في) هذه النتيجة ما ذكر في المقدمة الواحدة، وهي الأولى (و) ذلك (هو السبب فالوجه الخاص) في هاتين المقدمتين (هو تكرار) لفظ (الحادث) مرتين (والشرط الخاص) في نتيجة هذا الدليل (هو عموم العلة) للحكم فيه (لأن العلة) في هذا الدليل (في وجود الحادث السبب وهو)، أي السبب (عام في حدوث العالم عن) أمر (الله) تعالى (أعني الحكم) في النتيجة.
فإن الحكم فيها وهو حدوث العالم عن أمر الله تعالى خاص بالنسبة إلى علته، وهو كل حادث فله سبب، فإنه أمر عام (فنحكم بهذا) الأمر العام (على كل حادث أن له سببة سواء كان ذلك السبب) وهو العلة في هذا الحكم (مساويا للحكم) المذكور هنا (أو أن يكون الحكم المذكور أعم منه)، أي من السبب.
والحاصل أن قوله : كل حادث فله سبب هو العلة وهي عامة في جميع الحوادث وهو السبب في حدوث العالم.
وقوله : العالم حادث هو الحكم، فقد يراد بالحادث الحادث الذي ذكر في العلة وهو كل حادث فله سبب، فيكون السبب مساوية للحكم بأن العالم حادث، وقد يراد بالحادث ما هو أعم من السبب المذكور.
 فيكون قوله : العالم حادث شاملا لكل سبب من أسباب العالم أيضا
(فيدخل السبب) حينئذ (تحت حكمه) وهو الحكم بالحدوث لكونه من العالم
فتصدق النتيجة عن هذا الدليل حينئذ .
وهي قول إن العالم له سبب فيبقى السبب المطلق حينئذ خارجا عن العالم الحادث وهو أمر الله تعالى .
وأعيان العالم الممكنة الثابتة في العدم الأصلي من غير وجود.
 فلولا أمر الله تعالى ما تكون من العالم شيء أصلا، 
وكذلك لولا أعيان العالم الممكنة الثابتة في العدم الأصلي ما تكون من العالم شيء البتة.سواء كان ذلك أفعال العباد أو ذواتهم،
 فلا يصح نسبة أفعال العباد إلى العباد فقط ولا يصح نسبة التكوين إلى الله تعالی فقط.
فإن السبب مجموع الشيئين، وهما أمر الله تعالى والأعيان الثابتة.
 فالفعل من الأمر وقبوله وهو الانفعال من الأعيان الثابتة؛ ولهذا نسبت الأفعال إلى العباد بأمره تعالى كما قال تعالى: "وهم بأمره يعملون" [الأنبياء: 27].
"وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها " [هود: 41].  فنسب الإجراء والإرساء إليها باسم الله . 
وقال ابن مريم عليه السلام: "فأنفخ فيه فيكون طيرا يإين الله" [آل عمران: 49]، وهكذا الوارد في نصوص الكتاب والسنة .
(فلهذا أيضا قد ظهر) لك (حكم التثليث في إيجاد المعاني) العقلية (التي تقتنص)، أي تصطاد وتؤخذ (بالأدلة) العقلية عند أهل النظر كما ذكر (فأصل الكون).
 أي هذا العالم الحادث (التثليث) فما ظهر عن فاعله إلا عن التثليث ما ظهر هو فاعلا إلا بالتثليث .
ولهذا كانت حكمة صالح عليه السلام التي أظهر الله تعالى شأنها (في تأخير أخذ)، أي إهلاك (قومه) لما كذبوه في الحق الذي جاء به وكفروا ولم يؤمنوا (ثلاثة أيام) كما قال تعالى : ("وعد غير مكذوب" [هود: 65] فأنتج) هذا التثليث الواقع في الأيام (صدقا وهو الصيحة التي أهلكهم) الله تعالی (بها فأصبحوا في دارهم)، أي قطرهم وأرضهم التي كانوا فيها (جاثمين)، أي منطرحين مضطربين من ألم العذاب الواقع بهم .

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (  فأول يوم من الثلاثة اصفرت وجوه القوم، وفي الثاني احمرت وفي الثالث اسودت.
فلما كملت الثلاثة صح الاستعداد فظهر كون الفساد فيهم فسمى ذلك الظهور هلاكا، فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة إسفار وجوه السعداء في قوله تعالى «وجوه يومئذ مسفرة» من السفور وهو الظهور، كما كان الاصفرار في أول يوم ظهور علامة الشقاء في قوم صالح.
ثم جاء في موازنة  لاحمرار القائم بهم قوله تعالى في السعداء «ضاحكة»، فإن الضحك من الأسباب المولدة لاحمرار الوجوه، فهي في السعداء احمرار الوجنات.
ثم جعل في موازنة تغير بشرة الأشقياء بالسواد قوله تعالى «مستبشرة» وهو ما أثره السرور في بشرتهم كما أثر السواد في بشرة الأشقياء.
ولهذا قال في الفريقين بالبشرى، أي يقول لهم قولا يؤثر في بشرتهم فيعدل بها إلى لون لم تكن البشرة تتصف به قبل هذا.
فقال في حق السعداء «يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان» وقال في حق الأشقياء «فبشرهم بعذاب أليم» .
فأثر في بشرة كل طائفة ما حصل في نفوسهم من أثر هذا الكلام.
فما ظهر عليهم في ظاهرهم إلا حكم ما استقر في بواطنهم من المفهوم.
فما أثر فيهم سواهم كما لم يكن التكوين إلا منهم. فلله الحجة البالغة.)

(فأول يوم من) الأيام الثلاثة (اصفرت وجوه القوم وفي) اليوم الثاني احمرت وجوههم (وفي) اليوم (الثالث اسودت) وجوههم وكان صالح عليه السلام أعلمهم بذلك وأنذرهم (فلما كملت) الأيام (الثلاثة صح) فيهم (الاستعداد) للهلاك ووقوع العذاب (فظهر كون)، أي تكوين (الفساد)، أي فساد أجسامهم وانحلال ترکیبها (فيهم فسمي ذلك الظهور) للفساد فيهم.
(هلاك فكان اصفرار وجوه الأشياء في موازنة)، أي مقابلة (إسفار)، أي انکشاف (وجوه السعداء) المشار إليهم (في قوله تعالى: "وجوه يومئذ")، أي في يوم القيامة ("مسفرة")، أي ظاهرة غير محجوبة عن الحق تعالی (من السفور وهو الظهور) والانجلاء وهو ظهور علامة السعادة (كما كان الاصفرار في أول يوم) من الأيام الثلاثة
(ظهور علامة الشقاء في قوم صالح ) عليه السلام (ثم جاء في موازنة)، أي مقابلة (الاحمرار) في ثاني يوم (القائم بهم)، أي بقوم صالح عليه السلام.
(قوله) : فاعل جاء أي الله (تعالى في) وجوه (السعداء ضاحكة، فإن الضحك من الأسباب المولدة الاحمرار الوجوه فهي) الحمرة المفهومة من الكلام (في) حق وجوه (السعداء احمرار الوجنات) وهو احمرار الحسن لا الاحمرار القبيح الذي في وجوه الأشقياء.
(ثم جعل) بالبناء للمفعول (في موازنة)، أي مقابلة (تغيير بشرة الأشقياء بالسواد) في ثالث يوم (قوله تعالی) نائب الفاعل في حق وجوه السعداء (مستبشرة وهو) الاستبشار (ما أثره السرور في بشرتهم)، أي ظاهر جلد وجوههم (ولهذا)، أي الكون التأثير حاصلا بالسرور وبالحزن في بشرة الفريقين.
(قال) تعالى (في) حق (الفريقين) السعداء والأشقياء (بالبشرى أي يقول) تعالى (لهم)، أي الفريقين (قوة يؤثر في بشرتهم فيعدل بها)، أي ببشرتهم (إلى لون) آخر (لم تكن) تلك (البشرة تتصف به)، أي بذلك اللون (قبل هذا) اللون (فقال الله تعالى في حق السعداء يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان، وقال في حق الأشقياء "قبشرهم بعذاب أليم") [الانشقاق : 24]، أي موجع (فأثر في بشرة كل طائفة) من الفريقين (ما حصل في نفوسهم من أثر هذا الكلام) وهو الإخبار المقتضي للسرور أو للحزن (فما ظهر عليهم في ظواهرهم إلا حكم ما استقر) عندهم (في بواطنهم من) المعنى (المفهوم) الهم (فما أثر فيهم سواهم) حيث بواطنهم أثرت في ظواهرهم (كما لم یکن التكوين)، أي تكوينهم بالاتصاف بالوجود بعد العدم (إلا منهم) حيث أمرهم الله تعالى بذلك فامتثلوا أمره وانفعلوا له كما قدمناه (فلله) سبحانه عليهم ("الحجة البالغة ") [الأنعام: 149]، فليس لأحد حجة على الله أصلا.
قال تعالى: ("ولا يظلم ربك أحدا" [الكهف: 49]، وقال : "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" [النحل: 811].  

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (  فمن فهم هذه الحكمة وقررها في نفسه وجعلها مشهودة له أراح نفسه من التعلق بغيره وعلم أنه لا يؤتى عليه بخير ولا بشر إلا منه.
وأعني بالخير ما يوافق غرضه ويلائم طبعه ومزاجه، وأعني بالشر ما لا يوافق غرضه ولا يلائم طبعه ولا مزاجه.
ويقيم صاحب هذا الشهود معاذير الموجودات كلها عنهم وإن لم يعتذروا، ويعلم أنه منه كان كل ما هو فيه كما ذكرناه أولا في أن العلم تابع للمعلوم، فيقول لنفسه إذا جاءه ما لا يوافق غرضه: يداك أوكتا وفوك نفخ.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.)

(فمن فهم هذه الحكمة) الصالحية التي هي من نور مشکاة نبوة صالح عليه السلام (وقررها)، أي أثبتها وتحقق بها (في نفسه وجعلها مشهودة له) بحيث يشهدها بعين بصيرته (أراح نفسه من التعلق بغيره) من الناس، ومن مطالبة بحق له عند أحد من الخلق في مظلمة ونحوها.
وإن تقرر ذلك عنده أيضا من جهة الحكم الشرعي واقتضى القانون الوضعي تعلقه بمن ظلمه في كل حق له عليه إقامة لحجة الله تعالی على الغافلين في الدنيا والآخرة من حيث تعلقهم بالأسباب ونظرهم إليها .
فإن هذا التعليق المذكور من حيث الباطن في النفس، فلا يمنع التعليق من حيث الظاهر (وعلم أنه لا يؤتى عليه)، أي لا يظفر (بخير ولا شر) في الدنيا والآخرة (إلا منه)، أي من نفسه ، فإنها التي ظهر عنها تكوينها بأمر الله تعالی وصدر جميع أفعالها عنها أيضا بأمر الله تعالى وكان لها الجزاء منها أيضا بأمر الله تعالی.
(وأعني)، أي أريد بالخير المذكور (ما يوافق غرضه)، أي غرض الإنسان

(ويلائم طبعه ومزاجه) وكل أحد بحسبه في ذلك (وأعني بالشر ما لا يوافق غرضه)، أي الإنسان (ولا يلائم طبعه ولا مزاجه) على مقتضى طبعه ومزاجه (ویقیم صاحب هذا الشهود) لهذه الحكمة الإلهية الصالحية (معاذیر) جمع معذرة بمعنى العذر (الموجودات كلها عنهم)، أي نيابة عن أنفسهم (وإن لم يعتذروا)، وإن لم يعرفوا كيف يعتذرون، فإنه يعرف أعذارهم كلهم في كل ما هم فيه من حق أو باطل، أو خيرا أو شرا أو ظلم لأنفسهم أو لغيرهم، أو عدل في حق أنفسهم، أو في حق غيرهم على كل حال من أحوال الدنيا والآخرة.
وإن كانت الأحوال متناسبة كلها في ظهورها عليهم فلا يرى من يعمل خيرا إلا خيرا، ولا يرى من يعمل شرا إلا شرا لأن هذه حكمة ترتيب الأعيان الممكنة المعدومة بالعدم الأصلي على ما هي عليه في أنفسها حيث كشف عنها العلم الإلهي.
وأحاطت بها الحكمة الإلهية، فتوجهت عليها الإرادة على حسب ما هي عليه، فإن الشريعة المطهرة كاشفة عن هذه الحكمة في اعتبارها الأسباب الموضوعة للخير والشر.
(ويعلم) صاحب هذا الشهود أيضا (أنه)، أي الشأن (منه)، أي من نفسه (کان كل ما هو فيه)، أي في نفسه من علم أو جهل أو خير أو شر أو حال مطلقة في الدنيا أو الآخرة ، فلا يلزم أحدة في أمر من الأمور أصلا من حيث باطن الحقيقة التي أعطته علم ذلك مع جريانه على مقتضى شريعة تلك الحقيقة في أحكامها من حيث الظاهر.
(كما ذكرناه)، أي على حسب ما سبق بيانه (أولا) في فص الإبراهيمي من (أن العلم) الإلهي (تابع للمعلوم) الممكن في حال إمكانه کاشف عنه على مقتضى ما هو عليه السلام.
فهو حاکم عليه إذا أوجده بما أخذ منه (فيقول) صاحب هذا الشهود (لنفسه إذا جاءه) من غيره أو من نفسه (ما لا يوافق غرضه) مما يسمى شرا في الدنيا أو في الآخرة .
(يداك أوكتا)، أي ربطتا (وفوك)، أي فمك (نفخ) يعني لا أحد غيرك فعل بك ما تجده مما لا يوافق غرضك.
وهو مثل يضرب لكل من أتى عليه من قبل نفسه .
(والله) سبحانه (يقول الحق) بكلامه المطلق عن المعاني والحروف والأصوات الظاهر بكلام غير المقيد بالمعاني والحروف والأصوات (وهو) سبحانه ("يهدي السبيل") [الأحزاب: 4]، أي الطريق الحق لمن يشاء من عباده فيدلنا على المطلق في جميع المقيدات.
وإلى هنا انتهى الكلام عن الحكمة الصالحية
من فيض الأنوار الإلهية على قلب شيخ الصوفية سيدي عبد الغني النابلسي قدس الله سره آمین . 
ويليه شرح قوله : فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 9:54 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الأول

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

وهذا نص الحكمة الشعيبية ذكره بعد حكمة صالح عليه السلام، لأنه يبحث فيه عن الرحمة التي وسعت كل شيء.
فناسب ذكره بعد حكمة صالح عليه السلام المشتملة على إعطاء كل شيء خلقه من حيث إن العلم تابع للمعلوم، ولا يكون عن الشيء إلا ما هو كائن فيه.
فتشمله الرحمة وتظهره على ما هو عليه في ثبوته قبل وجوده، فقدر رحمته بإعطائها له الوجود.
فالخير مرحوم والشر مرحوم والهدى مرحوم والضلال مرحوم والكفر والإيمان والنار والجنة والعذاب والنعيم وكل شيء مرحوم. 
كذلك قال سبحانه : "رحمتي وسعت كل شيء" [الأعراف: 156]، 
وقال تعالى : " الذي أعطى كل شيء خلقه " [طه: 50]، فكأنما هذا فص تعميم لما قبله وإكمال لتلك الحكمة السابقة
(فص حكمة قلبية)، أي منسوبة إلى القلب (في كلمة شعيبية).
إنما اختصت حكمة شعيب عليه السلام بكونها قلبية، لأنها يبحث فيها عن قلب العارف بالله تعالی ووسعه للحق سبحانه ، لأنه من رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء.
قال الشيخ رضي الله عنه الله عنه : ( اعلم أن القلب أعني قلب العارف بالله هو من رحمة الله، و هو أوسع منها، فإنه وسع الحق جل جلاله و رحمته لا تسعه:
هذا لسان العموم من باب الإشارة، فإن الحق راحم ليس بمرحوم فلا حكم للرحمة فيه.
وأما الإشارة من لسان الخصوص فإن الله وصف نفسه بالنفس وهو من التنفيس:
وأن الأسماء الإلهية عين المسمى وليس إلا هو، وأنها طالبة ما تعطيه من الحقائق وليس الحقائق التي تطلبها الأسماء إلا العالم. فالألوهية تطلب المألوه، و الربوبية تطلب المربوب ، وإلا فلا عين لها إلا به وجودا أو تقديرا. )
(اعلم) يا أيها السالك (أن القلب)، وهو عام في جميع القلوب من حيث ما هي قلوب، فإذا كانت نفوسا في صدور أهل الغفلة من الناس ذات وسواس كما قال الله تعالى: "ونعلم ما توسوس به نفسه " [ق: 16]، فما هي بمرادة هنا.
ولهذا قال : (أعني قلب العارف بالله) تعالى، فإن قلبه هو المراد، لأنه صاحب الاستعداد للفيض والإمداد (هو)، أي ذلك القلب (من رحمة الله) تعالى بل هو عين رحمة الله تعالى.
لأن الله تعالى ينظر به إلى عباده كلهم فيرحمهم فمن حيث شمول الرحمة لكل شيء هو منها ومن حيث رحمة كل شيء به هو عينها (وهو)، أي القلب العارف بالله تعالی (أوسع منها)، أي من رحمة الله تعالى .
من حيث إن الله تعالی ينظر به إلى العباد فيرحمهم فتظهر رحمته تعالى بكل شيء من ذلك القلب ، فيكون القلب أوسع منها من هذا الوجه .
(فإنه)، أي القلب العارف بالله تعالى (وسع الحق جل جلاله) كما ورد في الحديث القدسي: "ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن"، (ورحمته تعالى لا تسعه)، لأنه غني عن أن يصله نفع منه ، لأنه الكامل بالكمال الذاتي فضلا عن أن يصله نفع من غيره.
"" أضاف الجامع : من الشواهد على صحة متن الحديث
حديث : عن وهب ابن منبه قال : إن الله عز وجل فتح السماوات لحزقيل حتى نظر إلى العرش -أو كما قال- فقال حزقيل: سبحانك! ما أعظمك يا رب! فقال الله: إن السماوات والأرض لم تطق أن تحملني، وضقن من أن تسعني، ووسعني قلب المؤمن الوادع اللين. رواه أحمد ابن حنبل فى الزهد عن وهبة ابن منبه .
حديث : قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : إن لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين وأحبها إليه ألينها وأرقها . رواه الطبراني في مسند الشاميين والجامع الكبير للسيوطي . قال الهيثمي إسناده حسن، وقال شيخه العراقى: فيه بقية بن الوليد، وهو مدلس، لكنه صرح بالتحديث فيه.  ""
فلما وسعه القلب ولم تسعة الرحمة كان القلب أوسع من الرحمة، ولا يقال إن الحق تعالى إذا نظر بالرحمة إلى كل شيء فقد وسعنه الرحمة أيضا، لأنا نقول الرحمة حضرة من حضراته سبحانه، والقلب جامع لكل الحضرات، فالوسع الذي للقلب لا يكون لغيره .
هذا الكلام المذكور هنا (لسان عموم)، وإجمال في مطلق قلب العارف ومطلق الرحمة الإلهية ومطلق الوسع (من باب الإشارة) لا صريح العبارة .
(فإن الحق) تعالی (راحم) لكل ما سواه برحمته (ليس غیره) وهذا بيان لكون رحمته سبحانه لا تسعه، لأنه حضرة من حضراته وصفة من جملة صفاته.
فكيف تكون واسعة لذاته الجامعة لجميع حضراته من أسمائه وصفاته، والبعض لا يسع الكل.
وإن لم يكن هنا بعض ولا كل بل عين واحدة كافية للكل في الكل، ولكن اعتبار التعينات يقتضي ما ذكرناه من العبارات (فلا حكم)، أي ظهور أثر (للرحمة) الإلهية (فيه)، أي في الحق تعالى لامتناع ذلك عليه سبحانه أزلا وأبدا .
(وأما الإشارة) وأما آلاؤه تعالى مما ذكر (من لسان الخصوص) للتعريف التفصيلي والتوقيف التحصیلی (فإن الله) تعالى (وصف نفسه على لسان رسوله و (بالنفس) بفتح الفاء كما ورد في الحديث من قوله عليه السلام «إني لأجد نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن» (وهو)، أي النفس مشتق (من التنفيس)، أي تفريج الكرب الذي يجده الواجد، ومن أسمائه تعالى الواجد، وهو صاحب الوجد والشوق إلى من يحبهم من مظاهر كماله وهياكل تجلیات جماله وجلاله (وأن الأسماء الإلهية) هي (عين المسمی) بها وهو الحق تعالى في نفس الأمر.
وإن كانت غیره باعتبار النظر العقلي (وليس) ذلك المسمى (إلا هو) سبحانه (وأنها)، أي الأسماء الإلهية (طالبة)، أي متوجهة أزلا وأبدا إلى (ما تعطيه)، أي ما هو صادر عنها من الحقائق الكونية (وليست الحقائق التي تطلبها الأسماء) الإلهية (إلا العالم) بفتح اللام، أي ما سوى الله تعالى من الكائنات.
(فالألوهية) التي هي صفة من صفات الله تعالى والاسم منها الإله (تطلب المألوه)، أي الشيء الذي تكون تلك الصفة بإسمبنها له إلها (و) صفة (الربوبية)، والاسم منها الرب (تطلب المربوب)، أي الشيء الذي تكون بإسميتها له ربا .
وهكذا بقية الصفات الإلهية من حيث هي غير الذات الإلهية بالنظر العقلي (وإلا)، أي وإن لم يكن الأمر كذلك (فلا عين لها)، أي لا حقيقة للأسماء الإلهية (إلا به)، أي بالأثر الذي هو المألوه لصفة الألوهية والمربوب لصفة الربوبية (وجودة)، أي في حال وجود المألوه والمربوب (وتقديرا)، أي في حالة كونه مقدرة ثابتة غير موجود.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (والحق من حيث ذاته غني عن العالمين.
والربوبية ما لها هذا الحكم.
فبقي الأمر بين ما تطلبه الربوبية وبين ما تستحقه الذات من الغنى عن العالم.
وليست الربوبية على الحقيقة والاتصاف إلا عين هذه الذات.
فلما تعارض الأمر بحكم النسب ورد في الخبر ما وصف الحق به نفسه من الشفقة على عباده.
فأول ما نفس عن الربوبية بنفسه المنسوب إلى الرحمن بإيجاده العالم الذي تطلبه الربوبية بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهية.
فيثبت من هذا الوجه أن رحمته وسعت كل شيء فوسعت الحق، فهي أوسع من القلب أو مساوية له في السعة. هذا مضى،  )
(والحق) تعالى (من حيث ذاته) العلية (غني عن العالمين) كما قال سبحانه : "و الله غني عن العالمين" [آل عمران: 97]. وقال تعالى : "والله الغني وأنتم الفقراء" [محمد: 38] .
والصفات أيضا والأسماء من حيث هي عين الذات الإلهية غنية عن العالمين أيضا. وقد أشار إليه المصنف قدس سره بقوله : 
وأن الأسماء الإلهية عين المسمى وليس إلا هو (و) صفة (الربوبية) من حيث ما هي غير الذات الإلهية (ما لها هذا الحكم)، أي الغني عن العالمين.
(فبقي الأمر) الإلهي الواحد في نفسه مترددة (بين ما نطلبه) صفة (الربوبية) من الحيثية المذكورة وهو الظهور بالمربوبین (وبين ما تستحقه الذات) العلية (من الغنی عن العالم) بفتح اللام (وليست) صفة (الربوبية على الحقيقة والاتصاف) من الحيثية الأخرى .
(إلا عن هذه الذات) الإلهية الغنية عن العالمين، فالأمر في نفسه ذات غنية عن العالمين من وجه، وصفة ربوبيته افتقر إليها جميع العالمين فتعلقت به ، فلا تنفك عنه ولا ينفك عنها وجودة وتقدير من وجه آخر.
(فلما تعارض) بحسب الظاهر الأمر المذكور بالطلب للعالمين والاستغناء عن العالمين (بحكم)، أي بسبب ما تقتضيه أحوال (النسب) جمع نسبة وهي الإضافة من الطلب والاستغناء المذكورين وغيرهما (ورد في الخبر) عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما وصف الحق) تعالی (به نفسه) على لسان نبيه عليه السلام (من الشفقة) وهي زيادة الرحمة (على عباده) كما ورد في الأسماء الحسنى أن من أسمائه تعالى: الرؤوف من صفاته الرأفة.
(فأول ما نفس) سبحانه (عن) صفة (الربوبية التي له بنفسه المنسوب إلى) اسمه (الرحمن) الوارد في الحديث إني لأجد نفس الرحمن (بإيجاده) سبحانه (العالم)، أي المخلوقات (الذي) نعت للعالم (تطلبه) صفة (الربوبية بحقيقتها) من حيث هي غير الذات الإلهية الغنية عن العالمين تطلبه أيضا (جميع الأسماء الإلهية) لتظهر به (فيثبت من هذا الوجه) وهو وجه تنفیس الحق تعالى بنفسه المنسوب إليه من حيث اسمه الرحمن فهو التنفيس بالرحمة عن أسمائه وصفاته (أن رحمته) سبحانه الواسعة ("وسعت كل شي" فوسعت الحق) تعالى حيث وسعت أسمائه وصفاته التي هي من وجه عين ذاته كما أنها من وجه آخر غير ذاته .
(فهي)، أي الرحمة الإلهية حينئذ (أوسع من القلب)، أي قلب العارف بالله تعالى (أو مساوية له في السعة) لإشرافه على ما هي مشرفة عليه من الأسماء وآثارها من حيث قيامه بالشهود الذاتي وكون الحق تعالی سمعه وبصره .
والحاصل أن رحمة الله تعالى صفة من صفاته وحضرة من حضراته وقد توجهت منه تعالى على إيجاد كل شيء وإمداده . 
ومن جملة ذلك إيجاد قلب العارف بالله تعالى ومعرفته به تعالى، ولا شك أن قلب العارف بسبب معرفته بالله تعالى فاني مضمحل،عن كل حادث من ذاته ومن غيره.
 فلا حکم عنده إلا للوجود المطلق حتى عن الإطلاق، فهو الظاهر له به وبكل شيء مثل ظهور المعاني بالألفاظ.
فإن الذهن ما دام ملاحظا للفظ المخصوص، وهو في حال ملاحظته له ناظر إلى المعنى الذي يدل عليه ذلك اللفظ ، فهو مستحضر لذلك المعنى.
ومتي التفت إلى ملاحظة اللفظ من حيث هو وأعرض عن نظره منه إلى معناه فقد أعرض عن معناه وانحجب باللفظ عن المعنى.
وكذلك إذا أعرض عن ملاحظة اللفظ فقد أعرض عن النظر إلى معناه " ولله المثل الأعلى" [النحل: 60].
فالمشهود في الفناء الأول أحوال العبد بمنزلة الألفاظ ينظر منها إلى المعاني، والشهود في الفناء الثاني وهو الفناء عن الفناء أعيان الأشياء كلها لا من حيث اتصافها بالوجود بل عین الوجود من حيث اتصافه بأعيان الأشياء على حسب ما يعطي الوهم لا على حسب ما الأمر عليه في نفسه .
وهذا أمر معلوم عند القلب العارف مقطوع به، والضرورة عنده في هذا الشهود واضحة، وذلك معنی وسع القلب للحق تعالى.
فإذا كان القلب واسعا للحق تعالی كان واسعا لجميع صفاته وحضراته بالأولى  فهو أوسع من الرحمة الإلهية .
وإذا اعتبر وسع الرحمة لكل شيء إيجادا وإمداد هو عين وسعها للصفات والأسماء والحضرات الإلهية.
ومن جملة ذلك قلب العارف بالله تعالى، فالرحمة أوسع حينئذ من قلب العارف ، وإن اعتبر حال القلب أنه هو عين الرحمة كانت الرحمة مساويا للقلب (هذا الكلام (مضی)، أي تقرر وتم تحريره.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثم لتعلم أن الحق تعالى كما ثبت في الصحيح يتحول في الصور عند التجلي، وأن الحق تعالى إذا وسعه القلب لا يسع معه غيره من المخلوقات فكأنه يملؤه.
ومعنى هذا أنه إذا نظر إلى الحق عند تجليه له لا يمكن أن ينظر معه إلى غيره.
وقلب العارف من السعة كما قال أبو يزيد البسطامي «لو أن العرش و ما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به».
وقال الجنيد في هذا المعنى: إن المحدث إذا قرن بالقديم لم يبق له أثر، وقلب يسع القديم كيف يحس بالمحدث موجودا. )
 
(ثم لنعلم) أيها السالك (أن الحق تعالی كما ثبت في الحديث الصحيح) عن رسول الله كما ذكرناه فيما مر (يتحول) يوم القيامة (في الصور) المختلفة (عند التجلي)، أي الانكشاف لأهل المحشر (و) لتعلم (أن الحق تعالى إذا وسعه القلب) العارف به (لا يسع غيره من جميع المخلوقات)، لأنها كلها صور تجلياته سبحانه التي لا محيص للعارف عنها في حال رؤيته تعالى، فهي من ضرورات التجليات الإلهية مع أنها عدم محض والوجود هو المشهود منها.
(فکانه)، أي الحق تعالى (يملأه)، أي القلب فكيفما توجه رأى صورة نجليه سبحانه كما قال تعالى : " فأينما تولوا فثم وجه الله" [البقرة: 115].
(ومعنى هذا)، أي كون القلب لا يسع غير الحق تعالی (أنه)، أي القلب (إذا نظر إلى الحق) تعالی (عند نجليه)، أي انکشافه (له) بنوع من صور الانكشاف في الحس أو العقل (لا يمكن) القلب (أن ينظر معه)، أي مع الحق تعالى (إلى غيره)، أي غير الحق تعالی أصلا ، لأنه لا غير معه تعالی عند تجليه له .
(وقلب العارف) بالله تعالى (من) جهة (السعة كما)، أي كالوصف الذي (قال أبو يزيد البسطامي) قدس الله سره (لو أن العرش) العظيم الذي هو أكبر الأجسام (وما حواه)، أي العرش من جميع العوالم المختلفة في الدنيا والآخرة (مائة ألف ألف) بالتكرار (مرة) وأكثر من ذلك (في زاوية)، أي ناحية (من زوايا)، أي نواحي (قلب العارف) بالله تعالى (ما أحس) قلب العارف (به).
أي بذلك العرش ومائة ألف ألف مرة مثله، وذلك لأن القلب إذا عرف الحق تعالى، وتحقق أنه الوجود المطلق الذي كل موجود بالنسبة إليه عدم صرف.
فكيف يدرك ما دام كذلك معدوما من الأشياء في الحس أو العقل، إلا إذا غفل عن ذلك الوجود المطلق المذكور، وفي حالة الغفلة ليس هو بعارف.
(وقال الجنيد) البغدادي قدس الله سره (في) مثل (هذا المعنى المذكور (إن) الشيء (المحدث إذا قرن بالقديم)، أي اعتبر مقابلا له ومنسوبة إليه (لم يبق له)، أي لذلك الشيء المحدث (أثر)، ولا عين واضمحل بالكلية، لأن الوجود الذي ذلك الشيء ظاهر به هو مقدار ما انكشف من وجود القديم سبحانه، ولا وجود لذلك الشيء من نفسه أصلا.
(وقلب يسع القديم) سبحانه من حيث رؤية نفسه ظاهرا بانکشاف نور وجوده له (كيف يحس)، أي يدري (بالمحدث) من الأشياء (موجودا) ولا وجود في شهوده إلا القديم.

(وإذا كان الحق يتنوع تجليه في الصور فـ بالضرورة يتسع القلب ويضيق بحسب الصورة التي يقع فيها التجلي الإلهي، فإنه لا يفضل شيء عن صورة ما يقع فيها التجلي.
فإن القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محل فص الخاتم من الخاتم لا يفضل بل يكون على قدره وشكله من الاستدارة إن كان الفص مستديرا أو من التربيع والتسديس والتثمين وغير ذلك من الأشكال إن كان الفص مربعا أو مسدسا أو مثمنا أو ما كان من الأشكال، فإن محله من الخاتم يكون مثله لا غير. )

(وإذا كان الحق) كما سبق في الحديث (بتنوع تجلبه)، أي انکشافه في يوم القيامة (في الصور) وكذلك في الدنيا . 
قال : «أتاني الليلة ربي في أحسن صورة 
فقال : يا محمد ، فقلت: لبيك وسعديك ، 
قال : هل تدري فيم يختص الملأ الأعلى، 
قلت: لا أعلم، 
قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بین ثديي ، أو قال : في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض، أو قال : ما بين المشرق والمغرب» إلى آخر الحديث. 
أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، واخرجه أحمد في المسند عن ابن عباس ، و الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين.
(فـ بالضرورة) الوجدانية (يتسع القلب)، أي قلب العارف بالله تعالی تارة فيظهر له الحق تعالى في كل محسوس و معقول.
(ويضيق) تارة أخرى فيظهر في بعض ويبطن في بعض أو يبطن في الكل، ومن هنا قال عليه السلام "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" . رواه مسلم وأبو داود وغيرهم
(بحسب)، أي على مقتضى (الصور التي يقع فيها النجلي)، أي الانكشاف (الإلهي) لقلب العارف .
فإن الكشف له صور التجلي الجمالي اتسع لها وتوفرت فيه الدواعي إلى الرغبة والإقبال، وإن انكشفت له صور التجلي الجلالي ضاق لها وانحصر بها ، والكل عنده صور التجلي الحق سواء بسطته أو قبضنه .
(فإنه)، أي الشأن (لا بفضل من القلب)، أي قلب العارف (شيء)، أي فضلة
 
(عن صورة ما يقع فيها)، أي في تلك الصورة (التجلي) الإلهي، وما ثم أي ما عنده إلا صور بقع فيها التجلي من كل حضرة، فهو يعطي كل تجل ما يطلب من الحال المخصوص من سعة أو ضيق أو بسط أو قبض أو جمال أو جلال (فإن القلب من العارف) بالله تعالى (أو) من (الإنسان الكامل)، وهما لقبان لأكمل التجليات الإلهية في الصورة الآدمية والبنية البشرية .
(بمنزلة محل)، أي موضع (فص) بالفتح الحجر (الخاتم من الخاتم)، فإنه (لا يفضل عنه)، أي لا يزيد عليه أصلا (بل يكون) ذلك المحل (علی قدره)، أي قدر الفص (و) على (شكله)، أي الفص (من الاستدارة إن كان الفص مستديرة أو من التربيع)، أي ذي الزوايا الأربع (والتسدیس)، أي ذي الزوايا الست (والتثمين)، أي ذي الزوايا الثمان (وغير ذلك من الأشكال)، أي الهيئات .
(إن كان الفص مربعة أو مسدسة أو مثمنة) كذلك (أو ما كان من الأشكال فإن محله)، أي الفص (من الخاتم يكون مثله لا غير)، أي لا يخالفه أصلا ، ولهذا سمي هذا الكتاب فصوص الحكم.
 فإن الذي فاضت عليه حكم النبيين من الحضرة الجامعة المحمدية ، كشف من ظهور فصوص الحقائق الإلهية عن محالها ومواضعها المطابقة لها، أو الكائنة على حسب مقتضياتها من أرواح النبيين عليهم السلام فكان ما كشفه من الحضرة المحمدية ثم الأرواح النبوية على طبق حقيقته الجامعة الوجودية الذاتية .
فترجم عما وجد عنده من ذلك وما أعطته الحقيقة المحمدية في عالم الخيال من ظهور تلك الفصوص، وأما المحال التي كانت ظاهرة بها فهي تابعة لها فكشف عنها بها.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهذا عكس ما يشير إليه الطائفة من أن الحق يتجلى على قدر استعداد العبد.
وهذا ليس كذلك، فإن العبد يظهر للحق على قدر الصورة التي يتجلى له فيها الحق.
وتحرير هذه المسألة أن لله تجليين.
تجلي غيب وتجلي شهادة، فمن تجلي الغيب يعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب، وهو التجلي الذاتي الذي الغيب حقيقته، وهو الهوية التي يستحقها بقوله عن نفسه «هو».
فلا يزال «هو» له دائما أبدا. )
(وهذا) الكلام هنا (عکس ما تشير إليه) الطائفة من العارفين (من أن الحق) تعالى (يتجلى)، أي ينكشف في الدنيا والآخرة (على قدر استعداد العبد).
لأنهم يرون التنوع في التجليات مع وحدة التجلي الحق، فأرجعوا الاختلاف إلى اختلاف الاستعداد والتهيؤ لقبول الظهور الوجودي الواحد من الحضرة الواحدية .
وأهملوا النظر في اختلاف الاستعداد والتهيؤ لذلك القبول الفائض من الحضرة الأحدية التي لها الأزل كما أن الواحدية لها الأبد.
فاستعداد العبد من فيض الأحدبة وقبوله المقتضى ذلك الاستعداد من الظهور الوجودي من فيض الواحدية والأحدية حضرة اسمه الباطن والواحدية حضرة اسمه الظاهر.
فالعبد من حيث هو عبد ممكن مع قطع النظر عن تعينه واللاتعين فيه بمنزلة محل الفص من الخاتم فإذا فاض عليه الاستعداد والقبول جعله تابعا لمقتضاه، وهو مشرب ذاتي وغيره مشرب صفاتي .
وقد بينه المصنف قدس الله سره بقوله: (وهذا)، أي ما ذكر هنا من تجلي الحق تعالى (ليس كذلك)، أي ما هو تابع لاستعداد العبد .
(فإن العبد) إذا تجلى عليه الحق تعالى (يظهر للحق) تعالى (على قدر الصورة التي يتجلى له)، أي لذلك العبد (فيها الحق) تعالی الثابتة في علمه سبحانه من تجلي ذاته لذاته في حضرة علمه القديم.


.

يتبع


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 9:56 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثاني .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الثاني

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

(وتحرير هذه المسألة) على الوجه التام أن يقال (أن الله) تعالى من حيث اسمه الباطن والظاهر والأول و الآخر (تجليين)، أي انکشافين في حضرة الإمكان :
والأول (تجلي غیب)، أي حاصل في عالم الغيب وهو الحضرة العلمية الإلهية وهو التجلي الذاتي في الحضرات الصفاتية مما لا يعلمه إلا الله تعالى، وهذا التجلي أزلي لا بداية له.
(و) الثاني: (تجلي شهادة)، أي حاصل في عالم الشهادة وهو عالم الكون وهو التجلي الصفاتي الأسمائي في الحضرات الإمكانية مما تعلمه المخلوقات من بعضها في بعض . 
وهذا التجلي أبدي لا نهاية له (فمن تجلي الغيب) على حضرة الإمكان (يعطي الحق) تعالى (الاستعداد الذي يكون عليه القلب)، وهو كونه قابلا أن يكون على هيئة الفص، لأنه محله وموضع ظهوره وإمساكه به .
(وهو التجلي)، أي الانكشاف (الذاتي)، أي منسوب إلى الذات الإلهية (الذي) هو (الغيب) المطلق عن الحس والعقل (حقيقته)، بحيث لا ظهور له من حيث ما هو غيب أصلا (وهو الهوية التي يستحقها) الحق تعالی (بقوله عن نفسه هو)
الله الرحمن الرحيم فهو الغيب الذاتي، والله الحضرة الصفائية الجامعة لجميع الأسماء، والرحمن الرحيم ذكر بعض الأسماء الجامعة أيضا بوجه الرحمة التي وسعت كل شيء،
(فلا يزال) لفظ (هو له)، أي للحق تعالی (دائما أبدا) إشارة إلى بقاء غيب الهوية وأنه لا يصير شهادة أصلا.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا حصل له- أعني للقلب هذا الاستعداد، تجلى له التجلي الشهودي في الشهادة فرآه فظهر بصورة ما تجلى له كما ذكرناه.
فهو تعالى أعطاه الاستعداد بقوله «أعطى كل شي ء خلقه»، ثم رفع الحجاب بينه وبين عبده فرآه في صورة معتقده ، فهو عين اعتقاده. فلا يشهد القلب ولا العين أبدا إلا صورة معتقده في الحق.
فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته، وهو الذي يتجلى له فيعرفه.
فلا ترى العين إلا الحق الاعتقادي.
ولا خفاء بتنوع الاعتقادات: فمن قيده أنكره في غير ما قيده به، وأقر به فيما قيده به إذا تجلى.
ومن أطلقه عن التقييد لم ينكره وأقر به في كل صورة يتحول فيها ويعطيه من نفسه قدر صورة ما تجلى له إلى ما لا يتناهى، فإن صور التجلي ما لها نهاية تقف عندها. )
 (فإذا حصل له أعني للقلب)، أي قلب العارف (هذا الاستعداد) من التجلي الذاتي (تجلی)، أي انكشف (له)، أي للقلب (التجلي)، أي الانكشاف (الشهودي)، أي المحسوس المعقول (في) عالم (الشهادة) وهو منزلة ظهور فص الخاتم في محله من الخاتم ممسوكة بموضعه منه (فرآه)، أي الحق تعالی رأى ذلك القلب المستعد الكائن في غيب علمه من تجلي ذاته حيث تجلى له بحضرات صفاته.
فأوجده سبحانه أزلا كما أثبته فيه من الأزل من وجهين، فهو ثابت غیر موجود عنده تعالی من وجه تجلي ذاته العلية، وموجود من تجلي صفاته عنده تعالى.
كما هو الآن موجود عند نفسه بالوجود الحادث عند نفسه بعين هذا الوجود الحادث، وإن لم يبق عند نفسه موجودة به، وتختلف عليه الأحوال إلى الأبد.

فإن هذين التجليين للحق تعالی: 
تجلي الذات الذي يعطي الاستعداد للأشياء، 
وتجلي الصفات الذي يعطي قبول الوجود لكل شيء.
 قديمان أزليان، وعطاؤهما قديم، والاستعداد قديم في الأشياء المعدومة من حيث الذات العلية، وقبول الوجود في الأشياء قديم أيضا من حيث الصفات الإلهية.
وإنما الحادث مجرد ظهور الأشياء لنفسها، ووجودها عند علمها بها من تجلي اسمه المقسط، وهو الذي جعل لكل شيء قسطا عند نفسه وأنزله لنفسه بقدر معلوم.
قال سبحانه : "وكل شيء عنده بمقدار" [الرعد: 8]، 
وقال تعالى:"وإن من شيء إلا عندنا ابه وما ننزله إلا بقدر معلوم " (الحجر: 21].
وقال تعالى: " ما عندكم ينفذ وما عند الله باق" [النحل: 96]،
فالشيء الذي عنده تعالى بمقدار هو المستعد بالفيض الأقدس الذاتي بالقابل لما استعد له بالفيض المقدس الصفاتي على حسب الصورة التي تجمع صوره كلها من أول عمره إلى آخره، فإذا أنزله تعالى لا ينزله إلا إلى نفسه وغيره من أمثاله.
لأنه ما ثم إلا الحق تعالى، وإذا لم يكن الإنزال هذا فلا إنزال، لأنه عنده تعالى فلا يصح الإنزال إليه تعالى، بل منه ولا ينزله كله بتمامه.
لأن حضرة الإمكان قاصرة، فلا تقبل الظهور إلا بالتدريج، ومن هنا يظهر الزمان المستحيل على الحق تعالى، وأنه منسوب إلى الكائنات عند نفسها فقط، وإنما ينزله بقدر، أي مقدار معلوم عنده سبحانه.
وهو صورة بعد صورة حتى تنقضي تلك الصور كلها التي عنده تعالی المسماة بالمقدار، فإذا انقضت تلك الصور كلها نفذ ذلك الشيء عند نفسه.
وبقي عند الله تعالى كما هو عليه من قبل أن ينزله وهو قوله : "وما عند الله باق" [النحل: 96].
فمن كان باقية عند الله تعالی نافدة عند نفسه لم يكن مما خاطبهم سبحانه من الغافلين الذين قال لهم: "فلا أقسم بما تبصرون . وما لا تبصرون " [الحاقة: 38 - 39] فإنهم لا يبصرون إلا الحق تعالى من حيث التجلي الصفاتي الذي أعطاهم الوجود ولكنهم لا يشعرون من جهلهم به سبحانه، وما لا يبصرون هو الحق تعالی أيضا من حيث التجلي الذاتي الذي أعطاهم الاستعداد للوجود.
والعارفون يبصرون ولا يبصرون، وهم على علم منه سبحانه بذاته وصفاته، والجاهلون يبصرون ولا يبصرون، وهم على جهل به تعالی .
ويصح أن يكون قوله فرآه، أي القلب المستعد، أي الحق تعالى حيث تجلى به في عالم الشهادة فظهر ذلك القلب (بصورة ما تجلی)، أي الحق تعالى (له كما ذكرناه)، أي بالتجلي الشهادي (فهو تعالى أعطاه)، أي قلب العارف به (الاستعداد) لقبول فيض التجلي الشهادي (لقوله) تعالى ("أعطى كل شيء خلقه ثم هدى") [طه: 50].
فإعطاء كل شيء خلقه إعطاؤه استعداده لقبول الفيض والهداية ، ودلالته أنه هو الوجود لا غيره سبحانه، وهو ما أشار إليه بقوله :
(ثم رفع)، أي زال (الحجاب بينه) سبحانه (وبين عبده)، وهو حجاب عدم البعد فظهر في فور الوجود فانطرد عدمه الأصلي (فرآه)، أي رأى ذلك العبد الظاهر ربه تعالى متجليا عليه (في صورة معتقده)، أي ما يعتقده ذلك العبد في ربه من العقيدة الإيمانية.
(فهو)، أي الحق تعالی (عین اعتقاده)، أي العبد من حيث الوجود المطلق الظاهر في تلك الصورة المقيدة الاعتقادية (فلا يشهد القلب ولا العين) من العارف والجاهل (أبدا)، أي في جميع الأحوال (إلا صورة معتقده).
أي ما يعتقده (في الحق) تعالى غير أن العارف لا يحصره سبحانه في اعتقاده دون اعتقاد غيره بل يعرفه في كل اعتقاد، ويعرف أنه من الضرورة الإمكانية ظهوره لكل عبد في صورة اعتقاده، وهو على ما هو عليه في نفسه من الإطلاق الحقيقي، وغير العارف يقيده في صورة اعتقاده فيجهله.

(فالحق الذي في المعنقد)، أي في الصورة المعتقدة عند المعتقد لها (هو) الحق (الذي وسع القلب)، أي قلب العبد المؤمن به كما ورد في الحديث : "ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن" .
(صورته)، أي مقدار ما يمكنه أن يعرف منه في حضرة الإمكان فإن حضرة الوجوب لا نهاية لها فلا يمكن أن تظهر في صورة الإمكان.
إلا بالصورة الممكنة على حسب ما اقتضته أسماؤها الحسنى ورحم الله تعالى الشيخ الإمام العارف الكامل سلیمان عفيف الدين التلمساني تلميذ صدر الدين القونوي الذي هو تلميذ المصنف الشيخ محيي الدين بن العربي قدس الله تعالى أرواحهم الطاهرة وأسرارهم الظاهرة حيث يقول من ابتداء قصيدة له: 
منعتها الصفات والأسماء   ….. أن ترى دون برقع السماء
(وهو)، أي القلب الذي وسع صورة الحق تعالى (الذي يتجلی)، أي بنکشف الحق تعالی (له) في كل محسوس له ومعقول عنده (فيعرفه) بصورته التي وسعها قلبه ولا ينكره في صورة أصلا (فلا ترى العين)، أي عين العارف بالله كما لا يرى قلبه (إلا الحق) سبحانه (الاعتقادي)، أي الذي اعتقده بقلبه وتعتقده كل القلوب كذلك وتراه جميع العيون عند العارف به (ولا خفاء بتنوع الاعتقادات) من جميع الناس في الحق تعالی تنوع لا يكاد يدخل تحت حصر في جميع الملل.

(فمن قيده) تعالى في اعتقاد فهو الجاهل به، لأن ما قيده به خلقه لا ذاته فإنها مطلقة، وخلقه المقید وبالضرورة عنده (أنكره)، أي أنكر الحق تعالى إذا ظهر له (في) قيد آخر (غير ما قيده) هو (به) من قيود المعتقدين من الناس (وأقر)، أي صدق (به)، أي بالحق تعالى (في) عين (ما قيده به) من ذلك القيد (إذا تجلی)، أي انكشف له في الدنيا والآخرة.
(ومن أطلقه) تعالى (عن التقييد) الظاهر له في نفسه وغيره من تجليه سبحانه عليه في الدنيا والآخرة لضرورة قصور الإمكان عن ظهور كمال الواجب الحق تعالی في العيان .
(لم ينكره) سبحانه في كل قيد ظهر له به (وأقر)، أي اعترف (له)، أي للحق تعالى بأنه هو سبحانه الظاهر (في كل صورة) محسوسة أو معقولة (يتحول فيها) في الدنيا والآخرة (ويعطيه)، أي الحق تعالی يعطي ذلك العبد المنجلي عليه المنحول له في كل صورة (من نفسه) سبحانه، أي حضرته المطلقة بالإطلاق الحقيقي (قدر صورة ما تجلى له فيها) من الإمداد الذاتي والعلم الصفاتي والسر السبحاني (إلى ما لا يتناهی) ذلك التحول في التجلي وذلك الإعطاء دنيا وآخرة (فإن صور التجلي) الإلهي بالأعيان الإمكانية الثبوتية المعدومة بالعدم الأصلي على كل شيء (لا نهاية لها تقف عندها)، فهو يتجلى بالصور على الصور، فما من صورة محسوسة أو معقولة أو موهومة في الدنيا والآخرة والبرزخ إلا وهي تعرف الحق تعالى في صورة تجلی عليها بها.
ويتحول لها فيها بصورة أخرى غيرها، فيعرفه من عرفه وينكره من أنكره، وهو سبحانه على ما هو عليه في حضرة إطلاقه الحقيقي . 
وكذلك العلم بالله ما له غاية في العارفين يقف عندها ، بل هو العارف في كل زمان تظلب الزيادة من العلم به رب زدني علما)، ژبي زدني علماه، و زدني علما الأمر لا يتنامى من الطرفيني .
هذا إذا لك ك وخلق ، فإذا نظرت في قوله تعالى: «كنت رجله التي يسعى بها ويده التي يبطش بها، ولسانه الذي يتكلم به، إلى غير ذلك من القوى، ومحالها التي هي الأعضاء لم تفرق فقلت الأمر حق كله أو ځل گله هو خلق بنسبة وهو حق بنسبة والعين واحدة. في صورة ما تجلى عن صورة من قبل ذلك التجلي هو المتجلي والمتجلى له.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك العلم بالله ما له غاية في العارف يقف عندها، بل هو العارف في كل زمان يطلب الزيادة من العلم به.
«رب زدني علما» ، «رب زدني علما»، «رب زدني علما».
فالأمر لا يتناهى من الطرفين. هذا إذا قلت حق وخلق، فإذا نظرت في قوله : «كنت رجله التي  يسعى بها و يده التي يبطش بها و لسانه الذي يتكلم به» إلى غير ذلك من القوى، ومحلها الذي هو الأعضاء، لم تفرق فقلت الأمر حق كله أو خلق كله.
فهو خلق بنسبة وهو حق بنسبة والعين واحدة.
فعين صورة ما تجلى عين صورة من قبل ذلك التجلي، فهو المتجلي والمتجلي له.) 
 
(وكذلك)، أي مثل كثرة صور التجلي من الحق تعالى (العلم بالله) تعالى (ما له غاية)، أي نهاية (في العارفين به) سبحانه يقف ذلك العلم (عندها) وإن تنوعت المعارف به تعالى واختلفت إلى وجوه كثيرة على حسب الناس من السالكين والواصلين.
على أنه لا وصول إليه سبحانه بل الكل سالكون، والسلوك منهم مختلف على حسب اختلاف الهمم، واختلاف الهمم على قدر الطلب، والجذب من جهة الحق تعالى لهم بسبب صفاء الأحوال وصدق المعاملة (بل هو)، أي الشأن العارف بالله تعالى (في كل زمان) إلى يوم القيامة (يطلب الزيادة) على ما عنده (من العلم به)، أي بالله تعالى فيقول : ("رب"، أي يا رب (" زدني علما") [طه: 114] بك كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم الخلق بالله تعالی ومع ذلك هو محتاج إلى زيادة العلم: "وقل رب زدني علما" ،

ثم كرر المصنف قدس سره ذلك الطلب ثلاث مرات
فقال : ("ربي زدني علما" ، "ربي زدني علما" ) فهو تكرار تأكید لفظي..
أو الأول طلب الزيادة من العلم بحضرات الأفعال الربانية.
والثاني ثم الأسماء والصفات الإلهية.
والثالث ثم غيب الذات العلية.
و الأول في مواطن الدنيا.
والثاني في موطن البرزخ.
والثالث في موطن الآخرة. 
والأول باعتبار تجلیات عالم الملك في الأجسام. 
والثاني باعتبار تجلیات عالم الملكوت في النفوس.
والثالث باعتبار تجلیات عالم الجبروت في الأرواح. 
أو الأول علم القيود. 
والثاني علم الإطلاق. 
والثالث علم الحقيقي وهو الإطلاق عن الإطلاق. 
أو الأول علم الفرق الأول. 
والثاني علم الجمع.
والثالث علم جمع الجمع، وهو الفرق الثاني . 
أو الأول علم العامة .
والثاني علم الخاصة .
والثالث علم خاصة الخاصة.
فالأمر الذي هو التجلي في الصور والعلم بالمتجلي فيها (لا يتناهی) في الدنيا والآخرة (من الطرفين)، أي من طرف الحق سبحانه ومن طرف العبد .

(هذا) يكون (إذا قلت) يا أيها السالك (حق) موجود بنفسه مطلق بالإطلاق الحقيقي (وخلق) قائم بالحق مقيد بالصور الحسية والعقلية والوهمية (فإذا نظرت) يا أيها السالك (في قوله سبحانه في الحديث القدسي (كنت رجله)، أي العبد المتقرب بالنوافل (التي يسعى بها) وهي رجله الوجودية الحقيقية القائمة بنفسها لا رجله التي لا يسعى بها وهي صورة المرئية العدمية (و) کنت (يده التي يبطش بها) وهي الوجودية الحقيقية لا التي يبطش بها وهي الصورة العدمية. 
(و) کنت (لسانه الذي يتكلم به) كذلك (إلى غير ذلك من القوى ومحالها التي هي الأعضاء) من سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به (لم تفرق) .
يا أيها السالك حينئذ بين الحق تعالی والخلق، فالحق تعالی عندك هو الوجود المطلق، وهو الظاهر في كل ما هو مسمى بالخلق في الحس والعقل من الصور، وإن كانت الصور من حيث ما هي صور في نفسها مع قطع النظر عن الظاهر بها خلق عندك أيضا .
ولكن هذا الاعتبار يبطن عندك عند ظهور الحق تعالى، وعدم فرق بينه وبين الخلق كما ذكر.
فقلت حينئذ (الأمر) في نفسه (حق كله) من غير خلق أصلا لإنطماس آثار الأعيان الممكنة عند تجلی نور الوجود الحقيقي المطلق (أو) قلت: 
إذا اعتبرت الصور الظاهرة بالوجود الحق أن الأمر في نفسه (خلق كله)، ولا حق في الحس ولا في العقل، لأنه الوجود المطلق والغبب الذي حقيقته لا تدرك ولا تلحق وإذا رجعت إلى الاعتدال في الأحوال.
(فهو)، أي الأمر في نفسه (خلق بنسبة) الصور المشهودة في الحس والعقل (وهو) أيضا ذلك الأمر في نفسه (حق بنسبة) الوجود القائم على الصورة المشهودة (والعين)، أي الذات وهي في نفس الأمر لا بقيد حس ولا عقل 
 
(واحدة) لا تعدد فيها ولا ترکیب لها مطلقا (فعين صورة ما تجلی)، أي العين الحقيقة المنجلية المنکشفة في صورة من الصور هي بعينها (عين صورة من)، أي تلك الحقيقة المنجلية بصور الشخص الذي (قبل ذلك التجلی)، أي الانكشاف المذكور في تلك الصورة الأولى .
(فهو) سبحانه (المتجلي) بصيغة اسم الفاعل أي المنکشف بأي صورة شاء (و) هو أيضا (المتجلى له) بصيغة اسم المفعول والصور هي الفارقة بين جميع الحضرات.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فانظر ما أعجب أمر الله من حيث هويته، ومن حيث نسبته إلى العالم في حقائق أسمائه الحسنى.
فمن ثم و ما ثمه ... و عين ثم هو ثم
فمن قد عمه خصه ... و من قد خصه عمه
فما عين سوى عين ... فنور عينه ظلمه
فمن يغفل عن هذا ... يجد في نفسه غمه
وما يعرف ما قلنا  ... سوى عبد له همه )
 
.

يتبع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 9:57 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثالث .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الثالث

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

(فانظر) يا أيها السالك (ما أعجب أمر الله) تعالى الواحد القديم الظاهر بالصور الحادثة كلها إلى الأبد باعتبار قيامها به إيجادا وإمدادا (من حيث هويته)، أي حقيقته الواحدة المطلقة بالإطلاق الحقيقي .
(ومن حيث نسبته) تعالى، أي كونه متوجها (إلى) صور (العالم) كلها (في حقائق أسمائه الحسنى) الأزلية يتحول بها في الصور على مقتضى ما تطلبه من الآثار، فيظهر في صورة الشاهد وصورة المشهود، وصورة الغافل والمغفول عنه، والعارف والمعروف، وأنواع كثيرة من غير أن يتعدد أو يتكثر أو يتحول في نفسه، أو يتبدل عما هو عليه في الأزل من إطلاقه الحقيقي، وإذا علمت هذا [شعر]
(فمن) يعني كل شيء من كل عين محسوسة أو معقولة (ثمة)، أي هناك يعني في الحس والعقل في الدنيا والآخرة عند العارف والجاهل والمعتقد والمنكر (وما ثمة)، أي هناك من كل حال من أحوال عين من الأعيان المذكورة (وعين) واحدة (ثم)، أي هناك وهي المعروف الذي يتجلى لقلب العارف في كل شيء هو اعتقاد الجاهل الذي يؤمن به ويكفر بما عداه فإن الجمع (هو)، أي هويته الحقيقية والذات الغيبية (ثم)، أي هناك ظاهر في كل ما ذكر من الصور (فمن قد عمه)،
أي الحق تعالى بأن قال بعموم ظهوره في كل شيء (خصه)، أي كان ذلك القول تخصيصا له بما يعلم ذلك القائل من كل شيء، والحق تعالی أعم من ذلك التعميم المذكور بحيث يعود تعميمه تخصیص من السعة التي لا نهاية لها (ومن قد خصه).
أي خص الحق تعالى باعتقاد اعتقده فيه ونفي عنه ما عدا ذلك الاعتقاد فإنه قد (عمه)، أي عم الحق تعالی بذلك التخصيص من جهة أن اعتقاده الذي خصص الحق تعالی به دون كل ما عداه من الاعتقادات، هو اعتقاد من جملة الاعتقادات كلها، مساو لها عند دعواه أيضا بأنه تعالى لا يشابه شيئا من الحوادث.
وذلك الاعتقاد الذي خصه به حادث مثل بقية الاعتقادات، والكل مخلوق، وقد قال تعالى: "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت" [الملك: 3].
وقال تعالى: "الله خالق كل شيء" [الرعد: 16].
فمساواة اعتقاده الذي خص الحق تعالی به لجميع الاعتقادات كلها بل لجميع الصور المحسوسات والمعقولات أمر لازم لذلك التخصيص، فيلزم من ذلك التخصيص التعميم سواء شعر صاحبه أو لم يشعر.
(فما عين) من جميع الأعيان المحسوسة والمعقولة أو الموهومة موجودة أصلا (سوی)، أي غير (عين) واحدة فقط، ولكنها ظاهرة في جميع صور الأعيان الكثيرة المذكورة، ثم بين تلك العين الواحدة حيث قال (فنور)، أي فهي نور من قوله تعالى: "الله نور السماوات والأرض" [النور: 35]، وذلك من حيث البطون، وأما من حيث الظهور فإن (عينه)، أي عين ذلك النور يعني ما يعاين منه (ظلمة)، لأن عينه هي الصورة الممكنة العدمية الكثيرة في الحس وفي العقل وفي الوهم والخيال في الدنيا وفي الآخرة. 
(فمن)، أي فالإنسان الذي (يغفل عن) استحضار (هذا) المشهد المذكور (يجد في نفسه غمة)، أي حزنا شديدا وهما مديدة لتعلق خواطره بالأغيار وافتتان بصیرته بفتن هذه الدار.
فتراه يبغض هذا ويحقد على هذا ويحسد هذا ويداهن هذا ويراعي هذا ويخون هذا ويكذب على هذا ويحتقر هذا ويخاف من هذا، إلى غير ذلك من أحوال الغافلين وظلمات المحجوبين الجاهلين، والله تعالى بصير به في جميع ذلك ومطلع عليه من حيث لا يشعر في كل ما هنالك.
قال سبحانه : "أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون" [الزخرف: 80].
(ولا يعرف ما قلنا هنا) من هذه الأسرار وشواهد هذه الأنوار (سوی)، أي غير (عبد) من عباد الله تعالى المخلصين العارفين به سبحانه.
(له همة) عالية لا ترضى بخسيس الأحوال و الأسافل من لذات الدنيا السريعة الزوال.
ولا تنطق إلا بمعالي الأمور ولا يقف بها المسير دون الوصول إلى حقيقة النور. 
قال الله تعالی :
قال الشيخ رضي الله عنه : («إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب» لتقلبه في أنواع الصور والصفات ولم يقل لمن كان له عقل، فإن العقل قيد فيحصر الأمر في نعت واحد والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر.
فما هو ذكرى لمن كان له عقل وهم أصحاب الاعتقادات الذين يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا وما لهم من ناصرين. 
فإن إله المعتقد ما له حكم في إله المعتقد الآخر: فصاحب الاعتقاد يذب عنه أي عن الأمر الذي اعتقده في إلهه وينصره، وذلك في اعتقاده لا ينصره، فلهذا لا يكون له أثر في اعتقاد المنازع له.
وكذا المنازع ما له نصرة من إلهه الذي في اعتقاده، فما لهم من ناصرين،) 
 
("إن في ذلك ") [ق: 37]، أي ما ذكر من آيات الله تعالى الباهرة وحقيقته الظاهرة في كل صورة في الدنيا والآخرة (" لذكري")، أي تذكر وتحقق ("لمن كان له قلب") [ق: 37]، أي لا نفس لأن النفس ما جمد على حالة واحدة من باطن الإنسان المنافسة الحق تعالى في دعوى الوجود معه سبحانه والاستقلال بالأعمال والأحوال والأقوال، فاقتضى ذلك التباس الأمر عليه السلام.
قال تعالى: "بل هم في لبس من خلق جديد" [ق: 15]
وأما القلب فإنما سمي قلبا (لتقلبه في أنواع الصور)، أي اختلاف الصور عليه في شعور منه بذلك (و) أنواع (الصفات) المختلفة فلا يلتبس عليه الخلق الجديد الذي هو فيه كل لمحة لقيامه بأمر الله تعالى.
قال تعالى: "وما أمرنا إلا وجد كلمح بالبصر " [القمر: 50]، (ولم يقل) سبحانه (لمن كان له عقل فإن العقل قید) يقال : عقلت البعير إذا قيدته بالعقال خوفا من شروده (فيحصر)، أي العقل (الأمر) الإلهي (في نعت)، أي وصف (واحد والحقيقة) الإلهية المطلقة (تأبي الحصر)، أي تمتنع منه وتبعد عنه (في نفس الأمر)، لأن لها الإطلاق الحقيقي عن كل إطلاق مفهوم
(فما هو)، أي ذلك الحق تعالى (ذكرى لمن كان له عقل)، لأن العقل يربطه سبحانه في اعتقاد مخصوص وينفي عنه ما عدا ذلك الاعتقاد (وهم)، أي العقلاء الناظرون بعقولهم في معرفة الله تعالى.
 (أصحاب الاعتقادات) المختلفة يعتقد كل واحد منهم اعتقادا مخصوصا في الله تعالى أداه إليه نظر عقله واجتهاد فكره وهو فرح به مسرور يدعو إليه غيره لجزمه فيه أنه مطابق لنفس الأمر فيما الحق تعالى عليه وهم (الذين يكفر بعضهم بعضا) أي ينسب بعضهم بعضا إلى الكفر بالله تعالى لتصويب اعتقادهم في الله تعالى أنه كذا.
والحكم على اعتقاد غيرهم فيه تعالى أنه خطأ غير موافق لنفس الأمر الذي عندهم، مع أن الاعتقادات كلها مخلوقة فيهم باعترافهم بذلك وإجماعهم على أن الحق تعالى لا يشابه مخلوقاته أصلا.
قال تعالى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه" " وأضله الله على علم" [الجاثية: 23] الآية (ويلعن)، أي يدعو باللعن والطرد عن رحمة الله وعن القرب إليه سبحانه
(بعضهم بعضا وما لهم) كلهم (من ناصرين) .
كما قال الله تعالى: " ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين" [العنكبوت : 25].
(فإن الإله المعنقد) بصيغة اسم المفعول، أي الإله الذي يعتقده الإنسان ويحصره بفهمه مع نفيه جميع ما يعتقده غيره من كل ما لا يكون مثل اعتقاده هو (ما له حكم)، أي تأثير أصلا لأنه أثر صادر عن توهم معتقده وجهله بالإله الحق سبحانه (في الإله المعنقد) الذي يعتقده (الآخر) الذي يخالفه.
فلأجل هذا لا ينصر معتقده على من يكذب به من صاحب الإله المعتقد الآخر وبالعکس.
(فصاحب الاعتقاد يذب)، أي يحمي (عنه أي عن الأمر الذي اعتقده في إلهه وينصره)، على من كذب به (وذلك) الإله (الذي) صوره (في اعتقاده لا ينصره)، لأنه أثره الذي قد أثره بقدرة الإله الحق سبحانه (فلهذا لا يكون له).

أي لذلك الذي في اعتقاده أثر (في اعتقاد) صاحب ذلك الإله الآخر (المنازع له وكذلك المنازع) بصيغة اسم المفعول الذي هو قد نازعه غيره بأن جحد عليه إلهه الذي اعتقده في نفسه (ما له) أيضا (نصرة من إلهه الذي في اعتقاده) لما ذكرنا من أنه أثر صادر عن نفسه فلا تأثير له في شيء أصلا، ولهذا إذا دعاه لا يجيب دعاءه لأنه ليس هو الإله الحق تعالى .
والله تعالى يقول : "ادعوني أستجب لكم" [غافر: 60] فلو دعا الله تعالی لاستجاب له (وما لهم)، أي لأصحاب آلهة الاعتقادات (من ناصرين) من آلهتهم التي اعتقدوها وعبدوها في نفوسهم. 
قال الله تعالى : "ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم" [محمد: 3]. 
وقال تعالى: "ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم " [محمد: 11].
 قال الشيخ رضي الله عنه : ( فنفى الحق النصرة عن آلهة الاعتقادات على انفراد كل معتقد على حدته، والمنصور المجموع، والناصر المجموع.
فالحق عند العارف هو المعروف الذي لا ينكر.
فأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة.
فلهذا قال «لمن كان له قلب» فعلم تقلب الحق في الصور بتقليبه في الأشكال.
فمن نفسه عرف نفسه، وليست نفسه بغير لهوية الحق، ولا شيء من الكون مما هو كائن ويكون بغير لهوية الحق، بل هو عين الهوية.
فهو العارف والعالم والمقر في هذه الصورة، وهو الذي لا عارف ولا عالم، وهو المنكر في هذه الصورة الأخرى.)
 
(فنفى الحق) سبحانه (النصرة) في المعتقدين (عن آلهة الاعتقادات) المتخيلة في النفوس (على) حسب (انفراد كل معتقد) لإله (على حدته فالمنصور) من الآلهة المعتقدة (المجموع والناصر) من المعتقدين للآلهة المعتقدة (المجموع) فكل معتقد ينصر إلهه لا إله غيره، وإلهه عنده منصور لا عند غيره، وآلهة الاعتقادات لا نصرة لها أصلا.
فالحق سبحانه (عند العارف) به (هو المعروف) عند كل أحد (الذي لا بنکر)، أي لا ينكره أحد أصلا من حيث هو الحق الموجود سبحانه، وإن أنكره من أنكره من حيث ما هو صورة محسوسة أو معقولة.
فإن هذا توهم في المعروف ما هو المعروف، ولهذا يصف الواصف باعتبار توهمه فيقول: حضر ، ويقول : غاب ، ويقول : كبر ، ويقول : صغر إلى غير ذلك. 
والمعروف عند الموصوف بجميع ذلك توهمة فيه على ما هو عليه لم يتغير (فأهل المعروف)، أي المتحققون به (في الدنيا) عن كشف وشهود (هم أهل المعروف في الآخرة)، أيضا كما أن أهل المنكر في الدنيا وهم أهل الصور المتجددة محسوسة كانت أو معقولة هم أهل المنكر في الآخرة أيضا .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وأن أهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة" رواه الطبراني عن سليمان وعن ابن عباس رضي الله عنهم. والبيهقي وابن أبي شيبة وغيرهما.
 
وفي رواية الطبراني أيضا عن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  :" إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة وأن أول أهل الجنة دخولا الجنة أهل المعروف".

(فلهذا قال) تعالى في الآية السابقة ("لمن كان له قلب" فعلم ) صاحب ذلك القلب (تقليب الحق) سبحانه (في الصور) المختلفة المعقولة والمحسوسة (بتقليبه)، أي تقليب صاحب ذلك القلب (في الأشكال) والهيئات المسماة أحوا له، فكلما انقلب إلى شكل وحال وهيئة انقلب الحق عنده في صورة له هي عين ذلك الشكل والحال والهيئة التي فيها .
وصور كل ما تقتضيه تلك الصور من الصور المحسوسة والمعقولة. وهكذا الأمر دائما في الدنيا والآخرة

(فمن نفسه)، أي نفس ذلك العارف وتقليب قلبه في الأشكال المختلفة (عرف نفسه)، فكان عارفة ومعروفة (وليست نفسه) التي عرفها بها ذلك العارف (بغير هوية الحق) تعالی فقد عرف الحق بالحق.
وهوية الحق كناية عن حقيقته التي هي الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي الظاهر بتلك الشؤون المسماة صورة وأشكالا وأحوالا وأعمالا وأقوالا وأفعالا إلى غير ذلك من الألقاب الشرعية والعرفية.
(ولا شيء) أيضا (من) جميع (الكون)، أي هذا العالم الحادث (مما هو كائن) في الحال ويكون في المستقبل إلى ما لا نهاية له (بغير هوية الحق سبحانه، أي حقيقته أيضا كما ذكرنا (بل هو)، أي جميع ذلك (عين الهوية) المذكورة.

(فهو)، أي ذلك الذي عرف نفسه بنفسه بل عرف ربه بربه (العارف بنفسه و بربه (و) هو (العالم) أيضا بكل ما سواه (و) هو (المقر) بالحق المتجلي له (في هذه الصورة) التي هو فيها وفي كل صورة أيضا (وهو الذي لا عارف) أبيض (ولا عالم) من جميع الناس (وهو المنكر) للتجلي الإلهي في (هذه الصورة الأخرى)، لأنه مقربه في صورة المنجلي عليه بها في نفسه عند العارف هو وكل عارف وكل جاهل وكل مقر وكل منكر.
 قال الشيخ رضي الله عنه: (هذا حظ من عرف الحق من التجلي والشهود في عين الجمع، فهو قوله «لمن كان له قلب» يتنوع في تقليبه.
وأما أهل الإيمان وهم المقلدة الذين قلدوا الأنبياء والرسل فيما أخبروا به عن الحق، لا من قلد أصحاب الأفكار والمتأولين الأخبار 
الواردة بحملها على أدلتهم العقلية، فهؤلاء الذين قلدوا الرسل صلوات الله عليهم وسلامه هم المرادون بقوله تعالى «أو ألقى السمع» لما وردت به الأخبار الإلهية على ألسنة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهو يعني هذا الذي ألقى السمع شهيد ينبه على حضرة الخيال واستعمالها، وهو قوله عليه السلام في الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه»، والله في قبلة المصلي، فلذلك هو شهيد. )
 
(هذا) الأمر المذكور (حظ)، أي نصيب (من عرف الحق) تعالى (من طريق التجلي) أو الانكشاف الإلهي (والشهود) العياني للقائمين (في عين الجمع) الحقيقي الموروث للأولياء عن الأنبياء والمرسلين بحسب المتابعة وكمال الاقتداء في الظاهر والباطن عن صدق وإخلاص.

(فهو)، أي ما ذكر معنى قوله تعالى (ولمن كانش له قله) وذلك القلب (بتنوع في تقليبه) أنواع كثيرة فيتبدل له رب الحق تعالى بالتجلي عليه في صور مختلفة يعرفه بها كلها فلا ينكره في شيء منها أصلا في الدنيا والآخرة.

(وأما أهل الإيمان)، أي التصديق بوجود الله تعالى من غير شهود ولا كشف فهم المقلدة) جمع مقلد (الذين قلدوا)، أي اتبعوا (الأنبياء والرسل) عليهم الصلاة والسلام (فيما)، أي في جميع ما (أخبروا به عن الحق) تعالى من الأوصاف والأسماء والأمور المغيبة من أخبار الأمم قبل يوم القيامة وأحوال الموت والقبر والقيامة (لا) أهل الإيمان (من قلد)، أي اتبع (أصحاب الأفكار) المتحكمين بأفكارهم على معاني ما ورد عن الحق تعالى (و المتأولين)، أي عارفين معاني (الأخبار الواردة)، عن الحق تعالى في الكتاب والسنة عما يريده الله تعالى منها مما هو غيب عنا (بحملها على أدلتهم) العقلية بحسب ما تقتضيه مما فهموه بأفكارهم (فهولاء)، أي أهل الإيمان (الذين) هم قد (قلدوا)، أي اتبعوا (الرسل صلوات الله عليهم) مصدقين بجميع ما ورد عنهم من الأخبار الإلهية والنبوة على حسب ما يعلمه الله تعالى من ذلك وتعلمه أنبياؤه ورسله علیهم السلام لا على حسب ما يفهمونه بعقولهم وأفكارهم.
(هم المرادون بقوله) عز وجل في الآية المذكورة سابقة أن في ذلك "لذكرى "لمن كان له قلب" (أو ألقى السمع)، أي سمعه (لما وردت به الأخبار الإلهية) المذكورة (على ألسنة) 

جمع لسان (الأنبياء عليهم السلام وهو يعني هذا) الإنسان (الذي ألقي)، أي أمال وطرح مصغية (السمع) منه لما ذكر ("شهيد")، أي مشاهد لما ألقى السمع وإن لم يكن عارفا به.
( ينبه) سبحانه بذلك (على حضرة الخيال) المقيدة للمطلق (وعلی) جواز استعمالها في معرفة المطلق للضرورة، إذ لا يمكن الممكن المفيد أن يعرف الواجب المطلق إلا مفيدة بقيود من طرفه لا من طرف الواجب، فيعرف الواجب المطلق بذلك ويعرف أنه ما عرفه إلا بما منه لا بما من الواجب المطلق.
ويعرف أنه عرف الواجب المطلق من وجه ما منه وما عرف الواجب المطلق من وجه ما من الواجب المطلق، فالواجب المطلق عنده موصوف بأنه الظاهر له من وجه ما منه ، والباطن عنه من وجه ما هو الواجب المطلق عليه في نفسه.
فهو مشاهد له من حيث ما هو ظاهر له، وعاجز عنه من وجه ما هو باطن عنه، ولهذا ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول من حيث الظهور : اما رأيت شيئا إلا ورأيت الله فيها، وكان يقول من حيث البطون «العجز عن درك الإدراك إدراك»
(وهو)، أي هذا المعنى المذكور (معنى قوله)، أي النبي (عليه السلام) في بيان مقام (الإحسان).
فالإحسان (أن تعبد الله) تعالى بأن تأتي بكل ما أمرك به سبحانه بأمر قطعي أو ظني، وتنتهي عن كل ما نهاك عنه تعالی بنهي قطعي أو ظني على حسب ما اقتضاه اجتهادك أو اجتهاد إمامك في الظاهر والباطن.
والحال أنك (كأنك)، أي مثل أنك (تراه)، أي تنظره سبحانه، فإن من كان ممكنا لا يرى الواجب إلا برؤية ممكنة مقتضية لصورة من طرف الرائي وصورة من طرف المرئي تحول بينه وبين الواجب .
فيصير كأنه يراه لا أنه يراه، فإن الرؤية شرطها عدم الحجاب بين الرائي والمرئي وهنا الصورتان حجابان بينهما، وقد يراه في صورة نفسه فيكون حجاب واحد بينهما وقد تضاف الرؤية بوجه غيبي أتم عند الرائي إلى الظاهر بصورة الرائي للظاهر بصورة المرئي ويكون الرائي و المرئي واحدة والصورة بينهما فارقة مميزة للحضرتين.
وهو قوله: «وإن لم تكن تراه فإنه يراك»، أي فإن لم تكن تراه ، لأنه عينك التي تبصر بها فإنه يراك بعينك التي ترى بها نفسك فإنك مرئي لا رائي وهو رائي لا مرئي (و) قوله صلى الله عليه وسلم : (الله في قبلة المصلي).

""أضاف المحقق :  يشير إلى قوله : "إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى"  رواه البخاري ورواه مسلم ورواه غيرهما""

وفي رواية الترمذي: «وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده فى صلاته ما لم يلتفت … الحديث ".
ورواه أبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه وفي الإيمان لابن مندة ونيل الأوطار للشوكاني وصحيح الترمذي للألباني ورواه غيرهما
تلتفتوا فإن الله عز وجل ينصب وجهه لوجه عبده فى صلاته ما لم يلتفت».
ومعنى ذلك مقابلة العبد للصورة التي في نفسه يرى ربه تعالی تجلى عليه فيها فيعبد الله تعالی بصلاته وهو كأنه يراه .
وقوله : ينصب وجهه فإن تلك الصورة شيء. 
وقد قال تعالى : "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88] 
والوجه هو الحقيقة الإلهية الوجودية المحضة المنزهة عن جميع القيود الحسية والعقلية .
(فلذلك)، أي لكونه يستعمل حضرة الخيال في وقت عبادة ربه فيعبده سبحانه وهو متصور له كأنه يراه من غير حصوله في صورة (هو)، أي من ألقى سمعه (شهید)، أي مشاهد للحق تعالی سواء عرف أو لم يعرف فإن عرف كان من القسم الأول الذين هم أهل التجلي والشهود في عين الجمع وإن لم يعرف كان من أهل الإيمان المقلدين للأنبياء و المرسلين فيما جاءوا به من رب العالمين .

قال الشيخ رضي الله عنه : (ومن قلد صاحب نظر فكري وتقيد به فليس هو الذي ألقى السمع، فإن هذا الذي ألقى السمع لا بد أن يكون شهيدا لما ذكرناه.
ومتى لم يكن شهيدا لما ذكرناه فما هو المراد بهذه الآية.
فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم «إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا» والرسل لا يتبرءون من أتباعهم الذين اتبعوهم.
فحقق يا ولي ما ذكرته لك في هذه الحكمة القلبية.
وأما اختصاصها بشعيب، لما فيها من التشعب، أي شعبها لا تنحصر، لأن كل اعتقاد شعبة فهي شعب كلها، أعني الاعتقادات )
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 9:58 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الرابع .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الرابع

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

(و) أما (من قلد صاحب نظر)، أي دليل (فكري) عقلي كمقلده علماء الكلام من الأشاعرة وغيرهم .
(وتقيد به)، أي بصاحب ذلك النظر الفكري ولم يحل عن نظره (فليس هو الذي ألقى السمع)، لأنه ما ألقى السمع لما وردت به الأخبار الإلهية من حيث هي أخبار إلهية، وإنما ألقى السمع لنظير صاحب ذلك النظر الفكري ولدليله العقلي وإن كان مستندة إلى الأخبار الإلهية من حيث ما هو ناظر فيها ومستدل بدليل عقله.
(فإن هذا الذي القى السمع) الوارد في الآية (لا بد أن يكون شهيدا)، أي مشاهدة (لما ذكرناه) من استعمال حضرة خياله في تصور معبوده من غير حصر له في صورة (ومتى لم يكن شهيدا لما ذكرناه) من ذلك (فما هو المراد بهذه الآية) في قوله تعالى : (أو ألقى السمع) ، فإن جملة قوله : "وهو شهيد" حال. 
والأحوال قيود في المعنى (فهؤلاء)، أي الذين قلدوا أصحاب الأفكار والأنظار العقلية (هم الذين قال الله) تعالى فيهم :" إذ تبرأ الذين اتبعوا " [البقرة : 166]، بالبناء للمفعول، أي اتبعهم غيرهم وهم الأئمة المتبوعين في أنظارهم الفكرية و أدلتهم العقلية على حسب ما استحسنوه واستقبحوه من الاعتقادات وغيرها ("من الذين اتبعوا")، أي اتبعوهم وهم التابعون لهم في ذلك .
(والرسل) عليهم السلام (لا يتبرؤون من أتباعهم الذين اتبعوهم) فيما جاؤوا به من الحق على المعنى الذي يعلمه الله تعالى وتعلمه رسله من ذلك .
فتعين أن يكون المراد غيرهم من الأئمة المتبوعين وهذا كله حکم مقلدة أصحاب الأفكار و المتأولين الأخبار كما مر.
وأما أصحاب الأفكار نفسهم المتأولون للأخبار بالأدلة العقلية، فهم أهل النظر العقلي، وهم مجتهدون في الاعتقاد والمجتهد مؤمن بما أدى إليه اجتهاده .
فإن كان مخطئا كان خطؤه مردودة عليه، وإن أصاب يثاب ولكنه غير عارف بالله تعالى بل عارف بوجود الله تعالى والعلم بوجود الله غير العلم بالله.
 لأنه عالم بوجود ذات قديمة مطلقة عما لا يليق بها منصفة بصفات الكمال، وهذه حالة خيالية مقتضية للغفلة والحجاب.
والعالم بالله کاشف بذوقه وإحساسه عن الوجود القديم المطلق المتصف بصفات الكمال، المتجلي بتجليات الجلال والجمال.
وهذه حالة ذوقية کشفية حسية لا خيالية (فحقق يا وليي)، أي صديقي (ما ذكرته لك) هنا (في هذه الحكمة القلبية)، أي المنسوبة إلى القلب واعرف وجه نسبتها إلى القلب بما تبين لك في الكلام السابق .
(وأما اختصاصها)، أي هذه الحكمة (بشعيب عليه السلام فلما فيها)، أي في هذه الحكمة (من الشعب) جمع شعبة وهي الفرقة من الشيء والقطعة منه (أي شعبها) كثيرة (لا تنحصر) بالعد (لأن كل اعتقاد) يعتقده القلب (شعبة) من القلب تتشعب بالأفكار المختلفة (فهي)، أي هذه الحكمة (شعب كلها أعني) بالشعب كلها الاعتقادات المختلفة باختلاف المعتقدين.

قال الشيخ رضي الله عنه : (فإذا انكشف الغطاء انكشف لكل أحد بحسب معتقده، وقد ينكشف بخلاف معتقده في الحكم، وهو قوله «وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون».
فأكثرها في الحكم كالمعتزلي يعتقد في الله نفوذ الوعيد في العاصي إذا مات على غير توبة.
فإذا مات وكان مرحوما عند الله قد سبقت له عناية بأنه لا يعاقب، وجد الله غفورا رحيما، فبدا له من الله ما لم يكن يحتسبه.
وأما في الهوية فإن بعض العباد يجزم في اعتقاده أن الله كذا وكذا، فإذا انكشف الغطاء رأى صورة معتقده وهي حق فاعتقدها.
وانحلت العقدة فزال الاعتقاد وعاد علما بالمشاهدة.
وبعد احتداد البصر لا يرجع كليل النظر، فيبدو لبعض العبيد باختلاف التجلي في الصور عند الرؤية خلاف معتقده لأنه لا يتكرر، فيصدق عليه في الهوية «وبدا لهم من الله» في هويته «ما لم يكونوا يحتسبون» فيها قبل كشف الغطاء. )

(فإذا انكشف الغطاء)، أي غطاء الحياة الوهمية الدنيوية بالموت الطبيعي عند حلول الأجل كما قال تعالى : "فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" [ق : 22]
(انكشف)، أي الغطاء فبان الأمر على ما هو عليه وهو الحق تعالى (لكل أحد بحسب معتقده) بصيغة اسم المفعول أي الصورة التي يعتقدها أنها الحق تعالى (وقد بنکشف)، أي الغطاء فيبين الأمر (بخلاف معتقده)، أي ما يعتقده (في الحكم)، أي

حكم الحق تعالى فيظهر له ذلك الحكم الإلهي يوم القيامة بخلاف ما كان يظن أن يظهر في ذلك اليوم (وهو)، أي انکشاف الغطاء بخلاف المعتقد في الحكم (قوله) تعالى في قوم هود عليه السلام ("وبدا" )، أي ظهر ("لهم ") في يوم القيامة ("من الله") تعالى ("ما")، أي حكم ("لم يكونوا يحتسبون") [الزمر: 47].
أي يحتسبونه (فأكثرها)، أي الاعتقادات التي تنكشف يوم القيامة بخلاف ما كانت تظن في الدنيا (في الحكم)، أي حكم الله تعالى على عباده.
(كالمعتزلی)، أي واحد المعتزلة وأصلهم أن واصل بن عطاء اعتزل مجلس الحسن البصري يقرر أن مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر.
فقال الحسن البصري رحمه الله عليه قد اعتزل عنا، فسموا المعتزلة من ذلك اليوم (یعنقد)، أي المعتزلي (في) حق (الله) تعالی (نفوذ) أي تحتم وقوع (الوعيد)، أي العقاب يوم القيامة من الله تعالى (في) حق (العاصي إذا مات على غير توبة فإذا مات) العاصي كذلك (وكان مرحوما)، أي مغفورة له (عند الله) تعالى ولو لم يتب (قد سبقت له عناية) في الأزل من الله تعالى (بأنه لا يعاقب) على عصيانه في يوم القيامة كما قال تعالى: "إن التي سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" [الأنبياء: 101] الآية .
وهذا مذهب أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتريدية أن مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى، ولا يقطع أحد له بعقاب ولا بعفو .
قال تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" [النساء: 48] (وجد) ذلك المعتزلي (الله) تعالى في يوم القيامة إذا انكشف غطاؤه (غفورا) قد غفر ذنوب ذلك العاصي الذي مات من غير توبة (رحيما به) فلم يعاقبه وعفا عنه .

(فبدا)، أي ظهر (له)، أي لذلك المعتزلي (من الله) تعالى في ذلك اليوم (ما)، أي حكم (لم يكن) ذلك المعتزلي (يحتسبه)، أي بظنه (وأما) انکشاف الغطاء بخلاف المعتقد (في) شأن (الهوية)، أي الحقيقة الإلهية (فإن بعض العباد)، أي عباد الله تعالى المؤمنين به سبحانه (يجزم) من غير تردد في (اعتقاده أن الله كذا وكذا)، أي على هذه الصورة الفلانية في نفسه لما أنه صور في نفسه صورة ولم يدر أنه صور ونزهها عن كل صورة محسوسة ومعقولة.
ورأى تلك الصورة التي صورها في نفسه من غير شعور منه أنه صورها لائقة بأن تكون هي الحق تعالى لما رأى فيها من التنزيه وعدم المشابهة لشيء أصلا وأمده في عينه قوله تعالى: "ليس كمثله، شيء" [الشورى:11].
وقول علماء الكلام: کل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، 
فكلما خطر في باله شيء نفاه أن يكون هو الله الذي خطر في باله ثانية أنه الله تعالى.
فتراه يستيقظ لما خطر في باله أولا أنه الله تعالى فينفيه وهو غافل عما خطر في باله ثانيا أنه الله تعالى، لما نفى عنه أن الخاطر في باله أولا هو الحكم فرع التصور.
إذ لا يمكن أن يحكم على أمر بأمر ما لم يتصور الحاكم الأمر الأول المحكوم عليه، والأمر الثاني المحكوم به.
فكل منزه مشبه، لأنه حاکم على الله تعالى أنه لا يشبه شيئا، فالله تعالی محكوم عليه عند هذا الحاكم.
والمحكوم عليه متصور عنده لضرورة الحكم عليه كما ذكرنا.
وكل مشبه أيضا منزه، لأن الحق الذي قيده بصورة على وجه التشبيه له، فإن حصره في تلك الصورة لجهله بما يجب له من الإطلاق الحقيقي الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه.
فقد نزهه سوى تلك الصورة التي حصره فيها ، وإن لم يحصره في تلك الصورة، ولكن وجده ظاهرة له في تلك الصورة وهي من جملة صور تجلياته التي لا تنضبط "في حصر".
فقد علم إطلاقه الحقيقي وعرف أنه عاجز عن معرفته من حيث هو سبحانه، فقد نزهه عن جميع الصور وعن تلك الصورة أيضا التي ظهر له بها.
وهذا التنزيه أعلى وأكمل من التنزيه الأول، فالإيمان الكامل هو هذا التنزيه التشبيه مع التشبيه التنزيه كما سبق بيانه .
(فإذا انكشف الغطاء) بالموت ودخل في عالم المعاني وخرج عن كونه محسوسا بهذا الحس الظاهر (رأی صورة معتقده)، أي ما كان يعتقده (وهی)، أي تلك الصورة (حق) لا شبهة فيها (فاعتقدها)، أنها الحق تعالى والسبب أنه لما كان حيا بالحياة الدنيا الدنيوية الوهمية كان يدعي الوجود الظاهر هو به من كتم عدمه فكان هو في نفسه محسوسأ بالحس الظاهر .
والحق تعالی عنده معقول من عالم المعاني، فلما انكشف الأمر بالموت وانقلب الحال كان هو المعقول من عالم المعاني.
والحق تعالى هو المحسوس الظاهر بالحس الظاهر، وتبين له النور الحق الذي هو الوجود الصرف القديم الذي ليس معه غيره فاعتقده كذلك .

(وانحلت العقدة) التي كان ربط الحق تعالى بها (فزال الاعتقاد) الذي كان عنده في الحق تعالى أنه في الصور الفلانية لا غير، وهو غيب عنه من حيث وجوده الخاص (وعاد) ذلك الاعتقاد المذكور منه (علما) ذوقيا (بالمشاهدة) كما هو حال العارفين بالله تعالى في الدنيا .
(وبعد) حصول (احتداد البصر) للعبد في الدنيا والآخرة بحيث يشهد وجود الحق تعالی في تجليه بالصور (لا يرجع) ذلك العبد بعد ذلك (کلیل)، أي ضعيف (النظر) أصلا ، ولهذا قال بعضهم: لو وصلوا ما رجعوا، ولكن لا يلزم من تلك المشاهدة اللذة في رؤية الحق تعالى، فإن من المشاهدة ما يوجب الألم والعذاب، ومنها ما لا يوجب شيئا، ومنها ما يوجب اللذة، وكل ذلك متفاوت بتفاوت المراتب.

ولهذا قال عليه السلام في دعائه : "وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين" . رواه ابن حبان والحاكم والبزار والطبراني و أحمد والدارقطني والنسائي وابن حجر في إتحاف المهرة وغيرهم.

ونظير ذلك في الآخرة ما هو واقع في الدنيا ، فإن الشهود لا يكون إلا في الصور والرؤية كذلك، والكل في الدنيا ناظرون إلى وجه الحق تعالی بحكم قوله : "فأينما تولوا فثم وجه الله"  
وقوله : "كل شيء هالك إلا وجهه"،لا يقع عليه شهود ولا رؤية ، ولكن بقع به الشهود والرؤية.
وهم في الدنيا مختلفون في الشهود والرؤية وإن كانوا كلهم لا يشعرون بأنهم في شهود ورؤية، وإنما يشعر البعض دون البعض.
وفي الآخرة كلهم يشعرون ، ولكن تتفاوت مراتبهم في العلم بالله سبحانه عند شعورهم بالشهود والرؤية على طبق ما كانوا في الدنيا .
قال تعالى: "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " [الإسراء: 72].
والعمى في الدنيا شهود ورؤية بوجه إجمالي، فإن الأعمى يرى بقلبه ولا يرى بعينه، فيتخيل المرئي في الصورة التي يعطيها له خياله على مقتضى طبعه، فيرى الحق تعالى في عين تلك الصورة ونزول تلك الصورة عنه من حيث ما هي صورة، وتبقى عنده من حيث ما هي وجود حقيقي.
وهذا معنى قول المصنف قدس الله سرهوانحلت العقدة فزال الاعتقاد وعاد علما بالمشاهدة، فإن الاعتقاد لا يكون إلا للصور من حيث ما هي صور، وأما إدراك الأمور المحسوسات فليس هو اعتقادا بل هو علم بالمشاهدة.
فتنفي حالة ذلك الأعمى في الدنيا عن شهود الحق تعالی ورؤيته على مقتضى ما مات عليه من كفر أو فسق أو بدعة أو ضلال إذا لم يتب قبل موته من ذلك.
فيتعذب بهذه الحالة التي مات عليها وهو محجوب عن ربه الذي كلفه بالأحكام في الدنيا ، فلم يمتثلها ومات مخالفا لها بحكم قوله سبحانه :" إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " (المطففين : 15]، ولا يرى الرب سبحانه إلا المؤمنون .

وأما الحق تعالی من حيث ألوهيته التي قام بها كل مألوه فهو الذي قلنا إن الكل يرونه في الدنيا وإن لم يشعروا.
ويشعرون برؤيته في الآخرة على حسب ما هم عليه عند موتهم وانتقالهم إلى الآخرة في مقدار ما هو عندهم في الدنيا .
فمن كثر شهود الحق عنده في الدنيا في كل شيء محسوس أو معقول شهده في الآخرة كذلك.
ومن لم يشهده في بعض المحسوس أو المعقول لم يشهده في الآخرة في ذلك البعض أيضا، وكان أعمى عنه في ذلك البعض.
وهكذا بحكم قوله تعالى: "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا "[الإسراء: 72]، أي أكثر ضلالا من الدنيا عن طريق الوصول إليه سبحانه، وذلك لانقطاع الأعمال ووقوف الهمم، فلا يمكن السير والسلوك في ذلك العالم إلا لأهل السير والسلوك في الدنيا دون المنقطعين.
وما أحد في الدنيا من مؤمن ولا کافر إلا وهو يشهد الحق تعالی ويراه، فمنهم من يراه في محسوس، ومنهم من يراه في معقول وهم أصحاب الاعتقادات الذين يكفر بعضهم بعضا.
ويلعن بعضهم بعضا كلهم في الآخرة يرونه بمقدار ما كانوا يرونه في الدنيا، ويحجبون عنه بمقدار ما كانوا يحجبون عنه في الدنيا.
وتحتد أبصارهم، ولا تكل أنظارهم ولذتهم في النظر إليه سبحانه، وألمهم وعذابهم في ذلك على مقدار أحوالهم التي ماتوا عليها إن كانت من تجليات جماله ورضوانه أو من تجلیات جلاله وسخطه وغضبه.
(فيبدو)، أي يظهر سبحانه (لبعض العبيد) في يوم القيامة (باختلاف التجلي)، أي الانكشاف (في الصور) المختلفة (عند الرؤية) في المحشر كما ورد في الأحاديث النبوية وسبب ذلك الاختلاف في التجلي بالصور .
(لأنه)، أي التجلي في الصور (لا يتكرر) من الحق تعالى (أصلا) لسعة الحضرة الإلهية وإطلاقها الحقيقي، فلا يتجلى الحق تعالی بتجلي واحد لشيء واحد في آنين، ولا يتجلى لشيئين في آن واحد بتجل واحد.
بل له تعالى في كل آن على كل شيء تجلي خاص لا يتكرر أصلا في الدنيا والآخرة (فبصدق عليه)، أي على الحق حينئذ (في الهوية)، أي حقيقة الأزلية الأبدية قوله سبحانه ("وبدا لهم من الله ") [الزمر: 47] في حق هويته سبحانه وظهورها لهم متجليها عليهم .

("ما لم يكونوا يحتسبون" فيها)، أي في تلك الهوية الإلهية (قبل کشف الغطاء) عنهم بالموت عن الحياة الدنيوية الوهمية حيث اختلفت عليهم صور تجلياتها فيؤمن بها يومئذ من يؤمن وينكرها من ينكر ويتعوذ منها على مقتضى ما جاء في الحديث النبوي .

 .
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الخامس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 9:59 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الخامس .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الخامس

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وقد ذكرنا صورة الترقي بعد الموت في المعارف الإلهية في كتاب التجليات لنا عند ذكرنا من اجتمعنا به من الطائفة في الكشف وما أفدناهم في هذه المسألة بما لم يكن عندهم.
ومن أعجب الأمور أنه في الترقي دائما ولا يشعر بذلك للطافة الحجاب ودقته وتشابه الصور  مثل قوله تعالى «وأتوا به متشابها».
وليس هو الواحد عين الآخر فإن الشبيهين عند العارف أنهما شبيهان، غير أن )

(وقد ذكرنا في صورة الترقي بعد الموت) لأهل السير والسلوك في الدنيا لا اللذين ماتوا على الانقطاع عن الله تعالى للختم على قلوبهم (في المعارف الإلهية) التي هي عبادة الكمل من أهل الله تعالى إلى الأبد.
وإن كان لها عندهم في الدنيا إشارات جسمانية تسمى عبادات التكليف تنقطع بموت الجسد (فی کتاب التجليات) الإلهية (لنا عند ذكرنا من اجتمعنا به من الطائفة) العارفين بالله تعالى (في الكشف و) ذكرنا (ما أفدناهم في هذه المسألة) وهي الترقي بعد الموت (مما لم يكن عندهم) من قبل ذلك.
وعبارته رضي الله عنه في كتابه المذكور في تجلي سريان التوحيد: 
رأيت ذا النون المصري في هذا التجلي وكان من أطراف الناس .
فقلت له: يا ذا النون عجبت من قولك وقول من قال بقولك: إن الحق تعالی بخلاف ما يتصور ويتمثل ويتخيل، ثم غشي علي، ثم أفقت وأنا أرعد.
 ثم رمزت وقلت : كيف يخلو الكون عنه والكون لا يقوم إلا به، وكيف يكون عين الكون وقد كان ولا كون، وكبف با حبيبي يا ذا النون وقبلته ، أنا الشفيق عليك لا تجعل معبودك عين ما تصورته.
ولا تخلي ما تصورته عنه، ولا تحجبك الحيرة عن الحيرة.
وقل ما قال، فنفى وأثبت : "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" [الشورى : 11] ليس هو عين ما تصور ولا يخلو ما تصور منه.
 فقال ذو النون : هذا علم فاتني وأنا حبيس، والآن قد سرح عني فمن لي به وقد قبضت على ما قبضت .
فقلت: يا ذا النون ما أريدك هكذا ومولانا وسيدنا يقول: "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " [الزمر: 47] . والعلم لا يتقيد بوقت ولا زمان ولا بنشأة ولا بحالة ولا بمقام .
فقال لي: جزاك الله خيرا عني قد بين لي ما لم يكن عندي وتجلت به وتحلت به ذاتي وفتح لي باب الترقي بعد الموت وما كان لي خبر منه جزاك الله خيرا وذكر من هذا القبيل أشياء كثيرة في كتابه المذكور وقعت له مع الجنيد والشبلي وابن عطاء والحلاج وغيرهم رضي الله عنهم. 
(ومن أعجب الأمر أنه)، أي العبد مطلقا في الدنيا وفي الآخرة (في الترقي) في معرفة الله في الوجهة التي هو متوجه إليها والتجلي الإلهي الذي هو فيه من حضرة أي اسم كان في قبضة جمال أو قبضة جلال (دائما) في جميع الأحوال التي يكون فيها ولهذا تری کل متوجه إلى أمر متقن ذلك الأمر متزايد فيه كل وقت ما دام توجهه عليه السلام.
(ولا يشعر) ذلك العبد (بذلك)، أي بالترقي الدائم (للطافة الحجاب) بين نفسه الوهمية الثابتة وبين ربه المتحقق للوجود (ورقته)، أي الحجاب ولبس الحجاب إلا نفسه الوهمية الثابتة من غير وجود، وأحوالها الوهمية أيضا مثلها الثابتة من غير وجود، فيظن أنه الموجود الحقيقي لرقة الحجاب الذي هو نفسه بينه وبينه، حيث ظهر له ذلك الموجود الحقيقي بصورة الحجاب الذي هو نفس العبد الحائلة بينهما ، والنفس مع كونها غير موجودة بل هي ثابتة مع أحوالها متبدلة في كل وقت.

قال تعالى: "بل هم في لبس من خلق جديد" [ق: 15]، فكل خلق يأتي بحجاب عند الجاهل بل يأتي بظهور وتجلي، ويذهب بظهور وتجل عند العارف ، وكل حجاب أو ظهور ترقی بغیر شعور أو بشعور.
(و) لأجل (تشابه الصور) أيضا التي هي النفس وأحوالها والحجاب والظهور.
فإن كل وقت فيه صورة تشبه الصورة التي كانت قبلها وبعدها صورة تشبهها أيضا، وهكذا وليس الشبه في الصور من كل وجه بل من وجه واحد أو وجهين أو أكثر، بحيث تصدق المغايرة وهو أمر خفي لا يشعر به إلا العارف إذا علم الأسماء الإلهية، وعلم تجلياتها .
(مثل قوله) تعالى في ثمر الجنة (وأتوا)، أي آتاهم الله تعالى (به متشابها)، أي يشبه بعضه بعضا غير أنه لا بس في الآخرة واللبس في الدنيا .

(وليس هو)، أي الشأن الواحد من الأشياء المتشابهة (عين) الشيء (الآخر) ولهذا تعددت (فإن الشبيهين) تثنية شبيه وهو المشابه (عند العارف) بالله تعالى (من حيث إنهما شبیهان غیران)، أي كل واحد منهما مغايرة للآخر وهكذا إذا حكم بالشبه بينهما فإنه يلزم من ذلك المغايرة بينهما أيضا .

وإن حكم بالاتحاد لم يكن بينهما شبه فلم تكن مغايرة والخلق جديد مع الأنفاس وإن كان الجاهل عنه في الالتباس كما قال تعالى: "بل هم في لبس من خلق جديد" [ق: 15]، ولا معنى لتجديد الخلق إلا تكراره والحس يقضي بالشبه المقتضي للمغايرة كما ذکر.
قال الشيخ رضي الله عنه : (و صاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد كما يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية، و إن اختلفت حقائقها و كثرت، أنها عين واحدة.
فهذه كثرة معقولة في واحد العين.
فتكون في التجلي كثرة مشهودة في عين واحدة، كما أن الهيولى تؤخذ في حد كل صورة، وهي مع كثرة الصور واختلافها ترجع في الحقيقة إلى جوهر واحد هو هيولاها.
فمن عرف نفسه بهذه المعرفة فقد عرف ربه فإنه على صورته خلقه، بل هو عين هويته وحقيقته.
ولهذا ما عثر أحد من العلماء على معرفة النفس وحقيقتها إلا الإلهيون من الرسل والصوفية.)

(وصاحب التحقيق من العارفين بري الكثرة في) المنجلي (الواحد) الظاهر في الصور المختلفة المحسوسة والمعقولة من غير أن يتغير عن تنزيهه وإطلاقه الحقيقي (كما يعلم) صاحب التحقيق أيضا (أن مدلول)، أي ما تدل عليه (الأسماء الإلهية) من العين المسماة بها أزلا وأبدا.
(وإن اختلفت حقائقها وكثرت) من حيث ظهورها بمدلول كل اسم من تلك الأسماء التي بها (أنها)، أي تلك الحضرة التي هي مدلول الأسماء المذكورة (عين)، أي حقيقة وماهية وذات (واحدة فهذه) الكثرة في الحقائق المختلفة (كثرة معقولة).

أي ثابتة من حيث النظر العقلي (في واحد العين) من حيث النظر الإيماني الكشفي (فتكون في التجلي) الإلهي (كثرة مشهودة) من حيث النظر العقلي والحسي (في عين واحدة) من حيث النظر الإيماني الكشفي الروحاني (كما أن الهبولی) وهي المادة التي تصنع منها الأشياء كالخشب للباب والتخت والصندوق والمفتاح والقصعة والكرسي وغير ذلك.
والطين للأواني المختلفة التي تصنع منه، والحبر للحروف والكلمات التي تكتب به في القرطاس (تؤخذ)، أي لا بد من ذكرها (في حد)، أي تعريف (كل صورة) من صور ما صنع منها (وهي)، أي الهيولى (مع كثرة الصور) الظاهرة منها (واختلافها) في الهيئات والأحكام والخواص (ترجع) تلك الهيولى (في الحقيقة إلى جوهر واحد وهو هیولاها)، أي هيولى تلك الصور كلها، أي مادتها.
وكذلك هنا جميع الصور المحسوسة والمعقولة قائمة بالوجود الحق سبحانه، وهو قيوم عليها كلها ممسك لها بقدرته، وهو واحد لا شريك له وإن تعددت تلك الصور وكثرت واختلفت هيئاتها وأحكامها وخواصها.

(فمن عرف نفسه بهذه المعرفة) وأنه في باطنه وظاهره صورة من جملة الصور القائمة بالحق تعالی (فقد عرف ربه) سبحانه المتجلي عليه بذاته فأظهر ذاته، وبصفاته فأظهر صفاته، وبأسمائه فأظهر أسمائه، وبأفعاله فأظهر أفعاله، وبأحكامه
فأظهر أحكامه (فإنه)، أي الرب تعالى (على صورته) سبحانه التي هي مجمع ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه والكل حضرات متعددة واعتبارات مترددة على حقيقة واحدة وعين منفردة (خلقه)، أي خلق ذلك العارف كما قال: "إن الله خلق آدم على صورته ".
رواه مسلم في صحيحه  وابن حبان في صحيحه و مسند أحمد وسنن أبي داود وسنن أبي عاصم و مسند الحميدي و الأسماء والصفات للبيهقي و التوحيد لابن خزيمة وغيرهم.
وفي رواية : "على صورة الرحمن ".   و مسند أحمد وسنن أبي داود و رواه الطبراني وابن أبي عاصم والأسماء والصفات للبيهقي و التوحيد لابن خزيمة و الشريعة للآجري 
فالعارف تفصيل إجمال الغيب المطلق، وتمييز حضرات الوجود المحقق (بل هو)، أي الرب تعالى (عين هويته)، أي هوية العارف به سبحانه (و) عين (حقيقته) الثابتة في الغيب .
ولهذا قال بعض العارفين : إن الصوفي غير مخلوق .
ونقل عن أبي يزيد أنه قال : إن الله اطلع على العالم 
فقال : يا أبا يزيد كلهم عبيدي غيرك فأخرجني من العبودية.
وقال الشبلي رضي الله عنه حيث سمع ما قاله أبو يزيد رضي الله عنه : کاشفني الحق بأقل من ذلك .
فقال : كل الخلائق عبيدي غيرك، فإنك أنا. 
ولكنه سبحانه ظهر في حضرة عالم الإمكان بصورة العارف لتكمل مراتب المعرفة بوجود عارف و معروف ومعرفة، ويظهر سر الوترية والتثليث.
ويرتبط الشفع الذي هو العارف والمعرفة ، والعابد والعبادة ونحو ذلك من حضرة الإمكان بالفرد الذي هو المعروف والمعبود.وأمثال ذلك من حضرة الوجود.
(ولهذا)، أي لأجل ما ذكر (ما عثر)، أي طلع (أحد من العلماء)، أي الموصوفين بمطلق العلم في ملة الإسلام (والحكماء) من الفلاسفة وغيرهم (على معرفة النفس)، أي ما عرف أحد نفسه (وحقيقتها) فيلزم أن لا يكون عرف ربه (إلا) العلماء والحكماء (الإلهيون)، أي المنسوبون إلى الإله تعالى (من الرسل) والأنبياء عليهم السلام (والأكابر) المحققين العارفين (من الصوفية) لا غير.


قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلمين في كلامهم في النفس وماهيتها، فما منهم من عثر على حقيقتها، ولا يعطيها النظر الفكري أبدا.
فمن طلب العلم بها من طريق النظر الفكري فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم.
لا جرم أنهم من «الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا».
فمن طلب الأمر من غير طريقه فما ظفر بتحقيقه، وما أحسن ما قال الله تعالى في حق العالم وتبدله مع الأنفاس.
«في خلق جديد» في عين واحدة، فقال في حق طائفة، بل أكثر العالم، «بل هم في لبس من خلق جديد». فلا يعرفون تجديد الأمر مع الأنفاس.
لكن قد عثرت عليه الأشاعرة في بعض الموجودات وهي الأعراض، وعثرت عليه الحسبانية في العالم كله. وجهلهم أهل النظر بأجمعهم.
ولكن أخطأ الفريقان: أما خطأ الحسبانية فبكونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدل في العالم بأسره على أحدية عين الجوهر الذي قبل هذه الصورة ولا يوجد إلا بها كما لا تعقل إلا به.
فلو قالوا بذلك فازوا بدرجة التحقيق في الأمر. )

(وأما أصحاب النظر) العقلي (وارباب الفكر من) الفلاسفة (القدماء المتكلمين)، أي علماء الكلام (في كلامهم)، أي بحثهم (في النفس) الناطقة الإنسانية (و) بیان (ماهيتها فما منهم من)، أي أحد (عثر)، أي اطلع (على حقيقتها)، أي النفس (ولا يعطيها)، أي حقيقة النفس (النظر الفكري أبدا)، إلا بطريق الحدس والتخمين والظن والتوهم.
ولهذا اختلف الخائضون في ذلك على نحو ألف، قول و قال جدنا ابن جماعة رحمه الله تعالى : وليس فيها قول صحيح بل هي قياسات وتخيلات عقلية (فمن طلب العلم بها)، أي بالنفس الناطقة (من طريق النظر الفكري) كما هو شأن حكماء الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم (فقد استسمن ذا)، أي صاحب (ورم)، أي ظنه سمينة وحسب ورمه سمنة (ونفخ في غير ضرم)، أي نار موقدة، وهذا مثل مشهور يضرب لمن يطلب الشيء من غير موضعه.
(لا جرم)، أي قطعة (أنهم)، أي هؤلاء الطالبين معرفة النفس من نظرهم الفكري (من) جملة القوم ("الذين ضل")، أي خسر ("سعيهم")، أي طلبهم للمعرفة النفسانية الموصلة إلى المعرفة الربانية المترتب عليها سعادة الدارين والنجاة الأبدية

("في الحياة الدنيا")، فخرجوا من الدنيا ولم يظفروا من مطلوبهم بطائل، ولا حصل الهم من المقصود المهم حاصل ("وهم يحسبون")، أي يظنون ("أنهم يحسنون صنعا")، لأنهم خالفوا طريق الأنبياء عليهم السلام بالنظر بنور الإيمان والتأدب في العلم والعمل بآداب الإسلام والإذعان.
والمسلمون منهم خاضوا في معاني الكتاب والسنة بأنظارهم العقلية وأفكارهم الوهمية، وجعلوا الحق الواحد مذاهب كثيرة ، وقد خطأ بعضهم بعضا .
(فمن طلب الأمر من غير طريقه) كمن يطلب معرفة النفس الناطقة من طريق النظر العقلي (فما ظفر بحقيقته)، أي تحقيق ذلك الأمر، والتبس عليهم الحق المبين بملابس الأغيار من العالمين .
(وما أحسن ما قال الله) تعالى (في حق هذا العالم) الحادث (وتبدله)، أي تغيره بمحوه في كل آن وإثبات مثله كأنه هو (مع) تکرار (الأنفاس) الخارجة من أجواف جميع الحيوان والداخلة عليها (في خلق)، أي تخليق وإيجاد وتقدير من الله تعالی (جدید) غير الخلق الأول الذي كان في النفس الأول، ويكون في النفس الثاني والثالث كذلك.
وهكذا جميع ذلك (في عين واحدة ) وجودية حقيقة مطلقة تتبدل عليها تلك العوالم كلها في نفس وتمضي وتأتي غيرها، وهي لا تتبدل ولا تتغير أصلا، وهي على ما كانت عليه في الأزل.

فقال تعالى (في حق طائفة) أنكروا المعاد والمحشر واستبعدوه (بل) في حق أكثر العالم من الناس الغافلين عن أذواق العارفین ("بل هم في لبس")، أي التباس ("من خلق")، أي مخلوق أو تخلیق ("جديد") غير ما يرونه في أول ما يرون (فلا يعرفون تجديد الأمر) في نفسه (مع الأنفاس) فهو غيره في كل نفس.
(لكن قد عثرت)، أي اطلعت (عليه)، أي على هذا الخلق الجديد المتبدل مع الأنفاس (الأشاعرة) من علماء الكلام وهم جماعة أبي الحسن الأشعري من أهل السنة (في بعض الموجودات) من العالم (وهي الأعراض) جمع عرض بالتحريك وهو ما لا قيام له بنفسه عندهم، بل قيامه بالجسم والجسم عندهم خلاف العرض لأنه الذي له قيام بنفسه، يعني تحيزه ليس تابعة لتحيز شيء آخر، والعرض الذي تحيزه تابع لتحيز غيره وهو الجسم.
(و عثرت)، أي اطلعت (عليه)، أي على الخلق الجديد المذكور وتبدله مع الأنفاس الفرقة (الحسبانية)، أي المنسوبون إلى الحسبان وهو الظن والتوهم (في العالم كله) .
ويقال لهم: السوفسطائية فإن سوفسطا اسم للحكمة الموهومة والعلم المزخرف لأن «سوفا » معناه العلم والحكمة واسطا، معناه المزخرف والغلظ ، ومنه اشتقت السفسطة كما اشتقت الفلسفة من «فيلا سوفا»، أي محب الحكم .
وهذه الفرقة أنواع؛ منهم من ينكر حقائق الأشياء ويزعم أنها أوهام و خيالات باطلة وهم العنادية.
ومنهم من ينكر ثبوتها ويزعم أنها تابعة للاعتقادات، حتى إن اعتقدنا الشيء جوهرا فجوهرا أو عرض فعرض أو حادثا فحادث أو قديما فقديم وهم العندية ، ومنهم من ينكر العلم بثبوت شيء واللاثبوتية ويزعم أنه شال وشك في أنه شاك، وهلم جرا، وهم اللاأدرية نسبة إلى لا أدري.
(وجهلهم)، أي الحسبانية (أهل النظر) من المتكلمين والفلاسفة (بأجمعهم) حيث نفوا حقائق الأشياء ولم يعترفوا بثبوت شيء منها أصلا (ولكن أخطا الفريقان)، أي الأشاعرة والحسبانية (وأما خطأ الحسبانية فبكونهم)، أي بسبب أنهم
(ما عثروا)، أي اطلعوا (مع قولهم) الحق (بالتبدل) والتغير والتجدد (في) جميع أجزاء العالم بأسره من المحسوسات والمعقولات (على أحدية عين الجوهر) الفرد الذي هو ليس بمركب ولا متحيز ولا قائم بغيره أصلا (المعقول) من حيث دلالة الأشياء كلها عليه لضرورة صدورها عنه وقيامها به (الذي قبل الظهور في الحس والعقل بجميع هذه الصور المحسوسة والمعقولة .
(ولا يوجد) عند العقول وأفكارها (إلا بها)، أي بتلك الصور (كما لا تعقل) تلك الصور في الظاهر والباطن (إلا به)، لأنه مصدرها وقيومها.
(لو قالوا)، أي الحسبانية (بذلك)، أي بوجود عين ذلك الجوهر المذكور (فازوا بدرجة التحقيق في) معرفة (الأمر) الإلهي وشاركوا أهل الله تعالى في نيل السعادة بالمعرفة الإلهية.
ولكنهم نفوا الكل ولم يثبتوا معلوما ليثبت به مجهول، فلا سبيل إلى مناظرتهم، والجدال معهم محال، بل الطريق كما قال بعض علماء الكلام تعذيبهم بالنار ليعترفوا أو يحترقوا.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأما الأشاعرة فما علموا أن العالم كله مجموع أعراض فهو يتبدل في كل زمان إذ العرض لا يبقى زمانين.
ويظهر ذلك في الحدود للأشياء، فإنهم إذا حدوا الشيء تبين في حدهم كونه الأعراض، وأن هذه الأعراض المذكورة في حده عين هذا الجوهر وحقيقته القائم بنفسه.
ومن حيث هو عرض لا يقوم بنفسه.
فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه من يقوم بنفسه كالتحيز في حد الجوهر القائم بنفسه الذاتي وقبوله للأعراض حد له ذاتي.
ولا شك أن القبول عرض إذ لا يكون إلا في قابل لأنه لا يقوم بنفسه: وهو ذاتي للجوهر.
والتحيز عرض لا يكون إلا في متحيز، فلا يقوم بنفسه.
وليس التحيز عرض لا يكون إلا في متحيز، فلا يقوم بنفسه.
وليس التحيز والقبول بأمر زائد على عين الجوهر المحدود لأن الحدود الذاتية هي عين المحدود و هويته، فقد صار ما لا يبقى زمانين يبقى زمانين وأزمنة وعاد ما لا يقوم بنفسه يقوم بنفسه.
ولا يشعرون لما هم عليه، وهؤلاء هم في لبس من خلق جديد )

(وأما الأشاعرة) الذين هم قائلون بالتبدل والتجدد في الأعراض دون الأجسام (فما علموا أن العالم كله) محسوسة ومعقوله (مجموع أعراض) مختلفة لا غير كما قال الشيخ العارف عبد الهادي السودي اليمني رضي الله عنه :
ما الكون وما تراه إلا عرض …..   فإنه سيان جوهر والعرض 
يا من أنا منهم لرمي غرض   ….. في غيركم والله ما لي غرض


(فهو) أي العالم (يتبدل في كل زمان) فرد کلمح البصر مثل ما يتبدل العرض (إذ العرض) عندهم (لا يبقى زمانین) بل قال بعضهم : 
الصواب أن يقال إن العرض لا يبقى أصلا ، فإن زمان وجوده مقترن بزمان عدمه. 
والقول بأنه لا يبقى زمانين يلزم منه ثلاثة أزمنة زمان يوجد فيه وزمان يبقى فيه وزمان يعدم فيه، وهم نفوا زمانین فثبت له ثلاثة أزمنة .
(ويظهر ذلك)، أي كون العالم كله مجموع أعراض تتبدل وتتجدد في كل زمان على قولهم أيضا (في الحدود)، أي التعاريف (للأشياء فإنهم)، أي الأشاعرة (إذا حدوا)، أي عرفوا (الشيء)، أي شيء كان ما سموه جوهرة أو جسما
(يتبين)، أي ينكشف (في حدهم)، أي تعريفهم (كونه)، أي ذلك الشيء (عين الأعراض) المذكورة في حده كقولهم في تعريف الجسم إنه المركب من الأجزاء التي لا تتجزأ.
ولا وجود للجزء الذي لا يتجزأ في نفسه من غير أن يكون مركبة مع غيره، وإلا شغل الجهات الست فكان ما يلي منه هذه الجهة غير ما يلي منه الجهة الأخرى، فينقسم فلا يكون جزءا لا يتجزأ، ولا شك أن التركيب في الجسم عرض، وإذا زال التركيب زال كونه جسما.
وقولهم أيضا في تعريف الجسم: 
إنه الطويل العريض العميق والطول والعرض والعمق مجموع أعراض لا غير، فإذا زالت زال الجسم، وهكذا في تعاريف الأشياء كلها عندهم (و) يتبين أيضا (أن هذه الأعراض المذكورة) عندهم (في حده)، أي تعریف ذلك الشيء .

هي (عين هذا الجوهر) الذي أرادوا حده وتعريفه (و) هي (حقيقته) في نفسه عندهم وذلك الشيء عندهم هو (القائم بنفسه)، لأنهم يسمونه جوهرا ويسمونه جسما، ويذكرون في حده وتعريفه الأعراض المجموعة ، ويريدون بها عين ذلك الشيء وحقيقته، فيلزم منه أن ذلك الشيء من حيث هو جوهر أو جسم يقوم بنفسه.
(ومن حيث هو عرض) لأنهم ما ذكروا في حده وتعريفه إلا الأعراض المجموعة (لا يقوم) ذلك الشيء (بنفسه فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه) وهو العرض (من يقوم بنفسه)، وهو الجوهر والجسم عندهم وهو باطل، وسمعت بعض

علمائهم يقول : 
إن الأعراض إذا كانت مجموعة تسمى جوهرا أو جسما، وإذا أعتبر كل واحد منها على حدته تسمى عرضا، فلزمه على ذلك أن تكون القسمة اعتبارية .
وبطل قولهم بالجوهر الفرد ورجع الكل إلى ما عليه أهل الله تعالى من المحققين ، والحق أحق أن يتبع (کالتحيز)، أي أخذ مقدار من الفراغ (في حد الجوهر)، أي الجسم (القائم بنفسه الذاتي)، أي ذلك التحيز له لأنه لا ينفك عنه.
(وقبوله)، أي الجوهر المذكور (للأعراض حد)، أي تعريف (له ذاتي)، لأنه لا ينفك عنه أيضا (ولا شك أن القبول) للأعراض المذكورة (عرض إذ لا يكون)، أي لا يوجد إلا في جوهر (قابل) لكونه فيه وذلك مقتضى العرض عندهم أنه لا يوجد في نفسه إلا في محل هو الجوهر، فوجوده في نفسه عندهم هو عين وجوده في الجوهر (لأنه)، أي العرض عندهم (لا يقوم بنفسه) فبالضرورة أنه لا يكون إلا في قابل (وهو)، أي قبوله للأعراض أمر (ذاتي للجوهر) لا ينفك عنه أصلا ما دام موجودة .
(والتحيز)، أي أخذه مقدار من الفراغ الذي هو ذاتي للجوهر أيضا لعدم انفکاکه عنه ما دام متصفا بالوجود (عرض ولا يكون إلا في) جوهر (متحيز فلا يقوم بنفسه) من غير شبهة في شيء من ذلك عندهم أصلا .
(وليس التحيز) للجوهر والجسم (والقبول) للأعراض (بأمر زائد على عين الجوهر المحدود)، أي المعروف بالتعريف المذكور عندهم.

(لأن الحدود)، أي التعاريف الذاتية التي هي بالأمور المنسوبة إلى ذات الشيء من حيث عدم انفكاكها عنه ما دام موجودا (هي) عندهم (عين المحدود)، أي المعرف من الأشياء عندهم .
(وهويته فقد صار) على مقتضى قولهم هذا (ما لا يبقى زمانين) من الأعراض (يبقى زمانين) بل (وأزمنة) كثيرة من الجواهر والأجسام (وعاد)، أي رجع (ما لا يقوم بنفسه) من العرض (يقوم بنفسه) من الجوهر والجسم.

(ولا يشعرون)، أي الأشاعرة القائلون بذلك (لما هم عليه) من التناقض في القول والمذهب، وأيضا قولهم في تعريف الحركة والسكون اللتين لا ينفك كل موجود عندهم أن يكون منصفا بواحد منهما يقتضي التناقض أيضا فإنهم ذكروا في حدوث الجواهر والأجسام أنها لا تخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان أما عدم الخلو، فلأن الجسم أو الجوهر لا يخلو عن الكون في حيز.
فإن كان مسبوقا بكون آخر في ذلك الحيز بعينه فهو ساكن، وإن لم يكن مسبوقا بكون آخر في ذلك الحيز بل في حيز آخر فمتحرك.
وهذا معنى قولهم: الحركة كونان في آنين في مكانين والسكون كونان في آنين في مكان واحد.
فإن قيل : يجوز أن لا يكون مسبوقا بكون آخر أصلا كما في آن الحدوث فلا يكون متحركة كما لا يكون ساكنا .
قلنا: هذا المنع لا يضر لما فيه من تسليم المدعي على أن الكلام في الأجسام التي تعددت فيها الأكوان وتجددت عليها الأعصار والأزمان. 
هذا كلام محقق الأشاعرة سعد الدين التفتازاني رحمه الله تعالى في شرح عقائد النسفي، وأنت تعرف من غير شبهة عندك أن هذا الكلام يقتضي أن الجواهر والأجسام أيضا متجددة متبدلة في كل آن عندهم أيضا، لأن قوله إنه مسبوق بكون آخر في ذلك التحيز أو في تحيز آخر.
وقوله في تعريف الحركة إنها كونان، والسكون كونان.
 والكون هو الوجود الفرد في الزمن الفرد عندهم.
وكذلك قوله في الأجسام الموجودة إنها تعددت فيها الأكوان، أي كان لها وجودات متعددة ، فهذا يقتضي أن الكل أعراض .
وليس هذا غير معنى التبدل والتجدد في جملة العالم كله ومع ذلك فإنهم لا يقولون بذلك إلا في الأعراض فقط دون الجواهر والأجسام.
وما هذا إلا تناقض منهم أيضا.
(وهولاء)، أي الأشاعرة أيضا وإن كانوا من أهل السنة والجماعة لخدمتهم الكتاب والسنة وانتصارهم لما كان عليه الصحابة والتابعون من حيث ظاهر الحال في مقابلة الرد على فرق الاعتزال وأحتفالهم بالسمعيات (هم) من حيث التحقيق والمعرفة الكشفية إذ ليس لهم فيها نصيب، لأن معرفتهم عقلية من أهل النظر الفكري لا الكشف الذوقی ("في لبس")، أي التباس أيضا ("من خلق جديد") كما سبق بیانه .

قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما أهل الكشف فإنهم يرون أن الله يتجلى في كل نفس ولا يكرر التجلي، و يرون أيضا شهودا أن كل تجل يعطي خلقا جديدا و يذهب بخلق.
فذهابه هو عين الفناء عند التجلي و البقاء لما يعطيه التجلي الآخر .فافهم.)

(وأما أهل الكشف) من طائفة العارفين المحققين (فإنهم يرون)، أي يعتقدون ويشهدون من غير شبهة عندهم (أن الله) تعالى (يتجلى)، أي ينكشف (في كل نفس) بفتح الفاء ما يظهره من صور العالم المحسوس والمعقول .
(ولا يتكرر التجلی) أصلا مرتين بل كل نفس من الأنفاس له نجل جديد يخصه (ويرون أيضا شهودا) و عيانا (أن كل تجل) من تجلياته تعالى في كل نفس من الأنفاس (يعطي خلقا جديدا ويذهب) ذلك التجلي أيضا (بخلق) أول كان قبله على معنى أنه يقتضي الدلالة على انقضاء
التجلي الأول بالخلق الأول.

فإن كل تجلي جدید له خلق جديد، فإذا أتى كلمح بالبصر بث خلقه الجديد، ثم مضى بخلقه الذي بثه وأعقبه تجل آخر غيره بخلق آخر غیره جديد أيضا، ثم انقضى وانقضى معه خلفه أيضا .
وهكذا فالتجلي هو أمر الله تعالى كما قال سبحانه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) ) [القمر: 49 : 50 ].
وقال تعالى: "ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره" [الروم: 25]، فيلزم أن تكون السماء والأرض كلمح البصر أيضا لقيامها بما هو كذلك. 
وقال تعالى : "وكان أمر الله قدرا مقدورا" [الأحزاب: 38]، وهو عين بثه للخلق الجديد مع الأنفاس عند من نجا من الالتباس.
(فذهابه)، أي التجلي بالخلق الذي بثه (هو) معنى مقام (الفناء) الذي يكون فيه السالك (عند التجلي) الذي هو كلمح البصر المقتضي لانعدام الخلق الجديد الذي بثه، فكل من يشهده ويتحقق به مع الأنفاس فهو الفاني في العيان عند أهل المعرفة والإيمان.
(و) مقام (البقاء) بعد الفناء الذي هو مقام الواصلين من أهل الكمال والورثة المحققين هو شهود الوجود (لما يعطيه)، أي بثه من الخلق الجديد (التجلي الآخر) وهكذا فمشهد السالك الفاني ما مضى من التجلي ، ومشهد الواصل الباقي ما يستقبله من التجلي (فافهم).
أي هذا المبحث فإنه يفيدك حقيقة معنى الفناء والبقاء عند أهل الله تعالى.
وإن ذلك راجع إلى أمر محقق عندهم لا هو مجرد اعتبار وتخيل عقلي و قابلية للفناء كما زعمه بعض من يدعي التحقيق وما عنده خبر بما هو الأمر عليه في نفسه وفوق كل ذي علم عليم.
تم فص الكلمة الشعيبية
.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الإثنين نوفمبر 11, 2019 10:03 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي  Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 10:01 pm

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .شرح النابلسي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر الحاتمي الطائي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

الجزء الأول

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية

هذا فص الحكمة اللّوطية ذكره بعد حكمة شعيب عليه السلام ، لأنه يبحث فيه عن القوى الإلهية الممدة لأهل الكمال الإنساني وحكم التصرف بمقتضاها في كل ما دخل تحت حيطة من الحوادث فناسب ذكرها بعد حكمة شعيب عليه السلام التي هي الحكمة القلبية.
لأن القوّة المذكورة أوّل ما تظهر في القلب ثم في بقية الأعضاء ، وابتداء تصرفها في القلب أيضا ، ثم منه يظهر التصرف في الأعضاء وما استولت عليه من الممكنات .
فص حكمة ملكية بضم الميم وسكون اللام أي منسوبة إلى عالم الملك وهو ظاهر المخلوقات ، وقدمنا أنه نسبة إلى الملك بالتحريك واحد الملائكة ، لأنه أنسب برسل لوط عليه السلام فإنهم كانوا ملائكة في صورة بشر في كلمة لوطية .
إنما اختصت حكمة لوط عليه السلام بكونها ملكية بضم الميم فسكون أو ملكية بالتحريك لاشتمالها على القوّة الإلهية الأمرية الممدة له عليه السلام في صورة الملائكة ، فصحت النسبة إلى الملك بمعنى القوّة وإلى الملك واحد الملائكة ، وهو الركن الشديد الذي كان يأوي إليه لما ظن أنهم أضيافه قبل أن يعلم أنهم ملائكة ، فقال ما قال ، ثم رأى عين ما تمناه أنه حاصل له على أتم الوجوه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (الملك الشدّة والمليك الشّديد : يقال ملكت العجين إذا شددت عجنه
قال قيس بن الخطيم يصف طعنة :
ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها ....  يرى قائم من دونها ما وراءها
أي شددت بها كفّي يعني الطّعنة .
فهو قول اللّه تعالى عن لوط : "لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيد"ٍ[ هود : 80 ]
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يرحم اللّه أخي لوطا : لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، فنبّه صلى اللّه عليه وسلم أنّه كان مع اللّه من كونه شديدا .
والّذي قصد لوط عليه السلام القبيلة بالرّكن الشّديد ؛ والمقاومة بقوله : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " وهي الهمّة هنا للبشر خاصّة . )


قال رضي الله عنه : (الملك ) بضم فسكون في الغة الشدة ، أي المتانة والقوّة والصلابة (والمليك الشديد) ، أي القوي المتين .
(يقال : ملكت العجين إذا شددت عجينه) وقويته وصلبته قال شاعر العرب (قيس بن الحطيم) من الجاهلية يصف طعنة طعنها بالسلاح في عدوّه يوم الحرب .
(ملكت) ، أي شددت (بها) أي بتلك الطعنة (كفي) ، يعني على السلاح أو على تلك الطعنة (فأنهرت) ، أي أجريت واستلت (فتقها) ، أي ما انفتق منها من جلد المطعون حتى سال الدم بحيث (ترى) إنسان (قائم من دونها) ، أي قريب منها (ما ورائها لنفوذها) إلى الجهة الأخرى فمعنى ملكت بها كفي أي شددت بها كفي يعني الطعنة المذكورة (فهو) ، أي هذا المعنى ما أشار إليه (قول اللّه) تعالى (عن لوط عليه السلام) لما جاءته الملائكة عليهم السلام في صورة غلمان حسان الوجوه وجاءه قومه يهرعون إليه ، لأن امرأته دلتهم على أضيافه الذين جاؤوا إليه ، ولم يعلم أنهم ملائكة حتى "قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ" [ هود : 81 ] الآية .
وكان من قوله بعد أن دافع قومه في حقهم وعرض عليهم بناته ليتزوّجوا بهن ويكفوا عن أضيافه فأبوا : "وقالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ" ( 79 ) قال الشيخ رضي الله عنه :  (" لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً")، أي يا ليت لي قدرة على دفعكم ومنعكم عما تريدون من السوء أَوْ آوِي، أي ألتجيء للنصرة والحماية إِلى رُكْنٍ، أي من أركن إليه من ناصر وحام ("شَدِيدٍ") [ هود : 79 - 80 ] .
أي قوي من عشيرة وقوم ، فكانت الملائكة عليهم السلام هم الركن الشديد له من الملك وهو الشدة ، وهو لا يعلم بذلك ، ثم علم بأخبارهم وقولهم :" إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ" .
قال رضي الله عنه : (فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يرحم اللّه أخي لوطا لقد كان ») ، أي حين قوله :" أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ" (يأوي إلى ركن شديد) حين كانت الملائكة عليهم السلام الذين أرسلهم اللّه تعالى إلى نصرته على قومه وهلاك قومه بهم.
وهو لا يعلم بذلك فنبه صلى اللّه عليه وسلم بقوله ذلك أنه ، أي لوطا عليه السلام كان قائما في ظاهره وباطنه (مع) قيومية (اللّه) تعالى عليه (من) حيث (كونه تعالى شديدا) ، أي قويا متينا ، فإن ما تمناه من الركن الشديد الذي يأوي إليه هو عنده في شهوده عين الوجود القديم القيوم على كل شيء ، فإن الأنبياء عليهم السلام على أكمل حال معرفة اللّه تعالى وشهوده .
وكانت الملائكة الذين هم رسل اللّه تعالى إليه من حيث لا يعلم عين الركن الشديد الذي هو يأوي إليه لأنهم مظاهر تجليات الحق تعالى في النصرة والشدة المطلوبة له ، وبذلك سموا ملائكة من الملك بمعنى الشدة كما ذكر .

قال رضي الله عنه :(والذي قصد لوط عليه السلام) بقوله : " آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ" القبيلة ) والقوم والعشيرة الذين ينصرونه (بالركن الشديد و) قصد أيضا (المقاومة) ، أي المدافعة والممانعة لقومه عن سوء ما أرادوه فقاومهم (بقوله "لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً"وهي) ، أي المقاومة (الهمة) وهي الباعث القلبي المتوجه جهة الفعل المهتم به لا نفس الفعل ، لأنه فعل اللّه تعالى (ههنا) فإنه عليه السلام يعلم يقينا أن الفاعل هو اللّه تعالى ، فلا يطلب من غيره فعلا وإنما طلب الهمة من البشر خاصة الذين هم الجنس ليظهر الفعل عقيبها على حسب المخاطبة بالتصرف في الوقت الذي يريد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمن ذلك الوقت ، يعني من الزّمن الذي قال فيه لوط عليه السلام :أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ما بعث نبيّ بعد ذلك إلّا في منعة من قومه .
فكان تحميه قبيلته كأبي طالب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
فقوله : لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً[ هود : 80 ] لكونه عليه السلام سمع اللّه يقول :اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ بالأصالة .ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ فعرضت القوّة بالجعل فهي قوّة عرضيّة ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً فالجعل تعلّق بالشّيبة ، وأمّا الضّعف فهو رجوع إلى أصل خلقه وهو قوله :"خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ "[ الروم : 54 ] .
فردّه لما خلقه منه قال تعالى : وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [ الحج : 5 ] . فذكر أنّه ردّ إلى الضّعف الأوّل فحكم الشّيخ حكم الطّفل في الضّعف . )


قال رضي الله عنه :(فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمن ذلك الوقت يعني من الزمن الذي قال فيه لوط عليه السلام : " أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ" ما بعث) ، أي بعث اللّه تعالى في أمة من الأمم (نبيا) من الأنبياء عليهم السلام بعد ذلك الوقت (إلا في منعة) ، أي نصرة وحمية (من قومه فكان) ذلك النبي المبعوث بعد لوط عليه السلام (يحميه) ، من أعدائه أن يصلوا إليه بسوء (قبيلته) وعشيرته وقومه (كأبي طالب) عم رسول اللّه (مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم) فإنه حماه من قريش ونصره من إيذائهم كما قال من الشعر لما في ذلك يخاطبه عليه السلام ولمن يؤمن به : واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم  ..... حتى أوسد في التراب دفينا 
 
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة  .... وأبشر بذلك وقر منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي  ..... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا لا محالة أنه  .... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة .....  لو جدتني سمحا بذاك مبينا
فقوله : أي لوط عليه السلام : ("لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " لكونه) ، أي لوط (عليه السلام سمع اللّه تعالى يقول) بالكشف عن اللوح المحفوظ فإن القرآن مكتوب فيه من يوم خلق اللّه تعالى ذلك اللوح .
وكذلك جميع الكتب المنزلة والصحائف أو أن هذه الآية نزلت فيما نزل عليه من الوحي وإلا فإن القرآن منزل بعد لوط عليه السلام فكيف يكون سمع هذه الآية منه أو أن المراد أنه سمع معنى ذلك في جملة ما أنزل عليه .
وهذه الآية في قراءتنا على معنى ما سمع لوط عليه السلام من كلام له في وحيه الخاص (" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ") معشر بني آدم (" مِنْ ضَعْفٍ" )، وهو عدم القوّة بالكلية على كل شيء فلا تقوى العين على الرؤية ولا الأذن على السمع ولا الأعضاء على الحركة ولا السكون وهذا بالأصالة في بني آدم وغيرهم كذلك أيضا ولهذا ورد لا حول ولا قوة إلا باللّه .
وقال تعالى : " أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً" [ البقرة : 561 ] ، (ثم جعل) تعالى (من بعد ضعف) هو الأصل في كل إنسان قوّة منسوبة إلى ذلك الإنسان الضعيف (ففرضت له القوّة بالجعل ) وهو نسبتها إليه . "فعرضت له القوة بالجعل"
لأنها قوّة اللّه تعالى نسبت إليه مجازا وهي للّه تعالى حقيقة (فهي) قوّة ذاتية إلهية للحق تعالى وللإنسان وغيره قوّة عرضية تعرض له بنسبتها إليه .
ثم يتكرر عروضها عليه وقبولها باختلاف التجلي فتسمى عرضية لأجل ذلك .
قال رضي الله عنه :(ثم جعل) سبحانه (من بعد قوة) عرضت له فنسبت إليه (ضعفا) أصليا ، أي أرجعه إليه (وشيبة) ، أي هرما وكبرا (فالجعل) الثاني تعلق بالشيبة ، (وأما الضعف فهو رجوع إلى أصل خلقه) ، فلا يقع عليه الجعل لعدم مفارقته له (وهو قوله) تعالى "خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ" [ الروم : 54 ] فرده .
أي أرجعه لما خلقه منه وهو الضعف (كما قال تعالى : "وَمِنْكُمْ")، أي بعضكم ("مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ") [ النحل : 70 ] ، أي أحقره وأقله وهو سن الهرم والشيخوخة مقابلة أجل العمر وأعظمه وأكثره وهو سن الشباب ("لِكَيْ لا يَعْلَمَ ") ذلك البعض الذي رد ("بَعْدَ عِلْمٍ") كان يعلمه ("شَيْئاً") فتضعف قوّة مخيلته وحافظته وبقية حواسه الظاهرة والباطنة وآلات إدراكه .
ويرجع إلى ما كان فيه من قبل أن يخلق كأنه لم يعلم شيئا ، والعلم الحقيقي كله للّه تعالى فيرجع علمه إليه سبحانه ، والجهل إلى ما سواه كما كان .
(فذكر) تعالى (أنه) ، أي الإنسان (رد إلى الضعف الأوّل) الذي خلق منه (فحكم الشيخ) الكبير الهرم الواصل إلى أرذل العمر بضعف قواه وأعضائه (حكم الطفل) الصغير (في الضعف) الكائن في قواه وأعضائه وإدراكه الذي هو أصل ابتدائي منه الطفل ورجع إليه الشيخ .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وما بعث نبيّ إلّا بعد تمام الأربعين وهو زمان أخذه في النّقص والضعف فلهذا قال :لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [ هود : 80 ] مع كون ذلك يطلب همّة مؤثّرة .
فإن قلت وما يمنعه من الهمّة المؤثّرة وهي موجودة في السّالكين من الأتباع ، والرّسل أولى بها قلنا صدقت ولكن نقصك علم آخر ، وذلك أنّ المعرفة لا تترك للهمّة تصرّفا فكلّما علت معرفته نقص تصرّفه بالهمّة ، وذلك لوجهين :
الوجه الواحد لتحقّقه بمقام العبوديّة ونظره إلى أصل خلقه الطّبيعيّ .
والوجه الآخر أحديّة المتصرّف والمتصرّف فيه : فلا يرى على من يرسل همّته فيمنعه ذلك .
وفي هذا المشهد يرى أنّ المنازع له ما عدل عن الحقيقة الّتي هو عليها في حال ثبوت عينه وحال عدمه ، فما ظهر في الوجود إلّا ما كان له في حال العدم في الثّبوت ، فما تعدّى حقيقته ولا أخلّ بطريقته . )
قال رضي الله عنه :  (وما بعث) نبي من أنبياء اللّه تعالى إلى أمة من الأمم (إلا بعد تمام) سن الأربعين سنة من عمره (وهو زمان أخذه) ، أي الإنسان إذا وصل إلى هذا المقدار من السن (في النقص والضعف) ظاهرا وباطنا . وتحققه بحال بدايته في حال نهايته.
(فلهذا )، أي لأجل ما ذكر قال لوط عليه السلام حين كان متحققا بضعفه الأصلي الذي خلق منه وقد أرسل إلى قومه بعد وصوله إلى سن الأربعين من عمره ("لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً" مع كون ذلك) القائل (يطلب) بقوله (همة مؤثرة) في قومه تظهر فيه أو تظهر في غيره وهو الركن الشديد الذي طلب أن يأوي إليه (فإن قلت) يا أيها السالك وما يعني أي شيء (يمنعه) ، أي لوط عليه السلام مع كونه من الكاملين في العلم باللّه والعمل الصالح أو العصمة من السوء (من الهمة المؤثرة) إذا أرادها (وهي) ، أي الهمة المؤثرة موجودة في السالكين إلى طريق الكمال المذكور من الاتباع أي لاتباع الأنبياء والمرسلين .

قال رضي الله عنه :  (فالرسل) والأنبياء عليهم السلام (أولى) ، أي أحق (بها) ، أي بوجود الهمة المؤثرة فيهم من وجودها في اتباعهم (قلنا) في جواب ذلك (صدقت) أن الهمة المؤثرة موجودة في السالكين فأولى أن تكون في الأنبياء والمرسلين (ولكن نقصك) ، أي فات عنك ولم تشعر به (علم آخر) معرفته شرط في الجواب عن سؤالك وذلك العلم الآخر هو (أن المعرفة) باللّه تعالى الذوقية الكشفية إذا كملت في إنسان (لا تترك للهمة) المنبعثة من قبله (تصرفا) في أمر من الأمور أصلا .
(فكلما علت) ، أي ارتفعت (معرفته) ، أي معرفة الإنسان باللّه تعالى (نقص تصرفه بالهمة) فيما يريد كونه من الأشياء ، وإنما التصرف بالهمة للمبتدئين في السلوك عند غلبة الأحوال عليهم (وذلك) ، أي نقصان تصرف الهمة بسبب زيادة المعرفة باللّه تعالى (لوجهين : الوجه الواحد لتحققه) ، أي العارف (بمقام العبودية) التي هي كمال الذي للمعبود الحق في الظاهر والباطن ولأجل نظره .
أي العارف (إلى أصل خلقه الطبيعي) وهو الضعف الذي خلق منه ، فيمنعه ذلك من نفوذ الهمة وتأثيرها فيما يريده (والوجه الآخر) شهوده (أحدية المتصرّف) من حيث هو في نفسه (والمتصرّف فيه) من كل شيء فإنهما واحد بحكم الوجود الحق القيوم.
وإن كانا اثنين بمقتضى حكم الصورتين في الحس والعقل (فلا يرى) ذلك العارف على من يرسل همته إذ لا غير هناك يشهده فيمنعه ذلك ، أي غلبة حكم الاتحاد عليه بحيث لا يبقى للكثرة عنده اعتبار محقق لاستهلاكها في وحدة الأمر الإلهي ، فلا يمكنه إرسال همته على نفسه ، فيمتنع من ذلك .
ومن هنا قال الشيخ العارف باللّه الشيخ علي وفا قدس اللّه سره : احذر أن تدعو على من ظلمك فإنك إذن تدعو على نفسك "إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها"[ الإسراء : 7 ].
"إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ" [ القلم : 39 ] فمن شهد ظلما فإنما هو منه وإليه "أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ" فأين الظلم وفي هذا المشهد الرباني الذي يقام فيه العارف (يرى) ذلك العارف أن المنازع له .
أي منازع كان من جميع أعدائه نازعه في دين أو دنيا (ما عدل عن حقيقته التي هو عليها في حال ثبوت عينه) في حضرة علم اللّه تعالى (وحال عدمه) الأصلي قبل أن يظهر (فما ظهر) منه في الوجود إلا ما كان حاصلا (له في حال العدم) الأصلي (في الثبوت) الذي كان فيه ضد النفي من الأحوال والأقوال والأعمال (فما) يراه (تعدى) ، أي خالف (حقيقته) تلك الثابتة  أصلا بل ما اتصف بالوجود منه إلا ما هو ثابت في عدمه الأصلي (ولا أخلّ بطريقته) التي هو سائر عليها من ثبوته إلى وجوده ومن وجوده إلى ثبوته كما قال تعالى :"وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ" [ الرعد : 8 ] ،" وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ" [ الحجر : 21 ] .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فتسمية ذلك نزاعا إنّما هو أمر عرضيّ أظهره الحجاب الّذي على أعين النّاس كما قال اللّه تعالى فيهم :" وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ( 7 )" [ الروم 6 - 7 ] وهو من المقلوب فإنّه من قولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ [ النساء : 155 ] أي في غلاف وهو الكنّ الّذي ستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه .
فهذا وأمثاله يمنع العارف من التّصرّف في العالم .
قال الشّيخ أبو عبد اللّه بن قائد للشّيخ أبي السّعود بن الشّبل:  لم لا تتصرّف ؟
فقال أبو السّعود : تركت الحقّ يتصرّف لي كما يشاء : يريد قوله تعالى آمرا : "فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا" [ المزمل : 9 ] فالوكيل هو المتصرّف .
ولا سيّما وقد سمع اللّه يقول :" وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ "[ الحديد: 7]
فعلم أبو السّعود والعارفون أنّ الأمر الّذي بيده ليس له وأنّه مستخلف فيه .
ثمّ قال له الحقّ هذا الأمر الّذي استخلفتك فيه وملّكتك إيّاه اجعلني واتّخذني فيه وكيلا ، فامتثل أبو السّعود أمر اللّه فاتّخذه وكيلا . فكيف تبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر همّة يتصرّف بها ، والهمّة لا تفعل إلّا بالجمعيّة الّتي لا متّسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه ؟
وهذه المعرفة تفرّقه عن هذه الجمعيّة . فيظهر العارف التّامّ المعرفة بغاية العجز والضّعف . )
 
قال رضي الله عنه :  (فتسميته ذلك) الواقع منه (نزاعا) في أمر الدنيا والدين ، وتسميته ظلما للعارف أو أذية له أو غير ذلك (إنما هو) عند العارف في بصيرته (أمر عرض) للغافلين من الغفلة عما يشهده العارف (أظهره) ، أي أظهر ذلك الأمر (الحجاب الذي على أعين الناس) وهو شهودهم أنفسهم دون من هم قائمون به كما قال اللّه تعالى فيهم ، أي في حق المحجوبين من الناس ("وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ") [ الأعراف : 187 ] ، أي ما الأمر الإلهي على ما هو عليه في نفسه ثم قال تعالى :  ("يَعْلَمُونَ ظاهِراً") [ الروم : 7 ] ، أي ما هو الظاهر (مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) التي هم مفتونون بها (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) التي هي باطن ذلك الظاهر(هُمْ غافِلُونَ) لا ينتبهون لذلك .
قال رضي الله عنه :  (وهو) ، أي ذلك الحجاب الذي على أعين الناس أصله (من المقلوب) كما قال تعالى : " فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور"ِ[ الحج : 46 ].
قال رضي الله عنه :( فإنه) ، أي ذلك الحجاب (من قولهم : " قُلُوبُنا غُلْفٌ" [ البقرة : 88 ] ، أي في غلاف وهو) ، أي الغلاف (الكنّ الذي ستره) ، أي القلب (عن إدراك الأمر) الإلهي على ما هو عليه في نفسه .
قال رضي الله عنه :  (فهذا) الوجه المذكور (وأمثاله) من الوجوه أيضا إذ لا حصر للأسباب (يمنع العارف) باللّه تعالى مع كمال استعداده من التصرف في العالم ونفوذ همته وتأثيره بالتوجه فيما يريد (قال الشيخ) الإمام (أبو عبد اللّه بن قايد للشيخ) العارف الكامل (أبي السعود بن الشبلي) وكلاهما من تلامذة الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي اللّه عنهم (لم لا تتصرف) بهمتك في المخلوقات .
(فقال له) الشيخ (أبو السعود) المذكور (تركت الحق) سبحانه (يتصرف لي كما يشاء) هو سبحانه فيما يشاء (يريد) أبو السعود بقوله ذلك (قوله تعالى) حال كونه (آمرا) نبيه الفرد ....
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 2انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب الشيخ نور الدين عبد الرحمن الجامي نقد النصوص فى شرح نقش فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي
» كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص لأبي المعالي صدر الدين القونوي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» شرح أبو المعالي صدر الدين القونوي كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» كتاب شرح كلمات فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربى الطائي الحاتمي أ.محمود محمود الغراب
» كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: