منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 8:55 am

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشارح مصطفى بالي زاده أفندي لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

الحمد لله على دين الإسلام، وعلى توفيق الإيمان، والصلاة على محمد عليه السلام، وعلى آله العظام، وأصحابه الكرام.
( الحمد لله منزل الحكم على قلوب الكلم) ولما أنزل الله تعالى الحكم على قلب الشيخ وكان إنزاله مسببا عن الإنزال على قلوبهم خص الحمد بإنزال الحكم على قلوبهم لأن هذا المطلع أكمل الكمالات وأعظمها قدرة ومنزلا بالنسبة إليه .
فيجب تخصص الحمد به في أول كتابه، وتخصيص الحكم والكلم بالحكم والأنبياء المذكورين في الكتاب انسحب من التعميم فاللام للعهد.
والإنزال ههنا الإبداع لقوله : ولما أطلعني الله تعالى في سري على ما أودع في هذا الإمام الوالد الأكبر وهو الروح الكلي فلا يحتمل التنزيل فضلا عن أن يكون أولى.
(باحدية الطريق الأمم) إنزالا ملتبسا باتحاد الطريق المستقيم في أصل الدين وهو التصديق بما جاء من عند الله تعالى والعمل بمقتضاه اتحاد الأشخاص في الأنواع
واتحاد الأنواع في الأجناس .
وبه حصل الحب الله تعالى بين الناس الذي يوجب محبة الله إياهم التي توجب رحمة الله عليهم .
ولو لم ينزل الحكم بطريق الاتحاد لرفع الاختلاف والعداوة بينهم، التي توجب عداوة الله عليهم فيستحقون عقابه .
فأحدية الطريق أعظم نعمة ورحمة من الله لنا لذلك خص الحمل بها (من المقام الأقدم ) أي من المقام الأقدس عن شائبة الكثرة .
المراد تنزیه شأن الحكم بأبلغ النزاهة (وإن اختلف الملل والنحل لاختلاف الأمم) أي وإن اختلف الدين والعقيدة في فروعات الأصل اختلاف مسببا من اختلاف الأمم بعد اتفاقهم في الأصل.
وهذا الاختلاف أيضا نعمة عظيمة ورحمة واسعة لنا من الله تعالی و به ترتفع المضايقة وتحصل الوسعة في الطريق التي توجیه استراحة الأبدان والأرواح.
لذلك خص الحمد به فالمراد بإنزال الحكم إيداعه في قلوبهم روح الشريعة المختصة بهم متضمنة بالاتحاد في الأصل والاختلاف في العوارض.
(وصلى الله على ممد الهمم) على قلوب الأمة بحسب استعداداتهم والتوجهات القلبية التي تبتني عليها جميع السعادات العلمية والعملية.
أي همة الرجال التي تقلع بها حجب جبال النفسانية وتنجذب القلوب إلى الله تعالى وتصل إلى المقصود.
(من خزائن الجود والكرم) أخذ الرسول عليه السلام بقلبه من الخزائن الثلاثة الكلية الذاتية والأسمائية والصفاتية فيفيض على قلوبهم بلسانه الأفصح بقدر استعداداتهم ومناسباتهم بالخزائن .
والمراد تنزيه الهمم وتقديسها (بالقيل الأقوم) أي بالكلام الأبلغ الأفصح الجامع بين التشبيه والتنزيه على وجه الاعتدال .
بحيث لا ميل فيه إلى أحد طرفيه وهو القرآن الكريم بالنسبة إلى سائر الكتب السماوية ثم كلام الرسول بالنسبة إلى كلام الأنبياء من قبله .
فلا قصور في الإمداد أصلا وإنما القصور لو كان لكان في استعداد الناس فهذا الإمداد المخصوص أعظم سعادة ونعمة لنا من رسول الله .
لذلك خص التصلية به فلا يحتمل أن يكون اللام في الهمم للاستغراق إلا باعتبار أن محمدا صلى الله عليه وسلم مظهر الاسم الأعظم (محمد وآله وسلم) .
يجوز أن يعطف الآل على ممد الهمم فيخرج عن الأمداد وعلى محمد فيدخل فيه وراثة وكلا المعنيين حسن.
ولما فرغ من الحمد والتصلية شرع في بيان سبب التأليف وكيفيته كما هو دأب المصنفين .
فقال : (فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم له في مبشرة أريتها في العشر الأخير من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة) أي رؤيا صالحة لوجود شرائطها في رائيها .
(بمحروسة دمشق) إشارة إلى عزلته عن الخلق بحيث لا عوائق له من الظاهر في ذلك الزمان (وبيده صلى الله عليه وسلم ) خبر (كتاب) مبتدأ .
أي هذا الكتاب مختص بید رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لا يشترك فيه بل غيره وهو أعظم كمالاته المختصة به .
والمراد بيان عظمة شأن الكتاب وعلو قدره وتنزهه عن المس الشيطاني باختصاصه وإضافته إلى يد رسول الله في رؤيا صالحة.
(فقال لي رسول الله عليه السلام هذا كتاب فصوص الحكم) إضافة المسمى إلى اسمه فسمى الكتاب الحسي باسم الكتاب المثالي لتطابقهما معنى من غير زيادة ولا نقصان (خذه) فیضه عليه السلام وإلقائه ما في الكتاب على قلب الشيخ (وأخرج به إلى الناس) أمره بالإفاضة ونظم المعاني والألفاظ على الهيئة المأخوذة في الترتيب خالصة مخلصة عن الأغراض النفسانية والتلبيسات الشيطانية بعين ما وصل إليه.
يدل ذلك على أن كل ما ذكر قبل الشروع في إبراز الفصوص ليس من عند نفسه وتصرفاته بل هو داخل في الكتاب المعطی به من بد رسول الله المشار إليه
بقوله : "هذا كتاب فصوص الحكم" فيصدق على الكلام المذكور قبل الفصوص أنه من مقام التقديس المنزه عن الأغراض النفسية التي يدخلها التلبيس .
فيصدق هذا الكلام على نفسه وعلى كل جزء من الكتاب الصوري الشهادي من البسملة و الحمدلة والتصلية وغير ذلك .
لذلك قال : "فأول ما ألقاه المالك" بالفاء المؤذن للارتباط إشارة إلى أن المذكور بعدها متمل بما قبلها يعني كل ذلك ظهر مني بأمر الرسول والإلقاء السبوحي (ينتفعون به) علة للإخراج أمر الناس بالانتفاع في صورة الأخبار وفيه من المبالغة ما ليس في الإنشاء .
فأمرنا بانتفاع الكتاب على الوجه الأبلغ (فقلت السمع) أخذه وقبوله هذا القبض منه (والطاعة) تلقيه الأمر قبل الشروع بحسن القبول ووعده الجميل وهو الإخراج.
(لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا) تخصيص الطاعة بالمذكورين بالجمع المطلق .
إشارة إلى أن طاعة أحدهم عين طاعة الآخر فلا اختلاف في أصل الطاعة لأن الطاعة في الكل الأحكام الإلهية.
وعطف رسوله بإظهار اللام إشارة إلى أنه عليه السلام مرتبة الصفات فلا يستر ذاته تعالى بل يظهره ويبين الأحكام الإلهية.
وعطف أولي الأمر بإضمار اللام. إشارة إلى أن أولي الأمر مرتبة الأفعال فالعطف إشارة إلى ظهور الحق وأحكامه في مراتب أفعاله والإضمار إشارة إلى ستره فيها.
ولما بين سبب حصوله في قلبه وهو فيضه عليه السلان
بقوله : خذه . وأخذه بقوله : فقلت: السمع والطاعة والأمر بالإخراج ليس من أسباب الوجود الذهني بل من أسباب الوجود الخارجي.
فيكون الرسول وإعطائه مثلا مقدمة كلية من الشكل الأول .
والشيخ وأخذه بقوله : فقلت: السمع مقدمة أخرى صغراء.
فبهذين المقدمتين الصحيحين أوجد الله تعالى روح هذا الكتاب في قلب الشيخ.
شرع في بيان سبب وجوده في الشهادة وكيفية الإخراج على الوجه الذي أمر فقال : (فحققت الأمنية) تثبيت المطلوب وتصويره في ذهنه قبل الإبراز إليه.
(وأخلصت النية وجردت القصد والهمة) عن الاشتغال بالأغراض النفسانية سرا وعلانية .
فبهذه الأربعة التي كانت كالمقدمتين للشكل الأول المنتجتين للنتيجة الصادقة.
أيضا أوجد الله تعالى هذا الكتاب المعطى له من يد رسول الله عليه السلام في الشهادة.
فالغرض نزاهة الكتاب عن التلبي على الوجه الأبلغ ظاهرا وباطنا في وجوده المثالي الذي في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوده القلبي ووجوده الشهادي. فعلی هذا لا يجوز إضافة الأمنية إلى الرسول عليه السلام وإلا يلزم العدول عن الحقيقة إلى المجاز بلا نكتة .
لا سيما يستلزم تنافر الكلام وذلة عن سنن إخوانه وهو مخل للفصاحة .
(إلى إبراز هذا الكتاب) الثابت في الخارج بتعبير المؤيد بالاعتصام من الكتاب الثابت المحقق في الذهن أو في يد رسول الله.
أي ترجمت وجوده الشهادي من وجوده المثالي أو الذهني .
(كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان) ظاهر. ولما ورد من ظاهر كلامه أن يقال : لما لا يجوز أن يكون كل منها أو بعضها أي من تحقيق الأمنية وتخليص النية وتجريد القصد والهمة من التصرفات الشيطانية في صورة الحق ازال هذه الشبهة.
فقال : (وسالت الله أن يجعلني فيه) أي في هذا الكتاب وفي جميع أحوالي من الأمور الدينية والدنيوية .
وتعميم السؤال للمبالغة في التنزيه (من عبادة الذين ليس للشيطان عليهم سلطان) أي حجة وغلبة .
فالله تعالى أجاب ما سأل عبده لقوله تعالى : "أجيب دعوة الداع إذا دعان" 156 سورة البقرة.
ولقوله: "أدعوني استجب لكم" 60 سورة غافر.
ولا يحتمل تسلط الشيطان في عمله ببركة هذا السؤال الخالص المخلص لله تعالى. ولما ورد من ظاهر الكلام أيضا أن يقال : هب أن التنزيه قد حصل بهذا الدعاء في أسبابه القلبية .
فلم لا يجوز أن يقع التلبيس في أسبابه الصورية من الرقم والنطق والقلب حين التوجه إلى الرقم أو النطق عمم التنزيه عن التلبيس بأبلغ الوجوه.
فقال : (وأن يخصني في جميع ما يرقمه بناتي) من الكتاب وغيره قدم اهتماما للتنزيه لزيادة قربه من الخطأ والتلبيس فتنزيهه أهم من غيره (و) في جميع (ما ينطق) أي يتلفظ (به لساني) من ألفاظ الكتاب وغيره.
(و) في جميع (ما ينطوي) أي يشتمل عليه (جناني) بفتح الجيم أي قلبي من معاني الكتاب وغيره .
وتأخيره إشارة إلى أنه قد حصل تنزيهه سابقا، وذكره ههنا اهتماما لشأنه في التنزيه.
وإلا أي وإن لم يحصل التنزيه سابقا لقدم على غيره ههنا.
أو إشارة إلى الجهتين أعني جهة حصوله في ذهنه وجهة وسيلته للوجود الخارجي فهناك نزه من حيث الحصول في الذهن .
وههنا من حيث الوسيلة (بالإلقاء السبوحي) أي وأن يخصني بالإلهام الرحماني المنزه عن مداخل الإلقاء الشيطاني.
(والنفث الروحي) أي وأن يخصني بفيض الروح الأعظم على الأرواح المقدمة عن التصرفات الشيطانية.
(في الروع النفسي) أي في القلب المنسوب إلى الصدر ظرف للنفس أو الإلقاء على سبيل التنازع بضم الراء وسكون الواو وبفتح النون وسكون الفاء.
(بالتایید الاعتصامي) أي وأن يخصني مع التأييد المنسوب إلى الاعتصام الذي من تأيد واعتصم بهذا الاعتصام فقد هدي إلى صراط مستقیم.
ولما بين كيفية الوصول من يد رسول الله عليه السلام على الوجه التنزيهي عن التلبيس .
بقوله : "فإني رأيت رسول الله عليه السلام" الخ ثم بين كيفية الوصول من يده إلى الشهادة على أبلغ الوجوه التنزيهي عن التلبيس.
بقوله : "فحققت الأمنية وأخلصت النية" أراد أن يبين ما هو المقصود منه.
فقال : (حتى أكون مترجما) .
ولما وهم من ظاهر العبارة أنه مترجم في المعنى متحكم ومتصرف في اللفظ من عند نفسه دفع هذا الوهم.
بقوله : (لا متحكما) يعني أن معاني الكتاب وألفاظها ونظمها وترتيبها وتعبير معانيها بعبادة دون عبارة وكتابتها وغير ذلك من الأحوال .
كان ذلك من إلقاء الحق بالتأييد الاعتصامي وليس له تحكم وتصرف في ذلك فيكون مترجما على الوجه الكلي.
لأن مسألته تعم جميع ذلك فتشمل الترجمة على كل واحد منها فلا وجه لتخصيص الترجمة في المعاني دون الألفاظ.
(ليتحقق من وقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب) هذه علة للترجمة وأصحاب القلوب بدل من أهل الله بدل البعض من الكل.
(انه) مفعول ليتحقق أي الكتاب بجميع أجزائه ومراتبه مثالا وذهنأ وخارجا و لفظا و كتابة.
(من مقام التقدير) وهو مجموع ما ذكر من مبشرة وتخليص النية وتجريد.
القصد والمسألة على الوجوه المذكورة يدل عليه قوله (المنزه عن الأغراض النفسية التي يدخلها التلبيس) .
فيكون أبعد عن احتمال التلبيس فيه بل لا يحتمله أصلا لطهارته بأصله وكليته.
فالمراد إعلام قدره وتقديسه بحيث لا كتاب له ولغيره من المصنفين من أهل الله في هذا الفن يصل إلى مرتبة هذا الكتاب في تقديسه وعلو شأنه.
لانعدام هذا التقديس بانعدام بعض شرائط هذا الكتاب في غيره فيحتمل الأغراض النفسية (وأرجو أن يكون الحق تعالى لما سمع دعائي) .
هذا لسان أدب مع الله (قد أجاب ندائي) تحقيق للإجابة على اليقين وأخبار عن وقوعه ليزداد الطالب الصادق تصديقه وترغيبه إليه .
لأنه لما أمر بإظهاره اقتضى الحكمة إجابة المسألة في حقه من أسباب إظهاره على أحسن الوجوه فما ألقي في هذا المسطور شيئا من المعاني والألفاظ (إلا ما يلقى إلي) بالإلقاء السبوحي  كذلك
(لا أنزل في هذا المسطور) شيئا (إلا ما ينزل علي) أي ما أودع في من يد
رسول الله عليه السلام لما علم رضي الله عنه أن الطالبين الصادقين علموا قدر الكتاب مما ذكر وصدقوه فيما قال وأحبوه محبة شديدة غالبة على اختيارهم.
فخاف عليهم أن ينسبوا إليه النبوة كما هو مقتضى غلبة المحبة فضلوا وأضلوا عن الهداية لخروجهم من حد الاعتدال أراد حفظهم عن هذه المهلكة المخوفة عليهم.
فقال : (ولست بنبي ولا رسول ولكني وارث ولآخرتي حارث) أو جواب عن سؤال ناشئ مما ذكر للطالبين الصادقين .
فكانهم قالوا: علمنا وصدقنا بما ذكر أن الكتاب كذا وكذا وما كنا نعلم كيف أنت أنبي أم رسوله أم ولي من الأولياء الذي لا ولي مثله وفوق مرتبته؟
لأن من جاء بمثل هذا الكتاب لا يكون غير ذلك ؟
فأجابه بما هو عليه في نفس الأمر أو لما بین مرتبة الكتاب لزم بيان مرتبة نفسه من الكمال وأعظم الكمالات الإنسانية النبوة والرسالة . ثم الوراثة فأخرج نفسه منهم.
بقوله : ولست بنبي ولا رسول وأدخله فيهم من حيث العلوم الإلهية والتجليات الربانية
بقوله : ولكني وارث من حيث الأعمال . 
بقوله : ولآخرتي حارث أي لأسباب ملاقات ربي كاسب "فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا" 110 سورة الكهف.
إذ كل الأنبياء حارث لأمور آخرتهم وفيه دلالة على أن الكمل إن كانوا يعبدون الله يريدون أجر الآخرة من دخول الجنة والنجاة عن النار.
يكون عبادتهم خالية مخلصة لله إذ إرادتهم هذه عين إرادة الله فلا يعبدون الله في كل مقام إلا الله وبالله خالصا مخلصا عن الأغراض النفسانية .
وقوله : ولكني وارث يدل على أن علوم الأولياء الكمل مكتسبة لكن بطريق نظر فكري لان الوراثة لا تكون إلا للقرابة والقرابة مكتسبة بالعمل الشرعي و تبديل الصفات الردية .
وإن كانت العلوم الإلهية حاصلة عن كشف إلهي لكنه بسبب قرابة النبوة .
(فمن الله فاسمعوا    ….. وإلى الله فارجعوا)
إخبار في صورة الإنشاء عن إفناء وجوده في الله بالكلية في إبراز الكتاب بحيث لا يبقى من الوجود الكلي أثر ولو كان عدمية .
وإشارة إلى أنه قد وقع بعد تكميل النفس وقطع مراتبها يعني إذا سمعتم الفاظة من لساني فاسمعوا فقد سمعتم من الله لا مني لفناء المنية فيه .
وإذا رجعتم في إدراك معانيه وكشف أسراره وحل مشكلاته باستمدادكم من روحانیتي فارجعوا فقد رجعتم إلى الله لا إلي .
لفناء مرجعيني فيه نفي أي شيء سمعتم ورجعتم فقد سمعتم من الله ورجعتم إليه فإني فاني في الله بالكلية في إبراز هذا الكتاب.
فهذا اختصاص إلهي به دون سائر كتبه فعظموه واعلموا قدره بإدراك معانيه وكشف أسراره وتعليمه إلى طالبيه .
"فإذا ما سمعتم"، ما زائدة لتأكيد العموم "ما أتيت به فعوا" أمر للطالبين يعني خذوه مني، كما أخذت من رسول الله وانظروا ما فيه وأدركوا معانيه الكلية واحفظوا في قلوبكم .
وهو مرتبة علم اليقين ثم أمرهم بعد ذلك إلى درجة عين اليقين حتى لا يقنعوا به.
فقال : "ثم بالفهم" أي بسلطان القوي ثم لبعد الدرجتين في الفصل .
الحاصلة في قلوبكم إجمالا ما تشتمل عليه تلك الأصول من الفروعات ثم أمر إلى درجة حق اليقين.
بقوله: "واجمعوا" ثم اجمعوا في الإدراك بين الإجمال والتفصيل بحيث لا يحجب إدراك أحدهما عن إدراك الآخر.
وإذا أدركتم بهذا المقام وتحققتم به فقد حصلتم المساواة بيني وبينكم في رتبة الإحاطة وأخذتم الكتاب مني كما أخذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه بشارة عظيمة للطالبين اللهم ارزقنا فإذا حصل المساواة .
فقد وجب عليكم الإفاضة للطالبين فإذا أفضتم فقد حصلتم المساواة في الإبراز .
وهو معنى قوله : "ثم منوا به"، أمر بالتعليم أي بتعليمكم خالصة مخلصة عن الأغراض النفسية يعني ألقوا معاني الكتاب وأسراره "على طالبيه" كما ألقى الله عليكم بمنه ورحمته .
والمراد بالطالب كل مؤمن يصدق الكتاب ويشتغل بقراءته من أهله طلبا للاطلاع بحقائقه وأسراره سواء استحق بالفعل أو لم يستحق "ولا تمنعوا هذه الرحمة التي وسعتكم".
بقولكم لغير المستحقين أي للطالبين الغير المستحقين اذهب واكتسب الاستحقاق بالرياضات ثم اطلب .
أو للمستحقين أنتم قد وصلتم درجة الحقيقة والكشف فما حاجة لكم به.
فإذا يخاف عليكم استحقاق الذم (فوسعوا) فإذا وسعتم فقد أرشدتم الطالبين الناقصين إلى درجة
الكمال ببركة تعليم الكتاب وتعلمه وافدتم الكاملين الفائدة الجديدة التي لم تحصل لهم بدون هذا الكتاب .
فحينئذ استحققتم المدح بالشرع المطهر المحمدي (و من الله ارجو) لا من غيره (أن أكون ممن أيد) أي ممن أيده الله بالتأييد الاعتصامي وهو تجليه له بالربوبية وظهوره بكمال المالكية.
(فتأید) قبوله هذا التجلي وظهوره بكمال العبودية وهو مقام عبوديته (واید) آخرین بحسب استعداداتهم بمثل ما أيد به وهو مقام ربوبيته وإرشاده وتكميله الطريقة.
وهو مقام التجلي الذاتي يسر الله لمن يشاء من عباده وقيد وممن رباه الله وأدبه (بالشرع المحمدي المطهر وتقيد) انقياده وإطاعته الشرع وقيد آخرين بمثل ما قيد به .
وهو تكمیل الشريعة فأخبر عنه نفسه رضي الله عنه بلسان الأدب بأنه مكمل الشريعة والطريقة ترغيبه وإرشاده للطالبين إلى هذا المقام وإشارة إلى أن من أید بهذا الكتاب فتأيد.
وأيد نال درجة الحقيقة وتحقق بتكميل الشريعة والطريقة .
وفي تأخير الشريعة إشارة إلى أن تكميلها لا يكون إلا بعد تكمیل الطريقة وإن كانت الطريقة لا تحصل إلا بها .
فمن ادعى الحصول بدون الشريعة فقد كذب فحقيقتهما حقيقة واحدة وهي الأمر الإلهي الذي روحه الطريقة وبدونه الشريعة مثل حقيقة الإنسان روحا وبدنا. 
(وحشرنا في زمرته كما جعلنا من أمته) ظاهر لما فرغ من ذكر ما وجب تقديمه شرع إلى إبراز الكتاب من الوجود المثالي.
إن شئت قلت من الوجود الذهني على ما رآه إلى الشهادة مع بيان أن الترتيب المخصوص والعدد المعين ليس برأيه ليتأكد أنه ليس بمصنف في هذا الكتاب بل
مترجم من اللسان المثالي إلى اللسان الشهادي.
قال : (فأول ما ألقاه المالك) أي مالك يوم إبراز الكتاب، إذ ما تجلى الله للشيخ بالتجلي الذاتي القهاري إلا في يوم الإبراز كقوله تعالى : "مالك يوم الدين" 3
الفاتحة.  (على العبد) أي على 
عبده في هذا اليوم لظهور عبوديته بكماله فيه واختصاصه العبادة به اختصاصا تاما.
فيكون عبدا محضا فكان في سائر الأيام ليس عبدا بالنسبة إليه كقوله تعالى : " إياك نعبد " فتحقق بقوله تعالى: "ملك يوم الدين. إياك نعبد وإياك نستعين " وهذا المعنى من رموز الشريعة وإشاراته اللطيفة التي لا تحصل إلا لمن تنور قلبه بنور البصيرة.
ويجوز أن يراد بالمالك الرسول عليه السلام أي أول ما أمره المالك على طريق الإلقاء للإبراز إلى العالم الشهادي.
إذ إلقاء الفصوص على الهيئة المذكورة على الشيخ ليس إلا وهو أمر عليه للإخراج من العالم المثالي إلى العالم الشهادي فيكون مأمورا في الترتيب .
فدل قوله : فأول ما ألقاه على أن إبراز كل فص بل كل معنى في هذا الكتاب بلفظ بأمر الرسول على حده جزءا فجزءا بعد أمره على الوجه الكلي .
بقوله : خذه واخرج به إلى الناس فالأمر بالإخراج غير الأمر بكيفية الإخراج فامر بهما فأخذ للإخراج من يد الرسول فصا بعد فص لا جملة .
ففيه زيادة تنزيه من التصرف من عند نفسه وإنما ألقى إليه هذا أولا لأن كلمته أول الموجودات وأصلها .
وإنما قال المالك لأنه هو المالك لما بيده .
كما قال وبيده عليه السلام كتاب فهو صاحب الكتاب .
وإنما قال العبد لأن من امتثل أوامر سیده فهو عبد .
كما قال فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله (من ذلك) الكتاب المثالي المرسوم الذي بيده عليه السلام .
فمن للتبعيض المتضمن لمعنى الابتداء لأن من تدل على أن الكتاب مبدأ موضع الإلقاء وذلك إشارة إلى علو مرتبة
الكتاب فأطلعه الله تعالى أو معاني الكتاب بلا صورة ورسم وترتيب لأنه اطلاع سري مجرد من الصورة .
ثم أعطاه الرسول الكتاب للإبراز مرسومة بغير عبارة على هذا الترتيب المخصوص .
فالعبارة مستندة إلى الشيخ بالتأييد الاعتصامي وهو العربي الفصيح اللسان العارف باللغات العربية واصطلاحات كل طائفة .
والمعاني المرسومة من الرسول تقوله كما حد لي رسول الله ، 
والمعاني المجردة من الله تعالى لقوله : ولما أطلعني الله فذلك الكتاب لا ريب فيه وإنما لم يقل على قلب العبد ليدل على أن نسخة هذا الكتاب هو الكتاب المثالي الذي بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه السلام مع المعاني المرتسمة فى قلبه المآخوذه من الصورالمرتسمة فيه.
فحين أبرز فقد أحاط ظاهره وباطنه ونظر فيه بقلبه وبصر عينه كما قال.
وجردت القصد والهمة فلا يقع من جانبه خطأ أصلا فهو صحيح مطابق بالأصل الصحيح .
فإن من حفظ الألفاظ في قلبه وكتب هذه العبارات من النسخة الصحيحة المطابقة لما في القلب.
فقد كتب من النسختين الصحيحتين المنظورتين ببصر القلب والعين .
فلا يحتمل الخطأ لصحة الأصل واهتمام الكاتب .
ولذا قال ألقاه ولم يقل ألهمه فإن الإلقاء يشعر بأن يكون الملقي صورية.
كقوله تعالى : "إني ألقي إلي كتاب كريم" 29 سورة النمل.
وقوله تعالى : "وألق عصاك " 117 سورة الأعراف. إلى غير ذلك.
فهذا القول أكد دلالة على نفي احتمال الخطأ من الهمة على قلب العبد ."
.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة أغسطس 02, 2019 3:48 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 9:02 am

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية

اعلم أن الفص في هذا الكتاب على أربعة معان:
أحدها: الفص الكلمة نص على ذلك بقوله: وفص كل حكمة الكلمة المنسوبة إليها بجعل الفص مبتدأ والكلمة خبرا.
و بقوله : فتم العالم بوجوده فهو من العالم كفص الخاتم من الخاتم فبهذا المعنى يكون أرواح الأنبياء بمنزلة الفص من الخاتم و وجوداتهم بمنزلة الخاتم من الفم .
وثانيها: الفص القلب وإليه أشار بقوله: نص حكمة نفثية و غيره من الفصوص المذكورة بعده بجعل الفص مبتدأ والظرف أعني في كلمة سادا مسد الخبر .
وحينئذ يكون قلوب الأنبياء بمنزلة الفص من الخاتم وأرواحهم بمنزلة الخاتم من الفص.
وثالثها: الفص الحكمة أي العلوم المنتقشة في أرواحهم وإن شئت قلت : في قلوبهم لقوله : منزل الحكم على قلوب الكلم وحينئذ يكون علومهم بمنزلة الفص من الخاتم وأرواحهم بمنزلة الخاتم من الفص .
وإليه أشار بقوله : ومما شهدته مما نودعه حكمة إلهية ولم يذكر الفصوص في عدد الحكم إشعارة بإطلاق النص على الحكمة .
ورابعها: الفص خلاصة الحكمة فقد نص عليه بقوله فأول ما ألقاه المالك على العبد في حكمة إلهية الخ .
فيكون الخلاصة بمنزلة الفم من الخاتم والحكمة بمنزلة الخاتم من النص .
فبهذه الأربعة تم الغرض من التشبيه وهو إعلام دورية الوجود في المراتب كلها (فأول ما ألقاه) مبتدأ و(فص) خبره مضاف إلى (الحكمة) إضافة العام إلى الخاص وهي بمعنی من لجواز إطلاق النص عليها و (في كلمة آدمية) ظرف للحكمة الإلهية فيكون المعنى فأول ما ألقاه المالك على العبد خلاصة العلوم الإلهية الحاصلة في كلمة آدمية .
فظهر لك أن المراد بالفص ههنا بمعنى الخلاصة وإنما قدم ببان هذا النص علی تعداد حكمه مع أن دأب المصنفين عكسه تعظيما لشأنه لاشتماله على جميع ما يشتمل عليه الفصوص المذكورة في الكتاب مع زيادة .
فكأنه يستحق أن يكون كتابة مستقلا مقابلا لسائر الحكم. (لما شاء الحق) أي لما اقتضى الحق بالحب الذاتي.
هذا شروع في بيان حقيقة الكلمة الآدمية مع لوازمها من الحتمية والخلافة والفصية وغيرها إلى قوله : "ثم نرجع إلى الحكمة" لتوقف معرفة الحكمة على معرفتها حتى نعلم منه حكمة إيجاد العالم لما ههنا عبارة عن الإمداد المعنوي من الأزل إلى الأبد بمقارنة المشية الأزلية .
ولم يقل لما أراد جريا للكلام على عادة الناس فإن عادتهم في حصول مراداتهم التعليق بالمشيئة لا بالإرادة .
الحق هو اسم للذات الثابت بنفسه المثبت لغيره ولم يقل الله مع أنه أنسب للمادة ليعلم أن السلطنة في إيجاد الكون الجامع لهذا الاسم وسائر الأسماء الحسنی توابعه لذلك، ذلك فردا.
حيث قال : لما شاء الحق وجمعا بقوله من حيث أسماؤه الحسنى فإنه من الأسماء الحسنی فقد ذكر تكرارا إجمالا وتفصيلا تعظيما لشأنه (من حيث أسمائه الحسنى) أي من حيث أنه جامع لأسمائه الحسنى (التي لا يبلغها الإحصاء) أي لا يمكن العد إلا لله لأنها غير متناهية.
(أن يري أعيانها) هذه صفة لله تعالى وعلة غائية لايجاد الكون الجامع لاقتضاء هذه الإيجاد أن يكون علته الغائية من جانب الموجود و من كمالاته.
وأما قوله تعالى : "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " 56 سورة الذاريات.
أي ليعرفون فهو صفة للمخلوقات وعلة غائبة لإعطاء الحق وجوداتهم الخاصة بهم بحسب الأوقات .
فذلك الإيجاد يقتضي أن تكون العلة الغائية من طرف المعلول وكمالاته فلا وجه لإيراد الشارح في هذا المقام .
قوله تعالى : "كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف " الحديث . لأنه صريح في بيان العلة لإيجاد الجزئيات .
والمقصود ههنا بيان العلة الغائية لإيجاد المادة الكلية فتختلف العلتان الغائیتان باختلاف الإيجادین.
(وإن شئت قلت أن يرى عينه) فقد أسند المشية المتعلقة بالرؤية بقوله أن يرى أعيانها إلى الفيض المقدس وإلى الفيض الأقدس.
بقوله : أن يرى عينه وأشار إلى اتحادهما بقوله: وإن شئ (في كون) أي في موجود (جامع بحصر الأمر) المطلوب رؤيته .
وهو أعيانها أو عينه قوله : لكونه علة للحصر أي الموجود الجامع متصفا بالوجود الجامع بين النشأة الروحانية والجسمانية.
كما قال فيما بعد فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود (ويظهر به) أي بسبب الكون الجامع (سره) أي سر الحق وهو عينه (إليه) أي إلى الحق لكونه محلا بالجزء الأخير الذي هو آدم فقوله : ويظهر إشارة إلى أنه لا بد من الجلاء لعدم الظهور بدونه
وقوله : في كون جامع يحصر الأمر يدل على العلة المادية بالمطابقة و علی الصورية بالتضمن وعلى الفاعلية بالالتزام.
وقوله : ويظهر يدل على العلة الغائية فالتعريف مشتمل على العلل الأربع:
يعني لما اقتضت ذات الحق بالحب الذاتي أن يرى ذاته بجميع أسمائه في خارج علمه في مرآة يحصل مراد الله تعالى فيها
وقد علم الله في علمه الأزلي أن هذه المرأة هي الموصوفة بالصفة المذكورة
أوجده من العلم إلى العين فهي النشأة الإنسانية المسماة بكلمة آدمية
فجواب لما شاء محذوف للعلم به أي لما شاء أن يرى عينه في العين أوجد الكلمة الآدمية من العلم إلى العين ليوصل مطلوبه تعالى فتم المقصود .
وهو رؤية الله تعالى عينه في الموجود المكمل بالصفات المذكورة .
وهي الجمع والحصر وإظهار سره إليه .
فإنه إذا لم يكن على هذه الصفة لم يكن مرآة للرؤية المطلوبة ويظهر بالرفع معطوف على يحصر ولا يحسن أن يعطف على يري لمنع الضمير العائد في به إلى الكون .
كما لا يخفى مع أن قوله أن يرى عينه دون أن يقول أن يبصر أو يعلم أو يظهر أو غير ذلك من الصفات التي تحصل له بوجود هذا الكامل .
إيماء وتنبيه على أن تعلق الحب الذاتي أولا وبالذات إلى الرؤية وإلى غيرها بتبعية الرؤية .
فإنه تعالى أشد شوقا إلى اتصافه بهذه الصفة من غيرها .
فإذا عطف قوله ويظهر على قوله : يرى تفوت هذه الفائدة، و لأن الظهور من أسباب الرؤية .
فما لم يكن الشيء ظاهرة لم يكن مرئيا فلا يعطف عليه في هذا المحل المطلوب سببیته .
يعني ويظهر به سره إليه حتى يرى عينه لظهور سره إليه بسبب الكون الجامع. ولما يوهم كلامه سؤالا وهو أن ما ذكرتم من أن المقصود من إيجاد العالم رؤية الله تعالى نفسه.
يدل على أن الرؤية علة غائية للإيجاد وليس كذلك لأن رؤية الله تعالى نفسه صفة أزلية ثابتة له قبل وجود العالم.
والعلة الغائية بحسب الوجود الخارجي يجب أن يكون موجودة بعد وجود المعلول فلا يتوقف ثبوت الرؤية له على وجود العالم.
بل الذات تستقل بها كسائر الصفات فلا يتعلق الغرض لأجلها إلى إيجاد العالم أراد أن يجيب عنه ويثبت دعواه على طريق الشكل الأول.
بقوله: (فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي)، أي في الحكم (مثل رؤية نفسه) وإنما قلنا في الحكم إذ هما متحدان في حقيقة الرؤيا فلا معنى لنفي المثلية مطلقة بل في الحكم (في أمر آخر يكون له كالمرآة) .
وإنما لم يقل ما هي عين رؤية نفسه إيذانا بعينيتهما بحسب الأحدية لجواز سلب مثلية الشيء عن نفسه.
يقال الشيء ليس مثل نفسه وإنما لم يقل في المرأة .
لأن عدم المماثلة في المرأة الحسية لم يشتبه على أحد من الناس وإنما الاشتباه في مثلها.
فلذلك قال المرأة ليعم الدليل (فإنه) الضمير للشأن (يظهر له) أي للشيء (نفسه في صورة بعطيها) أي يظهره.
(المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له) أي للشيء (من غير وجود هذا المحل) كما قال وقد كان الحق أوجد العالم (ولا تجليه) أي من غير تجلي المحل له أي للشيء الناظر.
ومعنى تجلي المحل ظهوره إليه على الجلاء كما قال فكان آدم عين جلاء تلك المرآة.
(وقد كان الحق أوجد العالم كله) من العلم إلى العين قبل إيجاد آدم (وجود شبح مسوی لا روح فيه) مثل الطين في حق آدم والنطفة في حق أولاده وهو ظلمة وخلق محض لا يهتدي به إلى شيء وإنما أوجده أولا على هذا الطريق ثم جلي بآدم لأن المرآة لا تكون غير مجلوه إلا من كثيف ظلماني ولطيف نوراني (فكان) العالم بدون آدم (كمرآة غير مجلوة ومن شأن الحكم الإلهي).
أي وقد كان من اقتضاء حكم الحق (أنه ما سوی محلا إلا ولا بد أن يقبل) ذلك المحل روحا إلهية بسبب تسوية الله تعالى (عبر عنه) أي عن الروح الإلهي (بالنفخ فيه) .
وأما القول بإرجاع ضمير عنه إلى القبول فليس بمناسب إذ القبول صفة المحل القابل والنفخ بمعنى إعطائه القابلية والاستعداد صفة لله تعالى .
لا بمعنى إخراج الهواء من جوف النافخ وإدخاله في جوف المنفوخ فيه فإنه محال في حقه تعالى فلا يعبر أحدهما بالآخر (وما هو) أي ليس ذلك القبول (إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المساواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال) فالعالم المسوی بدون الروح الإلهي بمنزلة المرآة الغير الصقيلة وبالروح الإلهي بمنزلة الصقيلة فكما أن المرأة بسبب جلاله تقبل صورة من يحاذيها وتعطيها لصاحبها .
كذلك العالم بسبب قبول الروح الإلهي يقبل التجلي الدائم الذي هو ظهور عينه إليه في ذلك المحل المكمل.
(وما بقي) شيء من المذكور لم يعلم حاله (إلا قابل) فإنه لما ذكر ولم يبين أنه أثر للحق أم الإلزام بيانه حتي پنكشف حقيقة الحال.
فقال (والقابل) في المادة القابلة للتسوية واستعدادها للروح الإلهي وقبولها لها وغير ذلك من لوازمها الذاتية .
كل ذلك (لا يكون) أي لا يحصل (إلا من فيضه) أي من تجليه (الأقدس ) من الكثرة الإسمائية فهذه كلها غير مجعولة إذ كل ما حصل من التجلي الأقدس غير مجعول كالماهيات و استعداداتها الحاصلة منه .
وأما استعدادها لقبول التجلي الدائم الذي من الفيض المقدس فهو مجعول إذ لا يحمل هذا الاستعداد إلا من قبول الروح الإلهي وهر أي نفخ الروح من الفيض المقدس.
والمراد بالفيض كون الجود الإلهي سببا لحدوث أنوار الوجود في كل ماهية قابلة للوجود بلا انفصال من الله تعالى .
واتصال إلى الماهية القابلة كفيضان الصورة على المرآة فإن صورة الإنسان مثلا سبب لحدوث صورة تماثلها في المرآة المقابلة بمحاذاة الصورة فليس فيهما انفصال واتصال.
وكذلك نور الشمس سبب لحدوث شيء يناسبه في النورية على الحائط لا بمعنى أنه ينفصل شعاع من جرم الشمس ويتصل بالحائط ويبسط عليه وهو خطأ.
وأما فيضان الماء من الإناء على اليد فإنه انفصال جزء من الماء عن الإناء واتصاله على اليد هذا ما ذكره الإمام محمد الغزالي قدس سره .
(فالأمر) أي كل الموجود سوى الله تعالى من الموجودات العلمية والعينية (كله) تأكيد للاستغراق (منه) أي حصل من الله تعالى على الوجه المذكور.
(ابتداؤه وانتهاؤه وإليه يرجع الأمر كله) باستهلاكه بتجلي الحق كل آن أو بتجليه عند القيمة الكبرى فبقي مجردة عن اللواحق العارضة ويتصل إليه تعالى.
(كما ابتدأ منه) يعني على الهيئة التي تكون الابتداء عليها يعني أن ذوات الأشياء وأحوالها من الابتداء والانتهاء والرجوع إليه تعالى.
كل ذلك من الله تعالى، ويلزم على أرباب العقول أن يقال : إذا كان جميع ذوات الأشياء وجميع أحواله من الأوصاف والأفعال والأقوال من الله تعالی يلزم الجبر المحض وهو خلاف ما ذهب إليه أهل السنة.
فنقول: إنما يلزم ذلك أن لو كان القوابل من الفيض المقدس وليس كذلك وقد صرح بقوله: والقابل لا يكون إلا بالفيض الأقدس وإنما لم يقل وما بينهما تحقيقا لما ذهب إليه من أن العالم كله عرض لا يبقى زمانين إذ لا بين حينئذ .
وهو ابتداء وانتهاء بالجهتين ومقصوده رضي الله عنه من هذا الكلام بيان كمال إحاطة الحق للأشياء .
ليزول ما ذهب إليه من العقول الضعيفة من أن الكون إذا كان سببا لرؤية الحق عينه كان محتاجا إليه للحق تعالى في حصول ذلك الكمال له.
تعالى عن الاحتياج إلى ما سواه وليزول الشبهة المعارضة لها من أن ما ذكرتم من القوابل ليس بأثر للحق تعالى لأن القوابل هي الماهيات والماهيات ليست بمجعولة فلم يجز في استكمال بعض كمالاته أن يتخذ أسبابة مغايرة لذاته تعالى خارجة عن صنعه.
فلما قال : وما بقي إلا قابل إلى قوله : فاقتضى الأمر زالت الشبهتان معا لثبوت أن كونه محتاجا إليه من الله تعالى .
وأن القوابل فائضة منه بالفيض الأقدس فالله تعالى قادر بذاته على إيجاد الكمالات التي توجد بسبب الغير لكن وجودها به أكمل من وجودها بدونه.ولذلك وقعت به ولم تقع بدونه .
فلا نقص في حق الله تعالى في استكمال ذلك الكمال بالعالم بل هو من أكمل كمالانه إذ كله صنيع الحق سواء كان فائضا بالفيض الأقدس أو المقدس .
فسبحان الله دبر العالم بالعالم كما لا نقص في احتياجه إلى صفاته في إيجاد الخلق إذ كلها ليس غير ذاته تعالى .
والتعبير بلفظ الاحتياج في حقه تعالى وإن كان سوء الأدب لكن يقتضي بيان المحل لتلك العبارة والله أعلم.
واعلم أن الله تعالى حزم على الإنسان بعض الأفعال وأحل بعضها فإذا فعلت فعلا شرعا وجد منه شيء وجود شبح مسوي لا روح فيه وهو بمنزلة .
قوله : وقد كان أوجد العالم كله وجود شبح مسوی لا روح فيه فاقتضى الأمر جلاء ذلك الموجود وهو بمنزلة.
قوله : فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم فكان جلاوه ونور الاسم الذي يحكم عليك في صدور هذا الفعل منك .
وهو بمنزلة قوله : فكل آدم عين جلاء تلك المرآة فحينئذ رأيت نفسك في فعلك فإذا رأيت نفسك رأيت ربك لأنك تعريفه الرسمي .
فإذا رأيت ربك فقد رأى ربك نفسه في مرآة فعلك كما رأى في مرآة العالم، فعلى هذا يجري فعلك على طريق فعل الله تعالى وينتج نتيجة فعله وإذا تحققت بأخلاقه وفعلت ما أمره وأعطيته ما طلبه منك وهو المرأة على نوع مخصوص بحسب الفعل المخصوص والوقت المعين .
فقد وجدت سعادة بسبب إطاعتك الشرع لا غير لأجل هذا أمر منها ما أمر بخلاف ما إذا
ارتكب المعاصي فإنه وإن كان يوجد شيء منها لكن لا يمكن به السلوك بهذا المسلك فلا يكون مرآة لصاحبها وربه .
والمقصود منك ليس إلا هو لذلك نهي منها ما نهى فتحفظ.
فإن هذه المسألة روح الشريعة وركن الطريقة فمن عرفها على وجه اليقين بريء عن شبهات المباحین.
(فكان آدم) أي الروح الكلي (عين جلاء تلك المرأة وروح تلك الصورة) ليحصل المطلوب من تلك الصورة وهو رؤية الله تعالى ذاته بها.
فإنه بدون الجلاء لا يحصل هذا المطلوب (وكانت الملائكة) أي كل ما يطلق عليه اسم الملك فيتناول الملائكة المهيمون وغيرها من الأملاك .
وقد أنجز الكلام إلى بيان القوى ليكون توطئة تذكر ما جرى بين الملائكة وآدم حتى نتعلم الأدب مع الله تعالى .
لذلك خص ذكر القوى بالملائكة لعدم هذه الفائدة في غيرها وعدم انضباطها لكثرتها لذلك قال : (من بعض القوي) يعني أن الملائكة مع كثرتهم بعض قوى (تلك الصورة) إلى حد يقبل التبعيض و التنصيف .
وهو كناية عن عدم الإحصاء (التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم) أي الصوفية (بالإنسان الكبير) فتكون الملائكة تابعة لآدم في المعنى ذلك أمرت بالسجود ليطابق الصورة بالمعنى.
(فكان الملائكة له) بالنسبة إلى الإنسان الكبير وهو صورة العالم (كالقوى الروحانية والحسية التي هي في النشأة الإنسانية) العنصرية فلا مجاز في إسناد الزعم إلى النشأة في قوله فيما تزعم حتی احتاج الكلام إلى تقدير المضاف من الأمل أو الأفراد تكون المراد النشأة الموجودة في الخارج لأن النشأة الكلية الموجودة في العقل .
(وكل قوة منها) أي من القوى الروحانية والجسمانية التي في النشأة الإنسانية ولا حاجة لتعميم القوي إلى ما خرج من النشأة الإنسانية لأن المراد بيان المشبه به.
وهو القوى الإنسانية ليعرف منه أحوال المشبه وهو القرى الخارجة عن النشأة الإنسانية كالملائكة التي نازعت في آدم (محجوبة بنفسها) .
لذلك لا ترى أي لا تعلم (أفضل من ذاتها)، بل تعلم أن ذاتها أفضل من غيرها وترجع بذلك نفسها على غيرها وليس ذلك العلم صوابا منها.
(وإن فيها) أي في النشأة (فيما تزعم) أى في زعمها وهو بدل الاشتمال من قوله فيها وهو خبر إن كما في زعمها (الأهلية) منصوبة على أنها إسم إن.
(لكل منصب عال ومنزلة رفيعة لما عندها من الجمعية الإلهية) فلا ترى أفضل من ذاتها فادعت أنها مستحقة بها بالفعل لاحتجابها بالجمعية الإلهية كما احتجبت قواها بنفسها .
لكن هذه الدعوى والزعم ليس بصواب منها فإن الأنبياء وأهل التحقيق إذا أدعوا لا يدعون إلا ما يتحققون به .
فلم يكن الإنسان أهلا بالفعل بمنزلة رفيعة إلا بالتحقق بها وبعد تحصيلها بمباشرة الأسباب لا بسبب الجمعية الإلهية إذ ما من موجود إلا وعنده من الجمعية الإلهية في التحقيق .
وإنما اختصت بالذكر بالنشأة لظهورها فيها دون غيرها (بين ما يرجع من ذلك) أي هذه الجمعية حاصلة لها ودائرة بين شيء يرجع ذلك فمن زائدة في الموجب على مذهب أبي الحسن وإنما اختاره مع أن سيبويه لم يجز ذلك لمشابهة هذا الكلام صورة بالنفي أو ليجانس ما قبله (إلى الجانب الإلهي) وهو الحضرة الواحدية.
(وبين شيء) يرجع ذلك الشيء (إلى جانب حقيقة الحقائق) وهي الحضرة الإمكانية وفي قوله : (وفي النشأة الحاملة لهذه الأوصاف إلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية) تقديم وتأخير وتقدير الكلام هكذا وبين شيء يرجع ذلك الشيء إلى ما يقتضيه الطبيعة الكلية في النشأة العنصرية الحاملة لهذه الأوصاف أي القوى الروحانية والجسمانية جميعا.
(التي) أي الطبيعة الكلية (حصرت قوابل العالم) أي صورة القابلة لأرواحه (كله) تأكيد (أعلاه) رهر العالم الروحاني (وأسفله) وهو العالم الجسماني وهو مبدأ الفعل والانفعال والقابلة بجميع التأثيرات الأسمائية والمراد بمقتضى الطبيعة الكمالات الحاصلة لمن عنده هذه الجمعية.
وإنما اختار التقديم والتأخير لئلا يتوهم في أول التوجه أن تكون الصفة صفة لغير موصوفها.
ولما كانت هذه المسألة محل دقة وأشد صعوبة وأهم مهم من مسائل الكتاب أعلم للطالبين من أهل العقل الطريق الموصل إليها ونفي الطريق الغير الموصل حتى تركوا نظرهم العقلي وتمسكوا بأسباب الفن .
وأشار إليها فقال : (وهذا) المذكور أمر (لا يعرفه) على ما هو عليه (عقل بطريق فكري بل هذا الفن) بجميع مسائله (من الإدراك لا يكون) أي لا يحصل للعقل.
(إلا عن كشف إلهي) فهذا المذكور لا يعرفه العمل إلا بالكشف الإلهي لأنه مسألة من مسائله بل هو أم الفصوص وأصل جميع مسائل الفن.
فيحتاج إلى الكشف كمال الاحتياج (منه) أي من الكشف (یعرف) على الوجه اليقين (ما أصل) يعني أن شيء حقيقة (صور العالم) المساواة القابلة لأرواحه وهي حقيقة الحقائق كلها وهي الذات الإلهية من حيث أسمائه الحسنى منه متعلق بيعرف قدم للحصر .
فإن قلت : إن كان الطالب من أهل النظر فلا حظ له من الفن لأنه قال في حقه لا يعرفه عقل .
وإن كان من أهل الكشف فلا يحتاج إلى إبراز الكتاب لأنه قال في حقه إلا عن كشف.
فما معنى قوله : وأخرج به إلى الناس ينتفعون به حكاية عن الرسول عليه السلام .
وقوله : ثم منوه على طالبيه بإسناده إلى نفسه.
قلت : أما أهل النظر فيحصل له في قراءة ذلك الكتاب من أهل الكشف واليقين منافع كثيرة وإن لم يحصل له كمال المنفعة فيدخل تحت قوله تعالی : "أو ألقى السمع وهو شهيد" 37 سورة ق . بسبب قراءته كما لا يخفى .
وأما أهل الكشف فيحتاج إلى مطالعة الكتاب في إدراك المعاني المعتبرة بألفاظ منتظمة فيه فلا يكفي مجرد كشفه بل مع مطالعته إن كان من أهل
المطالعة أو القراءة إن كان من أهله فإن مفردات القرآن الكريم وأجزائه معروفة للعرب قبل نزول القرآن العظيم .
وأما المعاني المبينة بالقرآن الحكيم فيحتاج في إدراكها إلى الكلام القديم.
فهذا الكتاب كرامة قوليه له: لا يأتي مثله في هذا الفن أحد من المصنفين لا قبله ولا بعده .
فلا يتصور إدراك هذه المعاني بالكشف إلا من جهته كما لا يصل العلم إلى معاني القرآن إلا من الجهة القرآنية .
فمن لم يصل إليه بعد إبرازه مع القدرة فلا نصيب له من معانيه ولو كان أهل كشف فاجتهد.
فإن المراد بإبراز الكتاب منفعتنا به فهو مأمور بالإبراز بصيغة الأمر الحضوره فيه بقوله : خذه واخرج به إلى الناس ونحن مأمورون بصيغة الغيبة لغيبتنا فيه.
بقوله ينتفعون به فوجب به علينا الانتفاع.
فالكامل والناقص بعد إبراز الكتاب سواء في احتياج الانتفاع فلا يليق لنا ترك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام.
(فسمي هذا المذكور)، وهو الكون الجامع (إنسانا وخليفة فأما إنسانيته فلعموم نشانه) وهي المرتبة الجامعة بين النشأة الروحانية وهي على صورة الحق والجسمانية وهي من حقائق العالم وصوره.
(وحصره الحقائق كلها) من الإلهيات والكونيات، فإنه حينئذ يونس جميع الحقائق فهو من الإنس (وهو) بيان لوجه تسمية أخرى (للحق بمنزلة إنسان العين) بفتح الهمزة (من العين الذي به يكون النظر وهو المعبر عنه بالبصر فلهذا) أي فلأجل أنه للحق بمنزلة إنسان العين من العين .
(سمي إنسانا) بكسر الهمزة للفرق (فإنه) تعليل لقوله وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين أي أن الشأن (به) أي بالمذكور لا بغيره (نظر الحق إلى خلقه) أي إلى موجوداته الخارجية بعد إيجادها به .
فالمقصود الأصل بإيجاد الإنسان الكامل النظر به وهو النظر بالغير في النظر بالذات لا كالنظر بالواسطة إلى خلقه فأحب النظر إليهم بالحب الذاتي (فرحمهم) بسبب نظره الحبي إليهم وأعطى حوائجهم على حسب استعدادهم .
وإنما قال : فرحمهم مع أن المقصود يتم بدونه وهر بيان لوجه التسمية إشارة إلى أن نظر الحق إلى عباده نظر عناية أزلية .
فإن الله تبارك وتعالى أحب أن ينظر إليهم على الدوام بحسب العوالم ومن لا يحبه شيئا لم ينظر إليه .
فنظر إليهم بعد إيجادهم بسبب حبه فرحمهم بسبب نظره ففيه بشارة للمذنبين حتى لا يقنطوا من رحمة الله .
وإنما فسرنا الخلق بالموجودات فإن النظر بالغير لا يتعلق بالمعدوم كالصورة الحاصلة في المرأة .
فإنه لا يتعلق النظر بها إلا بعد وجودها في المرآة فإن مآل النظر ونتيجته الرحمة والشفقة للمنظور إليه الذي يمسه العذاب ولو مغضوبا للناظر فضلا عن أن يكون محبوبا له .
بخلاف العلم الخالي عن النظر فهو نظر الرحمة والشفقة لا نظر الوجود ولو كان نظر الوجود .
كما قال الشيخ رضى الله عنه في التدبيرات الإلهية القطب معلوم غير معين وهو خليفة الزمان ومحال النظر والتجلي ومنه يصدر الآثار على ظاهر العالم وباطنه وبه يرحم ويعذب من يعذب (فهو الإنسان)، لكونه سببا النظر الحق به إلى خلفه (الحادث) بالحدوث الذاتي لعدم اقتضاء ذاته الوجود (الأزلی) لكونه غير مسبوق بالعدم الزماني.
(والنشأ الدائم الأبدي فلا انتهاء له) بحسب المستقبل كما لا ابتداء له بحسب الماضي هذا باعتبار النشأة الروحانية وإما باعتبار النشأة الجسمانية لا أزلي ولا أبدي.
(والكلمة) لكونه مركبا من الحروف العاليات بالنشأت الروحانيات (الفاصلة) الحافظة من التلاشي بین حضرتي الوجود والإمكان (الجامعة) بجميع الحقائق الإلهية والكونية (فتم العالم بوجوده) أي بالإنسان لكونه آخر العمل منه يدل عليه قوله الذي هو محل النقش.
(فهو من العالم كفص الخاتم من الخاتم الذي هو محل النقش والعلامة التي بها)
لا بغيرها (يختم الملك على خزائنه وسماه) الله تعالى (خليفة) بقوله تعالى : " إني جاعل في الأرض خليفة " 30 سورة البقرة.
(من أجل هذا) أي من أجل كونه من العالم كفص الخاتم من الخاتم أو من أجل كونه منصفا بالصفات المذكورة (لأنه) تعليل لقوله فهو من العالم كفص الخاتم من الخاتم. (الحافظ خلقه كما يحفظ الختم الخزائن فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها إلا بإذنه فاستخلفه في حفظ العالم)
وكان هو الحافظ قبله (فلا يزال العالم) أي عالم الدنيا محمولة ما دام فيه (هذا الإنسان الكامل) لأنه من أكمل كمالاته تدبير العالم بالمعالم.
(ألا تراه) وهو إتيانه الدليل للمحجوبين يكون العالم محفوظا بالإنسان الكامل وخرابة بدونه (إذا زال وفك) هذا الختم (من خزانة الدنيا لم يبق فيها ما اختزنه الحق فيها وخرج ما كان فيها) بأسرها دفعة واحدة إلى الشهادة الدنيوية (والتحق بعضه) أي جزء ما خرج من الخزينة أو جزء العالم
(ببعض) أي بجزء منه أي لا يمازجان فمارت السماء وسارت الجبال وخربت الدنيا لعدم الامتزاج الاعتدالي بين أجزائها .
(وانتقل)، الأمر الإلهي والموجود بالوجود الدنيوي بسلب هذا الوجود عنه (إلى الآخرة) بنقل الخليفة إليها فيكون كل ما كان موجودا بالوجود الدنيوي موجودا بالوجود الأخروي.
(فكان ختما على خزانة الآخرة ختمة أبدية فظهر) إليه تعالی (جميع) ما حصل في (الصبور الإلهية) بحيث يكون كل فرد من أفراد العالم مظهر الاسم من أسماء الله تعالى وهي العالم بأسره (من الأسماء) وهي سره كما قال.
ويظهر إليه سر بيان لما (في هذه النشأة الإنسانية فجازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود) الجامع بين حقائق العالم وبين الأسماء الإلهية .
فشاهد عينه من حيث أسماء الحسني في هذه النشأة على ما اقتضاه ذاته وهو رؤية ذاته من حيث أسمائه في كون جامع .
فهذه هي الكلمة الآدمية والكون الجامع الذي اقتضى ذاته أن يرى عينه من حيث أسمائه الحسنى على ما ذكره.
(وبه) أي وبهذا الوجود الجامع وهو وجود آدم دون غيره (قامت الحجة على الملائكة) لاقتضاء ذواتهم إقامتها عليهم الاحتجابهم بأنفسهم فبعد إقامة الحجة عليهم زال حجابهم فعرفوا مرتبتهم .
و علموا أن لله تعالى أسماء ما وصل علمها إليهم فاعترفوا بقصورهم وعجزهم بأن "قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا" 32 سورة البقرة .
(فتحفظ) واعمل فإنه كفاك واعظا (فقد وعظك الله تعالى بغيرك) وهو الملائكة (وانظر) بنظر العبرة إلى قصة الملائكة مع آدم الذي سنذكره وازجر نفسك عن مذمة الغير والدعاوى التي ما أنت متحقق بها وسوء الأدب مع الله حتى لا تكون عبرة لغيرك كما يكون غيرك عبرة لك .
هذا معنى قوله : (من أين أتي على من اني) وأتي وجاء تستعملان بمعنی الفعل يعني من أين فعل على من يقع (عليه) الفعل على وجه التوبيخ والملائكة فإنه قد هلك من هلك وبوخ من يوبخ بأمثال هذه الصفات التي تصدر من عدم العلم بأنفسهم ومرتبة غيرهم.
ولما كانت هذه القصة أعظم القصص موعظة وهدى للناس وأهم للطالبين أوصى أولا بالحفظ والنظر .
ثم شرع إلى بيانها بقوله: (فإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه) ما تظهره للحق من جميع أسمائه (نشأة هذه الخليفة ولا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية) التي لا تحصل إلا في نشأة الخليفة وهي العبادة بجميع الأسماء والصفات أي لم تطلع عليهما .
فالوقوف ههنا بمعنى الشعور والاطلاع وكذلك المذكور بعده لأن تجريحهم ودعواهم التسبيح والتقديس مسبب عن عدم علمهم بما ذكر فقد عدى مع أعتبار تضمينه معنى الثبوت.
( فإنه ما يعرف أحد من الحق إلا ما تعطيه ذاته) تعليل للمعطوف والمعطوف عليه مع أي لا يعرف احد الحق إلا بحسب معرفته بنفسه ولا يعبده إلا بحسب علمه .
(و) الحال أن (ليس للملائكة جمعية آدم) حتى يحصل فيها ما يحصل فيه من العبادة الذاتية .
فاستغنى بوجودها عن وجود آدم فلا بد من وجود آدم ليحصل مقتضى الذات الإلهية فلا مانع لحصول مقتضى الذات .
فهم أرادوا أن يمنعوه بقولهم: "أتجعل فيها من يفسد فيها" 30 سورة البقرة . 
 لعدم علمهم بما ذكر و ظنهم أنفسهم كفاية لمصلحة العبادة حيث قالوا: 
" ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " 30 سورة البقرة .
(ولا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها) تخص الملائكة بها (وسبحت الحق به وقدسته) أي لا تطلع باختصاصهم بأسمائهم واختصاص تسبيحهم بها
(وما علمت أن الله تعالى أسماء ما وصل علمها إليها فما سبحته ولا قدسته) لحصرهم الأسماء والتسبيح والتقديس فيما هم عليه .
(فغلب عليها ما ذكرناه وحكم عليها هذا الحال) فأخرجهم عن حد الاعتدال
(فقالت من حيث النشأة) الخاصة بهم (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) ما قالوا في حق آدم من الإفساد وسفك الدماء.
(وليس إلا النزاع) أي نزاع آدم عليه السلام مع الحق (وهو) أي هذا النزاع (عين ما وقع منهم فما قالوه في حق آدم) من المخالفة والمنازعة لأمر الحق (هو عين ما هم فيه مع الحق) وهذا من إعطاء نشأتهم.
(فلولا أن نشأتهم تعطى لهم ذلك) المذكور (لما قالوا في حق آدم ما قالوه) وفيه اعتذار من جانبهم (ولكن لا يشعرون) أنهم كانوا أصحاب النزاع بقولهم أتجعل وذكر الشعور دون العلم يدل على أن نزاعهم مع الحق تعالى.
قد بلغ غاية الظهور فكان كالمحسوس المشاهد فإذا لم يشعروا مخالفة أنفسهم مع الحق لم يعرفوا نفوسهم وأحوالهم.
(فلو عرفوا نفوسهم لعلموا) ربهم ولم يعلموا (ولو علموا) ربهم (لعصموا) عن قولهم في حق آدم كما عصموا بعد العلم بإظهار الحجة عليهم
(ثم لم يقفوا مع التجريع حتى زادوا في الدعوى بما هم عليه من التقديس والتسبيح) وثم لبعد مرتبة دعوى التزكية عن التجريح لأن فيه ارتكاب النهي ظاهرا كقوله تعالى: "فلا  تزكوا أنفسكم " 32 سورة النجم. بخلاف قولهم : أتجعل فيها وحتى للتجاوز عن الحد وفيه نوع من التشنيع والتوبيخ (و) الحال أن (عند آدم) كان (من الأسماء الإلهية) بيان لقوله ما وهو أي ما فاعل للظرف (ما لم تكن الملائكة) مشتملة (عليها)، ولم يكن تلك الأسماء عند الملائكة يعني ما علمت الملائكة هذه الأسماء التي علمها آدم.
(فما سبحت ربها بها ولا قدسته عنها تقدیس آدم وتسبيحه) مع أنهم ظهروا عليه بدعوى التسبيح والتقديس بقولهم : "ونحن نسبح" 30 سورة البقرة.
فادعوا ما لم يتحققوا به ولم يكونوا بحال ولا على علم منه وتركوا الأدب مع الله فوقعوا في الخجالة بعد انكشاف أحوالهم إليهم لذلك :"قالوا سبحانك لا علم لنا" 32 سورة البقرة . (فوصف الحق) فحكي (لنا) الحق في القرآن الكريم (ما جرى) من أحوال الملائكة وآدم (لنقف عنده ونتعلم الأدب) مع الله تعالى كیف، نقف عند الحق تعالى نتأدب معه ونهتدي ولا نتجاوز الحد.
(فلا ندعي ما نحن متحققون به وحاوون) أي و مشتملون (عليه) مع صدقنا في دعوانا قوله (بالتقييد) متعلق بلا ندعي (فكيف أن نطلق في الدعوى ننعم بها ما ليس لنا بحال ولا نحن منه على علم فنفتضح) الظهور عيوبنا عند انكشاف أحوالنا (فهذا التعريف الإلهي) وهو قصة آدم عليه السلام مع الملائكة ومن في قوله : (مما) للتبعيض أو للتبيين أي بعض ما (ادب الحق به عباده الأدباء الأمناء الخلفاء) فإن غيرهم لا يتأدب بمثل هذه التعريفات الإلهية وفي إيراده قدس سره هذه القصة في كتابه دلالة على كمال علمه وأدبه مع الله عز وجل وحسن خلقه مع الناس .
وهي أن المؤمنين الذين نازعوا وطعنوا في إظهار المعاني التي لا يعرفها عقل بطریق نظر فكري بمنزلة الملائكة الذين نازعوا وطعنوا في آدم فنفسه قدس سره بمنزلة آدم .
فكما كان آدم لا يغضب على الملائكة بسبب قولهم في حقه "أتجعل فيها" 30 سور البقرة .
فكذلك الشيخ لا يغضب على الذين يظنون السوء في حقه لتحققه بقوله تعالى: "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس " 139 سورة آل عمران.
فكما أن ما قالوه في حق آدم عین مخالفتهم لأمر الحق فكذلك المؤمنون الذين قالوا في حقه من الذم والطعن عين مخالفتهم الأمر الحق لأن إبراز الكتاب لا يكون إلا عن أمر الله .
فمن ظن السوء في حقه و نسب إليه ما لا يليق للمؤمنين أن يتصفوا به يخشى عليه الافتضاح في وقت المعاينة يخبر عنه قوله : "فنقتضح" .
ولما فرغ عما وجبة تقديمه من حكاية الملائكة وغيرها شرع في المقصود فقال : (ثم نرجع) من القصة (إلى) بيان الحكمة الإلهية (فنقول اعلم) قال مولانا قرمي في شرح مفتاح الغيب للشيخ صدر الدين القونوي أعلم تنبيه وإيقاظ لأمل الطلب والترقي على التوجه الكامل والإقبال التام على إصغاء ما يرد بعده بقلب حاضر وإيماء إلى جلالة قدره.
(أن الأمور الكلية) أي الصفات المشتركة بين الحق والعبد التي يتحقق الارتباط بينهما (وإن لم يكن لها وجود في عينها) أي وجود خارجي في نفسها (فهي معقولة معلومة بلا شك في الذهن) فكانت موجودة بالوجود الذهني (فهي باطنة) ممتنعة الوجود في الخارج من حيث كونها معقولة لكنها (لا تزول) لا تنفك (عن الوجود العيني لها) أي للأمور الكلية (الحكم والأثر)، لأنها صورة الأسماء الإلهية فكانت علة (في كل ما له وجود عيني بل هو) بل الأمر الكلي باعتبار الوجود الخارجي.
(عينها لا غيرهما) ترق في الارتباط فإن كمال الارتباط ونهايته الاتحاد وفيه بشارة عظيمة اللهم ارزقنا بها فكان قوله: (أعني أعيان الموجودات العينية) تفسير لضمير عينها (ولم تزل عن كونها معقولة في نفسها) مع كونها عين الأعيان الموجودة في الخارج كما لم تزل عن كونها عينها مع كونها معقولة في حد ذاتها.
فإذا كان الأمر كذلك كانت هي ذي الجهئین (فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات كما هي الباطنة من حيث معقولبنها) .
فإذا كان كذلك (فاستناد كل موجود عيني) في إظهار كمالاته قوله : (لهذه الأمور) الكلية متعلق بالاستناد فاستناد مبتدأ خبره محذوف لعمومه وهو موجود.
أي استناد كل موجود عيني لهذه الأمور الكلية موجود (التي لا يمكن رفعها عن العقل ولا يمكن وجودها في العين وجودة تزول به).
أي تزول الأمور الكلية بسبب الوجود العيني (عن أن تكون مقولة) بل يمكن وجودها في العين وجودة لا تزول به عن كونها معقولة كوجودها في الأعيان الموجودة .
فإنه لا يخرج عن أن تكون معقولة بخلاف الموجودات العينية فإنها موجودة بوجود نزول به عن كونها معقولة (وسواء كان الموجود العيني مؤقتة أو غير مؤقت) تعميم للاستناد إلى قسمي الموجود العيني (نسبة المؤقت وفير المؤقت إلى هذا الأمر الكلي نسبة واحدة) بیان لاستواء نسبتي القسمين إلى الكلي.
(غير أن هذا الأمر الكلي يرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسب ما نطلب حقائق تلك الموجودات العينية) هذا استثناء منقطع بيان لاستناد الأمر الكلي إلى الموجودات حتى نعلم أن الارتباط كل من الطرفين.
(كنسبة العلم إلى العالم والحياة إلى الحې) تمثيل للارتباط السابق بيانه وإبراز في المحسوس المشاهد لا تأكيد .
(فالحياة حقيقة معقولة والعلم حقيقة معقولة متميزة عن الحياة ، كما أن الحياة متميزة عنه ثم نقول في الحق تعالی أن له علما وحياة فهو الحي العالم فنقول في الملك أن له حياة وعلمة فهو الحي العالم فتقول في الإنسان أن له علما وحياة فهو الحي العالم وحقيقة الحياة واحدة وحقيقة العلم واحدة ونسبتهما إلى العالم والحي نسبة واحدة ونقول في علم الحق تعالى أنه قديم وفي علم الإنسان أنه محدث)
ولما بين الارتباط بين المعلومات والموجودات من الطرفين أمر بالنظر فيه لعظمة شأن هذا الأمر وكونه من الأمور العجيبة فإن الارتباط بين المعدوم والموجود أمر عجيب فقال : (فانظر إلى ما أحدثته الإضافة) من الحكم في هذه الحقيقة الواحدة فإن لكل منهما أثر في الآخر باعتبارنا الإضافة والنسبة بينهما فإن اعتبرنا انفرادهما لا يحصل لهما هذا الحكم.
.
يتبع[/color:39a


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة يوليو 19, 2019 9:30 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 9:15 am

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الجزء الثاني
ولما كان الارتباط أعظم مسألة من مسائل العلوم الإلهية لكونه دليلا على الارتباط بين الحق وعبادة تعالى.
أجمل ذكره أولا ثم فصل وكرر أمر الوصية بالنظر (فقال فانظر إلى هذا الارتباط) الحاصل (بين المعقولات والموجودات العينية)
أي فانظر بعين البصيرة واعتبر فإنه واجب النظر والعبرة كيف يحصل الحكم من أحد المتضادين إلى الآخر وكيف يحكم أحدهما على الآخر.
(فكما حكم المعلم على من قام به أن يقال إنه علم حكم الموصوف به على العلم بأنه حادث في حق الحادث وقديم في حق القديم فصار كل واحد مح?وم به ومحكوما عليه) بيان لما نظر إليه ونتيجة للكلام السابق.
ولما لم يقبل الأمور الكلية كل الحكم من الموجود العيني أراد أن يبينه وأعاد ما علم ليتفرع عليه قوله .
فتقبل الحكم فقال : (ومعلوم أن هذه الكلية وإن كانت معقولة فإنها معدومة العين) أي لا عين لها في الخارج يسمى بالحياة أو العلم.
(موجودة الحكم) على الموجود العيني (كما هي محكوم عليه إذا نسبت إلى الموجود العيني) وكون المعدوم مؤثرة في الموجود و متأثرة فيه وكذلك الموجود مؤثرة فيه ومتأثرة منه من عجائب قدرة الله تعالى.
أن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار (فتقبل) هذه الأمور الكلية (الحكم) من الأعيان الموجودة (في) انتسابها إلى (الأعيان الموجودة ولا تقبل التفصيل) أي التعدد.
(ولا التجزي) أي الانقسام والحال أنها من أحكام الموجود العيني (فإن ذلك) التفصيل والتجزيء (محال عليها فإنها بذاتها) موجودة (في كل موصوف بها) فلا يمكن التعدد في نفسها باعتبار تعدد موصوفاتها.
ولما كان في هذا الكلام نوع خفاء أراد أن يبينه على الوجه الأوضح وأبرزه بقوله (كالإنسانية) وهي حقيقة معقولة وكلي طبيعي للإنسان موجود في كل شخص شخص من هذا النوع الخاص، مع أنها (لم ينفصل ولم يتمدد بتعدد الأشخاص ولا برحت معقولة) ولا زالت معقولة مع كونها موجودة في موصوفاتها.
ولما بين أصلا كليا وهو الارتباط بين الموجودات والمعدومات لتوقف ما هو المقصود عليه وهو الارتباط بين الحق والخلق.
أراد أن يبين ما هو المقصود بقوله : (وإذا كان الارتباط بين من له وجود عيني وبين من ليس له وجود عيني قد ثبت و) الحال (هي نسبة عدمية) لا وجود لها في الخارج بدون موصوفاتها.
(فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب أن يعقل لأنه على كل حال بينهما جامع وهو الوجود العيني وهناك) أي بين الموجودات جامع حذف الخبر وهو جامع لدلالة قرينة الحال عليه فمأثمه أي ليس بين الأمور الكلية ويبن الموجودات العينية (جامع وقد وجد الارتباط بعدم الجامع بالجامع) أي بوجود الجامع (أقوى وأحق) .
فظهر أن وجود الارتباط بين الواجب والممكن أقوى وأحق لوجود الجامع وهو الوجود العيني .
وشرع في بيان ذلك بقوله: (ولا نشك أن المحدث) الموجود الخارجي (قد ثبت حدوثه) أي وافتقاره في وجوده (إلى محدث) أي موجد (أحدثه) أي أوجده (لإمكانه لنفسه فوجوده) كان بالضرورة (من غيره) وهو واجب الوجود لذاته .
(فهو) أي المحدث (مرتبط به) أي بالله تعالى (ارتباط افتقار فلا بد أن يكون) ذلك المستند إليه لذاته غنيا في وجوده بنفسه غير مفتقر إلى غيره.
كما ثبت في موضعه بالأدلة القطعية (وهو) أي واجب الوجود (الذي اعطى الوجود) قوله : (لذاته) متعلق بأعطى أي أعطى الوجود لذاته لا غيره (لهذا الحادث فانتسب) هذا الحادث إلى الواجب الوجود لذاته انتسابا ذاتيا أي احتاج إليه في وجوده احتياجا ذاتيا، فكان ذلك الواجب مقتضيا لهذا الحادث اقتضاء ذاتيا (ولما اقتضاه) أي اقتضى الواجب الوجود هذا الحادث.
قوله : (لذاته) متعلق باقتضی (كان) الحادث (واجبة به) أي بالواجب الوجود والاقتضاء ههنا بمعنى الإعطاء لا بمعنى الإيجاب.
كما قال الذي أعطى الوجود أو بمعنى الإيجاب بحسب تعلق الإرادة (ولما كان استناده) .
أي الحادث قوله : (إلا من ظهر عنه) متعلق بالاستناد قوله : (لذاته) متعلق بیان (اقتضى) الحادث اقتضاء ذاتية أن يكون أي أن يتكون ويوجد (على صورته) أي على صفة موجودة (فيما ينسب) الحادث (إليه) إلى موجوده (من كل شيء من اسم وصفه ما عدا الوجوب الذاتي فإن ذلك لا يصح للحادث) .
وإلا لكان واجبة لا حادثة، وإن كان واجب الوجود (ولكن وجوبه بغيره لا بنفسه) وإلا لم يكن ممكنا بل واجبا بالوجوب الذاتي (ثم ليعلم أنه لما كان الأمر على ما قلناه من ظهوره) أي الحادث (بصورته) أي بصفة الحق (احالنا تعالى في العلم به) أي بالحق (على النظر) أي على طريق الاستدلال (في الحادث) من الآفاق والأنفس لامتناع العلم به إلا بالنظر إليه.
(وذكر أنه أرانا آياته) وهي آثار أسمائه وصفاته (فيه) أي في الحادث فكان الاستدلال واجبا علينا بالأمر الإلهي فأطعنا أمره لتحصیل معرفه (فاستدلنا) استدلالا من الأثر إلى المؤثر (بنا) بسبب نظرنا فينا (عليه) أي على الحق فحينئذ لا بد لنا أن نحكم عليه بوصف على ما يقتضيه طريق الاستدلال قوله عليه يتعلق بالاستدلال.
(فما وصفناه) أي فما حكمنا عليه (بوصف) من الأوصاف (إلا كنا نحن) وجدنا فينا ووصفنا أنفسنا.
(ذلك الوصف إلا الوجوب الذاتي الخاص) بالحق فإنه لا يوجد فينا ولا نومف أنفسنا به فإذا استدللنا عليه على هذا الطريق علمناه بنا وما (فلما عملناه) بنا بسبب علمنا أنفسنا (نسبنا إليه) أي وصفناه لكل (ما نسبناه إلينا) من الأوصاف كالعلم والحياة والقدرة وغيرها لا النقائص إلا ما ينسبه الحق إلى نفسه .
(وبذلك) أي و بوصفنا الحق بكل ما نسبناه إلينا (وردت الإخبارات الإلهية) من الآيات والأحاديث النبوية (على ألسنة التراجم) وهي سنة الأنبياء عليهم السلام فوصف الحق نفسه أي ذاته بكل ما نسبناه إلينا في الإخبارات الإلهية (لنا) لأجل استدلالنا عليه .
فيكون قوله: (بنا) متعلقة بالاستدلال لقوله: (فاستدللنا) بنا عليه أو لأجل هدايتنا إلى طريق العلم والشهود.
فيكون قوله : بنا متعلقة بوصف فإنا خلقنا على صفة الله تعالى فكنا عبارة عنها في التحقيق .
فكان وصفه نفسه بصفة عين وصفه نفسه بنا أو معناه وصف بنفسه بنا أو بصفاتنا فإذا وصلنا بهذا الاستدلال إلى الحق شهدناه (فإذا شهدناه شهدنا فيه نفوسنا) لوجودنا فيه لكونه متصفا بنا وهو رؤية الحد في المحدود .
أو شهدنا نفوسنا في التحقيق لأشهدناه لأنه من حيث اتصافه بنا عین ذواتنا لا غيرنا.
وهو رؤية الحد متحدا بالمحدود .
يعني الشاهد والمشهود واحد في هذه المشاهدة وهو الاستدلال من الأثر إلى المؤثر ومشاهدة الأثر نفسه في المؤثر او لتستره عنا بنا فلا يقع نظرنا إلا علينا .
لا عليه (وإذا شهدنا الحق) بمشاهدتنا إياه (شهد فينا نفسه) .
لذلك قال : إني أشد شوقا إليه لأن هذه المشاهدة له لا نحصل بدون مشاهدتنا إياه لأنه فينا مظهره .
وهو رؤية المحدود في الحد أو شهد نفسه كما مر أو رؤية المحدود متحدة بالحد يعني لا اثنينية من هذا الوجه أيضا .
فانظر إلى المرآة كيف نجد فإنك إذا نظرت إليها وشهدت فيها صورتك فقد شهدت عينك فهو قوله.
وإذا شهدنا شهد نفسه وإذا شهدت صورتك ونظرت إليك فقد شهدت نفسك فهي عينك، وأنت عينها، فهو قوله : وإذا شهدناه شهدنا نفوسنا.
ولما بين "الاتحاد" السر الساري بين العبد والرب من هذين الوجهين شرع في بيان الافتراق فقال : (ولا شك أنا كثيرون بالشخص) باعتبار انضمام تشخصاتنا إلى حقيقتنا النوعية (و) كثيرون (بالنوع) باعتبار انضمام فصولنا المميزة إلى حقيقتنا الجنسية.
(وإنا وإن كنا على حقيقة) واحدة نوعية (هي تجمعنا فنعلم قطعا أن ثم) أي في حقيقة واحدة (فارقا به) أي بذلك الفارق (تميزت الأشخاص بعضها من بعض ولولا ذلك) الفارق (ما كانت) ما وجدت (الكثرة في الواحد) .
فإذا حصل الفراق بين الممكنات بعد اتحادها في حقيقة واحدة (فكذلك أيضا) حصل الفارق بيننا وبين الحق (وان وصفنا) الحق (بما وصف به نفسه من جميع الوجوه فلا بد من فارق وليس) .
ذلك (الفارق إلا افتقارنا إليه في الوجود وتوقف وجودنا عليه لإمكاننا وفناه عن مثل ما افتقرنا إليه) وهو افتقارنا في الوجود (فبهذا) الغناء (صح له الأزل والقدم الذي انتفت عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم فلا ينسب إليه هذه الأولية مع ?ونه الأول) .
بمعني مبدأ كل شيء كما ينسب إليه الآخرية بمعني منتهي كل شيء ومرجعه (ولهذا) أي ولأجل انتفاء الأولية عنه بمعني افتتاح الوجود عن العدم (قیل فيه الآخر) فلما قيل فيه الآخر لم يكن له الأولية بهذا المعنى (فلو كانت أوليته أولية وجود التقييد) أي افتتاح الوجود من العدم.
(لم يصح أن يكون آخرا للمقيد) أي للممكن بمعني رجوع الكل إليه لأنه حينئذ يكون من الممكنات والممكن لا يرجع إليه شيء فكانت آخريته حينئذ بمعني الانتهاء والانقطاع وهذا لا يصح أيضا (لأنه لا آخر للممكن لأن الممكنات غير متناهية) أي غیر منعدم بانتفاء لعينه بحيث تفوته تعالى .
قال الشيخ رضي الله عنه في آخر نص يونسية وإليه برجع الأمر كله ، فإذا أخذه إليه سوى له مركبة غير هذا المركب من جنس الدار التي ينتقل إليها .فالكل في قبضته فلا فقدان في حقه.
تم كلامه فكانت الممكنات غير متناهية بهذا المعنى وهو المراد منا فلا ينافيه الانتهاء بحسب الدار الدنيا فإذا كانت غير متناهية (فلا آخر لها) فلا يتصف بالآخرية للمنافاة بينها وبين الآخرية فكان الحق آخرا ومنتهى لها.
(وإنما كان) الحق (آخرا لرجوع كل الأمر إليه بعد نسبة ذلك) الأمر إلينا، فإذا كان الرجوع بعد النسبة إلينا فكنا نحن نتصف بالرجوع إليه تعالی في ?ل آن بحسب كل يوم هو في شأن وإذا كان الأمر كذلك.
(فهو الآخر في عين أوليته والأول في عين آخريته) بحيث لا يسبق ولا ولا يتقدم أحدهما على الآخر في الرتبة فهو الآخر حيث أزل إذ رجوعية الكل إليه ثابتة فيه وهو الأول حيث أخر.
إذ مبتدئا الكل ثابتة فيه فكان أوليته عين آخريته وآخريته عين أوليته ولا كذلك الممكن.
(ثم لنعلم أن الحق وصف نفسه) في الآية الكريمة (بأنه ظاهر و باطن فأوجد العالم) أي الإنسان لأن المراد بيان الارتباط وكيفية الدليل منا عليه.
(عالم غيب) وهو بواطتنا وأرواحنا (و) عالم (شهادة) وهي ظواهرنا وقوانا الظاهرة فكنا مجمع العالمين فليس المراد من إيجادنا على هذا الوجه إلا (لندرك) الاسم (الباطن بغیبنا) بسبب إدراكنا غيبنا.
(والظاهر بشهادتنا) فنعلم قطعة على طريق الاستدلال من الأثر إلى المؤثر بأن الحق تعالی هو الظاهر والباطن.
(ووصف نفسه بالرضا) بقوله تعالی رضي الله عنهم :" ورضوا عنه " (والغضب) سبقت رحمتي على غضبي .
فأوجدنا ذا رضا وغضب لندرك الرضا برضائنا والغضب بغضبنا وإنما لم يذكر هذا الوجه لظهوره مما سبق (وأوجد العالم) أي أوجدنا (ذا خوف ورجاء فنخاف غضبه ونرجو رضاه) لأن الخوف لازم الغضب والرجاء لازم الرضا فينا فنتصف بهما فنستدل على غضبه ورضائه مع كونه منزها عن الخوف والرجاء .
(ووصف نفسه بأنه جميل وذو جلال فاوجدنا على هيبة) تحصل من جلال الله تعالى في قلوبنا (وأنس) حاصل لنا من جماله فنتصف بهما فنستدل على جمال الله تعالى وجلاله مع أنهما لا ينسبان إليه تعالى ولا يسمى بهما لكنه يسمى بمبدئهما.
أي مبدأ الخوف وهو العضب ومبدأ الرجاء وهو الرضاء وكفى بذلك دليلا على حصول الارتباط.
(وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به) سواء كان انتسابا حقيقيا أو في الجملة .
(نعبر عن هاتين الصفتين) الجمال والجلال (باليدين اللتين توجهتا منه) من الحق (علی خلق الإنسان الكامل) لا على خلق غير الإنسان الكامل فإن المتوجه من الله تعالى على خلق غير الإنسان الكامل بد واحدة وإنما خلق الله تعالى الإنسان بيديه اللتين تجمعان جميع الصفات اللطيفة والقهرية.
(لكونه) أي الإنسان الكامل (الجامع)، بحسب الحقيقة الكلية التي هي عينه الثابتة (لحقائق العالم) أي لحقائقه الكليات التي هي أعيانه الثابتة.
(ومفرداته) لكونه جامعة لجميع ما يصدق عليه العالم من الجزئيات فإذا وجد الإنسان في الخارج بخلق الله تعالی بيديه ظهر جميع ما
في العالم في هذه النسخة الشريفة فاقتضى شأن الإنسان توجه اليدين مع الحق تعالی بخلقه فخلقه الله تعالی بيديه فإنه أعطى كل ذي حق حقه.
(فالعالم) بجميع حقائقه ومفرداته (شهادة) أي ظاهر الخليفة وصورته (والخليفة) أي الإنسان الكامل (غيب)
أي باطن العالم وروحه المدبر له وهي أي الخليفة وإن كان موجودة في الخارج لكنه بحسب الحقيقة يكون غيبة وروحا مدبرة للعالم الكبير الروحاني والجسماني فالعقل الأول أول ما يربه الخليفة من عالم الأرواح فالخليفة سلطان العالم كله .
(ولهذا) أي ولأجل كون الخليفة غيبة (بحجب السلطان) عن الخلائق لوجود نوع من معنى الخلافة فيه، لما فرغ عن بيان الارتباط الذي يحصل العالم لنا به شرع في بيان الارتباط الذي احتجب الحق عنا به.
فقال : (ووصف) أي وستر (الحق نفسه) وإنما فسرنا الوصف بالستر لأنه لا يقال في كل لسان من الأنبياء والأولياء الله جسم طبيعي أو جسم نوري.
بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : "إن الله سبعين ألف حجاب" ولم يقل ألف صفات فلا حظ للوجوب الذاتي في هذه الأشياء على الوصفية كما لا حظ لنا في الوجوب الذاتي .
فظهر أن مراد الشيخ بالوصف الستر أو غير ذلك من المعنى المناسب الحضرة الحق واللائق به لا ما اصطلح عليه القوم .
وإنما اختار لفظ الوصف ليجانس ما قبله وينظم كلامه في مسألة الارتباط في سلك واحد وهو نوع من البلاغة أو المعنى وصف نفسه (بالحجب الظلمانية) أي وصف نفسه بالأسماء التي هي مظاهر لها أو المعنى وصف نفسه بصفات الحجب الظلمانية.
كما قال : "جعت ومرضت" وغير ذلك مما ورد به الإخبارات الإلهية (وهي الأجسام الطبيعية و ) وصف نفسه بالحجب (النورية وهي الأرواح اللطيفة فالعالم) دائر (بين ?ثیف) طبيعي (ولطيف) روحاني ولما وصف نفسه بالحجب الظلمانية والنورية وكنا بين كثيف ولطيف احتجب ذاته تعالى عنا بنا .
فحجابنا علينا في الحلق عين وجودنا وهو معنى قوله : (وهو) أي العالم (عین الحجاب على نفسه) أي على العلم فإذا كان وجود العالم عين الحجاب على نفسه .
(فلا يدرك) العالم (الحق إدراكه) أي العالم نفسه، فإنه لما اتصف بالعالمية فلا يقع نظره على ذوق وشهود إلا إلى العالم لا إليه تعالى.
(فلا يزال) العالم (في حجاب لا يرفع) وإلا لانعدم العالم .
كما قال : "إن الله تعالی سبعین ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
(مع علمه بأنه متميز عن موجده بافتقاره) يعني أن هذا الحجاب لا يمنع علمه بأن الله واجب بالذات وغني عن العالم والعالم بذاته مفتقر إليه تعالى.
قوله : (ولكن لا حظ له) أي لا علم للعالم علم ذوق (في الوجوب الذاتي الذي لوجود الحق) استدراك عن قوله مع علمه فإذا لم يكن له حظ في الوجوب الذاتي (فلا يدركه أبدا) .
أي فلا يدرك العالم الحق تعالی أبدأ . علم ذوق من هذا الوجه. فإن ذوق الشيء شيئا في غيره فرع ذوقه ذلك الشيء في نفسه . فإذا لا يدركه من هذه الحيثية.
(فلا يزال الحق من هذه الحيثية غير معلوم علم ذوق وشهود لأنه لا قدم) بفتح القاف أي في الاتصاف (للحادث في ذلك) الوجوب الذاتي حتى يعلم الحادث الحق علم ذوق وشهود من هذه الحيثية ولو كان ذلك الحادث من أهل الله تعالى .
فقد لزم من هذا الكلام مسالة مهمة لم تجيء بيانها في الكتاب وهي أنه كما لا حظ له في الوجوب الذاتي .
كذلك لا حظ له في الصفات القديمة إذ لا يتصور قدم الصفات مع حدوث الموصوف فلا يدرك العالم الحق أبدأ فلا يزال الحق من حيث القدم غير معلوم علم ذوق وشهود .
لأنه لا قدم للحادث في القدم فعلم الحادث للقديم من حیث القدم ليس من المعلوم الذوقية بل بمجرد الاطلاع.
فإذا لم يكن للحادث قدما في الوجوب الذاتي لم يكن جامعة لجميع الصفات الإلهية. وقد كان الله جمع لآدم بين يديه.
(فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشریفا) على سائر المخلوقات لا لشرفه في حد ذاته فلو لم يشرفه الله تعالى فهو كسائر الموجودات. 
كما أن مكة المشرفة بتشريف الله تعالى . وإلا فهو واد كسائر الأودية فلا يكون جمعية الإنسان الكامل علة تامة الجمعية اليدين بل لابد في التشريف من تشریف الحق.

(ولهذا) أي ولكون الجمع للتشريف (قال الله تعالى : "قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" 75 سورة ص .
فإنه مستحق أن تسجد له لشرفه عليك لكونك مخلوقة بيد واحدة . 
وهذا التشريف أي تشريف جمع اليدين مختص لآدم (وما هو) وليس جمع اليدين لآدم (إلا عين جمعه) أي إلا عين جمع الله لآدم .

(بين الصورتين صورة العالم) وهي مجموع الحقائق الكونية (وصورة الحق) وهو مجموع الحقائق الإلهية من الأسماء والصفات .
فآدم عبارة عن الصورتين واليدين (وهما) أي الصورتين (يد الحق) باعتبار اتحاد" سريان السر الإلهي" الظاهر والمظهر إذ بهما يتصرف الحق فعبر عنهما باليدين كما عبر عن الجلال والجمال .
فما أمر الملائكة إلا لأن يسجدوا لله تعالی . فكانت سجدتهم لله وقبلتهم آدم . وأبي إبليس عن أمر به لعدم علمه "جهله " بذلك.
(و ابلیس جزء من العالم) فكان جزءا من جزء آدم (لم تحصل له هذه الجمعية التي لآدم ولهذا) أي ولأجل حصول هذه الجمعية لآدم (كان آدم خليفة) .
فإذا كان خليفة فلا بد أن یكون ظاهرة بصورة من استخلفه فيما استخلفه فيه (فإن لم يكن) آدم (ظاهرة بصورة من استخلفه فيه) أي في العالم (فما هو خليفة) لامتناع التدبير والتصرف حينئذ.
وكذلك لا بد أن يكون نائبا فيه جميع ما تطلبه الرعايا (وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا التي استخلف عليها ) فليس بخليفة . 
حذف الجواب للعلم به وإنما وجب أن يكون فيه جميع ما تطلبه الرعایا.

(لأن استنادها) أي استناد الرعايا (إليه) أي إلى آدم لا إلى غيره .
فإذا كانت مستندة إليه (فلا بد أن يقوم) عليهم (بجميع ما يحتاج إليه وإلا) أي وإن لم يقم بجميع ما يحتاج إليه (فليس بخليفة عليهم) .
فإذا كان الأمر كذلك (فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل) لا لغيره من المخلوقات.ولما فرغ عن ذكر الخلافة شرع في تصريح بما علم
التزام بقوله: (فأنشأ صورته) أي صورة الإنسان الكامل (الظاهرة) الموجودة في عالم الشهادة وهي صورة الجسدية (من حقائق العالم وصوره) أي ومن صورة العالم.

(وانشأ صورته الباطنة) وهي صورته الروحية الموجودة في عالم الغيب وهو المراد من قوله خلق الله آدم (على صورته) أي على صفات الله وأسمائه .
(ولذلك) أي ولأجل إنشائه على صورته (قال فيه) أي في حق آدم (كنت سمعه وبصره) .
وهما من صفات الله تعالى (وما قال كنت عينه وأذنه) وهو من جوارح الصورة البدنية.
(ففرق بين الصورتين) صورة الباطن والظاهر فظهر أن هوية الحق بصفته ساري في الخليفة (هكذا) أي كما أن الحق ساري في الإنسان الكامل .
كذلك (هو) أي الحق ساري (في كل موجود من العالم بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود لكن ليس لأحد مجموع ما للخليفة فما فاز) أي فما ظفر إلا الإنسان الكامل بالخلافة .
يدل عليه قوله : بعد وهی المجموع الذي به استحق الخلافة (إلا بالمجموع) أي بسببه لا بدونه . فكان الحق ساريا في كل موجود من الخليفة وغيره .
(ولولا سريان الحق تعالى) أي وجود الحق (في الموجودات بالصورة) أي بالصفة .
وهو بمعنى الإحاطة لا بمعنى الحلول والاتحاد وهو باطل عند أهل الحق بالاتفاق وقد ذكر بطلانه في كثير من الكتب الصوفية.
(ما كان للعالم وجود) لأنه بنفسه معدوم فافتقر العالم إلى الحق في وجوده.
(كما أنه) أي كما أن الشأن (لولا تلك الحقائق المعقولة الكلية) من الحياة والعلم والقدرة وغير ذلك (ما ظهر حكم) وأثر كما ذكر من قبل (في الموجودات العينية) فلزم منه أنه لولا تلك الموجودات العينية ما ظهر حكم.
(ومن هذه الحقيقة) أي و من سريان الحق بالصورة في الموجودات (كان) أي حصل (الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده) ومن الحق إلى العالم في ظهور أحكامه فإذا كان الأمر كذلك.
شعر:
فالكل مفتقر ما الكل مستغن ... هذا هو الحق قد قلناه لا نكني
فإن ذكرت غنيا لا افتقار به ... فقد علمت الذي بقولنا نعني
فالكل بالكل مربوط فليس له ... عنه انفصال خذوا ما قلته عني
(فالكل) أي كل واحد من الحق والعالم المفتقر إلى الآخر من جهتين مختلفتين (ما الكل مستغني).
أي ليس كل منهما مستغن (هذا) أي افتقار الكل وعدم استغنائه (هو الحق) وغيره ليس بحق.
ولذلك (قد قلناه لا تكني) أي لا نترك أو لا نستر بل فلناه صريحا لا قلناه كناية أي سترا.
(فإذا ذكرت غنيا لا افتقار به) أي : إن سئلت أن الله غني عن العالمين فكيف قلتم إن الله مفتقر إلى العالم صدقت .
لكن الغني من حيث الذات بدون اعتبار الصفات لا من حيث الصفات فهو معنى قوله : (فقد علمت الذي بقولنا نعني).
أي علمت مرادنا بقولنا فالكل مفتقر ما الكل مستغن من حيث الأسماء والصفات لا من حيث الذات .
فلا ينافيه الغناء الذاتي فثبت أن الاستغناء من حيث الذات والافتقار من حيث الصفات هذا هو المعنى الذي أخذه القوم في هذا المقام من كلام الشيخ .
لذلك قال بعض الشارحين الباء في به بمعنى اللام أي لا افتقار له أو بمعنى في أي لا افتقار في كونه غنيا أما أنا فأقول معناه أن يقول لما قال .
(فالكل مفتقر ما الكل مستغن) فكأنه قال المعارض لا بل الكل مستغن لا افتقار به فأشار إلى المعارضة بقوله فإن ذكرت غنية لا افتقار به .
والافتقار بمعنى الارتباط لذلك تعدى بالباء دون إلى كما قال .
(فالكل بالكل مربوط) أي فإن وصفت الحق بالغناء عن العالمین لا افتقار به أي لا يرتبط العالم به من حيث غناء الحق عنه .
كما لا يرتبط الحق به فإنه إذا استغنى الحق به عن العالم فقد استغني العالم عن الحق من جهة استغناء الحق عنه فإن المعلول مستغن عن غير عليه.
والعلة لوجود العالم مجموع الذات والصفة لا الذات وحدها فثبت على هذا التقدير أن الكل مستغن .
أي كل واحد من الحق والعالم مستغن عن الآخر لا يرتبط أحدهما بالآخر ولأجل الإشارة إلى هذا المعنى أورد الباء دون اللام ومن غير الباء عن معناه إلى غيره من الحروف. فهو من عدم ذوقه هذا المعنى من كلام الشيخ .
فانظر بنظر الإنصاف إلى ما ذكره القوم وإن كان صحيحا في نفسه لكنه ليس من مدلولات هذا الكلام .
وأشار إلى جواب المعارضة بقوله "فقد علمت الذي بقولنا" نعني فإذا كان الأمر كذلك (الكل) أي مجموع العالم (بالكل) أي بالحق من حيث
الأسماء والصفات وبالعكس مربوط فليس له أي ليس لمجموع العالم.
(عنه) عن الحق من حيث الأسماء وبالعكس (انفصال خذوا ما قلته عني، فقد علمت حكمة) أي أصل (نشأة جسد آدم) وهو أي أصل نشأة جسده
قوله من قبل فأنشأ صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره.
قوله: (أعني صورته الظاهرة) تفسير لنشأة الجسد لا لحكمة النشاة .
فكذلك قوله : (وقد علمت نشأة روح آدم) وهي قوله : وأنشأ صورته الباطنة على صورته.
قوله : (أعني صورته الباطنة) تفير لنشأة الروح وإنما فسر ليعلم أن المراد بأدم الروح الكلي المحمدي لا آدم الذي خلق من طين (فهو الحق في الخلق) .
(وقد علمت نشأة رتبته وهي المجموع الذي به استحق الخلافة فآدم) أي أدم كبير وهو الخليفة وهو العقل الأول.
(هو النفس الواحدة التي خلق منها هذا النوع الإنساني)، وهو آدم أبو البشر وبنوه.
(وهو) أي قولنا معنى (قوله تعالى :" يا أيها الناس") أي النوع الإنساني"اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" وهي الخليفة المسمى بالإنسان الكامل والعقل الأول .
( وخلق منها زوجها ) النفس الكلية (" وبث منهما رجالا كثيرا ") عقولا ("ونساء") نفوسا .
(فقوله " واتقوا ربكم" ) معناه (اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم) أي انسبوا ما فعلتم من النقائص والشرور إلي أنفسكم و نزهوا ربكم عنها.
(واجعلوا ما بطن منكم وهو ربكم وقاية لكم) أي انسبوا الكمالات إلى ربكم لا إلى أنفسكم .
(فإن الأمر ذم وحمد فكونوا وقايته في الذم واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين) .فقد ظهر أن المراد بتفسير الآية الأدب السالكين.
(ثم) أي بعدما أوجده على ما ذكر (أنه تعالى أطلعه) أي أطلع الله هذا الوالد الأكبر لأن الخليفة يجب أن يطلع على ما اختزنه الحق تعالى فيه ما تطلبه الرعايا التي استخلف عليها فيعطي كل ذي حق حقه بأمر الله تعالى .
(على ما أودع فيه) أي في شأنه من الصفات الإلهية والحقائق الكونية وصورها (وجعل ذلك) المودع (في قبضتيه القبضة الواحدة فيها العالم و) في (القبضة الأخرى آدم وبنوه وبين مراتبهم فيه) يتصرف ما في قبضته خلافة عن الله تعالى.
(ولما أطلعني الله في سري على ما أودع في هذا الإمام الوالد الأكبر جعلت في هذا الكتاب منه) مما اطلعت عليه (ما حد لي لا) كل (ما وقفت عليه فإن ذلك لا يسعه كتاب ولا العالم الموجود الآن) . 
فهذا الكلام يدل على أن من رآه في مبشرة وأعطى له نصوص الحكم هو الروح الأعظم المحمدي الذي ظهر وتمثل له في الصورة المحمدية .
ويدل أيضا على محاذاته رتبة الوالد الأكبر في الاطلاع على ما في القبضتين فانظر بنظر الإنصاف إلى هذا الكامل في رتبة العلم كيف ينكر كلامه.
(فمما شهدته مما نودعه في هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمته إلهية في كلمة آدمية وهو هذا الباب)
الفاء في فمما لجواب الشرط المحذوف أي لما كان الأمر ما قلناه.
ومن زيادة في المرفوع وجاز زيادتها في الموجب على رأي الكوفيين والأخفش وإنما اختار الزائد ليشاكل قوله مما نودعه.
وما مبتدأ بمعنى الذي ومن في مما نودعه بيان له. وحكمة إلهية خبر فمعناه فالذي شهدته في هذا الإمام ونودعه في هذا الكتاب حكمة إلهية .
و هذا أولى مما قاله بعض الشراح وهو قوله: حكمة مبتدأ خبره مما شهدته قدم علیه تخصيصا للنكرة وليت لي وجه لهذا الوجيه.
فإن قوله حكم نكرة مخصصة بالصفة وهي قوله : إلهية في كلمة آدمية فيقع بها مبتدأ من غير احتياج إلى التقديم قوله تعالى: "وأجل مسمى عنده " 2 سورة الأنعام.
قال القاضي البيضاوي وأجل نكرة خصصت بالصفة .
ولذلك استغنى عن تقديم الخبر فلا يصح تعليل التقديم بتخصيص النكرة وإلا يلزم تحصيل الحاصل فلا بد للتقديم وجه آخر.
فإذا إذا قلنا رجل مؤمن في الدار وسئلنا لم جعل رجل مبتدأ وحقه أن يكون معرفة قلنا قد تخصص بالصفة .
وإذا قلنا في الدار رجل مؤمن وقيل لم قدم الخبر قلنا: للحصر.
وأما إذا قلنا في الدار رجل وسئلنا قلنا: تخصيصا للنكرة فعلى تقدير جعله مبتدأ لا وجه للتقديم أصلا لا حصرا ولا تخصيصا.
وأيضا يمكن السائل أن يقول إن الفاء وإن كانت لازمة للجملة إلا أنه لا وجه لدخولها في الخبر ههنا فإن قد شرط النحاة لجواز دخول الفاء في خبر المبتدأ.

.
يتبع


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة يوليو 19, 2019 9:30 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 9:21 am

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثالث :

وقالوا إذا تضمن المبتدأ معنى الشرط جاز دخول الفاء في خبره ذلك .
إما أن يكون اسما موصولا صلته فعل أو ظرف أو نكرة موصوفة بأحدهما تم كلامهم وأنت تعلم هل شيء من هذه الشروط ههنا .
فنجيب عن الثاني بأن الشروط المذكورة لفاء خبر المبتدأ وأما الفاء الذي نحن فيه وإن دخل على الخبر لكنه ليس الخبر المبتدأ بل لربط الجملة إلى ما قبلها .
وهو يقتضي صدر الكلام فايهما يقع في الصدر دخلت عليه خبرة كان أو مبتدأ فلا اختصاص له بالخبر أو المبتدأ .
فدخولها هاهنا على الخبر لتقدمه على المبتدأ ولو قدم المبتدأ لدخل عليه والفاء الذي اقتضى الشروط مختص بالخبر لا يجوز دخوله على المبتدأ قدم أو أخر .
وظني أن جعله خبرا مع كونه معرفة متقدمة.وحكمة مبتدأ مع كونها نكرة ولو مخصصة لعدم علمه بزيادة من:
ثم حكمة نفثية في كلمة شيئية.
ثم حكمة سبوحية في كلمة نوحية.
ثم حكمة قدوسية في كلمة إدريسية.
ثم حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية.
ثم حكمة حقية في كلمة إسحاقية.
ثم حكمة علية في كلمة إسماعيلية.
ثم حكمة روحية في كلمة يعقوبية.
ثم حكمة نورية في كلمة يوسفية.
ثم حكمة أحدية في كلمة هودية.
ثم حكمة فاتحية في كلمة صالحية.
ثم حكمة قلبية في كلمة شعيبية.
ثم حكمة ملكية في كلمة لوطية.
ثم حكمة قدرية في كلمة عزيرية.
ثم حكمة نبوية في كلمة عيسوية.
ثم حكمة رحمانية في كلمة سليمانية.
ثم حكمة وجودية في كلمة داودية.
ثم حكمة نفسية في كلمة يونسية.
ثم حكمة غيبية في كلمة أيوبية.
ثم حكمة جلالية في كلمة يحياوية.
ثم حكمة مالكية في كلمة زكرياوية.
ثم حكمة إيناسية في كلمة إلياسية.
ثم حكمة إحسانية في كلمة لقمانية.
ثم حكمة إمامية في كلمة هارونية.
ثم حكمة علوية في كلمة موسوية.
ثم حكمة صمدية في كلمة خالدية.
ثم حكمة فردية في كلمة محمدية.
(و فص كل حكمة الكلمة التي تنسب إليها.)
(فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحكم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب.)
(فامتثلت ما رسم لي، ووقفت عند ما حد لي، ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت، فإن الحضرة تمنع من ذلك.)

(و الله الموفق لا رب غيره.)

"رأي محقق الكتاب الشيخ فادي أسعد نصيف :
أن المراد بأدم هو الصورة الإلهية الجامعية لكل حقائق الوجود وأن الحق سبحانه لما أحب أن يعرف نجلى لنفسه في نفسه في هذه الصورة التي كانت بمثابة المرآة ورأى جميع كمالاته فيها فجعلها الغاية من الوجود وخلق العالم الأكبر من أجلها.
وهنا نرى الشيخ الأكبر ابن العربي يرمز بشيث ابن آدم إلى تجلي آخر للحق وهو تجليه في صورة الخالق الذي يمنح الوجود لكل موجود أو باصطلاح المؤلف يظهر في وجود ?ل موجود."
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 9:35 am

02 -  فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الجزء الأول

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية

بسكون الفاء وهي علوم الوهبية الملقاة في قلب هذا النبي عليه السلام (في كلمة شيثية) وهو لغة العبري هبة الله تعالى (اعلم ان العطايا والمنح الظاهرة) الموجودة (في الكون) أي في العالم (على أيدي العياد) كالعلم الحاصل للأنبياء والأولياء على يدي خاتم الرسل وختم الأولياء.
(وعلى غير ايديهم) كالعلم الحاصل لخاتم الرسل و خاتم الأولياء فإنه من الذات كما سيذكر وكيف كان .
وهي (على قسمين) قسم (منها ما يكون عطايا ذاتية) أي يكون منشأها التجلي الذاتي من غير اعتبار الصفة وإن كان لا يخلو عن الصفات .
(وعطايا اسمائية) أي يكون منشأها التجلي الصفاتي (ويتميز) كل منهما عن الآخر (عند أهل الأذواق) عند وصول العطايا إليه.
فيه إشارة إلى أن الفرق بينهما لطیف و دقیق بحيث لا يتميز إلا عند أهل الأذواق .
ولما بين العطايا من جانب المعطي شرع إلى بيان باعثها من طرف المعطى له وهو السؤال إذ بهما يتحقق العطايا.
فقال (كما أن منها) أي كما أن بعض العطايا (ما) الذي (يكون) يحصل بإعطاء الله تعالى (عن سؤال) أي عن سؤال العبد لفظا ربه ذلك العطايا .
وكان ذلك السؤال (في) حق عطاء (معین) بفتح الياء وإن شئت قلت عن سؤال معين بحذف في يدل عليه قوله : (وعن سؤال غير معين) فتعيين السؤال وعدم تعيينه يوجب تعيين العطاء وعدم تعيينه.
(ومنها ما لا يكون عن سؤال) بل يكون بدون سؤال لفظي سواء (كانت الأعطية ذاتية أو اسمائية) وسواء كانت على أيدي العباد و معنى غير أيديهم يعني أن القسمة من جانب المعطي لا يمنع القسمة من طرف القابل.
(فالمعين) بفتح الباء أي فالسؤال المعين (كمن يقول : يا رب أعطني كذا) .
كقولك : أعطني ولدا صالحا أو رزقا طيبا ولم يذكر أجزاء ذاته .
و كدعاء الرسول عليه السلام: "اللهم اجعل لي في قلبي نورا وفي سمعي نورا" الحديث فيذكر أجزاء ذاته على التعيين فقوله : أعطني كذا كناية عنهما جميعا (فیعین) هذا السائل أمرا (ما) من الأعطية (لا يخطر له) أي للسائل (سواه) أي غير ذلك الأمر.
(وغير المعين) أي السؤال العالم الشامل لجميع أنواع الأعطية وأفرادها التي فيه مصلحة السائل (كمن بقول: يا رب أعطني ما تعلم) أي العطاء الذي حصل (فيه مصلحتي) أي حاجتي (من غیر تعین العطاء لكل جزء ذاتي) للسائل سواء لم يذكر أجزاء ذاته (من لطيف) روحاني (وكثيف) جسماني .
كما قال العالم بين لطيف وكثيف أي مركب منهما كالمثال المذكور أو يذكر لكن لا على وجه التعيين بل على وجه كلي شامل لجميع أجزاء ذاته من اللطافة والكثافة.
كمن يقول: أعطني لكل جزء ذاتي من لطيف وكثيف باضافة جزء إلى الذات المضافة إلى ياء المتكلم أو بزيادة من وعلى هذا التقدير فالباء متكلم مضاف إليه ولم يذكر المصنف هذا القسم صريحا .
بل ادرج في قوله : أعطني ما فيه مصلحتي وجعله شاملا لهذا القسم لكون كل منهما غير معين وأشار إليه ثانية بقوله من غير تعيين لكل جزء ذاتي من لطيف وكثيف وإلا فالمناسب أن يقول بعد قوله : أعطني ما فيه مصلحني فلا يعين أمرأ ما .
كما قال بعد قوله : أعطني كذا فيعين أمرا ما من غير تعيين متعلق بيقول فتم السؤال الغير المعين بقوله : أي أعطني ما فيه مصلحتي .
كما تم المعين بقوله : أعطني كذا فحينئذ لا يصلح تعلق قوله : لكل جزء ذاتي بأعطني بل يتعلق بقوله : من غير تعيين
فقوله : ذاتي بتشديد الياء صفة لكل جزء سواء كان بزيادة من كما وقع في بعض النسخ أو بدونه وأما في المثال الذي أوردناه.
فكما قلناه فقوله : من غير تعيين لكل جزء ذاتى من لطيف وكثيف ليس من تتمة السؤال بل بيان للغير المعين الذي هو المثال المذكور كما أن قوله فيعين أمر ما ولا يخطر له سواه بيان للمعين.
ولما فرغ عن بيان السؤال شرع في بيان مراتب السائلين فقال : (والسائلون) بلسان القال (صنفان صنف بعثه على السؤال) أي سبب طلبه العطایا قبل حلول أوانه (الاستعجال الطبيعي) أي الخلفي (فإن الإنسان خلق عجولا) وهو داخل تحت حكومة طبعه ومحجوب بأمر طبيعية وليس على علم بشيء على ما هو عليه.
(والصنف الآخر) مبتدأ (بعثه على السؤال) جواب (لما علم) وهو مع جوابه خبر المبتدأ (أن ثمة) أي في مقام العطاء (امورا) عطايا حاصلة (عند الله) تعالى (قد سبق العلم) أي علم الله تعالى (بانها لا تنال) أي لا ينال العبد إليها (إلا بعد سؤال) العبد من الله تعالى (فيقول) أي فيتفكر في قلبه.
(فلعل ما نسأله سبحانه يكون من هذا القبيل) فبعثه هذا العلم على سؤاله فأضمر فاعل بعثه وهو العلم لدلالة المقام عليه (فسؤاله) هذا (احتياط لما هو الأمر عليه من الإمكان) لئلا يفوت الأمر وهو العطاء لفوات شرطه وهو السؤال.
(وهو) أي هذا السائل وإن كان يعلم هذا لكن (لا يعلم ما في علم الله) تعالى ولكن لعل أن ما يسأله من قبيل ما عين له في علم الله.
(ولا ما يعطيه استعداده في القبول) أي لا يعلم قبول استعداده ولكن يساله لعله يقبل (لأنه) أي الشان (من أغمض المعلومات الوقوف في كل زمان فرد) أي معين (على استعداد الشخص في ذلك الزمان) فإن ذلك أي العلم بما في علم الله تعالى والوقوف على الاستعداد في كل زمان لا يكون إلا للكمل.
فقوله : لأنه تعليل لهما (و) هو وإن كان لا يعلم هذا لكنه يعلم في ذلك الزمان أنه (لولا ما أعطاه الاستعداد للسؤال ما سأل) ولكن لا يعلم ما أعطاه الحق في الزمان الذي يكون فيه ولا يعلم في ذلك الزمان ما يقبل استعداده لعدم حضوره .
فبهذا القدر من العلم بالاستعداد يكون من أهل الحضور والمراقبة حتى خلص عن قيد سؤال الاحتياط وهو من أهل الطلب لأن همته متعلقة في حصول مطلوبه لا في امتثال أوامر سيده.
فليس له نصيب في معرفة الاستعداد الأعلى الإجمال (فغاية أهل الحضور) في نهاية علمهم في الاستعداد (الذين لا يعلمون) استعدادهم (مثل هذا) أي في كل فرد وكان عطاؤهم من سؤال وإنما فيدنا به فإن أهل الحضور الذي كان عطاؤهم لا عن سؤال.
يذكر أحوالهم و مراتبهم في القسم الثاني (أن يعلموه) أي استعدادهم (في الزمان الذي يكونون فيه) ويعلمون أيضا في ذلك الزمان قبول استعدادهم (فإنهم لحضورهم يعلمون ما أعطاهم الحق في ذلك الزمان) الذي يكونون فيه (وإنهم) لحضورهم يعلمون (ما قبلوه) أي لم يقبلوا ذلك الأمر الواصل إليهم.
(إلا بالاستعداد) الجزئي الخاص بذلك الزمان (وهم) أي أهل الحضور الذين وصفناهم بقولنا أن يعلموه.
(صنفان صنف يعلمون من قبولهم) ذلك الأمر (استعدادهم) أي قابلية ذواتهم واستحقاق أو هم بذاك الأمر (وصنف يعلمون من استعدادهم ما) أي الذي (يقبلونه وهذا) أي الصنف الذين يعلمون من استعدادهم ما يقبلونه (أتم ما يكون في معرفة الاستعداد في هذا الصنف) أي من الصنف الذين يعلمون من قبولهم استعدادهم ففي بمعنی من (ومن هذا الصنف) أي ومن الصنف الثاني من يسأل لا للاستعجال ولا للإمكان وإنما بسال امتثالا لأمر الله .
في قوله: " ادعوني أستجب لكم " فهو (العبد المحض) التام في العبودية .
(وليس لهذا الداعي همة متعلقة فيما بسأل فيه من معين أو غير معين) حتى يسأل للاستعجال وللإمكان (وإنما همته) بسؤاله لفظة (في امتثال أوامر سیده).
و هيهات بين السائل للإمكان وبينه في رتبة العلم.
(فإذا اقتضى الحال) أي التجلي الإلهي الحاكم عليه في ذلك وقت (السؤال) اللفظي (سأل) أي طلب المأمور به (عبودية) لا لغرض من أغراضه النفسية .
وإذا اقتضى الحال (التفويض) أمره إلى الله فوض (و) إن اقتضى الحال (السكوت) عن طلب ما يحتاج إليه (سكت فقد ابتلى أيوب وغيره وما سئلوا رفع ما ابتلاهم الله به) مع شدة احتياجهم في ذلك الزمان رفع ما ابتلاهم الله تعالی به لاقتضاء حالهم السكون في ذلك الزمان .
(ثم اقتضى لهم الحال في زمان آخر أن يسألوا) من الله (رفع ذلك) فيما ابتلي نسألوا امتثالا لأمر الله (فرفعه الله تعالى عنهم) أي أجاب الله عنهم سؤالهم .
فكانوا داخلين تحت حكومة الحال في الوقت وتابعون إليه في السؤال وعدمه .
فكان سكوتهم وسؤالهم لفظة امتثالا لأمر الله لعلمهم بالحال وبما يقتضيه من أمر الله منهم .
فهم سائلون بالسؤال اللفظي وقتا وغير سائلين وقتا .
فدل ذلك على أن أيوب ومن كان على حاله من هذا الصنف من أهل الحضور لا من الصنف الذي سيذكر .
وأما دعاء نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بقوله: "اللهم اجعل لي في قلبي نورا" الحديث وهو من دخول جميع العوالم فلا اختصاص له بصنف دون صنف.
كما قال : "أفلا أكون عبدا شكورا" (والتعجيل بالمسؤول فيه والابطاء) سواء سال استعجالا أو احتياطا أو امتثالا وسواء كان سؤالا معينا أو غير معين للقدر
(المعين له عند الله) أي لأجل تقدير الله بالمسؤول فيه بوقت معين من الأوقات. الأمور مرهونة بأوقاتها : (فإذا وافق السؤال الوقت) المعين للمسؤول فيه (أسرع بالإجابة) أي وقع مسؤول فيه في الحال.
(وإذا تأخر الوقت إما في الدنيا وإما في الآخرة تأخرت الإجابة أي المسؤول فيه إلى) وقت معين (لا) تأخرت (الإجابة التي هي لبيك من الله) إذا دعا العبد ربه شيئا فقال الله تعالی: لبيك يا عبدي فإن هذه الإجابة تقع في الحال قوله : (فافهم هذا) إشارة إلى أن من دعي من الله شيئا
فقال الله : لبيك يدل على قبول مراده من الله وأن عدم مسألته الآن لعدم حصول وقته.
(وأما القسم الثاني وهو قولنا ومنها ما لا يكون عن سؤال (فإنما أريد بالسؤال اللفظة به) أي التلفظ به (فإنه) أي الشأن (في نفس الأمر) أي في الواقع (لا بد) لكل وارد (من) وجود (سؤال إما باللفظ) كما بين.
(او بالحال أو بالاستعداد كما أنه لا يصح حمد مطلق قط إلا في اللفظ وأما في المعنى فلا بد أن يقيده) أي الحمد (الحال فالذي يبعثك على حمد الله هو المفيد لك باسم فعل) كحمدك على الله بالوهاب والرزاق ( أو باسم تنزیه) مثل سبوح قدوس. فإن قلت قد ثبت من قبل أن معرفة الاستعداد حاصل لصاحبه وقوله : (والاستعداد من العبد لا يشعر به صاحبه) ينافي ذلك قلت: إن الشعور يستعمل في المحسوس المشاهد من غير توقف علمه على شيء آخر والاستعداد ليس كذلك بل توقف على الاطلاع بالأعيان الثابتة في علم الله تعالی فمعنى قوله : لا يشعر به صاحبه لا يعلمه بالشعور وإن كان يعلم بوجه آخر الشعور نوع من أنواع العلم وهو العلم بالحس فإن الشعور يتعلق بأجل المعلومات والاستعداد من أغمض المعلومات وأخفاها فلا يمكن تعلق العلم من حيث الشعور إليه بخلاف الحال فإنه أجل المعلومات لذلك قال : (ويشعر بالحال) أي وصاحب الحال يشعر بحاله (لأنه) أي صاحب الحال (یعلم الباعث) على السؤال بالحال بالبداهة وليس ذلك الباعث إلا (وهو الحال فإذا كان لا يشعر العبد استعداده (فالاستعداد) أي فسؤال الاستعداد (أخفى سؤال) لا يطلع عليه إلا من اطلع بعالم الأسماء والأعيان الثابتة.
فإن السؤال بلسان الاستعداد ما هو إلا سؤال الأسماء ظهور كمالاتها وسؤال الأعيان وجوداتها فكان هنا صنف من أهل الحضور لا يسألون باللفظ .
ويرجع قوله : (وإنما يمنع هؤلاء من السؤال) أي المذكور حكما لأنه لما قال : ومنها ما لا يكون عن سؤال فقد ذكر حكمة غير السائلين وإنما منع غير السائلين عن السؤال اللفظي (وعلمهم بأن الله فيهم) أي في حقهم (سابقة قضاء) أي حكمة سابقة عليهم في علمه الأزلي.
فلا بد أن يصل إليهم هذا الحكم السابق عليهم فهم بذلك قد خلصوا عن قيد الطلب والامتثال وحجابه (فهم قد هيئوا محلهم) أي اشتغلوا بتطهير قلوبهم عن التعلقات بالأمور الدينية (لقبول ما برد منه) حتى يبقى الوارد على ما كان عليه من الطهارة (وقد غابوا) بذلك عن (نفوسهم وأغراضهم) .
فكيف عن السؤال والطلب ولا سبيل عليهم حكومة الحال وهم صنف واحد ينقسم إلى صنفين واقفين على سر القدر .
وهو ما سيذكره المصنف وغير الواقفين عليه ولم يذكره المصنف لوضوحه غاية الإيضاح ببيان الواقفين .
وتقسيمه إلى قسمين و ما منع كلا منهم عن السؤال إلا علمهم الخاص بهم لكنهم لما اتحدوا في حد المنع الكلي .
وهو العلم بالقضاء السابق عليهم وكان بعضهم فوق بعض درجات من العلم لم يفرد بالمنع واقتصر على بيان مراتبهم في رتبة العلم بالله فقال : (ومن هؤلاء) أي من العلماء بالقضاء السابق عليهم أو من الصنف الذي منعهم علمهم هذا عن السؤال أر من عباد الله الذين من هذا الصنف (من) أي العبد الذي (يعلم أن علم الله به) .
أي بذلك العبد (في جميع أحواله) ظرف للعلم أي في إضافة جميع الأحوال اللازمة لوجوده الخارجي (هو ما) أي علم الله بوجوده في اتصافه بجميع أحواله هو العلم الذي كان ذلك العبد (عليه) أي على ذلك العلم.
(في حال ثبوت عينه قبل وجودها) أي قبل وجود العين أو قبل وجود الأحوال (ويعلم أن الحق لا يعطيه) أي العبد من الواردات (إلا ما أعطاه عينه) أي أعطى عين العبد الحق (من العلم به) أي بالعبد .
(وهو ما) أي الذي أعطاه العبد (كان) العبد (عليه) أي على ذلك العلم (في حال ثبوته) قبل وجوده
(فيعلم علم الله به من أين حصل) أي يعلم أن علم الله به سواء كان بعد الوجود أو قبله يحمل للحق من العبد ويعلم أن العلم الذي كان عليه العبد بعد الوجود هو عين العلم الذي كان عليه في حال ثبوته ووجوده وجميع أحواله فعلى كل حال العلم تابع لعين العبد (وما ثمة).
أي في صنف العالمين بالقضاء السابق (صنف من أهل الله أعلى واكشف من هذا الصنف) المعين بالعلم المذكور (فهم واقفون على سر القدر) دون غيرهم فإن غيرهم من أهل الله يعلم القضاء بأنه حكم الله والقدر بأنه تقدير ذلك الحكم ويعلم أن التقدير تابع الحكم والحكم تابع للعلم وهذا هو علم القدر والقضاء ولا يعلم أن علم الله تابع لعین العبد وهو سر القدر.
فعلم سر القدر أن يعلم أن علم الله به من أين حصل فلا يلزم من العلم بالقدر والعلم بسر القدر بخلاف سر القدر (وهم) أي الواقفون على سير القدر أو العلماء بأن علم الله به من أين حصل على قسمين منهم):
أي بعض منهم خبر مقدم (من يعلم ذلك) مبتدأ أي سر القدر أو العلم المذكور (مجملا ومنهم من يعلمه).
أي يعلم علم الله به او سر القدر (مفصلا والذي يعلمه مفصلا أعلى وأتم من الذي يعلمه مجملا فإنه).
أي فإن الذي يعلم سر القدر مفصلا (يعلم ما في علم الله فيه) أي في حقه .
وذلك العلم يحصل له (إما بإعلام الله إياه بما) أي بسبب الذي (أعطاه عينه من العلم به وأما بان يكشف به) أي للعبد (عن عينه الثابتة وانتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى) وهذا هو العلم التفصيلي.
(وهو) أي كشف العلم عن العين الثابتة أو بالإعلام (أعلى) من العلم بالإجمال (فإنه) أي فإن الذي يعلم نفسه بالانكشاف عن عينه الثابتة أو بالإعلام (يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به لأن الأخذ من معدن واحد) وهو العين الثابتة المعلومة.
ولما بين اتحاد علمي الحق والخلق أراد أن يبين الفرق بينهما وإن هذه المساواة من أي جهة كانت فقال : (إلا أنه) أي العلم من جهة العبد عناية من الله تعالى (سبقت له هي) أي العناية .
(من جملة أحوال عينه الثابتة يعرفها) أي العناية (صاحب هذا الكشف إذا) أي وقت (أطلعه الله تعالى على ذلك) أي على أحوال عينه (فإنه) إثبات لقوله : إلا أنه من جهة العبد عناية أي الشأن (ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله) أي وفت اطلاع الله إياه (علی أحوال عينه الثابتة) وهي الوجود العلمي (التي يقطع صورة الوجود) أي صورة الوجود الخارجي (عليها) أي على عينه الثابتة
(أن يطلع) ذلك المخلوق (في هذه الحال) أي حال اطلاعه على أحوال عينه المعروضة لوجوده الخارجي (على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها) أي في حال ثبوتها في علم الله تعالى قبل وقوع صورة الموجود عليها، يعني أن يطلع بعين اطلاع الحق.
(لأنها) أي اطلاع الحق تأنيث الضمير باعتبار وقوع الاطلاع على الأعيان الثابتة لذلك جمع (نسب ذاتية لا صورة لها) في الخارج إذ لم يكن موجودة فيه بخلاف العبد فإنه مخلوق على الصورة (فليس في وسع المخلوق) على الصورة أن يطلع على ما لا صورة له ويجوز أن يعود إلى الأعيان الثابتة باعتبار كونها في حال عدمها إلا أن الأنسب حينئذ أن يقول على أن يطلع على هذه الأعيان بدون قوله على اطلاع الحق ولا بد من ذكره إثبات للمساواة فلما لم يطلع العبد على ما ليس في وسعه قال : (فبهذا القدر) من المساواة : (نقول إن العناية الإلهية قد سبقت لهذا العبد بهذه المساواة) مع الحق (في إفادة) العين الثابتة (العلم) بالحق والعبد
(ومن هنا) أي ومن إفادة العين العلم للحق (يقول الله تعالى "حتى نعلم" وهي كلمة محققة المعنى) وذلك المعنی كون ما قبل حتى سببا لما بعدها .
فاختبر تعالى عباده بالتكاليف الشاقة ليعلم الصابرين على هذه التكاليف (ما هي) أي ليس حتى (كما) أي مثل الذي (يتوهمه من ليس له هذا المشرب) وهو المشرب الصوفي المحقق المنزه في مقام التنزيه .
وهو غناؤه تعالى عن العالمين وهو قوله تعالى: "والله الغنى وأنتم الفقراء" 38 سورة محمد.
وغير ذلك من الآيات الدالة على التقديس والمشبه في مقام التشبيه وهو ظهوره تعالى بصفات المحدثات .
وهو قوله تعالى: " حتى نعلم"31 سورة محمد. وقوله : " لنعلم من يتبع الرسول" 143 سورة البقرة .  وقوله : "مرضت فلم تعدني" وغير ذلك من التشبيهات .
وأما من لم يكن له هذا المشرب فمنزه فقط من كان الوجوه عن الحدوث والنقصان (وغاية المنزه إذا نزه أن يجعل ذلك الحدوث) الحاصل من المعلوم الحادث (في العلم للتعلق) لا للعلم .
(وهو) أي جعل الحدوث للتعلق لا للعلم (أعلى وجه بكون للمتكلم بعقله) أي بنظره الفكري كما كان للمتكلم بمشاهدته ووجد أنه (في هذه المسالة) أي في مسألة علم الله بالأشياء فيجعله الحدوث للتعلق .
اتصل بأهل الله من هذا الوجه في هذه المسألة (لولا أنه) أي لولا أن المتكلم بعقله (أثبت العلم زائدا على الذات فجعل التعلق له) أي للعالم (لا للذات) لم ينفصل عن المحقق من أهل الله حذف جواب لولا وهو قولنا لم ينفصل بقرينة قوله :
(وبهذا) أي و بإثبات العلم زائدا على الذات (انفصل عن المحقق من أهل الله صاحب الكشف والوجود) أي صاحب الوجدان.
(ثم نرجع إلى) تفصيل (الأعطيات) التي ذكرت أولا إجمالا (لنقول إن الأعطيات إما ذاتية أو اسمائية فاما المنح والهبات والعطايا الذائية) الظاهرة في الوجود الخارجي (فلا تكون أبدا إلا عن نجلي إلهي) أي عن التجلي الذي يحصل من حضرة الاسم الجامع من حيث الاسم الظاهر .
فالمراد به تجلي الفيض المقدس لا الأقدس يدل عليه قوله : (والتجلي من الذات لا يكون أبدا إلا بصورة استعداد المتجلي له) فإن التجلي بصورة استعداد المتجلي له لا يكون إلا في الفيض المقدس.
فإذا كان المتجلي له قابة لتجلي الذات من حضرة الاسم الجامع تجلي الذات من حضرة الجامعة.
فذلك هو المسمى بالتجلي الإلهي الحاصل عنه العطايا الذاتية .
وهو قوله : فلا يكون أبدا إلا عن تجلي إلهي وإذا كان قابلا لتجلي الذات من حضرة من حضرات الأسماء .
تجلي عن تلك الحضرة فذلك هو المسمى بـ التجلي الصفاتي والأسمائي التي يحصل منه العطايا الأسمائية.
(غير ذلك لا يكون) تأكيد (فإذن المنجلي له ما رأی سوی صورته في مرآة الحق) أي فعلی تقدیر كون التجلي بصورة استعداد المتجلي له ما رأى المتجلي له في أي تجلي كان إلا صورة نفسه في وجه مرآتية الحق له في رؤية صورة نفسه فإضافة المرآة إلى الحق بيانية لذلك قال: (وما رأى الحق) ولم يقل وما رأی مرآة الحق (ولا يمكن أن يراه) لاختفائه واستتاره بصورة استعداد الرائي فاحتجب نظر الرائي عن الحق بصورة نفسه.
(مع علمه أنه ما رأی صورته إلا فيه) لعلمه أن صورته لا يقوم بذاته بل يقوم بذات الحق فكان عالما بالحق برؤية صورته فيه فلا يحجب صورته عن علمه بالحق كما يحجب عن رؤية الحق .
(كالمرآة في الشاهد إذا رأيت الصور فيها لا تراها) لمنع رؤية الصورة عن رؤية المرآة (من علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها) وذلك ظاهر.
(فابرز الله) أي أظهر الله (ذلك) الموجود المشاهد (مثالا نصبه) أي أقامه حجة (لتجليه الذاتي ليعلم المتجلي له أنه ما رآه ) أي الحق كما لم ير المرأة إذ كل ما في الشهادة دليل على ما في الغيب (وما ثمة) أي وليس في عالم الشهادة مثال أقرب ولا أشبه مثالا (بالرؤية والتجلي من هذا) المثال (واجهد في نفسك) بكليتك (عندما نرى) .
أي عند رؤيتك (الصورة في المرأة أن نرى جرم المرأة لا تراه أبدا البتة حتى أن بعض من أدرك مثل هذا) أي أدرك عدم رؤية المرايا (في صور المرايا ذهب إلى أن الصورة المرئية) حاصلة (بين بصر الرائي وبين المرآة) لا في المرآة.
لذلك حاجبة عن رؤية المرآة فقد أصاب هذا البعض في إدراك عدم رؤية المرآة عند رؤية الصورة لكن أخطأ فيما ذهب إليه.
لأنه لم يدرك أنه مثال لتجليه الذاتي (وهذا) أي المذكور (أعظم ما قدر) على البناء للمفعول أو للمعلوم (عليه) أي على العبد (من العلم والأمر كما قلناه وذهبنا إليه) في التجلي الذاتي والمرآة لا كما زعم البعض (وقد بينا هذا تفصيلا في الفتوحات المكية) فليطلب ثمة (وإذا ذقت هذا) المذكور (ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق فلا تطمع ولا تتعب نفسك في ان ترقي في أعلى من هذا الدرج فما هو ثمة) .
أي فليس في هذا الدرج الذي هو الوجود المحض مقام موجود غير هذا المقام (أصلا) قطعا (وما بعده إلا لعدم المحض) إذ ما يكون وراء الوجود المحض إلا العدم المحض.
(فهو مرآتك في رؤيتك نفسك) عند تجليه لك بصورة استعدادك (وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها وليست) الصورة المرئية في الحق وهي أنت (سوى عينه) بل هي عين الحق .
وبه امتاز عن المرآة في المشاهدة فإن مرآة الحسي غير الصور المرئية فيها (فاختلط الأمر) أي اختلط أمر المرئي وهو الصورة والمرآة وهو الحق في عين الناظر بسبب مشاهدته أن نفسه عین الحق إذ لا اختلاط في الواقع.
(وأبهم) أي وأشكل على التمييز بينهما ولهذا اختلف أهل التجلي الذاتي بأن كان بعضه فوق بعض في رتب العلم بالله (فمنا) أي فمن أهل التجلي (من جهل في علمه) بأمر المرئي أو علم نفسه ولم يعلم أنه عبد أو حق.
ولم يحكم على المرئي حكمة من العبودية أو الربوبية نعجز في علمه (فقال العجز عن درك الإدراك إدراك) فالتقاعد والعجز عن درك ما يعجز عن إدراكه غاية الإدراك .
فالعجز أعلى المقام في حق هذا المشرب لا في الواقع فهو عالم وجاهل من أن الرؤية تعطي العلم لكنه لم يعلم أي شيء هو.
(ومنا من علم) الأمر على ما هو عليه فعلم أن نفسه عین الحق من وجه وغيره من وجه . فميز بينهما في كل مقام (فلم يقل بمثل هذا) أي بمثل ما قال من جهال في علمه.
(وهو) أي عدم قول من علم (أعلى القول) أي قوله من عجز في علمه (بل أعطاه العلم السكوت) أي بل أعطى علم من علم السكوت (كما اعطاء العجز)، أي كما أعطى علم من جهل العجز.
والعلم الذي أعطى السكوت أعلى مرتبة من العلم الذي أعطى العجز .
فكيف لم يكن السكوت أعلى من القول (وهذا) أي الذي أعطى علمه السكوت ولم يظهر العجز (هو أعلى عالم بالله) من الصنف الآخر.
(وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء) أي لا يتأتى علم العطايا الذاتية الذي أعطى السكوت لا حد من الله بالذات إلا لخاتم الرسل من حيث رسوليته وخاتم الأولياء من حيث ولايته .
والمراد بخاتم الأولياء ههنا خاتم الولاية المحمدية يدل عليه قوله من بعد وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا فقد ذكر في الفتوحات أنه رأى هذه الرؤيا فعبرها بانختام الولاية فذكر منامه للمشايخ الذين كان في عصرهم ولم يقل من الرأي فأولوه بما عبر به .
والظاهر أن المراد بخاتم الأولياء نفسه رضي الله عنه ومن قال : المراد بخاتم الأولياء عيسى عليه السلام اختلط عليه الأمر.
فإن عيسى عليه السلام خاتم الولاية العامة والولاية الخاصة المحمدية غير الولاية العامة وكذا ختمهما .
فعیسی علیه السلام، وإن كان رسولا وخاتما للولاية العامة لكنه يأخذ العلم من مشكاة ختم الولاية كسائر الأنبياء والرسل (وما يراه أحد من الأنبياء والرسل من حيث نبوتهم ورسالتهم (إلا من مشكاة الرسول الخاتم ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم حتى أن الرسل) من كونهم أولياء (لا يرونه) أي لا يأخذون هذا العلم (متى رأوه) أي متى أخذوه (إلا من مشكاة) أي من مرتبة (خاتم الأولياء) وإنما لم يروا الرسل هذا العلم إلا من مشكاة خاتم الأولياء.
(فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته) لا الرسالة والنبوة بمعنى الإخبار عن الحقائق الإلهية فإنهما لا تنقطعان (تنقطعان) لكونهما من الصفات البشرية وهما ظاهر الولاية والظاهر لا يرى ما يراه من كونه باطنا إلا من مشكاة الباطن (والولاية لا تنقطع أبدا فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف من دونهم من الأولياء وإن كان خاتم الأولياء تابعة في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك) .
أي كون خاتم الأولياء تابعا لما جاء به الرسول الختم (لا يقدح في مقامه) أي لا يمنع متبوعيته لخاتم الرسل فيما ذكرناه (ولا يناقض) كونه تابعا (ما ذهبنا إليه) من أنه متبوع في ذلك العلم الخاص .
(فإنه) أي خاتم الأولياء (من وجه) أي من حيث إنه تابع لخاتم الرسل (يكون أنزل) أي تحت خاتم الرسل في هذه المرتبة.
(كما أنه من وجه) أي من حيث إنه متبوع له (يكون أعلى) أي فوقه فيما ذكرنا فلا يناقض ولا ينبغي أن يتوهم أفضلية خاتم الأولياء على خاتم الرسل وغيره في ذلك الوجه الخاص.
وهو كونه متبوعا لخاتم الرسل في رتبة علم التجلي الذاتي لأن قوله من وجه يكون أعلى لا يدل إلا على تقدمه في ذلك العلم ولا يلزم منه الأفضلية في تلك المرتبة.
فإن أفضلية الممكن وشرفه ليست بالتقدم والمتبوعية سواء كان في رتب العلم بالله أو في غيره ولا في حد ذاته وإنما كانت أفضليته بتكريم الله تعالى إياه وتشريفه.
كقوله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم " 70 سورة الإسراء. أي جعلناه مكرما فكان مكرما من عند الله لا من عند نفسه ومرتبته .
و كقوله : "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض" 253 سورة البقرة . فكان فضل بعض على بعض بتفضيل الله تعالى ."وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)" سورة النساء.
كما قال الشيخ رضي الله عنه فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشريفة وما ورد النصوص على أفضلية الأنبياء وسيادتهم عند الله على الأولياء إلا على الإطلاق وفي كل مرتبة .
فما كان الممكن شريعة و فاضلا إلا بالنص الإلهي لا بالمتبوعية في رتب العلم.
ألا ترى أن علم الله تابع للعموم والمعلوم أنت وأحوالك وهل يلزم من التقدم في تلك المرتبة أفضليتك من هذا الوجه .
فإن الله محيط من ورائهم من وجوداتهم وأحوالهم من الظواهر والبواطن وليست ذات المعلوم وماهيته أمرا مستقلا في نفسه حتى يكون الواجب الوجود لذاته بل هو أثر حاصل من تجليات أسمائه وصور علمه فلا جعل في نفس الماهية.
فإن الله تعالى موجب لأسمائه وصفاته ومقتضياتهما ومختار في إعطاء الوجود إلى الماهية فالجعل لا يكون إلا بعد مرتبة الصفات والأسماء ومقتضياتهما فذات المعلوم.
تجميع أحواله من المتبوعية وغيرها كل ذلك من إعطاء الله تعالى وإنما يثبت أفضليته من حيث هو متبوع على التابع إذا لم يكن متبوعية ذلك المتبوع من التابع، فكان التابع من حيث إنه تابع أفضل من المتبوع من حيث إنه متبوع لكون المتبوعية له من إعطاء التابع..
فكان الله أعلى وأشرف على معلوماته من كل الوجوه .
فكذلك ختم الرسل لكونه جامعا لجميع المراتب التي كانت في حق المخلوق فهو محیط بجميع المراتب الإمكانية وتابعيه ختم الرسل بختم الأولياء تابعية صاحب القوى قواه في أخذ مراداته .
وكذلك صاحب الأسباب تابع لأسبابه لتحصيل بعض أفعاله فكان خاتم الأولياء مرتبة من مراتب ختم الرسل .
وهو معنى قوله وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل وهو معنى قوله : فما يلزم الكامل وبه أخذ من خزينة الحق هذا العلم كما أخذه عن جبرائيل عليه السلام علم الشرائع وهو "خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم" مفضل على جبرائيل بالنص الإلهي .
والنص على إطلاقه فلزم أنه مفضل عليه من كل الوجوه . فثبت بالنص أن خاتم الرسل مفضل على خاتم الأولياء في ذلك الوجه لعموم النص على جميع الوجوه فخاتم الأولياء خادم لختم الرسل لأخذه هذا العلم عن المعدن .
فكان المراد من قوله من وجه يكون أعلى بيان لزيادة مرتبة خاتم الأولياء من الوجه المذكور ولا يلزم منه الأفضلية من هذا الوجه عند الله إذ الزائد قد يكون أدنى من الإنزال لتوسط الإنزال .
فأنزلية ختم الرسل منه من جملة كمالاته ليست بمعنى الدناءة وقد نزل القرآن وحمد على تنزيله ولو دليتم بحبل لهبط على الله .
فنزول الشريف اللطيف عين كماله ، ولما بين مرتبة خاتم الأولياء أورد الدليل الشرعي على ما ذهب إليه تسهيلا لفهم الطالبين .
فظهر أن المقصود بيان تقدم مرتبة خاتم الأولياء من وجه فقال : (وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه) من أن الشيء الواحد أنزل من وجه وأعلى من وجه (في فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم) كما ذكر قصته في كتب التفاسير (و) قد ظهر (في تأبير النخل) كما ذكر حديثه في كتب الأحاديث والفضل ههنا بمعنى الزيادة في هذه المسألة لا بمعنى المفضل والمكرم عند الله.
(فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة) فإن الرسول لم يتقدم فيهما على أصحابه فقال :" أنتم أعلم بأمور دنياكم " لكن هذا التقديم ليس من الأمور التي تثبت بها الفضيلة المعتبرة عند أهل الله لكونه في الأمور الدنية الخسيسة.
فهم وإن كانوا يتقدمون في هذه المرتبة الدنية لكنهم تابعون للرسول في المرتبة الشريفة وهي مرتبة العلم بالله .
فتأخير الرسول في الأمور الدنية عين كماله لأن هذا العلم الذي أخذه الرسول منهم يمد لهم من روحه .
فخاتم الأولياء وإن كان له التقدم في هذا الوجه من رتب العلم بالله لكنه تابع لختم الرسل في رتبة من رتب العلم بالله وهو علم الشريعة الشريفة على كل مرتبة من رتب العلم بالله .
و علی علم خاتم الأولياء الذي أخذه عن الرسول لذلك سمي بالشرع المطهر .
ألا ترى كيف أبي موسى الخضر في العلم اللدني فقال : "قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)" سورة الكهف.
ولم يلزم من أعلمية الخضر من موسى في هذا الوجه أفضليته على موسى لأن الخضر تابع في الحكم بما جاء به موسى من علم التشريع.
وهذا العلم أفضل وأعلى من العلم اللدني (وإنما نظر الرجال) الذي يعلمون الأمور على ما هي عليه ويميزون المراتب (إلى التقدم في رتب العلم بالله هنالك مطلبهم وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها) .
ولما كانت هذه المسألة أعلى المسائل الإلهية وأنفعها أوصى لاهتمامها فقال : (فتحقق ما ذكرناه) فإن الأمر في نفسه على ما بيناه لك (ولما مثل النبي عليه الصلاة والسلام النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل) الحائط (سوی موضع لبنة واحدة) قوله (فكان عليه السلام تلك اللبنة) جواب لما أي كان نفسه في رؤياه تنطبع بتلك اللبنة التي ينتمي الحائط عنها ويكمل بها.
(غير أنه لا يراها) أي تلك الرؤيا (إلا كما قال لبنة واحدة) أي تمثيله عين رؤياه في حق نفسه.
(وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا) دليلا له على ختميته في الولاية .
(فیری ما مثله به) أي بالحائط (رسول الله فیری في الحائط موضع لبنتين واللبن من ذهب وفضة فيرى اللبنتين اللتين ينقص الحائط عنهما ويكمل بهما لبنة فضة ولبنة ذهب)
قوله: (فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تلك اللبنتين) جواب إما (فيكون خاتم الولاية تلك اللبنتين فيكمل الحائط) بهما كما يكمل بلبنة واحدة في رؤیا ختم الرسل لوجوب التطابق بينهما وهذه الرؤيا مختصة لخاتم الولاية المحمدية لاشتراكه في المشكاتية والختمية.
وإما خاتم الولاية العامة فاشتراكه في الختمية دون المشكاتية فلم يلزم هذه الرؤيا له (والسبب الموجب لكونه) أي لكون خاتم الأولياء (يراها لبتين أنه) أي خاتم الأولياء (تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر) لأن ولاية الولي لا تحصل ولا تتم إلا بتبعيته للرسل.
(وهو) أي كون خاتم الأولياء تابعا (موضع اللبنة الفضية وهو) أي موضع هذه اللبنة (ظاهره) أي ظاهر خاتم الأولياء (وما يتبعه فيه من الأحكام) يعني صورة اتباعه لخاتم الرسل في الأحكام الشرعية .
فكان الحائط في حق ختم الرسل حائط النبوة واللبنة الفضية لبنته ولذلك مثلها به وأما في حق خاتم الأولياء فحائط الولاية فكانت اللبنة الفضية جزءا من حائط الولاية في حق هذا الرائي كاللبنة الذهبية .
فخاتم الرسل هو الذي لا يوجد بعده نبي مشرع فلا يمنع وجود عیسی بعده ختميته لأنه نبي متبع لما جاء به خاتم الرسل .
وكذلك خاتم الأولياء بالولاية الخاصة هو الذي لا يبقى بعده ولي في قلب خاتم الرسل ولا وارث بعده للولاية المحمدية .
ولا يمنع أيضا ختميه وجود الأولياء الوارثين لسائر الأنبياء بعده.
(كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه) أي كما أن خاتم الأولياء متبع لختم الرسل بالصورة الظاهرة فيما أخذه عن الله في السر فيرى صورة أخذه وصورة اتباعه فيما أخذه.
فقوله بالصورة يتعلق بمتبع وإنما وجب الرؤية هكذا (لأنه) أي لأن خاتم الأولياء (يري الأمر) أي يرى جميع الأمور (على ما هو عليه ولا بد أن يراه) أي أن يرى أمر نفسه (هكذا) أي على ما هو عليه من أخذ واتباع ومشكاتية وختمية وغير ذلك من الأمور التي كانت في حق نفسه.
(وهو) أي أخذه هذا العلم عن الله (موضع اللبنة الذهبية في الباطن) وإنما أخذ هذا العلم عن الله (فإنه) أي لأن خاتم الأولياء (أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي) الحق ما أخذه الملك من هذا المعدن (به) أي بواسطة الملك (إلى الرسول) فهذا المعدن ليس إلا هو الحق فإن كان معدن العلمين واحدا فما كان علم الباطن إلا وجها خاصا من وجوه الشريعة.
وهو الذي لا يعلم إلا عن الكشف الإلهي الذي لا يحصل إلا بعد تحصيل الولاية فهما متحدان في المآل.
لذلك يسمى علم التأويل بل هو أصل علم الشريعة وروحه ولا مخالفة بينهما إلا عند أهل الحجاب (فإن فهمت ما أشرت به) من الختم والمشكاة وغير ذلك.
فخذ واعمل به (فقد حصل لك العلم النافع) الذي تفتح منه علوم كثيرة نافعة لك في الدنيا والآخرة ، إذ هو العلم الكلي الذي هو أجل العلوم (فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد ياخذ) النبوة (إلا من مشكاة خاتم النبيين وإن تاخر وجود طينته فإنه بحقيقته موجود) في جميع العوالم (وهو) أي معنى وجوده بحقيقته معنى (قوله كنت نبيا وآدم بين الماء والطين وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث .
وكذلك خاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيل شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها من كون الله يسمى بالولي الحميد فخاتم الرسل من حيث ولابته نسبته مع الختم للولاية نسبة الأنبياء والرسل معه) وإنما كانت نسبته معه كذلك (فإنه) أي لأن خاتم الرسل (الولي الرسول النبي وخاتم الأولياء الولي الوارث الأخذ عن الأصل المشاهد للمراتب) فكانت ولايته مقدمة على ولاية ختم الرسل كما تقدمت على ولاية سائر الأنبياء.
.[/ce
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 9:41 am

02 -  فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الجزء الثاني

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية

ولما توهم من ظاهر كلامه أفضلية ختم الولاية على ختم النبوة دفع هذا التوهم بقوله (وهو) أي خاتم الأولياء (حسنة) أي أعلى مرتبة (من حسنات خاتم الرسل محمد) عليه السلام أي من مراتبه العالية، فكانت ختمیته ومشكاتيته من ختم الرسل لأن العلم الذي يأخذ عن الله تعالى في السر ويعطى ختم الرسل لا يأخذ إلا بولاية منشعبة من ولاية ختم الرسل .
وفي التحقيق يأخذ عن الله بسببه ويعطى إليه بسببه فكان تقدمه في هذا الوجه تقدم الجزء على الكل فلا فضل على ختم الرسل بأي وجه كان كما قلنا لك من قبل (مقدم الجماعة) أي جماعة الأنبياء والأولياء كلها (وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة) يوم القيامة.
(فعین) محمد عليه السلام وهو تقدمه على جميع أولاد آدم باعتبار وجوده الشخصي (حالا خاصا) وهو الفتح (ما عمم) إذ التعميم لا يكون إلا بحقيقة الكلية فلا يلزم منه تقدمه في جميع الأمور (وفي هذا الحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية فإن الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين ففاز محمد عليه السلام بالسيادة في هذا المقام الخاص).
وهو معظم الأمور مع أنه لا يلزم منه فضل محمد على الرحمن لأن فوزه بهذه السيادة لا يكون إلا من الرحمن .
وإنما يلزم ذلك أن لو كان ذلك الحال حاصلا له من غير احتياج إلى الرحمن وهو ممتنع (فمن فهم المراتب والمقامات) على ما هي عليه (لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام).
لما فرغ عن بيان العطايا الذاتية شرع في بيان العطايا الأسمائية
فقال : (وأما المنح الأسمائية) فعلى أنواع حذف الجواب للعلم به وفي بعض النسخ (فاعلم) فحينئذ يكون الجواب فاعلم (أن منح الله تعالی) أي اعتبار الذات بجمعية الأسماء فكانت العطايا الحاصلة كلها اسمائية وفى العطايا الذاتية اعتبارها بحسب نفسه فكانت العطايا الحاصلة منه كلها ذاتية إلهية .
(خلقه رحمة منه بهم وهي) أي الرحمة أو المنح (كلها) أي أنواعها وأصنافها (من الأسماء) لكونها من حضرة من الحضرات الإلهية الجامعة بجميع الأسماء والصفات.
(فأما رحمة خالصة كالطيب من الرزق اللذيذ في الدنيا الخالص يوم القيامة ويعطي ذلك العطاء اسم الرحمن فهو عطاء رحماني وأما رحمة ممتزجة بنقمة كشرب الدواء الكريه الذي تعقب شربه الراحة) ويعطي ذلك اسم الله على يد الرحمن من حيث جامعيته للصفات المتقابلة لذلك كان العطاء الحاصل منه رحمة ممتزجة (وهو عطاء إلهي) وإنما كانت منح الله تعالی كلها من الأسماء.
(فإن العطايا الإلهية) أي العطايا الحاصلة من حضرة الاسم الجامع (لا يمكن إطلاق عطائه منه) أي لا يمكن حصول العطاء من هذا الاسم الأعظم (من غير أن يكون على يد سادن) أي خادم (من سدنة الأسماء).
فإذا لم يكن عطاء اسم الله للعبد إلا على يد اسم من أسماء الله تعالى (فتارة يعطي الله العطاء العبد على يد الرحمن فيخلص العطاء من الشوب الذي لا يلائم الطبع في الوقت) أي وقت العطاء ولو غير خالص في المال فهذا هو عطاء ممتزج ورحمة ممتزجة وعطاء إلهي حاصل مع الله تعالى على يد الرحمن .
لكن لا يسمى رحمانية بل يسمى مثل هذا القسم إلهية وفيه إشارة إلى أن يد الرحمن لها مدخل في جميع العطايا التي تحصل على أيادي الأسماء فرحمة الله واسعة على كل شيء (او لا ينيل الغرض) أي أو يخلص العطاء من الشوب الذي لا ينال به الطبع غرضه .
(وما أشبه) ذلك الشوب في عدم ملائمة الطبع أو عدم نیل الغرض (فتارة يعطي الله العبد على يد الواسع فيعم) هذا العطاء جميع أحوال العبد وأوقاته وينال العبد بذلك العطاء غرضه في كل وقت يريد (أو على يد الحكيم فينظر في الأصلح في الوقت) فيعطي ما هو الأصلح للعبد في ذلك الوقت.
(أو على يد الواهب فيعطي لبنعم) من أنعم أي إظهار الأنعام و كرمه (ولا يكون مع الواهب تكليف المعطى له بعوض على ذلك) العطاء (من شكر أو عمل أو على يد الجبار فينظر في المواطن وما يستحقه) من القهر .
والجبار ههنا بمعنى القهار بمقابلة قوله : (او على يد الغفار) أو بمعنى يجبر الكسر (فينظر في المحل وما هو عليه) من الأحوال (فإن كان على حال يستحق العقوبة فيستره عنها أو على حال لا يستحق العقوبة فيستره على حال يستحق العفوية فيسمى معصومة به ومحفوظة وغير ذلك مما يشاكل هذا النوع)
كله من العطايا الأسمائية (والمعطي) الحقيقي (هو الله) لكن (من حيث ما) أي من حيث الاسم الذي (هو خازن لما عنده) أي لما حصل عند هذا الاسم (من خزائنه) أي من خزائن الله .
ولما كان الأمر هكذا (فما يخرجه) أي فما يخرج الحق من الخزينة أمرا للمعطى له (إلا بقدر معلوم) أي بمقدار ما قدر للمعطى له في علمه الأزلي بلا زيادة ونقصان فمن شاهد هذا فقد خلص عن تعب الطلب وكان هذا الإخراج (على يد اسم خاص بذلك الأمر) المخرج من الخزينة المخصوصة (فأعطى كل شيء خلقه على يد الاسم العدل وأخواته) فمن فهم هذا برأ عن اضطراب الاعتراض .
فإن العدل ناظر إلى ما اقتضاه عين المخلوق فخلق كل شيء بحسب اقتضاء عينه وعين الشيء ليس بمجعول وكذا الاقتضاء صفة ذاتية لازمة له .
(وأسماء الله تعالى وإن كانت لا تتناهي لأنها تعلم بما يكون عنها) أي بآثارها( وما يكون عنها غير متناهية)
فكانت أسماء الله تعالى بهذا الاعتبار غير متناهية (وإن كانت ترجع إلى أصول متناهية هي أمهات الأسماء أو حضرات الأسماء) فكانت أسماء الله تعالى دائرة بين التناهي وعدم التناهي.
(وعلى الحقيقة) أي وكان في التحقيق (فما ثمة) أي فما في مقام الأسماء المتكثرة (إلا حقيقة واحدة) وهي الذات الإلهية (تقبل جميع هذه النسب والإضافات التي يكنى عنها بالأسماء الإلهية) مع كونها باقية على وحدتها الحقيقية (والحقيقة) الواحدة التي تقبل جميع النسب .
وتفسير البعض بقوله أي التحقيق يقتضي أن يكون لكل اسم حقيقة مميزة له خطأ لأنها نكرة معادة معرفة فهي عين الأول (تعطي أن يكون لكل اسم مظهر إلى ما لا يتناهی) أي له مظاهر غير متناهية (حقيقة يتميز بها عن اسم آخر) أي يتميز الاسم بتلك الحقيقة من غيره من الأسماء.
(وتلك الحقيقة التي بها يتميز هي) مبتدأ ثان (الاسم) خبره (عينه) بدل من الاسم أي هي عين الاسم إذ حقيقة الشيء عين ذلك الشيء فامتیازه بتعين غير زائد على نفسه أو الاسم مبتدأ ثالث عينه خبر أي الاسم عين هذا الحقيقة ذكر الضمير باعتبار الاسم فاندفع توهم المغايرة من قوله تعطي لكل اسم حقيقة يتميز بها (لا ما يقع فيه الاشتراك) أي تلك الحقيقة ليست هي عين الحقيقة المشتركة التي هي الذات الإلهية المشتركة بين الأسماء وليس معنى الاشتراك اشتراك الجزئيات في الكلي ولا اشتراك الصور في المرايا في ذوي الصورة ولا اشتراك الأوصان في ذاتك وإنما مسنى الاشتراك توجه الواحد الحقيقي إلى جهة خاصة لكمال خاص بتلك الجهة مع بقاء الحضرة الواحدة على وحدته بحيث لا يمنع كل من التوجه التوجه الآخر فما كانت الأسماء والصفات إلا التوجهات الأولية الذاتية الإيجابية ، وما بعدها كلها توجهات ثانية اسمائية إختبارية فكانت الأسماء كلها مشتركة في دلالتها على الذات ومميزة بحقيقتها المختصة التي هي عينها وهذا لا يعرف إلا بالذوق، ولصعوبة هذا المقام أورد دليلا مشاهدا بالحس تسهيلا للطالبين.
فقال : (كما أن الأعطيات تتميز كل أعطية) أي كل واحدة منها عن غيرها بشخصيتها وإن كانت العطايا (عن أصل واحد) وهو الذات الإلهية .
(فمعلوم أن هذه) العطايا (الأخرى بسبب ذلك) أي وما سبب تميز العطايا (إلا تميز الأسماء) وهو استدلال من الأثر وهو تميز العطايا إلى المؤثر وهو تميز الأسماء إذ عند المحققين ما من موجود في الشهادة إلا وهو مصورة ما في الغيب ودليله هذا دليل على تميز العطايا وأما الدليل على تميز الأسماء.
فهو قوله : (فما في الحضرة الإلهية) أي حضرة جمعية الأسماء (لاتساعها شيء يتكرر أصلا) والتكرار إنما يكون بضيق المقام وقال تعالى: "ورحمتي وسعت كل شيء"107 سورة الأعراف.
فإذا ثبت تميز كل شيء من الأشياء ثبت تمیز الأسماء (هذا) إشارة إلى كل ما ذكر في العطايا الأسمائية (هو الحي الذي يعول عليه) عند أهل الحقيقة (وهذا العلم) أي علم العطايا الأسمائي (كل علم شيث) عليه السلام (وروحه هو الممد لكل من يتكلم في مثل هذا) العلم (من الأرواح ما عدا روح الختم) أي روح ختم الرسل (فإنه لا يأتيه المادة) أي لا يأتي إليه مدد هذا العلم (إلا من الله تعالى لا من روح من الأرواح بل من روحه يكون المادة لجميع الأرواح)
فتقدم ختم الرسل على ختم الأولياء وعلى شيث في هذا العلم .
وكذلك شيث تقدم على جميع الأرواح وعلى روح خانم الأولياء لكونه بیده مفتاح الخزائن الأسمائية كما أن بيده مفتاح الخزائن الذاتية .
(وإن كان لا يعقل ذلك من نفسه) أي وإن كان لا يعلم ذلك الإمداد من روحه لجميع الأرواح (في زمان تركيب جسده العنصرية لاحتجابه عن علم هذا بسبب وجوده بالجسد العنصري.
(فهو من حيث حقيقته ورتبته عالم بذلك) أي بكون المادة لجميع الأرواح من روحه (كله بعينه) تأكيد والضمير لكل أي عالم بكل واحد من الأرواح بشخصه وبتعينه والاستمداد الخاص به وإمداد روحه لكل واحد منهم ما يناسبه استعداداتهم وأحوالهم بحيث لا يفوته عن علم ذلك شيء.
(من حيث ما هو جاهل به) أي كما أنه من حيث الذي جهل به (من جهة تركيبه العنصري) بيان من حيث ما (فهو العالم الجاهل) لكن جهله عين كماله كما بين في موضعه (فيقبل الاتصاف بالأضداد) بالاعتبارين.
(كما يقبل الأصل الاتصاف بذلك) أي بالأضداد لكنه باعتبار واحد كما بين في موضعه (كالجليل والجميل و كالظاهر والباطن والأول والآخر وهو عينه وليس غيره) أي خاتم الرسل من حيث حقیقته عین الحق وإن كان من حيث جسده العنصري غيره .
و معنی عینیته من حيث الحقيقة كونه على صفته لا غير (فيعلم) من حيث كونه عمن أصله (لا يعلم) من حيث كونه غبره ومن أجل هذين الوجهين ينسب إليه ما ما ينسب الى الأصل غير الوجوب الذاتي وما لا ينسب إليه وكذا قوله : ( و يدري لا يدري ويشهد لا يشهد) والمراد من انصاف هذا الكامل بالأضداد انصافه بالصفات اللائقة لحضرة الإمكان من النقصان والكمال .
لذلك قال فهو العالم الجاهل فيعلم لا يعلم والمراد من اتصاف الأصل اتصافه بالصفات الكاملة اللائقة لحضرة الوجوب .
لذلك قال كالجميل والجليل فمن قال كما أن أصله بعلم في مرتبة الإلهية ولا يعلم في مرتبة ظهوره في صورة الجاهلين مع أنه سوء أدب مع الله فقد أخطأ في فهم المراد من المقام.
ولما فرغ من أحوال ختم الرسل رجع إلى شيث فقال : (وبهذا العلم) أي بسبب علمه العطايا الأسمائية (سمي شیث لأن معناه) أي معنى شيث (هبة الله) فإذا كان هذا العلم مختصا بشيث عليه السلام
(فبيد، مفتاح العطايا على اختلاف أصنافها ونسبها) فلا يأخذ أحد ما عدا روح الخاتم من هذه الخزائن شيئا إلا بشيث و إنما كان مفتاح العطايا بيده (فإن الله وهبه لآدم أول ما وهبه) .
فكان عليه السلام أول مظهر للفتوحات الاسمائية لآدم وأول سببه فتح الله به عطاياه فكان مفتاح العطايا بيده (وما وهبه) لآدم (إلا منه) أي إلا وهبه من نفس آدم.
وإنما كان ما وهبه إلا منه (لأن الولد سر أبيه) ليس أمرا خارجة عن وجود أبيه (فمنه خرج) في صورة النطفة (وإليه عاد) بصیرورته على صورة أبيه فالهبة عبارة عن الإخراج والإعادة .
فإذا كان الولد سر (فما أتاه) أي فما أتي الولد أباه (غريب) أي على غير صورة أبيه بل أتي على صورة أبيه لذلك أحبه .
وإذا لم يأت على صورته استكره ونفر منه وليس له ولد ولا بد لسر الشيء بأن يعود إلى ذلك الشيء .
أو فما أتاه عن خارج نفسه قعوده إليه منه (لمن عقل عن الله) أي لمن كان على بصيرة من ربه و علم الأشياء على ما هي عليه (وكل عطاء في الكون على هذا المجرى) أي وكل ما وهب الله للعباد من العطايا ليس إلا منهم وإليهم وإذا كان عطاء الحق على هذا.
(فما في أحد من الله شيء) من العطايا إلا منه وإليه حتى الوجود منه وإليه بأمر الله وهو قول كن (وما في أحد من سوى نفسه شيء) فكان العطاء الذي خرج من نفسه وعاد إليه عين نفسه لا غير .
(وإن تنوعت عليه الصور وما كل أحد يعرف هذا) أي ما قلناه (وإن الأمر على ذلك) أي وما يعرف أن أمر العطاء على ما بيناه في نفس الأمر فقوله يعرف هذا يتعلق بالمذكور.
وقوله : وإن الأمر على ذلك يتعلق بمطابقتة في نفس الأمر الأول مرتبة التصور الثاني التصديق (إلا آحاد من أهل الله) وهم الذين تحققوا بالتجليات الأسمائية ووقفوا بأسرار الأسماء والصفات.
(فإذا رأيت من يعرف ذلك فاعتمد عليه) فإنه من كبار الأولياء يرشدك إلى مقصودك (فذلك) العلم (عين صفاء خلاصة) وهي العلوم العالية الصافية الخالصة عن شرب كدورات النفسانية .
وكيف لم يعتمد من يعرف بمثل هذا العلم (خاصة الخاصة) الخاصة أهل التجلي الصفاتي وخاصة الخاصة أهل التجني الذاتي.
(من عموم أهل الله) أي من جمهور أهل الله فإذا لم يكن في أحد من الله شيء ولا في أحد من سوى نفسه شيء (فای صاحب كشف شاهد صورة تلقى إليه) قوله : (ما لم يكن عنده) مفعول تلقی (من المعارف) بیان لما .
(وتمنحه) أي ويوهب تلك الصورة (ما لم يكن قبل ذلك في يده) فجملة تمنحه عطف على حملة تلقى إليه للإيضاح (فتلك الصورة) الملقية إليه (عينه) أي عين الملقى إليه (لا غيره فمن شجرة نفسه) أي وإذا كانت تلك الصورة عينه كانت من شجرة نفسه.
(جني ثمرة غرسه) يعني غرس شجرة نفسه وثمرتها وما تلقى إليه أي من المعارف كل ذلك مستندة إلى العبد وما استند إلى الله إلا الإعطاء خاصة على أيدي الأسماء.
بطلب العبد فكان فصوص الحكم من ثمرة غرسه قدس سره تلقى إليه على يد رسول الله عليه السلام .
فالرسول ليس من ثمرة غرسه ولا هو عينه بل هو خاتم الرسل فلا يكون العبد مفيضا على نفسه بل يحتاج إلى فياض آخر غيره .
وإن كانت هذه الثمرة في غرسه ومن قال في هذا المقام العبد هو المفيض على نفسه لا غير فقد أخطأ.
ولما فرغ عن الكلام في المعاني الغيبية شرع في الصورة الظاهرة إيضاحا وتسهيلا للطالبين.
فقال (كالصورة الظاهرة) أي مثال الصورة الملقية إلى صاحب الكشف في العينية هو الصورة الظاهرة (منه في مقابلة الجسم المقبل ليس غیره) أي كما أن هذه الصورة ليست غيره بل عينه كذلك هذه الصورة المعنوية ليس غیره (إلا) استثناء عن قوله فتلك الصورة عينه لا غيره لبيان وجه المغايرة (إن المحل أو الحضرة) وهي حضرة الخيال (التي رأى فيها صورة نفسه تلقى إليه) أي تلقي تلك الحضرة تلك الصورة إلى الرائي (تتقلب من وجه) وذلك التقلب (لحقيقة تلك الحضرة) أي لأجل اقتضاء حقيقة تلك الحضرة .
وذلك لا ينافي عينيتها بحسب الحقيقة فشبه أيضا هذه المعاني المثالية بالظاهر للإيضاح وتطبيق الظاهر بالباطن حتى يعلم منه أن العلم الظاهر وهو علم الشريعة وعلم الباطن وهو علم الحقيقة شيء واحد وحقيقة واحدة لا مغايرة بينهما.
إلا بتقلب من وجه الحقيقة المحل وهي قلوب المؤمنين لتفاوت درجات عقولهم فكلم الناس على قدر عقولهم فالمغايرة حاصلة لمرآة قلوبهم.
فقال : (كما يظهر الكبير في المرآة الصغير صغيرة و) بظهر غير المستطيل (في المستطيلة مستطيلا) و يظهر غير المتحرك (في) المرآة (المتحركة متحركا) كالماء الجاري.
(وقد تعطيه انتكاس) أي انعكاس (صورته من حضرة خاصة) كالماء فإن من نظر إليه وجد صورته منتكسة (وقد تعطيه عين ما يظهر منها) أي من عين الرائي بدون انتكاس (فيقابل اليمين منها) أي من الصورة (اليمين من الرائي) كالمرآة.
(وقد يقابل اليمين اليسار وهو) أي كون اليمين مقابلا لليسار (الغالب في المرايا بمنزلة العادة في العموم وبخرق العادة يقابل اليمين اليمين) يعني أن اعتبرت صورتك في المرآة الإنسان المقابل وجهه وجهك كان يمينك مقابلا لیسار صورتك فكان هذا التقابل بمنزلة العادة إذ تقابل الصور الإنسانية يجري على ذلك عادة .
وإذا اعتبرت أن ما يقابل يمينك من صورتك هو ما حصل عن يمينك فقد تقابل يمينك ليمين صورتك فكان هذا التقابل بخرق العادة (ويظهر الانتكاس) أي وبخرق العادة يظهر الانتكاس إذ العادة في المقابلة الظهور على قدمه هذا كله ظاهر لمن نظر في المرآة .
(هذا كله) أي الاختلاف المذكور بين الرائي والمرئي في حقيقة الحضرة أي تنوع الصورة على الرائي (من أعطيات حقيقة الحضرة المتجلي فيها التي أنزلناها منزلة المرائي) و نسبنا هذه الأعطيات إلى المرايا وعلى الحقيقة كلها من حقيقة الحضرة المتجلي فيها .
فإذا ثبت أن الصور المتنوعة على الرائي في الحضرات عين الرائي والكثرات تنشأ من الحضرات (فمن عرف استعداده عرفه قبوله) أي عرف ما يقبل استعداده في كل زمان وفي كل حضرة (وما كل من عرف قبوله) أي ما يقبله استعداده (يعرف استعداده إلا بعد القبول) أي لولا الاستعداد ما قبل.
(وإن كان يعرفه مجملا) لأن العلم بعد القبول علم من الأثر إلى المؤثر وهو علم إجمالي .
فإذا كان كل ما حصل للممكن منه إليه ما فعل الحق بالممكن شيئا إلا بحسب اقتضاء ذاته وبحسب قابليته فمشيئته تعالى تابعة لأحوال الممكن .
فما يشاء تعذيب من يستحق التنعيم ولا كفر من يستحق الإيمان فلا جبر أصلا من الله لا صرفا ولا متوسطا.
فإن كان وذلك أيضا منه وإليه ونسبة جبر المتوسط إلى الله مجرد اصطلاح ممن عجز عن إدراك الأشياء على ما هي عليه .
وإلا فلا أصغر من الفتيل ولا يظلمون فتية بسبب الظلم من الله عن أصله ولكن الناس أنفسهم يظلمون فلا يلومون إلا أنفسهم فما شاء الله ما يناقض حكمته (إلا) استثناء منقطع (إن بعض أهل النظر من اصحاب العقول الضعيفة برون أن الله لما ثبت عندهم أنه فعال لما يشاء) أي فعال لمقتضي مشيئته لا لحكمة (جوزوا على الله ما يناقض الحكمة) (و) جوزوا ما يناقض (ما هو الأمر عليه في نفسه) لما لزمهم ذلك فجوزوا تعذيب من يستحق التنعيم تعالى الله عن ذلك.
(ولهذا) أي ولاجل أن عندهم أن الله فعال مطلقا كيف يشاء (عدل بعض النظار إلى نفي الإمكان) لئلا يلزمهم جواز ما لا يليق إلى الله على تقدير ثبوت الإمكان فلم يجوز هذا البعض على الله ما جوز ذلك البعض لعدم لزوم ذلك على تقدير نفي الإمكان في زعمهم.
(وإثبات الوجوب بالذات وبالنير) وما عرفوا الإمكان والوجوب بالغير فإنه بعينه الإمكان (والمحقق بثبت الإمكان ويعرف حضرته و) يثبت (الممكن) ويعرف (ما هو الممكن) في حقيقته (ومن أين هو ممكن) أي ويعرف من أي سبب يكون متصفا بصفة الإمكان.
(و) يعرف (هو) أي الممكن (بعينه واجب بالغير) إلا أن الإمكان وصف له قبل الوجود وبعده والوجوب بالغير وصف بعد الوجود لا قبله.
(و) يعرف (من أين صح عليه اسم الغير الذي اقتضى ذلك) الغير (له) أي للممكن (الوجوب) فما وقع اسم الغير إلا لاحتياجه إلى الواجب بالذات (ولا بعلم هذا التفضيل إلا العلماء بالله خاصة) تأكيد لقوله و المحقق يثبت الإمكان.
(وعلى قدم شيث) أي أوردت هذه المسألة على آخر قصة (يكون آخر مولود يولد من هذا النوع الإنساني وهو حامل أسراره) من العطايا الأسمائية (وليس بولد بعده ولد في هذا النوع فهو خاتم الأولاد) الذكور .
كما أن شيث أول أولاد الذكور (وتولد معه أخت له) وهي خاتمة الأولاد الأنثي كما أن أخت شیث أول الأنثي (فتخرج قبله ويخرج بعدها) لابتداء الدورة على عكسها (يكون رأسه عند رجليها) لكون الأحكام في ذلك الزمان (لا استراحة) للطبيعة (ويكون مولده بالصين) لكونه أصعب الأمكنة .
فمولده فيه إشارة إلى أن في ذلك الزمان لا استراحة في وجه الأرض للمؤمنين (ولغته لغة بلده ويسري العقم في الرجال والنساء فيكثر النكاح من غير ولادة ويدعوهم) أي أهل بلده (إلى الله) أي إلى معرفة الله تعالى وهي العلم بالتجليات الأسمائية بالطريق الخاص من مرئية ختم الرسل .
كطریق مشايخنا رحمهم الله (فلا يجاب) دعوته لانقطاع الفيض الروحاني فيختم به الأسرار الشيثية فلا يطلب تحميل هذا العلم مؤمنو زمانه ولا يجيبون دعوته مع أنه لا يضر إيمانهم لأنهم وإن كانوا لا يجيبون لكنهم لا يردونه ولا ينكرونه لكون دعوته مطابقة لدينهم .
كما أن المؤمنين في زماننا الذين لم يجيبوا دعوة مشايخنا لا يضرهم يدل عليه قوله (فإذا قبضه الله وقبض مؤمني زمانه بقي من بقي مثل البهائم لا يحلون حلالا ولا يحزمون حراما ينصرفون بحكم الطبيعة شهوة مجردة عن العقل والشرع وعليهم تقوم الساعة) .
هذا الولد هو الولي الذي لا يستجاب دعوته يكون بعد ختم الولاية العامة وهو عيسى عليه السلام فمعنى قوله : لا ولي بعده أي الولي الذي يستجاب دعوته ويؤثر ولايته وينتفع الناس بكمالاته ومعارفه فلا ينافي ختميته ختم الرسل وجود عیسی بعده مع أنه نبي مرسل بعدم إحكام نبوته.
ومن قال: إن هذا الولد هو عيسى عليه السلام فقد أخطأ في الظاهر والباطن.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 10:07 am

03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الجزء الأول
03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية
(اعلم أن التنزيه عند أهل الحقائق) أي عند المطلعين بالحقائق الأسمائية (في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد) والله منزه عن التحديد والتقيد فنزه أهل الحقيقة عن التنزيه فهم ليسوا بمنزهين فقط، بل هم منزهون في مقام التنزيه والمشبهون في مقام التشبيه .
"ويقول محقق الكتاب :  ليس المراد بالشبيه والتنزيه هنا ما أراده المتكلمون عندما تحدثوا في الصفات الإلهية ونفوها و أثبتوها وعلى أي نحو أثبتها المثبتون أو نفاها النافون. بل المراد بها معنى آخر لم يسبق ابن عربي إليه سابق، وهو المعنى الوحيد الذي يتمشى مع نظريته العامة وهي بمعنى "الإطلاق" أو "التقيد".  فالله متزه بمعنى أنه إذا نظر إليه من ناحية ذاته فهو بتعالي عن كل وصف وكل حد وتقييد.
وهو بهذا المعنى غني عن العالمين يحيط بكل شيء ولا يحيط به شيء ولا علم ساري في كل موجود غير متعين في موجود دون آخر. فلا يصدق عليه وصف إلا الإطلاق وفي الإطلاق غاية تنزيهة."
فلا يمكن معرفة الحق من غير تحديد وتقييد (فالمنزه) فقط (إما جاهل) أي غير قائل بالشرائع كالفلاسفة ومقلديهم الذين ينزهون الحق بمقتضى عقولهم عن الصفات التي أخبر الحق عن اتصاف نفسه بها فهم ضلوا وأضلوا.
(وإما صاحب سوء أدب) أي قائل بالشرائع (ولكن إذا أطلقاه) أي التنزيه على الله تعالى (وقالا به) أي اعتقد بأن الله منزه عن الصفات الوجودية كالحياة والعلم والسمع والبصر وغير ذلك .
فغير القائل بالشرائع فهر الجاهل أي الكافر لا كلام فيه لظهور بطلانه لذلك ترلي هذا القسم (فالقائل) أي المعتقد (بالشرائع المؤمن) عطف بيان للقائل بالشرائع (إذا نزه ووقف عند التنزيه ولم ير غير ذلك) أي ولم يشبه في مقام التشبيه .
(فقد أساء الأدب وأكذب الحق والرسل وهو لا يشعر ويتخيل أنه في الحاصل وهو في الغائب وهو كمن آمن ببعض) الشرائع (و كفر ببعض ولا سيما) كالمعتزلة فإنهم أنكروا بعض الشرائع كصفات الله وبعض أمور الأخرة.
ولما قال ووقف عند التنزيه فقد أساء الأدب واكذب الحق و الرسل أراد أن يبين التشبيه والتنزيه حتى ظهر تكذيبه الحق والرسل فقال : (وقد علم) على البناء للمفعول (أن السنة الشرائع الإلهية إذا نطقت في الحق تعالی بما نطقت به) هذه الألسنة من التنزيه والتشبيه (إنما جاءت به في العموم على المفهوم الأول) يفهمه كل من يسمع ذلك اللفظ .
(وجاءت به على الخصوص)أي الخواص من المحققين جاءت به على كل مفهوم بفهم من وجود ذلك اللفظ بأني لسان كان سواء كان ذلك عربيا كالقرآن العظيم أو غير عربي كسائر الكتب المنزلة (في وضع ذلك اللسان) فبين الله للعباد كلها على حسب مراتبهم بألسنة الشرائع في حق نفسه من التنزيه والتشبيه فمن وقف عند التنزيه ولم ير التشبيه .
وهو آمن ببعض وكفر ببعض لكنه لا يشعر بذلك وهو معذور بذلك لذلك لا يكفر بل هو مؤمن عند أهل الظاهر والباطن لكونه معتقدا بالشرائع كلها في ظنه .
وإنما جاءت في عموم الناس على المفهوم الأول وعلى خصوصهم على كل مفهوم يفهم من وجود ذلك اللفظ (فإن للحق في كل خلق ظهورا) خاصة ظهور الحق في العموم غير ظهوره في الخصوص.
فتجلى الله تعالى في الكلام العزيز لعباده على حسب استعداداتهم فكلمهم على قدر عقولهم، فإذا كان للحق في كل خلق ظهورة خاصة (فهو الظاهر في كل مفهوم) أي في كل يفهم من اللفظ الذي نطق في حقه (وهو الباطن عن كل فهم) أي لا يفهم ظهوره في كل مفهوم (إلا عن فهم من قال إن العالم صورنه وهويته) أي إلا من عرف أن العالم بأعراضه مظهر صفاته و بجوهره مظهر ذاته فما في العالم شيء، إلا وهو دليل على صفاته ووحدانيته ذاته وفي كل شيء آية تدل على أنه واحد .
فإن من عرف هذا يظهر له الحق في كل مفهوم فتجلى الله له في كلامه كما تجلى له في عالمه (وهو) أي العالم مظهر (الاسم الظاهر كما أنه) أي كما أن الحق (بالمعنی روح ما ظهر فهو الباطن) والروح مظهر الاسم الباطن فإطلاق الروح على الحق مجاز (فنسبته لما ظهر) أي نسبة الحق إلى كل ما ظهر (من صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة) فحذفت صلة النسبة وهي إلى الصورة لدلالة الصورة عليها فإذا كانت نسبة الحي إلى صورة العالم نسبة الروح إلى صورته
فيؤخذ الحق (في حد الإنسان مثلا باطنه وظاهره) فإن حذ الإنسان مركب من الحيوان الناطق فكان بروحه مظهرة لاسمه الباطن وبصورة جسده مظهرة لاسمه الظاهر فعلم أن الحق هو الظاهر والباطن بدلالة حد الإنسان.
(وكذلك) يومئذ في حد (كل محدود) إذ ما من شيء إلا وله ظاهر و باطن (فالحق محدود) أي معلوم (بكل حذ) وهو على طريق الاستدلال من الأثر إلى المؤثر
قال الشيخ رضي الله عنه : (وصور العالم لا تنضبط ولا يحاط بها ولا يعلم حدود كل صورة منها) أي من صور العالم حد الحق (إلا على قدر ما حصل لكل عالم) بالحد (من صوره) أي من صور العالم (فلذلك) أي فلأجل عدم انضباط صور العالم لأنها جزئيات غير متناهية (بجهل حد الحق فإنه لا يعلم حده) من حيث مظاهره (إلا بعلم حد كل صورة وهذا) أي العلم بحد كل صورة (محال حصوله فحد الحق) الموقوف على المحال (محال) حصوله وليس المراد بالحد هو المصطلح عند علماء الرسول وهو المركب من ذاتيات المحدود تعالی عن ذلك .
وإنما المراد آثار أسمائه وصفاته يستدل بها على صفات الله تعالى وأسمائه على وجه التحديد والتعيين وإنما خصر عدم الانضباط إلى الصور دون المعاني لأن معاني المعالم أمور كلية منضبطة عند العقل لكن الصور أجزاء للحد فلا يحصل الحد بدون انضباطها.
(وكذلك من شبهه وما نزهه فقد قيده وحده وما عرفه) حق معرفته وهو كمن آمن ببعض
وكفر ببعض كالمنزه الواقف عند تنزيهه (ومن جمع في معرفته) أي في معرفة الحق (بین التشبيه والتنزيه ووصفه بالوصفين) أي التنزيه والتشبيه (على الإجمال) وإنما قال على الإجمالي (لأنه يستحيل ذلك) أي التوصيف بالوصفين (على التفصيل لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور فقد عرفه مجملا لا على التفصيل كما عرف نفسه مجملا لا على التفصيل) فما أمكن للإنسان في مقام توصیف الحق بالوصفين من العلوم إلا العلم الإجمالي.
(ولذلك) أي ولأجل كون الجمع بين التنزيه والتشبيه والوصف بهما سببا لمعرفة الله تعالى لا غير (ربط النبي معرفة الحق بمعرفة النفس. فقال "من عرف نفسه فقد عرف ربه) .
لأن باطن النفس الإنسانية تنزيه لكونه مخلوقا على صفة الله تعالی و ظاهرها تشبیه فمن جمع في معرفة نفسه بينهما ووصف نفسه بهما فقد جمع في معرفة ربه بينهما ووصف ربه بهما ونال بمعرفة نفسه درجة الكمال في العلم بالله تعالى.
قال رضي الله عنه : (وقال الله تعالى) أي ولأجل هذا قال الله تعالى: "سنريهم آياتنا "[فصلت: 33] .أي دلائلنا لهم على معرفتنا (في الآفاق) وهو راجع إلى الآفاق باعتبار كل فرد .
أي كل فرد فرد من الآفاق أو باعتبار ما بعده ما خرج عنك (وفي أنفسهم) أي وسنريهم آياتنا في أنفسهم (وهو) أي كل فرد من الأنفس (عينك حتى يتبين لهم أي للناظرين) فيهما (أنه) أي الله تعالى (الحق من حيث إنك صورته) أي صفته (و) ينين (هو) أي الحق (روحك) .
لأن ظاهر العالم تشبيه وباطنه تنزيه فمن جمع في معرفة العالم بينهما ووصف بهما فقد جمع في معرفة رب العالمين بينهما ووصل إلى درجة الحقيقة في رتب العلم فما يعرف الحق أحد إلا بالعالم آفاقا كان أو أنفسا (فانت له) بجميع أجزائك من الروح والجسد (كالصورة الجسمية لك) أي لروحك.
(وهو لك) في التدبير والتصرف فيك وفي الآفاق (كالروح المدبر لصورة جسدك والحد يشمل الظاهر والباطن منك) أي وحدك وهو الحيوان الناطق يشمل ظاهرك وهو صورة جسدك ويشمل باطنك وهو روحك المدبر لجسدك وإنما يشمل حد الإنسان ظاهره وباطنه (فإن الصورة الباقية) وهو جسده بعد مفارقة الروح (إذا زال عنها الروح المدبر لها لم تبق) هذه الصورة (إنسانا ولكن يقال فيها) أي في حق هذه الصورة.
(إنها صورة تشبه صورة الإنسان فلا فرق بينهما وبين صورة من خشب أو حجارة ولا ينطلق عليها اسم الإنسان إلا بالمجاز لا بالحقيقة) باعتبار مجاورة الروح مدة (وصور العالم) وإن كانت متبدلة لكنه.
قال رضي الله عنه : (لا يمكن زوال الحق عنها أصلا) أي لا يمكن أن يخرج عن حكومته وتصرفاته في حال الموت والحياة وحال التبدلات وانحلال التركيبات إلى الأجزاء وفي حال البقاء كما في الآخرة فإذا لم يمكن زوال الوهية الحق عن الممكنات في أي الأحوال كانت (فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز) إذ تحديده بالألوهية لا يمكن إلا بالمألوه .
فإن الأجساد الباقية بلا روح مأهولة له فحد الألوهية له ليس كحد الإنسان لعدم خلو المألوه عنه فلا يزال هذه بالألوهية عن الحقيقة أبدا وأما حد الإنسان فتارة يكون بالحقيقة كما إذا كان حيا، وتارة بالمجاز كما إذا كان ميتا (كما هو ).
عباره عن قوله : (حد الإنسان) ولم يرجع إلى شيء قبله إذا كان حيا أي كما أن حذ الإنسان حقيقة لا مجاز (إذا كان حيا) كذلك حد الحق بالألوهية حقيقة لا مجاز (وكما أن ظاهر صورة الإنسان يثني) أي يسبح (بلسانها على روحها ونفسها والمدبر لها) ولكن لا يفقه أحد تسبيح صورته إلا من تجلى الله تعالى له باسمه السميع .
وكما أن لكل واحد من أجزاء صورة الإنسان لسان خاص بثني به على مدبره .
كذلك الصورة المجتمعة من الأجزاء لها لسان خاص بثني به على مدبره وهذا التسبيح نابت لصورة الكافر لكن لا نفع له من ذلك التسبيح.
(كذلك جعل الله تعالی صور العالم تسبح بحمده ولكن لا تفقهون) أي لا ندر كون بسماعكم أي لا تسمحون كل واحد منكم بل البعض منكم لا يسمعون وهر أهل الحجاب والبعض الآخر وهو أهل الكشف يسمعون (تسبيحهم) أي تنزيه بعض الموجودات دون بعض ولا يسمعون من يسمع منكم تسبيح كل واحد من الموجودات.
(لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور) كله حتى نسمع تسبيح جميع الصورة فما كان السماع إلا لأهل الكشف وبقدر الإحاطة فقد وقع من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين سماع تسبيح الجمادات .
وكذلك في بعض أهل الكشف فسبح الله تعالى جميع الموجودات حية في الحسن كان أو غير حي بلسان عربي فصيح بلغة فصيحة تكلم تسبيحهم كما تكلم لسان فمنا تسبيح خاص بنا لا يكون هذا التسبيح لغيرنا .
يسمع تسبيحهم أهل الكشف كما نسمع تسبيح لأننا الظاهر وليس التسبيح بلسان الحال الذي يقوله أهل النظر لسان الحال أنطق من لسان المقال.
قال رضي الله عنه : (فالكل) أي جميع الموجودات (السنة الحق) محددة معرفة الحق (ناطقة بالثناء على الحق ولذلك) أي ولأجل أن الكل ألسنة الحق (قال الحمد رب العالمين أي إليه يرجع عواقب الثناء نهر المثني) من كل ألسنة (والمثنى عليه) بكل ألسنة فهو المثني على نفسه بلساننا لا نحن لأن لساننا لسانه وليس لنا لسان في الحقيقة حتى أثني عليه إذ استناد كل شيء ينتهي إليه.
(شعر : فإن قلت بالتنزيه) أي إن وقفت عند تنزيهك (كنت مقيدا) لله تعالى بالأمر العدمي (وإن قلت بالتشبيه كنت محددا) للحق بالصفات الثبوتية (وإن قلت بالأمرين) أي التنزيه والتشبيه (كنت مسددا).
أي ظفرت طريق الهداية (وكنت إماما في المعارف سیدا) لأجل تصديقك الرسل في كل ما جاؤوا به .
(فمن قال بالإشفاع) أي فمن ثبت عند التشبيه (كان مشركا) أي جعل غير الحق شريكا معه في وصفه وقد ذهل عن وحدة الحق الواجب علمها (ومن قال بالإفراد) أي ومن وقف عند التنزيه (كان موحدا) أي فقد جهل بكثرة أسمائه وصفاته فما عرف الحق حق معرفته.
ولما بين حال صاحب الجمع وحال المنزه والمشبه وكان المنزه فقط والمشبه فقط خارجا عن طريق الرسل حذر السالكين فقال : (وإياك والتشبيه إن كنت ثانيا) أي إن وصفت بصفات ثبوتية (وإياك والتنزيه إن كنت مفردا)
بكسر الراء أي لم تثبت معه غيره ثم رجع إلى بيان جمع التنزيه والتشبيه في أنفسنا فقال
(فما أنت هو) بتنزيه الحق عنك بسلب نفسك عنه من حيث بإمكانك وإحتياجك إليه (بل أنت هو) من حيث حقيقتك لأنك مخلوق على صفة الله تعالى: (وتراه) أي وأنت ترى الحق (في عين الأمور) أي في ذوات الأشياء (مسرحا) أي مطلقة (ومقيدا) أي منزها ومشبها بعين ما ترى في نفسك.
قال رضي الله عنه : (قال الله تعالى :" ليس كمثله شيء" [الشورى: ۱۱]) من حيث أنه غني عن العالمين (فنزه "وهو السميع البصير") من حيث أسمائه ومظاهر صفاته وهو يقتضي إثبات المماثلة في السمع والبصر (فشبه) هذا ناظر إلى زيادة الكاف (قال الله تعالی "ليس كمثله شيء")
من حيث ألوهيته وتعلق قدرته إلى مقدوراته (فشبه وثني "وهو السميع البصير" ) إذ لا غير حتى يشترك معه من حيث أنه كان الله ولم يكن معه شيء (فنزه وأفرد).
أي فنزه الحق عن عدم السمع وعدم البصر وأفرد فيهما بحيث لا اشتراك لغيره فيهما هذا ناظر إلى عدم الزيادة .
وإنما كان قوله تعالى : "وهو السميع البصير" [الشورى : 11] تشبيها في الأول وبالعكس في الثاني .
وكذا قوله تعالى : "ليس كمثله شيء" تنزيها في الأون وبالعكس في الثاني .
لأن المراد بالتنزيه والتشبيه كلامان متغايران بالإيجاب والسلب مع اتحاد الموضوع والمحمول من جهة تغايرهما من جهة أخرى.
فأيهما سبق في حق الحق يقتضي تعقيبه بالآخر بلا نصل شيء خارج عنهما لوجوب اجتماعهما لكون أحدهما في المعنى جزءا من الآخر فلا يمكن حمل قوله في الموضعين على التنزيه مع وجود أداة الحصر فيهما .
وهما الضمير واللام في الخبر لئلا بفوت الجمع فما أنزل الله تعالى في حق نفسه كلاما إلا وهو على طريق الجمع ولا يخفى على من اطلع معاني كلام رب العزة وأسراره .
ولما أتم البيان في التنزيه والتشبيه أورد ما جاء من آيات القرآن العظيم في حق نوح عليه السلام وقومه ليظهر فضل القرآن على سائر الكتب المنزلة .
وبين ما قال إن ألسنة الشرائع الإلهية إنما جاءت في حق العامة على المفهوم الأول وعلى الخصوص على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ .
فقال رضي الله عنه : (ولو أن نوحا جمع لقومه) أي لقومه الذين لم يجيبوا دعوته إذ القوم الذين أجابوه لا يحتاج في حقهم إلى الجمع (بين الدعوتين) أي دعوني التنزيه والتشبيه (لأجابوه) من كان شانه قبول الدعوة ولم تف الدعوة بدون الجمع ولو جمع لهذا الطائفة أجابوا دعوته لا بمعنى أنهم أجابوا كلهم .
كما أن رسول الله تعالی جمع بين الدعوتين ولم يجب من لا استحقاق لقبول الدعوة كأبي جهل وأضرابه .
فظهر أن الجمع لا يوجب إجابة الدعوة مطلقا ولم يفعل نوح عليه السلام كذلك لأنه لم يؤت بجوامع الكلم (فدعاهم جهارا) أي ظاهرا وهو دعوته قومه إلى الحق بالتشبيه.
(ثم دعاهم أسرارا) أي باطنا وهو دعوته بالتنزيه فقد دعاهم بالتنزيه والتشبيه لكنه لا على طريق الجمع لذلك أورد بثم المقتضي للتأخير والتراخي.
(ثم قال لهم) بعد الدعوة ("استغفروا ربكم" سورة هود : 3) .
يعني لما علم نوح منهم أنهم لا يجيبون دعوته أبدا ولا يصلون إلى المعارف الحاصلة من الإجابة وعلم أن طريق وصولهم إلى ما يدعو إليه قومه لا يكون إلا بالاستهلاك يدعوهم به ليحصل لهم هذا المقام فقال :
"استغفروا ربكم" أي اطلبوا ستر وجوداتكم بظهور الحق بالصفة النهارية حتى يحصل لكم الوصلة إلى الحق باستهلاككم فيه لعدم قابليتكم واستعدادكم إلى حصول كمالكم بغير هذا الطريق وهو الهلاك فإذا هلكوا فقد وصلوا كمالهم.
لكن لا يجديهم نفعا لعدم وقوعه في أوانه (أنه) أي الله تعالى (كان غفارا) أي ستارا لمن طلب الستر.
فدعاهم بثلث دعوات إلى الباطن وهو التنزيه وإلى الظاهر وهو التشبيه وإلى الفناء في الله تعالى وهو " استغفروا ربكم" ولم يف استعدادهم بقبول الإجابة بلبيك فقبلوا دعوته بالفعل وإن لم يعرفوا نبولهم وهو إفناء وجوداتهم في الله تعالى لذلك أغرقوا بالطوفان وقال: رب إني (دعوت قومي) أي أخبر عن دعوته قومه (ليلا ونهارا) أي تنزيها وتشبيها (فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) صلة الفرار محذوفة للعموم وهي من وإلى إذ الفرار حركة لا بد له من البدء والغاية فكان المعنى في حق الخواص إلا فرارا من وجوداتهم إلى الله تعالى.
أي تركوها ووصلوا إلى الله تعالی نكان ابتداء الفرار وهو الستر من وجوداتهم وذواتهم وغايته الحق .
فكان هذا الكلام منه في حقهم مدحا وثناء لازمة يفهمه العلماء بالله .
وكذلك في حق العامة مدح لكون ابتداء فرارهم من ذنوب أنفسهم وانتهاؤه إلى جناب الحق بحسب مراتبهم وأما في حق قومه من المشركين فذم لـ فرارهم من الحق إلى اللذات الحسية.
(وذكر عن قومه أنهم تصاموا عن دعوته لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته)
قال رضي الله عنه : (فعلم العلماء بالله تعالی ما أشار إليه نوح عليه السلام في من قومه من الثناء عليهم بلسان الذم) أي كل واحد من العلماء من أي أمم كانوا ممن سمع كلام نوح عليه السلام من أي لسان كان علموا من وجوه نظم كلامه .
فإن هذا الثناء دعاء عليه في حق بعضهم بالمفهوم ودعاء له في بعضهم بالإشارة كما سنذكره.
(وعلموا) أي العلماء بالله تعالى أضمر الفاعل للعلم به (أنهم إنما لم يجيبوا دعوته) بالقول (لما فيها من الفرقان) بين التشبيه والتنزيه (والأمر) أي الدعوة الموجبة للإجابة (قرآن) أي جمع بين التنزيه والتشبيه (لا فرقان ومن أقيم) من الله تعالی
(في القرآن) أي في مقام الجمع الأسمائي كنبينا محمد صلى الله عليه وسلم (لا يصغي) أي لا يميل في دعوة أمنه (إلى الفرقان) .
أي إلى القوم الذي لا جمع فيه أي لا يدعو أمنه إلا بالجمع بين التنزيه والتشبيه لأجل عدم إقامة نوح عليه السلام في القرآن أي في الجمع الاسماني لا يدعو قومه به بل بالقول الفرقاني (وإن كان فيه).
أي وإن الفرقان في القرآن (فإن القرآن يتضمن الفرقان) لكون الفرقان جزءا من القرآن (والفرقان لا يتضمن القرآن) لوجود الجزء بدون الكل والمراد من القرآن والفرقان أعم من أن يكون تولية أو مقامية فإن مرتبة محمد عليه السلام قرآني متضمن أي جامع لجميع المراتب الفرقانية من الأنبياء وغيرهم .
كما أن القرآن القولي متضمن لجميع الفرقان القوني من الكتب المنزلة (ولهذا) أي ولكون القرآن يتضمن الفرقان (ما اختص بالقرآن إلا محمد عليه السلام) لكونه متضمنا لجميع الفرقان المرتبي فما أنزل الله تعالى القرآن إلا إلى القرآن .
(وهذه الأمة التي من خير أمة أخرجت للناس) أي اصطفيت وفضلت بأن يكونوا أمة لهذا النبي لقربهم إليه في المرتبة القرآنية (فليس كمثله شيء فجمع) محمد عليه السلام (الأمر) أي التنزيه والتشبيه (في أمر واحد) أي في كلام واحد .
(فلو أن نوحا أنه بمثل هذه الآية لفظة أجابوه) لفظا (فإنه) أي النبي عليه السلام (شبه ونزه في آية واحدة) وهي قوله تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ". سورة الشورى : 11.
(بل) شبه ونزه (في نصف آية) وهو ليس كمثله شيء. لذلك قبل دعوته وكثر أمته يوما فيوما إلى يوم القيامة .
قال رضي الله عنه : (ونوح دعا قومه ليلا) إلى التنزيه (من حيث عقولهم وروحانيتهم فإنها) أي العقول (غيب) لا يكون الدعوة إلى مقام التنزيه إلا بها .
(ونهارا) إلى مقام التشبيه (دعاهم أيضا من حيث صورهم وجثثهم) فإنها ظاهر موجب للتشبيه (وما جمع في الدعوة بينهما مثل "ليس كمثله، شيء" فنفرت بواطنهم) أي عقولهم وقلوبهم .
(بهذا الفرقان) و لخشونة طبعهم المانعة للإجابة (فزادهم فرارا) فظهر الفرق بين المقام المحمدية والنوعية .
لأن دعوة محمد عليه السلام علة تامة مؤثرة موجبة للإجابة وأما دعوة نوح عليه السلام فليست علة تامة مؤثرة بل هي جزء من علة مؤثرة .
لذلك أسند الشيخ عدم إجابتهم ونفرتهم إليها فكان نوح على النصف من الدعوة .
لذلك لم يؤثروكم بين دعوة محمد صلى الله عليه وسلم  ودعوة نوح عليه السلام. فالمقصود بيان تفاوت المراتب فمقام نوح عليه السلام مرتبة من المراتب الإلهية ومر التنزيه يظهر منه الأحكام الإلهية بمقتضى مرتبة من غير نقص منها ولا زيادة عليها .
على أن الزيادة نقص .فعدم الجمع كمال بالنسبة إليه .والجمع نقص بالنسبة إلى مرتبته ومقامه. وهو تفضيل التنزيه إذ لا تفضيل في الجمع .
فلو أتي بالجمع فقد نقص عن مقامه لعدم إتيانه بالتنزيه على وجه التفضيل كما أن محمد عليه السلام لو لم يأت بالجمع لنزل عن درجته .
فمعنى قوله لو أن نوحا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه أي لو كان مرتبة نوح عليه السلام مقام الجمع لأجابوه فزال توهم النقص .
العقول الضعيفة فلو جاء محمد صلى الله عليه وسلم في زمن نوح وغيره من الأنبياء عليه السلام لأجاب قوم هذا الزمان لجمعه بين الدعوتين.
(ثم قال عن نفسه) أي ثم أخبر عن دعوته قومه (أنه دعاهم ليغفر لهم) أي ليستر لهم الحق حقيقة الأمر (لا ليكشف لهم وفهموا ذلك منه) أي قصد نوح عليه السلام من دعوته.
(فذلك) أي لأجل فهمهم معنى الدعوة (جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وهذه كلها صورة السر التي دعاهم إليها) هذا هو المعنى الذي يفهمه الخواص (فاجابوا دعوته بالفعل لا بلبيك ففي " ليس كمثله شيء" إثبات المثل ونفيه) عند أهل الله تعالى لأن وجود المماثل عندهم اشتراك الغير في وصفه تعالى فكان الكاف حينئذ عندهم على تقدير عدم الزيادة لإثبات المثل في صفة لا لغيره .
وما هذا إلا وهو بعينه مذهب أهل الشرع لذلك أورد الدليل عليه بقوله : (وبهذا) أي بسبب كون إثبات المثل ونفيه في " ليس كمثله شيء". (قال) أي أخبر (عن نفسه) عليه السلام (أنه) أي الرسول (أوتي جوامع الكلم) وهو قوله: "أوتيت جوامع الكلم" يعني ما أنزل الله تعالى علي في حق نفسه أية بل نصف آية إلا وهي جامعة بين التنزيه والتشبيه .
ومن جملتها قوله تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " الشورى : 11 . فإذا أوتي جوامع الكلم (فما دعا محمد عليه السلام قومه ليلا ونهارا) أي تفريقا بين الجمع (بل دعاهم ليلا في نهار ونهارا في ليل) . أي دعاهم بالجمع بين الدعوتين.
قال رضي الله عنه : ( (فقال نوح في حكمته لقومه) أي أشار نوح عليه السلام إلى قومه في حكمة دعوته قرمه ويزيل الماء به أي يرسل الله من عالم الأرواح عليكم (مدرارا وهي) أي المدرار (المعارف العقلية في المعاني) المعقولة.
(والنظر الاعتباري) أي المدرار هي النظر في الأشياء للاستدلال بها على وجود الصانع (ويمددكم بأموال أي بما يميل بكم إليه) أي ويمددكم الحق بسبب تجلي جمالي جاذب بكم إلى الحق.
(فإذا مال بكم) أي جعلكم موجها إلى جناب الحق وهي التجليات الجاذبة إلى الحق (إليه) أي إلى الحق (رأيتم صورتكم فيه) أي في الحق (فمن تخيل منكم أنه راه)، أي الحق (فما عرف ومن عرف منكم أنه رأى نفسه فهو العارف فلهذا انقم الناس) من أهل الكشف.
(إلى عالم غير عالم) كما مر في الفص الشيثي وهذا كله يستفاد من وجوه الكلام بند به حمه الخواص (وولده) أي المراد من قوله وولده (هو ما أنتجه لهم نظرهم الفكري) أي العلوم الحاملة لهم بنظرهم الفكري (والأمر) أي ما دعا إليه نوح عليه السلام (موقوف علمه على المشاهدة بعيد عن نتائج الأفكار) فهم عصوه واتبعوا إلى نتائج أفكارهم وكانوا محرومين عن حكمة دعوته لعدم علمهم ما أشار إليه نوح عليه السلام ولعدم حصول هذا العلم بنظرهم الفكري قال رضي الله عنه : (إلا خسارا) إلا ضياعا من عمرهم لصرفهم بما لا ينبغي لما أن في زعمهم.
أن نظرهم الفكري وصل إلى الحق وصرفوا عمرهم في ذلك وما عرفوا أن حكمة دعوته لا بحصل بذلك وما عرفوا زوال ما في أيديهم من الملك الذي يتعلق به نظر هم الفكري (فما ربحت تجارتهم) وما كانوا مهتدين بما يدعوهم نوح عليه السلام إليه (فزال عنهم) بالطوفان (ما كان في أيديهم مما كانوا يتخيلون أنه ملك لهم) وما سبب تخيلهم إلا عدم علمهم ما أشار إليه نوح عليه السلام في دعوته من المفهوم الثاني وقصرهم بمقتضى عقولهم على المفهوم الأول وتصرفهم بنظرهم الفكري ولم يعتبروا بنظر الاعتبار .
وكانوا بعيدا عن طريق المشاهدة بذلك فإياك أن تقتصر كلام الله تعالى وكلام الرسول على المفهوم الأول فإن الأمر ما كان على طريق المشاهدة لا على طريق النظر ألا ترى قوم نوح عليه السلام كيف كان حالهم لصرفهم ما جاء نبيهم على المفهوم الأول بمقتضى عقولهم.
فلا يعرفون أن ما في أيديهم ليس بملك لهم لاتباعهم نظرهم فضلوا عن طريق الهدى وهو طريق المشاهدة.
(وهو) أي ما كان في أيديهم من الملك ليس بملك لهم حقيقة بل هو ملك لله وهم مستخلفون فيه ولم ينكشف لهم حقيقة الأمر ويدل على ذلك ما جاء (في المحمديين) أي في حق هذه الأمة (وأنفقوا مما جعلكم) الله (مستخلفين فيه).
فأثبت الملك لنفسه والوكالة لهم لكونهم عالمين الأمر على ما هو عليه في نفسه فأنزل الله كلامه في حقهم على الحقيقة (وفي نوح عليه السلام :" ألا تتخذوا من دوني وكيلا" [الإسراء: 2] فأثبت الملك لهم والوكالة الله فيه) أي في الملك فأخرج الله كلامه في حقهم على تخيلهم لا على الحقيقة فلما مكروا الله مكر الله معهم.
والمحمديون لما عرفوا بالكشف صدقهم الله وما مكر معهم في أن ما في أيديهم من الآلات البدنية والأولاد والأموال ليس ملك لهم (فهم مستخلفون فيه) أي فيما في أيديهم (فالملك لله) في الحقيقة (وهو وكيلهم فالملك لهم) أي الحق وكيل المحمديين والملك حينئذ لهم لأنهم لما جاء في حقهم "وأنفقوا".
فقد أثبت التصرف لهم في ملك الحق، ولما أخبر الله بهم عن معاملته مع قوم نوح عليه السلام بقوله: ألا تتخذوا وكيلا دعاهم إلى طريق المشاهدة .
وفي حق المحمديين معناه : استخلفوني فيما كنتم مستخلفين فيه و اتركوا تصرفكم في ملكي من الإنفاق وغيره . وأثبتوا إلى التصرف كما أثبت لكم .
بقولنا: وأنفقوا فإن ذواتكم وصفاتكم وأفعالكم كلها في الحقيقة وأنتم مستخلفون فيها فهو مالك الملك كلها .
وهو عزل الوكيل فكانت هذه الآية مكرا في قوم نوح عليه السلام وأمرا في حقنا إلى الفناء في الله فجاء المستخلف في حقنا صريحا بفتح اللام وضمنا بكسر اللام فنحن جعلنا الحق مستخلفة بفتح اللام بأمر الله تعالى بإثبات الملك كله لله في ضمن قوله تعالى: "ألا تتخذوا" فكنا وكيله . بقوله : "وأنفقوا" وكان وكيلنا بقوله : "ألا تتخذوا" مجازاة لنا وأما لهم فلا، لأن هذه الآية ما جاءت في حقهم إلا لإثبات الملك لهم والوكالة لله على زعمهم .
فالحق لا يكون وكيلا منهم إذ الوكالة باستخلاف الموكل فهم لم يجعلوا الحق مستخلفا فيما بين أيديهم فظهر أن الضمير في قوله: وكيلهم يرجع إلى المحمديين.
وبعضهم قال : يرجع إلى قوم نوح عليه السلام وهو صحيح لكن الأول أنسب بالمقام وهذا هو المعنى الذي يفهمه العلماء بالله .
لذلك نصبوا أنفسهم بأمر الله تعالى لإرشاد العباد إلى مثل هذه المعاني الشريفة والعلوم الحقيقة من لطائف القرآن وأسراره التي لا يحصل إلا بطريق التصفية. (وذلك) أي كون الملك للمحمديين والحق وكيلهم أو كون الملك لقوم نوح عليه السلام والحق وكيلهم على تقدير إرجاع ضمير وكيلهم إلى قوم نوح عليه السلام أو قوله : "ألا تتخذوا من دوني وكيلا" [الإسراء:2].
(ملك الاستخلاف) وهم الذين جعلوا الحق مستخلفا في ملك الحق الذين جعلهم الحق مستخلفين فيه وهذا هو معنى ملك الاستخلاف الذي يسر الله لعباده الكمل وهم الذين أفنوا أفعالهم وصفاتهم وذواتهم كلها في الله ولم يروا شيئا لأنفسهم حتى تعرفوا فيه فتركوا الحق ينصرف لهم في ملكه.
قال رضي الله عنه : (وبهذا) أي وبسبب ملك الاستخلاف (كان الحق مالك الملك كما قال الترمذي) إذ الموكل ماله التصرف في الوكيل بجعله وكيلا فكان الحق مالكة لملكه في اصطلاح أهل الله في ملك الاستخلاف. (ومكروا) أي قوم نوح عليه السلام بنوح (مكرا كبارا لأن الدعوة) أي دعوة الأنبياء (إلى الله تعالی مكر بالمدعو) أي قومه "يقصد قوم نوح عليه السلام" .
(لأنه) أي الله تعالى وهر المدعو إليه (ما عدم من البداية) وهي ما يعبدون من الأصنام إذ لا ينكر أحد وجود الحق وربوبيته وإنما وقع الغلط في تعيينه وإضافة ربوبيته فبعضهم أضائها إلى أنفسهم وبعضهم إلى الأصنام أو غير ذلك والأنبياء يدعون قومهم من هؤلاء وهي البداية فلا عدم الحق من هؤلاء (فيدعى إلى الغاية ادعو إلى الله) وهو معبود بالحق
(فهذا) أي الدعوة من البداية إلى الغاية ذكر الإشارة باعتبار القول (عين المكر على بصيرة) لعلمهم ما يدعونه فكانت دعوة الأنبياء وإن كان مكرا لكونها على بصيرة حق واقع.
(فنبه) يعني لما دعا نوح عليه السلام قومه من البداية إلى الغاية نبه (أن الأمر له كله) لكون دعوته يشير ذلك وهو "استغفروا ربكم" حيث أضاف الرب إلى كل واحد منهم أي استروا كل واحد منكم ربكم الخاص بكم فشبه أن هوية الحق بالربوبية سارية في كل موجود و مكروا بسبب ذلك
(فأجابوه مكرا كما دعاهم) يعني لما نبه نوح عليه السلام في دعوته لقومه (مكرا) أجابوه مكرا كما دعاهم جزاء عن مكره .
لأنه وإن دعاهم إلى الله من حيث أسمائه لكنه نبه في دعوته ثبوت الحق في كل موجود فكانت الدعوة من حيث الأسماء مختفية مستورة بهذا التنبيه .
فلما علموا منه ذلك مكروا فقالوا: فالحق معنا ومع أصنامنا فنحن على دعوتك لم تركنا أصنامنا بل نعبد الحق في صورة أصنامنا .
لكون الحق ظاهرة في أصنامنا فلم يعلموا دعوة النبي بسبب التنبيه فأجابوا مكرا.
قال رضي الله عنه : (فجاء المحمدي) للدعوة والمراد محمد عليه السلام وإنما جاء بياء النسبي إشارة إلى أن الداعي هو الروح الظاهر في صورة الجسد المحمدي وهو الروح الجزئي المنسوب إلى الروح الكلي لا الروح الكلية المحمدية .
(وعلم) هذا المحمدي قبل أن يؤمر بالدعوة (إن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته وإنما هي من حيث أسمائه) فصدقه الله فيما علم.

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 10:16 am

03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الجزء الثاني

03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية
(فقال يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا فجاء بحرف الغاية وقرنها بالأسم فعرفنا أن العالم كان نحت حيطة اسم إلهي أوجب) ذلك الاسم (عليهم) أي على أهل العلم كله (أن يكونوا) أي أهل العالم (متقين) أي حافظين محترزین عبادة غير هذا الاسم الإلهي من الأسماء التي تحت حيطة .
فما م?ر قوم محمد عليه السلام معه لانعدام موجب المكر وهو التنبيه في الدعوة إلى هوية الحق فدعا قومه إلى الله من حيث أسمائه بلا تنبيه إلى هويته.
فما مكر في الدعوة حتى أجابوه مكرا بخلاف دعوة نوح عليه السلام ولو دعا قومه بمثل هذه الدعوة لأجابوه بلا م?ر وكم بين الدعوتين .
وما علم الدعوة مثل ما علم محمد عليه السلام فلا يدعو مثل ما دعاه محمد عليه السلام فكانت إجابة كل قوم بحسب دعوة نبيه (فقالوا) بعضهم لبعض (في مكرهم) مع نوح عليه السلام: ("وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) ") [نوح: 23] كل ذلك أسماء الأصنام والآلهة شاملة لها .
وإنما قالوا ذلك (فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء) وإنما لزمهم الجهل من هذا الترك لأنهم حصروا التقريب إلى الله والعلم به في الأصنام لذلك قالوا: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله" [الزمر: 3]. فليس في شأنهم عرفان بغير هذه الطريقة فلم يقبلوا دعوة النبي البتة حذرا عن الجهل.
(فإن للحق في كل معبود وجها) و هو اسم جزئي من أسماء الله داخل تحت حيطة الاسم الجامع بربه ذلك المعبود (يعرفه) أي وجه الحق (من عرفه) أي الحق وهو مرتبة الكاملين .
(ويجهله) أي الوجه (من جهله) أي الحق وهم لا يعرفون الحق ولا الوجه لكنهم قالوا ذلك عن جعل مكرا معه .
وإنما قال في كل معبود ولم يقل في كل موجود مع أن وجه الحق لا يختص بالمعبود إشارة إلى أن كل موجود معبود إما بشخصه أو بنوعه أو بجنسه .


فما جاءت في حقهم الدعية من عبادة الأرباب الجزئية إلى الاسم الجامع. وجاء ذلك (في المحمديين "وقضى ربك") [الإسراء: 23] . فإن رب محمد هو الاسم الجامع ("ألا تعبدوا إلا إياه") [الإسراء: 23] .
أي حكم بالعلم الأزلي أن العبادة في أي معبود ?انت لا يكون إلا إياه إلى غيره في الحقيقة .
وإن كان إلى غيره صورة فكانت العبادة في صورة الأصنام إلى الله تعالى حقيقة وإلى الأصنام صورة بالنص الإلهي.
لكن مثل هذه العبادة غير مقبولة عند الله بالنص الإلهي كما إن العبادة لا تكون إلا لوجه الله تعالى بالنص "فأينما تولوا فثم وجه الله" البقرة : 115. 
لكن الصلاة لا يجوز بالنص إلا بالتولي إلى الكعبة فما جاء نوح عليه السلام بمثل هذا الحكم حتى لا يعبد قرمه الأسماء الجزئية فإن ربوبية الرب بحسب مربوبه (فالعالم بالله) أي بالاسم الجامع (يعلم من عبد) بضم العين (وفي أي صورة ظهر حتی عبد) فإنه يرى الوجه المطلق أي الاسم الجامع في الوجه الخاص يعبده فيه.
وأما الجاهل فعبادته عن جهله ولا يعلم أي شيء يعيده (و) يعلم (أن التفريق والكثرة) الأسمائية بالنسبة إلى الاسم الجامع وهو قوله : "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " [الإسراء: 110].
(كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية) يعني أن جميع الأسماء والصفات أمور مجتمعة في حضرة الذات الإلهية ?إجتماع أجزائنا في صورنا المحسوسة و كاجتماع قوى أرواحنا في صورنا من العقل والوهم والمفكرة وغير ذلك فمن شاهد حضرة الجمع فقد شاهد فيها جميع الأسماء مجتمعة وعبد جميعها من حيث الجمعية لا من حيث الانفراد .
فإنه لا يصلح أن يكون معبودة فإن كان كثرة الأسماء بالنسبة إلى حضرة الجمع متصلة كأعضائنا لا أمورا منفصلة (فما عبد غير الله في كل معبود).
لأن الأسماء حينئذ عين المسمى من وجه ولا يعرف هذا إلا من عرف الحق بالمشاهدة فإذا كان العبادة في كل معبود إلى الله لا إلى غير الله تعالى .
قال رضي الله عنه : (فالأدني) كانت مرتبة العابدین متفاوتة أي فأدني العابدین مرتبة (من تخيل) بالبناء للفاعل (فيه) أي في معبوده (الألوهية).
يعني لا يعلم يقينا أنه مظهر للاسم الإلهي ولا يصدق أنه إله بل تخيل (فلولا هذا التخيل ما عبد الحجر ولا غيره) إذ لا سبب للعبادة لمثل هذا غير التخيل لأنه جماد لا تأثير له بشيء أصلا يعلم عابده أنه ليس بآلة فما عبد الحجر إلا للتخيل (ولهذا) أي ولأجل كون عبادة الحجر للتخيل لا لغيره (قال الله تعالى لنبيه إلزاما) للعابدين إليه (قل سموهم فلو سموهم السموهم حجرا أو شجرة أو كوكبة ولو قيل لهم من عبدتم لقالوا "نعبد إلها" ) بالنكرة لعدم علمهم ربهم إلا بالتخيل .
وزعمهم أن الأرباب متفرقة لا مجتمعة في الحضرة الواحدية المعبودة لكل العابدین (ما كانوا يقولون) نعبد (الله ولا إلا إله) فلو لم يتخيلوا الألوهية لقالوا عند السؤال نعبد الله تعالى أو نعبد الله تعالى أو نعبد الإله بالاسم الجامع المعرف والمعين للمعبودية للكل.
فإذا قالوا إلها بالنكرة المجهولة علمنا أنهم ما عبدوهم إلا لتخيل الألوهية (والأعلى) أي وأعلى العابدین (ما تخيل) أي لا يتخيل الألوهية فيه (بل قال هذا مجلي إلهي ينبغي تعظيمه) على كل أحد كما إذا سئلنا: لم صلیتم إلى الكعبة.
قلنا: هذه أعظم مظهر من المظاهر الإلهية فعظمناها لأجل ذلك فأما عبادتنا فلا يكون إلا لله في أي مظهر ?ان لا من حيث كونه في ذلك المظهر (فلا يقتصر) هذا العابد عبادته للحق في مظهر دون مظهر بل يعبده من حيث ظهوره في جميع المظاهر لعلمه بالله وبأسمائه .
(فالأدنى) أي أدنى العابدین (صاحب التخيل) عطف بيان إذا سئل وقيل : إذا كان حجرة لأي شيء عبدتم (يقول) في جوابه ("ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" [الزمر: 3]) وهم المشركون أي قربا.
(والأعلى العالم) بخبر عن مشاهدته على ما كان عليه الأمر مخاطبة لصاحب النخيل (ويقول: "إنما إلهكم إله واحد" [النحل: 22]) ظاهر في جميع المظاهر لا إلهة متعددة متفرقة (فله أسلموا) أي انقادوا واعبدوا (حيث ظهر) أي في أي مظهر ظهر لا إلى غيره .
إذ لا إله غيره حتى يعبد فلا تقتصروا مظاهره إلى أصنامكم واعلموا أن جميع الأشياء كلها مظاهره واعبدوه من حيث ظهوره في جميع المظاهر.
ولما فرغ عن ذكر ما وجب عليه أراد أن يشرع إلى بيان إشارات نوح في دعائه لقومه وأورد آية مناسبة لما قبلها في المعنى ليبني عليها بيان إشاراته ("وبشر المخبتين" الذين خبت نار طبيعتهم) أي طفئت .
(فقالوا إلها ولم يقولوا طبيعة) يعني كانت طائفة من عباد الله طفئت نار طبيعتهم بحيث لا يصدر منهم من الآثار الطبيعية شيء فظهر لهم من كل طبيعة الصفات الإلهية والأنوار الذائبة فغابوا عن طبائع الأشياء ولم يميزوا الإله.
والمألوه ولم يروا المألوه ولم يدركوا الطبائع فإذا سئلوا عنها أخبروا عن ما شاهدوه من آثار الألوهية فقالوا : "إلها" ولم يقولوا طبيعة أي حجرا أو شجرا أو غير ذلك من الطبائع.
ولا يقولون مجلي إلهي ينبغي تعظيمه إذ لم يروا غير الإله شيئا يغلبه تجلي الذات حتى أخبروا عن أسمائها .
وإذا قالوا : "إلها" أشار نوح في دعائه لقومه إلى هذه الطائفة الشريفة وجمع في الدعوة مع قومه للمناسبة الصورية بينهما في إسناد الألوهية إلى الطبائع فدل دعاؤه بالمفهوم الأول على المشركين . و بالمفهوم الثاني على هذه الطائفة الشريفة .
يعني هذه الدعوة تدل على كليهما بحسب الدلالتين فلما لم يقل المخبتون الطبيعة بل قالوا إنها (وقد ضلوا كثيرا) أي المحجوبين من أهل العالم كإضلال من يعبد الأصنام بقولهم: "لا تذرن آلهتكم" [نوح: 23].
(أي حيروهم) أي أعطاهم حيرة الجهل بقولهم إلهة (في تعداد الواحد بالوجوه والنسب) فلا يعلمون أن إلههم واحد حقيقي والكثرة والتفرقة كأعضائنا في صورنا المحسوسة فتحيروا في علمه فوقعوا في حيرة بسبب استماع كلامهم.
فكانوا أي المختبين ظالمين بوجهين ظلم لأنفسهم بإطفاء مقتضيات أنفسهم من الهوى بالمجاهدة وظلم لغيرهم بإيقاعهم في حيرة الجهل بسبب قولهم إلها، ولم يقولوا طبيعة.
فدعى لهم نوح بذلك على زيادة حيرتهم بالعلم بقوله: ("ولا تزد الظالمين" [نوح: 28] أنفسهم ) فكل المراد من الظالمين في دعاء نوح هم الظالمون في قوله : فمنهم ظالم لنفسه .
لذلك وصف بقوله : (المصطفين "الذين أورثوا الكتاب") [الشوری: 18].
وهو قوله : "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)" سورة فاطر.
(فهم) أي الظالمون لأنفسهم أكمل الناس وأعرفهم فأشار نوح عليه السلام في دعائه لقومه بلسان الدم إلى هذه الطائفة فقال : "ولا تزد الظالمين " (إلا ضلالا إلا حيرة) في العلم حتى لا يقولوا: إلها ولا يحيروا القوم في تعداد الواحد بالوجوه .
فدعاء نوح عليه السلام لهذه الطائفة ازدياد التحير في العلم بالله تعالى بصورة الضلال وهو ما دعي به (المحمدي) بقوله :( زدني فيك تحيرا) فإن ازدياد التحير في الله تعالى لا يكون إلا عن زيادة علم وهو في حق الظالمين لأنفسهم من أمة محمد عليه السلام بلسان المحمدي .
وجاء ما أشار نوح عليه السلام في حق قوم موسى في قوله : ( لما أضاء لهم ) أي كلما تجلى الله تعالى لهم باسمه النور ("مشوا فيه") أي ذهبوا علما بسبب ضياء هذا النور إلى حضرة جنابه .
قال رضي الله عنه : ("وإذا أظلم عليهم" ) أي إذا قبض منهم ضياءه وخفي عليهم لظهور التجلي الجلالي عليهم ("قاموا") حیاری فكلما ازداد علمهم ازدادت حيرتهم هكذا حالهم إلى آخر عمرهم كان ذلك أول الثلاثة من كل أمة لا تختص أمة دون أمة.
فلما انجر كلامه إلى الحيرة وكان مقام الحيرة أعلى المقامات وأشرفها شرع إلى بيان مرتبة الحائر وأحواله فقال : (فالحائر له الدور والحركة الدورية حول القطب) وهو الذي مدار الوجود عليه وهو الحقيقة المحمدية قطب العالم فالوجود دوري فإذا دار الحائر حول القطب (فلا يبرح منه) أي لا يزال ولا ينفك من القطب لأنه أينما تولى يرى وجه الله تعالى في دائرة الوجود ويرى أن مطلوبه معه في كل موجود وهو مقام الواصلين من أهل الله تعالى
قال رضي الله عنه : (وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود طالب ما هو فيه) أي نفسه في خارج وزعم أنه يوصل إلى مطلوبه مجردة عن المظاهر نهر صارف عمره فيما لا يمكن حصوله (صاحب خيال إليه) أي إلى الخيال (غايته) فهر وأصل إلى ما يتخيله نفسه لا إلى مطلوبه (فله) أي لصاحب الطريق المستطيل (من وإلى وما بينهما) أي له ابتداء وانتهاء ومسافة فابتداؤه من نفسه وانتهاؤه إلى خياله ومسافته ما بينهما .
فلا يصل إلى مطلوبه بهذا الطريق وهو الطريق العابدين من أهل الظاهر فهم ليسوا من الحائرين الذين نحن في بيانه (وصاحب الحركة الدورية لا بدء له) في حركته (فيلزمه) من نصب بإضمار أن (ولا غاية له) لمشاهدة مطلوبه في كل مظهر ولا نهاية للمظاهر فلا غاية لصاحب هذه الحركة (فنحكم عليه إلى) كناية عن الانتهاء (فله) أي لصاحب الحركة الدورية (الوجود الأتم) أي الإحاطة بمراتب الوجود كلها وشاهد مقصوده فيها.
(وهو المؤتی جوامع الكلم والحكم) وهو محمد عليه السلام فمقام الحيرة جامع لجميع الحقائق الإلهية والحكم الربانية فأشار نوح عليه السلام في دعائه إلى هذا المقام بقوله : إلا ضلالا ثم رجع إلى الإشارات بقوله تعالى في حق قوم نوح عليه السلام .
(مما) أي من أجل (خطيئاتهم فهي التي خطئت) أي ساقت (بهم) وهي مجاهدتهم في السلوك بالتعدي حدود الله تعالى بأوامر أنفسهم (فغرقوا) بسبب ذلك (في بحار العلم بالله وهو) أي بحار العلم (الحيرة فأدخلوا نارا) أي نار المحبة (في عين الماء) وهو العلم وجاء كون النار في الماء.
(في المحمديين وإذا البحار سجرت. سجرت التنور إذا أوقدته) فكان المحمديون داخلين نارا في بحار العلم بالله فإذا أدخلوا نارا في عين الماء .
قال رضي الله عنه : (فلم يجدوا) هذا القوم في وقت إدخالهم النار في عين الماء (لهم) أي لأنفسهم (من دون الله أنصارا فكان الله) تعالى في ذلك الوقت (عين أنصارهم) .


لأنهم لم يروا في ذلك المقام إلا آثار الألوهية لأنهم يشاهدون الحق في جميع المظاهر فلم يروا غير الله شيئا وهذا هو معنى العينية فإذا كان الله عين أنصارهم (فهلكوا فيه) أي في الله تعالى.
(إلى الأبد) فلم يخرجهم من هذا المقام إلى عالم بشریتهم (فلو أخرجهم إلى السيف) بكسر السين (سيف الطبيعة) أي إلى ساحل طبيعتهم (لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة) لنية محبوبهم بظهور الطبائع (وان كان الكل) أي وإن كان كل واحد من العالم مختصة (لله) .
(و) قائمة (بالله بل) كل واحد منهم في نظر هذا الشخص (هو الله) لغيبة شيئية الأشياء بظهور نور الحق كخفاء النجوم بطلوع الشمس فلا أثر ولا نور ولا وجود للنجوم عند من نظر إلى الشمس لا في الواقع أو بحذف المضاف .


أي هو مظهر الله (قال نوح عليه السلام) في دعائه (رب ما قال إلهي فإن الرب له الثبوت) في الربوبية (والإله بتنوع بالأسماء وهو) أي الإله (كل يوم هو في شأن) الشأن والحال لا ثبوت له.
قال رضي الله عنه : (فأراد بالرب ثبوت التكوين إذ لا يصح إلا هو) أي لا يصح الترقي في السلوك إلا بالثبوت في التكوين وهو التكون في الأسماء وهو أعلى من التمكين فيها .
فالتجاء نوح عليه السلام في دعائه إلى ما يعطى هو هذا المقام له إذ لا يقضي الله تعالی حاجته إلا على أيدي هذا الاسم (لا تذر على الأرض يدعوا عليهم أن يصيروا في بطنها لئلا يضلوا عباد الله ويصلوا إلى مطلوبهم في بطن الأرض وجاء كون الحق في بطن الأرض و في بطون جميع الأشياء في المحمدي لو دليتم بحبل ليهبط على الله له ما في السموات وما في الأرض) .
فإذن كان الحق في باطن الأرض المعنوي والصوري.


قال رضي الله عنه : (فإذا دفنت فيها) بالموت الإرادي (فأنت فيها) مع الحق (وهي ظرفك) فأشار نوح عليه السلام إلى هذا المقام الأعلى .
والي أهله من المؤمنين كما أراد بالمفهوم الأول الكافرين وجاء دفنك في الأرض والإخراج منها بعد الدفن في قوله تعالی : "وفيها" أي في الأرض ("نعيدكم") بالموت الإرادي ليوصلكم إلي ("ومنها نخرجكم تارة أخرى ") حتى تظهروني و ترشدون عبادي إلي .
وإليه أشار بقوله: (لاختلاف الوجوه) فإن الإعادة لها وجه والإخراج له وجه فاختلاف الوجوه اقتضى ذلك ثم رجع إلى آية نوح عليه السلام فقال : (من الكافرين) أي "لا تذر على الأرض من الكافرين" (الذين "واستغشوا ثيابهم") [نوح: 27] . أي الذين ستروا وجوداتهم بوجود الحق.
("جعلوا أصابعهم فى أذانهم ") [نوح: 7] و جعل الأصابع في الآذان في حقهم عبارة عن مباشرة أسباب أفنائهم قواهم الظاهرة حتى لا يسمعوا غير الحق.


كما أن الكفار تصامموا حتى لا يسمعوا الحق وإنما فعلوا ذلك (طلبا للستر) أي لأجل طلبهم الستر من دعوة نوح عليه السلام فالمؤمنون طلبوا ستر وجودهم بوجود الحق في الأرض المعنوية وهي باطن الملك كلها .
كما أن الكافرين طلبوا ستر وجوداتهم بوجود الحق في الأرض الصورية فتجلى الله لهم بالنهارية وإنما طلبوا الستر (لأنه) أي لأن نوحا (دعاهم ليغفر لهم والغفر الستر) ففهموا منه كل واحد منهم على حسب ما يليق بحالهم فطلبوا الستر على حسب فهمهم فدعا عليهم على حسب طلبهم.
(دیارا) أي لا تذر من طالب السن من المؤمنين والكافرين أحد (حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة) المؤمنين والكافرين فإن المنفعة الدعوة الإيصال إلى المدعو إليه.
وهذه المنفعة وإن حصلها الكفار لكن لم تنفع لعدم وقوعه في أوانه .
فلما دعا نوح عليه السلام من الله إهلاك قومه عرض على الله تعالی مسببا دعائه عليهم.


فقال رضي الله عنه : ("إنك إن تذرهم" أي تدعهم وتتر?هم) على حال بشريتهم على الأرض (يضلوا عبادك أي يجبروهم ويخرجونهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية فينظرون أنفسهم) بسبب خروجهم من عبوديتهم (أربابا بعد ما كانوا عند نفوسهم عبيدا).
فإذا كان كذلك (فهم العبيد الأرباب "ولا يلدوا" أي ما ينتجون ولا يظهرون "إلا فاجرا" أن مظهرا ما ستر) على البناء للمفعول أي مظهرا ما ستره الحق من الربوبية في مظاهره (كفارا أي ساترا ما ظهر بعد ظهوره فيظهرون ما ستر) من الربوبية (ثم يسترونه بعد ظهوره) بحسب اقتضاء المقامين من الربوبية والعبودية يعني تكلموا تارة عن وحدة الوجود وآثارها وأحكامها من الربوبية ويظهرون للسامعين أسرار الربوبية فيهم وتارة تكلموا من الكثرة والعبودية.


(فيحار الناظر) السامع لكلامهم (فلا يعرف) الناظر (قصد الفاجر) أي قصد المظهر ما ستر الحق من الربوبية (في فجوره) أتي في إظهاره سر الربوبية (ولا الكافر في كفره) ولا قصد الساتر في ستره .
(والشخص واحد) والحال أن المظهر والسائر وأحد كيف يناقض نفسه فلما دعاهم إلى الله تعالى ليغفر لهم أي ليستر لهم ودنا عليهم بالستر دعا لنفسه ولاتباعه بالستر وهو عين ما دعاهم إليهم .
فنوح عليه السلام ما أراد لغيره شيئا إلا ما يريد لنفسه فكان دعاؤه عليهم الله تعالی لا لمراده نفسه من الانتقام وغيره .


بقوله رضي الله عنه : ("ربي أغفر لي" أي استر لي واستر من أجلي) ولو كان المراد لنفسه لما دعا لنفسه بمثل ما دعا عليهم عطف تفسير لقوله :
استر لي أي استر ذاتي من أجلي بأنوار ذائك حتى تهلك فيك أبدأ كما يهلك القوم فيك أبدأ بدعائي عليهم .
فدعا كلهم بالستر لئلا يضلوا عباده ودعا لنفسه بالستر كي يجهل قدره لأن مجهول القدر من أجل علو المرتبة (فيجهل مقامي وقدري) بحيث لا يطلع أحد غيرك على مقامي ولا يصل إليه (كما جهل قدرك في قولك "وما قدروا الله حق قدره") [الأنعام: 91] .
فدعا لنفسه من الله تعالی مقاما مختصا لله حثی اتحد معه فيه بحيث لا يسعه غيره وذلك من علو همنه لنفسه ("ولوالدي" من ?نت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة ولمن دخل بيتي أي قلبي) وهو القوي الروحانية .


(مؤمنا أي مصدقا بما يكون فيه) أي في القلب (من الإخبارات الإلهية وهو) أي ما يحصل في القلب (ما حدثت) أي أخبرت به (أنفسها) أي أنفي النفوس وتأنيث الضمير باعتبار النفوس (وللمؤمنين من المعقول والمؤمنات من النفوس "ولا تزيد الظالمين) [نوح: 74] . مأخوذا ( من الظلمات أهل الغيب) عطف بيان للظالمين (المكتشفين خلف الحجب الظلمانية "إلا تبارا") أي هلاكا فيك .
فإذا هلكوا (فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحق دونهم) أي من دون أنفسهم وما أشار إليه نوح عليه السلام في دعائه بالتبار (جاء في المحمديين في كل شيء هالك إلا وجهه [القصص: ۸۸]. و التبار الهلاك) .
فالظالمين ههنا غير ما ذكر في الأول، وهذا أعلى من الأول لذلك دعا في حق الأول بزيادة الحيرة بقوله :"إلا ضللا " أي حيرة فهم المتحيرون والحيرة من بقاء الوجود.


في الثاني بزيادة الهلاك بقوله : "إلا تبارا" فهم الهالكون المتخلصون عن قيد الحيرة إذ لا وجود لهم بسبب هلاكهم في الله .
فهم أعلى من الأول في مقام الفناء وإن كان الأول أعرف في مقام العرفان (ومن أراد أن يقف بتمامه على أسرار نوح عليه السلام فعليه بالترقي في فلك نوح) وهي الشمس .
(وهو) أي الوقوف على أسرار نوح عليه السلام أو فلك نوح مذكور (في النزلات الموصلية لنا) فإن ما ذكرته من أسراره ثم لم يذكر ههنا.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 2:47 pm

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الجزء الأول

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية

فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية أي حكمة تقديس الله تعالى عن كل ما لا يليق بحضرته مودعة في روح هذا النبي وفي التقديس مبالغة ليس في التسبيح فتنزيه إدريس عليه السلام أشد من تنزيه نوح عليه السلام لذلك لم يتم ستة عشر سنة.
ولم يأكل حتى بقي عقلا مجردا وخالط الأرواح المجردة والملائكة ورفعه الله مكانا عليا.
(و) لما كان العلو من لوازم التقديس وكان معرفة التقديس على التفصيل موقوفة على معرفة العلو (قال الله تعالی) في حق إدريس (ورفعناه مكانا عليا)  شرع في بيان العلم .
فقال : (العلو) بتشديد الواو (نسبتان) لا يمكن تصور العقل بدون إضافته إلى شيء آخر لكون النسبة جزءا من مفهومهما (علو مكان وعلو مكانة نعلو المكان) .
قوله تعالى في حق إدريس عليه السلام: ("ورفعناه مكانا عليا"  57 سورة مريم. وأعلى الأمكنة) بعلو المكانة (المكان الذي يدور عليه رحى عالم الأفلاك فهو فلك الشمس وفيه مقام روحانية إدريس عليه السلام وتحته سبعة أفلاك وفوقه سبعة أفلاك وهو).
أي فلك الشمس (الخامس عشر) وهو قلب الأفلاك لذلك كان وسط الأفلاك
(والذي فوقه فلك الأحمر وفلك المشتري وفلك كيوان "زحل" وتلك المنازل وفلك الأطلس) المتحرك بالحركة اليومية (فلك البروج) عطف بيان لفلك الأطلس (وفلك الكرسي وفلك العرش والذي دونه فلك الزهرة وفلك الكاتب وفلك القمر واكرة الأثير واكرة الهواء واكرة الماء واكرة التراب).  
وتفصيل ذلك مبين في علم أخر ولذلك اكتفي بذلك الإجمالي ولم يفصلها فأبقيناه على ذلك.
(فمن حيث هو) أي فلك الشمس (قطب الأفلاك هو) أي إدريس (رفيع المكان) الذي أعلى الأماكن بعلو المكانة فكان إدريس عاليا بعلو المكان لا بعلو المكانة إذ المكانة وصف لمكانه لاله .
إذ ما ثبت بالنصر الإلهي لإدريس إلا علو المكان لا علو المكانة ولا يلزم من ثبوت علو المكانة المكانة ثبوتها فلم يثبت له على المكانة بالنص .
(وأما على المكانة فهو لنا بالنص الإلهي (أعني المحمديين قال الله تعالى: "وأنتم الأعلون و الله معكم " محمد: 35 . في هذا العلو وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة) ولما قال : "والله معكم" علمنا أن المراد من قوله :
"وأننم الأعلون" إثبات علو المكانة لنا لتعاليه عن المكان دون المكانة . ولو كان المراد علوا بالمكان تزم إثبات ما هو من خواص الأجسام للحق تعالى عن ذلك فعلو الحق لا يكون إلا بالمرتبة وعلونا قد يكون بالمكان وقد يكون بالمكانة وقد يكون بهما .
(ولما خافت النفوس العمال منا) يعني لما علم الله تعالى في نفوس العمال خافت بسبب هذه الآية أن لا يكون لهم نصيب من العار المكاني لأنه لما اتبع الخطاب بقوله: "والله معكم" علموا أن ليس المراد العلو المكاني الذي نتائج أعمالهم فكانوا خارجين عن الخطاب فضاعت أعمالهم فخافوا .
فلما خافوا (اتبع المعية بقوله ولن يتركم أعمالكم) لإزالة خوفهم وتسليهم فالعمل بطلب المكان كما في إدريس تبدلت بشريته بالرياضيات والأعمال الصالحات حتی رفعه الله مكانا عليا جزاء عن أعماله .
ولم يكن له علو المكانة لما أن ذلك بالفناء في الخلق وإدريس عليه السلام لم يكن له الفناء الذي يوصل إلى التوحيد الذاتي المحمدي هذا في حال حياته.
وأما في الآخرة فقد جمع الله له اترفعتين فما جمع الله بين الرفعتين إلا لمن كان عالما وعاملا .
(فالعلم بطلب المكانة والعمل يطلب المكان) فمن كان عليا بالعلم فله علو المكانة ومن كان عليا بالعمل فله علو المكاني (فجمع) الله (لنا بين الرفعتين بالنص على المكان بالعمل وعلو المكانة بالعلم )هذا الجمع في الدار الآخرة .
فإن علو المكانة يختص بولاة الأمر وإن كان أجهل الناس فعلمنا أن العمل يطلب على المكان في الآخرة وعلمنا أن العلم يطلب كذلك فما كان علية منا في الدار الآخرة بعلو المكانة فهو علي بعلو المكان إذ لا يحصل العلم الحاصل من الفناء في الله إلا بالعمل الموجب له إلا المجذوبين وليس كل من كان عليا بالمكان عليا بالمكانة كالزهاد.
فإنهم في أعلى الجنان وليس لهم علو بالمكانة لأن أعمالهم لا لطلب العلم بالله بل لطلب المكان العلي فأعلى الله مرادهم على حسب طلبهم.
ولما قال : "والله معكم" أثبت لنفسه ما أثبت لنا وهو العلو بالمكانة فجعلنا شریكا لنفسه في اسمه العلي فكان علوه تبعا بالمكانة كعلونا فلزم تنزیه اسمه عن الاشتراك.
فأورد الشيخ آية التنزيه بقوله : (ثم قال تنزيها للاشتراك بالمعية "سبح أسم ربك الأعلى " عن هذا الاشتراك المعنوي) أي الاشتراك الذاتي.
بمعنى أن العلم كما ينسب إلى الله تعالى لذاته كذلك ينسب إلى المكانة لذاتها وهذا هو المفهوم من الآية السابقة.
فلما قال : "سبح اسم ربك الأعلى" علم أن علوه تعالی لذاته وعلو الموجودات كلها لا لذاتها بل العلو له تعالی كله .
حيث ظهر وغيره على بعلوه فلا يقع اشتراك غيره معه في علو بالاشتراك المعنوي بل الاشتراك في العلو لا يكون إلا لفظا (ومن أعجب الأمور كون الإنسان أعلى الموجودات اعني الإنسان الكامل) وهو روح الأعظم المحمدي تظهر الأسماء (وما نسب إليه العلو إلا بالتبعية أما) بالنسبة (إلى) على (المكان).
(وأما) بالنسبة (إلى) علو (المكانة وهي المنزلة) لأن العلو نسبة ولا يظهر نسبة إلى شيء إلا بالإضافة إلى شيء آخر له علو.
فما يحدث العلو في شيء إلا بالتبع إلى علو المكان أو إلى على المكانة وإذا كان الإنسان مع كونه أعلى الموجودات يحتاج في ظهوره علوه إلى المكان والمكانة إذ لا ينسب إليه العلو إلا بعد الظهور بالعلم .
فلا يظهر العلو في شيء إلا بالنسبة إلى المكان أو المكانة.
(فما كان علوه لذاته) وهو الله تعالى وحده لا يشترك فيه معه غيره (فهو العلي بعلو المكان) .
أي كما أنه ينسب إليه العلم الذاتي من غير إضافة وتبعية إلى شيء كذلك ينسب إليه تبعية المكان (والمكانة) فيقال وهو العلي بعلو المكان والمكانة .
كما يقال هو العلي بعلوه الذاتي و معنی علوه بعلو المكان والمكانة كونه تعالی تابعا إليهما في إظهار هذا الاسم فيهما ليكونا دليلين على علم الذاتي .
فعلو المكان دليل على علوه الذاتي من حيث الظاهر فنستدل به بأنه ما كان عليا في الظاهر إلا وهو أثر من علوه الذاتي .
فهو علي بالذات على كل ظاهر وعلو المرتبة دليل على أنه لا علي في الباطن من المراتب إلا وهو على بعلوه .
فالعلو للممكنات اختصاص من الله تعالى يعطي الله لمن يشاء لإظهار كمالات هذا الاسم منه لا من مقتضيات الطبيعة .
(فالعلو لهما) من حيث الظهور وإن كان الله بحسب الذات ومعنى اتباع الحق في العلو إلى المكان والمكانة توجهه إليهما في إظهار هذا الاسم .
فبهذا المعنى يجوز أن ينسب إليه العلو المكاني وإليه أشار بقوله فما كان علوه لذاته فهو العلي بعلو المكان .
ولم يقل فهو العلي بالمكان لأن فيه إثبات الجلوس تعالی عن ذلك فلا يتعالى عن علو المكان بل يتعالی عن نفس المكان .
وأشار إليه فيما سبق بقوله وهو يتعالى عن المكان ولم يقل يتعالي عن علو المكان (فعلو المكان) للحق ثابت بالنص الإلهي. كـ "الرحمن على العرش استوى".
أي أظهر علوه الذاتي بجعل هذا المكان تحت تصرفه وقدرته (وهو) أي العرش (أعلى الأماكن) لأنه ليس فوقه مكان .
فكان علو العرش بعلو المكان وعلو فلك الشمس بعلو المكانة فهو العلي بعلو هذا المكان الأعلى مع أنه العلى بالعلو الذاتي.
(وعلو المكانة) ثابت لله أيضا بالنص وهو كقوله تعالى: "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: ۸۸] .
لأن ملاك كل شيء وبقاء ذاته تعالی مرتبة ليس فوقها مرتبة .
وكذلك قوله تعالی : "وإليه يرجع الأمر كله" [هود: 123]. إذ رجوع الأمر كله إليه مرتبة عظيمة وكذلك "أإله مع الله " [النمل: 60] .
إذ الانفراد بالألوهية مرتبة رفيعة ليس فوقها مرتبة , وكما أن علو المكان ثابت لله بالنصوص .
كذلك في حق المخلوق ثابت بالنصوص فشرع في بيان ذلك بقوله: (ولما قال تعالى "ورفعناه مكانا عليا" [مريم :57 ] ). على ما هو غيره من الأمكنة (فجعل عليا نعتا للمكان) عرفنا منه أن العلم ليس له ذاتية لأنه لا يعم مع إشراك الأماكن في حذ المكان علمنا أن علوه لمرتبة عند الله تعالى لا لمكانية المكان .
وإلا لكان لكل مكان, فعلو فلك الشمس لمرتبة هي قطبية للأفلاك لمرتبة القطبية أصالة وللمكان تبعا. وجواب لما قولنا عرفنا أو علمنا حذف للعلم به.
("وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة") [البقرة : 30]. فهذا علو بالمكانة) .
لأن الخليفة علي "يعلو" على من استخلف عليه فكان علوه لكونه خليفة لا لكونه إنسانا .
(وقال في الملائكة :"أستكبرت أم كنت من العالین") (ص:70] .
فجعل العلو للملائكة  فعلمنا منه أن العلو لهم لا لكونهم ملائكة فعلمنا منه أن العلو لهم لا لكونهم ملائكة (فلو كان لكونهم ملائكة لدخل الملائكة كلهم في هذا العلو) ولم يعمهم هذا العلو.
(فلما لم يعم مع اشتراكهم في حد الملائكة عرفنا أن هذا على المكانة عند الله وكذلك الخلفاء من الناس .
لا يكون علوهم الحاصل بالخلافة ذاتية لأنه لو كان علوهم الحاصل لهم (بالخلافة علوا ذاتية) لطبيعتهم (لكان) ذلك العلو حاصلا (لكل إنسان).
ولم يعم ذلك العلو لكل إنسان (فلما لم يعم عرفنا أن ذلك العلو للمكانة).
ولما فرغ عن بيان على المكان والمكانة شرع في بيان العلم الذاتي بقوله:
(ومن أسمائه الحسنى العلي على من ؟ وما ثمه إلا هو.)
لأنه من أسمائه الذاتية فلا يستدعي بالإضافة فإذا كان عليا وما ثمه غيره.
(فهو العلي لذاته أو) هو العلي (عن ماذا؟) . أي عن أي شيء اكتسب العلو .
(وما هو) أي ليس ذلك الشيء (إلا هو) إلا عین الحق لا غيره .
فإذا كان ما استفاد الحق منه العلو عین الحق (فعلوه لنفسه وهو) أي الحق (من حيث الوجود عين الموجودات) وإن كان كل واحد منهما ممتازا بالوجوب والإمكان فلا يكتسب العلو عن غيره فمعنى كون الحق من حيث الوجود عين الموجودات اتحاده في حقيقة الوجود كاتحاده في العلم والقدرة وغير ذلك .
فكان الاتحاد من جهة واحدة لا مطلقا وإنه محال فإذا كان الحق من حيث الوجود عين الموجودات (فالمسمى محدثات) من حيث الوجود (هي العلية لذاتها وليست) من حيث الوجود (إلا هو) أي إلا عين الحق (فهو) أي الحق (العلي لا علو إضافة) إذ المضاف ليس إلا عين المضاف من حيث الوجود .
فكل موجود من هذا الوجه فهو العلي لا على إضافة و إنما كان الحق من حيث الوجود عين الموجودات (لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه) أي في العدم (ما شمت رائحة من الوجود) .
(فهي) باقية في العدم بعد ظهور الموجودات (على حالها) الأول من غير تغبیر.
فالأعيان في المراتب المتمايزة المعلومة الله تعالى في عمله الأزلي لا تزال أن تكون معلومة أبدا (مع تعداد الصور) .
أي مع تكثر الصور (في الموجودات) فالوجود حقيقة واحدة فهو بالأصالة لذات واحدة فهي ذات الواجب الوجود . فالذات واحدة والوجود حقيقة واحدة , فما كان الموجود الحقيقي إلا واحدا حقيقيا في الموجودات انعكاس ذلك الموجود الحقيقي في المراتب المعلومة .
وعكس الشيء عين ذلك الشيء كصورك في المرايا المختلفة مع أنك واحد وهي عينك وهذه الكثرة لا وجود لها وهي نسب تحصل من ظهورك في المرايا المختلفة .
(والعين) أي الموجود الحقيقي (واحدة من المجموع), أي كان من جملة الموجودات التي هي عكسها وكان من حيث الوجود ثابتة في المجموع لا خارجة عنها .
فما كان الموجود الحقيقي في جملة الموجودات إلا واحدا.
(فوجود الكثرة في الأسماء) أي في مظهر الموجود الحقيقي (وهي) أي الأسماء النسب أي نسبة الذات الواحدة إلى المراتب المعلومة (وهي) أي النسب (أمور عدمية) لا وجود لها في الخارج .
(وليس) الموجود بالوجود الحقيقي في الموجودات (إلا العين الذي هو الذات) الإلهية الظاهرة في مرايا الأعيان .
(فهو) أي الحق (العلي لنفسه لا بالإضافة) إذ لا غير حينئذ حتى أضيف إليه (فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة) إذ الإضافة تقتضي التغاير ولا تغاير من هذه الحيثية ومن هذه الحيثية الوجود للحق وإنك مرآته .
وأما إذا كان الوجود لك والحق مرآتك فله حكم آخر وإليه أشار بقوله: (لكن الوجوه الوجودية متفاضلة) بعضها على بعض فإن محمدا عليه السلام وجه من الوجوه الوجودية متفاضل على سائر المخلوقات .
فالحق هو العلي بالإضافة على ما تفاضل عليه محمد عليه السلام (فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة) وهي ذات الحق (من حيث الوجوه الكثيرة) وهذا باعتبار الغيرية فكان الموجودات عينه من وجه وغيره من وجه .
وإليه أشار بقوله : (لذلك) أي لأجل هذين الاعتبارين (تقول فيه) أي في حق الحق (هو) أي الحق عين جميع الموجودات من حيث الوجود (لا هو) أي ليس الحق عين الموجودات من حيث الوجوه الكثيرة .
وكذلك (أنت) أي الموجودات عین الحق من حيث الأحدية الذاتية (لا أنت) .
أي الموجودات ليس عین الحق من حيث التعينات الخلقية, وقد أورد على هذا المعنى نقلا عن كبار الأولياء.
فقال : (قال "أبو سعيد" الخراز رحمه الله وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته) أي وجوده وجه من وجوه وجود الحق ولسانه وجه من وجوه ألسنة الحق (ينطق) أي يخبر بلسان الحق (عن نفسه) أي عن مرتبته ومقامه في رتبة العلم بالله (بأن الله لا يعرف إلا بجمع بين الأضداد في الحكم عليه).
أي على الله (بها) أي بالأضداد ثم بعد ذلك حكم عليه بالأضداد .
فقال : (هو الأول والأخر والظاهر والباطن) وهذا حكم عليه بالأضداد وأما جمع فقد أشار إليه بقوله : (فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره) فقد جمع الظاهر والباطن من جهة واحدة وهي حال الظهور .
(وما ثمة) أي وما في العالم (من يراه غيره) أي من يرى الحق غیر نفسه إذ كل من يراه فهو عين نفسه (وما ثمة من يبطن) الحق (عنه فهو ظاهر لنفسه باطن عنه وهو المسمى أبو سعيد الخراز) من هذا الوجه.
(وغير ذلك من أسماء المحدثات) إذ المسمى بأسماء المحدثات حينئذ عین الحق كما أن الصور المختلفة الحادثة في المرايا باي أسماء سميتها لا يسمى بها إلا صاحب هذه الصورة.
لأن ما يسمى بهذه الأسماء عين صاحب هذه الصور , فذات الخراز اسم الله تعالی ودليله فهو المسمى والمدلل أبو سعيد الخراز , والاسم أي اللفظ الدال على الخراز دال على ما دل عليه الخراز عند العارف بالله وبأسمائه .
وهذا لسان الوحدة عبر الخراز عند انكشافها بهذا العبارات وبعد قول الخراز شرع في بيان الأضداد وأحكامها بقوله: (فيقول الباطن لا إذا قال الظاهر أنا ويقول الظاهر لا إذا قال الباطن أنا) .
يعني إذا قال الواحد المتكلم وهو الله تعالى هو الظاهر قال ذلك المتكلم لا من جهة بطونه.
وإذا قال ذلك المتكلم هو الباطن قال هو لا من جهة ظهوره , فقد حكم المتكلم على نفسه بالأضداد بالجمع بينهما بقوله :" هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم" . (وهذا الحكم في كل ضد و) الحال إن (المتكلم) بهذا الكلام (واحد وهو) أي المتكلم (عين السامع) إذ لا غير في هذه الجمعية.
فالسامع والمتكلم واحد وأورد على إثبات هذا المعنى قول الرسول عليه السلام ليسهل فهمه على الطالبين بقوله:  (يقول النبي عليه السلام وما حدثت به أنفسها) الحديث قال: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلم أو يعمل به). .«إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم» رواه البخاري
أي النفس (المحدثة) أي تتكلم وتخبر (السامعة حديثها) أي كلامها (العالمة بما حدثت به نفسها و) الحال إن (العين واحدة وان اختلفت الأحكام) عليه (ولا سبيل إلى جهل مثل هذا فإنه) أي الشأن (يعلمه كل إنسان من نفسه) بسبب مراجعته إلى وجدانه فإذا ثبت هذا الحكم في الإنسان (وهو) والحال أن الإنسان (صورة الحق) ثبت في الحق وهو استدلال من الأثر إلى المؤثر.
ولزيادة تفصيل هذا المعنى وإيضاحه أورد العدد فقال : (فاختلطت الأمور) بعضها مع بعض (وظهرت الأعداد بالواحد) .
أي بوجود الواحد (في المراتب المعلومة فأوجد الواحد العدد) وهو ينظر لإيجاد الحق العالم (وفصل العدد الواحد) .
وهو نظير لتفصيل العالم الحق وأحكامه وأسمائه إذ الواحد أوجد بتكرره العدد والعدد يفصل الواحد في المراتب المعلومة مثل الاثنين والثلاثة .
فكانت مراتب العدد كله مراتب الواحد يظهر فيها بتكرره فهو عين واحدة يختلف عليها الأحكام بحسب المراتب فإن صورة الثلاثة مثلا واحدة ومادته وهي تكرار الواحد والكثرة معدومة في الخارج فلا موجود في الخارج إلا عين واحدة.
(وما ظهر حكم العدد) و هو تفصيل الواحد (إلا بالمعدود) لأنه عرض غير قائم بنفسه يقتضي محلا يقوم به وهو الجوهر .
(والمعدود منه عدم) أي معدوم في الحس (ومنه موجود) فيه (لقد يعدم الشيء من حيث الحس وهو موجود من حيث العقل) فلا يقتضي العدد لظهور حكمه إلا المعدود سواء كان موجودة في الحس أو في العقل .
فالأعيان وهي الصورة العلمية بمنزلة العدد فما ظهر حكمها إلا بالموجودات الخارجية أو بالموجودات التي لا وجود لها في الخارج.
(فلا بد من عدد) يفصل الواحد في المراتب المعلومة (ومعدود) يظهر حكم العدد (ولا بد من واحد ينشئ) أي يوجد (ذلك) العدد (فينشأ) أي يوجد ذلك الواحد تفصيلا (بسببه) أي بسبب ذلك العدد فظهر به كيفية إيجاد الحق الأشياء فإذا كان الواحد أوجده العدد بفصله ففيه اعتباران.

(فإن كان : كل مرتبة) أي فإن اعتبرنا أن كل واحد (من) مرتبة (العدد حقيقة واحدة) ممتازة عن الأخرى .
.
يتبع الجزء الثاني
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 2:50 pm

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الجزء الثاني

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية

 (كالتسعة والعشرة مثلا إلى أدنى وإلى أكثر إلى غاية نهاية ما هي مجموع) أي ليس هذه المرائب بمجرد جمع الأحاد فقط بل ينضم إليها ما به الامتياز (ولا ينفك عنها) أي عن هذه المراتب (اسم جمع الأحاد) إذ هو ما به الاتحاد .
(فإن الاثنين حقيقة واحدة والثلاثة حقيقة واحدة بالغة ما بلغت هذه المراتب)
لا ينفك عنها جمع الآحاد مع امتياز كل واحدة منها عن الأخرى فهذا نظير اعتبار الحق مع الخلق وجزاء الشرط محذوف و لدلالة قوله ما هي مجموع فهي حقائق مختلفة.
(وإن كانت) أي وإن اعتبرنا أنها (حقيقة واحدة) مع قطع النظر عن ما به الامتياز (فما) أي الذي هو (عين واحدة منهن هین ما بقي) وهذا نظر اعتبار الحق بلا خلق فكان الاثنين عين الواحد والثلاثة عين الاثنين فكل المراتب عين الواحد وعين الأخرى وليس هذا الاعتبار اعتبارا محضة بل هو مطابق بما هو الأمر عليه وعلى كلا التقديرين.


(فالجميع يأخذها) أي يأخذ عينة واحدة كالواحد (فيقول بها) أي يتكلم بتلك العين الواحدة فالباء للصلة (منها) أي ابتداء تكلمه من هذه العين الواحدة (وبحكم) الجمع (بها) أي بهذه العين الواحدة (عليها) أي على هذه العين الواحدة فإذا كان المأخوذ عينة واحدة والقول بها.
ومنها والحكم بها عنيها فلا شيء في كل مرتبة خارجة عنها فكانت العين الواحدة موضوعة ومحمولة في كل مرتبة .
فالموضوع عين المحمول والمحمول عين الموضوع فما كان محكوما عليه بالاثنين والثلاثة والأربعة إلى غير النهاية إلا عينة واحدة فهي المسمى بأسماء المحدثات بحسب المراتب .


وهو قول الخراز فالعين الواحدة تسمى واحدة في مرتبة واثنين في مرتبة وثلاثة في مرتبة ورابعة في مرتبة وهكذا في كل مرتبة .
فما تجري هذه الأحكام المختلفة إلا على عين واحدة (قد ظهر في هذا القول) أي في قوله فالجمع بأخذها (عشرون مرتبة) مفردة وهي مرتبة الواحد ومرتبة الاثنين إلى العشرة وعشرون وثلاثون وأربعون وخمسون وستون وسبعون وثمانون وتسعون ومائة وألف .
(فقد دخلها التركيب) أي دخل فيما بينهن التركيب نحو أحد عشر واثني وغير ذلك فعلی كلا التقديرين (فما تنفك) أي ما تزال (تثبت عين ما) أي عين الذي (هو منفي عندك لذاته).


فإنك إذا قلت واحدة قد أثبت الواحد وإذا قلت : اثنين فقد أثبت الاثنين ونفيت الواحد وإذا قلت : ثلاثة فقد أثبت ثلاثة ونفيت الواحد والاثنين مع أن الاثنين والثلاثة لا يمكن بدون الواحد نشبت ما نفيته في كل المراتب .
(ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عین إثباتها علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه) من وجه وكذا الخلق المشبه هو الحي المنزه من وجه.
(وإن كان تميز الخلق من الخالق) من وجه وهو وجوب الخالق وإمكان المخلوق (فالأمر الخالق المخلوق) من وجه (والأمر المخلوق الخالق) من وجه فمنهم من نظر إلى الخلق ولا بری الخالق ومنهم من يرى الخالق ولا يرى المخلوق و منهم من جمع بينهما في كل مقام و مرتبة.
وهو أكمل الناس والمرشد الأكمل فقد فاز الحقيقة في رتبة العلم بالله التي ليس للمخلوق فوقها مرتبة .
وعلم أيضا أن كون الحق عين المخلوق في أمور كلية كالوجود والعلم والحياة وغير ذلك.


و غيريته امتيازه بأمر مختص كالوجوب والإمكان وهذا بعينه هو مذهب أهل السنة لأنهم ما قالوا: إن الحق مطلقا عين المخلوق حتى يخالف الشرع (كل ذلك) الأمر المخلوق يحصل (من عين واحدة) لا من عين واحدة (بل) في نفس الأمر (هو) أي كل ذلك من حيث هويته واحدية ذاته (العين الواحدة).
أي عين الحقيقة الواحدة (وهو) أي العين من حيث أسمائه وصفاته (العيون الكثيرة) أي الحقائق المختلفة فما في الكون إلا الحق .
ويجوز أن يكون معناه وهو أي الأمر المخلوق من حيث اختلاف الصورة عليه العيون الكثيرة لكن الأول أنسب إلى المقام .
لأن المراد بقوله لا بل إضراب عن الكلام الذي يشعر المغايرة ولا يكون الإضراب إلا بإثبات أن ليس في الوجود إلا الحق وهذا المعنى ثابت في الأول دون الثاني.
(فانظر ماذا تري) إشارة إلى اهتمامه في بيان الحق وحث لطالب الحق على طلبه (قال) ولد إبراهيم عليه السلام : "يا أبت افعل ما تؤمر" . وفيه إشارة إلى أن الواجب على المرشد ما فعل بالمريد إلا بأمر الحق وإن الواجب على المريد ما فعل إلا بأمر المرشد (والولد عين أبيه) كما سبق وجهه .
(فما رأى) الوالد (بذبح سوى نفسه ونداه بذبح عظيم فظهر بصورة كبش) في عالم الحس (من ظهر) في عالم الرؤيا (بصورة إنسان) وهو ولد إبراهيم .


(فظهر بصورة ولد لا بل بحكم ولد من هو عين الوالد) فالأمر واحد ظهر بصورة الكبش والولد والوالد فهو عين ما ظهر فكان كل واحد من المظاهر عين الآخر بهذا الاعتبار .
(وخلق منها زوجها) فإذا خلق منها (فما نكح) آدم (سوى نفسه فمنه الصاحبة والولد والأمر واحد في العدد) ولا شيء في العدد غير الواحد .
فإذا كان أصل الأمور واحدة (فمن الطبيعة ومن الظاهر منها) استفهامي أي أخبروني أي شيء هما أي وما أدركتم أي شيء هما .
(وما رأيناها نقصت بما ظهر عنها ولا زادت بعدم ما ظهر) الطبيعة هي القوة السارية في الأجسام كلها .
وأشار إلى أن الأمر الواحد في العدد هو الطبيعة ثم بين بعد الاستفهام حالهما .


ونقل كلامه من الجمع إلى الفرق بقوله : (وما) استفهام (الذي ظهر غيرها وما هي عين ما ظهر) أي ما ظهر من الطبيعة غير الطبيعة وكذلك الطبيعة غير ما ظهر منها (لاختلاف الصور بالحكم عليها) أي على الطبيعة في قولنا .
(فهذا) أي هذا الشيء أو هذا المزاج (بارد يابس وهذا) المزاج (حار يابس فجمع) بينهما (باليبس) أي بسببه .
(وأبان) أي ظهر الجامع (بغير ذلك) وهو البرودة والحرارة فظهر من الطبيعة بعد الجمع البرودة والحرارة اللتين لم تكونا قبل الجمع فاختلفت الصور بالحكم عليها .
فكان ما ظهر منها غيرها وهي غير ما ظهر (والجامع) بين البارد واليابس والحار واليابس (الطبيعة) فكانت الطبيعة سارية في الموجودات ظاهرة بالصور المختلفة (لا بل العين) الواحدة التي ظهرت بصور الموجودات كلها هي عين (الطبيعة فعالم الطبيعة صور) والطبيعة ملكوت تلك الصورة في مرآة واحدة وهي الذات الإلهية. وهذا إذا اعتبر أن الوجود للمخلوق والحق مرآة له وحينئي الطبيعة غير العين الواحدة (لا بل) عالم الطبيعة (صورة واحدة) وهي الذات الإلهية التي تسمى عين واحدة (في مرايا مختلفة) .


وبهذا الاعتبار كانت الطبيعة عين العين الواحدة (فما ثمة) أي ليس في هذه المسالة (الأخيرة لتفرق النظر)، لأنه بالنظر إلى صور في مرأة واحدة يظهر الخلق ويختفي الحق وبالنظر إلى صورة واحدة في مرايا مختلفة يظهر الحق ويختفي الخلق وهذا معنى تفرق النظر.
(ومن عرف ما قلناه) من أن الحي المنزه هو الخلق المشبه (لم يحر) لعدم تفرق النظر فيه أو ما قلناه من أن العين الواحدة ظهرت بالصور المختلفة في المرايا المختلفة .
فلا تفرق النظر يحصل من تفرق الطريق وما بينه طريق واحد حق لا تفرق فيه (وإن كان في مزید علم) أي وإن كان العارف ما قلناه يعلم الحق من وجوه كثيرة فإن ما ذكره من التعريف الإلهي يرفع حيرة المعارف في عرفان كل وجه إذ لا ينفك العلم منه إذا علم .
ولو كان في مزید علم فلم يحر لخلوصه عن تفرق النظر بسبب هذا العلم فإذا كان الحق حقيقة واحدة يظهر بصور مختلفة .
(فلیس) ذلك الظهور المختلفة العين الواحدة (إلا من حكم المحل) لا من جهتها .
(والمحل) وهو الموجودات وأحوالها (عين العين الثابتة فيها) أي فبسبب العين الواحدة (بتنوع الحق في المجلي) وهو عين العين الثابتة .
فإذا كان الحق يتنوع في المجلي (فتنوع الأحكام عليه فيقبل) الحق (كل حكم وما يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه) الحق وهو العين الثابتة (وما ثمة إلا هذا) أي وليس في وسع المخلوق في العلم بالله إلا ما قاله فلا مرتبة فوقه .
فلما فرغ عن بيان الحق وأحكامه شرع في تلخيصه بالأبيات فقال :
(فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا ... و ليس خلقا بذاك الوجه فاذكروا)
(من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته ... و ليس يدريه إلا من له بصر)
(جمع و فرق فإن العين واحدة ... وهي الكثيرة لا تبقى ولا تذر)
(فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا ... و ليس خلقا بذاك الوجه فاذكروا)


(شعر: فالحق) الفاء نتيجة ما ذكر (خلق بهذا الوجه) و هر گونه متنوعة بأحكام الموجودات (فاعتبروا).
وفيه إشارة إلى أن هذا الوجه معتبر عنده و جلیل القدر و عظيم الشأن وإلا لما أمر وأوصى بالاعتبار .
(وليس خلقا بذاك الوجه فاذكروا) وهذا الوجه هو كون الحق مرآة للموجودات والحق مختفي منزه عن أحكام الخلقية .
(من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته ... و ليس يدريه إلا من له بصر)
(من يدر) أي من يعلم (ما قلت) عن بيان الحق (لم تخذل بصيرته). وهي بصر القلب (وليس يدريه) أي ما قلته (إلا من له بصر) الذي لا يعجز في مشاهدته الحق في ظهوراته.


(جمع و فرق فإن العين واحدة ... وهي الكثيرة لا تبقى ولا تذر)
(جمع) بين الحق والخلق وقلت الحق عين الخلق (وفرق بينهما فقلت: الحق لب بخلق (فإن العين واحدة وهي الكثيرة) فيقبل الجمع والفرق (لا تبقى) أنت في الجمع بعد الجمع بل فرقه (ولا تذر) .
أي لا تترك الجمع في التفريق بل أجمع في عين التفريق وفرق في عين الجمع.
فإن من فرق فلم يجمع في عين تفريقه وجمع ولم يفرق في عين جمعه فقد تفرق نظره .
فما ثمة إلا حيرة وهذا هو خلاصة ما ذكره تفصيلا .
ثم رجع إلى ما كان بصدده فقال : (فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به) أي بسببه ذلك (جميع الأمور الوجودية) كالموجودات الخارجية (والنسب العدمية) كالأمور التي لا وجود لها في الخارج وهي الأمور الكلية الشاملة بجميع الموجودات كالوجود والحياة .


(بحيث لا يمكن أن يفوته) أي أن يفوت صاحب الكمال (نعت منها) أي من الأمور الوجودية والنسب العدمية (وسواء كانت) النعت (محمودة عرفة وعقلا ومشرعة أو مذمومة عرفا وعقلا و شرعا) كلها قائم به وموجود بإيجاده.
(وليس ذلك) الكمال الاستغراقي (إلا لمسمى الله خاصة) وهو الاسم الأعظم الأعلى على جميع الأسماء .
(وأما غير مسمى الله خاصة مما هو مجلی له) أي لمسمى الله (أو صورة فيه) أي أو كان غير مسمى الله صفة ظهرت في مسمى الله هذا ناظر إلى أن صفات الله ليست عین ذاته من وجه.


(فإن كان مجلی له) أي وإن كان ذلك الغير مظهر لمسمى الله (فيقع التفاضل لا بد من ذلك العلق (بين مجلی ومجلی) بقدر نصيبه من الإحاطة.
(وإن كان صورة فيه فتلك الصورة) أي تلك الصفة القائمة بذات مسمى الله (عين الكمال الذاتي) أي عين صاحب الكمال الذي لمسمى الله .
(لأنها) أي لأن هذه الصفة (عين ما ظهرت) هذه الصفة (فيه) وهو مسمى الله.
فكان لها العلو الذاتي لاتحاد الصفة مع الذات فإذا كانت تلك الصفة عين مسمى الله خاصة (فالذي لمسمى الله) من العلو الذاتي (هو الذي تلك الصورة) التي هي عين مسمى الله.
(فعلوه الذي لمسمى الله هو علوه الذي لتلك الصورة ولا يقال هي هو ولا هي غيره) أي لا يقول أهل النظر هي هو ولا هي غيره .
وأما أهل الله فقد قالوا: هي هو وهي غيره من جهتين.
(وقد أشار أبو القاسم بن قسي) بفتح القاف وهو من كبار الأولياء (في خلعه) وهو الكتاب المسمی بخلع النعلين (إلى هذا) أي كون الصفة و الاسم عين الذات من وجه وغيره من وجه.


(بقوله إن كل اسم إلهي) كالقادر والمريد وغير ذلك (يسمى بجميع الأسماء الإلهية) , كما أن مسمي الله يسمى بجميع الأسماء (وينعت بها) كما ينعت مسمى الله بها .
(وذلك هناك) أي وقال في بيان هذا الكلام في ذلك مقام (إن كل اسم يدل على الذات وعلى المعنى الذي سبق له) أي وضع ذلك الاسم لهذا المعنى (ويطلبه) أي يطلب ذلك الاسم هذا المعنى الموضوع له الاسم (فمن حيث دلالته على الذات له جميع الأسماء ومن حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به يتميز عن غيره كالرب والخالق والمصور إلى غير ذلك فالاسم عين المسمى من حيث الذات والاسم غير المسمى من حيث ما يختص به من المعنى الذي سبق له). فعلم منه أن الصفات عين الأسماء .
(فإذا فهمت أن العلي ما ذكرناه) وهو قوله : فالعلي لنفسه الخ (علمت أنه) أي أن علق مسمى الله (ليس على المكان ولا على المكانة) أي ليس سببا لعلو المكان والمكانة وأن وجدا فيه بل سبب علوه ذاته .
فعلوه بالمكان والمكانة عين علوه الذاتي إذ هما من جملة الكمالات التي استغرق الذات بها فالعلم الذاتي هو مسمی الله خاصة (فإن علو المكانة) أي العلو الذي المكانة سبب له في الدنيا (يختص) بما في عالم الشهادة من جنس الإنسان فلا ينافي قوله على المكان بالعمل وعلى المكانة بالعلم .
يدل عليه قوله: (بولاة الأمر كالسلطان والحكام والوزراء والقضاة وكل ذي منصب سواء كانت فيه أهلية ذلك المنصب) كالعدالة والعقل والعلم (او لم يكن والعلق بالصفات ليس كذلك) وهو علق المسمى الله خاصة وعلو بعض مجاليه وهم العلماء بالله فإن علوهم بالصفات العلمية الباقية أزلا وأبدا.
(فإنه قد يكون أعلم الناس يتحكم فيه من له منصب التحكم وإن كان أجهل الناس فهذا علي بالمكانة بحكم التبع ما هو علي في نفسه). وأما العالم فهو على في نفسه.
ولذلك لا يزال عن رفعة العلم (فإذا عزل) ذلك الجاهل (زالت رفعته والعالم ليس كذلك).

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 3:40 pm

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإبراهيمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الجزء الأول الجزء الأول
05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية 
الهيمان هو إفراط الحب الذاتي الساري في جميع الموجودات وكان هذا غالبا في روح إبراهيم عليه السلام لذلك طلب الحق في المظاهر النورية وأشار إلى شدة سريان المحبة الإلهية في وجوده عليه السلام .
وبين معنى الهيمان بقوله: (إنما سمي الخليل خليلا) ,(لتخلله) أي لتخلل الخليل (وحصره) عطف تفسير (جميع ما اتصفت به الذات الإلهية) كما أن الذات الإلهية يحيط ويحصر جميع أسمائه وصفاته كذلك الخليل عليه السلام يحصر جميع الأسماء الإلهية لتجلي الحق له جميع أسمائه وصفاته واستشهد عليه بقول الشاعر :
(قد تخللت مسلك الروح مني ..... وبه سمي الخليل خليلا)
وتخللت مسلك الروح مني  أي سريت أنت في وجودي وذاتي كسريان الروح الحيواني في جميع أجزاء البدن (وبه) وبهذا التخلل (سمي الخليل خليلا كما بتخلل اللون المتلون) بكسر الواو
(فیكون العرض بحيث جوهره) أي في مكان جوهره بسبب سريان العرض في جميع أجزاء جوهره بحيث لا امتياز بينهما في الحسي .
(ما هو) أي ليس ذلك النخل (كالمكان والمتمكن) فيه فإنه لا تخلل فيه حسة وعقلا هذا إن كان إبراهيم عليه السلام محبوبا والحق محبا له .
فكان الهيمان وهو من زيادة المحبة الإلهية يتعلق بإبراهيم عليه السلام فكان تخلل إبراهيم عليه السلام جميع صفات الحق بمنزلة تخلل المحبوب إلى جميع أجزاء المحب.
وأما إن كان إبراهيم محبة والحق محبوبة له وقد أشار إليه بقوله :
(أو لتخلل الحق وجود صورة إبراهيم عليه السلام) ولما بین ثبوت معنى التخلل من الطرفين لغة شرع في إثبانه فيهما بالدليل العقلي .
فقال : (وكل حكم) على الله من صفات المحدثات وعلى العبد من صفات الحق يصح من ذلك النخلل ولولا التخلل ما صح هذا الحكم.
(فإن لكل حكم موطنا) خاصا به (يظهر به) ذلك الحكم به أي بسببه أو فيه.
(لا يتعداه) أي لا يظهر ذلك الحكم بغير ذلك الموطن ولا يظهر في ذلك الموطن غير ذلك الحكم لاختصاصهما من الطرفين .
ولولا تخلل المحكوم عليه ذلك الموطن لم يظهر ذلك الحكم أبدا مع أنه قد شاهدنا ظهور الأحكام.
وإليه أشار بقوله : (ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص وبصفات الذم) .
ولو لم يتخلل الحق وجود صورة المحدثات لم يظهر منه الحكم على نفسه بصفات المحدثات .
(ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها) إلا الوجوب الذاتي (وكلها) أي كل صفات الحق . (حق له) أي ثابت للمخلوق وينعت المخلوق بها ولولا تخلل العبد الحق لما صح هذا الحكم.
(كما هي) ضمير الشأن يفسره قوله : (صفات المحدثات حق) أي ثابت (للحق) .
اعلم أن التخلل عبارة عن السريان ومعنى سريان الحق في العبد وجوده أثر ذاته وصفاته في وجود العبد .
مع كون الحق منزها بجميع صفاته عن هذا الكون أن الاتحاد من كل الوجوه باطل عندهم.
فلما نزل الحق نفسه منزلة العبد فأثبت لنفسه ما هو من خواص عبده .
فقال : مرضت وجعت علمنا أن المريض والجائع ليس صورة العبد بل الروح المتصف بصفات الله تعالى الظاهر في صورة العبد بالهيكل المحسوس .
المشاهد فما أثبت صفات المحدثات في الحقيقة لنفسه بل أثبت لأثر نفسه تنبيها على أنه واجب التعظيم .
فإنه ظل الله تعالى فالله تعالى أعظم ظله كما عظم نفسه فما قال إلا تعظيمة للعباد فمن أعاد فقد أعاد الحق فمن أشبعه فقد أشبع الحق على طريق من أكرم عالمة فقد أكرمني وهذا مخصوص بالإنسان دون غيره .
لأن كمال ظهور الحق فيه لا في غيره لذلك لا يثبت لنفسه صفات سائر المحدثات. 
ومعنی سريان العبد في الحق إحاطته جميع ما اتصفت به ذات الحق بحسب استعداده .
وقد صرح بهذا المعنى بقوله : وحصره بعد قوله لتخلله فانظر بنظر الإنصاف كیف عادت مسائل الفن بتوجهنا إلى سيرتها الأولى سيرة الشريعة وسيجيء تحقيقه ويدل على ثبوت صفات المحدثات للحق.
قوله تعالى : ( "والحمد لله" فرجعت إليه عواقب الثناء من كل حامد ومحمود) لاختصاص الحمد لنفسه .
("وإليه يرجع الأمر كله") فإذا كان رجوع الأمر إليه كله (نعم) الأمر (ما ذم وحمد) على بناء المجهول.
(وما ثمة) أي وما في العالم (الا محمود أو مذموم) يعني الأمر إما محمود أو مذموم وكل منهما يرجع إليه تعالى من حيث الوجود .
أما المحمود فظاهر لأنه مستحق بالذات أن يحمد، وأما المذموم فمن حيث ملكوته نسبته إلى الله محمود ومن حيث صورته وشيئيته مذموم .
فما في العالم مذموم من هذا الوجه فما ثبت للحق إلا ملكوت صفات المحدثات لا صورتها الحسية والمراد بالملكوت هي الصفات التي تكون منشأ لخلق صفات المحدثات .
فملكوت المرض والجوع محمود ومطهر ونابت للحق ومن هذا الوجه كمال من الكمالات الإلهية ومن صورة حدوثه .
وكثافته نقص لا يمكن أن يكون صفة الله تعالى .
وكان الحق محمودة بملكوت الذم فلا يلزم من ثبوت ملكوت الذم له ثبوته له كما لا يلزم من حدوث تعلق العلم فملكوت كل شيء حادث من حيث تعلقه إلى ذلك الشيء.
ومن حيث نسبته وإضافته إلى الله قديم  إذ هو اسم من أسماء الله وصفة من صفاته.
فالمراد بقوله : صفات المحدثات حق للحق ملكوت الصفات لا نفس الصفات لكن ورد النص على الظاهر .
أخرج كلامه على طريق النص فظهور الحق بصفات المحدثات بناء على أن الممكنات ثابتة على عدمها ما شممت رائحة من الوجود فما وجودها إلا إضافة وجود الحق إليها .
فظهرت بهذه الإضافة بصفات المحمودة أو المذمومة واتصفت إضافة الوجود بتلك الصفات المذمومة .
والذات مع صفاته منزه عن هذا وهذا معنى قولهم صفات المحدثات حق للحق.
(اعلم أنه ما تخلل شيء شيئا إلا كان) ذلك المتخلل اسم فاعل (محمولا فيه) .
أي في التخلل اسم مفعول .
(فالمتخلل اسم فاعل محجوب بالمتخلل والمتخلل اسم مفعول فاسم المفعول هو الظاهر واسم الفاعل هو الباطن المستور وهو).
أي الباطن (غذاء له) أي للظاهر (كالماء يتخلل الصوفة فتربو به) أي بالماء وتتسع تلك الصوفة.
(فإن كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه فيكون الخلق جميع أسماء الحق)
قوله : (سمعه وبصره وجميع نسبه و إدراكاته) عطف بيان.
لقوله : جميع أسماء الحق هذا نتيجة قرب الفرائض فشاهد العبد في ذلك المقام في مرآة وجوده الوجود الحق ويرى أن الحق يسمع به ويبصر به.
وكأن الأحكام كلها للحق لكن بسبب العبد وهذا إذا تجلى الله لعباده باسمه الباطن وحينئذ كان العبد باطنا والحق ظاهرا له.
(وإذا كان الخلق هو الظاهر فالحي مستور وباطن فيه) أي في الخلق .
(فالحق يكون سمع الخلق وبصره ويده ورجله وجميع قواه) أي يرى العبد أن الحق قراء الظاهرة و الباطنة فأخبر الحق عن ذلك المقام على حسب مشاهدة العبد وإلا لم يكن الحق يد أحد ولا رجله في نفس الأمر .
(كما ورد في الخبر الصحيح) "كنت سمعه وبصره" هذا إذا تجلى الحق العبد بالاسم الظاهر .
فيرى للعبد وجوده في مرآة الحق فيشاهد أن الأحكام كلها ثابتة لنفسه وأن الحق سبب له لظهور الأحكام من العبد وهو نتيجة قرب النوافل .
هذا إن اعتبرت الذات الإلهية من حيث النسب والإضافات وهي اعتبار الذات مع جميع الصفات .
(ثم إن الذات لو تعرت عن هذه النسب لم تكن إلها) أي لم يظهر ألوهيته .
(وهذه النسب) أي الصفات الإلهية التي تثبت للحق كالخالق والرزاق وغير ذلك من الصفات الإضافية.
(أحدثتها أعياننا) أي أظهرت أعياننا الخارجية هذه الصفات .
(فنحن جعلناه بمالوهيتنا إلها) أي فنحن بعبوديتنا أظهرنا معبوديته كما أظهرنا بأعياننا الخارجية ألوهيته .
وهي اتصافه بجميع الصفات فإذن لم يكن ظهور الصفات إلا بوجودنا (فلا يعرف الحق من حيث الصفات .
(حتى نعرف) فيتوقف معرفة الحق من حيث الصفات إلى معرفة وجودنا كما توقف ظهور الصفات إلى وجودنا.
(قال عليه السلام: فمن عرف نفسه فقد عرف ربه) فقد ربط معرفة الرب إلى معرفة النفس .
""ففي الأثر: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» .ذكره المناوي في التيسير بإسناد جيد وكذلك فى فتح القدير و ذكره على القاري فى مشكاة المصابيح.
قال الشيخ الأكبر محيي الدين: هذا الحديث «من عرف نفسه فقد عرف ربه» ؛ وإن لم يصح من طريق الرواية؛ فقد صح عندنا من طريق الكشف.أهـ
كذلك تؤكده صحته شواهده فى الآية :"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" [فصلت : اية41 ] و الآية : وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) الذاريات" فمن عرف نفسه فقد عرف ربه.""
(وهو أعلم الخلق بالله) فدل ذلك على أن الأمر كما قلناه فلا يعلم الحق من حيث إنه إله من غير نظر إلى العالم .
فلا تطلب أنت معرفة الحق من غير نظر إلى العالم لئلا تقع في الغلط .
(فإن بعض الحكماء) وهو أبو علي "الرئيس ابن سيناء الفيلسوف الطبيب"ومن تابعه (وأبا حامد) وهو الإمام الغزالي ومن تابعه (ادعوا أنه) والضمير للشأن .
(بعرف الله من غير نظر إلى العالم وهذا غلط نعم نعرف ذات قديمة أزلية) لا كلام ولا نزاع فيه وإنما كلامنا في أنه ( لا يعرف انها إله حتى يعرف المألوه فهو).
أي المألوه (الدليل عليه) أي على الإله فمن لم يعرف الدليل لم يعرف المدلول وأبو حامد نفي بذلك بقوله : يعرف الله من غير نظر إلى العالم .
وأما معرفة ذات قديمة أزلية فثابت عند الشيخ بدون النظر إلى العالم .
(ثم بعد هذا) أي بعد معرفتك الحق بالعالم وهذا أول مرتبة في العلم بالله لأنه استدلال من الأثر إلى المؤثر ولا توقف له على الكشف.
لذلك قال : (في ثاني حال يعطيك الكشف أن الحق نفسه كل عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيته) فإن الاستدلال من الأثر إلى المؤثر يوصل إلى هذا الكشف على معنى أنه استدللنا بوجودنا الخارجي إلى أعياننا الثابتة.
لأنه أثرها و استدللنا بأعياننا على ألوهيته وهي صفات الله وأسمائه و استدللنا بأسمائه وصفاته على ذاته تمت مرتبة الاستدلال ثم يعطيك الكشف أن أعياننا الثابتة عين الصفات.
وأن الصفات عين الذات فكان الحق نفسه عین الدليل على نفسه وعلى ألوهيته .
فإذا كان الحق عين الدليل على نفسه كأن نفس الحق دليلا على نفسه وعلى ألوهيته لا العالم .
بل العالم مرآة لفيضانه الوجود فيه بالتجلي الاسمائی كالمرآة .
فإن المرآة ليست دليلا على وجود الرائي بان الدليل هو الصورة الحاصلة فيها من الرائي التي هي عين الرائي.فكان الرائي عين الدليل على نفسه.
قال الشيخ رضي الله عنه : (و) يعطيك (أن العالم ليس إلا تجليه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها) في الخارج (بدونه).
أي بدون ذلك التجلي (و) بعطيله، الكشف (أنه) أي الحق (متنوع ويتصور) على البناء للفاعل (بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها وهذا) الكشف والذوق (بعد العلم به). أي بعد العلم والحكم منا أنه إله لنا.
ونحن تحت حكومته هذا نتيجة قرب الفرائض ويسمى مقام الجمع وفي هذا المقام يكون الحق ظاهرا والعبد مخفيا .
(ثم يأتي الكشف الآخر فيظهر صورنا فيه) أي في الحق .
(فيظهر بعضنا البعض في الحق) للمناسبة المقتضية للظهور .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فيعرف بعضنا بعضا ويتميز بعضنا عن بعض) في الحق فظهر منه أن البعض لا يظهر ولا يعرف ولا يتميز عن بعض وهذا الكشف أعلى من الأول.
فإنه قرب النوافل ويسمى مقام الفرق بعد الجمع وجمع الجمع .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فمنا من يعرف أن في الحق وقعت هذه المعرفة لنا بنا) بظهور صورنا فيه .
(ومنا من يجهل الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة بنا) فلا يحصل له هذه المعرفة .
لأن في الحضرة فرع المعرفة بنفس الحضرة ومن لم يعرف الحضرة لم تكن الحضرة مرآة ولم يظهر له الصور فيها حتى حصل المعرفة.
قال الشيخ رضي الله عنه : ("أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين") بالحضرة. ثم بين جمع المقامين الحاصلين عن الكشفين
بقوله: (و بالكشفين معا) يحصل لنا العلم. بان (ما بحكم) الحق (علينا إلا بنا)
بسبب طلبنا ذلك الحكم منه لكن يظهر ذلك الحكم فينا هذا ناظر إلى الكشف الأول .
(لا) أي لا يحكم الحق بحكم من الأحكام علينا بنا.
(بل نحن نحكم علينا بنا) أي بل الحاكم علينا بنا نحن .
(ولكن) ذلك الحكم يظهر( فيه) أي مرآة الحق هذا ناظر إلى الكشف الثاني.
فمن جمع بينهما بحيث لا يحجب أحدهما عن الآخر فهو الواصل إلى درجة الكمال في رتب العلم بالله .
(ولذلك) أي ولأجل أن كون الحكم علينا منا لا من الله وإن الله ما فعل بنا إلا ما نحن نفعل بأنفسنا.
(قال الله تعالى: "قل فلله الحجة البالغة " [الأنعام: 149 ] بعني على المحجوبين)، الذين لم ينكشف لهم ما انكشف للعارفين في الدار الدنيا .
قال الشيخ رضي الله عنه : (إذا قالوا للحق لم فعلت بنا كذا وكذا مما لا يوافق أغراضهم فيكشف) الحق (لهم عن ساق) .
إشارة إلى قوله تعالى: ("يوم يكشف عن ساق" [القلم: 4۲].وساق الأمر أصله ونهايته.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهو) أي الكشف عن ساق في الآخرة (الأمر الذي كشفه العارفون هنا) وتحقق به (فيرون) المحجوبون عند كشف الحق لهم عن ساق الأمر( أن الحق ما فعل بهم إلا ما) أي الذي( ادعوه) في حال حجابهم (أنه) أي الحق.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فعله) أي فعل ما ادعوه وهو قولهم : لم فعلت بنا كذا وكذا (و) يرون أن ذلك الفعل الذي أسندوه للحق صدر (منهم) لا من الله.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فإنه) أي الحق (ما علمهم إلا على ما هم عليه) وما فعلهم إلا ما علمه منهم (فتندحض) أي تبطل (حجتهم وتبقى الحجة الله) تعالى (البالغة) على المحجوبین. قال الشيخ رضي الله عنه : (فإن قلت: فما فائدة قوله تعالى: "لو شاء، لهداكم أجمعين " )[النحل: 9] .
يعني إذا كان الحكم علينا منا لا من الله فما معنى تعلق المشيئة إلى هداية الكل في قوله تعالی: "لو شاء، لهداكم أجمعين " [النحل: 9]
(قلنا) في بيان فائدة هذا الكلام (أن لو حرف امتناع لامتناع) أي حرف موضوع لامتناع الشيء لامتناع غيره.
فامتناع هداية الكل إنما كان لامتناع تعلق المشيئة إليها .
وإنما امتنع تعلق المشيئة إلى بداية الكل لأن تعلق المشيئة تابع لتعلق العلم والعلم تابع للمعلوم . فما علم الله إلا على ما هو الأمر عليه.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فما شاء إلا ما هو الأمر عليه) فلو كانت الأعيان الثابتة كلها طالبة من الله الهداية لقاء هداية الكل تهداهم كلهم فكانت هداية الكل ممتنعة في نفس الأمر لأنه لا مكان لها ولا تعلق للمشيئة بالممتنع وأما عند العقل فلا امتناع.
وإليه أشار بقوله: (ولكن عين الممكن) لإمكانه (قابل للشيء ونقيضه في حكم دليل العقل) فأمكن عند العقل هداية عين كل ممكن لأن العقل قاصر عن إدراك الشيء على ما هو عليه فجاز أن يكون الشيء الواحد ممتنعا في نفسه وممكنا عند العقل. (واي الحكمين المعقولين) من الهداية وعدمه
قال الشيخ رضي الله عنه : (وقع ذلك) الحكم المعقول (هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته) فلا يمكن الهداية أي الإيمان بالرسل في استعداد كل أحد فلا يشاء إيمانه ولو أمكن إيمانه في نفسه يشاؤه فحصل له الإيمان.
ولما حقق الآية على التفسير شرع تأويلها وتطبيقها بما ذكر من حاصل الكشفين بقوله: (ومعنى لهديكم ليبين لكم) أجمعين ما هو الأمر عليه كما بين لبعضكم الاقتضاء استعداد ذلك البعض بيان الأمر على ما هو عنيه.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وما) أي ليس (كل ممكن من العالم فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمر في نفسه على ما هو) الأمر (عليه) .
لأن منهم يقتضي ذلك الفتح فتح الله له ومنهم من يقتضي عدم الفتح فلم يفتح الله له (فمنهم العالم) حقيقة الأمر على ما هو عليه يفتح الله عين بصيرته .
قال الشيخ رضي الله عنه : (و) منهم (الجاهل) حقيقة الأمر على ما هو عليه بعدم فتح الله عين بصيرته فإذا لم يفتح عين بصيرة كل ممكن.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فما شاء) هداية الكل (فما هدیهم اجمعين ولا يشاء) أي ولا تعلق لمشيئته هداية الكل في الماضي والمستقبل .
(وكذلك) أي ولو شاء (أن يشاء) يعني إذا علق المشيئة بهداية الكل في الاستقبال بحرف إن (فهل يشاء هداية الكل أم لا)؟
استفهام إنكاري بل ما يشاء هداية الكل بعين ما مر في ولو شاء في السؤال والجواب غابته أن لو شاء ما لم يكن.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهذا) أي وإن يشاء (ما لا يكون فمشيئته أحدية التعلق) أي مشيئة الله تعالى واحدة متعلقة بالأشياء على حسبة علمه.
(وهي) أي المشيئة (نسبة تابعة للعلم) لأن ما لم يعلم لا يمكن تعلق المشيئة به (والعلم نسبة نابعة للمعلوم والمعلوم أنت) كناية عن جميع الأعيان.
(وأحوالك فليس للعلم أثر للمعلوم) أي وليس لعلم الحق أثر للمعلوم حتى ينبع المعلوم لعلم الله تعالی فكان المعلوم تابعة لمشيئته وليس كذلك .
(بل للمعلوم أثر) أي حكم (في العلم فيعطيه) أي فيعطي المعلوم العالم (من نفسه) أي من نفس المعلوم .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ما هو عليه في عينه وإنما ورد الخطاب الإلهي بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون و) بحسب (ما أعطاه النظر العقلي) لاشتراك المخاطبين كلهم في النظر العقلي.
(ما ورد الخطاب على) حسب (ما يعطيه الكشف) وإلا لفات نصيب أرباب العقول من الخطاب الإلهي لعدم وفاء استعدادهم بذلك.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ولذلك) أي و لورود الخطاب على حسب إدراك أرباب العقول (كثر المؤمنون وقل العارفون أصحاب الكشوف) لأن أصحاب الكشوف أقل من أرباب العقول فإذا ورد الخطاب على حسب إدراك العقلاء كثر المؤمنون وقل العارفون لعدم ورود الخطاب على ما يعطيه الكشف.
(وما) أحد ("منا إلا له مقام معلوم" ) في علم الله تعالى لا يتعداه في العلم .
فعلم بعضنا بنظر العقل ولا يتعدى عن حكم العقل.
وعلم بعضنا بالكشف والاطلاع على سير القدر ولا يتعدى عن حكومة سر القدر.
(وهو) أي المقام المعلوم لك (ما كنت) متصفا (به في ثبوتك) في علم الله .
(ظهرت) منصفا (به في وجودك) الخارجي (هذا) أي كون المقام بهذا المعنى.
قال الشيخ رضي الله عنه : (أن ثبت أن لك وجودا فإن ثبت أن الوجود للحق لا لك . فالحكم لك بلا شك في وجود الحق) أي فإن كنت معدوما باقيا في حال عدمك والظاهر الحق في مرآة وجودك فأنت تحكم على الله بما في عينك في وجود الحق.
(وإن ثبت أنك الموجود) هذا هو القسم الأول أورده لبيان أحكامه .
(فالحكم لك بلا شك) أي إن كنت موجودة في مرآة الحق فأنت تحكم عليك بك في وجودك .
(وإن كان الحاكم) عليك في ذلك المقام (الحق فليس له إلا إفاضة الوجود عليك).
أي فليس للحق من الحكم عليك إلا إفاضة الرجود عليك فقط لا غير وما عدا ذلك كله لك عليك.
قال الشيخ رضي الله عنه : (والحكم لك عليك) على كلا التقديرين غير إفاضة الوجود وذلك أيضا من طلبك من الله ولولا طلبك لما أفاضه فإذا كان رجوع الحكم منك إليك .
(فلا يحمد) عند ورود الحكم الملائم لطبعك إلا نفسك ولا تذم) عند ورود الحكم الغير الملائم لطبعك (إلا نفسك) فما حمدك وذمك إلا نفسك.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وما يبقى للحق) من الحمد (إلا حمد إفاضة الوجود) وبذلك تفرق الرب من العبد
(لأن ذلك له لا لك) بل هو أيضا يحصل لك من الله بطلب عينك فإذا كان الأمر على ما قلناه .
قال رضي الله عنه : فأنت غذاؤه بالأحكام، ... و هو غذاؤك بالوجود.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فانت غذاؤه) أي غذاء الحق (بالأحكام) هذا ناظر إلى أن الوجود للحق ظهر في مرآة العبد .
(وهو) أي الحق (غذاؤك بالوجود) هذا ناظر إلى أن الوجود للخلق لكنه ظهر في مرآة الحق فإذا كنت غذاؤه بالأحكام وهو غذاؤك بالوجود.
(فتعين عليه) من الأحكام (ما تعین عليك) في حال ثبوتك (فالأمر منه إليك) بالوجود (ومنك إليه) بالأحكام .
قال الشيخ رضي الله عنه : (غير أنك تسمی مكلفا وما كلفك) الحق (إلا بما قلت له كلفني بحالك وبما أنت عليه) أي وما كلفك الحق بحالك وما كلفك بما أنت عليه.
إلا بسبب قولك له : كلفني بحالي وبما أنا عليه فكان التكليف من وجهك من وجه فبحالك يتعلق بكلفك .
وبما أنت عليه معطوف على بحالك على ما ذهب إليه بعض الشراح والأولى أن يتعلق بحالك .
قال الشيخ رضي الله عنه : بقوله : كلفني (ولا يسمى) الحق (مكلفا اسم مفعول) لعدم القول منه لك بكلفني لأنه موجود بذاته مفيض للوجود عليك لأنه لا يجيء هذا القول إلا من استفاض عن غيره لذلك لا يسمی مكلفا بل يسمى مكلفا اسم فاعل.
ولما بين المقامين وهما أن يكون الحق ظاهرا أو العبد باطنا وأن يكون العبد ظاهرا والحق باطنا.
أدرج نتائج المذكورات مع المعاملات والمجازات بين الحق والعبد في الأبيات تسهيلا للطالبين .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : شعر:
(فيحمدني و أحمده ... و يعبدني و أعبده
ففي حال أقر به ... و في الأعيان أجحده
فيعرفني و أنكره ... و أعرفه فأشهده
فأنى بالغنى و أنا ... أساعده فأسعده؟
لذاك الحق أوجدني ... فأعلمه فأوجده
بذا جاء الحديث لنا ... و حقق في مقصده )

قال الشيخ رضي الله عنه : (فيحمدني) على إظهاري إياه أسماؤه وصفاته وأحكامه لأن أحكامه تربي بي هذا ناظر إلى أن العبد باطن والحق ظاهر.
(واحمده) على إفاضة الوجود على الأن وجودي وجميع أحكامي تربي به مذا ناظر إلى أن العبد ظاهر والحق باطن وكذلك.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ويعبدني) فإني مرب لأحكامه فكان مربوبي من حيث ظهور أحكامه بي هذا ناظر إلى أن العبد باطن والحق ظاهر.
قال الشيخ رضي الله عنه : (واعبده) فإني مربوب له من حيث الوجود والأحكام هذا ناظر إلى أن الحق باطن والعبد ظاهر.
وليس المراد بعبادة الحق عبادة تكليف شرعي فإنه محال على الله بان المراد بیان وجود معنى الربوبية والعبودية من الطرفين .
فلا أساء الأدب في المعنى بل في اللفظ فترك الأدب لضيق العبارة وهو من دأبهم وإلا لزم ترك ما وجب عليه إظهاره في هذا المقام وهو معنى من المعاني المعلومة عن الكشف الإلهي الذي لا يمكن التعبير عنه إلا بهذه العبارة .
بل استعمال هذه الألفاظ في هذه المعاني في حق الحق بإذن الله تعالى ونظرهم في الألفاظ إلى معنى اللغة وما يناسبها .
فإن بين الربوبية والعبودية مناسبة في المعنى اللغوي وقد أشار إليه في الأبيات الأخرى.
العبد رب والرب عبد، هذا إن كان العبد باطنا والرب ظاهرا فجمع العبودية والربوبية.
يا ليت شعري من المكلف، من هذا الوجه وقد بينا لك وجه التكليف.
"" حديث مسلم عن أنس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح " صحيح مسلم ""
قال الشيخ رضي الله عنه : (ففي حال) أي في ظهور الحق وبطوني. (أقر به) أي بالحق (وفي الأعيان) أي في حال ظهوري وبطونه عني.
قال الشيخ رضي الله عنه : (اجحده فيعرفني) في الأعيان وأنكره فيها لعدم علمي به في الأعيان الظهور الأعيان في مرآة الحق فكان هو مختفيا بالأكوان.
فكان قوله وأنكره ناظر إلى قوله :
اجحده (واعرفه) في حال ظهوره و بطوني (فاشهده) أي أقر به في الحال لأن المعرفة تقتضي الإقرار والشهادة كما أن عدم المعرفة تقتضي الإنكار.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فإني بالغني) غني من جميع الوجوه (و) الحال (انا اساعده) بإظهار أحكامه وكمالاته على حسب استعدادي هذا ناظر إلى أن العبد باطن والحق ظامر.
(وأسعده) بإظهار وجودي وكمالاتي فيه هذا ناظر إلى أن العبد ظاهر والحق باطن.
(لذلك) أي لأجل إسعادي إياه (الحق أوجدني) أي جعلني موجودة وأثبت الوجود لي هذا ناظر إلى أن العبد ظاهر والحق باطن .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فأعلمه) بهذا الوجود نفس متكلم من الثلاثي (فأوجده) أي أثبت إنما هذا الوجود له كما أثبت هولي هذا ناظر إلى أن العبد باطن والحق ظاهر وهذا مجازات بين الرب والعبد.
(بنا) أي بالذي قلت (جاء الحديث) الإلهي (النا) فهو قوله فخلقت الخلق لأعرف (وحقق) على البناء للمفعول من التفعيل (في) مشددة متكلم (مقصده) بمعنى المقصود و المطلوب وهو العبادة والمعرفة .
ثم رجع إلى بيان أحكام الخليل عليه السلام التي لم يبين فقال:
(ولما كان للخليل عليه السلام هذه المرتبة التي بها سمي خليلا) وهي التخلل بين طرفي الحق والعبد .
قال الشيخ رضي الله عنه : (لذلك) أي لأجل ذلك المرتبة (سن الخليل القرى) أي الضيافة (و) لأجل هذه المرتبة له (جعله ابن مسرة) بتشديد الراء المهملة وهو من كبار أهل الطريقة.
(مع میكائیل للأرزاق) أي قال ابن مسرة ميكائيل وإبراهيم للأرزاق أي مؤكلان لها (وبالأرزاق يكون تغذي المرزوقين فإذا تخلل الرزق ذات المرزوق بحيث لا يبقى فيه) .
أي في أجزاء المرزوق (شيء إلا تخلله) أي تختل الرزق ذلك (فإن الغذاء يسري في جميع أجزاء المتغذي كلها) .
فوجب للخليل بهذه المركبة أن يسري الحق (وما هنالك) أي وليس في الحق (أجزاء) إذا لا جزاء مجال عليه بل فيه أسماء و صفات (فلا بد أن يتخلل جميع المقامات الإلهية المعبر عنها) كلها (بالأسماء فتظهر بها) أي بالأسماء (ذاته جل وعلا) قوله : فإذا الشرط وجوابه فلا بد فإذا كان الأمر .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : ما قلناه شعر:
فنحن له كما ثبتت ... أدلتنا ونحن لنا
وليس له سوى كوني ... فنحن له كنحن بنا
فلي وجهان هو وأنا ... و ليس له أنا بأنا
ولكن في مظهره ... فنحن له كمثل إنا
و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل.)
(فنحن له) كما (تثبت أدلتنا) في إظهار أحكامه وكمالاته.
هذا ناظر إلى أن المتخلل اسم فاعل هو العبد والمتخلل أسم مفعول هو الحق فكان العبد غذاء للحق.
(ونحن لنا) لإظهار وجودنا وأحكامنا في الحق هذا ناظر إلى أن المتخلل اسم فاعل وهو الحق والمتخلل أسم مفعول هو العبد فكان الحق غذاء للعبد .
.

يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 3:46 pm

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإبراهيمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الجزء الثاني
05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : ما قلناه شعر:
فنحن له كما ثبتت ... أدلتنا ونحن لنا
وليس له سوى كوني ... فنحن له كنحن بنا
فلي وجهان هو وأنا ... و ليس له أنا بأنا
ولكن في مظهره ... فنحن له كمثل إنا
و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل.)
(فنحن له) كما (تثبت أدلتنا) في إظهار أحكامه وكمالاته.
هذا ناظر إلى أن المتخلل اسم فاعل هو العبد والمتخلل أسم مفعول هو الحق فكان العبد غذاء للحق.
(ونحن لنا) لإظهار وجودنا وأحكامنا في الحق هذا ناظر إلى أن المتخلل اسم فاعل وهو الحق والمتخلل أسم مفعول هو العبد فكان الحق غذاء للعبد .
(وليس له سوى كوني) أي ليس الحق ح?م سوی فیض الوجود علي في كوننا لنا هذا ناظر إلى تخلل الحق وجود العبد فكان الحي غذية العبد.
(فنحن له) هذا ناظر إلى تخلل العبد وجود الحق فكان العبد غذاء اللحن .
(كنحن بنا) والباء في بنا بمعنى اللام هذا ناظر إلى تخلل الحق وجود العبد فكان الحق غذاء للعبد.
فمعناه كما أن الوجود في مقام نحن له للحق لا لنا وهو مقام كون العبد باطنة والحق ظاهرا.
كذلك في مقام نحن لنا وهو مقام كون الحق باطنا والعبد ظاهرا والوجود للحق لا لنا.
وبهذا المعنى صرح بقوله : (وليس له سوی ?وني) فأثبت أن الوجود له
 
في هذا المقام أيضا فإذا ثبت في حقنا نحن له ونحن لنا .
(فلي وجهان هو) فمن هذا الوجه كنا نحن له ومن هذا الوجه لا تعين لنا لأن الثعین تابع للوجود والوجود للحق لا لنا .
(إنا) فمن هذا الوجه كنا نحن لنا فكان الحق عيننا بإفاضة الوجود علينا فنحن لنا لكونه نحن لنا وأما أنینه وهي به لا بنا فصار تعیننا بسبب الحق .
(وليس له انا بانا) يعني ليس تعين الحق بسبينا لأن التعين لما كان تابعة للوجود وكان وجوده تعالى لذاته وعين ذاته كان تعينه لذاته فلا يمكن المجازاة في هذا الوجه فلا يتعين بتعيننا .
(ولكن في) بتشديد الياء (مظهره). وفي قوله ني دون قوله أنا إشارة إلى أن المظهر للحق في الحقيقة ليس الهيكل المحسوس الصوري بل المظهر هو مدير هذا الهيكل وملكوته .
(فنحن له كمثل أنا) أي كالظروف وقد أشار إلى عدم الحلول وكمال الامتياز عنا بقوله: ولكن في مظهره فنحن له كمثل أنا.
("والله يقول الحق وهو يهدي السبيل").
.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 4:18 pm

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإسحاقي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الجزء الأول
06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
( (فداء نبي ذبح لقربان    ... و أين ثؤاج الكبش من نوس إنسان
و عظمه الله العظيم عناية   … بنا أو به لا أدر من أي ميزان )
قال الشيخ رضي الله عنه : (فداء بني) استفهام للتعجب حذف همزته للعلم بها (ذبح) بفتح الذال مصدر (ذبح) بالكسر ما يذبح من الحيوانات القربان وابن ثواج الكيش) أي وأين صوت الغنم وحركته
(من نوس إنسان) أي من صوت الإنسان وحركته حين يذبح (وعظمة الله العظيم) أي والحال أن الله أعظم ذلك الكبش. بقوله :"وفديناه بذبح عظيم " 107 الصافات.
(عناية به) أي بالذبح تعظيما به يجعله فداء عن النبي العظيم القدر عند الله (أو بنا) أي تعظيما لشأن نبينا عليه السلام بجعل الذبح العظيم الشأن عند الله فداء عنه.
(لم أدر) هذا التعظيم (من أي میزان) أي من أي قسم من قسمي التعظيم
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
( و لا شك أن البدن أعظم قيمة  ... و قد نزلت عن ذبح كبش لقربان
فيا ليت شعري كيف ناب بذاته ...   شخيص كبيش عن خليفة رحمان
ألم تدر أن الأمر فيه مرتب  … وفاء لإرباح و نقص لخسران؟
فلا خلق أعلى من جماد و بعده ... نبات على قدر يكون و أوزان
و ذو الحس بعد النبت والكل عارف ... بخلاف كشفا و إيضاح برهان )
قال الشيخ رضي الله عنه : (ولا شك أن البدن) بضم الباء وسكون الدال جمع بدنة (أعظم قيمة) من الكبش .
(و) الحال (قد نزلت) أي انحطت (عن ذبح كبشر لقربان) أي لم تكن البدنة فداء عن نبی كریم مع أنها أعظم قيمة من الكبش .
(فيا ليت شعري كيف ناب بذاته ، شخيص الكبش) تصغيرين (عن خليفة رحمان) يعني لا ينوب بذاته عن خليفة رحمان بل لمعنى زائد على ذاته الجليل القدر عند الله.
الذي كان في خليفة رحمان فيه كان وهو إسحاق علیه السلام .
وأكثر المفسرين ذهبوا إلى ما رآه إبراهيم إسماعيل عليهما السلام وبعضهم ذهب إلى أنه إسحاق عليه السلام .
والشيخ اختار هذا المذهب لتطابق كشفه مذهب البعض.
والمراد بإتیان التصغير أن يعلم أن العظمة ليست بالنظر إلى الصورة ولا بالنظر إلى القيمة بل المراد العظمة عند الله وهو الوفاء بالعهد السابق .
ويجوز أن يكون المراد من خليفة رحمان إبراهيم عليه السلام أو كليهما لأن الفداء عن الولد فداء عن الوالد .
(ألم تدر) استفهام تقریر خطاب (أن الأمر نیه) أي في الفداء (مرتب) متناسب في الوصف وإن لم يكن له مناسبة في الذات والصورة .
لكن الاعتبار بالمعنى وقد اعتبره الله تعالى بقوله : " بذبح عظيم" فلا ناب بذاته بل مع الوصف الشريف والكبش أعظم انقيادة وتسليما للذابح من غيره .
بل هذا الوصف أصل في الكبش وفدي الشريف عن الشریف (وفاء) أي إطاعة وتسليم لأمر الله (لإرباح) بكسر الهمزة أي لتجارة رابحة .
فكانت تجارة إبراهيم وإسحاق عليهما السلام الانقياد والتسليم رابحة مربحة وربح التجارة الفداء عنهما، وكأن تجارة الكبش وهي انقياده وتسليمه للذابح رابح ومي نداره عن خليفة رحمان (ونقص لخسران) ولو نقصا في الانقياد والتسليم ما ربحت تجارتهما ولم يفد عنهما والأرباح مرتبة على الوفاء والخسران مرتب على النقص. وقوله : وفاء ونقص خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو أي المرتب وفاء الخ.
وقوله : بین جهة العلو في الكبش شرع بهذه المناسبة في بيان جهة بعض الأشياء على بعض بحسب التركيب من قلة الأجزاء وكثرتها.
فقال : (فلا خلق أعلى من جماد) لقلة أجزائه فكان أقرب من المبدأ من غيره لقلة الوسيط وما كان أقرب فهو الأفضل من الأبعد فقد كان أفضل ما كان أسفل عندك وأسفل ما كان أفضل عندك فاعتبروا أيها السالكون في طريق الحق و اتركوا علومكم العادية والرسمية حتى يعلمكم الله من لدنه علما.
(وبعده) أي والأعلى بعد الجماد (نبات على قدر يكون واوزان) يعني أن العلو يكون على قدر أجزائه وأوزانه (وذو الحس بعد النبت) لأنه أكثر أجزاء من النبت فكان أبعد من الحق منه .
(فالكل عارف بخلاقه) لعدم احتجابهم عن ربهم بسبب قلة الإجزاء والإمكانات في تركيب وجودهم وقد علم عرفناهم بخلافهم (كشفا وإيضاح وبرهان) أي علم عرفانه بكشفنا وإيضاح برهان لأن عرفانهم لا يكون عن كشف وإيضاح برهان إذ الكشف عبارة عن رفع الحجاب فلا حجاب لهم فلا رفع ولا حظ لهم عن إيضاح برهان فلا ينصرف الكشف والإيضاح إلى عرفانهم.
ويجوز أن يكون الكشف عبارة عن عدم الحجاب وإيضاح برهان عبارة عن أنفسهم لأن أنفسهم بسبب قلة الإجزاء براهين واضحة على ربهم دون نفس الإنسان فيتعلق الكشف والإيضاح إلى عرفانهم وعلى الوجه الأول البرهان قوله تعالی: "سبح لله ما في السموات والأرض" [الحدید: ۱].
وقوله تعالى : "وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم" [الإسراء: 44] .
والتسبيح لا يكون إلا عن علم ويؤيده قوله.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
( و أما المسمى آدما فمقيد  … بعقل و فكر أو قلادة إيمان
بذا قال سهل و المحقق مثلنا  ... لأنا و إياهم بمنزل إحسان
فمن شهد الأمر الذي قد شهدته …    يقول بقولي في خفاء و إعلان
و لا تلتفت قولا يخالف قولنا ... و لا تبذر السمراء في أمر عميان
هم الصم و البكم الذين أتى بهم ... لأسماعنا المعصوم في نص قرآن)
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما المسمى آدم نمقيد بعقل وفكر) إن كان من أهل النظر (او قلادة إيمان) إن كان من المؤمنين فمقيد بالإيمان التقليدي لكثرة قيودهم واجزائهم فكانوا محجوبين عن ربهم فلم يصل إلى درجتهم إلا بالكشف فكان كلهم أعلى من آدم عليه السلام من هذا الوجه .
وقد كان علمك على أن آدم عليه السلام أفضل الخلق كيف ظهر خلاف علمك فاترك علمك واطلب العلم النافع الذي يحصل عن كشف إلهي لا خلاف فيه وهو مقام الحيوانات والنباتات والجمادات.
(بنا) أي بما قلت (قال سهل) وهو من كبار الأولياء وقال (المحقق مثلنا) فإن علم المحققين يحصل عن كشف إلهي فلا يقبل الاختلاف والاختلاف لا يكون إلا في العلم الاجتهادي.
لذلك قال : مثلنا إذ كلهم واحد في الاطلاع على حقيقة الأمر .
وإليه أشار بقوله: (لأنا وإياهم بمنزل إحسان) بمقام المشاهدة والعيان
(فمن شهد الأمر الذي قد شهدته يقول بفولي في خفاء وإعلان) أن يتكلم قولي في أي حال كان لأن ما شهدته مطابق بنص قرآن.
(ولا تلتفت قولا يخالف قولنا) وهو قول بعض أهل النظر (ولا تبذر السمراء في ارض عميان) أي لا تقل قولي لمن كان أعمى قلبه .
وهو قوله تعالى : "لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى في الصدور" [الحج: 41] .
فإنه لا تنبت المعارف الإلهية في أرضهم (هم) أي العميان (الصم والبكم الذين أني بهم لإسماعنا المعصوم) فاعل أتى المعصوم وهو محمد عليه السلام.
(في نص قرآن) وهو قوله تعالى : "صم بكم عمي فهم لا يعقلون" [البقرة: 171] .
( قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم أيدنا الله وإياك أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال لابنه: «إني أرى في المنام أني أذبحك» والمنام حضرة الخيال فلم يعبرها. وكان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام فصدق إبراهيم الرؤيا، ففداه ربه من وهم إبراهيم بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند الله تعالى وهو لا يشعر.فالتجلي الصوري في حضرة الخيال محتاج إلى علم آخر يدرك به ما أراد الله تعالى بتلك الصورة. )
قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم أيدنا الله وإياكم أن إبراهيم عليه السلام قال لابنه وإن أرين في الساير ان أذبلك [الصافات: 102] والمنام حضرة الخيال فلم يعبرها) من العبور أو من التعبير فحمل ما رآه على ظاهره كما هو عادة الأنبياء فظن أن الحق أمره ذبح ابنه فباشر الذبح إطاعة لأمر ربه .
(وكان) ما رآه (كبشا ظهر في صورة ابن إبراهيم عليه السلام في المنام) لمناسبة بينهما في الانقياد والتسليم (فصدق إبراهيم الرؤيا) بمباشرة الذبح (ففداه) عن ابنه (ربه من وهم إبراهيم عليه السلام) من أنه وهم إبراهيم عليه السلام أن ما رآه ابنه وإلا لا نداء في الحقيقة.
(بالذبح العظيم الذي هو) أي الذبح العظيم (تعبير رؤياه عند الله وهو) أي إبراهيم عليه السلام (لا يشعر) أن الذبح الذي أتى به عند قصده ذبح ابنه وهو تعبير رؤياه فقال :"وفديناه بذبح عظيم ".  (فالتجلي الصوري في حضرة الخيال محتاج إلى علم آخر) وهو العلم الحامل من التجلي الإلهي (يدرك به ما أراد الله بتلك الصورة) . واستدل على ذلك بحديث الرسول عليه السلام فقال
قال الشيخ رضي الله عنه : (ألا ترى كيف قال رسول الله عليه السلام لأبي بكر رضي الله عنه في تعبيره الرؤيا أصبت بعضا وأخطأت بعضا فسأله أبو بكر أن يعرفه ما أصاب فيه وما أخطأ فيه فلم يفعل عليه السلام) حكاية الرؤيا مذكورة في كتب الأحاديث

قال الشيخ رضي الله عنه : (وقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام حين ناداه "وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا") [الصافات : 105].
أي قد جعلت رؤياك صادقة في الحس باعتقادك ومباشرتك بحسب اعتقادك وليس المراد برؤياك ما أخذته بل المراد غير ذلك ولم تطلع على ما هو المراد من رؤياك.
دع نفسك عن ذبح ولدك فإنك قد ذهبت إلى غير سبيل رؤياك بأن كنت مصدقا للرؤيا بقصد ذبح ولدك وما كان في علمي أن تذبح ولدك فإني قد حرمت ذبح الإنسان وليس لك ذبح في علمي إلا الكبش الذي رأيته في صورة ولدك .
ولو صبر إبراهيم عليه السلام وطلب علم ما رآه من الله لنزل الكبش إليه البتة إذ هو المعجزة المخصوصة المقدرة في العلم الأزلي .
فكان المراد من الرؤيا عند الله غير ابنه ولو كان المراد هو ابنه لقال حين ناداه : " ونادناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا " بالتخفيف في الرؤيا أنه ابنك (وما قال له صدقت) بالتخفيف (في الرؤيا أنه ابنك) .
ولما لم يقل ذلك بل قال له : صدقت الرؤيا علمنا أن ما رآه ليس ابنه وأن الفداء فداء عن ذهن إبراهيم عليه السلام و إنما قال : "قد صدقت الرؤيا" .
(لأنه ما عبرها بل أخذ بظاهر ما رأى و الرؤيا) أي رؤياه هذه فاللام للعهد إذ ما كل الرؤيا يدخل فيه التعبير لذلك قال في حق رؤياه هذه قد صدقت فإنه يدخل فيها التعبير ولو لم يطلب رؤياه التعبير لما قال ذلك.
أو المراد الجنس اي والحال أن جنس الرؤيا وهو أنسب لقوله : (تطلب التعبير ولذلك) أي لأجل طلب الرؤيا التعبير (قال العزيز إن كنتم للرؤيا تعبرون) لعلمه أن رؤياه تطلب التعبير (ومعنى التعبير الجواز من صورة ما رآه إلى أمر آخر) الذي هو المراد الصورة المرئية .
(فكانت البقر سنين في المحل والخصب) أي المراد من صورة البقر العجاف سنين القحط ومن البقر السمان سنين السعة فإذا كان رؤياه تطلبه التعبير لم يصدق إبراهيم عليه السلام في الرؤيا ولو لم تطلب الرؤيا التعبير لصدق إبراهيم عليه السلام (فلو صدق) إبراهيم عليه السلام (في الرؤيا لذبح ابنه) لأن فعل الذبح وهو قطع عنق ولد بالسكين واقع عن إبراهيم عليه السلام في الرؤيا يدل على ذلك ظاهر الآية : أني أرى في المنام أني أذبحك" .
ولو لم ير صدور هذا الفعل منه في المنام لما هم وقصد القطع حتى غضب ورمى السكين فإنما يكون إبراهيم عليه السلام صادقا في الرؤيا لو وقع هذا الفعل بعينه عنه في الحس فلم يقع .
إذ ما يصدر عن الأنبياء ما لا يرضي الله تعالی عنه ولا يتعلق إدارته خصوصا من الكبائر فلم يصدق
قال الشيخ رضي الله عنه : (إنما صدق الرؤيا في أن ذلك عين ولده) وليس ذلك عين ولده ولم يصدق في هذا التصديق لعدم مطابقته في نفس الأمر فإذا لم يصدق في تصدیقه لم يصدق في رؤياه كما بينا .
(وما كان عند الله إلا الذبح العظيم) الذي رآه (في صورة ولده) فكما أن ما كان عند الله إلا الذبح العظيم كذلك ما كان عند الله إلا تصديق الرؤيا عن إبراهيم عليه السلام في ذلك عين ولده وما فعل الأنبياء إلا ما هو عند الله.
(ففداه) الحق بالذبح العظيم (لما وقع في ذهن إبراهيم عليه السلام) عن ذبح ولده (ما هو) أي ليس ذلك الذبح (فداء في نفس الأمر عند الله) بل هو فداء عند الله في ذهن إبراهيم عليه السلام للرؤيا صورتان :
صورة الذبح وهي بعينه الذبح الذي وقع في الحس في الكبش فكان المراد عين تلك الصورة لا غير إذ الحس لا يصور إلا عين الصورة فلا يطلب ما في الحس التعبير بخلاف الخيال فما كان المراد بالصورة الحسية إلا عين تلك الصورة (فصور الحس الذبح وصور الخيال ابن إبراهيم عليه السلام) لذلك دخل التعبير إذ المراد من الصور الخيالية ما حصل من المعاني لا نفس تلك الصورة فظهر المعنى الكبشية في خيال إبراهيم عليه السلام في صورة ولده .
فحكم وهم إبراهيم عليه السلام أن المراد هو نفس الصورة فعمل بما حكم عليه وهمه .
فجاز ظهور المعاني في الخيال بما يطابق بصورها الحسية أو بغيرها فإذا جاز ظهور المعاني في الخيال بغير صورته الحية لم يظهر معنى الكبشية في خيال إبراهيم عليه السلام بصورته الكبشية لحكمة فلم ير صورة الكبش.
(فلو رأى الكبش في الخيال لعبرة) أي لوجب تعبير الكبش (بابنه أو بامر اخر) لأن هذه الرؤيا في حق إبراهيم عليه السلام ابتلاء واختيار هل يعلم ما في الرؤيا من التعبير أم لا وذلك لا يمكن إلا بالرؤيا التي تقتضي التعبير وبه يندفع ما في وهمك من أنه لم لا يجوز أن يرى الكبش في الخيال فوقع كما في بعض الواقعات فلا يقتضي التعبير.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم قال) إبراهيم عليه السلام: (أن هذا لهو البلاء المبين أي الاختبار المبين أی الظاهر) وإنما قال إبراهيم عليه السلام هذا القول لعلمه عند ذبح الكبش أن المراد بما في المنام من ذبح ولده هو هذا الكبش .
فكان قول إبراهيم عليه السلام أن هذا لهو البلاء المبين بمنزلة قول يوسف النبي عليه السلام هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعل جعلها ربي حقا .
فكان هذه الآية مقدمة في النظم مؤخرا في الوقوع عن آية الفداء (یعني الاختبار) أي اختبار الحق "سبحانه" لإبراهيم عليه السلام (في العلم) أي في علم الرؤيا .
(هل يعلم) إبراهيم عليه السلام (ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا لأنه) أي الحق (یعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير فغفل) إبراهيم عليه السلام عن طلب موطن الخيال التعبير فإذا غفل، (فما وفي الموطن حقه وصدق الرؤيا لهذا السبب) وهو الغفلة .
وإنما قال : فغفل إبراهيم عليه السلام ولم يقل فلم يعلم لأن إبراهيم عليه السلام يعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير في بعض الرؤيا ولم يطلب في بعضها .
واعتمد على أن هذه الرؤيا من قبيل الثاني مع علمه أن عادة رؤيا الأنبياء لا يدخل التعبير فغفل لذلك ولم يعبر (كما غفل تقي بن مخلد الإمام) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة (صاحب المسند) كتاب في الحديث من تصنيفاته. " والصحيح أن اسمه بقي ابن مخلد ابن يزيد الأندلسي 201 - 276هـ المحدث الحافظ المفسر الفقيه " .
(سمع في الخبر الذي ثبت عنده أنه قال عليه السلام: من رآني في النوم فقد رآني في اليقظة فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي )رواه البخاري .
فرآه تقي بن مخلد وسقاه النبي عليه السلام في هذه الرؤيا لبنا (فصدق تقي بن مخلد رؤياه) في نومه عند اليقظة (فاستقاء) في اليقظة (فسقاه لبنا) ولو عبر رؤياه لكان ذلك اللبن علما فحرمه الله علما كثيرا على قدر ما شرب .
قال الشيخ رضي الله عنه : ألا ترى أن رسول الله أنتي (على بناء المفعول (في المنام بقدح لبن قال فشربته حتى خرج الري من أظافري ثم أعطيت فضلي عمر قبل ما أولته) أي قال السامعون بأي شيء عبرت هذه الرؤيا (یا رسول الله قال : العلم وما تركه) أي ما رآه (لبنا على صورة ما رآه لعلمه بموطن الرؤيا و) لعلمه (ما يقتضي من التعبير)، وإنما أول اللبن بالعلم لأن الروح ألطف المخلوقات والعلم ألطف الأغذية الروحانية والصبيان ألطف الأجسام واللبن غذاؤهم وهو ألطف الغذاء الجسمانية (وقد علم أن صورة النبي عليه السلام التي شاهدها الحس) في المنام (إنها في المدينة مدفونة و) علم (أن صورة روحه ولطيفته ما شاهدها أحد من) صورة (أحد ولا من) صورة (نفسه) بل لا بد لشهود روحه من صورة جسده المدفونة في المدينة (كل روح بهذه المثابة) في أنه لا يرى إلا بالتمثل الجسد المثالي.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فيتجسد له روح النبي عليه السلام في المنام بصورة جسده كما مات عليه) فيرى الرائي روح النبي عليه السلام بصورة هذا الجسد ولا يمكن للرائي أن يرى روح النبي عليه السلام بصورة غير هذا الجسد الذي (لا يخرم منه شيئا).
أي لا يقطع ولا يغير من أجزاء هذا الجسد شيء (نهر) أي ما پری للرائي في المنام بصورة جسده (محمد عليه السلام المرئي من حیث روحه في صورة جسدية تشبه المدفونة) يعني لا پری محمد عليه السلام في نفس ذلك الجسد المدفون بل يرى في صورة جسدية مثالية تشبه المدفونة بحيث لا يميز الحس بينهما.
(لا يمكن الشيطان أن يتصور بصورة جسده عليه السلام) أي الجد الذي مات عليه لا يقبل التغيير ولا النقص ولا الزيادة وتنكير الشيطان للتحقير .
(عصمة من الله في حق الرائي) وتعظيما لشأن النبي عليه السلام فعلم منه أن جسد محمد عليه السلام الذي مات عليه لا يتمثل الشيطان بما يماثل ذلك الجسد .
وكذلك الجسد في حال الصبابة والشبابة والشيخوخة لا يتمثل الشيطان بما يماثل بصورة الجسد الذي كان محمد عليه السلام عليه في ذلك الزمان بحيث لا امتیاز بينهما فإن تمثل فلا بد من فارق في الحس.
إما بزيادة أو نقص أو عدم مشابهة بعض الأجزاء إلى بعض، فإن كان مشابهة في بعض الأجزاء إذ لا يمكن لأحد أن يتمثل في صورة جسدية محمد عليه السلام من كل الوجوه لعظمة شأن محمد عليه السلام .
ولا يتمثل روح محمد، عليه السلام في صورة جسده في عالم الصبابة أو الشبابة أو الشيخوخة لعدم وسع هذا الجسد بالصورة المحمدية فلا يتمثل الشيطان أملا وإن كان مماثلا في بعض أجزائه لأن جسد محمد عليه السلام مجموع الهيئة الاجتماعية المعينة بالتعيين المحمدية عليه السلام فالتمثل الذي فرق الحس بینهما ليس جسد المحمدية عليه السلام.
فلا يصدق التماثل إلا إذا كان مشابهة لمجموع الهيئة الاجتماعية بحيث لا امتیاز بينهما وليس كذلك فمن رأى محمد عليه السلام بغیر صورة الجسد الذي مات عليه لم ير روح محمد عليه السلام بل يرى أحوال نفسه يتمثل بصورة جسد محمد عليه السلام بندر المناسبة .
(ولهذا) أي ولأجل عدم تمثل الشيطان بصورة جسد محمد عليه السلام عصمة من الله في حق الرائي (من رآه) أي روح محمد عليه السلام (بهذه الصورة بأخذ) الرائي (عنه جميع ما يأمره) به (او ينهاه عنه أو يخبره كما كان يأخذ عنه) أي لو كان ذلك الرائي مع الرسول عليه السلام (في الحياة الدنيا من الأحكام على حسب ما يكون) أي على حسب الذي يصدر (منه).
أي من الرسول عليه السلام (اللفظ الدال عليه) الضمير في عليه يرجع إلى ما (من نص او ظاهر او مجمل أو ما كان) عليه بيان لما بخلاف ما إذا رای بغير هذه الصورة فإنه ما رأی روح محمد عليه السلام حتى يأخذ الأحكام عنه .
وهذا علامة نصبها الله تعالى لعباده للفرق بين الرائي وغير الرائي حتى يتميز لهم الرائي من غير الرائي فمن رأى محمد عليه السلام بهذه الصورة (فإن أعطاه) محمد عليه السلام في حضرة المنام (شيئا فإن ذلك الشيء هو الذي بدخله التعبير) إن لم يخرج في الحس (فإن خرج) ذلك الشيء (في الحس كما كان في الخيال) أي بصورة ما كان عليه في المنام .
(فتلك الرؤيا لا تعبير لها وبهذا القدر) أي وبسبب قدر وقوع بعض الرؤيا بلا تعبير (وعليه) أي وعلى قدر وقوعه (اعتمد إبراهيم عليه السلام وتقي بن مخلد) ما عبرا فصدقا رؤياهما هو سبب غفلة إبراهيم عليه السلام.

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما كان للرؤيا هذان الوجهان) أي التعبير وعدم التعبير وعلمنا الله نيما نعل بإبراهيم عليه السلام) بالوحي بنبينا عليه السلام (و) علمنا (ما قال له) من قوله : "أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا " وما عبرت (الأدب) أي علمنا الأدب (لما يعطيه) أي الأدب (مقام النبوة) فالأدب في مقام النبوة الطلب علم كل شيء من الله بلا حكم بالرأي فغفل إبراهيم عليه السلام من هذا الأدب بسبب اعتماده على هذا الوجه وأدبه الله تعالی بقوله : "قد صدقت الرؤيا" الصافات: 105.
فأخبر لنا عن أحواله تعليما لنا الأدب مع الله (علمنا) جواب لما (في رؤيتنا الحق تعالى في صورة) مثالية (يردها الدليل العقلي) أي استحال العقل (أن تعبر تلك الصورة) التي بردها الدليل العقلي (بالحق المشروع).
وهو ما يثبت بالشرع أن الحق يظهر بصورة اعتقادات المعتقدين على حسب اعتقاداتهم كما في حديث التحول أن الحق يتجلى يوم القيامة بصورة فينكرونه ثم يتجلى بصورته فيقبلونه.
فى حديث طويل "عن أبي سعيد الخدري، قال: قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوا؟»، قلنا: لا، قال: «فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ، إلا كما تضارون في رؤيتهما» ثم قال: " ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله، من بر أو فاجر، وغبرات من أهل الكتاب، ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ 
قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم ، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ 
فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة، ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا فيتساقطون في جهنم، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم، ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا، قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ 
فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد، فيعود ظهره طبقا واحدا…" رواه البخاري ومسلم و أحمد و الدارقطني والحاكم وابو عوانة وغيرهم
فالحق المشروع هو الذي أثبت عليه الشرع الأحكام المختلفة بحسب ما يناسب حال الرائي وهو اعتبار الحق مع الأسماء والصفات .
وفي الحقيقة ما ظهر بهذه الصور إلا الأسماء والصفات وذات الحق منزه عن هذه الظهورات وأما الحق الحق الذي ثبت بالدليل العقلي وهو الحق من حيث استغنائه عن العالمين .
فمنح عند العقل أن يثبت له شيء إلا الصفات الكمالية فالتعبير بالحق المشروع (ما) واقع (في حق حال الرائي أو) واقع في حق (المكان الذي رآه) أي رأى الحق الرائي (فيه) أي في ذلك المكان إذ الأمكنة مختلفة بالشرف فللمكان مدخل في الرؤية بالشرف والخساسة .
(او هما) أي واقع في حقها (معا) يعني إذا رأينا الحق في المنام بتلك الصورة تعبر بالشرع، فنقول إن الحق يظهر لنا بصور أحوالنا فتلك الصورة لنا لا له إبقاء بحكم الدليلين العقلي والشرعي.
فتلك الرؤيا بتلك الصورة في الحق يدخل فيها التعبير وكذلك المكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رأيت ربي في أحسن صورة شاب" يردها الدليل العقلي فصورة الشبابية في حق الرسول عليه السلام ظهور الحق له بهذه الصورة وهي عبارة عن ربوبية بأئنه كاملة وهي الربوبية الجامعة الأسمائية.
(فإن لم يردها الدليل العقلي) أي وإن رأينا الحق بصورة لم يردها الدليل بل كان ظاهرة بالصفة الكمالية كالربوبية و القادرية وغير ذلك من الصفات التي لم يردها الدليل العقلي لم نعبر تلك الرؤيا (أبقيناها على ما رأيناها) إبقاء الحكم الدليلين لاجتماعهما في ظهور الحق بالصفات الكمالية .
شبه رؤية الحق بالصفة التي لم يردها الدليل العقلي في الظهور بحيث لا يخفى على أحد أنه الحق فلا يحتاج إلى التعبير لإيضاحه غاية الإيضاح .
والاحتياج إلى التعبير ينشأ من نوع خفاء في الظهور رؤية الحق في الآخرة بقوله : (كما يرى الحق في الآخرة سواء) بحيث لا يخفى على أحد حتى يحتاج إلى التعبير لظهوره فيها على وجه الكمال.
ولما بين أن الحق ظهورات بجميع الصور بالتعبير أو عدمه أورد نتيجة ذلك بالأبيات تسهيلا للطالبين بقوله : (شعر:

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
( فللواحد الرحمن في كل موطن ... من الصور ما يخفي وما هو ظاهر
فإن قلت هذا الحق قد تك صادقا ... وإن قلت أمرا آخرا أنت عابر
وما حكمه في موطن دون موطن ... ولكنه بالحق للخلق سافر
إذا ما تجلى للعيون ترده ... عقول ببرهان عليه تثابر)
قال الشيخ رضي الله عنه : فللواحد الرحمن ….    صفة للواحد حاصل.
(في كل موطن من الصور) بيان لما قدم للضرورة . (ما) فاعل الظرف وهو في كل موطن أي الذي .
(يخفي) الحق في هذه الصورة على بعض الناس كظهوره بصور الأكوان فيحتاج إلى التعبير بالحق المشروع.
(وما هو ظاهر) عطف على الجملة الفعلية للضرورة أي الذي يظهر الحق في هذه الصورة كظهوره بالصورة الكمالية التي أثبتها العقل.
فلزم من هذا البيت أن الظاهر بجميع الصورة الكمالية والكونية هو الواحد الرحمن فإذا كان الأمر كذلك فإن قلت هذا) أي الذي ظهر بالصورة هو (الحق) لانكشاف الحق عليك في جميع الصور .
(قد تك صادقا) بمطابقة خبرك الواقع فما رؤيتك هذه إلا كما ترى في الآخرة على أن قد للتحقق أو معناه قد تك صادقا عند الشرع ولم تك صادقا عند العقل ترد قولك في بعض الصور على أن قد للتقليل.
(وإن قلن امرة آخر) باحتجابك بالصور عن الحق.( أنت عابر) أي مجاوز من الصورة إلى أمر آخر فأنت صادق أيضا على هذا الوجه . (فما حكمه) أي فليس ظهوره بحكم مختصا . (في موطن دون موطن) كما جعل العقل منحصرة لظهوره في الصفة الكمالية . (ولكنه) أي لكن الحق. (بالحق) أي الحق بذاته . (للخلق) أي لأجل إيجاد الخلق.
(سافر) أي سير نزولا من مقام أحديته إلى مقام تفصيله فلا يكون موطن إلا والحق ظاهر فيه بالأحكام اللائقة بهذا الموطن .
(إذا) شرط (ما) زیادت للتأكيد (تجلي) الحق (للعيون) بالصورة الحسية والمثالية (ترده) أي ترد الحق (عقول ببرهان) أي بسببه (عليه) أي على ذلك البرهان (تثابر) تداوم العقول وتواظبه دائما قوله عليه يتعلق بقوله تثابر .

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
( ويقبل في مجلي العقول وفي الذي ... يسمى خيالا والصحيح النواظر
يقول أبو يزيد في هذا المقام لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بها. وهذا وسع أبي يزيد في عالم الأجسام. بل أقول لو أن ما لا يتناهى وجوده يقدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بذلك في علمه. فإنه قد ثبت أن القلب وسع الحق ومع ذلك ما اتصف بالري فلو امتلأ ارتوى. وقد قال ذلك أبو يزيد.  )

قال الشيخ رضي الله عنه : (ويقبل) الحق على البناء للمفعول (في مجلي العقول وفي) المجلي (الذي يسمى خيالا) .
وقابل الحق في مجلي العقول العقول المجردة ، وفي مجلي الخيال القلب والنفوس المجردة فحضر ظهور الحق كل منهما في مرتبتهما وليس ذلك الحضور بصحيح.
( والصحيح) في قبول الحق ما تقبله (النواظر) وهي جمع ناظرة فيشاهد أهل الناظرة الحق في جميع المراتب الإلهية والكونية فيعرفون الحق في كل موطن فيعبدونه فهم يسعون للحق بجميع كمالاته .
فلا يحتجبون بصور الأكوان عن الحق فقلوبهم يسعون الحق فيفوتهم غير الحق. (يقول أبو يزيد "البسطامي" في هذا المقام) أي في مقام سعة القلب (لو أن العرش وما حواه) أي مع إحاطته من السموات والأرضين (مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به) أي لا يدرك ذلك العارف ما في زاوية قلبه أي لا يشغله عن مشاهدة ربه ولا يضيق وسعة قلبه الحق.
""قال الشيخ في الفتوحات الباب الثامن والسبعون ومائة في معرفة مقام المحبة:
المحب لا فكرة له في تدبير الكون وإنما همه وشغله بذكر محبوبه قد أفرط فيه الخيال فلا يعرف المقادير فإن كان محبوبه الله لما وسعه قلبه .
فذلك الخارج عن الوزن فلا يزنه شيء ألا ترى إلى التلفظ بذكره .
وهي لفظة لا إله إلا الله لا تدخل الميزان ولما دخلت بطاقتها من حيث ما هي مكتوبة في الميزان لصاحب السجلات طاشت السجلات وما وزنها شيء .
ولو وضعت أصناف العالم ما وزنتها وهي لفظة من قائل لم يتصف بالمحبة فما ظنك بقول محب فما ظنك بحاله فما ظنك بقلبه الذي هو أوسع من رحمة الله وسعته إنما كانت من رحمة الله .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 4:30 pm

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإسحاقي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الجزء الثاني

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية
قال قائلهم في ذلك : أنا من أهوى      ومن أهوى أنا
"" قال الشيخ رضي الله عنه فى الفتوحات الباب الثامن والسبعون ومائة في معرفة مقام المحبة :
 وهذه حالة أبي يزيد المحب الله أحب بعض عباده فكان سمعه وبصره ولسانه وجميع قواه .
منصة ومجلى نعت المحب بأنه مصطلم مجهود لا يقول لمحبوبه لم فعلت كذا لم قلت كذا
منصة ومجلى نعت المحب بأنه دائم السهر:
لما رأى أن المحبوب لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ علم إن ذلك من مقام حبه لحفظ العالم ودعاه إلى هذا النظر كون الحق يتجلى في الصور و للصور أحكام ومن أحكام بعض الصور النوم ورآه في مثل هذه الصورة " لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ " من حيث هذه الصورة فعلم إن ذلك من مقام حبه لحفظ العالم وإذا كان المحب جليس محبوبه ومحبوبه بهذه الصفة فالنوم عليه حرام فالمحب يقول مع الفراق إن النوم عليه حرام فكيف مع الشهود والمجالسة.
 قال بعضهم في سهر الفراق:
النوم بعدكم علي حرام ..... من فارق الأحباب كيف ينام
منصة ومجلى نعت المحب بأنه كامن الغم :
أي غمه مستور لا ظهور له فسبب ذلك قوله تعالى وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ
منصة ومجلى نعت المحب بأنه راغب في الخروج من الدنيا إلى لقاء محبوبه
هو لما ذكرناه في هذا الفصل قبله لأن النفس من حقيقتها طلب الاستراحة والغم تعب وكمونه أتعب والدنيا محل الغموم والذي تختص به.
منصة ومجلى نعت المحب بأنه متبرم بصحبة ما يحول بينه وبين لقاء محبوبه
هذا النعت أعم من الأول في المحب فإن العارف ما يحول بينه وبين لقاء محبوبه إلا العدم وما هو ثم وليس الوجود سواه فهو شاهده في كل عين تراه فليس بين المحب والمحبوب إلا حجاب الخلق.
منصة ومجلى نعت المحب بأنه كثير التأوه :
وهو قوله إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ وصف الحق من كونه اسمه الرحمن أن له نفسا ينفس به عن عباده وفي ذلك النفس ظهر العالم ولذلك جعل تكوين العالم بقول كُنْ .أهـ  ""

(وهذا) أي ما قال أبو يزيد (وسع أبي يزيد في عالم الأجسام) إذ قيد وسعة القلب في الأجسام بقوله : لو أن العرش ولم يعم وسعته عالم الأرواح فكان ذلك وسعة قلب أبي يزيد.
(بل أقول لو أن ما لا يتناهی وجوده) مطلقا من أي عالم كان (قدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له) وهي العقل الأول إذ به يخلق الله تعالى جميع المخلوقات.
(في زاوية من زوايا قلب العارف) (ما أحس) ذلك العارف بالحق.
(بذلك) أي بما كان في قلبه من الأمور الغير المتناهية (في علمه) بالحق أي لا يشغل العارف عن الحق وجود هذه الأشياء في زاوية قلبه وإنما لا يحس العارف بما في قلبه.
(فإنه قد ثبت أن القلب وسع الحق ومع ذلك) الوسع (ما انصف) أي لا ينصف القلب (بالري)، وإنما لم ينصف بالري لأنه لو اتصف بالري لأمتلا (ولو امتلأ ارتوى وقد قال ذلك) أي عدم الارتداد .
( ابو یزید) في كلام آخر وهو قوله:
شربت الحب كأسا بعد كأس   …..      فما نفد الشراب ولا رويت

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : ولقد نبهنا على هذا المقام بقولنا:
( يا خالق الأشياء في نفسه ... أنت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه فيه ... بك فأنت الضيق الواسع
لو أن ما قد خلق الله ما لاح ... بقلبي فجره الساطع
من وسع الحق فما ضاق عن ... خلق فكيف الأمر يا سامع؟)
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (ولقد نبهنا على هذا المقام) أي على وسع القلب (بقولنا شعر : با خالق الأشياء) أي موجد المم?نات  (في نفسه) أي ذاته تعالى لأن مجموع العالم إعراض عندهم قائم بذاته تعالى لا كقيام العرض بالجوهر بل كقيام الظل بصاحبه.
 فلا يخلو شيء عن الحق بل هو موجود فيه ومعنى وجود الأشياء فيه عبارة عن إحاطة الأشياء بتعلق قدرته .
وبعضهم فسره بقوله أي في علمه وهو لا يناسب بقوله: يا خالق فإنه لا يقال : إن الله خالق الصور العلمية له بل هو موجب لها ولا يناسب أيضا مراد الشيخ إذ مراده بیان وسعة الحق في الموجودات الخارجية كلها لا بیان سعة علمه .
إذ وسعة علمه ظاهرا بحيث لا يخفى على أحد يدل عليه قوله : (أنت لما تخلقه جامع) لوجودك المحيط بكل شيء (نخلق ما لا ينتهي) أي غير المتناهي (كونه) أي وجوده (فيك) ظرف للخلق أو لعدم الانتهاء أو للكون فإذا خلقت فيك الأشياء التي لا يتناهی وجودها . (فأنت الضيق) لأنه لا يسع معك غيرك في قلب العارف (الواسع) لأنه يسع الأمور الغير المتناهية التي خلقت فيك .

(لو أن ما) زائدة للتأكيد (قد خلق الله) في قلبي حذف في قلبي لدلالة قوله: (ما لاح بقلبي) أي ما ظهر بقلبي فحينئذ يتعلق بقلبي إلى ما لاح لا إلى ما خلق (فجره) الضمير يرجع إلى ما أي نوره (الساطع) أي المرتفع فلو كان كأن الشمس في قلبي مع نورها الواضح الأعلى المرتفع الذي لا يخفى نورها لأحد ما لاح بقلبي نورها فإن الحق يضيق قلبي بدخول الغير معه لاختفاء نور الخلق عند ظهور نور الحق (من وسع الحق فما ضاق عن خلق) استفهام على سبيل التعجب (فكيف الأمر) إن من وسع الحق الواسع لجميع الأمور الغير المتناهية أيضيق عن الخلق الذي في الحق أم لا كيف الأمر في ذلك أحببنا (يا سامع) الدعاء .
ولما انجر كلامه إلى خلق شرع في بيان أحواله بقوله:
 
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
( بالوهم يخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها، وهذا هو الأمر العام.
والعارف يخلق بالهمة ما يكون له وجود من خارج محل الهمة و لكن لا تزال الهمة تحفظه. ولا يئودها حفظه، أي حفظ ما خلقته.
فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق، إلا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات وهو لا يغفل مطلقا، بل لا بد من حضرة يشهدها.)
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (بالوهم) لا بغير ذلك من القوى (يخلق) أي يخترع (كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا نيها) أي إلا في قوة خيالية .
(وهذا) أي الإيجاد في القوة الخيالية (هو الأمر العالم) يعني أن غير العارف يوجد شيئا ولا يكون ذلك الشيء موجودة في الخارج بل في قوة خيالية (والعارف يخلق بهمته) ونوجهه وقصده بقدرة الله وأمره (ما يكون له وجود من خارج محال الهمة) والخلق هنا بمعنی قصد الإظهار من الغيب إلى الحضور ومعطي الوجود على حسب قصدهم هو الله لا غير .
(ولكن لا تزال الهمة يحفظه) أي يحفظ ما خلقه (ولا يؤدها) أي لا يثقل الهمة (حفظه) أي حفظ ما خلقته الهمة (فمتي طرأ على المعارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق) لانعدام الإمداد بالغفلة لزوال الهمة بالغفلة فزال المعلول (إلا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات) وهي الحضرات الخمس :
عالم المعاني
والأعيان الثابتة
وعالم الأرواح
وعالم الشهادة
وعالم الإنسان الكامل الجامع لجميع العوالم كلها
(وهو) أي العارف (لا بغفل مطلقا بل لا بد من حضرة يشهدها) العارف
 
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(فإذا خلق العارف بهمته ما خلق وله هذه الإحاطة ظهر ذلك الخلق بصورته في كل حضرة، وصارت الصور يحفظ بعضها بعضا.
فإذا غفل العارف عن حضرة ما أو عن حضرات وهو شاهد حضرة ما من الحضرات، حافظ لما فيها من صورة خلقه، انحفظت جميع الصور بحفظه تلك الصورة الواحدة في الحضرة التي ما غفل عنها، لأن الغفلة ما تعم قط لا في العموم ولا في الخصوص.)
قال الشيخ رضي الله عنه : (فإذا خلق العارف بهمته ما خلق) (و) الحال أن (له هذه الإحاطة ظهر ذلك الخلق بصورته في كل حضرة) لأن هذا العارف يخلق ذلك الخلق من مقام الجمع فيكون موجودة على صورته في كل حضرة بقدر نصيبه .
(وصارت الصور يحفظ بعضها بعضا) لأنه إذا كان الخلق بصورته موجودة في كل حضرة فقد تحفظ الهمة الصورة التي لا يغفل العارف عن حضرتها وتحفظ باقي الصور بالصور المحفوظة بالهمة لوجوب التطابق بين الصورة .
وهو معنى قوله: (فإذا غفل العارف عن حضرة ما أو عن حضرات وهو شاهد حضرة ما من الحضرات حافظ لما فيها من صور خلقه انحفظت جميع الصور بحفظه تلك الصورة الواحدة في الحضرة التي ما غفل) العارف (عنها لأن الغفلة ما تعم قط) جميع الحضرات (لا في العموم ولا في الخصوص) أي لا في حق العامة ولا في حق الخاصة حتى انعدم تلك الصورة في جميع الحضرات.


قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(وقد أوضحت هنا سرا لم يزل أهل الله يغارون على مثل هذا أن يظهر لما فيه من رد دعواهم أنهم الحق، فإن الحق لا يغفل والعبد لا بد له أن يغفل عن شيء دون شيء. فمن حيث الحفظ لما خلق له أن يقول «أنا الحق»، ولكن ما حفظه لها حفظ الحق: وقد بينا الفرق.  ومن حيث ما غفل عن صورة ما وحضرتها فقد تميز العبد من الحق.
ولا بد أن يتميز مع بقاء الحفظ لجميع الصور بحفظه صورة واحدة منها في الحضرة التي ما غفل عنها. فهذا حفظ بالتضمن، وحفظ الحق ما خلق ليس كذلك بل حفظه لكل صورة على التعيين.)

(وقد أوضحت هنا سرا لم يزل أهل الله تعالى بغارون على مثل هذا أن يظهروا) وإنما يغارون من أن يظهروا بالخفية بما أوضحه من السر (لما) ثبت (فيه) أي في إظهار هذا السر . (من رد دعواهم أنهم الحق) من حيث إيجادهم شيئا وإنما رد دعواهم بهذا السر (فإن الحق لا يغفل) عن شيء أصلا (والعبد لا بد له أن يغفل عن شيء دون شيء فمن حيث الحفظ لما خلق له أن يقول أنا الحق) كما قال المنصور رحمه الله ولم يزل من هذا القول لعدم ظهور هذا الفرق له بغلبة نور الحق له .
(ولكن ما حفظه) أي ليس حفظ العبد (لها حفظ الحق) لما خلق (وقد بينا الفرق بين حفظ الحق وحفظ العبد فهم يغارون بهذا الفرق من أن يظهروا بدعوى الربوبية (ومن حيث أنه ما غفل) أي ومن حيث غفلة العبد فما مصدرية (عن صورة ما وحضرتها) .
وعن الحضرة التي ثبت الصورة فيها (فقد تميز العبد من الحق) من هذا الوجه، وهو الغفلة في العبد وعدم الغفلة في الحق (ولا بد أن يتميز) العبد من الحق (مع بقاء الحفظ لجميع الصور بحفظ صورة واحدة منها في الحضرة التي ما غفل)، العبد (عنها) أي عن الحضرة التي كانت الصورة فيها. (فهذا) الحفظ (حفظ بالتضمن وحفظ الحق ما خلق ليس كذلك بل حفظه لكل صورة على التعيين )

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(وهذه مسألة أخبرت أنه ما سطرها أحد في كتاب لا أنا ولا غيري إلا في هذا الكتاب:  
فهي يتيمة الدهر وفريدته. فإياك أن تغفل عنها فإن تلك الحضرة التي يبقي لك الحضور فيها مع الصورة، مثلها مثل الكتاب الذي قال الله فيه «ما فرطنا في الكتاب من شيء»[الأنعام: 38].  فهو الجامع للواقع وغير ا قرآنا في نفسه فإن المتقي الله «يجعل له فرقانا» )  
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهذه) أي وهذه المسألة التي أخبرتك (مسالة أخبرت) في عالم المثل "المثال" كما أخبرتك في عالم الحس .
(أنه) أي الشأن (ما سطرها احد في كتاب لا أنا ولا غيري إلا في هذا الكتاب فهي) أي هذه المسألة (يتيمة الوقت وفريدته فإياك أن تغفل عنها) وإنما أوصى أن لا تغفل عن هذه المسألة (فإن تلك الحضرة التي يبقى لك الحضور فيها مع الصورة مثلها) أي مثل تلك الحضرة (مثل الكتاب الذي قال الله تعالى فيه) أي في حقه "ما فرطنا فى الكتاب من شيء" . وقال الله تعالى فيه: "ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب" [الأنعام: 59]  .
فإذا شاهدت تلك الحضرة التي تبقي لك الحضور فيها مع الصورة فقد شاهدت جميع ما في باقي الحضرات من الصور فإنها ?تاب جامع لجميع ما في الحضرات (فهو) أي الكتاب الذي قال الله تعالى فيه:" ما فرطنا في الكتاب" [الأنعام: 38].
(الجامع للواقع) أي ما كان في الخارج (وغير الواقع) في الخارج وهذه الحضرة مثل ذلك الكتاب في الجامعية فلا تغفل عنها (ولا يعرف) ذوقا وحالا وتحققا (ما قلناه إلا من كان قرآنا) أي جامعا (في نفسه) جميع الحضرات بارتفاع حجب أنية بالفناء في الله . فمن كان قرآنا في نفسه يصل إلى هذه المسألة ذوقا وحالا .
وأما من لم يصل إلى مقام الجمع فهو بصل إلى مجهوله علما بسماع هذه المسألة منه ثم يطلب الذوق والشهود بالفناء في الله وإنما لا يعرفه إلا هذا الشخص (فإن المتقي الله) أي فإن من يتقي الله بأن لا يشرك معه شيئا في أفعاله وصفاته وذاته بإسناده جميعها إليه تعالى لا إلى غيره .
(يجعل) الله تعالى له (فرقانا) أي نورا في قلبه يعرف به ويميز بين العبد والحق ويصل به إلى مقام القرآنية فيعرف ما قلناه .


قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
( وهو مثل ما ذكرناه في هذه المسألة فيما يتميز به العبد من الرب. وهذا الفرقان أرفع فرقان.
فوقتا يكون العبد ربا بلا شك ... ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك
فإن كان عبدا كان بالحق واسعا ... وإن كان ربا كان في عيشة ضنك
فمن كونه عبدا يرى عين نفسه ... وتتسع الآمال منه بلا شك
ومن كونه ربا يرى الخلق كله ... يطالبه من حضرة الملك و الملك
ويعجز عما طالبوه بذاته ... لذا تر بعض العارفين به يبكي
فكن عبد رب لا تكن رب عبده ... فتذهب بالتعليق في النار والسبك )

قال الشيخ رضي الله عنه : وهذا إرشاد وتعليم للطريق الموصل إلى معرفة هذه المسألة (وهو) أي الذي يجعل الله تعالى له فرقانا (مثل ما ذكرناه في هذه المسألة فيما يتميز به العبد من الرب) أي يخلق بهمته شيئا ما ويحفظ بالهمة ويفرق بينه وبين ربه بعين ما ذكرناه وأما فتح هذه المسألة وظهوره في الحس فمختص بالشيخ رضي الله تعالی عنه وإليه أشار بقوله فهي يتيمة الوقت وفريدته .
(وهذا الفرقان) أي الفرق الذي بيناه بين العبد والحق في هذه المسألة (ارفع فرقانا) وأعظمه لا يكون فوقه فرقانا لأنه به ظهر الفرق بين العبد والرب على أي وجه وفي أي مرتبة كان.
بخلاف الفرق المذكور بين الناس فإنه ليس بمثابته في رفع الاشتباه فقد أورد نتيجة ما ذكره بقوله : فوقتا يكون العبد ربا بلا شك بظهور تجلي الربوبية له واختفاء عبوديته وهو قوله والعارف يخلق بهمته
(ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك) عن عبوديته عند ظهور عجزه وقصوره بزوال صفة الربوبية (فإن كان عبدا كان بالحق واسعا) لأنه قال ما وسعني أرضي ولا سمائي إلا قلب عبدي المؤمن.
(وإن كان ربا كان في عيشة ضنك) أي ضيق ومشقة لعجزه عند المطالبة بالأشياء عن إتيانه.(فمن كونه عبدا يرى عین نفسه) عاجزة وقاصرة عن إتيان الأمور.
(وتتسع الآمال) أي تتسع آماله (منه) إلى موجده بلا شك (ومن كونه ربا يرى الخلق كله يطالبه من حضرة الملك) بضم الميم وسكون اللام عالم الشهادة .
(والملك) بفتح الميم وسكون اللام عالم الملكوت (ويعجز عما طالبوه) أي لا يقدر إعطاء ما طالبوه منه (بذاته) بل يراجع في ذلك إلى ربه ربا.
(لذا) أي لأجل عجز العيد عما طالبوه منه (ترى بعض العارفين به) أي بهذا المعنى (يبكي) فإذن كان سلامتك في العبودية وافتك في الربوبية (فكن عبد ربه) أي فتظهر بالعبودية فتسلم عن عقوبات النار (لا تكن رب عبده) أي لا تظهر بمقام الربوبية التي ليست حقك وإلا (فتذهب بالتعليق في النار والسبك) أي تدخل في نار جهنم وتسبك فيها لتخليصك عن هذه الصفة .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي    شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 4:45 pm

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي 

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإسماعيلي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم 

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية

أي العلوم المنسوبة إلى المرتبة العلية حاصلة في روح هذا النبي عليه السلام شرع في بيان هذه العلوم فابتدأ بالاسم الجامع لكونه أعلى المراتب الاسماعيلية.
""أضاف المحقق : يشرح هذا الفص بعض نواحي العلاقة بين الحق والخلق او بين الواحد والكثير وهو الموضوع الذي أشار إلى الأسماء الإلهية التي يطلق عليها اسم الأرباب وما يقابل هذه الأسماء مظاهر العالم العالم الخارجي وهي يطلق عليه اسم العبيد.""


بقوله: (اعلم أن مسمى الله تعالى أحدي بالذات) أي لا كثر في ذاته (كل بالاسماء) أي كل مجموع يجمع الأسماء والصفات فكان لمسمى الله أحديتان :  الذاتية والاسمائية
فيسمى الأحدية الذاتية بالأحدية الإلهية والأحدية الأسمائية بمقام جمع الأسماء (وكل موجود فما له) أي فما لكل واحد من أفراد الإنسان (من) مسمى (الله تعالی) باعتبار كونه كلا بالأسماء ."كل الأسماء له"
(إلا ربه خاصة يستحيل أن يكون له الكل) لذلك قال النبي عليه السلام: "رأيت ربي"  ولم يقل : "رأيت رب العالمين"  وإن كان حقيقته وروحه الأعظم مربوبا الكل إلا أنه بوجوده الحسي واستعداده الجزئي له رب خاص فوق سائر الأرباب. وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام يتنوع فيهم الكل بحسب استعدادهم فلا يمكن لأحد من هذا الوجه لكل من حيث هو كل .
(وأما الأحدية الإلهية) وهي الأحدية الذاتية التي يشير إليها بقوله: أحدي الذات (فما لواحد) من الأسماء (فيها قدم) أي وجود فليس لها الربوبية لأحد فكانت خارجة عن قوله عليه السلام : "من عرف نفسه فقد عرف ربه"  فلا تعرف بمعرفة النفس بل يعرف ما له الربوبية وبعد ذلك تعرف هذه الأحدية الإلهية عن كشف إلهي .
وإنما لم يكن لواحد من الأسماء فيها قدم (لأنه لا يقال لواحد منها) أي من الذات الأحدية (شيء ولآخر منها شيء) .
حتى يتعين الأسماء فيها بالوجود المنعين الذي يتميز به كل منها عن الآخر .
وانما لا يقال هذا القول في حقها (لأنها) أي لأن الأحدية الإلهية (لا تقبل التبعيض) حتى يقال لها هذا الكلام (فأحديته مجموع كله بالقوة) .
والضمير الأول راجع إلى مسمى الله والثاني إلى الأسماء باعتبار الاتحاد في هذه الأحدية .
فمعناه فأحدية مسمى الله ما كان كل الأسماء مجموعة فيه بالقوة فباعتبار جمعية الأسماء في مسمى الله بالقوة يسمى أحدي بالذات وباعتبار جمعيتها فيه بالفعل كل بالأسماء (والسعيد من كان عند ربه مرضيا وما ثمة) أي وما في العالم من العباد (إلا من هو مرضي عند ربه) وما في العالم شقي من هذا الوجه بل كله سعيد وإن كان بعضه شقية وبعضه سعيدأ من وجه آخر وإنما كان كل العباد مرضيا عند ربهم الخاص بهم (لأنه الذي يبقى عليه ربوبيته) أي ربوبية الرب.

(فهو) أي الذي يبقى عليه ربوبية ربه (عنده) أي عند ربه (مرضي) لبقاء ربوبيته عليه فإذا كان مرضيا (فهو سعيد) والمراد من هذا الكلام إظهار عموم معنى السعادة المستورة عن إدراك أهل الحجاب لا السعادة النافعة المعتبرة عند الله. (ولهذا) أي ولأجل بقاء الربوبية على العبد .
(قال سهل) وهو من كبار الأولياء المعتمد عليه قوله : (إن للربوبية سرا) وسر الشيء روحانية ذلك الشيء وسبب بقائه (وهو) أي سر الربوبية (انت يخاطب كل عين لو ظهر) أي لو زال عن أن يكون سزا موجودا في غيب الله تعالی فيلزم أن يكون معدوما فبطلت الربوبية بعدمه.
(لبطلت) أي لزالت (الربوبية فادخل) سهل (عليه) أي على العين (لو وهو حرف امتناع لامتناع وهو) أي العين (لا يظهر) أي لا يزال أبدا (فلا تبطل) أي فلا تزول (الربوبية) أبدا وإنما لا يزول العين (لأنه لا وجود لعين إلا بربه) والرب موجود دائما (والعين موجودة دائما) بحسب النشأة بدوام وجود علته فالربوبية موجودة دائما بدوام وجود علتها فهي العين.
فالرب سببا لوجود العين والعين سببا لوجود ربوبية ربه .

فإذا بقي ربوبية الرب بوجود عبده كان العبد مرضيا عنده (وكل مرضي محبوب) للرب الراضي عنه .
(وكل ما يفعل المحبوب محبوب) يعني كما أن ذات المرضي محبوب ذاته لربه كذلك كل ما يفعله محبوب عند ربه .
فإذا كان كل ما يفعل المحبوب محبوبا (فكله) أي فكل ما صدر من المحبوب (مرضي) عند ربه وليس المراد من الحب و الرضاء من حيث أنهما نافعان لصاحبيهما ويصل العبد بسببيهما لدرجة القربة إلى الله تعالى .
وإنما المراد كشف سريان الحب والرضا، في كل أحد حتى يعلم أن إسماعيل عليه السلام بأي حكمة كان عند ربه مرضيا .
وإنما كان فعل المحبوب مرضيا (لأنه) أي الشأن (لا فعل للعين بل الفعل لربها) يظهر (فيها فاطمانت العين من أن يضاف الفعل إليها فكانت) العين (راضية بما يظهر) أي بما يوجد (فيها وعنها) أي وبسبب ما يظهر عنها (من أفعال ربها) بيان لما (مرضية تلك الأفعال) أي العين كانت راضية بما يظهر بمرضية تلك الأفعال عند فاعلها وإنما كان الفعل مرضية عنه فاعله .
(لأن كل فاعل وصانع راض عن فعله وصنعته فإنه) أي الفاعل (وفي) بالتشديد (فعله وصنعته حق ما هي عليه) ويدل على ذلك قوله تعالى : ("أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ") [طه: 50].

أي بين وأخبر لنا بعد إعطائه كل شيء خلقه (أنه) أي الحق (أعطى كل شيء خلقه  فلا يقبل) ذلك الشيء (النقص) عن استعداده (ولا الزيادة) على استعداده لأن الله تعالی أعطى الخلق على حسب استعداد كل شيء فكان كل موجود عند ربه مرضيا (فكان إسماعيل عليه السلام بعثوره) أي باطلاعه (على ما ذكرناه عن ربه مرضيا) .
فتفرد إسماعيل عليه السلام بهذه المرضية عن غيره لورود النص في حقه دون غيره لأن هذا العلم مودع في روحه ويأخذ كل من علم هذا العلم من روحه عليه السلام ما عدا ختم الرسل .
(وكذا) أي وكـ إسماعيل عليه السلام (كل موجود مرضي عند ربه ولا يلزم إذا كان كل موجود عند ربه مرضيا على ما بيناه أن يكون مرضيا عند رب عبد آخر).

فإن عبد المضل ليس مرضيا عند الهادي وبالعكس لعدم ظهور ربوبية كل منهما في عبد الآخر .
فلا يكون الأشقياء مرضيين عند رب السعداء حتى يدخلون دار السعداء معهم وإنما لم يكن ذلك العبد مرضيا عند رب عبد آخر .
(لأنه) أي لأن ذلك العبد (ما أخذ) أي لا يأخذ (الربوبية إلا من كل) بالأسماء (لا من واحد) أي لا من أحدي الذات، فإذا أخذ الربوبية من كل لا من واحد (فما تعين له) أي لا يتعين لذلك العبد (من الكل إلا ما يناسبه) أي إلا الذي يناسب ذلك العبد وما يناسب استعداده (فهو) أي ما تعين له من الكل (ربه) خاصة فلا يكون محلا لربوبية رب غير ذلك الرب حتى يرضي رب عبد آخر عنه فلا يكون مرضيا إلا عند ربه .
ولما كان في هذا المقام مظنة سؤال وهو أن يقال :
إن ما قلتم من أن العبد مرضي عند ربه غير مرضي عند رب آخر، بناء على أن كل عبد لا يأخذ الربوبية إلا عن كل ، فمسلم لأنه حينئذ يقتضي تميز الأرباب .
فلم لا يجوز الأخذ من حيث الأحدية ، فحينئذ لا تميز في الأرباب فمن كان مرضيا عند ربه كان مرضيا عند رب آخر لأن رب عبد عين رب عبد آخر .

فلزم حينئذ إذا كان كل موجود عند ربه مرضيا أن يكون مرضيا عند رب عبد آخر أراد دفعه "إيضاحه" بقوله(ولا يأخذه أحد) أي لا يأخذ من مسمى الله ربا (من حيث احديته) حتى كان من كان عند ربه مرضيا ، مرضيا عند رب آخر.
(ولهذا) أي ولأجل عدم أخذ أحد ربا من حيث أحدية الحق (منع أهل الله التجلي في الأحدية) أي منع عن طلب النجلي الأحدي لعدم حصوله لأحد ، لئلا يضيع أوقات السالكين في طلب المحال .
وإنما لا يمكن حصول التجلي الأحدي (فإنك إن نظرته به) أي نظرت الحق بالحق وهو النظر مع انتفاء التعين (فهو الناظر نفسه فما زال ناظرا نفسه بنفسه).
فما ظهر لك ذلك التجلي بل ظهر نفس الحق بنفسه (وأن نظرته بك) أي مع بقاء تعينك .
(فزالت الأحدية بك) أي لا أحدية حينئذ لوجود الاثنينية (وان نظرته به وبك) أي وإن جمعت في النظر إليه بينه وبينك (فزالت الأحدية) فلا أحدية .

(أيضا الأن ضمير التاء في نظرته ما هو عين المنظور) على كل التقادير الثلاث (فلا بد من وجود نسبة ما اقتضت أمرين ناظرة ومنظورة فزالت الأحدية) لوجود الاثنينية في
كل واحد من الوجوه كما يدل عليه قوله : (وإن كان لم ير) الحق (إلا نفسه بنفسه ومعلوم أنه) أي الشأن (في هذا الوصف) وهو رؤية الحق نفسه بنفسه (ناظر ومنظور)، وهو يوجب الاثنينية ، وإن كان اعتباريا فإذا علمت هذا (فالمرضي) عند ربه (لا يصح أن يكون) عند ربه الخاص (مرضيا مطلقا)، أي عاما في جميع الأوقات .

بحيث لا ينفك عنه كونه مرضيا عند ربه في حال أصلا كما أن النص الوارد في حق إسماعيل عليه السلام كذلك (إلا إذا كان جميع ما يظهر به) أي بسبب المرضي (من فعل الراضي) بيان لما (فيه) أي في المرضي .
وأما إذا لم يظهر جميع أفعال الراضي في المرضي بل بعضه يظهر فيه وبعضه لم يظهر لم يكن المرضي مرضيا عند عدم ظهور ذلك البعض فلم يكن مرضيا مطلقا عند ربه فقد ثبت بالنص والكشف أنه مرضي مطلقة لظهور جميع فعل الراضي فيه.
فلما استوى كل موجود مع إسماعيل عليه السلام في كونه مرضيا عند ربه .
أراد أن يبين جهة امتيازه بقوله:
(ففضل إسماعيل عليه السلام على غيره من الأعيان بما نعته الحق به من كونه عند ربه مرضيا وكذلك كل نفس مطمئنة قيل لها: "ارجعي إلى ربك" فما أمرها أن نرجع إلا إلى ربها الذي دعاها) .
أي إلا إلى الرب الله الذي دعى النفس المطمئنة إليه بالرجوع (فعرفته) أي فعرفت النفس المطمئنة ربها (من الكل) بسبب قبول دعوته (راضية) عن ربها (مرضية) عند ربها (" فادخلي في عبادي" من حيث ما) أي من الوجه الذي حصل (لهم هذا المقام) فأنت لائق مستحق بأن تدخل في زمرتهم بسبب كسبك هذا المقام.

(فالعباد المذكورون هنا كل عبد عرف ربه تعالی) من الكل (واقتصر) نفسه (عليه) أي على ربه (ولم ينظر إلى رب غيره) كما لم ينظر ربه إلى عبد رب آخر .
فإن النظر إلى رب غيره لا يكون إلا من الجهل بربه (من أحدية العين) .
أي مع أن ربه عین رب غيره في مقام أحدية الذات ومع ذلك ( لا بد من ذلك).
أي من عدم النظر إلى رب الغير فإن الأمر في نفسه على ذلك ("وادخلي جنتي" التي هي سري) بكسر السين أي حجابي .
(وليست جنتي سواك فأنت تسترني بذاتك) فذاتك حجاب بيني وبينك فادخلي ذاتك بإفنائك في ذاتي حتى تشاهد ذاتي .
فكما أن رؤية الله تعالى لا يمكن في عالم الصورة إلا بدخول الجنة في عالم الآخرة. كذلك لا يشاهد الحق في عالم المعاني
إلا بالدخول في الجنة المعنوية (فلا أعرف إلا بك) أي لا يظهر آثار ربوبيتي إلا بسببك لا بدونك .
(كما أنك لا تكون) أي لا توجد (إلا بې) أي بسببي فإذا لم أعرف إلا بك (فمن عرفك عرفني وأنا لا أعرف) إلا بك ، فأنت لا تعرف إلا بي.
كما قال عرفت الله بالأشياء وعرفت الأشياء بالله فتوقف معرفة كل منهما إلى الآخر .
الأولى مشاهدة المؤثر من الأثر والثاني مشاهدة الأثر من المؤثر وهو أتم من الأول معرفة ومعناه ،لا يعرفني عبد إلا أنت ولا يعرفك رب إلا أنا.
وجاز أن يكون معناه وأنا لا أعرف على البناء المعلوم إلا أنت فأنت لا نعرف إلا أنا إذ كل رب لا يعرفه إلا ما كان مظهر الربوبية .
كما أن كل عبد لا يعرف إلا ربه الخاص وقد انحصرت الأمر من الطرفين.
قال بعض الشراح وأنا لا أعرف بحسب الحقيقة وأنت لا تعرف بحسبها وإن كان له وجه لكنه لا يناسب المقام يظهر بأدني نأمل .
(فإذا دخلت نفسك دخلت جنته) فإذا دخلت جننه (فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة التي عرفتها) أي عرفت نفسك بهذه المعرفة .
(حين عرفت ربك بمعرفتك إياها فتكون) بسبب دخولك جنته (صاحب معرفتين معرفة به) أي بالحق بك (من حيث) أنك (أنت ومعرفة به بك من حيث) أنك (هو لا من حيث أنك أنت) ولم تكن هاتين المعرفتين إلا لمن دخل جنة ربه الخاص.
(فأنت عبد وأنت رب ... لمن له فيه أنت عبد)
و (شعر: فأنت عبد) من حيث التعين (وانت رب) من حيث الهوية (لمن له فيه أنت عبد) أي للذي أنت له في حقه عبد .
فالعبد رب لربه الخاص لا لغيره، كما أنه عبد له لا لغيره، فتعلق ربوبية العبد لمن تعلق عبوديته به.
و معنی ربوبية العبد ربه:
قبول أحكامه وإظهار كمالاته فيه ، وهذا مجازاة بين العبد وبين ربه الخاص .
وأما بين العبد وبين رب الأرباب وهو قوله :
(وأنت رب وأنت عبد     ….. لمن له في الخطاب عهد)
وهو خطاب "ألست بربكم" والعهد قول المخاطبين قالوا:" بلى شهدنا"، فإن هذا الخطاب عن مقام الجمع فكان الكل عبيدا للكل بسبب ربهم الخاص بهم.
فكان الخطاب عاما والعهد عاما فيتنوع العهد الكلي بحسب القوابل إلى العهد الجزئي الذي بين العبد وبين ربه الخاص .وأما بينه وبين رب المطلق وهو عهد كلي.
فكل عقد عليه شخص ... يحله من سواه عقد )
فإذن يتنوع العهد (فكل عقد) أي فكل واحد من العهد (عليه) أي على ذلك العقد (شخص) من المخاطبين المعاهدين .
أي ثابت على ذلك العقد بحفظه دائما على النقض والحل (يحله) أي يحل ذلك العقد (من سواه عقد) أي من له عقد سوى ذلك.
فإن من له العهد بينه وبين الاسم الهادي يحل العقد الذي بين الاسم المضل وبين عبيده فكان كل واحد من العبيد يحفظ عقده ويحل عقد غيره.
(فرضي الله) أي كل بالأسماء (عن عبيدة نهم مرضيون) لأن عبيد الأرباب عبيده ومرضي الأرباب مرضيه
(ورضوا عنه فهو مرضي) فكان الأمر الذي بين العبد وربه الخاص بعينه ثابت بينه وبين رب المطلق .
فكل عبد مرضي عند الله بالأمر الإرادي.
وأما بالأمر التكليفي فبعضهم مرضي كالأنبياء والأولياء ، وغيرهم من المؤمنين حسب مراتبهم.
وبعضهم ليس بمرضي كالكفار والعصاة .
فالنجاة من النار جمع الأمرين في الرضاء لا ينفع الرضاء بالأمر الإرادي مجردا عن الرضاء بالأمر التكليفي.
(فتقابلت الحضرتان) أي الربوبية والعبودية (تقابل الأمثال والأمثال أضداد لأن المثلين لا يجتمعان) المجتمعان والمثلان متميزان فلا يجتمعان.
(لا يتميزان فما ثمة) أي فما في العالم من حيث الوجود (إلا متميزا) واحد (فما ثمة) أي في العالم (مثل) لأن المثلية تقتضي الاثنينية.
(فما في الوجود مثل) إذ الوجود هو عين المتميز (فما في الوجود ضد فإن الوجود حقيقة واحدة والشيء لا يضاد نفسه) فإذا ارتفع الأضداد والامثال بظهور وحدة الوجود.
(فلم يبق إلا الحق لم يبق كائن ... فما ثمه موصول و ما ثم بائن)
(فلم يبق إلا الحق لم يبق كائن) أي عالم الأكوان للفناء بها في الحق.
(فما ثمة) أي في الوجود (موصول ولا ثمة باين) أي لا موصول ولا واصل ولا مفارق لاستهلاك الكل في عين الوجود عند تجلي وحدة الوجود.
(بذا) أي بما ذكرنا من وحدة الوجود (جاء برهان العيان) وهو البرهان الكشفي (فما أرى بعيني) شيئا (إلا عينه) أي إلا ذات الحق لا غيره لاستهلاك جميع الأشياء في
نظري في ذات الحق.
(إذ أعاين) أي إذ أشاهد معانيه حقيقة الأمر وهذا لمن لم يخشى ربه أن يكون هو لعدم علمه بالتميز فهو فوق مقام الخشية .
وأما قوله (ذلك) أي "رضي الله عنهم ورضوا عنه" فهو (لمن يخشى ربه أن يكون هو لعلمه بالتميز) بين الربوبية والعبودية (لما دلنا على ذلك) التميز.
(جهل أعبان في الوجود) يتعلق بجهل وكذا (بما أتي به عالم) يتعلق به والمراد بما أتى به عالم ما ذكره من وحدة الوجود في الأبيات.
فعالم بالله يثبت التميز في مقام ويثبت عدم التمييز في مقام.
وأما من لم يكن عالما بالله فلا يثبت إلا التميز، فدلنا على التميز عدم علمهم بعدم التميز.
(فقد وقع التمييز بين العبيد) فإذا وقع التمييز بين العبيد (فقد وقع التمييز بين الأرباب) ضرورة وجوب وجود العلة عند وجود المعلول لأن التمييز بين العبيد أثر حاصل من التمييز بين الأرباب.
ولما كان في هذا الدليل نوع خفاء عند العقل إذ يجوز للعقل أن يمنع الملازمة أورد على ذلك الدليل بقوله: (ولو لم يقع التمييز) بين الأرباب (لفسر الاسم الواحد الإلهي من جميع وجوهه بما يفسر به الآخر والمعز لا يفسر بتفسير المذل إلى مثل ذلك لكنه) أي لكن المعز (هو) المذل (من وجه الأحدية كما تقول في كل اسم أنه دليل على الذات وعلى حقيقته) أي حقيقة ذلك الاسم.
(من حيث هو فالمسمى واحد فـ المعز هو المذل من حيث المسمى والمعز ليس المذل من حيث نفسه وحقيقته) وإنما لم يكن المعز هو المذل من حيث نفسه.
(فإن المفهوم مختلف في الفهم في كل واحد منهما) فدل اختلاف مفهومهما في الفهم على أن أحدهما ليس هو الآخر بحسب نفسه وحقيقته.
ولما بين في الأسماء جهة الاتحاد وجهة الاختلاف أراد أن يبين هذا المعنى بين الحق والخلق.
(فلا تنظر إلى الحق   ….. وتعريه عن الخلق)
أي مع تعري الحق من الخلق من كل الوجوه بل اجعله معرى مستغنيا من حيث الذات عن الخلق واجعله متعلقة من حيث الصفات إلى الأكوان.
(ولا تنظر إلى الخلق    ….. وتكسوه سوى الحق)
من كل الوجوه بل تكسوه بالغيرية في مقام الكثرة وتكسوه بالحق في مقام الجمع وهو مقام تحققه بصفات الحق.
(ونزهه وشبهه ..... وقم في مقعد الصدق)
(ونزهه وشبهه) أي نزه الحق في مقام التنزيه وهو مقام استغناء ذاته تعالى عن العالمين .
وشبه الحق في مقام الصفات بإثباتك له بالصفات الكاملة كالحياة والعلم والسمع وغير ذلك :
(وقم في مقعد الصدق) يعني إذا علمت ذوق ما ذكرنا لك وعلمت به فقد أقمت في مقام الكاملين وهو مقام الجمع بين الكمالين التنزيه والتشبيه .
فإذا نزهت وشبهت وقمته في مقعد الصدق ولا يبالي لك بعد ذلك.
(وكن في الجمع إن شئت     ….. وإن شئت ففي الفرق)
لأنك حينئذ نلت درجة المحققين والموحدين، فلا يضرك في أي مقام كنت من الفرق والجمع .
فإذا تحققت بما قلنا لك (تحز) أي تقابل وتساوي (بالكل) أي بكل الناس في هذا الكمال (إن كل تبدی) أي أن قصد كل من الناس (قصب السبق) فلا يسبق عليك شيء منهم وأنت لا تسبق عليهم لأنه ليس وراء هذا المقام مقام آخر.
فقوله: إن كل شرط تحز جزاؤه والجملة الشرطية جواب الشرط محذوف كما ذكرنا الشرط المقدر .
(فلا تفنى ولا تبقى ... ولا تفني ولا تبقي)
فلما كان الأمر كما ذكرنا (فلا تفنى) من حيث حقیقتك في فني يفتي (ولا تبقى) من خلقيتك وتعينك لتبدل أحكام الخلقة عليك (ولا تفني) الأشياء من جهة الحقية من أنني يفنى (ولا تبقى) من حيث التعينات من أبقي يبقى .
(ولا يلقى عليك الوحي ... في غير ولا تلقي )
(ولا يلقى) على البناء للمفعول. (عليك الوحي في غير ولا تلفي) أي لا يلقي الله الوحي عليك في حق غير بل يلقيه على نفسه .
فإنك هو من حيث هويتك وحقيقتك وأنت مرتبة من مراتب تفصيله هذا إن كان الحق باطنا والعبد ظاهرا أو ولا يلقي الوحي في حق غيرك بل يلقيه على نفسك .
فإن الحق أنت من حيث الحقيقة هذا إن كان الحق ظاهرا والعبد باطنا والوحي من جانب الحق كونه سببا لوجود العبد ولكل ما يحتاج العبد إليه ومن طرف العبد كونه سببة لظهور كمالات الحق وأحكامه.
ولما بين أسرار الرضا شرع في بيان أسرار الثناء :
فإن كلا منهما مودع في كلمة إسماعيل عليه السلام بقوله: (الثناء) یكون (بصدق الوعد لا بصدق الوعيد) بخلاف الرضا فإنه يكون بصدق والوعيد كما أثبت (والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات) من كان عبدا سعيدا كان أو شقيا فلا بد وقوع مطلوب
الحق من كل عبد.
فلا بد صدق الوعيد والتجاوز من الحق في حق كل عبد على حسب ما يليق بذواتهم حتى يحصل له الثناء المحمود من كل عبد حسب مراتبهم.
(فيثني عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد) أي لما طلب الذات الإلهية بذاته الثناء المحمود لا يثني عليها إلا بصدق، وعده بالتجاوز عن سيئاتهم وأداء الثناء المحمود لا يكون إلا بصدق الوعد لا بصدق الوعيد.
(بل) يثني عليها (بالتجاوز) عن وعيده بالعفو .
يدل على ذلك قوله تعالى: ("فلا تحسبن الله" مخلف وعده رسله ولم يقل ووعيده) لعدم الثناء المحمود بصدق الوعيد (بل قال "ونتجاوز عن سيئاتهم" مع أنه) أي الحق (توعد
على ذلك) أي على الشيء .
فدلت هذه الآية على أن الله تعالى يطلب بذاته عن عباده الثناء المحمود وإن هذا الثناء لا يحصل إلا بصدق وعده عباده و بالتجاوز عن سيئاتهم .
فعم التجاوز الخالدين في النار أبدأ بحصول النعيم الممتزج بالعذاب لهم فيثنون بذلك على الله تعالی فعم الثناء المطلوب .
فإذا كان الثناء في حق الحق بصدق الوعد (فأثني على إسماعيل عليه السلام بأنه كان صادق الوعد) فالثناء المحمود سواء كان من العبد على الحق أو من الحق على العبد لا
يكون إلا بصدق الوعد .
(وقد زال الإمكان) أي وقد زال بدلالة النص إمكان وقوع الوعيد على الأبد (في حق الحق لما فيه) أي وقوع الإمكان (من طلب مرجح) والطلب المرجح لوقوع الوعيد هو الذنب وذلك يرتفع بوعده تعالى بقوله: "ونتجاوز عن سيئاتهم" [الأحقاف: 16]
فإن وعده واجب الوقوع في كل عبد فزال ونوع الوعيد وقت ونوع التجاوز وليس التجاوز في حق الكفار التخليص عن ألم النار ، بل المراد بالتجاوز حصول الرحمة الممتزجة بألم النار .
فإذا زال صدق الوعيد شعر: 
(فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ... و ما لوعيد الحق عين تعاين
(فلم يبق إلا صادق الوعد وحده وما) أي ليس (لوعيد الحق عين تعاين) على البناء للمفعول أي شخص تعین له العذاب الخالص عن الرحمة على الأبد بالنصر (وإن دخلوا) أي الأشقياء (دار الشفاء فإنهم على لذة فيها) أي في تلك الدار (نعيم مباین) خبر مبتدأ محذوف (نعيم) منصوب بمباین.
(جنان الخلد فالأمر) أي نعيم جنات الخلد ونعيم دار الشفاء (واحد وبينهما) أي بين النعيمين (عند التجلي) أي عند الظهور (تباين) لأن نعيم الجنان رحمة خالصة عن العذاب ونعيم دار الشقاء رحمة ممتزجة لا يخلو عن العذاب أصلا .
فكانا عند التحقيق واحدة داخلا في حد النعم ومتباينان عند التجلي فهذا هو معنى قوله في الأمر واحد بينهما عند التجلي تباین.
(یسمی) نعيم دار الشفاء (عذابا من عذوبة طعمه) أي لأجل عذوبة طعم هذا النعيم لأهله،  يعني كما أن العذاب الاصطلاحي متحقق في الكفار في دار جهنم .
كذلك العذاب اللغوي وهو اللذة متحقق فيهم فكانوا جامعين بينهما ومنحققين بهما على الأبد.
يدل على ذلك : (وذاك) أي عذابهم (له) أي لنعيمهم (كالقشر والقشر صائن) أي حافظ للبه ، فلا يزال العذاب صائنا للبه وهو نعيمهم .
فلا يزال العذاب الاصطلاحي عنهم أبدا كما هو مذهب أهل السنة فإن المصنف قسم الرحمة إلى رحمة ممتزجة بالعذاب وإلى رحمة خالصة من العذاب .
ثم قال لا يكون هذه الرحمة في الدار الآخرة إلا لأهل الجنان ثم أثبت النعيم المباين لأهل الشقاء.
فالنعيم هو عين الرحمة عنده وعند سائر أهل الله .
فالنعيم منه نعیم خالص مختص بأهل الجنان ومنه نعيم ممتزج بالعذاب مختص بأهل جهنم .
وبعض الشارحين حمل كلامه على خلافه مراده ، وقال في شرح كلامه في هذه المسألة أن العذاب منقطع مطلقا عن الكفار .
ومن ذلك ظن بعض الناس السوء على الشيخ وعلى أهل الله الذي على طريقته في العلم بالله تعالى .
وسنطلع حقيقة هذا المقام في آخر الفص الهودي إن شاء الله تعالی.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 4:59 pm

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليعقوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الجزء الأول

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية

فص حكمة روحية في العلوم التي تختص إدراكها بالروح في كلمة يعقوبية أي مودع في روح هذا النبي عليه السلام روحية بضم الراء أتم من فتحه فكان المراد ههنا الضم لأن العلوم التي تذكر في هذا الفص كلها من إدراكات الروح ومن خواصه.

"" أضاف المحقق و الجامع : يبحث هذا الفص في المعاني المختلفة لكلمة "دين" وما يتصل بها من معاني "الإسلام"، و"الانقياد" و "الجزاء" و"العادة" وقد ربط ابن العربي بين هذه المعاني ومعنى الدين الذي يرتضيه ربطا بارعا محكما ووضح مفهومات هذه الألفاظ توضيحا دقيقا على طريقته الخاصة بحيث وصل في النهاية إلى الغاية التي ينشدها وهي أن "الدين" هو دين وحدة الوجود لا التوقف عند التفاسير العقلية على بعض نصوص الدين الشرعي دون البعض الآخر، الذي جاءت به الرسل.
فهو عبادة الأصنام الفكرية المبنية على اجتهاد العقول العاجزة وليس عن الكشف والفتوح الإلهية الدائمة لأوليائه على مر الزمان والمكان  .""
ولما وصى يعقوب بنيه وقال : "وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (132) سورة البقرة .
أراد أن يبين أن أسرار الدين الذي مودع علمه في روح يعقوب عليه السلام فقال) : الدين دینان  (أي الدين يطلق عند أهل الله تعالى على معنيين أحدهما )دین عند الله و  (دین عند )من عرفه الحق تعالی) وهم الرسل .
(و) دین عند (من عرفه من عرفه الحق) وهم العلماء ورثة الأنبياء فهذا كله دين عند الله تعالى (و) ثانيها (دين عند الخلق) أي عند الخواص وهو الطريق الخاص الحاصل لهم باختراعهم (وقد اعتبره الله فالدين الذي عند الله هو الذي اصطفاه الله وأعطاه الرتبة العلبة على دين الخلق) فدل ذلك على أن الشريعة أقوى وأفضل على طريقة أهل الله .
وإن كانت تلك الطريقة جامعة لدين الحق (فقال تعالى :"ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله إصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون "[البقرة:132] .
أي منقادون إليه وجاء الدين بالألف واللام للتعريف وللعهد وهو) أي المعهود (دین معلوم معروف) عند المخاطب (وهو) أي الدين المعروف (قوله تعالی) أي هو المراد من قوله تعالى: (" إن الدين عند الله الإسلام " [آل عمران: 19] وهو) أي الإسلام (الانقياد) فإذا كان الإسلام هو الانقياد (فالدين عبارة عن انقیادك والذي) جاء (من عند الله هو الشرع الذي أنقدت أنت إليه) .
فقوله تعالی: "إن الله اصطفى لكم الدين " [البقرة: 132] يدل على أن الدين عند الله هو الشرع المصطفوية والإسلام هو الانقياد إليه عز وجل .
وقوله تعالى : " إن الدين عند الله الإسلام " [آل عمران : 19] يدل على أن الدين عند الله هو انقياد العبد إلى الشرع فصح إطلاق الدين على المعنيين قېنى كلامه على الفرق .
فقال : (فالدين الانقياد والناموس هو الشرع الذي شرعه الله) أي جعله طريقة ومذهبة لعباده يسلكونه .
(فمن اتصف بالانقياد لما شرعه الله له فذلك) الشخص (الذي قام بالدين وأقامه أي أنشأه كما بقيم الصلاة فالعبد هو المنشئ للدين والحق هو الواضع للأحكام) وهي النواميس الإلهية.
فإذا كان العبد هو المنشئ للدين (فالانقياد عین فعلك) وهو الإنشاء (فالدين) حينئذ حاصل (من فعلك) وهو الانقياد .
وهو معنى ثالث للدين مغاير للمعنيين الأولين .
(فما سعدت إلا بما كان منك) أي بما حصل من أنقياد وهو الدين فما سعدت إلا بأثارك (فكما أثبت السعادة لك ما كان إلا فعلك) أي ما كان حاصلا من فعلك إذ نفس الفعل وهو الانقياد معنى مصدري معدوم في الخارج لا تثبت به السعادة بل تثبت بأثره الوجود في الخارج.
(كذلك ما أثبت) أي ما أظهر (الأسماء الإلهية إلا أفعاله) أي أفعال الحق (وهي) أفعال الحق (أنت) فقوله :
(وهي المحدثات) جملة مفسرة لجملة وهي أنت (فبآثاره) أي بآثار الحق هي المألوهات (يسمى) الحق (إلها وبآثارك) وهي إقامتك الدین (سمیت سعيدا) بالسعادة العظمى .
وهي سبب لنجاتك عن النار ودخولك في الجنان ، فما كان أحدا سعيدا ومرضيا عند ربه إلا بالانقياد إلى الشرع .
(فأنزل الله ) في التسمية وظهور ?مالاتك (منزلته) في التسمية وظهور ?مالانه (إذا أقمت الدين وإنقدت إلى ما شرعه لك و سأبسط) لك (في) بيان (ذلك) المقام (إن شاء الله تعالى ما) مفعول سأبسط أي الذي (يقع به الفائدة بعد أن نبين الدين الذي عند الخلق الذي اعتبره الله تعالی) فإذا اعتبر الله الدين الذي عنده الخلق .
(فالدين كله) أي سواء كان عند الحق أو عند الخلق مختص (الله) لا يكون لغيره (وكله) أي سواء كان عند الحق أو عند الخلق (منك لا منه) أي حاصل منك لا من الله (إلا بحكم الأصالة) فإن الأشياء كلها بحكم الأصالة الله وبالله وإلى الله. ولما وعد بيان الدين الذي عند الخلق .
شرع في بيانه بقوله تعالی فقال : (قال تعالى " ورهبانيه" ) وهي التي يفعلها الراهب العالم في الدين العيسوي من العزلة عن الخلق والرياضة وتقليل الأكل والشرب وغير ذلك (" ابتدعوها") أي اخترعوا تلك الرهبانية من عند أنفسهم وكلفوا أنفسهم بذلك من غير تكليف من ربهم طلبا بذلك من الله أجرا.
(وهي) أي الرهبانية (النواميس) أي الشرائع (الحكمية) أي تحصل منها الحكمة والمعرفة الإلهية التي لا تحصل من غيرها .
لذلك اعتبره الله تعالى فالدين الذي عند الخلق هو الذي وضعه الخلق موافقة للأحكام الشرعية واعتبره الحق (التي لم يجيء الرسول المعلوم من عند الله تعالى بها) أي بهذه النواميس الحكمية (في) حق (العامة) قوله : (بالطريقة الخاصة المعلومة في العرف) متعلق بقوله المعلوم.
وهذه الطريقة الخاصة المعلومة في العرف وهو ظهور إنسان بدعوى النبوة وإظهار المعجزة وبهذه الطريقة يعلم النبي في عرف الناس فهو من باب التنازع.
فقدر مفعول ابتدعوها أو متعلق بقوله لم يجي، فالمراد بالطريقة الخاصة طريق الوحي أو متعلق بقوله : ابتدعوها ، فالمراد طريق الرياضات .
(فلما وافقت الحكمة والمصلحة الظاهرة فيها) أي في النواميس (الحكم الإلهي في المقصود بالوضع المشروع الإلهي) وهو تكميل النفس الإنسانية بالعلم والعمل. (اعتبره) أي اعتبر الحق ما وضعه الراهب العالم في الدين المسيحي من النواميس الحكمية (اعتبار ما شرعه من عنده تعالی) فكان ذلك الطريق الخاص الذي هو دين عند الخلق دين عند الله في المفهوم واستحقاق الأجر بالعمل به .
بسبب اعتباره تعالی اعتبار ما شرعه من عنده (وما كتبها) أي الذي اخترعوها ما فرض الله أي هذه النواميس بالوضع من عنده (عليهم) أي على المخترعين الذين أوجبوها على أنفسهم .
(ولما فتح الله بينه وبين قلوبهم) بسبب تحملهم بهذه الأعمال الشاقة (باب العناية والرحمة) وهو معنى قوله : "وجعلنا في قلوب الذين أتبعوه رأفة ورحمة "[الحدید: 27].
("من حيث لا يشعرون") ذلك الفتح (جعل في قلوبهم تعظیم ما شرعوه) أي الذي جعلوه مذهبا و طريقا لأنفسهم كانوا (يطلبون بذلك) أي بما شرعوه (رضوان الله تعالی) . ""طلبا ورجاء محبه الله ونظرته ورضوانه "".
قوله : (على غير الطريقة النبوية) متعلق بما شرعوه (المعروفة) في العرف العام (بالتعريف الإلهي) أي بإظهار المعجزات .
والمراد بالغيرية وضعهم أمورا زائدة على الفرائض التي أتي به النبي في حق العامة وهذه الزوائد من جنس تلك الفرائض ومن فروعاتها لأن المراد إتيان ما يباينه فإن تقليل الطعام وكثرة الصيام وقلة النوم و غير ذلك من تكليفاتهم على أنفسهم لا يخالف الشرع بل هو من دقيقته . "فهي كالنوافل يقومون بها لوجه الله "
فمن عمل بطريق التصفية فقد عمل بأصله فله أجران :
أجر الفرائض
وأجر الطريق الذي اعتبره الله تعالى
(فقال : فما رعوها هؤلاء الذين شرعوها) أي هذه الطريقة (وشرعت لهم) أي شرع الله
لهم هذه الطريقة باعتباره ما شرعه (حق رعایتها) أي فلم يعظموها حق تعظيمها ولم يعبدوا الله بها وما أوجبها على أنفسهم (إلا ابتغاء رضوان الله لذلك) أي ولاجل علمهم حصول رضوان الله فيها لمن يعمل بها (اعتقدوها) وعملوا بها 3.
فمن أقامها بحقها قال الله تعالى في حقهم ("فأتينا الذين آمنوا بها") بالإيمان الصحيح وهو الإيمان بمحمد عليه السلام وانقادوا إليها (منهم) أي من هؤلاء (أجرهم) وهو الرضوان وثواب الدار الآخرة.
(وكثير منهم من أي من هؤلاء الذين شرع فيهم هذه العبادة) أي شرع الله في حقهم بعد أن شرعوا لأنفسهم باختراعهم هذه العبادة (فاسقون أي خارجون عن الانقياد إليها والقيام بحقها) ولم يؤمنوا بمحمد عليه السلام .
(ومن لم ينقد إليها) إلى هذه العبادة (لم ينقد إليه مشرعة) أي مشرع ذلك الشرع وهو الحق.
فإنه لما اعتبره فقد أضاف إليه تعالی فكان أجره على الله (بما يرضیه) عن إعطاء الجنة .
فإن الرضوان وثواب الدار الآخرة أجر الانقياد فمن لم ينقد إلى الشرع لم ينقد إليه واضع الشرع بإعطاء الجنان ، التي لو انقاد حصلت له تلك الجنان .
فالمراد بقوله : "كثير منهم فاسقون " هم الرهبان الذين لم يؤمنوا بمحمد عليه السلام.
قال بعض العلماء فرض الله عليهم هذه الطريقة بعد اختراعهم وأوجبهم على أنفسهم وقال بعضهم ذلك كالتطوع من التزمه الله لزمه كالنذر .
والصحيح عندي أنه لا يكتب عليهم بعد ذلك فلو ترك واحد منهم هذه الطريقة بعد شروعهم أو بعض آدابها وعمل بالشرع الذي جاء في العامة من عند الله لم يؤاخذ على ذلك . ولكن لم يحصل له الدرجات العالية في الدنيا والآخرة التي هي لعاملها.
وليس ذلك كالتطوع نحو الصلاة والصوم ولا كالنذر حتى لزم من التزمه بل هو كمن ذهب إلى الكعبة بقصد الزيارة ولم ينذر فإذا رجع بدون شروع بركن من أركانها لم يلزم عليه شيء فطريقتنا كذلك .
فمن شرع منا إلى هذه الطريقة ورجع قبل التكميل وترك العمل مقرا بحقيتها وعمل بالشرع العام فله الأجر بقدر عمله ولا يعاقب علی تر?ه .
ومن ترك التكميل وتحميل المعرفة والكمال بعدم طاقة نفسه بالأعمال الشاقة أو للمصالح اللازمة له وتحقق بأركان الشرائع وواجباتها وسنها وله أجر غير مقطوع في الدنيا والآخرة .
فهو كمن عمل في جميع الأوقات (لكن الأمر) الإرادي (يقتضي الانقياد) من الجانبين ، وإن كان الأمر التكليفي يقتضي عدم انقياد المشرع إلى من لم ينقد إلى شريعة المشرع .
(وبيانه) أي بيان اقتضاء الأمر الانقياد (إن المكلف إما منقاد بالموافقة او مخالف فالموافق المطيع لا كلام فيه لبيانه)، فإنه ينقاد إليه مشرعه كما ينقاد هو إليه.
(وأما المخالف فإنه يطلب بخلافه الحاكم عليه) أي يطلب بسبب خلافه الذي يحكم عليه ويمنعه عن الطاعة .
(من الله حد أمرين: أما التجاوز والعفو واما الأخذ على ذلك) الخلاف (ولا بد من أحدهما لأن الأمر حق) أي مطابق للمواقع (في نفسه) لا يخلو من أحدهما (وعلى كل حال) أي حال انقیاد العبد وعدم انقياده (قد صح انقياد الحق إلى عبده لأفعاله) أي لأفعال العبد (وما هو عليه)
أي الذي هو عليه العبد (من الحال) فإن العبد وإن كان مخالفا بالأمر التكليفى لكنه منقاد لربه من حيث الأمر الإرادي فيعطي الحق ما طلبه منه بخلافه .
(فالحال) أي فحال العبد التي تقتضي انقياد الحق بإعطاء ما طلبه منه (هو المؤثر) في انقياد الحق إلى عبده بإعطاء ما طلبه
(فمن هنا) أي ومن حصول الانقياد من الطرفين (كان الدين جزاء أي معارضة بما يسر) وهو الرضاء من الطرفين (وبما لا يسر) وهو عدم الرضاء من الطرفين فيه (فبما يسر "رضي الله عنهم ورضوا عنه " هذا ) أي قوله تعالى: "رضي الله عنهم ورضوا عنه" (جزاء) ومعاوضة من الجانبين (بما يسر) .
وقوله تعالى: ("ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا" (الفرقان. 19] هذا جزاء بما لا يسر) لأنه لا رضاء من الجانبين .
وقوله تعالى: ("ونتجاوز عن سيئاتهم" هذا جزاء) بما رضوا عنه لا جزاء بما رضي الله عنهم ،بل جزاء بما لا يرضي الله عنهم.
فعلى أي حال (فصح أن الدين هو الجزاء ، كما أن الدين هو الإسلام والإسلام هو عين الانقياد فقد انقاد ) الحق بإعطاء ما يطلبه العبد (إلى ما يسر وإلى ما لا يسر وهو) أي الانقياد (عين الجزاء هذا) المذكور في بيان معنى الدين.
وهو أن يكون الدين جزاء ومعاوضة بين الله وبين العبد بانقیاد كل منهما إلى الآخر. فعلى هذا الوجه فالدين منقسم بين العبد والحق بعضه من العبد وبعضه من الحق (لسان الظاهر في هذا الباب) أي في تحقيق معني الدين يعني يعلم هذه المسألة أهل الظاهر .
(وأما سره وباطنه) أي وأما سر اللسان وباطنه أو عز الدين في هذا الباب (فإنه) أي فإن الدين أو الجزاء (تجل) أي ظهور من الممكنات (في مرآة وجود الحق و هو) أي الظهور (علمه) تعالى بالمم?نات .
(فلا يعود على المم?نات من الحق إلا ما تعطيه ذواتهم) أي ذوات الممكنات (في أحوالها فإن لهم) أي للمم?نات (في كل حال صورة فتختلف صورهم لاختلاف أحوالهم) كالصباوة والشبابة والشيخوخة يختلف في شخص واحد لاختلاف الأزمان والأحوال .
(فيختلف التجلي في مرآة وجود الحق الاختلاف الحال) أي لاختلافيه حال الممكن (فيقع الأثر) من الجن (في العبد بحسب ما يكون) العبد في حاله (فما أعطاه) أي العبد (الخير) وهو ما يسر (سواه) أي سوى ما أعطاه العبد الحق.
وكذلك قوله (ولا أعطاه ضد الخير) وهو ما لا يسر (غيره بل هو منعم العبد ذاته ومعذبها فلا يأمن إلا نفسه ولا يحمدن إلا نفسه فلله الحجة البالغة في علمه بهم إذ العلم يتبع المعلوم) فما أعطاهم إلا بعلمهم وما علمهم إلا على حسب أحوالهم فكان الدين كله للعبد من العبد على هذا الوجه فهو جزاؤه حاصل له من نفسه خيرا أو شرا.
(ثم السر الذي فوق هذا) السر (في مثل) هذه (المسألة أن الممكنات) ثابتة (على اصلها من العدم) بيان للأصل (وليس وجود إلا وجود الحق) ملتبسة (بصور أحوال ما هي عليه المم?نات في أنفسها وأعيانها) وهو الحق الخلق وهو غير الوجود الواجبي .
(فقد علمت من يتلذذ أو من يتألم) وهو حقيقة الوجود من حيث تعينه بأحوال المم?نات فهو وجوده بمقام العبودية .
وأما الوجود الواجبي  فهو منزه عن التلذذ والتالم وعلى هذا السر الدين كله لله من الله .
فالمتلذذ والمتألم في هذا السر هو العبد بعينه كما في الوجهين الأولين لكن تلذذ العبد وتألمه في هذه الصورة كله من الحق في علم العبد.
فقوله هي راجع إلى المم?نات قبله والممكنات الثاني بدل منه (و) علمته (ما) أي شيء أو الذي (يعقب كل حاله من الأحوال)، وما يعقب كل حال من الأحوال إلا الحال بمعني يتعاقب كل من الأحوال الأخرى فكان كل منها جزاء للأخری فكان الجزاء كله من تجليات الحق وكل مفعول يعقب .
(وبه) أي وسبب كون الجزاء بعقب حالا بعد حال (سمي) الجزاء (عقوبة وعقابا وهو) أي العقاب (سائغ) جائز بحسب اللغة .
(في الخير والشر غير أن العرف الشرعي سماه) أي الجزاء (في الخبر ثوابا وفي الشر عقابة ولهذا) أي ولأجل أن الجزاء كل حال يعقبه حال أخرى.
(سمي أو شرح الدين) الذي هو الجزاء (بالعادة) إنما سمي بالعادة (لأنه) أي الشان (عاد عليه) أي على العبد ما يقتضيه ويطلبه حاله من الجزاء. فما فاعل عاد وضمير المفعول في يقتضيه راجع إلى ما .
ويطلبه تفسير ليقتضيه الضمير المجرور راجع إلى العبد فعاد عليه ما يطلبه حاله فالمقتضی حال العبد والمقتضى الجزاء .
فإذا عاد عليه ما يطلبه (فالدين العادة) بهذا المعني كما أن الجزاء يسمى عقابا لتحقق التعقب في مفهومه .
و(قال الشاعر "إمرئ القيس " :   ?دینك من أم الحويرث قبلها
"" قول امرئ القيس فى معلقته "قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل"
   كدينك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل
ففاضت دموع العين مني صبابة …. على النحر حتى بل دمعي محملي
يريد: كدأبك وحالك وعادتك. فالعرب تقول: ما زال هذا دينه و دأبه وديدنه وديدنه أي عادته.""
(اي عادتك ومعقول العادة) أي المفهوم من العادة عقلا (أن يعود الأمر بعينه إلى حاله) الأول (وهذا) المعنى المعقول من العادة (ليس) موجود (ثمة) أي في الجزاء وليس في الوجود .
(فإن العادة) بمقتضى العقل (ت?رار) ولا تكرار في التجليات الإلهية .
فلما توجه أن يقال فإذا لم يكن ثمة تكرار فكيف سمي الدين بالعادة استدرك بقوله (لكن العادة) وهي عود الشيء إلى ما كان عليه من أول حاله (حقيقة واحدة معقولة) أي ثابتة في العقل لا تعدد في نفس تلك الحقيقة (والتشابه) أي التعدد (في الصور) الحسية (موجود) .
واستدل عليه بقوله : (فنحن نعلم أن زيدا عين عمرو في الإنسانية وما عادت الإنسانية إذ لو عادت لكثرت) الإنسانية (وهي حقيقة واحدة والواحد لا يتكثر في نفسه ونعلم أن زيدا ليس عين عمرو في الشخصية . وشخص زيد ليس شخص عمرو مع تحقیق وجود الشخصية بما هي شخصيته) أي مع وجود سبب الشخصية وهو الإنسانية (في الاثنين زيد وعمرو فتقول في الحس عادت) الإنسانية (لهذا الشبه) وهو المثلية بالعود في وجود الإنسانية في الاثنين.
(ونقول في الحكم الصحيح لم تعد) الإنسانية.
(فما) أي فليس (ثمة) أي في الجزاء (عادة بوجه) لعدم التكرر والمغايرة في نفس الأمر (وثمة عادة بوجه) أي من حيث أن الحال الثاني مثل الحال الأول في الحس .
(كما أن ثمة جزاء بوجه وما ثمة جزاء بوجه فإن الجزاء أيضا) أي كالعادة حال حاصل (في الممكن من أحوال الممكن) بيان لحال فجاز فيه الوجهان .
فمن حيث أنه  يوجب الحالي الأول للحال الثاني ثبت فيه الجزاء والعوض ومن حيث أنه حال آخر لعین الممكن ما ثمة فيه جزاء.
فلما فرغ عن بيان الفائدة الموعودة بقوله وسأبسط ذلك إن شاء الله ما تقع به الفائدة أراد أن يبين اختصاص الفائدة بنفسه يجب لا تقع هذه الفائدة من العلماء بالله لا قبله ولا في زمانه إلا به فهذه المسألة مما تفرد به لذلك قال : (وهذه مسألة أغفلها علماء هذا الشان) أي الفن .
ولما أوهم ظاهر كلامه نسبة الجهل إليهم وهي نوع من المذيعة التي لا تليق لهذا الكامل بل هو كذب لعلمهم بهذه المسألة فسر لدفع هذا الاحتمال الغير المرضي بقوله : (أي أغفلوا إيضاحها على ما ينبغي) حتى تقع الفائدة التي تقع بإيضاحي هذا فدل هذا الكلام على وقوع الإيضاح منهم لكن على ما ينبغي .
وأكد تفسيره بقوله: (لا إنهم جهلوا هذه) المسألة فلما نسب الغفلة عن الإيضاح إليهم والإيضاح إلى نفسه دل ظاهر كلامه على ترجیح نفسه عليهم بنسبة النقص إليهم والكمال إليه وهو لا يليق بهذا المرشد الأكمل فدفع هذا التوهم مع بيان بعض أحوال المسالة بقوله: (فإنها) أي هذه المسألة (من جملة سر القدر المتحكم في الخلائق) فالخلائق تحت ح?ومته فحكمت هذه المسألة عليهم عن إيضاحها في الغفلة نغفلوه فإن الغفلة عن إيضاح المسألة .
حال من أحوال عينهم الثابتة فالإيضاح حال من أحوالي نحكم على بالإيضاح فأوضحت فحينئذ قد ثبت الاستواء بينه وبينهم في هذه المسألة في اتباع حكمها فقوله : فإنها من سر القدر المتحكم في الخلائق جاء لبيان عذرهم في غفلتهم.
ولما بين أن الدين هو حال الممكن شرع في بيان أحوال خادم الدين وهو الرسل عليهم السلام وورثتهم (واعلم أنه كما يقال في الطبيب أنه خادم الطبيعة كذلك يقال في الرسل والورثة أنهم خادموا الأمر الإلهي في العموم) أي في حق عامة الخلق. (وهم في نفس الأمر خادموا أحوال الممكنات)، لأن الله لا يأمر العبد إلا ما طلبه العبد منه من أحوال عينه الثابتة.
(وخدمتهم من جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم فانظر ما أعجب هذا ) كيف يكون الأشرف خادمة وهو الرسل وورثتهم للاخس وهو من دونهم.
ولما جمل خادم الطبيعة وخادم الأمر الإلهي أراد أن يفصل حتى ينبین ماهو المقصود
فقال رضي الله عنه : (إلا) استثناء منقطع أي لكن (أن الخادم المطلوب هنا) سواء كان خادم الطبعة أو خادم الأمر الإلهي (إنما هو واقف) أي ثابت (عند مرسوم) أي عند أمر (مخدومه إما بالحال أو بالقول) متعلق بمرسوم يعني أن المراد بالخادم هو الثابت في خدمة مخدومه بأمر مخدومه إليه لخدمة نفسه بالحال أو بالقال .
كيف لا يكون المراد من الخادم المذكور ما قلنا (فإن الطبيب إنما يصح أن يقال فيه خادم الطبيعة لو مشي بحكم المساعدة لها) .
وما هذا المشي إلا وهو وقوف الطبيب عند أمر الطبيعة .
فظهر أن قوله كما يقال في الطبيب أنه خادم الطبيعة إنما يصح لو كان الطبيب خادمة للطبيعة بحكم الطبيعة عليه فإذا لم يمش الطبيب بحكم المساعدة لها لم يكن خادمة لها (فإن الطبيعة قد أعطت في جسم المريض مزاجا خاصا به) أي بسبب ذلك المزاج (يسمى) الجسم (مريضا ولو ساعدها الطبيب) أي الطبيعة في ذلك المزاج الخاص (خدمة لزاد) الجسم المريض (في كمية المرض بها) أي بسبب الخدمة (ايضا) كما زاد مزاجا خاصا بإعطاء الطبيعة والمراد الطبيعة ملكوت الجسم فلم يساعد الطبيب الطبيعة في المرض بل يمنعها عن المرض.
(وإنما بردعها) أي وإنما يمنع الطبيب الطبيعة عن المرض بمباشرته بما يزيل به المرض (طلبا للصحة) أي لصحة جسم المريض (والصحة) للجسم المريض نحصل (من الطبيعة أيضا) كما يحصل المرض منها (بإنشاء مزاج آخر) وهو المزاج الصحيح (يخالف هذا المزاج) المريض .
(فإذن) أي فعلی تقدير عدم مساعدة الطبيب الطبيعة في الجسم المريض لي الطبيب بخادم للطبيعة) مطلقا بل خادمة من وجه وغير خادم من وجه .
(وإنما هو خادم لها) أي وإنما كان الطبيب خادمة للطبيعة (من حيث أنه لا يصلح جسم المريض ولا بغير هذا المزاج) المريض من المرض إلى الصحة (إلا بالطبيعة) أي إلا بأمر الطبيعة له بلسان الحال (ايضا) .
كما أن عدم التغيير من المرض إلى الصحة لا يكون إلا بالمساعدة للطبيعة فحكم الطبيعة بلسان الحال على الطبيب بالأمرين:
دفع المرض والمساعدة فيه فلا بد أن يقع عند الطبيب ما هو الأصلح في حق جسم المريض (ففي حقها) أي فالطبيب في حق الطبيعة (يسعى من وجه خاص) وهو إصلاح جسم المريض (غير عام) تأكيد توجه خاص (لأن العموم لا يصح في مثل هذه المسالة) وألا يؤدي إلى اجتماع النقيضين فإذا كان الأمر كذلك
قال رضي الله عنه : (فالطبيب خادم) للطبيعة من حيث الإصلاح (لا خادم) بحكم عادة المساعدة.
فلما فرغ عن بيان أحوال الطبيب شرع في بيان ما هو المقصود الأصلي الواجب علمه بقوله: (كذلك) أي كالطبيب الخادم للطبيعة (الرسل والورثة في خدمة) أمر (الحق والحق على وجهين) .
وقوله : (في الحكم) أي في الأمر يتعلق بالحق
وقوله : (في أحوال المكلفين) يتعلق بالحكم (فيجري الأمر) أي فيصدر ما أمره الحق بالعبد (من العبد بحسب ما) أي باعتبار الذي (تقتضيه إرادة الحق ويتعلق إرادة الحق به) أي بوقوع ذلك المراد من العبد.
قال رضي الله عنه : (بحسب ما يقتضي به علم الحق ويتعلق علم الحق به على حسب ما أعطاه المعلوم من ذاته) فإذا وافق الأمر الإلهي بالإرادة وقع المأمور به من المكلف .
فيقال في حقه المطيع فإذا لم يوافق الأمر التكليفي الأمر الإرادي في الوقوع لم يقع الأمر التكليفي من المأمور .
فيقال في حقه العاصي فإذا كان إرادته تعالى تابعة لعلمه وعلمه تابعا لمعلومه .
(فما ظهر) أي فما يوجد كل معلوم في الخارج (إلا بصورته) التي هو عليها في علم الله تعالى فإذا كان الأمر الإلهي على وجهين (فالرسول والوارث خادم الأمر الإلهي) التكليفي قوله: (بالإرادة) يتعلق بخادم أي تعلق ارادته تعالى في علمه الأزلي بان الرسول خادم أي مبلغ للأمر الإلهي إلى المكلف سواء وقع ذلك الأمر من العبد المكلف أو لا .
(لا خادم الإرادة) والا لساعد الفاسق في فسقه ولم يكن كذلك فإذا كان الرسول خادمة للأمر الإلهي بالإرادة لا خادم للإرادة (فهو) أي الرسول (يرد) ما صدر من العبد بما يخالف الأمر الإلهي (عليه) أي على المكلف (به) أي بالأمر الإلهي ولا يقبل منه الفعل الذي يخالف الأمر التكليفي .
مع أنه لا يكون إلا بإرادة الله تعالی ولو خدم الإرادة لما يرد هذا الفعل منه.
فإن الله يأمره أن يخدم الأمر الإلهي بأن يرد ما يخالف الأمر الإلهي على صاحبه فهو مأمور برد المنكر عليه والمعروف إليه (طالبا السعادة المكلف) ومي الأصلح في حقه.
فإذا رد ما وقع من العبد بالإرادة فلا يخدم الإرادة (فلو خدم الإرادة الإلهية ما نصح) الخلق بل يتركهم على حالهم لأنه المراد وقوعه .
(وما نصح إلا بها أعني بالإرادة) أي إلا بالإرادة المتعلقة بالنصيحة مطلقا سواء طابقت الإرادة أو لا .
لذلك كانت الدعوة عامة في السعيد والشقي ولم يزل النبي عن دعوة أحد وإن علم منه عدم قبول الدعوة .
ما لم يأت البرهان من عند الله القاطع عن الدعوة في حقه لأنه ما عليه إلا التبليغ والنصيحة في حق العامة .
قال رضي الله عنه : (فالرسول والوارث طبيب أخروي للنفوس منقاد لأمر الله حين أمره) التبليغ أحكامه للناس (فينظر) بنور الله (في أمره) أي في أمر المحن إلى الرسول، ليبلغه إلى عباده ويعلم حكمة أمره.
(وينظر في إرادته تعالی) ويعلم حكمة إرادته بذلك النور (فيراه) أي الحق بسبب علمه هذين الأمرين (قد أمره) أي للمكلف (بما يخالف إرادته و) الحال، (لا يكون إلا ما يريد) الحق .
(ولهذا) أي ولأجل أن لا يكون إلا ما يريد الحق (كان) أي وجد الأمر الإلهي لأنه المراد وقوعه من الله (فأراد الأمر) أي فأراد وقوع الأمر وهو التكاليف الشرعية.
قال رضي الله عنه : (فوقع وما أراد وقوع ما أمر به) أي وقوع المأمور به (بالمامور) متعلق بما أمر به وهو الرسول إذ بواسطته بأمر المكلف (فلم يقع) المأمور به بالأمر (من المأمور) وهو المكلف.
فأراد الحق وقوع الأمر من الرسول وهو التبليغ إلى المأمور فوقع الأمر منه ولم يرد وقوع المأمور به من المأمور فلم يقع .
كما في أبي جهل فإن مراد الله وقوع الأمر في حقه وكونه مخاطبا بالأحكام الشرعية بلسان النبي فوقع لأنه مراد الله ولا بد وقوعه .
ولم يقع المأمور به وهو قبوله حكم الله لأنه ما أراد الله وقوعه منه فوقوع الأمر له وعدم وقوع المأمور به منه من جملة عينه الثابتة فلله الحجة البالغة.
فإذا أراد وقوع المامور به وقع كلاهما فالله تعالى قد يأمر ويريد ضد المأمور به فيوجد الأمر ولم يوجد المأمور به .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 5:05 pm

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليعقوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الجزء الثاني

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية

وقد يأمر ويريد المأمور به فيوجد كلاهما وكل ذلك من أحوال عين المكلف .
(فسمي) أي: فإذا أمر ولم يقع المأمور به سمي (مخالفة ومعصية فالرسول مبلغ) للأمر إلى عباد الله خالف ذلك الأمر الإرادة أو لم يخالف فما عليه إلا وقوع الأمر لا وقوع المأمور به من الأمور (ولهذا) أي ولأجل أن الله تعالى قد پامر عباده بما يخالف إرادته فلم يقع المأمور به (قال) الرسول عليه السلام: ("شيبتني هود وأخواتها لما تحوي") أي تشتمل (عليه) الضمير راجع إلى ما (من قوله فاستقم كما أمرت فشيبه) قوله تعالى : ( "كما أمرت" فإنه) أي الرسول (لا يدري) أي لا بعلم (هل أمر بما يوافق الإرادة فيقع) المأمور به فی?ون مطيعة الله تعالى (او بما يخالف الإرادة فلا يقع) فيكون خارجة عن طاعة الله فما شيبه إلا تردده بين هذين الأمرين اللذين يوجب أشد الخوف والخشية من الله تعالى.

قال رضي الله عنه : (ولا يعرف أحد حكم الإرادة) لكونها من سر القدر .
(إلا بعد وقوع المراد إلا من كشف الله عين بصيرته فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها على ما هي عليه فيحكم) الإرادة قبل وقوع المراد (عند ذلك) أي عند إدراكه (بما) أي بسبب الذي (يراه) عن كشف إلهي .

قال رضي الله عنه : ( (وهذا) العلم (قد يكون لآحاد الناس) وهم الأنبياء وبعض الأولياء (في أوقات) أي في وقت (لا يكون مستصحبأ) لجميع الأوقات .
ويدل على ذلك قوله تعالى لنبيه عليه السلام:«ما أدري ما يفعل بي ولا بكم» [الأحقاف: 9] .
أي ما أعلم إرادة الله قبل وقوع المراد (فصرح) الحق (بالحجاب) فعلمنا منه أن هذا الكشف لا يكون مستصحبا في حق الرسول فضلا عن غيره .
وإنما لا يستصحب في الرسول فإنه عليه السلام من حيث نشأته العنصرية لا يدوم له هذا الكشف.
وأخذ بعض الشارحين قوله فصرح على صيغة الأمر وإن كان له وجه لكن الأوجه كونه على صيغة الماضي (وليس المقصود) بالاطلاع حكم الإرادة (إلا أن يطلع) أحد (في أمر خاص لا غير) لأنه ليس في وسع أحد أن يطلع جميع معلومات الله من الممكنات.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 5:14 pm

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الأول .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليوسفي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الجزء الأول

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية

(فص حكمة نورية) أي العلوم المنسوبة إلى النور مودعة (في كلمة يوسفية) أي في روح ذلك النبي عليه السلام (هذه الحكمة النورية) مبتدأ (انبساط نورها) مبتدأ ثاني الضمير يرجع إلى الحكمة (علی حضرة الخيال) خبر الجملة خبر المبتدأ الأول أي هذه الحكمة النورية التي في كلمة يوسفية ينبسط نورها على حضرة المنام فيرى بسبب هذا النور رؤيا صادقة.

"" يبحث هذا الفص في "عالم المثال" وما يتصل به من القوة الخيالية في الإنسان وما يكشف الإنسان بواسطة اتصاله بالعالم المثالي من صورة الوجود الروحاني بالصور التي ترى في الأحلام.
والعالم المثالي نوراني كما يقولون، أي غير مادي، وتسمية كل روحي لطيف نورة، وكل مادي كثيف ظلمه.""


(وهو) أي انبساط النور على حضرة الخيال (أول مبادىء) أول منشأ ظهور (الوحي الإلهي في أهل العناية) أي في حق الأنبياء فأول الوحي الرؤيا الصادقة وسبب ظهورها انبساط النور عني حضرة الخيال.
وأورد على ذلك دليلا قول عائشة رضي الله عنها فقال : تقول عائشة رضي الله عنها (أول ما بدئ به) أي أول ما ظهر به (رسول الله) صلى الله عليه وسلم (من الوحي الرؤيا الصادقة فكان) رسول الله عليه السلام (لا يرى رؤيا إلا خرجت) أي ظهرت تلك الرؤيا في الحس (مثل فلق الصبح) في الظهور هذا من قول عائشة رضي الله عنها : (تقول) أي عائشة (لا خفاء بها) في صدقها هذا كلام الشيخ تفسير لقول عائشة رضي الله عنها (وإلى هنا بلغ علمها لا غير) وليس الأمر على ما علمت العائشة .
(فكأن المدة له) أي الرسول الله صلى الله عليه وسلم (في ذلك) الوحي (ستة أشهر ثم جاءه الملك) هذا قول عائشة رضي الله عنها قالته في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(وما علمت) عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام قد قال : "إن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا". ذكره العراقي في المغني
وكل ما يرى) رسول الله عليه السلام (في حال النوم) وهو اليقظة في العرف العام التي عبر عنها رسول الله عليه السلام بقوله:" والناس نيام" (فهو) أي كل ما يرى فيه (من ذلك القبيل) أي من قبيل ما رآه رسول الله عليه السلام في ستة أشهر من الرؤيا الصادقة.
فما رأى الملك إلا من حضرة الخيال كالرؤيا الصادقة (وإن اختلف الأحوال) على الرائي باليقظة والنوم (فمضي) عمره في الوحي .
(قولها) أي في قول عائشة في منام بالرؤيا الصادقة (ستة أشهر) ومضى بعد ذلك عمره في الوحي بمجيء الملك في اليقظة لا في المنام .
فما رأى الملك من حضرة الخيال في قولها بل من حضرة الشهادة وليس الأمر كما قالت العائشة (بل) مضى عمره كله في الدنيا في الوحي.
(بتلك المثابة) أي بمثابة ستة أشهر في كون الوحي في المنام فإذا مضى عمره في الوحي بتلك المثابة فوحيه كله إنما هو منام في منام أو فعمره كله في الوحي كله (إنما هو منام في منام).
فالمنام الأول هو حضرة الخيال
والثاني قوله عليه السلام: «الناس نيام» وهو اليقظة ، فكان عمره كله في الوحي في نيام مثل ما قالت العائشة ستة أشهر .
فما ورد الوحي إليه إلا من قبيل المنام في المنام .
(وكل ما ورد من هذا القبيل، أي من قبيل المنام في المنام فهو المسمى علم الخيال) فكان الوحي كلها سواء كان بالرؤيا الصادقة أو بالملك أو بغيرهما سواء سمي نائما كما في الرؤيا أو لم يسمى كما في غيرها من عالم الخيال.
(ولهذا) أي ولأجل كون كل ما ورد من قبيل المنام في المنام من حضرة الخيال (یعبر) بالتشديد على البناء للمفعول (أي الأمر الذي هو في نفسه على صورة كذا ظهر) للنائم (في صورة غيرها) أي غير صورته في نفسه .
قال رضي الله عنه : (فیجوز) أي فيعبر (العابر من هذه الصورة التي أبصرها النائم إلى صورة ما هو الأمر عليه) في نفسه (إن أصاب) العابر.
(كظهور العلم) لرسول الله عليه السلام في منامه (في صورة اللبن فعبر) أي جاز رسول الله عليه السلام (في التأويل من صورة اللبن إلى صورة العلم فتأول) رسول الله عليه السلام (أي قال مال هذه الصورة اللبنية) وهي التي  أبصرها رسول الله عليه السلام (إلى صورة العلم) التي لم يبصرها رسول الله (ثم إنه عليه السلام كان إذا أوحي إليه) بدون تمثل الملك .
(أخذ عن المحسوسات المعتادة) أي عن محسوساته المعتادة له (فسجي) بالتشديد أي فستر عن المحسوسات المعتادة (وغاب عن الحاضرين عنده) بدخوله في حضرة الغيب.
قال رضي الله عنه :  (فإذا سري) بالتشديد أي رفع (عنه) ما به غاب عن الحاضرين (رد) إلى المحسوسات المعتادة (فما ادركه) أي الأمر حين غيبته عن الحس.
(إلا في حضرة الخيال إلا أنه لا بسمي) رسول الله (نائما) في ذلك الوقت .

قال رضي الله عنه : (وكذلك إذا تمثل له الملك) أي إذا جاءه الملك للوحي فتمثل له (رجلا فذلك) الملك الظاهر له بصفة الرجل (من حضرة الخيال) .
فما رآه رسول الله عليه السلام والأصحاب رضوان الله عليهم إلا من حضرة الخيال لا من حضرة الشهادة وإنما كان ذلك الملك من حضرة الخيال .
قال رضي الله عنه : (فإنه) أي فإن ذلك الملك (ليس برجل في نفسه وإنما هو) في الحقيقة (ملك فدخل في صورة إنسان) فظهر له للوحي (فعبره الناظر العارف) حقيقة الحال وهو الرسول (حتى وصل إلى صورته الحقيقية) وهي صورة الملكية .
(فقال صلى الله عليه وسلم : هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم) أمر (دينكم) فهذا حكم التعبير (و) الحال.
قال رضي الله عنه : (قد قال) عليه السلام (لهم) أي لأصحابه الذين منعوا دخول الرجل عليه (ردوا على الرجل فسماه بالرجل من أجل) أي بسبب (الصورة التي ظهر لهم) أي ظهر جبرائيل لأصحابه الحاضرين في ذلك المجلس (فيها) أي في صورة الرجل .
قال رضي الله عنه : (ثم قال) بعد قوله : ردوا على الرجل (هذا جبرائيل فاعتبر الصورة التي مآل هذا الرجل المتخيل إليها نهر صادق في المقالتين) .
هذا جبرائيل وردوا على الرجل (صدق) في تسمية الرجل (للعين) أي لأجل البصر الذي كان موضعه (في العين الحسية) فإن العين يطلق على البصر وعلى موضعه فإن الحاضرين لا ينظرون إليه إلا بالبصر الذي كان موضعه في عين رؤوسهم لا بالبصر الذي كان في قلوبهم .
ولو أدركوا بذلك لقالوا: هذا جبرائيل كما قال الرسول عليه السلام فما يسمي هذا العين إلا بالرجل .
فصدق الرسول عليه السلام في قوله لأجل هذا العين فهو معنى قوله : فسماه بالرجل من أجل الصورة التي ظهر لهم فهو حكم من الرسول عليه السلام بحسب العين الحسية أو معناه صدق للعين أي تعين الرجل .
قال رضي الله عنه : (وصدق في قوله : إن هذا جبرائيل فإنه جبرائیل) في نفسه (بلا شك) .
ولما فرغ عن بيان حال محمد عليه السلام في الرؤيا والوحي شرع في بيان حال يوسف عليه السلام في رؤياه ليظهر الفرق بينهما في رتب العلم في الرؤيا بقوله:
قال رضي الله عنه : (وقال يوسف) عليه السلام قال رضي الله عنه : («إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين» فرأى إخوته في صورة الكوكب ورأى أباه وخالته في صورة الشمس والقمر هذا أي إدراك هذه الأشياء من جهة يوسف عليه السلام) فقط لا من جهة المرئي .
قال رضي الله عنه : (ولو كان) هذا الإدراك (من جهة المرئي لكل ظهور إخوته في صورة الكواكب وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس والقمر مرادا لهم) ولم يكن لهم هذا الظهور
مرادا وإلا لكان لهم علم بما رآه يوسف عليه السلام ولم يكن لهم علم بما رآه يوسف (فلما لم يكن لهم علم بما رآه يوسف عليه السلام كان الإدراك من جهة يوسف في خزانة خياله) لا من المرئي .
فإن إدراك ما في خزانة الخيال قد يكون من الرائي والمرئي مع كظهور جبريل للنبي فإن جبرائیل علم بما رآه محمد عليه السلام فكان الإدراك واقعة منهما بخلاف يوسف عليه السلام مع إخوته (وعلم ذلك يعقوب) عليه السلام أي عدم علمهم بما رآه يوسف عليه السلام (حين قصها عليه).
أي حين قصر الرؤيا علي يعقوب فقال: («يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك») لنلا يطلعوا على رؤياك فإنهم لو اطلعوا رؤياك لعلموا تفوقك عليهم ("فيكيدوا لك كيدا" ) أي فيحتالوا لإهلاكك حيلة.
قال رضي الله عنه : (ثم برأ أبناءه عن ذلك الكيد وألحقه بالشيطان) أي بعد إسناد ذلك الكيد إلى بنية أسند إلى الشيطان لأن كيدهم بإغوائه و إضلاله
قال رضي الله عنه : (وليس) إلحاق الكيد بالشيطان (إلا عين الكيد) من يعقوب مع يوسف عليهما السلام لثلا يبقى عداوة إخوته في قلبه .
فإنه لما أسند الكيد إلى بنيه علم يوسف عليه السلام إن إخوته عدو له فوقع في قلب يوسف عليه السلام عداوة إخوته فعلم يعقوب عليه السلام ذلك من يوسف عليه السلام فألحق الكيد بالشيطان تدفع ذلك من يوسف عليه السلام .
قال رضي الله عنه : (فقال : «إن الشيطان للإنسان عدو مبين» أى ظاهر العداوة) فعلم يوسف عليه السلام من ذلك إن إخوته ليسوا عدوا له بل عدوه الشيطان فكان هذا الكلام من يعقوب عليه السلام عين الكيد مع يوسف عليه السلام حتى لا يزول عن قلبه محبة الأخوة مع بقاء الاحتراز.
وهو قوله : "لا تقصص" فمراد يعقوب عليه السلام إثبات محبتهم في قلبه مع حفظه يوسف عليه السلام عن كیدهم.
وإنما قال الحق الكيد مع أن الملحق العداوة لا الكبد تكون العداوة سببة للكبد فإلحاق العداوة إلحاقة (ثم قال يوسف عليه السلام بعد ذلك) أي بعد ظهور هذه الأشياء له
قال رضي الله عنه : (في آخر الأمر) وهو وقت لقائه إلى أبيه وخالته وإخوته (هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا أي أظهرها في الحس بعدما كانت في صورة الخيال) فلم يعلم تأويل رؤياه إلا بعد وجودها في الحس ففرق بين الصورة الخيالية والحسية ولم يجعل الخيالية من المحسوسات والمحسوسات من الخيالية وليس الأمر كذلك بل كلها خيالية حسية.
قال رضي الله عنه : (فقال له النبي محمد) عليه السلام أي للحس الذي لم يجعله يوسف عليه السلام من الخيال (الناس نيام) فجعله محمد عليه السلام من الخيال .
قال رضي الله عنه : (فكان قول يوسف) عليه السلام في إدراك محمد عليه السلام (قد جعلها ربي حقا بمنزلة من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤيا رآها ثم عبرها ولم يعلم) هذا الشخص (أنه) أي الشأن موجود (في النوم) .
قال رضي الله عنه : (عينه) بالجر تأكيد للنوم (ما برح) أي ما زال عن النوم (فإذا استيقظ يقول رأيت كذا ورأيت كأني استيقظت واولتها بكذا هذا).
أي قول يوسف عليه السلام : "قد جعلها ربي حقا " (مثل ذلك) الشخص في كونه منامة في منام (فانظر كم بين إدراك محمد عليه السلام وبين إدراك يوسف عليه السلام في آخر امره حين قال«هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا». معناه ) .
أي معنى قوله : حقا (حسا ای محسوسا وما كان) ذلك المرئي في حضرة الخيال قبل قوله حقة أي محسوسة (إلا محسوسة فإن الخيال لا يعطي أبدا إلا المحسوسات).
قوله : (غير ذلك) مبتدأ (ليس له) خبره ، فالجملة تأكيد لقوله فإن الخيال لا يعطي أبدا إلا المحسوسات أي ليس للخيال إعطاء غير المحسوسات ، ولم يعلم يوسف عليه السلام كما علم محمد عليه السلام فقال : إن الكون كله خيال وما يعطي الخيال إلا المحسوسات .
قال رضي الله عنه : (فانظر ما أشرف علم ورثة محمد) عليه السلام كيف يطلعون هذه الأسرار فإن هذه مسألة دقيقة في الفن لا يطلعها إلا ورثة محمد عليه السلام ، وفيه تعظيم شأن محمد عليه السلام .
والمراد من الورثة وإن أتي بالجمع نفسه قدس سره لأن هذا العلم لا يظهر من أحد من العلماء بالله قبله .
قال رضي الله عنه : (و سأبسط القول) أي و سنفصل القول المجمل المذكور في هذه الحضرة الخيالية فاللام إشارة إلى القوم المذكور فيما سبق لبيان حضرة الخيال.
و سأبسط و أعد إلى تفصيل ما أجمله في حضرة الخيال فقوله: (في هذه الحضرة) متعلق بالقول.
ولما كان حضرة الخيال في روحانية يوسف عليه السلام قال (بلسان يوسف) عليه السلام.
ولما كان نفسه قدس سره وارثا للولاية الخاصة المحمدية قال : (المحمدي) لأنه إذا كان قائما بالولاية الخاصة المحمدية كان جامعا الجميع ولاية الأنبياء.
فكان قائلا بلسان موسى المحمدي عليه السلام وبلسان عيسى المحمدي عليه السلام.
فالمراد بلسان يوسف المحمدي عليه السلام نفسه اى الشيخ ابن العربي الطائي الحاتمي (ما) موصول صفة لمحذوف أي سأبسط البسط الذي (تقف) أي تطلع عليه (إن شاء الله تعالی) أو بدلا من القول أو موصوفة بمعنی بسطأ نقف به على علم ورثة محمد عليه السلام.
ولما بين حضرة الخيال بالنسبة إلى الرؤية فهي بهذا الاعتبار عالم خاص كما ذكر وغيره من العوالم ليس بخيال شرع في بيان أن العالم كله خيال .


قال رضي الله عنه: (فنقول : اعلم أن المقول عليه سوى الحق أو مسمى العالم هو) أي مسمى العالم (بالنسبة إلى الحق كالظل للشخص) فكما أن الظل معدوم في نفسه موجود بالشخص كذلك العالم معدوم في نفسه موجود بالحق.
قال رضي الله عنه : (فهو) أي العالم (ظل الله فهو) أي ظل الله (عين نسبة الوجود إلى العالم) فإذا كان ظل الله هو عين العالم فلا بد في ظهور العالم كل ما لا بد في ظهور العالم بحسب ما يناسب الظهور وإنما كان ظل الله عين نسبة ظل العالم إلى العالم .
قال رضي الله عنه : (لأن الظل) أي ظل العالم (موجود بلا شك في الحس ولكن إذا كان ثمة) أي في الحس (من يظهر فيه ذلك الظل حتی لو قدرت عدم من يظهر فيه الظل كان الظل معقولا غير موجود في الحس بل يكون بالقوة في ذات الشخص المنسوب إليه الظل) ولا بد أيضا من النور ليدرك به .  ولم يذكره اكتفاء بذكره بعده .
قال رضي الله عنه : (فمحل ظهور هذا الظل الإلهي المسمى بالعالم إنما هو أعيان الممكنات عليها امتداد هذا الظل فيدرك من هذا الظل بحسب ما امتد عليه من وجود هذا الذات) التي يمتد الوجود عليها فأعيان الممكنات ليست من العالم بل محل ظهور العالم .
فالأعبان لا تظهر أبدا من هذا الوجه فلا يمتد ظلال إلا بحسب اقتضاء المحل (ولكن باسمه النور) أي لكن بمظهر اسم النور وهو الشمس (وقع الإدراك) .
أي وبانبساط نور الشمس على العالم يدرك العالم وهو ظل الإلهي (وامتد هذا الظل على أعيان الممكنات) قوله: (في صورة) متعلق بامتداد (الغيب المجهول) وهو الذي يعلم لنا بالمجهولية فصار معلوما من وجه ومجهولا من وجه .
كشبح تراه من بعيد وهو معلوم لنا بالصورة الشبحية ومجهول لنا بالكيفية والحقيقة. فإنه لا نعرف أنه إنسان أم غيره كذلك العالم معلوم لنا حيث أنه ظل الله ومجهول لنا من حيث الحقيقة .
فإن حقيقته راجعة إلى حقيقة الحق و امداد الظل عليها ظهوره فيها على حسب ما هي عليه من الأحوال .
فكأن صورة الظل صورة غيبه مجهول فإن أعيان الممكنات معدومة في الخارج فكانت مختفية عنا بالظلمة العدمية .
واستدل على ما في الغيب، بما في الشهادة تسهيلا للطالبين بقوله : (ألا ترى الظلال تضرب إلى السواد تشير إلى ما فيها) أي في أنفس الظلال (من الخفاء) وإنما كان الخفاء في الظلال (لبعد المناسبة بينها) أي بين الظلال (وبین أشخاص من هي).
أي الأشخاص (ظل له) أي لتحق فمن عبارة عن الحق والأشخاص العالم فإذا ثبت في ظلالنا الخفاء لبعد المناسبة بيننا وبين ظلالنا ثبت في العالم الخفاء لبعد المناسبة بينه وبين من هو ظل له .


فإن من اتصف بالعبودية بعيد عن من اتصف بالربوبية فإذا كان العالم في صورة الغيب المجهول فلا يعلم العالم من كل الوجوه فلا يعلم الحق من كل الوجوه (وإن) وصل (كان الشخص أبيض فظله بهذه المثابة) أي يضرب إلى السواد واستدل على أن البعد سبب للخفاء بشهادة الوجود الخارجي على طريق التمثيل.
بقوله رضي الله عنه : (ألا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر يظهر سوادة وقد تكون في اعيانها على غير ما بدركها الحس من اللونية وليس ثمة علة) للسواد (إلا البعد و كزرقة السماء فهذا ما أنتجه البعد في الحس في الأجسام غير النيرة قال رضي الله عنه : )وكذلك أعيان الممكنات ليست نيرة لأنها معدومة) فوقع الخفاء في صورتها وهى ظل الله وهو العام.
(وان) وصل (اتصفت بالثبوت لكن لم تنتصف بالوجود الخارجي إذ الوجود نور) لا يجتمع مع الظلمة بخلاف الثبوت فإنه ليست بنور فيجتمع مع الظلمة وهي العدم فظهر الفرق بين الثبوت والوجود .
قال رضي الله عنه : (غير أن الأجسام النبرة يعطي فيها البعد للحس صغرة فهذا) أي الصغر (تاثير آخر للبعد) يعطيه في الأجسام النيرة (فلا يدركها الحس) أي الأجسام النيرة (إلا منيرة الحجم) .
قال رضي الله عنه : (و) الحال (هي) أي الأجسام (في أعيانها) أي في وجودها الخارجي (كبيرة من ذلك القدر واكثر كميات كما بعلم بالدليل أن الشمس مثل الأرض في الجرم مائة وستين مرة وربع وثمن مرة وهي في الحس على قدر جرم الترس مثلا وهذا أثر البعد أيضا) فلما كان البعد علة للخفاء لزم أن يمتد الظل على الأعيان في صورة الغيب المجهول .
فإذا امتد في صورة الغيب المجهول
قال رضي الله عنه : (فما يعلم من العالم)، وهو ظل الله (إلا ما قدر ما يعلم من الظلال) أي من ظلال العالم وما يجعل من العالم إلا قدر ما يجهل من الظلال وما يعلم من الحق إلا ما قدر ما يعلم من العالم
قال رضي الله عنه : (ويجهل من الحق على قدر ما بجهل من الشخص الذي منه) أي عن ذلك الشخص (كان) أي وجل (ذلك الظل) وهو ظل العالم فإذا كان الأمر كذلك (فمن حيث هو) أي العالم (ظل اله) أي للحق (یعلم) الحق للعلم بالظل من هذا الوجه فيعلم من الحق بهذا المقدار .
(من حيث ما) زائدة للتأكيد (يجهل ما) موصولة قائم مقام فاعل يجهل (في ذات ذلك الظل من صورة شخص من امتد عنه) ذلك الظل .
قال رضي الله عنه : (يجهل من الحق فلذلك) أي فلأجل أن الظل معلوم من وجه (نقول إن الحق معلوم لنا من وجه) لكون ظله معلوما لنا من وجه (ومجهول لنا من وجه) لكونه ظله مجهولا لنا من وجه ويدل على أن العالم أي الوجود الخارجي ظل إلهي ممتد على أعيان الممكنات .
قوله تعالى : «أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا» [الفرقان:45] أي كیف بسط الوجود الخارجي وهو العالم (ولو شاء) عدم مده (لجعله) أي لجعل ذلك الظل (ساكنا أي يكون فيه) أي في وجود الحق (بالقوة) كظل الشخصي في وجوده إذا لم يكن ثمة من يظهر فيه.
يعني (يقول) الله (ما كان ليتجلى للممكنات) على طريق قوله: " وما كان الله معذبهم وأنت فيهم" قال رضي الله عنه : (حتى يظهر الظل) يعني إنما يتجلى الله للممكنات كي يظهر الظل فلولا تجلي الحق للممكنات لم يظهر الظل.


(فيكون الظل كما بقي) الآن من الممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود الخارجي ويدل على وقوع الإدراك بأسمه النور .
قوله تعالى: (ثم) أي بعد مد الظل (جعلنا الشمس عليه) أي على ذلك الظل (دليلا) ليدرك به ذلك الظل (وهو) أي الدليل (اسمه النور) أي مظهره (الذي قلناه) بقولنا لكن باسمه النور وقع الإدراك .
قال رضي الله عنه : (ويشهد له) أي لكون النور دليلا (الحس فإن الظلال لا تكون لها عين) أي وجود في الخارج (بعدم النور) كما في الليل المظلمة (ثم قبضناه) أي ذلك يقبض النور الذي دل عليه (إلينا قبضا يسيرا) يعني لا يعسر علينا قبضه كما لا يعسر مده (وإنما قبضه إليه لأنه ظله فمنه ظهر إليه يرجع) وإليه يرجع (الأمر كله) في القيمة الكبرى لأن جميع الأمور ظلاله والظل لا يرجع إذا رجع إلا إلى صاحبه .
ولما حقق أن العالم كله ظل الحق أراد أن يبين أن العالم من أي جهة أمتاز عن الحق ومن أي جهة اتحد معه. "الأصوب : ظهر به للمتحققين"
فقال رضي الله عنه : (فهو) أي وجود العالم (هو) أي عين وجود الحق من وجه (لا غيره) فإذا كان وجود العالم عین الحق من وجه .
قال رضي الله عنه : (فكل ما تدركه) أنت من العالم (فهو) أي ما تدركه هو (وجود الحق) المنبسط (في أعيان الممكنات) فهذا الاتحاد اتحاد العبد مع الحق في جهة خاصة كاتحاده معه في حقيقة العلم والحياة وغير ذلك .


"" أضاف الجامع : الإتحاد يكون ممكننا بين المتشابهات ولو كان بينهما اى نسبة فى التشابه ولو ضئيلة جدا ،لكن الله عز وجل ليس كمثله شيء .فلا شبيه ولا نظير ولم يقل الله سبحانه انه اتحد مع أحد أو شيء فلا شيء اسمه اتحاد مع الله الا في أوهام عقول الفلاسفة وعلماء الرسوم . إنما يستعمل الممكنات ليظهر و يتجلى بالطريقة والحد الذي يريده ويقدره وحده بلا شريك او نظير. إذ لا ظهور ولا ظلال إلا بالله فقط .. فلا يوجد اتحاد ولكن استخدام واستعمال لقدرته وحكمته ونوره الساري في كل الموجدات والممكنات.
والشيخ رضي الله عنه يقول في هذا الفص:"فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه" ""

وأشار إلى جهة الاتحاد "الإدرك" بقوله : (فمن حيث أن هوية الحق) ظاهرة فيه (هو) أي ما تدركه (وجوده) أي عين وجود الحق فإن عكس الشيء عين ذلك الشيء من وجه (ومن حيث أن اختلاف الصور) واقع (فيه) أي في كل ما تدركه .
قال رضي الله عنه : (هو) أي ما ندركه (أعيان للممكنات نكما لا يزول عنه) أي عن العالم (باختلافي الصور فيه اسم الظل كذلك لا يزول عنه باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق) فيمتاز بهذا الوجه عن الحق لتنزه الحق عن الحدوث والإمكان وغير ذلك من النقائص الإمكانية .
قال رضي الله عنه : (فمن حيث أحدية كونه) أي كون العالم (ظلا هو الحق) أي هو الموصوف بالواحد الأحد (لأنه) أي لأن الحق أو لأن الظل (الواحد الأحد ومن حيث كثرة الصور هو العالم) فلا يظهر الفرق للناظر إلى هذه المرتبة الأحدية فلا يطلق عليه من هذا الوجه اسم العالم وسوى.
لكن بين أحدية الحق وبين أحدية العالم فرق في نفس الأمر فإن أحدية الحق ، أحدية ذاتية منزعة عن تعين الكثرة .
وأما أحدية العالم فإنه عبارة عن عدم تعین الكثرة ولا يتعين أصلا بتعين الكثرة ولا بعدم تعين الكثرة .
وأما أحدية العالم فإنه عبارة عن عدم اعتبار تعين الكثرة فتعين أحدية العالم بعدم تعين الكثرة كما إذا قطعت النظر عن الشخص الزيدي بقي في نظرك الإنسان .
فهذا أحدية الزيد لا أحدية حقيقة الإنسان فإن ذلك قد عرض عليه التعين فزال فبقي متعينا بزوال التعين لأنه لا يزول على أحدية العالم هذا الوصف العدمي حتى اتحد الأحديتين في نفس الأمر .
فإن المتعين بتعين عدمي مانع الوصول إلى الإطلاق والحقيقي فلا يخرج أحدية العالم تحت الإمكان .
ولا حظ له من الوجوب الذاتي ران اتصف من هذا الوجه بالواحد الأحد وأطلق عليه الحق وإنما لم يطلق عليه من هذا الوجه غيره من الأسماء كالخلق والرازق وغيرهما.
إذ لا يلزم من الاتحاد في الأحدية الاتحاد بالكلية لأن الأحدية وجه من وجوه الحق.
وإنما كان إطلاق اسم الحق على العالم من هذا الوجه عند أهل الله بحسب ما يعطيه النظر من المساواة في هذا الوصف لا بحسب نفس الأمر إذ لا مساواة في الحقيقة.


ولما كانت هذه المسألة أنفع علما اوصى وأمر بالسالكين بالحفظ و التفطن فقال :
(فتفطن وتحقق ما أوضحته لك) فإنه إذا تفطنته وتحققت به فقد وصلت إلى أصل الأصول الذي ينفتح لك منه كثير من مسائل العلوم الإلهية ثم استعمل حرف الشك في محقق الوقوع الذي لا يحتمل خلافه.
وقال رضي الله عنه : (إذا كان الأمر على ما ذكرته لك) مع أن الأمر على ما ذكره في نفسه في يقينه تنبيها للطالبين حتى لا يعتمدوا على أنفسهم في العلم فينقطعوا عن طلب العلم (فالعالم متوهما ما) أي ليس (له وجود حقيقي مغاير) بالذات من كل الوجود لوجود الحق بل الوجود الحقيقي والوجود الإضافي للعالم وليس إلا وهو ظل لوجود الحقيقي فلم يقم بنفسه لكونه ظلا بل قائم بمن هو ظل له فقد عرفت وجه الاتحاد ووجه الامتياز . "الاتحاد = الإدراك بالظهور"
وقال رضي الله عنه : (وهذا) أي كون العالم متوهما لا موجودا حقيقيا (معنى الخيال أي خيل لك أنه) أي العالم (أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق) كما أخذ أهل الحجاب هذا التخيل تحقيقا واختاروا مذهبا حقا لأنفسهم .
وقال رضي الله عنه : (وليس العالم كذلك في نفس الأمر) وكيف كذلك في نفس الأمر (ألا تراه) أي ترى الظل (في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه) ذلك الظل (يستحيل عليه) أي على الظل.
وقال رضي الله عنه : (الانفكاك عن ذلك الاتصال) أي كون الظل قائمة بالشخص (لأنه يستحيل على الشيء الانفكاك عن ذاته) فالظل يستحيل انفكاكه عن الشخص الذي امتد عنه لأن الظل عن ذلك الشخص وذاته لا أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الشخص.
فما ثمة إلا أمر واحد يظهر بالصورتين : الشخصية والظلية .
وبه يتوهم المغايرة وتخيل أن الظل موجود متحقق فإذا رأيت الظل وعرفت نسبته إلى الشخص أو فإذا تفطنت ما أوضحته لك فتوجه إلى نفسك (فاعرف عينك) أي وجودك الخارجي (و) اعرف (من أنت) لموجود حقيقي أم متوهم متخیل .
وقال رضي الله عنه : (و) اعرف ما هويتك أهو الحق أو غيره (و) اعرف (ما) أي شيء (نسبتك إلى الحق و) اعرف (بما) أي بأي سبب (أنت حق و) إعرف.
(بما) أي بأي سبب (انت عالم وسوى وغير ذلك وما شاكل كل هذه الألفاظ) الكلام إخبار في صورة الإنشاء يعني فإذا تفطنت ما أوضحته لك فقد عرفت في نفسك هذه الأمور فظفرت المطلوب الأعلى في رتب العلم بالله .
وقال رضي الله عنه : (وفي هذا) العلم (يتفاضل العلماء فعالم بالله واعلم) فإن هذه المسألة من أغمض مسائل العلوم الإلهية فكانت محلا لتفاوت شأن العلماء.

ولما بين حكم نسبته الظل إلى الحق أراد أن يبين نسبته الحق إلى الظل بقوله: (فالحق بالنسبة إلى ظل خاص صغير وكبير وصاف وأصفي) في حكم الحس لا في نفس الأمر فإن الظل قد يكون مساوية للشخص وقد يكون صغيرة وكبيرة بحسب اختلاف الأوقات .
فمن نظر إلى الظل مع غيبة عن الشخص وقد حكم على الشخص يحكم الظل بحسب الصور المختلفة والشخص باق على حاله لا يختلف باختلاف الصور الظلية .
فكذلك الحق باقي على حاله منزه عن هذه الأمور في نفسه لكن الحس يحكم عليه بهذه الأحكام المختلفة من أحكام الظل بحسب المحل .
ومثال كون الحق محكوم عليه بهذه الأمور المختلفة (كالنور) أي ضياء الشمس (بالنسبة إلى حجابه) أي إلى ما يحجبه (عن الناظر) .
قوله رضي الله عنه : (في الزجاج) متعلق بحجابه أي حجابه الحاصل في الزجاج او متعلق بالنور أي كالنور الحاصل في الزجاج أو متعلق بالناظر (یتلون) هذه النور (بلونه) أو بلون الزجاج في الحس.


وقال رضي الله عنه : (وفي نفس الأمر لا لون له) أي للنور وإنما كان اللون في الحقيقة للزجاج لا له.
(ولكن هكذا نراه) مبني للمفعول أي أرانا الحق النور في الزجاج حال كونه متلونا بالألوان المختلفة .
وقال رضي الله عنه : (ضرب) أي نوع (مثال لحقيقتك بربك) أي مع ربك (فإن قلت إن النور أخضر لخضرة الزجاج صدقت وشاهدك) اسم فاعل (الحس وإن قلن إنه ليس بأخضر ولا ذي لون لما أعطاه لك الدليل صدقت وشاهدك) على ما حكم به الدليل (النظر العقلي الصحيح) .
إذ الدليل نتيجة النظر العقلي لا نفس النظر العقلي فيجعل شاهدا عليه وجاز أن يكون معناه وشاهدك أي ودليلك فحينئذ يجعل الدليل عين النظر العقلي .
(فهذا) أي النور المتلون بلون الزجاج (نور ممتد عن ظل وهو) أي الظل الذي امتد عنه هذا النور (عين الزجاج فهو) أي النور المتلون (ظل نوري لصفائه) أي لصفاء الزجاج فبقي أصل النور على حاله منزها عن التلون فكما أن النور يختلف عليه الأحكام بحسب ظروفه .
وقال رضي الله عنه :  (وكذلك المتحقق منا بالحق تظهر لصفاء صورة الحق فيه أكثر مما تظهر في غيره) لاختلاف أعياننا فلا نسع الحق منا إلا بحسب قابليتنا .
(فمنا من يكون الحق سمعه وبصره وجميع قواه وجوارحه بعلامات) بدلائل (قد أعطاها) أي هذه العلامات الشرع الذي يخبر عن الحق وهو إشارة إلى الحديث القدسي كنت سمعه وبصره الخ .


وقال رضي الله عنه : (ومع هذا) أي مع كونه الحق جميع قوی وجوارح هذا العبد (عين الظل) وهو العبد (موجود) لا فإن في الحق (فإن الضمير) أي ضمير قوله سمعه وبصره (يعود إليه) أي على العبد فعود الضمير على الشيء يدل على وجود ذلك الشيء .
وقال رضي الله عنه : (وغيره من العبيد ليس كذلك) أي ليس بظهر الحق فيهم كظهوره فيه (فنسبة هذا العبد أقرب إلى وجود الحق من نسبة غيره من العبيد) إلى وجود الحق فما حكم على الحق بالأحكام المختلفة إلا أعياننا فالحق في نفسه منزه عن هذه الأحكام .
وقال رضي الله عنه : (وإذا كان الأمر على ما قررناه) من أن العالم ما له وجود حقيقي والموجود الحقيقي هو الحق .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يوليو 19, 2019 5:18 pm

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليوسفي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الجزء الثاني

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية

وقال رضي الله عنه : (فاعلم أنك خيال وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس أنا) إلا (خیال فالوجود) الظلي (كله خيال في خيال) الخيال الثاني المخاطب أي أنت و قوی مدركك خیال وجميع ما تدركه من العالم كله خيال فيك فليس العالم إلا الوجود المنخيل.
وقال رضي الله عنه : (والوجود الحق) الثابت لذاته (إنما هو الله خاصة من حيث ذاته وعينه لا من حيث أسمائه) فوجوده تعالی عین ذاته من حيث ذاته وغير ذاته من حيث أسمائه .
(لأن أسماءه لها مدلولان) أي لأن مدلول الأسماء مركب من جز این الذات والصفة (المدلول الواحد منه) أي ذات عين الحق  .

وقال رضي الله عنه : (وهو) أي الاسم (عين المسمى) وهو ذات الحق فالوجود بهذا الاعتبار هو الله خاصة وكل واحد من الأسماء بهذا الاعتبار عين الآخر (والمدلول الأخر ما يدل عليه مما ينفصل الاسم به ) الدال (به عن هذا الاسم الآخر فيتميز فاین الغفور من الظاهر ومن الباطن وأين الأول من الآخر) فبهذا الاعتبار جميع الأسماء مع مظاهرها كلها ظلال الذات الإلهية.

وقال رضي الله عنه : (فقد بان) أي فقد ظهر (لك بما هو كل اسم عین الاسم الآخر) وهو باعتبار اشتمال كل واحد منها على ذات الحق تعالی وبهذا الإعتبار ليست الأسماء ظلالا لذات الحق (وبما هو غير الاسم الآخر) وهر باعتبار اشتمال كل واحد منها على الصفة المتميزة بها الاسم عن الآخر لما في قوله بما هو كل اسم وفي قوله وبما هو غير الاسم .

(فبما) أي فـ بسبب الذي (هو) أي الاسم (عينه) أي عین الحق أو عين الاسم الآخر (هو) أي الاسم (الحق وبما) أي وبسبب الذي (هو) أي الاسم (غيره) أي غير الحق أو غير الاسم الآخره (هو) أي الاسم (الحق المتخيل الذي كنا بصدده) وهو ظل الله (فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه) لأن العالم كله بحسب الأحدية نفسه .
(ولا يثبت كونه) أي وجود الحق وهو الله خاصة (إلا بعينه) وذاته فإن ما يثبت به المدلول ولا موجود بالوجود الحقيقي إلا هو فلا دليل عليه إلا هر فإذا كان لا يثبت وجود الحق إلا بنفسه .
قال رضي الله عنه :  (فما) أي فليس في الكون، أي في الوجود (إلا ما دلت عليه الأحدية) فكان الحق مدلول الأحدية وهي عين الحق إذ ما يدل على الواحد إلا الواحد ولا واحد إلا هو فلا دليل على نفسه إلا هو .

(ما) أي وليس (في الخيال إلا ما دامت عليه الكثرة) إذ الخيال متوهم لا موجود محقق وكذا الكثرة فما دل على الخيال إلا الخيال كما دل على الحق إلا الحق .
قال رضي الله عنه :  (فمن وقف) أي ثبت وقنع (مع الكثرة كان مع العالم ومع الأسماء الإلهية وأسماء العالم) . فكان محجوبا عن "حقيقة " وحدة الحق .
(ومن وقف مع الأحدية) الذاتية (كان مع الحق من حيث ذاته الغنية عن العالمين لا من حيث صورته) أي صفاته فكان محجوبا عن صفات الحق وكثرة أسمائه .
ومن وقف معهما نقد نال درجة الكمال .

(وإذا كانت) الذات الأحدية (غنية عن العالمين فهو) أي غناؤها عن العالمين (عين غنائها) أي غناء الذات (عن نسبة الأسماء إليها) أي إلى الذات الأحدية وإنما كان غناء الذات الأحدية عن العالمين عين غنائها عن نسبة الأسماء إليها .
قال رضي الله عنه :  (لأن الأسماء كلها لها) أي للذات (كما تدل عليها) أي على الذات (تدل على مسميات) أي مفهومات (آخر يحقق ذلك) المسمى (اثرها) أي أثر الأسماء أو أثر الذات الذي هو العالم وهو عين الأسماء من وجه.
فإذا استغنى الحق من حيث أحديته عن العالم فقد استغني عن نسبة الأسماء إليه من تلك الحيثية .
وقوله ذلك فاعل يحقق وأثرها مفعوله فكانت الذات الإلهية من حيث الأحدية الذاتية غنية عن الأسماء وغير غنية من حيث تحقق أثرها، إذ لا يتحقق أثر الذات إلا بالأسماء فكانت الأسماء من وجه عينه ومن وجه غيره .

فأحدية الله تعالى من حيث عينه لا من حيث أسمائه وصفاته ويدل على ذلك قوله تعالى: ("قل هو الله أحد " من حيث عينه "الله الصمد" من حيث استنادنا) أي استناد وجود العالم (إليه).
إذ الصمد هو المحتاج إليه لا يتحقق بدون المحتاج ("لم يلد" من حيث هويته و) من حيث هو قال رضي الله عنه :  (نحن) ولا يجوز أن يكون معناه ونحن نلد لئلا يلزم التكرار.

بقوله : فنحن نلد مع أن المراد بيان صفات الله خاصة فلا يناسب ذكر صفاتنا في خلالها ويدل عليه قوله فهذا نعته ("ولم يولد" كذلك) أي من حيث هويته ("ولم يكن له كفوا أحد" كذلك) أي من حيث هويته.

والمراد بيان سبب تنزيه الحق عن هذه الصفات الثلاث وهو من حيث الهوية الأزلية الدائمة فيوجب دوام سلبها .
فذاته تعالی دائمة وما تقتضيه من الصفات السلبية دائمة فلا يتوهم من قوله كذلك أنه إذا اعتبر خلاف ذلك جاز إثبات تلك الصفات له .
ويدل عليه قوله في النتيجة فنحن نلد ولم يقل فهو يلد فعلم أن المراد سلب هذه الصفات عن الحق من جميع الوجوه .
فما كان السبب لهذا السلب الكلي إلا كون الحق كذلك فلم يزل عنه كونه كذلك فلم يزل عن كونه كذلك فيمتنع إثباتها بوجه من الوجوه (فهذا) المذكور (نعنه نافرد ذاته بقوله الله أحد وظهرت الكثرة بنعوته المعلومة عندنا) وهي صفاته المتكثرة كالعلم والحياة والقدرة .

(فنحن نلد ونولد ونحن نستند إليه ونحن أكفاء بعضنا لبعض وهذا الواحد منزه عن هذه النعوت فهي) أي هذا الواحد أنت الضمير باعتبار الذات .
قال رضي الله عنه :  (غني عنها) أي عن هذه النعوت (كما هو) أي هذا الواحد (غنی عنا وما) جاء (للحق نسب) إلهية في سورة نزلت في حقها .

(إلا هذه السورة سورة الإخلاص وفي ذلك) أي في حق التوصيف بتلك الأوصاف (نزلت) فظهر أن النسب بكسر النون وفتح السين جمع نسبة أنسب إلى المقام لا بفتح النون والسين الذي هو مصدر فظهر أن أحدية الحق على نوعين .
قال رضي الله عنه :  (فاحدية الله من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا) لإظهار آثارها فينا يقال لها (أحدية الكثرة واحدية الله من حيث الغناء عنا وعن الأسماء) يقال لها (احدية العين وكلاهما يطلق عليه اسم الأحد فاعلم ذلك).
حتى لا يشتبه عليك عند استعماله في مقامه (فما أوجد الحق الظلال وجعلها ساجدة) أي منبسطة على الأرض (متفيئة) أي راجعة عن الشمال واليمين إلا دلائل لك عليك وعليه) أي على الحن قال رضي الله عنه :  (لتعرفه من أنت) يدل عليك ظلك أنت ظل إلهي من ظلال الذات الإلهية .
(وما نسبتك إليه) أي إلى الحق بدل نسبة ظلك إليك على نسبتك إلى ربك (وما نسبته) أي نسبة الحق (إليك) يدل، نسبتك إلى ظلك على نسبة الحق إليك .

قال رضي الله عنه :  (حتى تعلم من أین أو من أي حقيقة إلهية) أي من أي سبب وحكمة.
وقال رضي الله عنه :  (اتصف ما سوى الله بالفقر الكلي إلى الله وبالفقر النسبي إليه بافتقار بعضه إلى بعض) . فإذا عرفت أن ظلك لكونه ظلك يفتقر إليك بالفقر الكلي فقد عرفت منه انصافي العالم بالفقر الكلي إلى الله لكون العالم كله ظل الله .
وعرفت منه أيضا انصاف العالم بالفقر النبي إلى الله بافتقار بعضنا إلى بعض يرجع إلى افتقارنا إلى الحق .
لأن افتقار العالم إلى العالم ليس من جهة ظلية بل من جهة ربوبية وهو من هذه الحينية عين الحق لا ظله فما كان الافتقار إلا إلى الله خاصة .

قال رضي الله عنه :  (وحتى تعلم من این أو من أي حقيقة اتصف الحق بالغني عن الناس والغنى عن العالمين واتصف العالم بالغني أي بغني بعضه عن بعض بالوجه ما هو عين ما افتقر إلى بعضه به) يعني كما أنك اتصفت بالغني عن ظلك من حيث ذاتك كذلك اتصف الحق بالغني بحسب الذات عن العالم .
فإذا كان ظلك مفتقر إليك ومستغنيا عن غيرك فقد عرفت منه أن اتصاف بعض بالغني عن بعض ليس عین افتقاره إلى بعض كالولد بالنسبة إلى والده مفتقر من حيث ربوبيته ومستغني من حيث أنه عبد محتاج مثله.
فاحتیاجه من هذه الحيثية إلى الله لا إليه فما كان وجه استغنائه وجه افتقاره واستغناؤه لعدم سببية من وجه في وجوده .
وافتقاره لوجود سببية هذا البعض فكان افتقار البعض إلى البعض عین افتقاره إلى الحق فإن ذلك البعض من حيث الربوبية عين الحق .
وهو معنى قوله وبالفقر النبي عليه السلام فقد عرفت منه أيضا أن اتصاف الحق
بالغني عن الناس من أي جهة و بالافتقار إليه من أي جهة فغناؤه بحسب ذاته وافتقاره بحسب ظهور أحكامه .

و إنما افتقر العالم إلى الله سواء كان افتقارة كليا أو افتقار نسبيا (فإن العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شك افتقارة ذاتية وأعظم الأسباب له سببية الحق) أي أن يكون الحق سببا له لا غيره.
قال رضي الله عنه :  (ولا سببية للحق) أي ولا يمكن للحق أن يكون سببا للعالم (يفتقر العالم إليها) أي إلى هذه السببية (سوى الأسماء الإلهية) إذ ما دبر الحق العالم إلا بأيدي أسمائه فسبحان من دبر العالم بالعالم .
قال رضي الله عنه :  (والأسماء الإلهية كل اسم يفتقر العالم إليه) سواء كان ذلك الاسم المفتقر إليه من جنس (العالم مثله) أي مثل المفتقر ?الوالد بالنسبة إلى الولد، فإنه اسم إلهي يفتقر إليه الولد في وجوده الخارجي مع أنه من العالم مثل الولد فلا يطلق الاسم على شيء إلا بسبب كونه محتاجة إليه للعالم .

(أو) تجلی من (عین الحق) فكيف كان (فهو) أي الاسم المفتقر إليه (الله) أي عين الحق باعتبار الربوبية (لا غيره) وإن كان غيره باعتبار الظلية إذ لا يحتاج إليه ولا يطلق عليه الاسم بهذا الاعتبار فكان العالم كله من الأسماء والأعيان وغيرها يفتقر إلى الله خاصة .
قال رضي الله عنه :  (ولذلك) أي ولأجل أن العالم كله محتاج إلى الله لا إلى غيره (قال الله تعالى : «يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد» [فاطر: 15].

فالغناء لا يكون إلا لله والفقر لا يكون إلا للعالم (ومعلوم أن لنا افتقارة من بعضنا البعض فاسماؤنا) من جنسنا التي يحتاج إليها أسماء الله تعالى (وأسماء الله تعالی) عین ذاته من حيث الربوبية .
قال رضي الله عنه :  (إذ إليه الافتقار بلا شك) لا إلى غيره لأن الغير ظل الله والظل لا يقال فيه يفتقر إليه غيره (واعيننا) أي وجوداتنا الخارجية (في نفس) الأمر (ظله لا غيره) أي لا غير ظله أو لا غير الحق إذ ظل الشيء عينه.
قال رضي الله عنه :  (فهو) أي الحق (هويتنا) باعتبار ظهور هوية الحق فينا فلا امتیاز بهذا الوجه وهو وجه الأحدية (لا هويتنا) باعتبار ظهور الاختلاف فينا.

ولما كان هذا البيان أوضح الطريق وأقربه إلى معرفة الحق أوصي للسالكين بقوله: (وقد مهدنا لك السبيل) أي بسطنا و أوضحنا لك طريقة واسعة يوصل لمن سلك به إلى الحق فانظر) فيه تصل إلى مقصودك والله المعين.

 .

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالسبت أغسطس 17, 2019 9:28 am

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفقرة الهودية على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية :
أي العلوم المتعلقة بالحقيقة الأحدية مودعة في روح هذا النبي لذلك دعا قومه إلى مقام الأحدية بقوله : "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم" (هود: 51] .
ولما كانت لكل اسم أحدية الصراط وكان أحدية الصراط الاسم الله جامعة لجميع أحدية صراط الأسماء شرع في بيان الأحدية الجامعة أولا بقوله:
قال رضي الله عنه : (أن الله الصراط المستقيم ظاهر) خبر لمبتدأ محذوف وهو هو (غير خفي) تأكيد (في العموم) أي جاء هذا الصراط

المستقيم من عند الله في حق عموم الناس وهو صراط الأنبياء كلهم المشار إليه بقوله تعالى : " اهدنا الصراط المستقيم * صرط الذين أنعمت عليهم" أو تعلق في العموم بقوله غير خفي أي هذا الصراط المستقیم مشهور معروف بين الخلائق كلها وهو طريق الأنبياء طريق الهدى (في كبير وصغير) خبر (عينه) مبتدا (وجهول بأمور وعليم) معطوف على الخبر .
فمعناه أن ذاته تعالى من حيث أسمائه وصفاته موجود في كبير وصغير أي في كلي وجزئي بالنسبة إلى الأسماء وبالنسبة إلى الأجسام في كبير الحجم وصغيره أي لا ذرة في الوجود إلا وهي نور من ذات الحق لكون كل ما في الوجود من الممكنات مخلوقا من نوره فالذات من حيث هي غنية عن الوجود الكوني.
قال رضي الله عنه : (ولهذا) أي ولأجل كون ذات الحق مع جميع صفاته محيطة بكل شيء وفي كل شيء آية تدل على أنه واحد قال تعالى: "سنريهم آياتنا فى الآفاق وفي انفسهم " [فصلت: 53] .
كل ذلك صراط مستقيم يوصل من مشى عليه إلى الله وهذا لسان الظاهر في كلامه قدس سره وأما لسان الباطن فستطلع عليه "وسعت رحمته كل شيء من حقير وعظيم" .
فإنه إذا كان ذاته إلحق مع مفاته موجودة في كل شيء ومن جملة مفاته رحمته فوسعت رحمته كل شيء فإذا كان كل شيء تحت قدرته تعالى كان
قال رضي الله عنه : ("ما من دابة إلا هو") أي الله ("آخذ بناصيتها") يتصرف فيها كيف يشاء على حسب علمه الأزلي التابع لعين المعلومات وأحوالها .
فلا جبر من الله إذ التصرف كيف كان لا يكون إلا تابعة للمعلومات ("إن ربي على صراط مستقيم") فإذا أخذ الله ناصية كل دابة (فکل ماشي فعلی صراط الرب المستقيم) أي فكل ماشي ما مشي إلا على صراط من أخذ بناصيته .
وهو ربه وما كان صراط به إلا مستقيما فما مشى إلا على صراط ربه الخاص فمن مشى على صراط ربه .
قال رضي الله عنه : (فهو) أي الماشي على صراط ربه ("غير المغضوب عليهم" من هذا الوجه) .
أي من حيث أنه ماش على صراط ربه المستقيم لأن ربه راض عن فعله فلا غضب عليهم من ربهم ("ولا الضالين") من هذا الوجه عن صراط ربهم المستقيم حتى يغضب عليهم ربهم .
ففي قوله من هذا الوجه دلالة على أن الغضب فقد يقع عليهم من غير هذا الوجه کعبید المضل غير المغضوب عليهم من ربهم لكنهم مغضوب عليهم من اسم الهادي لكونهم ضالين عن صراط الهادي .
قال رضي الله عنه : (فكما كان الضلال عارضا) لأن الأرواح كلها بحسب الفطرة الأصلية قابلة للتوحيد لقوله تعالى: "ألست بربكم قالوا بلى" [الأعراف: ۱۷۷] .
ولقول الرسول عليه السلام: «كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه وينصرانه».
"ورد الحديث بلفظ :" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه» ذكره الترمذي والبيهقي في السنن الكبرى "
فما عرض الضلال إلا بالغواشي الطبيعية الظلمانية (كذلك الغضب الإلهي عارض) لقوله تعالی:
"سبقت رحمتي على غضبي" أي في حق كل شيء. وورد بلفظ :"سبقت رحمتي غضبي" ذكره الترمذي و الحميدي في مسنده وابن أبي الدينار.
والمراد من الغضب العذاب إذ لا يصح الغضب في حق الحق إلا بمعنى إنزال العذاب (والمآل) أي ومآل الغضب (إلى الرحمة التي وسعت كل شيء وهي) أي الرحمة (السابقة) الرحمة عند أهل الله على نوعين رحمة خالصة ورحمة ممتزجة بالعذاب.
ففي حق عصاة المؤمنين من أهل مآل الغضب إلى رحمة خالصة من شوب العذاب، وذلك لا يكون إلا بإدخالهم الجنة في حق المشرکین ماله إلى الرحمة الممتزجة بالعذاب وهذا لا يكون إلا بأن كانوا خالدين في النار.
 فاعلم ذلك وفيه کلام سنسمع إن شاء الله في آخر الفص (وكل ما سوى الحق دابة فإنه) أي ما سوی الحق ذو روح، لأنه مسع بالنص الإلهي وكل مسح (ذو روح) كله ماشي على صراط ربه المستقيم (وما ثمة) أي ليس في العالم (من يدب) أي يمشي ويتحرك (بنفسه) لأنه مأخوذ بناصيته.
قال رضي الله عنه : ( وإنما يندب بغيره) الذي آخذ بناصيته فإذا كان العالم بدب بغيره (فهو) أي العالم (إنما بدب بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم) فكان مشى العالم على الصراط المستقيم لا بالأصالة بل بتبعيته لمن مشى على الصراط المستقيم فما مشى على الصراط المستقيم أصالة إلا رب العالمين الذي أخذ بناصيته .
لذلك قال : " إن ربي على صراط مستقيم" والمشي في حق الحق عبارة عن أفعاله وشؤونه و هو كل يوم في شأن والصراط المستقيم عبارة عن صدور أفعاله على موافقة حكمته وإنما كان الرب على الصراط المستقيم .
قال رضي الله عنه : (فإنه) أي الشأن لا يكون الصراط (صراطا إلا بالمشي عليه) إذ الصراط عبارة عن المشي والمسافة هذا إن كان الخلق ظاهرا والحق باطنا فحينئذ الحكم للحق في وجود الخلق والخلق تابع للحق في حكمه.
وأما إذا كان الخلق باطنا والحق ظاهرا والحكم للخلق والحق تابع الخلق فيما يطلبه منه ففي هذا الوجه ما طلب العبد من الحق شيئا إلا وهو يعطيه وفي الوجه الأول ما حكم الحق على العبد بحكم إلا وهو تابع لحكمه فيما أمره به.
ولما بين تبعية العالم للحق شرع في بيان عكسه بقوله رضي الله عنه :  : (شعر: إذا دان) إذا انقاد (لك الخلق) واتبعك (فقد دان) أي فقد أعطى (لك الحق) ما طلبته منه يعني أن اتباع الخلق لك يوجب اتباع الحق لك فإن اتباع الخلق لا يمكن بدون اتباع الحق لأن اتباع الخلق صورة اتباع الحق وأثره ولعدم وجود الخلق بدون الحق لعدم وجود فعل الخلق بدون فعله فالخلق على كل حال محتاج إلى الحق فدل اتباع الخلق إلى اتباع الحق فتستدل منه على اتباع الحق .

فإن دان لك الحق    …..     فقد لا يتبع لك الخلق
 
وقد يتبع فإن الحق موجود بدون الخلق فاستقل في فعله فلا يتبع فعله إلى الخلق فلا يستلزم اتباع الحق إلى الخلق.
فإن الأنبياء عليهم السلام تابعهم الحق بإعطائهم ما طلبوا منه من أن بعض الناس يتبعون لهم بسبب استعداداتهم ومناسباتهم بنور الحق وبعضهم لا يتبعون بسبب بعدهم عن نور الحق ومناسباتهم بالغواشي الظلمانية وعدم اتباعهم لا يدل على عدم اتباع الحق لهم.

قال رضي الله عنه : (فحقق) أي نصدق (قولنا فيه) أي في هذا المقام (فقولي كله) في بيان الحق والخلق (حق) أي ثابت و مطابق للواقع خصوصا في هذا الكتاب فإن كل ما فيه بأمر الرسول عليه السلام فلا يحتمل الخلاف (هما في الكون) أي فليس في الوجود الكوني (موجود) مخلوق (تراه ما) أي الذي (له نطق) فصحيح بذكر الله و يسبحه يسمع أذان العارف كما نسمع بعضنا کلام بعض .
(وما خلق) أي وليس خلق (تراه العين) أي البصر (إلا عينه) أي عين ذلك الخلق المرئي وذاته (حق) باعتبار أحديته.

ولما ذكر اتحاد الخلق مع الحق نبه امتياز الخلق عنه بقوله رضي الله عنه :  :
(ولكن) الحق (مودع فيه) أي في الخلق (لهذا) أي لكون الحق مودعة في الخلق (صورة) أي صورة الخلق جمع الصورة يسكن الواو لضرورة الشعر (حق) بضم الحاء وتشديد القاف جمع الحقاق فكان كل موجود حقا من الحقوق الإلهية والحق موجود في تلك الحقوق ومن ذلك وجب تعظيم كل موجود لكونه حاملا للأسرار الإلهية.

ويعلم منه أن صور الأشياء لا يمكن أن يكون عين الحق بأي اعتبار کانت بل ما كان عين الوجود الحق إلا الحق المودع في الأشياء.
قال رضي الله عنه : (واعلم أن العلوم الإلهية الدولية الحاصلة لأهل الله تعالى) إنما خص حصول العلوم الذوقية لأهل الله فإن العلوم الإلهية لعلماء علم الرسول ليست ذوقية بل يحصل هذا العلوم بنظرهم الفكري وهو لا يفيد شيئا من الذوق وأما أهل الله وعلومهم عن كشف إلهي .

والكشف لا يعطى إلا الذوق (مختلفة باختلاف القوى العاملة) أي هذه تختلف باختلاف قواهم الحاصلة لهم (منها) أي من قواهم المختلفة (مع كونها) أي مع كون هذه القرى المختلفة (ترجع إلى عين واحدة) أي كلها حاصلة عن حقيقة واحدة وهي الهوية الإلهية ولا يجوز أن يكون ضمير كونها راجعا إلى العلوم ولا يقع تكرارا بما جاء بعده من قوله بخصها من عين واحدة .
فكان قوله الحاصلة صفة للعلوم وإن كان بعيدا لا للقوى وإن كان قريبا وإنما ترجع القوى المختلفة للعبد إلى عين واحدة .
قال رضي الله عنه : (فإن الله تعالى يقول كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يسعى بها) وهذا نتيجة قرب النوافل .
يعني يقول الله تعالى: «إذا تقرب عبدي إلي بقرب النوافل تجليت له باسمي السميع فيسمع كل ما يسمع بالسمع المضاف إلي لا يسمع نفسه فكان كل مسموعاته دليلا له على وتجليت له بالبصير نما رأى شيئا إلا رآني فيه وتجليت له بالقدرة فيقدر بقدرتي على تصرفات نفسه "
بأخذ ناصيتها كتصرف الحق في الأشياء بأخذ نواصيها "وما من دابة إلا هو أخذ بناصيتها"

وكذلك هذا العبد المتجلي له بالقدرة ما من دابة من قوى نفسه إلا هو آخذ بناصيتها وتجليت له بأفعالي إذ الرجل في حق الحق عبارة عن كونه كل يوم هو في شأن كما أن إليه عبارة عن القدرة العامة ثم هداية الصراط المستقيم فلا يمشي إلا على الصراط المستقيم يعني ما يفعل هذا العبد فعلا إلا وقد رضي الله عنه ذلك الفعل.

ثم شرع في ذكر ما هو المقصود بإيراد الحديث فقال رضي الله عنه :
(فذكر أن هويته في عين الجوارح) من وجه وهو وجه الأحدية مع أنه غيره من حيث الكثرة فقد نبه عليه بإرجاع الضمير إلى العبد فكان هذا الكلام جامعة بين التنزيه والتشبيه (التي هي عين العبد) من وجه وهو وجه الأحدية لأن العبد هو مجموع الأجزاء الاجتماعية والجزء لا يقال فيه غير الكلي وأما بحسب المنعين فيمتاز كل واحد منها عن الآخر وعن الكل (فالهوية) أي هو الحق.
قال رضي الله عنه : (واحدة والجوارح) أي جوارح العبد (مختلفة ولكل جارحة) من جوارح العبد الذي هو من أهل الله علم من علوم الأذواق لأن من لم يكن من أهل الله لم يكن لجوارحه (علم من علوم الأذواق يخصها) أي يخص ذلك العلم الذوقي بتلك الجارحة المخصوصة حال كون تلك الجارحة (من عين واحدة) وهي عين العبد .
أو معناه أي يخص ذلك العلم حال كونه من عين واحدة هي حقيقة العلم التي هي حقيقة واحدة .
ففيه تنبيه على أن حقيقة العلم عین ذات الحق إذ ما يفيض الحق ذلك العلم إلا عن حقيقة العلم وهي العين الواحدة التي هي عین الحق فما يفيض إلا عن نفسه .

وأشار إلى ما نقول بقوله كالماء حقيقة واحدة (تختلف) هذه العين الواحدة (باختلاف الجوارح) فالعلم حقيقة واحدة والاختلاف إنما وقع بالأسباب الكثيرة المتخالفة فحقيقة العلم باقية على حالها من الواحدة كما أن الحق باقية على وحدته مع الاختلاف بالجوارح (کالماء حقيقته حقيقة واحدة تختلف في الطعم باختلاف البقاع فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج وهو ماء في جميع الأحوال لا يتغير عن حقيقته وإن اختلفت طعومه) .
فكذلك ذات الحق حقيقة واحدة وإن اختلفت الأشياء والجوارح والعلم حقيقة واحدة في كل حال وإن اختلفت أحكامه باختلاف أسبابه .
ولما بين أنواع العلوم الذوقية وقواها أراد أن يبين أن هذه الحكمة بأي قوى تحصل فقال رضي الله عنه :  : (وهذه الحكمة) الأحدية (من علم الأرجل) أي نوع من العلوم الذوقية الحاملة بالسلوك والرياضات والمجاهدات في صراط الحق فلا يمكن حصول هذا العلم بجارحة من جوارح إلا بالأرجل (وهو) أي علم الأرجل (قوله تعالی في) حق (الأكل لمن) متعلق بقوله تعالى: (أقام كتبه) وهو قوله تعالى : "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم" .
أي لحصل لهم الفارضية من أرواحهم من غير کسب وسعي في السلوك (من تحت ارجلهم) مقول القول وإنما كان هذه الحكمة من علم الأرجل من علوم الأذواق لا من غيره من الجوارح .
قال رضي الله عنه : (فإن الطريق الذي هو الصراط) المستقيم (هو) أي ذلك الطريق (للسلوك) أي وضع لأن يسلك (عليه والمشي فيه والسعي) فيه .
(لا يكون) ذلك المشي المعنوي (إلا بالأرجل) المعنوي كما أن المشي الصوري لا يكون إلا بالأرجل الصوري والمقصود من الحكمة الأحدية شهود أحدية ذاته تعالى من حيث كونها في كلمة هودية .
وما كان أحدية الذات في كلمة هودية إلا أخذ الحق النواصي وكونه على صراط مستقیم ولأجل مشاهدة هود عليه السلام أحدية الذات على هذا الطريق.
قال تعالى : "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم" [هود: 56] فإذا لم يكن السلوك على الطريق إلا بالأرجل (فلا ينتج هذا الشهود) الأحدي الذي لا يحصل إلا (في أخذ النواصي) قوله :( بید من) يتعلق بالأخذ (هو على صراط مستقيم إلا هذا الفن الخاص)، وهو علم الأرجل (من علوم الأذواق) فلا تكون هذه الحكمة الهودية إلا بالكسب والسلوك والمشي على الصراط المستقيم .

فلا بد هذا الشهود لكل أحد من الناس مطيعا كان أو مجرما بحسب أوقاتهم المقدرة لهم إذ ما منهم إلا وهو يمشي على الصراط المستقيم.
الذي يوصل من يسلك فيه إلى هذا الشهود فمنهم من يوصل صراط المستقيم إلى هذا الشهود في الدنيا کالأنبياء والأولياء الفانين في الله والباقين به.

ومنهم من وصل في الدار الآخرة حتى أن المشركين يوصلهم صراطهم المستقيم إلى هذا الشهود في نار جهنم مؤبدا فيها لا ينفع لهم لعدم وقوعه في وقته فجمع الله عذابهم مع هذا الشهود .
فقد شرع في بيان ما يقوله بقوله تعالى: (" ونسوق المجرمين" [مریم: 86] وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم) أي ساق الله المجرمين (إليه) أي إلى ذلك المقام وهو مسمى بجهنم الذين استحقوه بسبب سلوكهم في الطريق المستقيم الذي يوصلهم إلى هذا المقام الذي يحصل لهم فيه هذا الشهود.

قال رضي الله عنه : (بريح الدبور) وهي الهواء التي فعلوا من مقتضيات أنفسهم وإنما سمي ريح الدبور لأنه يأتي من جهة الخلفية جهة الخلف (التي أهلكهم) الله (عن نفوسهم بها) أي بسببه ريح الدبور وأملاكهم تعذيبهم بهذه الريح في صورة النار فهلكوا عن أنفسهم فشاهدوا أن الحق هو الآخذ بنواصيهم والسائق إلى أن وصلوا إلى هذا النوع من العلوم الذوقية فإنهم وإن عذبوا إلى الأبد لكنهم يتحققون بهذا الذوق .

قال رضي الله عنه : (فهو) أي الله (الأخذ بنواصيهم) أي نواصي المجرمين (والريح تسوقهم وهي) الريح (عين الأهواء التي كانوا عليها) في الدنيا (إلى جهنم) متعلق بتسوق (وهى) أي جهنم (البعد الذي كانوا يتوهمونه) أي كونه جهنم بعيدا عن الحق في توهمهم لا في نفس الأمر فإن الله قريب من كل شيء.
(فلما سائهم إلى ذلك الموطن) وهو جهنم (حصلوا) أي وجدوا (في عين القرب فزال البعد) المتوهم لعلمهم أن الله معهم في كل موطن (فزال مسمی جهنم في حقهم) من حيث أنه بعد لا من حيث أنه عذاب.

لذلك قال : (ففازوا بنعيم القرب) في جهنم ولم يقل بنعيم مطلقة فإن الفوز بنعيم القرب وهو مشاهدة الحق لا يوجب رفع العذاب في حق المخلدين كما تألم بعض المقربين في الدنيا

قال رضي الله عنه : (من جهة الاستحقاق) وإنما فازوا بنعيم القرب في جهنم (لأنهم مجرمون) أي الكاسبون الصفات الظلمانية الجاجية بشهود الحق فهذا الشهود اجر المجرمين فاستحقوا بسبب جرمهم بهذا المقام .
(فما أعطاهم) الله هذا المقام (الذوقي اللذيذ) الروحاني (من جهة المنه) أي بلا اكتساب منهم بل من جهة استحقاقهم بالمجاهدة والسلوك في الصراط المستقيم فلا يحصل علم الأرجل لأحد إلا من جهة الاستحقاق لا من جهة الفضل والمنة.

قال رضي الله عنه : (وإنما أخذوه) وإنما أخذ المجرمين هذا العلم الذوقي علم الأرجل من الله (بما) أي بسبب الذي استحقنه) أي استحقت هذا العلم الذوقي (حقائقهم) أي أعيانهم الخارجية (من أعمالهم التي كانوا عليها) في الدنيا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون فحصل لهم نتيجة هذا الكسب وهي علم اللذيذ في الويل (وكانوا) في الدنيا (في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم) فيوصل صراطهم لكونه مستقيما إلى مشاهدة ربهم وإنما كان سعيهم في أعمالهم على الصراط المستقيم ولم يكن على الصراط الغير المستقیم .

(لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة) أي بيد من كان على الصراط المستقيم فلا يمكن انحرافهم عن صراط ربهم المستقيم .فإذا كانت نواصيهم بيد ربهم الذي على صراط مستقیم.
قال رضي الله عنه : (فما مشوا بنفوسهم) حتى يمكن لهم الذهاب إلى طريق غير مستقیم (وإنما مشوا بحكم الجبر) من القائد والسائق وهو ربهم (إلى أن وصلوا إلى عين القرب) في موطن يسمی جهنم والجبر في الحقيقة راجع إليهم باقتضاء أعيانهم الثابتة فهم طلبوا حكم الجبر من الله فحكم الله عليهم بالجبر على حسب طلبهم."بأقوالهم وأعمالهم".

اعلم أن أهل النار من عصاة المؤمنین عذبوا بنار الجحيم إلى أن وصلوا عين القرب فإذا وصلوا إلى عين القرب حصل لهم هذا العلم الذوقي الذي استحقوه فما أخذوه من الله إلا باستحقاقهم ، لأن هذا العلم من علم الأرجل لا بد له من کسب ثم يأتي لهم فضل من ربهم فأخرجهم من دار الجحيم وأدخلهم في دار النعيم .
فما أعطاهم هذا المقام وهو دار النعيم إلا من جهة المنة والفضل وما أخذوه من الله إلا كذلك .
وأما المخلدون فأحرقوا بالنار إلى أن وصلوا ما وصل عصاة المؤمنين إذ لا بد من الوصول إليه ثم لا يأتي لهم فضل أبدا من ربهم فمن حيث روحانيتهم يتنعمون بنعيم القرب وهو التلذذ العلمي ومن حيث صورتهم الجسدية يتعذبون كما عذبوا ازدادوا علما هكذا إلى غير النهاية ولا استحالة فيه لأن بعض المقربين يتلذذون بنعیم مشاهدة ربهم مع أنهم يتألمون بما أصابهم من الألم هذا ممن أفاض على من روح صاحب الكتاب.

وقد غلط بعض الشارحين بحمل كلامه على انقطاع العذاب عن الكفار وليس ذلك مراد الشيخ بل مراده إثبات علم الأرجل لأهل النار في النار من جهة الاستحقاق كما أثبته للمؤمنين في الدنيا من جهة الاستحقاق.
أي وكيف كان لا بد لكل أحد من علم الأرجل ولا بد أن لا يكون ذلك العلم إلا من جهة الاستحقاق 
ويدل على ثبوت قرب الحق من عباده قوله تعالى: "ونحن أقرب إليه" أي إلى الميت.
قال رضي الله عنه : (" منكم") فقد أثبت قربه من المخاطبين بإثبات أقربينه إليه ("ولكن لا تبصرون") قربي منكم ومن كل شيء .
(وإنما هو) أي الميت صاحب القرب (يبصر) قربي منه وإنما يبصر صاحب هذه القربه (فإنه) أي لأن صاحب هذه القرب (مكشوف الغطاء) أي الحجاب عن بصره (فبصره حدید) يبصر ذاتي وصفاتي ويشاهد قربي إليه أما أنتم مکشوف الغطاء فبصركم ليس بحديد .
قال رضي الله عنه : (فما خص) القرب (ميتا من ميت أي ما خص سعيدة في القرب من شقي) فدل ذلك على أن نعيم القرب عام في حق كل أحد سعيدا كان أو شقيا .

وكذلك يدل على عموم نعیم الغرب قوله رضي الله عنه : (" ونحن أقرب إليه") أي إلى الإنسان ("من حبل الوريد" [ق: 16 ] ما خص إنسانة من إنسان) بل يعم في حق كل إنسان سعيدا أو شقيا (فالقرب الإلهي من العبد) ثابت محقق (لا خفاء به) أي القرب (في الأخبار الإلهي فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عین أعضاء العبد ونواه وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى) فإذا كان الحق عين قوى العبد
قال رضي الله عنه : (فهو) أي هوية الحق الذي كان عين أعضاء العبد ذكر الضمير باعتبار الحق (حق مشهود في) صورة (خلق متوهم فالخلق معقول) بمنزلة المرآة (والحق محسوس مشهود) ظاهر فيه عند المؤمنين الذين قلدوا الأنبياء فيما أخبروا به من الحق قال رسول الله في حقهم في الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه (و) عند (أهل الكشف والوجود) أي الوجدان فإنهم يشاهدون هذا المقام بالذوق.


قال رضي الله عنه : (وما عدا هذين الصنفين) الذين اتبعوا في تحصيل معلوماتهم نظرهم الفكري (فالحق عندهم معقول والخلق مشهود لهم) أي فعلم هذه الطائفة (بمنزلة الماء الملح الأجاج) كلما ازدادوا علما ازدادوا شبهة بحيث لا يروي ولا يقنع علمهم کالملح الأجاج لا يرى لشاربه وقد أشار إلى افتراق المؤمنين من أهل الكشف أولا وإلى اتحادهما ثانية .
بقوله : (والطائفة الأولى) علمهم (بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ لشاربه) إذ العلم الحاصل عن كشف الإلهي لا يحتمل خلافه فيروي لشاربه فإذا كان الناس طائفتين في العلم أهل الكشف وأهل الحجب .
قال رضي الله عنه : (فالناس على قسمين فمن الناس من يمشي على طريق يعرفها ويعرف غايتها) أي غاية طريقة الذي تنتهي إلى الحق وهم الذين وصلوا إلى نعيم القرب الحاصل لهم سلوكهم.
(فهي في حقه صراط مستقیم) لوصوله إلى مطلوبه (ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها ولا يعرف غايتها وهي) في طريق هذا الشخص .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 10- فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالسبت أغسطس 17, 2019 9:29 am

10- فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفقرة الهودية على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية :
قال رضي الله عنه : (عین الطريق التي عرفها الصنف الأول فالعارف) أي فعارف الطريق وغايتها (يدعو) الخلق (إلى الله على بصيرة) لعلمه الطريق وغايتها وهم الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء رضي الله عنهم الوارثون والمؤمنون أي المقلدون إلى الأنبياء (وغير العارف يدعو) الخلق (إلى الله على التقليد والجهالة) وهم الحكماء المقلدون عقولهم الجاهلون أي المنکرون بالإخبارات الإلهية في حق الحق المحرومون عن العلم عن كشف إلهي فلا يعلمون الطريق ولا غايتها

وكذا المعتزلة فإنهم وإن لم ينكروا النصوص لكنهم يألونها بمقتضى عقولهم فلا يقلدون الأنبياء عليهم السلام فيما أخبروا به بل هم المقلدون أدلة عقولهم كالحكماء فلا يحصل لهم العلم عن كشف إلهي .

قال رضي الله عنه : (فهذا) أي العلم الحاصل لأهل الكشف (علم خاص) من علوم الأذواق (يأتي) أي يحصل لهم (من اسفل سافلين لأن الأرجل هي السفل من الشخص وأسفل منها ما) أي الذي (تحتها) أي تحت الأرجل (وليس) ما تحت الأرجل (إلا الطريق) ولا يحصل هذا العلم لنا إلا أن نجعل أنفسنا طريقة تحت أقدام الناس يعني أن نشرع طريق الفناء طريق التصفية.

ولما بين أحكام مقام الفرق شرع في بيان أحكام مقام الجمع بقوله:
قال رضي الله عنه : (فمن عرف الحق عين الطريق) أي فمن حرف أن الحق هو عين الطريق (عرف الأمر على ما هو عليه فإن) تعلیل وبيان لكون الأمر على ما هو عليه في هذه المسألة (فيه) أي في الطريق (جل وعلا يسلك ويسافر) في نفس الأمر (إذ لا معلوم إلا هو وهو) أي الحق (عين السالك والمسافر فلا عالم إلا هو) هذا باعتبار الأحدية الذاتية فإذا كان السالك والطريق والعالم والمعلوم وهو الحق .

قال رضي الله عنه : (فمن أنت؟) استفهام إنكار أي أنت معدوم في نفسك (فاعرف) اليوم (حقيقتك وطريقتك) وتفوت وقتك حتى لا تدخل لا لعرفان حقيقتك وطريقتك في حكم قوله تعالی : " ونسوق المجرمين" [مریم: 86] فإذا عرفت ما قلناه فقد عرفت حقيقتك وطريقتك (فقد بان) أي فقد ظهر (لك الأمر) من الله على ما هو عليه وهو كون الطريق السالك والعلم والمعلوم عین الحق باعتبار أحدية الجمع (على لسان الترجمان) .

وهو نفسه لقوله حتى أكون مترجمة لا متحكمة أو الحق مترجمة لنا عن نبيه هود عليه السلام مقالته وهي قوله: "وما من دابة " الخ أو نبينا عليه السلام مترجما عن الحق مقالته .وهي قوله : كنت سمعه الخ وكذا جميع الأنبياء عليهم السلام والأولياء رضي الله عنهم.

قال رضي الله عنه : (إن فهمت ما ظهر) من لسان الترجمان أي إن كنت ذا فهم (فهو) أي لسان الترجمان (لسان السحر فلا يفهمه) أي لا يفهم أحد لسان الحق (إلا من فهمه) بسكون الهاء (حق) حتى يفهم الحق من مطلقات كلام الحق فإن الشهود بأحدية الأشياء من مطلقات کلام رب العزة ومن مفهوماته الثابتة ولا يفهمه إلا العلماء بالله وهم الذين كان الحق فهمهم وسمعهم وجميع قواهم وإنما دل على هذا المعنى لسان الترجمان .

قال رضي الله عنه : (فإن للحق نسبة كثيرة ووجوها مختلفة) بالنسبة إلى شيء واحد بعضها ظاهر في العموم وبعضها خفي لا يظهر إلا لمن نور الله قلبه وكذلك بالنسبة إلى آية واحدة معاني كثيرة ووجوه مختلفة بعضها ظاهر بفهمه كل أحد وبعضها خفي لا يفهمه إلا من كان فهمه حقا فلا ينحصر معنى الكلام القديم على المفهوم الأول وهو ما يفهمه العموم بل لا بد من مفهوم ثان يفهمه الخصوص  وهو الذي لا يباين لا ينافي المفهوم الأول.

فإن الله تعالی يعامل عباده في كلامه بحسب إدراكهم فكان في كلامه القديم إشارات لطيفة لا يفهمها إلا من فهم عن الله وأورد شاهدة على ثبوت ذلك المعنى .

فقال رضي الله عنه : سحاب (هذا عارض) أي سحاب (ممطرنا) أي ينفعنا بإنزال المطر فظنوا هذا القهر (خبرا) أي لفظة ورحمة لهم فحسن ظنهم بالله نعاملهم الله بإعطائه لهم جزاء حسن ظنهم بالله من الجهة التي غير ما تخيلوه .
(وهو) أي الحق (عند ظن عبده به فاضرب لهم الحق عن هذا القول) أي عن قولهم هذا عارض لحسن ظنهم به (فأخبرهم بما هو أتم وأعلى مما تخيلوه في القرب فإنه) أي الشأن (إذا أمطرهم) أي إذا أعطاهم الحق مما تخيلوه.
قال رضي الله عنه : (فذلك) الأمطار (حظ الأرض وسقي الحبة) المزروعة في الأرض (فما يصلون) هذا القوم (إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد) و هي حصول الغذاء الجسماني من حظوظ أنفسهم فما يحصل هذه النتيجة من المطر إلا بعد مدة مديدة بخلاف إهلاكهم فإنه يوصلهم في الحال إلى مشاهدة ربهم فهم متلذذون بأرواحهم بهذه المشاهدة ولو عذبوا من وجه على الأبد.

ولما بين أحوال قوم هود عليه السلام شرع في بيان إشارات الآية ولطائفها بقوله: (فقال لهم هو ما استعجلتم به ريح) حاملة لهم فيها عذاب أليم نجعل الحق (الريح إشارة إلى ما فيها) أي في الربح (من الراحة لهم فإن بهذه الريح يريح) الحق (أرواحهم من هذه الهياكل المظلمة والمسالك) أي الطريق (الوعرة) أي الصعبة (والسدف) بضم السين وفتح الدال جمع سدنة أي الحجاب (والمدلهمة) أي الليل المظلمة .

قال رضي الله عنه : (و) إشارة إلى أن ما (في هذه الريح عذاب أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه إلا أنه) إلا أن ذلك الأمر اللذيذ (يوجعهم الفرقة المألوفات) فجمع الله الرحمة والعذاب فيهم فيرحمهم الله بالرحمة الممتزجة بالعذاب في دار الشقاء فما كان في حق المشركين من الله إلا هذه الرحمة لا غير فإن الرحمة الخالصة من شرب العذاب مختصة للمؤمنين في الدار الآخرة تفريق بينهما أكمل تفریق.

قال بعض الشراح في هذا المقام أن الله تعالى هو الرحمن الرحيم ومن شأن من هو موصوف بهذا الصفات أن لا يعذب أحدا عذابا أبدا. تم كلامه .
هذا كلام صادق لكنه لا يعلم هذا العارف أن بعض العباد يقتفي شأنه بحسب عينه الثابتة أن يعذب عذابا أبدية فيعذبه الله على مقتضى شأنه أبدا (فباشرهم) أي الحق (العذاب) حتى خلصوا عن الهياكل المظلمة فيصلوا في الحال إلى الغذاء الروحاني وهو مشاهدة ربهم فكان الأمر الحاصل لهم بالهلاك (إليهم أقرب) و متعلق أقرب قوله إليهم (مما) أي من الذي (تخيلوه) فإذا باشرهم الحق بالعذاب.
قال رضي الله عنه : (فدمرت كل شيء بأمر ربها) أي قطعت الريح تعلق أرواحهم بظواهر أبدانهم (فأصبحوا) أي فصاروا (لا يرى إلا مساكنهم وهي جثتهم) أي أبدانهم (التي عمرها أرواحهم الحقيبة) وهي الروح التي قال الله تعالى : "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي" [الحجر: 29]  .
(فزالت) عنهم (حقية هذه النسبة الخاصة) وحقيتها كونهم على صورة الحق من العلم والحياة والقدرة  

بسبب تعلق الأرواح الحقية بهم فإذا زالت تعلق الروح زالت عنهم هذه الكمالات الحقية (وبقيت على هياكلهم الحياة الخاصة بهم من الحق) وهي الحق التي نصيب منها لكل شيء من الله بدون نفخ منه بخلاف الحياة الحقية فإنها لا تحصل إلا لمن يقبل الاستواء (التي) أي الحياة التي (تنطق بها) أي بسبب هذه الحياة .
قال رضي الله عنه : (الجلود والأيدي والأرجل ويذوق) الميت بها (عذابات الأسواط والأفخاذ في القبر وقد ورد النص الإلهي) من الآيات والأحاديث (بهذا) المذكور (كله) فهذه نسب جسمانية لا نسب حقانية.
ولم بين الأمر على ما هو عليه شرع في بيان سبب عدم ظهور هذه المعاني لبعض الناس بقوله (إلا) أي غير (أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة ومن جملة غيرته حرم الفواحش وليس الفحش إلا ما ظهر وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له) أي بالنسبة إليه فحش .

وأما بالنسبة إلى من لم يظهر له وليس بفحش فقال رضي الله عنه : (فلما حرم الفواحش أي منع أن تعرف) خطاب عام أي منع أن يعرف كل إنسان (حقيقة ما ذكرناه وهي عين الأشياء) أي حقيقة ما ذكرناه من كون الحق عين الأشياء كانت تلك الحقيقة ما بطن من الفواحش .
فإذا كانت تلك الحقيقة فاحشة باطنة (نسترها) أي ستر الحق تلك الحقيقة عن الغير لئلا يطلع عليها أحد إلا بالمجاهدات والرياضات بالسلوك بطريق التصفية .

فجواب لما قوله فسترها والفاء زائدة لتأكيد الستر هذا ما اختاره بعض الشارحين والأولى أن يجعل جواب لما محذوفة للعلم به باي لما حرم الفواحش كانت تلك الحقيقة فاحشة باطنها نقوله فسترها جواب الشرط محذوف (بالغيرة وهو) أي الغيرة (أنت) يخاطب كل عين مأخوذة (من الغير) وتذكير الضمير باعتبار الغير .
قال رضي الله عنه : (فالغير) أي الذي لم يعلم أن الحق عين الأشياء (يقول السمع سمع زيد) لعدم ظهور هذا المعنى له (والعارف) أي الذي يعلم أن الحق عين الأشياء.

قال رضي الله عنه : (يقول السمع عن الحق وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء فما كل أحد عرف الحق تفاضل الناس) بعضهم على بعض في العلم بالله (وتميزت المراتب) أي مراتبهم (فبان) أي ظهر (الفاضل والمفضول) بين الخلائق.

قال رضي الله عنه : (واعلم أنه) أي الشأن (لما أطلعني الحق وأشهدني أعيان) أي أرواح (رسله وأنبيائه كلهم البشريين) أي لا يكون فيهم رسل من غير البشر (من آدم إلى محمد صلى الله عليهم أجمعين) فكان آدم ومحمد عليهما السلام داخلان في شهوده (في مشهد) أي في مقام (أقمت) على المجهول (فيه) أي في ذلك المشهد (بقرطبة) هي مدينة في الغرب (سنة ست وثمانين وخمسمائة) .

قوله رضي الله عنه :  : (ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلا هود) عليه السلام جواب لما (فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم ورأيته عليه السلام رجلا ضخما) في الجسامة في الرجال حسن الصورة لطيف المجاورة عارفة بالأمور كاشفة لها .

دليلي على كشفه لها قوله: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " وأي بشارة للخلق أعظم من هذه البشارة فإن في هذه الآية دلالة على كمال غرب الحق من العبد وعلى كمال تصرفه الحق في العبد .
قال رضي الله عنه : (ثم من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه) أي عن  هود عليه السلام (في القرآن ثم تممها) هذه المقالة في بيان معناه وتحقيقه (الجامع للكل) أي لكل المراتب وهو (محمد عليه السلام بما أخبر به عن الحق عز وجل بأنه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان أي هو) أي الحق .
قال رضي الله عنه : (عين الحواس) الظاهرة (والحال) إن القوى الروحانية أقرب إلى الحق (من الحواس) أي من القرى الظاهرة (فاکتفی) رسول الله (بذكر الأبعد المحدود) أي معلوم الحد وهو الحواس .
(عن الأقرب المجهول الحد) وهي القوى الروحانية فإنه لما كان الحق عين ما هو أبعد منه فبالحربي أن يكون عين ما هو أقرب منه لذلك اكتفي رسول الله بذكره.

والمراد بكون الحق عين الأشياء وعين قوى العبد الحاده معها في بعض صفاته أو عبارة عن كمال القرب يدل عليه قوله الأقرب المجهول، وقد بينا كيفية اتحاد الحق مع الأشياء و عینیه في غير موضع .
قال رضي الله عنه : (فترجم الحق لنا عن نبيه هود عليه السلام مقالته لقومه بشرى لنا وترجم رسول الله عن الله مقالته بشرى لنا نكمل العلم).

بهذه البشارات (في صدور "الذين أوتوا العلم" ، "وما يجحد بآياتنا") أي وما بنکر بدلائلنا (إلا القوم الكافرون فإنهم) أي الكافرين (يسترونها) أي بسترون ما جاءت به الشرائع من عند الله قال رضي الله عنه : (وإن عرفوا بها) أي وإن عرفوا أنها حق لكنهم بسترونها (حسدا منهم ونقامة) أي بخلا (وظلما).

لأن ستر الحق بعد العلم ظلم وبخل وإياك وستر الحق والمراد من إيراد هذا الكلام في هذا المقام تعريض لأهل الحق الذين يعلمون الحق ثم يسترونه ولم يظهروه واعتذار في إظهاره أسرار الحق وتحذير للسالكين في طريق الحق .
حتى لا ينكروا أحوال الأولياء من إظهار أسرار الحق بعد العلم بحقيقتهم وتوطئة لما يذكره من الآيات الدالة على وجود الحق مع كل موجود .

قال رضي الله عنه : (وما رأينا قط من عند الله في حقه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أوصله إلينا فيما يرجع إليه) أي إلى الحق يعني وما رأينا قط في آية أنزلها الله من عنده في حق نفسه وما رأينا قط في خبر عنه في حق نفسه الذي أوصله نبينا إلينا.

(إلا) و هر ملتبس (بالتحديد تنزيهة كان) ذلك المنزل أو الخبر (أو غير تنزیه) فإن التنزيه عن التحديد (أوله) أي أول التحديد العماء الذي أخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام بأن الله كان في عماء (ما فوقه هواء وما تحته هواء فكان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق) فكان ذلك المقام أول ما ظهر من التعينات لذلك.
قال أوله (ثم ذكر) الحق في القرآن العظيم (أنه استوى على العرش فهذا تحديد أيضا) ثم ذكر بلسان نبيه عليه السلام ينزل الحق .

قال رضي الله عنه : (إلى سماء الدنيا فهذا تحديد ثم ذكر أنه) أي الحق (إله في السماء وأنه إله في الأرض وذكر أنه معنا اينما كنا) وقد حدد نفسه حتى أوصل تحديده في المبالغة (إلى أن أخبرنا أنه) أي الحق (عيننا ونحن محدودون به) وهو حدنا (فما وصف نفسه إلا بالحد) في قوله كنت سمعه وبصره» .
(وقوله : "ليس كمثله شئ" حد أيضا إن أخذنا الكاف زائدة لغير الصفة) أي لا تكون لإفادة إثبات المثل فحينئذ قد تميز عن المحدود .

قال رضي الله عنه : (ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عین هذا المحدود) والمراد بالمحدود الأشياء فإذا لم يكن الحق عين الأشياء كان محدود بهذا الحد فإذا كان الحق محدودة بكونه ليس عين المحدود (فالإطلاق عن التقيد تقييد والمطلق مفید) وزائدة (بالإطلاق لمن فهم) الأشياء على ما هي عليها .

قال رضي الله عنه : (وإن جعلنا الكان للصفة فقد حددناه وإن أخذنا "ليس كمثله شئ" على نفي المثل) مطلقا على أن الكاف زائدة لغير الصفة (تحققنا بالمفهوم) أي أطلعنا بالمعنى المراد من الآية وهو أنه عين الأشياء فإن مفهومه إثبات الوجود لغيره ومفهوم الثاني نفي المثل فيلزمه نفي الوجود عن غيره فتبين بهذا الوجه أنه عين الأشياء كما كان في الإخبار الصحيح لذلك أوردهما في إثبات هذا المعنى دون الوجه الأول .

(و) تحققنا (بالإخبار الصحيح أنه) أي الحق (عين الأشياء) وأشار إلى فوق الآية والحديث الصحيح في الدلالة على أنه عين الأشياء بقوله في الآية بالمفهوم.
وفي الحديث بقوله وبالأخبار ولم يقل وبمفهوم الإخبار فإن قوله كنت سمعه وبصره الخ في العينية معلوم للعموم بخلاف الآية فإنها لا تدل بهذه الدلالة .
بل تدل على العينية بالمفهوم الذي يفهم من وجوه اللفظ، ولا يعلم ذاك إلا من كان له بصيرة من ربه فدلالة الحديث على العينية أتم وأعم من دلالة الآية .

قال رضي الله عنه : (والأشياء محدودة وإن) وصل (اختلفت حدودها) فإذا كان الحق عين الأشياء وكانت الأشياء محدودة (فهو) أي الحق (محدود بحد كل محدود) فإذا كان محدودة بحد كل محدود .
(فما بحد شيء إلا وهو) أي ذلك الحذ (حد للحق) فإذا كان حد كل شيء حدا للحق (فهو الساري في مسمى المخلوقات) وهي المسبوقة بالزمان (و) مسمى (المبدعات) و هي الغير المسبوقة بالزمان وسريان الحق في الموجودات هو وجود أسمائه وصفاته فيها بحسب قابليته أعيانهم الثابتة.

قال رضي الله عنه : (ولو لم يكن الأمر كذلك) أي ولو لم یکن الحق سارية في الموجودات (لما صح الوجود) لما كان شيء موجودة (فهو عین الوجود فهو على كل شيء حفيظ) عن انعدامه بأن كان ذلك الشيء على غير صورة الحق
(بذاته فلا يؤده) أي فلا يثقله (حفظ شيء) إذ عين الشيء لا يثقل حفظه على ذلك الشيء فإذا كان الحق عين الوجود وحافظة للأشياء بذاته (فحفظه تعالي للأشياء كلها حفظه لصورته) إذ الأشياء عبارة عن الصورة الوجودية التي هي صورة الحق أي صفة الحق (أن يكون) أي أن يوجد (الشيء) على (غير صورته) أي على غير صفة الحق (ولا يصح إلا هذا) أي لا يصح إلا أن يكون الشيء على صورة الحق فكان وجود الشيء على غير صورة الحق محال.

(فهو) أي الحق (الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود) باعتبار الأحدية .
قال رضي الله عنه : (فالعالم صورته) أي مظهره (وهو روح) أي باطن (العالم المدبر له) أي للعالم كالروح المدبر للبدن (فهو) أي مجموع العالم (الإنسان الكبير).
(شعر فهو) أي الحق (الكون) أي الوجود.
( كله وهو الواحد الذي      ……    قام   کوني  بكونه )


كناية عن العالم أي قام وجود العالم بوجود الحق .
قال رضي الله عنه : (ولذا) أي ولأجل أن الحق هر الواحد القيوم الذي قام به وجود العالم (قلت) له (يغتذي) بنا من حيث ظهور أحكامه فينا وإخفاؤنا في وجوده (لوجودي غذاؤه) لقيام أحكامه وکمالاته بنا هذا إن كان الحق ظاهرا والعبد باطنا (و به) أي بالحق (نحن نحتذي) أي نغتذي لقيام وجردي بوجوده هذا إن كان العبد ظاهرا والحق باطنا (فيه منه) جزاء (أن نظرت بوجه) شرط (تعوذي) متعلق لقوله فيه منه أي إن نظرت بوجه الوحدة يكون تعوذي بالحق من الحق.
فمعنى قوله تعالى : "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" بهذا الوجه أعوذ بالاسم الهادي من الاسم المضل .

فكان قول الرسول عليه السلام: "أعوذ بك منك"، ناظرا إلى هذا الوجه فالأسماء كلها قبل وجودها في الخارج مكنونة مستورة في ذات الحق طالبة كلها الخروج إلى الأعيان كالنفس الإنساني فبحبس النفس الطالب الخروج يحصل الكرب للإنسان .
فإذا تنفس بزول كربه فجاز نسبة الكرب إلى المتنفس وإلى النفس قبل الخروج من جوف الإنسان.
فشبهت نسبة الأسماء إلى الحق بنسبة نفس الإنسان إلى الإنسان تسهيلا لفهم الطالبين فإنما يتنفس الإنسان لئلا يلزم الكرب .
فلو لم يعطي الحق ما طلبته الأسماء من إيجاد العالم لزم الكرب المحال على الله فإن كون الشيء على خلاف ما يقتضيه کرب له .
ومن جملة ما يقتضي ذاته تعالى أنه يعطى كل ذي حق حقه فكذلك لو لم يحصل ما طلبته الأسماء من الله من صور العالم لحمل للأسماء من الله کرب وهو ظلم منه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

قال رضي الله عنه : (ولهذا الكرب) أي ولئلا يلزم هذا الكرب المحال (تنفس) أي أخرج الحق ما في باطنه إلى الظاهر بكلمة كن فيكون هر في الظاهر بعد كونه في الباطن فما كان في نفس الأمر إلا هذا ولا بد أن ينسب هذا النفس إلى يد من أيدي الأسماء (فنسب النفس) أي نسب الحق نفسه (إلى الرحمن) بلسان نبيه عليه السلام .

إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمين فكانت الموجودات حاصلة من نفس الرحمن بل هي عين نفس الرحمن وإن نسي الحق النفس إلى الرحمن (لأنه) أي الحق (رحم) أي أعطى (به) أي بالاسم الرحمن (ما طلبته النسب الإلهية) التي هي الأسماء (من إيجاد الصور العالم) بيان لما (التي قلنا هي) ، أي صور العالم (ظاهر الحق) وإنما كان صور العالم ظاهر الحق.
(إذ هو الظاهر) لا غير (وهو باطنها) أي باطن العالم (إذ هو الباطن) لا غير (وهو الأول إذ كان الله ولا هي) أي وليس صور العالم موجودة معه (وهو الأخر إذ كان عينها) أي عين صورة العالم (عند ظهورها) أي عند وجود صور العالم في الخارج .

فإذا كان الأمر كذلك (فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول) وهو معنى قوله تعالى: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن " ، ("وهو بكل شيء عليم" لأنه بنفسه عليم) وليس العالم سوی من حيث الأحدية وليس علمه بالأشياء إلا عين علمه بذاته وصفاته وأسمائه .
(فلما أوجد) الحق (الصور) أي صور العالم وهي الموجودات الخارجية (في النفس) أي في النفس الرحماني وهو هيولي العالم كله القابلة لجميع الصور كما أن النفس الإنساني يخرج من الباطن إلى الخارج فيوجد في هذا النفس بحسب المخارج صور الحروف المختلفة .

قال رضي الله عنه : (وظهر) في هذه الصورة (سلطان) أي حكم (النسب) بكسر النون وفتح السين (المعبر عنها) أي عن النسب (بالأسماء صح النسب) بفتح النون والسين مصدر بمعنى الانتساب (الإلهي للعالم) أي صح للعالم أي أن ينتسب إلى الله .

(فانتسبوا) أي "يا أيها" العالم (إليه تعالى فقال) الله تعالى على لسان نبيه (اليوم) وهو القيامة الكبرى (أضع نسبكم وارفع نسبي أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم واردکم انتسابكم إلى) فصيح للعالم نسبتان نسبة إلى العالم مثله ونسبه إلى الحق.

"أضاف الجامع : الحديث : عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه تلا قول الله عز وجل "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" [الحجرات: 13] فقال: " إن الله يقول يوم القيامة: يا أيها الناس، إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان أكرم من فلان بن فلان، وإني اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم أين المتقون أين المتقون.أهـ رواه الحاكم والبيهقي والسيوطي في الجامع الكبير  ".

 فاحتجب الناس بانتسابهم إلى العالم من انتسابهم إلى الحق ولا يشاهد ذلك إلا من أفني وجوده في وجود الحق ومن لم يفعل ذلك تأخر مشاهدته إلى يوم لا أنساب بينهم .
فإذا رد الحق انتساب العالم إليه كان العالم بذاته وجميع صفاته وأفعاله عین الحق باعتبار الأحدية الذاتية .
قال رضي الله عنه : (این المتقون أي الذين اتخذوا الله وقاية) لأنفسهم بإسناد ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم كلها إلى أن الحق (فكان الحق ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة) فتحققوا بقوله تعالى اليوم أضع نسبكم بفنائكم في الله وبقائهم به .

قال رضي الله عنه : (وهو) أفرد الضمير باعتبار قوله : (أعظم الناس وأحقه وأقواه عند الجميع) أي عند جميع أهل الله لوصولهم نهاية الأمر فكان قولهم إن الحق عين الصور الظاهرة صادقة لشهر دهم إن انتساب العالم كله إلى الحق.

قال رضي الله عنه : (وقد يكون المتقي من جعل نفسه وقاية للحق بصورته) أي بسبب كون العبد صورة الحق أي بسبب إسناد العبد صورة الحق إلى نفسه وإنما كان الحق صورة المنقي (إذ هوية الحق) عين (قوى العبد كما قال كنت سمعه وبصره فمسمى العبد حينئذ) أي حين كون المتقي (وقد يكون المتقي من جعل نفسه وقاية للحق بصورته إذ هوية الحق نوى العبد فجعل مسمى العبد وقاية لمسمى الحق) فأثبت هذا المتقي الفعل لنفسه وقاية لربه في المنام إذ حينئذ يكون العبد صورة الحق.

وأما المتقون الذين اتخذوا الله وقاية فحينئذ مسمى الحق وقاية لمسمى العبد وهي إسناد العبد جميع أحواله إلى الحق .
قال رضي الله عنه : (على الشهود) متعلق بقوله وقاية لمسمى الحق أي هذه الوقاية سواء كانت وقاية للحق أو وقاية للعبد كانت على الشهود لا على التقليد (حتى يتميز العالم من غير العالم) في مقام النقري بسبب المشاهدة فمن جعل نفسه وقاية للحق من غير الشهود فليس بعالم بمقام التقرى ولم يكن من المتقين .

وكذلك من اتخذ الله وقاية بلا مشاهدة ليس من أهل العلم ولا من أهل التقوى فالعالم من كان علمه بالمشاهدة فمن لم يكن علمه بالمشاهدة والذوق فليس بعالم .
فميز الله تعالى بين العالم وغير العالم بقوله: (قل: "هل يستوي الذين يعلمون ")  الحق بالشهود "والذين لا يعلمون" [الزمر: 9] بدونه فنفى الحق العلم ممن لا يعلمون بالمشاهدة .

ويدل على ذلك قوله تعالى إنما يتذكر" أي ما يعلم الحق "إلا أولوا الألباب  فمن لم يكن من أولي الألباب لم يكن عالما فأورد هذه الآية دليلا على أن :


المراد من قوله : "قل هل يستوي الذين يعلمون" هم العالمون بالمشاهدة (وهم) أي أولو الألباب قال رضي الله عنه : (الناظرون في لب الشيء الذي هو المطلوب من الشيء) ولب الشيء وهو جهة حقية فمن نظر في هذه الجهة بشاهد الحق فيها فهو العالم .

قال رضي الله عنه : (فما سبق) أي فما تقدم في رتب العلم بالله (مقصر) وهو الذي يطلبه تحصيل العلم بنظر العقل وهو مسمى بأهل النظر .
قال رضي الله عنه : (مجدا) وهو أهل التصفية والمجاهدة "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" فهم يطلعون لب الشيء ويعلمونه على ما هو عليه فلا مذام من حيث اللب فالمتقون هم الذين اتخذوا وقاية من حيث اللب لا من حيث الصورة .

فإن صورة الأشياء كلها حدوث والحدوث كله مذام في حق الحق لا ينسب إلى الله تعالی عند أهل الله .
وكذلك كل ما ينسب إلى كسب العبد لا بنسبه من هذا الوجه إلى الحق.
ولما بين الفرق بين المقصر والمجد في العلم أراد أن يبين الفرق بينهما في العمل بقوله: (كذلك لا يماثل أجير)، وهو الذي يعمل للنجاة عن النار والدخول في الجنة (عبدا) وهو الذي يلازم باب سيده بمقتضى أوامره من غير طلب الأجر من عبادته فكم بينهما .

فالمراد أن أهل الظاهر لا يصل إلى درجة أهل الله لا في العلم ولا في العمل فقد علمت مما ذكر أن الحق قد يكون وقاية للعبد ، والعبد قد يكون وقاية للحق.
قال رضي الله عنه : (وإذا كان الحق وقاية للعبد بوجه) أي من حيث كون الحق ظاهر العبد هذا ناظر إلى قوله : "أين المتقون" (والعبد وقاية للمحق بوجه) أي من حيث كون العبد ظاهر الحق فقد حصل في تلك المسألة خمسة أوجه كلها صحيحة لكنها يتفضل بعضها على بعض فشرع في تفصيلها بجزاء الشرط .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالسبت أغسطس 17, 2019 9:30 am

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفقرة الهودية على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية
وهو قوله رضي الله عنه :  : (فقل في الكون،) أي في حق الكون (ما شئت إن شئت قلت هو) أي الكون (الخلق) باعتبار وقاية لكون الحق (وإن شئت قلت هو الحق الخلق) بالجمع بينهما (وإن شئت قلت لا حق) أي الكون لا حق (من كان وجه ولا خلق من كل وجه) فصدق سلب إيجاب الكلي فلا بصدق أصلا في الكون إيجاب الكلي لا في الحقية ولا في الخلفية .
(وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك) أي في حق الكون فمن قال بالحيرة لم يصدر منه حكم في حق الكون فإذا قلت بهذه المقامات.

قال رضي الله عنه : (فقد بانت) أي ظهرت (المطالب بتعيين المراتب) وكل ذلك تحديد الحق (ولولا التحديد) أي ولو لم يقع التحديد في نفس الأمر (ما أخبرن الرسل بتحول الحق في الصور)، وهو ما جاء في الخبر الصحيح أن الله يتجلى للخلق يوم القيامة في صورة منكرة . فيقول : أنا ربكم الأعلى فيقولون: نعوذ بالله منك فيتجلى في صورة عقائدهم فيسجدون له.
(ولا وصفته) أي ولا وصفت الرسل الحق (بخلع الصور عن نفسه) أي لم يقولوا إن الله يتجلى يوم القيامة خاليا من الصور .

بل فائوا إن الله يتجلى في الصور والصور كلها محدودة فالحق المتجلي في المحدود و محدود فكان الحق هو الظاهر في كل صورة فحينئذ .
شعر:
قال رضي الله عنه : (فلا تنظر العين) في الحقيقة (إلا إليه) لكنه لا يعلم من احتجب بالصور (ولا يقع الحكم إلا عليه) باعتبار الأحدية (فنحن له) عبيد وهو ربنا (وبه) أي وجودنا وقيامنا بالحق (و) قلوبنا (في يديه) يقلبنا كيف يشاء .
وهو إشارة للحديث : "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء"
" ورد الحديث : «إن قلوب ابن آدم ملقى بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء» ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اصرف قلوبنا إلى طاعتك» رواه ابن حبان و ابن ماجة والحاكم والطبراني وغيرهم
كما ورد الحديث :  سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:  
«ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه»رواه ابن حبان و ابن ماجة والحاكم والطبراني وغيرهم  
 أو في يديه مجبورون ينصرف كيف يشاء (وفي كل حال) من الأحوال الحسنة أو السيئة (فإنا) حاضرون (لديه) فهو معنا أينما كنا (ولهذا) أي الأجل ظهور الحق في كل صورة (ينكر ويعرف وينزه ويوصف) على حسب مراتب الناس فإذا لم تنظر العين إلا إليه صار النظر مختلفة في رؤية الحق بأن كان بعضه فوق بعض.
قال رضي الله عنه : (فمن رأى الحق منه) أي من الحق (فيه) أي في الحق (بعينه) أي بعين الحق (فذلك العارف) لكون الناظر والنظر والمنظور منه والمنظور فيه والمنظور إليه كلها حق في نظره .
قال رضي الله عنه : (ومن رأى الحق منه) أي من الحق (فيه) أي في الحق (بعين نفسه فذلك غير العارف) لعدم علمه أن الحق لا يرى بعين غيره .
قال رضي الله عنه : (ومن لم ير الحق منه) أي من الحق (ولا فيه) أي لا في الحق (وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل) لعدم رؤيته بالحق أصلا  .
بخلاف غیر عارف من حيث أنه يرى بعين نفسه لا بعين الحقفظهر في هذا المقام ثلاث مراتب عارف وجاهل وغير عارف .


لذلك قال رضي الله عنه : (وبالجملة فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه) أي في حق ربه (يرجع) ذلك الشخص (بها) أي مع تلك العقيدة (إليه) أي إلى ربه (ويطلبه) أي يطلب ذلك الشخص ربه (فيها) أي في تلك العقيدة (فإذا تجلى له الحق) يوم القيامة (فيها) أي في صورة عقيدته (عرفه وأقر به وإن تجلى له في غيرها) أي في صورة غير صورة عقيدته (أنكره) أي الحق (وتعوذ منه وأساء الأدب عليه) أي على الحق (في نفس الأمر وهو عند نفسه) يعتقد (أنه قد تأدب معه) .
فإذا كان الأمر في حق المحجوب كذلك قال رضي الله عنه : (فلا يعتقد معتقد) محجوب (إلها إلا بما جعل) أي تصور المعتقد ذلك الإله (في نفسه) أي في ذهنه فاعتقد كون الحق على تلك الصورة ونفاه عما عداها فحينئذ (فالإله) حاصل (في الاعتقادات بالجعل).
أي بسبب جعل المعتقد فإذا رأوا الحق يوم القيامة (فما) أي فليس (رأوا) أي المعتقدون (إلا) عين نفوسهم (و) رأوا (ما) أي الذي (جعلوا فيها) أي في أنفسهم فما رأوا الحق (فانظر مراتب الناس في العلم بالله) .
قوله رضي الله عنه :  : (هو) راجع إلى المراتب أفرد باعتبار العلم بالله (عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة) هذا هو حال المعتقدين الذين حصروا الحق في صورة اعتقاداتهم وقد حذر السالكين عن ذلك مع بيان مقام أمل الشهود.
بقوله : (وقد أعلمتك بالسبب الموجب) وهو حصر الحق في صورة الاعتقاد (لذلك) أي التجلي الحق يوم القيامة فما يتجلى الحق لأحد يوم القيامة إلا على حسب اعتقاده في الدنيا في العلم بالله بقيد أو إطلاق (فإياك أن تتقيد)

في الدنيا (بعقد) أي باعتقاد (مخصوص وتكفر) الحق (بما سواه) أي بما سواه ذلك الاعتقاد حتى لا تكفر يوم القيامة إذا تجلى لك في غير ذلك الاعتقاد (فيفوتك خير كثير) أي علم كثير نافع في الدنيا ودرجة عالية في العقبی.
قال رضي الله عنه : (بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه) إذ الحق لا ينحصر في عقد دون عقد (فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات) بفتح القاف (كلها فإن الإله تبارك وتعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد، فإنه بقول :"فأينما تولوا فثم وجه الله" [البقرة : 115] وما ذكر أينا من أين) إلا (وذكر أن ثمة) أي في الأين المذكور (وجه الله ووجه الشيء حقيقته فنبه) الحق (بهذا) القول.
وهو قوله : "فاينما تولوا فثم وجه الله".
قال رضي الله عنه : (قلوب العارفين لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار) الحق (مثل هذا) الاستحضار وهو كون وجه الحق في كل أينية فلا يغفل قلوب العارفين عن الحق في كل حال، فهذا التنبيه عناية من الله لهم حتى يكونوا مع مشاهدة الحق في جميع الأحوال التي تعرض عليهم في الحياة الدنيا فلا يقبضوا مع غفلة.
قال رضي الله عنه : (فإنه لا يدري العبد في أي نفس يقبض فقد يقبض في وقت غفلة) فيستحق العبد من الله البعد والإهانة .
قال رضي الله عنه : (فلا يستوي مع من قبض على حضور) فإنه يستحق القرية والكرامة (ثم إن العبد الكامل مع علمه بهذا) أي يكون الحق في كل جهة (يلزم) أي يجب عليه انقياد الأمر الحق (في الصورة الظاهرة والحال المقيدة) أي للعبد الكامل وهي الصلاة (التوجه) فاعل يلزم أي ملتبسا (بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ويعتقد أن الله في قبلته حال صلاته وهي) أي القبلة .
قال رضي الله عنه : (بعض مرائب وجه الحق من أينما تولوا فثمة وجه الله فشطر المسجد الحرام منها) أي بعض من تلك المراتب.
قال رضي الله عنه : (ففيه) أي في المسجد الحرام کان (وجه الله ولكن لا تقل هو) أي الحق (هنا) أي في المسجد الحرام : (فقط بل قف، عندما أدركت) أي عند إدراكك الحق (والزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام والزم الأدب في عدم حصر الوجه في تلك الأبنية الخاصة بل هي) أي بل الأينية الخاصة (من جملة أينيات ما) أي الذي (تولى متولي إليها) أي إلى تلك الأينيات (فقد بان) أي فقد ظهر( لك على الله) أي فقد عرفت بما أخبر الحق به عن نفسه .
قال رضي الله عنه : (أنه) أي الحق كان (في أينيته كل وجه وما ثمة) أي وليس في عقل كل واحد من أفراد الإنسان في حق الحق من الأينيات (إلا الاعتقادات فالكل) أي فكل واحد من صاحب الاعتقادات (مصيب) في اعتقاده الحق في نفس الأمر سواء طابق ذلك الاعتقاد بالشرع أو لم يطابق.
" إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) سورة الفرقان"
لكنه إذا لم يطابق بالشرع لا ينفع ، قال رضي الله عنه : (وكل مصيب مأجور) بحسب اعتقاده فكان أجر من اعتقد الحق على ما يخالف الشرع من الكفار التلذذات الروحانية لمشاهدة ربه مخلدا في النار (وكل ماجور سعيد وكل سعيد مرضي عند ربه) وقد علمت معنى السعادة والرضاء في فص إسماعيل عليه السلام .
قال رضي الله عنه : (وإن شقي) أي وإن عذب ذلك السعيد بالعذاب الخالص (زمانا) طويلا (في الدار الآخرة) فكان المؤمنون سعداء خالصين من الشقاء لذلك ادخلوا الجنة
والكفار الشقاء لذلك أبقوا في النار وكذلك في الرضاء (فقد مرض وتألم أهل العناية مع علمنا) سعداء ممتزجين من (أنهم سعداء أهل حق) .
قوله رضي الله عنه :: (في الحياة الدنيا) متعلق بتألم (فمن عباد الله من ندركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمي جهنم) فكما لا ينافي الألم السعادة في الحياة الدنيا كذلك لا ينافي في الحياة الأخرى .
فكما أن أهل الحق إذا تألموا في الحياة الدنيا فهم على لذة في ذلك الألم بمشاهدة ربهم فلا يشغلهم الألم عن ربهم.
فإن الألم أين من الأبنبات والأين لا يشغل العارفين عن استحضار الحق كذلك أهل النار في الحياة الأخروية وإن كانوا يتألمون فهم على لذة روحانية بمشاهدة ربهم لانهم عارفون فيها فلا يحتجبون بالألم عن الحق فلا ينافي الآلام راحتهم .
وقد أورد دليلا على ذلك كلام أهل الله بقوله رضي الله عنه : (ومع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما مو عليه أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعیم خاص بهم أما بفقد ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم فيكون نعيمهم راحتهم من وجدان ذلك الألم أو يكون نمیم مستقل زائد) على فقد المهم مناسب لحالهم.
قال رضي الله عنه : (کنعيم أهل الجنان في الجنان) قوله : (والله أعلم).
يدل على توقف المصير في هذه المسألة.
أقول: إن لهذا الكلام مبني وتحقيقا أما مبناه فهو أن رحمة الله متنوعة بلا شك رحمة خالصة من شرب الألم كما في الجنة ورحمة ممتزجة بالألم كما في الأنبياء .
فإن منهم من يدركهم الألم في الدنيا وهم في لذة وراحة في ذلك الألم بل الألم عين الرحمة في حقهم فهم يحسون الراحة مع حسهم الألم.
إذ لا ينفك نعم الله منهم في أي حال كانوا ولا ينبغي لأحد أن ينكر اجتماع الألم واللذة في طبعهم الشريفة فلما سبقت رحمته غضبه لا يكون العذاب أبدا إلا ممتزجا إذ رحمه الله بالنسبة إليه عامة في حق كل شيء.
والعذاب قد عرض باستحقاق عين الممكن بالمخالفة أو بحكمة أخرى فلزم الامتزاج من ذلك فلا ينافي الألم ظهور أثر الرحمة وهو وجدان الراحة في بعض المزاج هذا هو مبنى الكلام .
وأما تحقيقه فهو أن قوله "وسعت رحمتي كل شيء" (الأعراف: 156) عام في حق كل شيء وكذلك «سبقت رحمتي غضبي» عام.
والنصوص الواردة في حق الكفار كلها بحسب اجتماعها وانفرادها لا تدل قطعيا إلا على حرمانهم أبدا عن رحمة خالصة وهي نعيم الجنان يعني لا يخرجون عن النار أبدا ولا يدخلون الجنة .
وأما دلالة النصوص على أنهم لا يخلون عن العذاب أبدا على معنى لا يرتفع العذاب أصلا لا ينافي كلامهم .
فإن قولهم: يجوز أن يكون لهم في نار جهنم بعد التعذيب إلى ما شاء الله نعيم مباين نعيم الجنان هو بعينه ممتزج بالعذاب .
لأن النعيم الخاص في الدار الآخرة عندهم مختص بنعيم الجنان لا يوجد في غيره فلا يخلون عن العذاب أم على ذلك التقدير غايته يحسون الراحة ويجدون اللذة بعد المدة المديدة ويجمعون اللذة والألم لظهور الرحمة التي سبقت في حقهم بقدر نصيبهم فيحسونها في الألم لكسب الاستعداد إلى وجدان الحس فإن العذاب متنوع فحاز أن
يجتمع نوع من العذاب بنوع من الرحمة ويؤيد ما قلناه تفسير البيضاوي في قوله تعالى فلو جعل قوله : "لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا " [النبأ: 24 - 25] .
حالا من المستكن في لابثين أو نصب أحقابا لا يذوقون احتمل أن يلبثوا فيها أحقابا غير ذائقين إلا حميما وغساقا .
ثم يبذلون جنسا آخر من العذاب فلا تقطع النصوص الواردة في حقهم الرحمة بكليتها بالنظر إلى نفسها من غير اقتران بالإجماع فظهر أن كلامهم أدل على بقاء العذاب للكفار من النصوص الواردة في حقهم الرحمة بكلبتها بالنظر إلى نفسها من غير اقتران بالإجماع فظهر أن كلامهم أدل على بقاء العذاب للكفار من النصوص والإجماع .
لأنهم لما قسموا الرحمة إلى الخالصة من الألم والممتزجة مع الألم وحصروا الخالصة في الدار الآخرة إلى نعيم الجنان .
تعين ما أثبتوا لهم من الراحة على الاحتمال ومجرد الجواز لا على تحقيق الوقوع لا يكون أبدا إلا رحمة ممتزجة بالألم فلا يخلو عن العذاب قطعا ولا يخفف عنهم العذاب بتقليل أسبابه إذ مال التخفيف إلى ارتفاع العذاب.
وذا ينافي الرحمة الممتزجة لهم ولا هم ينظرون بنظر الرحمة التي في دار الجنان فإن هذه الرحمة ليست بنظر الرحمة في حقهم بل هي سبقت في حقهم مرکوزة في جبلتهم ومكنونة في بطونهم .
فظهرت في وقتها لوجود شرائط ظهورها وهي من مقتضيات طبعهم تحصل لهم لا تحصل بنظر الله لهم .
لذلك لا يرتفع بظهورها العذاب، ولو كانت تلك الرحمة بنظر الله لارتفع عذابهم فلا تخصص بالنصوص الواردة في تأييد العذاب في حق الكفار قوله : "وسعت رحمتي كل شيء" وبقي على عمومه بحسب نصيب كل شيء منها.
ولا تسقط بها عموم الرحمة في حق الكفار إلا في نوع من أنواعه وهو نعيم الجنان فرحمة الله تعالی تعم الأشياء كلها بالنص الإلهي حتى العذاب إذ العذاب وجود والوجود من رحمة الله تعالی بل الحق أيضا بمعنی إيصال الرحمة فيه كان رحيما فشيئه لا كشيء والله على كل شيء قدير بل کشيء.
 والله بكل شيء عليم ورحمة الله تعالى واسعة ونور من الله تصل إلى عباده على حسب استحقاقهم ولا يطفى نور الله شيء في حق شيء والله متم نوره .
بأن نقول إن الله قد يتجلي في الجنة القلوب عباده من أهل الله بعظمة جلاله وكبريائه فيشاهدون قدرة الله على إهلاكهم وإهلاك الجنة لإمكان الهلاك في نفسه وإنما كان وعد الله حقا وهو النصوص الواردة في عدم هلاكهم وهلاك الجنة.
لكن لا ينافي ما قلناه كالمبشرة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بزید خوفهم من الله بعد البشارة بالجنة بالنص الإلهي فحالهم هذه ناشئة من كمال يقينهم بالنص في حقهم فيقعون في خشية الله تعالى بسبب هذا العلم الحاصل من التجلي. إنما يخشى الله من عباده العلماء.
والخشية توجب الخوف، والخوف نوع من الألم من كونهم في الراحة الكلية فيجتمعون الألم المعنوي الجزئي و الراحة الصورية الكلية في دار النعيم والنصوص لا تقطع في حقهم إلا الألم الصوري لا الألم المعنوي.
 قال الشيخ في كلمة عزيرية العلم بسر القدر يعطي الراحة الكلية للعالم به ويعطي العذاب الأليم أيضا للعالم به فهو يعطي النقيضين تم كلامه .
وقد ظهر سر القدر في اليوم الآخر لكل أحد فيعطي النقيضين في ذلك اليوم أيضا والإنسان لكونه مظهرة للأسماء الإلهية المتقابلة لا يزال جامعا للنقيضين الألم والراحة بحسب المقامات وبحسب الظهور والبطون .
فألم أهل الجنة في غاية الخفاء والبطون بظهور الراحة الكلية كما أن راحة أهل النار في غاية الخفاء والبطون بظهور العذاب الأليم .
فلا يصح في التحقيق سلب الألم والنعم عن الإنسان من كل الوجوه لعموم الجمعية في نشأته الدنيوية والأخروية والمقصود إثبات عدم انقطاع أثر الأسماء المتقابلة وأحكامها عن وجود الإنسان وقد نازعني بعض العلماء في ذلك بقوله تعالى: "كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها" [النساء: 56) .
وما علموا أن كلما لعموم الفعل لا لدوام ثبوته فما ثبت قطع الرحمة بالكلية في حقهم إلا بالإجماع وما لهم نص في ذلك إلا أنه لما دل النصوص على حرمانهم أبدأ عن الرحمة العظمى والجليل القدر عند الله والنعمة العظمى والنافعة الكبرى وهي نعيم الجنان فلا رحمنه عندهم في الدار الآخرة أصلا غير ذلك .
وكل ما عدا ذلك عذاب محض غير الأعراف وما جاز عند أهل الفناء من الرحمة الممتزجة بالعذاب ليس بشيء من الرحمة عندهم على أنه من أي شيء عرفتم أن الإجماع وقع على نفي ما جاز عند أهل الله لا بد من البيان .
فجاز وقوع الإجماع على ما دل عليه النصوص بدون سلب کلي غايته أنهم لم يتعرضوا جوازه ولا عدم جوازه.
فجاز أن يدخل تحت الإجماع وأن لا يدخل بل التفويض والتوقف في ذلك أولى وأنسب من أهل الفناء إلى الإجماع لأن حكمهم على حسب علمهم ولا يتعلق علمهم بما في العذاب بدون نص حتی تعلق حكمهم بالنفي أو الإثبات .
إلى ما في لب العذاب إذ كل نص عندهم لا يدل إلا على بقاء ظاهر العذاب ولا يلزم منه الدلالة على ما في العذاب فلا حكم لهم في باطن العذاب أصلا بحسب النصوص.
 وإن قلتم اجتمعوا على ذلك برايهم أو بالنص هات البرهان على ذلك من النقل أو العقل، فلا يتوهم أن هذا المعني تكلم منهم من عند أنفسهم بل أخذوا الرحمة عن بعض النصوص .
وهو قوله: "سبقت رحمتي غضبي" ، "ورحمتي وسعت كل شئ"، وغير ذلك من النصوص الدالة على شمول الرحمة وأخذوا عن بعض النصوص بقاء العذاب عليهم فجوزوا الرحمة الممتزجة من العذاب إبقاء لحكم النصوص.
إذ لا يترك حكم الله من غير ضرورة ولا ضرورة ههنا وعاملا بقوله تعالى: "أعطى كل ذي حق حقه" فنهاية علم العلماء بالله في مثل ذلك التوقف وتفويض الأمر .
كما توقف الشيخ صاحب الكتاب رضي الله عنه في حق فرعون وفوض أمره إلى الله .
وقال : ثم إنا نقول بعد ذلك والأمر فيه إلى الله لما استقر في نفوس عامة الخلق إلى شقائه . فراعى الشيخ جانب الإجماع لأن الإجماع كما كان حجة عند أهل الظاهر كذلك حجة لأهل الله سواء كان بالنص أو بدونه فإذا عرفت هذا.
فاعلم أن أهل الله الذين انكشف لهم أسرار النصوص الإلهية في مثل هذه المسائل إذا نظروا إلى النصوص يبسطون ويرجون رحمة الله وإذا نظروا إلى الإجماع خافوا عقاب الله .
هكذا حالهم إلى آخر عمرهم، فعلمهم هذا يعطي الحيرة والتوقف وتفويض الأمر إلى الله وهو مقام الأعراف.
وعلى الأعراف رجال فهم ثابتون في هذا المقام الأعلى والأشرف فكان ثبوتهم بين هذه النصوص والإجماع وهو عين ما ذهب إليه جميع الملل الإسلامية من أنه المؤمن بين الخوف والرجاء فلا يكذبون النصوص ولا الإجماع.
بل يصدقون ويجمعون بينهما كيف فإن قوله لا يقطع أن يكون لهم نعيم مباین لا يدل إلا على احتمال الوقوع لا على تحقق الوقوع والرجاء.
بتحقيق بمجرد احتمال وقوع الوعد فليس في كلامهم في هذه المسألة دلالة على تحقق وقوع الرحمة ولو ممتزجة بل على جواز الوقوع.
فكما أن المؤمن في حالة الرجاء لا يكذب النصوص الواردة في الوعيد وفي حالة الخوف لا يكذب النصوص الواردة في الوعد.
وكذلك أهل الفناء فما مسألتنا هذه إلا وهي عين ذلك ولا تحمل عليه أي على الشيخ ما لا تحمل عبارته بل كل ما نقوله من مدلولات کلامه ومقصوده وليس مقصوده من إيراد هذه المسألة إلا تحقیق دلالة النصوص في هذا الباب.
فإن أكثر الناس لا يعلمون مثل ما علمه فما ثبت قطع الرحمة عنده بالكلية إلا بالإجماع.
وأما النصوص فلا تدل إلا على قطع نوع من الرحمة وهو نعيم الجنان، فقد رفع الحجاب بذلك التحقيق عن وجوه المعاني لأهل الإنصاف وهذا التطبيق والتوجيه على مراده مما لم يهتدي به أحد من قبلي.
والله الهادي إلى صراط مستقيم وما ذلك الكتاب إلا كرامة منه لذلك رد البعض وقبل البعض وذلك من خصائص المعجزة والكرامة شعبة منها.
إلا أن منهم من رده لغير أهله وأجازه لأهله فله وجه ظاهر مطابق للواقع، ومنهم من زده وبالغ في رده بالإبطال والإحراق فله وجه صحيح أيضا.
فإن للفتوى لا يكون عن جهل لأنه هو الحكم على ما ينتهي إليه علم المفتي من الحق والباطل.
فإن الحكم في حق الشيء بالحق أو الباطل تابع بعلم المفتي لا على ما كان عليه نفس ذلك الشيء في الواقع فلا يكلف إلا بالجهد على قدر طاقته البشرية بحيث لا يكون مقصرا في جهده في حكم شيء.
كالمصلي المتحري نحو القبلة ولا يكلف باطلاع على حقيقة الأمر فإن ذلك ليس في وسع كل أحد فكان مثابا مأجورا بعمل ما يجب عليه من حفظ الشريعة المطهرة ولا يتعلق به لسان الذم شرعا .
وحقيقة بل هذا عند أهل الله بل عند صاحب الكتاب أكمل الناس في مقام الشرع لظهور غاية الشرع بكماله منه فكان الإحراق في حق الكتاب وإن كان ظلمة أولى من أن لا يطلع ويعمل به فاستحق بذلك عند أهل التحقيق لان المدح فلا ينبغي للسالكين أن يظنوا السوء بالعلماء في مثل ذلك.
فإن ظهور هذه الأفعال منهم لا يكون إلا عن كمالاتهم في مرتبتهم اقتضت صدور ذلك لا عن نقصهم فمن ظن السوء منا فليس ذلك
إلا عن جهله وتصوره في طريق التصوف.
أيها المحب اسمع من لسان الفقير فائدة جديدة جليلة وهي أنه لما قال الله تعالی للملائكة : "إني جاعل في الأرض خليفة" [البقرة : 30] قالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" [البقرة : 30] .
انضمت هذه المنازعة إلى علة آدم فأثرت في وجوده فكل آدم حاملا لها فخرجت من ذريته ثلاثة طوائف :
خليفة عن الحق والملائكة معا وهم الأنبياء والمرسلون.
وخليفة عن الحق وهم أولياء الله ومن كان في طريقهم
وخليفة عن الملائكة وهم علماء الشريعة وأئمة الدين
فمقام الأولياء العفو والستر والنظر إلى جهة الكمال كما فعل الحق بآدم ولا ينظرون إلى جهة القصور بل كل شيء تام بنظرهم لعلمهم بأن الله تعالى قبل آدم وأوجد ولم يرد قول الملائكة في حقه مع علمه بعصيان آدم ولم ينظر إلى قصورهم بل نظر إلى جهة كماله وقيل من كل عيب ثم أوجدهم وقال في جوابهم "إني أعلم ما لا تعلمون" [البقرة : 30] .
يعني أن ما قلتم في حقه صدق لكنه إني أعلم منه غير ذلك من الكمال ولو علمتم ما أعلم لم ينازعني فلم علم الملائكة ما علم الله بتعليم الأسماء ارتفع نزاعهم فقالوا: " لا علم لنا إلا ما علمتنا" [البقرة: 32] .فهذا هو مقام أهل الله خلافة عن الحق .
وأما خليفة الملائكة فهم علماء الشريعة وأئمة الدين فإن مراد الملائكة بقوله :"أتجعل فيها" تقديس الحق وتنزيهه عما لا يليق بجناب عزه من الإفساد وسفك الدماء وغير ذلك من المناهي الشرعية.
لذلك قالوا: "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " [البقرة : 30] يعني لا يليق بحضرتك إلا التسبيح والتقديس ، فأقامهم الله في مقام التقديس مقام الملائكة فسبحوا وقدسوا الحق بحسب علمهم على كل ما يليق به تسبيحهم وتقديسهم وإن لم يعلموا مرتبتهم فإذا علموا ما علم أهل الله ارتفع نزاعهم لعلمهم علما وراء علمهم الذي أنكروه قبل ذلك .
لحصرهم العلم على علمهم فما كان نزاعهم في التحقيق إلا لطلب العلم عن أهله وإن كانوا لا يشعرون بذلك فالنزاع ينشأ من عدم علمهم بحقيقة العلم .
فإذا علموا سلموا كالملائكة عند علمهم من آدم بما علم الله منه .
كما أن الملائكة ليس مرادهم المنازعة مع الحق بل طلب العلم بحكمة الخلافة مع التقديس جناب الحق .
فإذا كان العلماء خليفة الملائكة وجب تعظيمهم كالملائكة بل هم أحق بالتعظيم من الملائكة فهم البشر الملك والملك ملك وحده فإنهم حجة واضحة لله تعالى في الأرض عامة .
الحكم لجميع الناس وليس كذلك أهل الحق فإنهم حجة مخصوصة لطائفة مخصوصة وكم بينهما إلا فتعظموهم على أي حال كانوا من الإقرار والإنكار فإن إنكارهم بعض أفعال الفقراء وأقوالهم وأحوالهم عين تنزيههم الحق وتقديسهم عما لا يليق به اقتضت غيرة الحق بحسب مقامهم صدوره منهم.
فتعظيمهم تعظيم الحق والملائكة وتعظيم الأنبياء فإنهم كأنبياء بني إسرائيل وورثة الأنبياء فهم حملوا على ظهورهم ما لا تحمله السماوات والأرض .
وما قدر أحد قدر هم إلا من علمه الله من لدنه علما فلا يصح المعارضة والمنازعة معهم في شيء فالواجب علينا فيما أشكل عليهم من كلام أهل الفناء التطبيق الشرعي.
فإن علم أهل الله المسمى بالعلم الباطن من مدلولات ما دل على العلم المسمى بالعلم الظاهر والأول عين الثاني بالذات .

فهو مستفاد من وجوه الشرع لكن لا يفهمه كل أحد بل يفهم من تنور عقله بالنور الإلهي فمن ذهب إلى أنه مغاير بالذات لا يمكن التطبيق الشرعي بحيث يسلم ويقبل عند الشرع بحسب القبول فقد أخطأ .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالسبت أغسطس 17, 2019 9:31 am

11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفقرة الصالحية على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية
قال رضي الله عنه : (فص حكمة فتوحية) أي خلاصة العلوم المنسوبة إلى الفتوح مودعة (في كلمة صالحية) أي في روح هذا النبي الفتح حصول شيء عن الشيء الذي لم يتوقع حصوله عن ذلك الشيء كناقة صالح عليه السلام.
فإن الجبل لم يتوقع خروج الناقة منه فقد انفتح فخرج منه الناقة معجزة له عليه السلام ولكون صالح عليه السلام مظهر الاسم الفتاح انفتح له الجبل وخرجت منه الناقة .
""أضاف المحقق : تشرح هذه الكلمة معنى الخلق كما يفهمه الشيخ ابن العربي  والخلق عنده فتوح، أي سلسلة من التجليات والظهور لا إحداث لوجود من عدم""
أورد الحكمة الفتوحية في كلمة صالحية وبين الفتوح الغيبية فيها فقال : (من الآيات) خبر (آیات الركائب) مبتدأ وإضافة الآيات إلى الركائب إضافة عام إلى خاص من وجه الركائب جمع رکيبة أي ومن جملة المعجزات الدالة على صدق الأنبياء معجزات.
الركائب كالبراق لمحمد صلى الله عليه وسلم والناقة لصالح عليهما السلام .
فكل آیات لیست بركائب وكذا كل الركائب ليست بآيات .
وإن كان المراد بالركائب هنا نفس الآيات وهي البراق والناقة لكنه صح الإضافة من حيث مغايرتهما بحسب المفهوم بالعموم والخصوص من وجه
(وذلك) أي كون الركائب من الآيات (لاختلاف في المذاهب) أي بأن كان بعضها ذاهبة إلى الحق وبعضها إلى براري عالم الظلمات والركائب قابلة للذهاب إلى كل منهما موصلة للراكب إلى مقصوده من حق أو غيره، وهي جمع مذهب وهو الطريق فكما أن المراكب الصورية يركبه البعض عليها ويقطع بها المنازل للوصول إلى مراداته النفسانية مما لا يرضي الله عنه والبعض الآخر للوصول إلى أمر الله .
كذلك الركائب الحقيقة وهي صورة النفس الحيوانية التي هي مراكب النفوس الناطقة فإن بعض النفوس يركب عليها لتحصيل الكمالات الإلهية ويستخدمها في طريق الحق بأمر الحق وإرادته لا بإرادة أنفسهم فيحصل لهم العلم من عند الله ويعلم به الأشياء على ما هي عليه .
والبعض الآخر يستعملها بإرادة أنفسهم على مقتضى عقولهم ويستخدمها في ترتيب المقدمات المعلومة للوصول إلى المجهولات ويبين هذين الطائفتين بقوله: (فمنهم) أي وإذا كان المذاهب مختلفة فمن عباد الله (قائمون بها)

أي أقاموا مراكبها وهي صورة النفوس الحيوانية في طريق الحق وطاعته (بحق) أي بأمر حق لا بأمر أنفسهم (ومنهم قاطعون بها) أي بتلك المراكب (السباسب) أي صحاری عالم الأجسام التي تاهوا فيها ولم يخرجوا عنها .
قال رضي الله عنه : (فأما القائمون فأهل عين) وشهود وهم الواصلون حقيقة العلم والمخلصون عن ظلمات الجهل وهم أهل الكشف واليقين .
(وأما القاطعون هم الجنائب) أي البعداء عن معرفة الحق وإذا استدلوا بنظرهم الفكري من الأثر إلى المؤثر لكنهم محجوبون عن حقيقة العلم وهم أهل النظر والاستدلال حذف الفاء من فهم لضرورة الشعر .
(وكل منهم) أي وكل واحد من القائمين والقاطعين (يأتيه منه) أي من الحق (فتوح غيوبه) أي غبوب الحق (من كل جانب) أي من جانب ربهم الخاص فيكون لكل واحد منهم جانب خاص يأتيه غيوبه من الحق من جانبه لا من جانب آخر .
فكان كل في قوله من كل جانب تصرف إلى روحاني وجسماني.
ولما كانت الفتوح حاصلة من مفاتيح الغيب التي هي سبب الإيجاد وكان وجود العالم من الفتوح الغيبية شرع في بيان الأمر الإيجادي وكيفيته بقوله : 
قال رضي الله عنه : (اعلم) ولما كان هذه المسألة من المسائل الغامضة طلب من الله للسالكين التوفيق فقال : (وفقك الله أن الأمر) الإيجادي (مبني في نفسه على الفردية ولها) خبر (التثليث) مبتدا أقدم الخبر لاختصاص التثليث بالفردية .
(فهي) أي الفردية حاصلة (من الثلاثة فصاعدا) كالخمسة والسبعة وغيرهما (فالثلاثة أول الأفراد من هذه الحضرة الإلهية) أي الحضرة الفردية الأولية وهي الفردية الثانية التي سنذكرها تفصيلا .
(وجد العالم فقال تعالى) أي فالدليل على أن وجود العالم عن الحضرة الفردية الإلهية قوله تعالى: (إنما قولنا) أي أمرنا( لشيء إذا أردناه) أي إذا أردنا وجوده في الخارج (أن نقول له) أي أن نخاطب له بقولنا: (" كن فيكون") .
ذلك الشيء بلا مهلة وتراخ عن قولنا کن.
قال رضي الله عنه : (فهذه) الفردية الثلاثية (ذات ذات إرادة وقول فلولا هذه الذات) وهي ذات الحق (وارادتها) أي وإرادة الذات (وهي) أي الإرادة
(نسبة التوجه) أي توجه الذات (بالتخصيص لتكوين أمر ما ، ثم لولا قوله عند هذا التوجه کن لذلك الشيء ما كان ذلك الشيء) .
أي لو لم يكن هذه الثلاثة لم يكن ذلك الشيء. 
ولما بين الفردية التي من جهة العلة شرع في بيان الفردية التي من جهة المعلول فقال : (ثم ظهرت الفردية الثلاثية أيضا في ذلك الشيء) الكائن (وبها صح) أي وبسبب الفردية الظاهرة (من جهته) أي من جهة ذلك الشيء (صح تكوينه)  أي صح أن يجعل ذلك الشيء مكونة .
(و) صح (اتصافه) أي انصاف ذلك الشيء المأمور بقول "کن" (بالوجود وهو) أي فردية الشيء ذكر الضمير باعتبار الشيء (شيئيته وسماعه وامتثاله أمر مكونه بالإيجاد فقابل ثلاثة) التي من طرف المعلول .
قال رضي الله عنه : (بثلاثة) التي من طرف العلة (ذاته) أي ذات ذلك الشيء (الثابتة في حال عدمها في موازنة) أي مقابلة (ذات موجدها وسماعه في موازنة إرادة موجده وقبوله بالامتثال لما أمره) موجده (به من التكوين) بيان لما (في موازنة قوله : "كن" فكان هو) أي فوجد ذلك الشيء بهاتين الفرديتين الثلاثيتين (فنسب) الحق (التكوين إليه) أي إلى الشيء الممكن في قوله كن فيكون .

قال رضي الله عنه : (فلولا أنه في قوته التكوين من نفسه) أي: فلو لم يكن التكوين حاصلا بالفيض الأقدس في قوة نفس ذلك الشيء (عند هذا القول) وهو قول کن (ما تكون) .
ويوجد ذلك الشيء عند سماع ذلك القول من الله تعالی فإذا كان الأمر كذلك (فما أوجد هذا الشيء بعد أن لم يكن عند الأمر بالتكوين إلا نفسه) فلا ينسب الإيجاد إلا إلى نفس ذلك الشيء.
 نعم ينسب إلى الحق لكونه أمرا بالتكوين فكان إسناد الإيجاد في الحق مجازة وفي العبد حقيقة (فأثبت الحق تعالى أن التكوين للشيء نفسه بجر نفسه تأكيد للشيء لا للحق والذي للحق فيه) أي في التكوين (أمره) أي أمر الحق للشيء بكن .

قال رضي الله عنه : (خاصة وكذا) أي وكإخباره عن نفسه في قوله تعالى : "إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " 40 سورة النحل  .
(اخبر عن نفسه في قوله إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له "كن فيكون" فنسب التكوين) بالنص الإلهي (لنفس الشيء) أي إلى نفس الشيء (عن أمر الله) متعلق بنسب.
فالحق آمر بالتكوين والعبد فاعل به (وهو الصادق في قوله وهذا) أي كون التكوين صفة لنفس الشيء لا للحق (هو المعقول في نفی الأمر) أي لا استحالة فيه عند العقل فلا يحتاج النصوص الواردة في حقه إلى التأويل و لإيضاح هذا الأمر المعقول أورد مثالا في الخارج .
قال رضي الله عنه : (كما يقول الأمير الذي يخاف فلا يعصى) مبنيان للمفعول (لعبده قم ، فيقوم العيد امتثالا لأمر سیده ، فليس للسيد في قيام هذا العبد سوي أمره له بالقيام، والقيام من فعل العبد لا من فعل السيد) .
فكان التكوين من فعل العبد المأمور بكن لا من فعل الحق .
وإنما كان هذا هو الأمر المعقول في نفسه إذ يجوز أن الله أعطى لذلك الشيء وجودا مغايرا لهذا الوجود و به سمع كلام الحق وامتثل أمره .

كما في ذرية آدم عليه السلام حين قال : "ألست بربكم" فسمعوا كلامه وامتثلوا أمره وقالوا : بلي من قبيل هذا الوجود (فقام أصل التكوين على التثليث أي) حصل (من الثلاثة من الجانبين من جانب الحق ومن جانب الخلق).
ولما بين كيفية الإيجاد في الأعيان شرع في بيان الإيجاد في المعاني لكونها من الفتوح، فقال : 
(ثم سرى ذلك) التثليث (في إيجاد المعاني) وهي النتائج (بالأدلة) يتعلق بإيجاد (فلا بد من الدليل) أي في الدليل أن يكون (مركبا من ثلاثة) موضوع النتيجة و محمولها والحد الأوسط وهي أجزاء مادية له (على نظام مخصوص) متعلق بمركبا وهو جزئي صوري له .

(وشرط مخصوص) وهو أن يكون الصغرى موجبة والكبري كلية في الشكل الأول (وحينئذ) أي فحين تحقق هذه المذكورات في الدليل (بنتج) الدليل (من ذلك) أي من أجل تركبه من ثلاثة على نظام مخصوص وشرط مخصوص :
قال رضي الله عنه : (وهو) أي النظام المخصوص أو تركب الدليل من ثلاثة (أن يركب الناظر دليله من مقدمتين كل مقدمة) أي كل واحد منها (تحوي) أي تشتمل (على مفردین) موضوع ومحمول (فیکون أربعة، واحد من هذه الأربعة يتكرر في المقدمتين ليربط إحداهما بالأخرى).
ولإيضاح هذا الأمر المعقول ذکر مثالا في الأمور العينية بقوله:
(كالنكاح) فإن النكاح قائم على ثلاثة أركان زوج وزوجة وولي عاقد والشهود شروط (فيكون) أي فيوجد (فيه ثلاثة لا غير لتكرار الواحد فيهما فیکون) أي فيوجد (المطلوب).
(إذا وقع هذا الترتيب على هذا الوجه المخصوص وهو) أي الوجه المخصوص .
قال رضي الله عنه : (ربط إحدى المقدمتين بالأخرى بتكرار ذلك الواحد المفرد) على صفة اسم الفاعل أي الواحد الذي يجعل الدليل بتكراره فرد (الذي به) أي بسبب ذلك الفرد
(صح التثليث) أي كان الدليل ثلاثة (والشرط المخصوم) هو (أن يكون الحكم) أي المحكوم به في النتيجة (أعم من العلة) كقولنا: 
الإنسان حيوان وكل حيوان جسم فالجسم هو المحكوم به و أعم من العلة وهو الحيوان (أو مساوية لها) 
كقولنا: الإنسان حيوان وكل حيوان حساس فالإنسان حساس والحساس هو المحكوم به ومساو للعلة وهو الحيوان (وحينئذ) أي وحين تحقق الشرط المخصوص (بصدق) أي ينتج القياس نتیجة صادقة .
(وإن لم يكن كذلك) إما بانتفاء النظم والشرط معا أو بانتفاء أحدهما (فإنه) أي الشأن (ينتج) الدليل (نتيجة غير صادقة وهذا) أي كون الدليل منتجا نتيجة غير صادقة (موجود في العالم) عالم الشهادة .
قال رضي الله عنه : (مثل إضافة الأفعال إلى العبد معزاة عن نبتها إلى الله)، وهذا تعريض للمعتزلي ومن تابعهم فإنهم قالوا
العبد خالق لأفعاله (أو إضافة التكوين الذي نحن بصدده إلى الله مطلقا) من غير مدخل للعبد فيه هذا تعريض لبعض أهل النظر من أهل السنة فإنهم قالوا التكوين صفة لله (والحق ما أضافه إلا إلى الشيء الذي قيل له کن) فلا ينتج قياس الفريقين إلا نتيجة غير صادقة إذ أفعال العباد منسوبة إلى الله من وجه وإلى العبد من وجه.
 كذا التكوين منسوب إلى الله من وجه وهو الأمر إلى العبد من وجه .
وهو التكوين فإضافة التكوين إلى الله مطلقا غير صادقة وكذا إضافة الأفعال إلى العبد مطلقة غير صادقة.
ولما بين حقيقة القياس الصحيح وأحواله أورد مثالا لزيادة الانكشاف .
(ومثاله) أي مثال الدليل المنتج نتيجة صادقة (إذا أردنا أن ندل أن وجود العالم عن سبب فنقول كل حادث فله سبب فمعنى الحادث والسبب ثم نقول في المقدمة الأخرى والعالم حادث فتكرار الحادث في المقدمتين والثالث قولنا: العالم فانتج أن العالم له سبب) .
وهو نتيجة صادقة لكون الدليل على نظام مخصوص وشرط مخصوص (فظهر في النتيجة ما ذكر في المقدمة الواحدة وهو السبب) .
وهو قوله : فله سبب (فالوجه الخاص)، وهو قوله على نظام مخصوص (وهو تكرار الحادث والشرط الخاص هو عموم العلة لأن العلة في وجود الحادث السبب) في قوله فله سبب (وهو) أي السبب (عام في حدوث العالم من الله أعني) بقولي وهو عام (الحكم) أي المحكوم به وهو فله سبب .

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالسبت أغسطس 17, 2019 9:32 am

11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زادة على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفقرة الصالحية على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية
قال رضي الله عنه : (فنحكم على كل حادث أن له سببة سواء كان ذلك السبب مساوية للحكم) أي المحكوم عليه وهو كل حادث كما إذا أردنا بالحادث معنی عاما في الحدوث الذاتي والزماني فحينئذ يساوي المحكوم به وهو فله سبب للمحكوم و عليه وهو كل حادث.
(أو يكون الحكم) أي المحكوم به (أعم منه) أي من المحكوم عليه كما إذا أردنا بالحادث حدوث زمانية فحين يكون محمول الكبرى وهو فله سبب أعم من موضوعه وهو كل حادث فاياما كان (فيدخل) المحكوم عليه (تحت حكمه) أي تحت حكم المحكوم به (فنصدق النتيجة) وهو أن العالم له سبب.
(فهذا) أي إيجاد المعاني (أيضا) أي كإيجاد الأعيان قام على التثليث فهذا مبتدأ خبره محذوف للعلم به وهو قام على التثليث.
(قد ظهر) لك بالبيان (حكم التثليث في إيجاد المعاني التي تقتص) أي تكتسب (بالأدلة) فإذا كان أصل التكوين مطلقأ عينا كان أو معنى التثليث (فاصل الكون) الذي حصل من التكوين (التثليث).
(ولهذا) أي ولأجل كون أصل الكون التثليث (كانت حكمة صالح عليه السلام التي أظهرها الله قوله في تأخير أخذ قومه) متعلق بكانت (ثلاثة أيام) منصوب بالتأخير (وعدا غير مكذوب) خبر كانت .
(فأنتج) هذا التثليث وهو ثلاثة أيام (صدقا) أي نتيجة صادقة (وهي) أي النتيجة الصادقة (الصيحة التي أهلكهم الله بها) أي بهذه الصيحة كما أخبر الله عن هلاكهم بقوله : (" فأصبحوا في دارهم جاثمين") أي هالكين (فأول يوم من الثلاثة اصفرت وجوه القوم وفي الثاني احمرت وفي الثالث اسودت فلما كملت الثلاثة صح الاستعداد) بالنتيجة وهي الهلاك .
قال رضي الله عنه : (فظهر کون) أي وجود (الفساد فيهم) بالتثليث (فسمي ذلك الظهور) أي الوجود (هلاكا) لخروجهم عن الوجود الشهادي ودخولهم في الوجود البرزخي فهو كون في الحقيقة لإهلاکه فقام أصل الكون في ذلك أيضا على التثليث .
قال رضي الله عنه : (فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة) أي في مقابلة (اصفرار وجوه السعداء في قوله تعالى:" وجوه يومئذ مسفرة " 38 من السفور وهو الظهور كما كان الاصفرار في أول يوم ظهور علامة الشقاء ، في قوم صالح عليه السلام ثم جاء في موازنة الاحمرار القائم بهم قوله تعالى في السعداء "ضاحكة" فإن الضحك من الأسباب المولدة لاحمرار الوجوه فهي في السعداء احمرار الوجنات ثم جعل في موازنة تغيير بشرة الأشقياء بالسواد قوله تعالى: "مستبشرة ") .
والمقصود قام دخول السعداء في الجنة وهو الكون على التثليث الحاصل في بشرتهم من علامة السعادة .
وقام دخول الأشقياء في النار وهر الكون على التثليث الحاصل في بشرتهم من علامة الشقاء (وهو) أي الوجه المستبشر (ما) أي الذي (أثر السرور في بشرتهم) أي في بشرة السعداء (كما أثر السواد في البشرة الأشقياء ولهذا) أي ولأجل التأثير الحاصل في بشرة الفريقين.
(قال تعالى في) حق (الفريقين بالبشرى أي بقول لهم قولا يؤثر في بشرتهم) أي يؤثر هذا القول في بشرة كل من الفريقين (فيعدل) العبد (بها) أي بسبب هذه البشرى (إلى لون لم يكن البشرة تتصف به) أي بهذا اللون (قبل هذا) اللون (فقال في حق السعداء يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان، وقال في حق الأشقياء "فبشرهم بعذاب أليم ") فأثر في بشرة كل طائفة ما حصل في نفوسهم من أثر هذا الكلام .
(فما ظهر عليهم في ظواهرهم إلا حکم ما استقر في بواطنهم من المفهوم) من مفهوم الكلام (فما أثر فيهم سواهم) بل أثر فيهم أنفسهم
(كما لم يكن التكوين إلا منهم فلله الحجة البالغة) فما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، بإستحقاقهم بما لا يلائم غرضهم .
قال رضي الله عنه : (فمن فهم هذه الحكمة وقررها في نفسه وجعلها مشهودة له أراح نفسه من التعلق بغيره .وعلم أنه لا يؤتى عليه بخير ولا بشر إلا منه وأعني بالخير ما يوافق فرضه ويلائم طبعه ومزاجه وأعني بالشر ما لا يوافق غرضه ولا يلائم طبعه ولا مزاجه ويقيم صاحب هذا الشهود) 
قال رضي الله عنه :  (معاذير الموجودات كلها) مفعول يقيم قوله: (عنهم) أي عن الموجودات يتعلق بيقيم .
(وإن) وصل (لم يعتذروا ويعلم) صاحب هذا الشهود (أنه منه) أي من نفسه .
يتعلق بقوله: (كان كل ما هو فيه) أي في نفسه (كما ذكرناه أولا في أن العلم تابع للمعلوم فيقول لنفسه إذا جاءه ما لا يوافق غرضه) 
قوله : (يداك أو كتا) أي كسبتا (وفوك نفخ) مقول القول وهو مثل مشهور 
("والله يقول الحق وهو يهدي السبيل").
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 9:25 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الجزء الأول

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

قال رضي الله عنه : (فص حكمة قلبية) أي العلوم المنسوبة إلى تقلبات الحق في الصور مودعة (في كلمة شعيبية) أي في روح هذا النبي صلى الله عليه وسلم (اعلم أن القلب أعني قلب العارف بالله) لأن قلب غيره لي قلبا واسعا فلا يعتبر عند أهل التحقيق .
(هو) صادر (من رحمة الله تعالى وهو أوسع منها فإنه وسع الحق جل جلاله) كما قال : "ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي" (ورحمه لا تسعه) إذ لا يقال بلسان العموم أنه مرحوم .
قال رضي الله عنه : و(هذا) أي عدم كون الرحمة واسعة للحق (لسان عموم من باب الإشارة فإن الحق راحم لبس بمرحوم فلا حكم للرحمة فيه) عندهم .
قال رضي الله عنه : (وأما الإشارة من لسان الخصوص فإن الحق وصف نفسه) بلسان نبيه (بالنفس) بفتح الفاء وهو قوله عليه السلام: «إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن ". 
وقد ورد بلفظ "إني أجد نفس الرحمن من ها هنا" ذكره بهذا اللفظ الزبيدي في كتابه إتحاف السادة المتقين، والهندي في كنز العمال ، والبيهقي في الأسماء والصفات. 
وأخرجه الألباني في تراجعاته في الصحيحة (41) "إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن " فهذا شاهد قوي له من حديث سلمة بن نفيل أوجب علي تخريجه هنا والتنبيه على أن الحديث صار به صحيحا والحمد لله على توفيقه وأسأله المزيد من فضله.
قال رضي الله عنه : (وهو مأخوذ من التنفيس وإن الأسماء الإلهية) بحسب الأحدية (عين المسمى) أي عين ذات الحق (وليس ذلك المسمى إلا هو) أي عين الحق .
فلم يكن الأسماء كلها إلا عين الحق (وإنها طالبة ما) أي الذي (تعطيه) أي تعطي الأسماء الإلهية للحق (من الحقائق) بيان لها .
قال رضي الله عنه : (وليست الحقائق التي تطلبها الأسماء) من الحق تعالى (إلا العالم) فإذا كان الأمر كذلك (فالألوهية) وهي اسم المرتبة جامعة الأسماء الذات والصفات والأفعال كلها (تطلب المألوه) وهو اسم للعالم من حيث الوجود .
فكان العالم من حيث المألوهية مظهرة لذات الحق مع جميع لوازمه من الصفات والأفعال إذ وجود العالم عارض لذاته وماهية .
فكان مظهرا لذات الحق مع جميع لوازمه من الصفات والأفعال .
(والربوبية) وهو اسم للحضرة الجامعة لأسماء الصفات والأفعال فقط (تطلب المربوب) وهي اسم للعالم من حيث الوجود مع الصفات التي تلحقه بعد الوجود فكان العالم من حيث الصفة المربوبية مظهرة لاسم الصفات وهي الرب وقد أشار إلى اتحادهما من بعد .
بقوله فأول ما (وإلا) أي وإن لم تطلب الألوهية المألوه والربوبية المربوب لا يكون شيء من المألوه والمربرب موجودة فإذا لم يكن شيء منهما موجودة لا يتحقق بشيء من الألوهية والربوبية فإذا كان نحقق الألوهية والربوبية لكونهما من الأمور الإضافية كالأبوة والنبوة موقوفة على وجود الماء والمربوب .
قال رضي الله عنه : (فلا عين) أي فلا تحقق (لها) للألوهية أو الربوبية (إلا به) أي بالمألوه أو المربوب أو بالعالم (وجودا او تقديرا) أي سواء كان العالم موجودة بالفعل أو مقدر الوجود (والحق من حيث ذاته غني عن العالمين والربوبية ما) أي ليس (لها هذا الحكم) أي حكم الغني عن العالمين وكذلك الألوهية (فبقي الأمر) أي الشان الإلهي (بين ما تطلبه الربوبية وبين ما نستحقه الذات من الغني عن العالم وليست الربوبية على الحقيقة والاتصاق إلا عين هذه الذات) وإن كانت غيرها من وجه فكانت الذات مستحقة بالغني عن العالم من حيث الأحدية ومستحقة بالافتقار إليه من حيث الربوبية .
قال رضي الله عنه : (فلما نعارض الأمر) الإلهي (بحكم النسب) أي بحکم الاسماء باقتضاء بعضها لطفا وبعضها قهرا (ورد في الخبر ما وصف الحق به نفسه) قوله :
من الشفقة على عباده) بيان لما وهو قوله تعالى : "والله رؤوف  بالعباد" [آل عمران: 30] إذ ربوبيته يتحقق بهم فكانت الربوبية أول صفة تطلب من الله وجود العالم ثم الأسماء الإلهية
(فأول ما) أي فأول شيء (نفس) الحق (عن الربوبية) لأنها أول شيء طلب وجود العائم فتنفس عنها أولا دفعة للكرب فشبه بتنفس الإنسان لأن المتنفس ما تنفس إلا لإزالة الكرب .
فكان المتنفس مرحوما لوجدانه الراحة بالنفس فكان الحق مرحوما بنفسه وهو إيجاد العالم تشبيها لا تحقيقا .
فأول مبتدأ وخبره عن الربوبية (بنفسه) يتعلق بنفس أي نفس بسبب نفسه (المنسوب إلى الرحمن بإيجاده العالم) أي هذا النفس الذي نفس به الحق عن الربوبية منسوب إلى الرحمن بسبب إيجاد الحق العالم قوله (بإيجاده) يتعلق بنفس (الذي تطلبه الربوبية عن الله بحقيقتها) أي بحسب اقتضائها الذاتي كما أن استغناء الحق بحسب ذاته وحقيقته كذلك طلب الربوبية بحسب حقيقتها فلما نفس الحق عنها ظهر آثارها فزال الكرب عنها بظهور آثارها .
يعني لو لم يظهر آثارها لتجد الكرب فأظهر الله آثارها لئلا تجد الكرب المحال في حقه تعالى وأسمائه .
(وجميع ) يجوز أن يعطف على الربوبية المجرورة أي نفس عن الربوبية وعن جميع (الأسماء الإلهية) ويجوز أن يعطف على الربوبية المرفوعة أي وتطلبه جميع الأسماء الإلهية وكلاهما حسن لكن يدل على أن المراد هو الوجه الأول قوله في الفص العيسوي : العالم ظهر في نفس الرحمان الذي نفس الله به عن الأسماء الإلهية
قال رضي الله عنه : (فثبت من هذا الوجه) وهو اعتباره من حيث الأسماء والصفات (أن رحمته وسعت كل شيء) اسما كان أو عينا (فوسعت الحق) لأنه عين الأسماء من وجه، فكان الحق مرحوما من حيث الأسماء وليس مرحوما بحسب الذات .
فثبت بلسان الخصوص أن الحق كان راحما ومرحوما بهذا الوجه فعلى لسان الخصوص .
قال رضي الله عنه : (فهي) أي الرحمة (أوسع من القلب) لشمولها القلب والحق من حيث أسمائه والقلب لا يسع نفسه (او مساوية له في السعة) باعتبار أن القلب يسع نفسه من حيث الإحاطة العلمية (هذا مضی) أي تم الكلام في القلب والرحمة وسعتهما (ثم ليعلم أن الحق تعالى كما ثبت في الخبر الصحيح بتحول في الصور عند التجلي) لأهل الحشر في يوم القيامة (و) تتعلم (أن الحق) تعالى (إذا وسعه القلب لا يسعه) أي لا يسع القلب (معه) أي مع الحق (غيره) أي غير الحق (من المخلوقات) بيان لغير الحق.
قال رضي الله عنه : (فكأنه يملاه) أي فكان الحق يملأ القلب (ومعنى هذا) القول (أنه) أي القلب (إذا نظر إلى الحق عند تجليه له لا يمكن للقلب (معه) أي مع نظره إلى الحق (أن ينظر) معه (إلى غيره) الغيوية الغير عن نظره بسبب نظره إلى الحق عند تجلي الحق فلا يمنع ذلك التجلي وجود الغير مع الحق في القلب .
وإنما يمنع نظره إلى الغير فكانت الغيرية مسلوبة في نظره لظهور الحق له في كل شيء فما نظر إلى شيء إلا والحق يظهر له فيه وفي الحقيقة لا يسع نظر القلب إذا نظر إلى الحق مع الحق أو غير الحق .
قال رضي الله عنه : (وقلب العارف من السعة كما) أي مثل الذي (قال أبو يزيد البسطامي لو أن العرش وما حواه) أي مع ما اشتمل عليه (مائة ألف ألف مرة) أي بحيث لا يعد ولا يحصى إلا الله (في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به) لأن القلب يسع تجليات غير متنامية والعرش وما حواه على أي وجه يفرض يكون متناهيا والقلب الواسع بتجليات غير متناهية غير متناه فكيف يحس المتناهي الوجود في زاويته لكون نظر ذلك العارف إلى الحق لا إلى الغير.
""أضاف المحقق : هو عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله البسطامي (475 - 562 هـ) (ضياء الذين) محدث،صوفي، مفسر، فقيه، أديب ، من آثاره: لقطات العقول، أدب المريض والعائد، مزاليق العزلة.""
قال رضي الله عنه : (وقال الجنيد في هذا المعنى) أي في معنى ما قال أبو يزيد (أن المحدث إذا قرن بالقديم) أي إذا تجلى القديم للحادث (لم يبق له أثر) من الوجود لفناء وجود الحادث عند تجلى الذات القديمة له بالصفة القديمة وهذا التجلي لا يكون إلا بالقلب واسع للقديم .
""أضاف المحقق : الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي الخراز (279 هـ - 910 م) (أبو القاسم) الهوني من علماء الدين مولده ومنشأه ووفاته في بغداد، كان يعرف بالقواريري نسبة إلى عمله بالقوارير، وعرف أيضا بالخزاز لأنه كان يعمل بالخز، قال أحدهما: حريره ما رأت عيناي مثله، الكتبة يحضرون مجلسه لألفاظه والشعراء لفصاحته والمتكلمون لمعانيه. وهو أول من تكلم بعلم التوحيد في بغداد.""
قال رضي الله عنه : (وقلب يسع القديم كيف يحس بالمحدث) قوله : (موجودا) حال من المحدث (وإذا كان الحق يتنوع تجلبه للقلب في الصور) كما يتحول في الصور عند التجلي في الخبر الصحيح (فبالضرورة يتسع القلب ويضيق بحسب الصورة التي يقع فيها التجلي الإلهي) فيتبع القلب في السعة والضيق بهذا التجلي وإنما يتسع ويضيق بها (لأنه) أي لشأن (لا بفضل من القلب شيء عن صورة ما يقع فيها التجلي) حتى يسع في القلب غيرها معها فيسعها فيضيق غيرها وإنما لا يفضل .
قال رضي الله عنه : (فإن القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محل فص الخاتم من الخاتم لا بفضل شيء) عن محل فص الخاتم .
بل يكون المحل (على قدره) أي على مقدار الفص (وشكله من الاستدارة إن كان الفص مستديرة أو من التربيع والتسديس والتثمين وغير ذلك من الإشكال إن كان الفم مربعة أو مسدسة او مثمنة او كان من الإشكال فإنه محله من الخاتم يكون مثله) أي مثل الفص (لا غير) .
وفي تشبيه الإنسان الكامل حلقة الخاتم إشارة إلى أن الوجود دوري أي ابتداء من الله وإليه ينتهي .
وفي تشبيه القلب محل الفص إشارة إلى أن المقصود من الإنسان القلب لكونه محلا للتجليات الإلهية فالتجليات الواقعة فيه بمنزلة النقوش الواقعة في فص الخاتم .
فتم المقصود وهو القلب كما تم المقصود من الخاتم وهو الفص .
وهذا بالنسبة إلى الفيض الأقدس وأما بالنسبة إلى الفيض المقدس فالأمر بالعكس .
"" أضاف الجامع :
الفيض الأقدس يقول الشيخ ابن العربي:
 " والثبوت أمر وجودي عقلي لا عيني بل نسبي ….
" تشكل الأعيان الثابتة مرتبة بين الحق في غيبه المطلق وبين العالم المحسوس . 
فهي من ناحية أول تنزل من تنزلات الحق من مرتبة بطونه ، إنها (الفيض الأقدس) الذي يمثل ظهور الحق بنفسه لنفسه في صور الأعيان الثابتة . 
وهي من ناحية ثانية ( المثال ) الثابت في علم الله المعدوم في العالم الخارجي والذي له الأثر في كل موجود بل هو أصل الموجودات …أهـ
الفيض المقدس تقول د. سعاد  الحكيم : إن الخلق عند الشيخ ابن العربي ليس إيجاد من عدم مطلق بل هو في الواقع ظهور ، ظهور للغيب أو للباطن ، فالتجلي ظهور وبالتالي يكون من الاسم الظاهر .
" التجلي الإلهي الذي يكسب الممكنات الوجود هو الفيض المقدس .
ونستطيع أن نشبه هذا لتجلي الذي يخرج الممكنات من (الغيب) إلى (الشهادة) بالصورة التالية:
غرفة مظلمة تحتوي على مجموعة من الأشياء ، ولكن الظلام لا يسمح بتمييز شيء آخر ، ففي الظلام تتحد كل الأشياء ، ولكن إذا أنرنا الغرفة توجد هذه الأشياء بأشكالها وذاتيتها فالنور أظهر الأشياء ، وهكذا التجلي فهو النور الذي أظهر ( محتويات الغيب ) فأوجدها. ""
لذلك قال : (وهذا) أي ما أشرنا إليه من أن القلب يكون على قدر تجلي الحق (عكس ما تشير إليه الطائفة من أن الحق يتجلى على قدر استعداد العبد وهذا) أي ما أشارت إليه الطائفة (ليس كذلك) أي ليس مثل ما أشرنا إليه .
قال رضي الله عنه : (فإن العبد يظهر للحق على قدر الصورة التي يتجلى له) أي للعبد (فيها) أي في تلك الصورة (الحق) فحينئذ يتبع التجلي للمتجلي له فهذا بالنسبة إلى الفيض المقدس.
فالمراد بقوله : وهكذا عكس ما تشير إليه إعلام منه باختصاص إظهار هذا المعنى بنفسه رضي الله عنه .
فكان هذا القول منه متضمنا لدعوى التفرد فإن هذا المعنى مع كونه واجب البيان لكونه من أعظم مسائل الفن وهي مسائل التجليات الإلهية لم يظهر من أحد غيره. فاستحق بدعوى التفرد ليوازي هذا المعنى وهو العكس العين في الاهتمام بلا تفرقة مع أنهم لم يبينوا ذلك .
قال رضي الله عنه : (وتحرير هذه المسألة) أي مسألة نجلي الحق للقلب (ان لله تجليين تجلي غیب وتجلي شهادة فمن تجلي الغيب يعطى الاستعداد الذي يكون عليه القلب) فيكون على قدر ذلك التجلي (وهو) أي التجلي الغيبي (التجلي الذاتي الذي هو الغيب حقيقة) فلا يزال هذا التجلي عن الغيب أبدا فكان هذا التجلي من الاسم الباطن والفيض الأقدس الذي يكون المتجلي له على حسب التجلي.
قال رضي الله عنه : (وهو) أي التجلي الذاتي الغيبي (الهوية التي يستحقها بقبوله عن نفسه) قوله : (هو) راجع إلى الحق فاعل يستحقها .
أي يستحق الحق تلك الهوية عن ذاته فإذا استحق الحق هذا التجلي لذاته (فلا يزال هو) أي ذلك التجلي (له) أي للحق (دائما ابدأ) فلا يظهر الحق في هذا التجلي للعبد بل يظهر العبد للحق بصورة هذا التجلي فلم يرى العبد والتجلي الذاتي الغيبي الحق بل يراه في التجلي الشهودي الذي يترتب على التجلي الاستعدادي .
وإليه أشار بقوله: (فإذا حصل له أمني للقلب هذا الاستعداد) الحاصل من التجلي الغيبي (تجلى له) أي تجلى الحق للقلب على قدر ذلك الاستعداد (تجلي الشهودي في الشهادة) .
وهذا التجلي من الاسم الظاهر والفيض المقدس الذي يكون التجلي على حسب المتجلي له وهو ما أشارت إليه الطائفة من أن الحق يتجلى على قدر استعداد العبد.
(فرآه) أي رأى القلب الحق في صورة ذلك التجلي (فظهر) الحق للقلب (بصورة ما تجلی) الحق (له) أي للقلب (كما ذكرناه فهو تعالى أعطاه) أي القلب أو العبد (الاستعداد) من التجلي الغيبي فيكون القلب مستعدة بالتجلي الشهودي (بقوله) أي بدليل قوله تعالى: " أعطى كل شيء خلقه " [طه: 50] .
إشارة إلى إعطاء الاستعداد (ثم هدى) إشارة إلى التجلي الشهودي (ثم رفع الحجاب) بسبب التجلي الشهودي (بينه وبين عبده فرآه) أي العبد الحق .
قال رضي الله عنه : (في صورة معتقده فهو) أي الحق المرئي له (عین اعتقاده) إذ هو المتجلي له بصورة اعتقاده فما رآه إلا بها فإذا كان الحق عین اعتقاد العبد (فلا يشهد القلب) في الحقيقة بعين البصيرة (و) لا يشهد (العين) الحسنة (أبدا إلا صورة معتقده في) مرآة (الحق) فلا يشهد الحق بل يشهد الحق الاعتقادي وهو صورة نفسه في الحقيقة (فالحق الذي في المعتقد) اسم مفعول (هو الذي وسع القلب صورته وهو) أي الحق الذي وسعه القلب صورته.
قال رضي الله عنه : (هو الذي تجلى له) أي القلب بحسب اعتقاده (فيعرفه) أي فيعرف القلب الحق لكون التجلي على حسب ظنه كما قال (أنا عند ظن عبدي) فإذا تجلى على خلاف اعتقاده فلا يعرفه بل ينكره.
(فلا ترى العين) عند التجلي في الآخرة (إلا الحق الاعتقادي) أي الحق الثابت في اعتقاده لا غير قال رضي الله عنه : (ولا خفاء في تنوع الاعتقادات) بحسب الأشخاص الإنسانية ولا خفاء في تنوع التجليات بحسب الاعتقادات فمنهم من قيد الحق ومنهم من أطلقه.
(فمن قيده) أي من قيد الحق وحصره في صورة اعتقاده كأصحاب العقول، (أنكره) إذا تجلى له (في غير ما قيد به وأقر به فیما قید، به إذا تجلى) له فيما قيد به فهو منكر في صورة غير صورة اعتقاده ومقر في صورة هي عين صورة اعتقاده .
قال رضي الله عنه : (ومن أطلقه) أي أطلق الحق (عن التقييد لم بنکره واقر له في كل صورة يتحول) أي يتنوع ويتجلى له (فيها) كأصحاب القلوب من الكمال والعارفين (ويعطيه)....
.
يتبع


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الإثنين نوفمبر 11, 2019 9:30 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 9:26 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الجزء الثاني

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

أي ويعطي الحق (من نفسه) أي من عند نفسه (قدر) أي عظمة (صورة ما تجلى له فيها إلى ما لا يتناهی) فيعظم الحق في صورة غير متناهية ولا يحصر التعظيم في صورة غير مصورة ويعرفه في كل صورة ويعبده فيها .
قال رضي الله عنه : (فإن صورة التجلي ما) أي ليس (لها نهاية) حتى (يقف) المتجلي له (عندها) أي عند تلك الصورة فكما أن التجلي من الله ما له نهاية (وكذلك العلم  بالله ما) أي ليس (له غاية في العارفين) حتى (يقف) العارف (عندها) إذ العلم ينبع التجلي قوله (بل هو العارف) ضمير الشأن قوله : 
قال رضي الله عنه : (في كل زمان) متعلق بقوله : (يطلب الزيادة) أي من الله (من العلم به "رب زدني علما " "رب زدني علما " "رب زدني علما "  فالأمر الإلهي لا يتناهي من الطرفين) وهو التجلي من طرف الحق والعلم من طرف العارف فلما تكلم في مقام الكثرة وأحوالها رجع إلى مقام الوحدة وأحوالها.
فقال : (هذا) المذكور (إذا قلت الأمر حق وخلق) أي إذا نظرت امتيازهما وجمعت بين التشبيه والتنزيه فقد أثبت الحق والخلق .
قال رضي الله عنه : (وإذا نظرت في قوله تعالی كنت رجله التي يسعى بها ويده التي يبطش بها ولسانه الذي يتكلم به إلى غير ذلك من القوى ومحلها) أي المحل (التي هي الأعضاء لم تفرق) بين الحق والخلق (فقلت الأمر) أي الموجود (حق كله) هذا إن كان الوجود للحق والعبد مرآة له (أو خلق كله) هذا إن كان الوجود العبد والحق مرآة له.
فلما ذكر هذا التفصيل أشار إلى المقام إلا على مقام الكمل بقوله: (فهو حق بنسبة) أي بوجه (وخلق بنسبة) فلا يحجب العارف بالنظر إلى أحدهما عن الآخر بل جمع بينهما بنظر واحد .
(والعين) القابلة لهذه الاعتبارات المختلفة (واحد) في ذاته لا يندد بقبول الاعتبارات الكثيرة فإذا كان العين وهي حقيقة الوجود واحدة .
قال رضي الله عنه : (فعين صورة ما تجلی) أي صورة المتجلي (عين صورة ما قبل ذلك التجلي فهو) أي الحق المتجلي بوجه والمتجلي له بوجه، وإن اختلفت الأحكام في المتجلي (والمتجلي له فانظر ما أحجب أمر الله من حيث هويته) فإنه واحد في حد ذاته لا تعدد ولا كثرة فيه لأنه غني عن العالمين من هذا الوجه .
قال رضي الله عنه : (ومن حيث نسبته إلى العالم في حقائق أسمائه الحسنى) فإنه مثکثر بهذا الوجه فلا ينافي وحدة ذاته فإنه واحد بالذات كثير بالأسماء فإذا كانت العين واحدة في الأمور المتكثرة.
شعر :
فمن ثم و ما ثمه ... و عين ثم هو ثمه
فمن قد عمه خصه ... و من قد خصه عمه
فما عين سوى عين ... فنور عينه ظلمه
فمن يغفل عن هذا ... يجد في نفسه غمه
وما يعرف ما قلنا  ... سوى عبد له همه 
قال رضي الله عنه : (فمن ثمة) أي في الوجود أو في العالم استفهام الأولي العقول (وما ثمة) استفهام لغير ذوي العقول (وعين ثمة) أي في ذوي العقول (هو) أي العين الذي في ذوي العقول (ثمة) أي عين العين الذي في غير ذوي العقول معناه أخبر وفي عين العقلاء وغير العقلاء.
أي شيء هما في الوجوه والحال أن العين الذي في العقلاء هو العين الذي في غير العقلاء فليس في الوجود إلا هو لا غير .
والذي ظهر في صورة العقلاء في مرتبة هو الذي ظهر في صورة غير العقلاء في مرتبة أخرى فإذا كان كذلك .
فمن قد عمه خصه ... و من قد خصه عمه
قال رضي الله عنه : (فمن قد عمه) أي الذي عم العين إلى الأفراد المخصوصة .
(خصه) أي خص ذلك العين لا غير إذ العالم يقتضي خاصة ليشمله (ومن) قد (خصه) أي جعله خاصة تحت عام (عمه) ذلك الحين الذي جعله خاصة إذ الخاص يقتضي
العام أيضا لكونهما من الأمور المتضائقة التي لا يدرك أحدهما بدون الآخر .
فالعين واحدة ظهرت في مرتبة بصورة العموم وأخرى بصورة الخصوص فالضمائر عائدة إلى العين باعتبار الوجود أو باعتبار الحق
عين سوی عین   ….. فنور عينه ظلمة 
(فما) أي فليس. مع أن النور متضاد للظلمة إذ لا تضاد في الأشياء من حيث الوجود والحقيقة .
فإذا التضاد يقتضي الغير ولا غير بهذا الوجه فلا تضاد
فمن يغفل عن هذا ... يجد في نفسه غمه
(فمن يغفل عن هذا) المقام مقام الوحدة (يجد في نفسه) أي في قلبه (غمة) بضم الغين المعجمة أي الظلمة وهي حجاب الكثرة
وما يعرف ما قلنا  ... سوى عبد له همه 
(ولا يعرف ما قلنا ) من أن العين واحدة في حد ذاته وكثيرة الأسماء والصفات (سوی عبد له همة) أي الذي لا يقنع بظواهر العلوم التي تحصل بنظر العقل بل يطلب العلم الذي يحصل عن كشف إلهي وهو صاحب قلب .
كما قال تعالى في القرآن المجيد ("إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب").
فإن كلام الشيخ لمعنى القرآن ففي ذلك أيضا لذكرى لمن كان له قلب وإنما اختص الذكرى لمن كان له قلب (لتقلبه) أي تتقلب القلب (في أنواع الصور والصفات) فيعلم أن الحق هو المتجلي في كل صورة ويعبده فيها فيدرك الأمر على ما هو عليه ولا يحصره في وصف دون وصف بل يعم جميع أنواع الصفات كما هو الأمر في نفسه كذلك .
فالمراد بالذكرى مشاهدة العين الواحدة في صور كثيرة أو التذكر ما نسيه من مشاهدة الحق بسبب ظهوره في هذه النشأة العنصرية فهذه المشاهدة لا تكون إلا لمن له قلب.
قال رضي الله عنه : (ولم يقل) الحق (لمن كان له عقل فإن العقل قيد فيحصر الأمر في نعت واحد والحقيقة تأبي الحصر في نفس الأمر) فلا يعلم ذو العقول الأمر على ما هو عليه في نفسه.
(فما هو) أي ليس القرآن (ذكرى لمن كان له عقل) فإن القرآن أنزل لبيان ما هو الأمر عليه في نفسه والعقل لا يوصل إليه بنظره الفكري.
(وهم) أي من كان له عقل (أصحاب الاعتقادات) الجزئية (الذين يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا) لحصرهم الحق في صورة اعتقادهم الخاص ونفيهم عن غيره من الاعتقادات بخلاف أصحاب القلوب فإنهم لا يكفروا أحدا إلا بلسان الشرع لا بلسان الحقيقة.
فلا منازعة عذر أصحاب القلوب في شيء وإنما النزاع والمخالفة بين أصحاب الاعتقادات.
(فما لهم من ناصرين) أي ليس لأصحاب الاعتقادات عند عجزهم نصرة من إلههم .
قال رضي الله عنه : (فإن إله المعتقد ما) أي ليس (له حكم في إله المعتقد الآخر) حتى ينصر لعبده المعتقد له فإن النصرة دفع المكاره الواصلة له عن يد المعتقد الآخر.
فإذا لم يكن لإله المعتقد حكم إله المعتقد الآخر لم يكن له حكم في معتقد ذلك الإله فلم يكن لإله المعتقد نصرة لمعتقده.
ولا يفيد طلب النصرة من آلهة عند المكاره لأن الحق منزه عن ذلك الاعتقاد فهو ليس بطالب النصرة عن الحق بل طالب عما طابق صورة اعتقاده.
فلا تأثير له أصلا فلا يدفع المضرة عن عبده ولا ينصره (فصاحب الاعتقاد يذب) أي يدفع (عنه أي عن الأمر الذي اعتقده في إلهه) أي اعتقد أن ذلك الأمر إلهه يدفع عنه ما يخالفه في اعتقاده كأصحاب النظر فإن بعضهم يدفع عن الإله الذي في اعتقاده ما أثبت له البعض مما يخالف اعتقاده.
قال رضي الله عنه : (وينصر، وذلك الذي في اعتقاده لا ينصره) فكان صاحب الاعتقاد إلها لآلهة وهو لا يشعر بذلك (وهذا الاعتقاد) أي اعتقاد أصحاب العقول من أهل الشرع (مقبول عند الله) لانقيادهم للشرع واستفادتهم هذا الاعتقاد منه لأنه ليس في وسع كل أحد أن يشاهد الحق على إطلاقه حتى كلف بهذا الاعتقاد "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها".
والمراد بإيراد هذا الكلام بيان مراتب الناس في العلم بالله لا تقبیح اعتقاد أرباب العقول من أهل الشرع.
قال رضي الله عنه : (ولهذا) أي ولأجل أن إله المعتقد لا ينصره عند التجائه (لا يكون له) أي لإله المعتقد (أثر في اعتقاد المنازع له ولا المنازع ما له نصرة من إلهه الذي في اعتقاده فما لهم من ناصرين) من إلههم الذي في اعتقادهم عند إصابة المكاره وأما إلههم في نفس الأمر وهو الإله الحقيقي لا الاعتقادي فهو ينصرهم ويدفع عنهم المكاره.
قال رضي الله عنه : (فنفي الحق النصرة عن آلهة) أصحاب (الاعتقادات على انفراد كل معتقد على حدته) بقوله فما لهم من ناصرين أي لا ينصر إله كل واحد من المعتقدين لمعتقديه.
والحال أن كل واحد من المعتقدين ينصر آلهة.
وهذه الآية وإن كانت في حق الكفار لكنها إشارة إلى أحوال أصحاب الاعتقادات يعني كما أن الكفار لا ينصر لهم إلههم الذي في اعتقادهم في رفع العذاب عنهم في الآخرة كذلك إله المعتقد لا ينصره في الدنيا في دفع المكاره عنه.
(والمنصور) الثابت بالنص الإلهي وهو أن تنصروا الله (المجموع) أي الحضرة الجمعية الأسمائية لا المنفرد (والناصر) الثابت بالنص وهو ينصركم الله (المجموع) أي تلك الحضرة يعني أن تنصروا الله في مظهر ينصركم الله في مظهر.
فهذه الحضرة الجامعة ناصر ومنصور في المظاهر وهو رب الأرباب رب أصحاب القلوب فنفى الحق النصرة عن الأرباب المتفرقة التي في اعتقادات أصحاب العقول وأثبت النصرة للاسم الجامع لاسم الله الذي في قلوب العارفين.
كما قال : "ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبد المؤمن التقي النقي" فظهر أن أهل الحجاب لا ينصرون الله بل ينصرون ما في اعتقادهم تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
ولا يأتون ما أمر الله بهم من النصرة وهم لا يشعرون بذلك.
قال رضي الله عنه : (فالحق عند العارف هو المعروف الذي لا ينكر فأهل المعروف في الدنيا لهم) الذين عرفوا الحق في الدنيا في صور تجلیانه.
قال رضي الله عنه : (هم أهل المعروف في الآخرة) إذا تحول في الصور عند التجلي فلا ينكرونه فيها (فلهذا) أي فلأجل كون أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة.
(قال) إن في ذلك لذكرى ("لمن كان له قلب") فإن من لم يكن أهل القلب لم يكن أهل المعروف بخلاف أهل العقل فإنه لا يتقلب في الصور فلم يعلم تقليب الحق في الصور فينكر الحق إذا تجلى وظهر له على خلاف اعتقاده.
قال رضي الله عنه : (فعلم) القلب (تقليب الحق في الصور بتقليبه) أي بتقليب نفسه (في الإشكال فمن نفسه عرف نفسه)
أي فمن علم تقليب نفسه في الصور عرف تقليب ذات الحق في الصور والضمير في نفسه الثاني يجوز أن يرجع إلهه الحق وإلى العارف الثاني أظهر .
فلما أتم الكلام في هذا المقام في مراتب الكثرة شرع في بيان الوحدة بقوله: 
قال رضي الله عنه : (وليست نفسه بغير) أي وليست نفس العارف مغايرة (لهوية الحق) من حيث الوجود والأحدية (ولا شيء من الكون) أي من الموجودات أيضا (مما هو كائن ويكون بغير لهوية الحق بل هو) أي الموجود (عين الهوية) الإلهية .
قال رضي الله عنه : (فهو) أي الحق (العارف والعالم والمقر في هذه الصورة) أي في صورة زيد أو عمرو مثلا .
(وهو الذي لا عارف ولا عالم وهو المنكر في هذه الصورة الأخرى) يعني كل ما ظهر في المراتب المتعينة مستندة إلى الحق تعالی من حيث الحقيقة لأنه موجه الأشياء كلها من الذوات والصفات والأفعال .
وأما من حيث التعين فالأفعال مستندة إلى من ظهرت عنه فالعالم في الصورة الزيدية هو الحق من حيث الحقيقة أنه خالق زید مع جميع أوصافه وأفعاله .
ومن حيث التعين العالم هو زيد لا الحق فعين زيد هو عين الحق من حيث أحدية الوجود وغيره من حيث التعين المشخص له فزيد عمرو فزيد ليس بعمرو .
فإن من ظهر بالصورة الزيدية هو الذي ظهر بالصورة العمروية فزيد عمرو بهذا الوجه وليس بعمرو بالتعين .
هكذا نسبتك مع الحق وما ميزك عن الحق إلا إمكانك وما ميز الحق عنك إلا وجوبه الذاتي.
وأما سائر الحقائق الكلية العلم والحياة والقدرة و غير ذلك فإنها تقضي الشمول بحقيقته على الواجب والممكن فلا يتصور نميز الشيء بالنسبة إليها على ما هو شأن الأمور الكلية .
فكل شيء واحد بحسب الأمور الكلية (وهذا) أي علم تقليب الحق في الصور المتنوعة عند التجليات (حظ) أي نصيب (من عرف الحق من التجلي والشهود). قوله : (في عين الجمع) يتعلق بعرف أي عرف الحق في عين الجمع من مشاهدة تقليبات نفسه في الصور لا حظ من عرف  الحق، بالنظر العقلي .
(فهو) أي الحظ المذكور وهو المراد من (قوله لمن كان له قلب يتنوع في تقليبه) أي في تقليب الحق في الصور أو في تقليب نفسه في الصور .
فالمراد من قوله : "لمن كان له قلب"  الأنبياء والرسل عليهم السلام والأولياء وهم أهل القلوب .
هذا هو أهل الإيمان الذي تخلصوا عن قيد التقليد ونالوا درجة التحقيق في الإيمان وهم المسمى بأهل الحقيقة عند الصوفيين .
قال رضي الله عنه : (وأما أهل الإيمان وهم المقلدة الذين قلدوا الأنبياء والرسل عليهم السلام فيما أخبروا به عن الحق) 
وقوله : (لا من قلد أصحاب الأفكار) توبيخ للفلاسفة ومن قلدهم فالمراد بأصحاب الأفكار الفلاسفة قوله : (و) لا من قلد (المتأولين الأخبار الواردة بحملها على أدلتهم العقلية) توبيخ للمعتزلة ومن تابعهم حيث لم يعدهم من أهل الإيمان ولا فرق بين متأول النصوص ومنكره عنده في أنه ليس من أهل الإيمان .
هذا إذا عارض النص الأدلة العقلية ، وأما إذا تعارضت النصوص فالتأويل الشرعي واجب توفيقا لأحكام الشرعية .
فتأويل أهل السنة بعض الأحكام على مقتضى الشرع وتأويل المعتزلة على مقتضى العقل فما قلدوا الأنبياء عليهم السلام من الفرق إلا أهل السنة.
قوله : (فهؤلاء الذين فقدوا الرسل) عليهم السلام جواب أما (هم المرادون بقوله: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) سوة ق"
قال رضي الله عنه :  "أو القى السمع") وإلقاء السمع القبول (لما وردت به الإختبارات الإلهية على السنة الأنبياء عليهم السلام) من غير التفات إلى الأدلة العقلية .
قال رضي الله عنه : (وهو يعني هو الذي ألقى السمع) للإخبارات الإلهية ("وهو شهيد") أي شاهد ومؤمن بتقليب الحق في الصور بسبب إلقاء سمعه للإخبارات الإلهية لأنه عارف من تقليب نفسه في الصور تقليب الحق في الصور يسمونه أهل الله مؤمنا.
فمن لم يكن فمن كله له قلب أو ممن ألقى السمع فليس بمؤمن عند أهل الله .
فإيمان صاحب القلب إيمان عيني وإيمان صاحب السمع إيمان بالغيب المطلق بما هو الأمر عليه في نفسه .
قال الإمام علي رضي الله عنه : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا 
مع أنه مكشوف الغطاء لكن مراده إخبار عن هذا المقام فمن تفرق عن أهل السنة والجماعة فليس بمؤمن عندهم لعدم نصيبهم من هذه الآية.
بل نصيبهم من قوله : "إذ تبرأ الذين أتبعوا من الذين اتبعوا" (ينبه) الحق بقوله أو ألقى السمع وهو شهيد (علی حضرة الخيال) وهي قوة من القوى الإنسانية التي تظهر فيها الصور الخيالية (و) على (استعمالها) فإن إلقاء السمع يدل على استعمال حضرة الخيال فهذا التنبيه من الله أمر باستعمال القوة الخيالية ونهى عن استعمال القوة المفكرة .
فإن من استعمل القوة الفكرية يسد عليه باب الكشف لذلك منع أهل الله عن الطالب الاشتغال بظواهر العلوم التي تحصل عن استعمال القوة النظرية وجعل مشغولا بالذكر لتسكين المفكرة عن حركاتها .

قال رضي الله عنه : (وهو) أي معنى قوله: "أو ألقى السمع وهو شهيد" معنى (قوله عليه السلام في الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه).
وقال في حديث آخر (والله في قبلة المصلي) الذي يصلي كأنه يراه.
(فلذلك) أي فلكون الحق في قبلة ذلك المصلي (هو) أي المصلي الذي يصلي ، يصلي بالحضور (شهيد) للحق فمن لم يصل الله كأنه يراه فهو ليس بمصلي ، فليس بشهيد للحق لذلك قالوا: لا صلاة إلا بالحضور.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 9:31 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي


كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الجزء الثالث

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية


قال رضي الله عنه : (ومن قلد صاحب نظر فكري وتقيد به) أي بالنظر الفكري في تحصيل المجهولات وقد أدرج في هذا القسم المعتزلي ومن قلده فإن المعتزلي فمن قلدوا الفلاسفة في التمسك في تأويلات بعض الإخبارات الإلهية (فليس هو الذي ألقى السمع فإن هذا الذي القى السمع لا بد أن يكون شهيدا لما ذكرناه).
من تقليب الحق في الصور وهذا الذي تقید بنظر الفكري تم يكن شهدا لما ذكرناه (ومن لم يكن شهيدا لما ذكرناه بما هو المراد بهذه الآية فهؤلاء) أي الذين كانوا صاحب العقل (هم الذين قال الله فيهم :"وإذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" والرسل لا يتبرأون عن اتباعهم الذين اتبعوهم) .
يعني أن المتبعين أما الرسل وإما أصحاب النظر، أما الرسل فهم لا يتبرأون عن إتباعهم بل يشفعون "في" عصاتهم.
فلا يصح هذا النص في حقهم فتتعين الآية لأصحاب النظر وتخصهم فأصحاب النظر كالفلاسفة وأمثالهم لظهور سوء حالهم في الآخرة تبرأوا عن مقلديهم.
ولما كانت هذه المسألة من أعظم مسائل العلوم الإلهية وأركانها وأهمها علما اوصی للطالبين بتحقيقه.
فقال رضي الله عنه  : (فحقق يا ولي) أي صاحبي (ما ذكرته لك في هذه الحكمة القلبية وأما اختصاصها) أي اختصاص الحكمة القلبية (بشعيب عليه السلام لما فيها من التشعب أي شعبها) أي شعب القلبية (لا تنحصر لأن كل اعتقاد شعبة) من القلب .


قال رضي الله عنه : (فهي شعبه كلها قوله أعني الاعتقادات) تفسير للضمير (فإذا انكشف الغطاء) أي إذا ارتفع الحجاب عن الأبصار يوم القيامة (انكشف لكل أحد بحسب معتقده) والمراد بالمعتقد، المعتقد بوحدانية الحق دون المشرك .
فإن المشرك ليس بشيء من الاعتقاد في الحق أصلا بل يحدث الاعتقاد عند المعاينة وقد ينكشف الغطاء (بخلاف معتقده في الحكم) فإن بعض أهل الاعتقاد يعتقد في الحق حكمة وبعضهم يعتقد بخلاف ذلك الحكم (وهو) أي انكشاف الغطاء بخلاف المعتقد .
معنى (قوله) تعالى (وبدا) أي ظهر (لهم) أي لأهل الاعتقاد (من الله ما لم يكونوا يحتسبون) أي لم يعتقدوا حصول هذا الشيء من الله لهم بل يعتقدون خلافه (فأکثرها) فأكثر اختلافات الاعتقاد حاملة (في الحكم كالمعتزلي يعتقد في الله نفوذ الوعيد في العاصي إذا مات على غیر توبة فإذا مات) ذلك المعتزلي بغير توبة (وكان مرحوما عند الله قد سبقت له عنابة بأنه لا يعاقب وجد الله غفورا رحيما فيدا له) حكم (من الله ما لم يكن يحتسبه) فقد انكشف له الغطاء بخلاف معتقده في الحكم هذا هو الانكشاف بخلاف المعتقد في الحكم .
قال رضي الله عنه : (وأما) اختلاف الاعتقادات (في الهوية فإن بعض العباد يجزم في اعتقاده أن الله كذا وكذا) كناية عن الهوية (فإذا انكشف الغطاء رأی صورة معتقده وهي حق) في نفسه (فإعتقدها في الدنيا على أنه حق وانحلت العقدة) وهي عقدة الاعتقاد وهي الحجاب على القلب المانع من الانكشاف .
قال رضي الله عنه : (فزال الاعتقاد) لزوال العقدة (وعاد) أي رجع علم بالاعتقاد (علما بالمشاهدة) فلم يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون بل كل ما بدا لهم من الله من هوية الحق في الصورة فهو مما يحتسبونه منه فيعتقدونه قبل کشف الغطاء فما هو المراد بقوله تعالی : ("وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون") [الزمر : 47] .
فكان بصرهم حديدا برفع كلالة النظر فشاهدوا الحق بالمعاينة على وفق اعتقادهم في الدنيا .
وهم الذين قلدوا الرسل ويؤمنون بتجليات الحق في الصور فلا يظهر لهم خلاف اعتقادهم لأن الحق هو الذي على اعتقادهم لعدم تقييدهم الحق في اعتقادهم في صورة .
وهم الذين قال في حقهم "أو ألقى السمع وهو شهد" ، ونرجوا أن مصداق الآية في هذه الأمة أهل السنة والجماعة دون غيره من الفرق فإن اعتقاد أهل السنة تقييد تجلي الحق بعموم فيعم تجلي الحق في جميع الصور الاعتقادية .
فلا ينحصر الحق في اعتقادهم فلا يكفر أحد إلا لحصره الحق في الصورة الحاصلة في اعتقاده من الحق ولا كذلك المعتزلة وغيرها.
فإنهم قيدوا الحق في اعتقادهم في صورة مخصوصة ونفوا غيرها عن الحق
قوله: (وبعد احتداد البصر) أي وبعد ظهور الحق للعباد بظهور تام (لا يرجع كليل النظر) أي لا يحصل الخفاء التام رد لقول أهل التناسخ فإنهم ذهبوا إلى أن العبد بعد الموت يأتي إلى الدنيا مرارة فكل نظره عن الحق بعد احتداده لوقوع الحق في الخفاء التام
فهم قسمان :
قسم قالوا بالتناسخ في حق الكمل لزعمهم أنهم يأتي لتحميل النافعين .
وقسم في جميع الأفراد الإنسانية
وكلاهما مردود
قال رضي الله عنه : (فيبدوا) الحق (لبعض العبيد باختلاف التجلي في الصور عند الرؤية) في يوم القيامة كما جاء في حديث التحول (على خلاف معتقده) أي يظهر له الحق على خلان اعتقاده (لأنه لا يتكرر) التجلي (فيصدق عليه في الهوية فبدا لهم من الله في هويته ما لم يكونوا يحتسبون) الحق (فيها) أي في الدنيا (قبل کشف الغطاء) فقد يفهم مما ذكر أن هذه الآية لا تصدق على أهل السنة فإنهم وان اثبتوا للحق الصفات الثبوتية والسلبية في اعتقادهم لكنهم لم يحصروا الحق بهذا الاعتقاد .
بل قالوا: بعد تقیید الحق بهذا الاعتقاد فالله تعالى منزه عن تصورات أذهاننا وتصديقات قلوبنا فهذا صورة التعميم فيعم اعتقادهم في الدنيا جميع صور التجليات وإن لم يشعروا بذلك فلا يصدق عليهم في الهوية .
فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون بخلاف المعتزلة وغيرهم من الفرق فإنهم لحصرهم هوية الحق في اعتقادهم يصدق عليهم في الهوية .
فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون فظهر من هذا الكلام ترقي العباد بالموت مؤمنا كان أو غير مؤمن .
لكنه لا ينفع ترقي من لا يقلد الأنبياء ويدل على دلالة كلامه السابق على الترقي قوله: (وقد ذكرناه صورة الترقي بعد الموت في المعارف الإلهية في كتاب التجليات لنا عند ذكرنا بعض من اجتمعنا به من الطائفة في الكشف) وهي أكابر الأولياء كالجنيد والشبلي وأبي يزيد وغيرهم (وما) أي الذي (أفدناهم في هذه المسألة مما) أي من الذي لم يكن عندهم، فقد استفادوا هذه المسألة من الشيخ بعد الموت فيحصل الترقي في العلم بالله بعد الموت (ومن أعجب الأمور أنه) أي الإنسان ثابت (في الترقي دائما) من ابتداء سيره إلى انتهائه بحسب العوالم باعتبار كل يوم هو في شأن فيترقی الإنسان من شأن إلى شأن آخر .
قال رضي الله عنه : (ولا يشعر بذلك) الترقي (للطائفة الحجاب ورقته) فإن الترقي حجاب لطيف ورقيق لا يشعر به صاحبه في كل زمان فرد ولا يشعر بذلك (لتشابه الصور مثل قوله تعالى: «وأتوا به، متشابها" (البقرة: 25] .
في حق أهل الجنة فإن عدم تميزهم بين الأثمار لإتيانها متشابها في الصور فلذلك قالوا عند الآيتان : "هذا الذي رزقنا من قبل " .
قال رضي الله عنه : (وليس هو) ضمير شأن أسم ليس (الواحد) مفسر له (عين الآخر) خبره أي وليس ذلك المشابه الواحد عين المشابه الآخر (فان الشبيهين عند العارف) من حيث (انهما شبیهان) قوله : (غير أن) خبر أن في قوله فإن الشبيهين وشبيهان خبر أن في قوله أنهما .
قال رضي الله عنه : (وصاحب التحقيق يرى الكثرة) أي قبل ظهورها حال كونها (في) قوة (الواحد كما يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية) كالحي والعليم والقادر فإن مدلول الحي من له الحياة والعلوم من له العلم والقادر من له القدرة وهي حقائق اسمائية مختلفة .
قال رضي الله عنه : (وإن اختلفت حقائقها وكثرت إنها) أي تلك الحقائق المتكثرة (عين واحدة) بحسب الوجود الخارجي وهي الذات الواجب الوجود .
(فهذه) أي مدلولات الأسماء (كثرة معقولة) أي يكون بالقوة (في عين) أي في حقيقة (الواحد) الواجب الوجود المشهود (فتكون هذه الكثرة المعقولة في التجلي) أي في الظهور (كثرة مشهودة في عين واحدة) معقولة .
فتسترت الهوية الإلهية بعد التجلي بصور الأكوان فكانت معقولة بعد أن كانت مشهودة كما أن النواة مشهودة والشجر معقول فيها قبل ظهوره وبعد الظهور .
فالنواة معقولة فيه والشجر مشهود ولتفهيم مرتبة أهل الكشف في العلم بالله لأهل النظر شبه هذه المسألة إلى مسألتهم المعلومة المسلمة عندهم حتى يعلموا علو درجتهم في العلم ورجعوا عن طريقهم طريق النظر إلى طريق الكشف 
قال رضي الله عنه :  : (كما أن الهيولي تؤخذ في حد كل صورة وهي) أي الهيولى المأخوذة (مع كثرة الصور واختلافها ترجع) هذه الهيولى المأخوذة مع الكثرة وهي الهيولی الجزئية (في الحقيقة إلى جوهر واحد) كلي (وهو هيولاها الكلية فمن عرف نفسه بهذه المعرفة) أي من عرف أن نفسه هي حقيقة الحق ظهرت بهذه الصورة وهي حق مأخوذ في حده .
(فقد عرف ربه) لانتقاله من المفيد إلى المطلق وهو رب الأرباب كلها بمنزلة الهيولی الكلية فمن عرف نفسه بغير هذه المعرفة كما هو أهل النظر لم يعرف ربه فوجب معرفة النفس بهذه المعرفة .
قال رضي الله عنه : (فإنه) أي الحق (على صورته) أي على صفته الكاملة (خلقه) أي الإنسان (بل هو) أي بل الإنسان (عين هوينه وحقيقته) نثبت أن من عرف نفسه بهذه المعرفة فقد عرف ربه .
قال رضي الله عنه : (ولهذا) أي ولأجل أن حقيقة النفس عین هوية الحق (ما عثر) أي ما اطلع (أحد من العلماء والحكماء على معرفة النفس وحقيقتها إلا الإلهيون من الرسل) .
(و) الأكابر من (الصوفية) وهم الذين حصل لهم العلم عن الوحي وعن کشف إلهي لا عن نظر فكري .
قال رضي الله عنه : (وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلمين في كلامهم في) معرفة (النفس وماهيتها فما منهم من عثر) أي فليس أحد منهم اطلع (على حقيقتها ولا يعطيها) أي ولا يعطي معرفة النفس لأحد .
قال رضي الله عنه : (النظر الفكري ابدا فمن طلب العلم بها) أي بماهية النفس (من طريق النظر الفكري فقد استسمن) أي طلب حصول سمان (ذا ورم ونفخ في غير ضرم) أي نفخ في غير ما يوقد به النار وهما ضرب مثل يستعمل في طلب حصول أمر من غير طريقه .
(لا جرم أنهم) أي الذين طلبوا معرفة النفس من طريق النظر كانوا (من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون) أي يظنون (أنهم يحسنون صنعا) أي يفعلون فعلا حسنة .
(فمن طلب الأمر من غير طريقة فما ظفر بتحقيقه) أي فما وصل حقيقة ذلك الأمر وهذا كله إظهار المرتبة أهل النظر في العلم.
ولما فرغ عن بيان تقلبات القلب وأحواله شرع في تبدلات العالم لكونه نوعا من التقليب وقال: قال رضي الله عنه : (وما أحسن ما قال الله تعالى في حق العالم وتبدله مع الأنفاس في خلق جديد في عين واحدة فقال في حق طائفة بل) في حق (أكثر العالم) بفتح اللام (بل هم في لبس من خلق جديد فلا يعرفون تجديد الأمر مع الأنفاس)، وهم المحجوبون بتشابه الصور عليهم (ولكن قد عثرت عليه) أي على تجديد الخلق أو على تبدل العالم (الأشاعرة في بعض الموجودات وفي الإعراض) 
فإنهم قالوا: العرض لا يبقى زمانين (وعثرت عليه) أي على التبدل (الحسبانية) وهم السوفسطائية (في العالم كله وجهلهم) أي جهل الجسمانية من التجهيل (أهل النظر بأجمعهم) مع أنهم علموا الأمر في ذلك على ما هو عليه في نفسه
قال رضي الله عنه : (ولكن أخطأ الفريقان أما أخطاء الحسبانية فبكونهم ما عثروا مع قولهم في التبدل في العالم بأسره على أحدية عين الجوهر المعقول الذي قبل هذه الصورة ولا يوجد) ذلك الجوهر المعقول في الخارج .
(إلا بها) أي إلا بتلك الصورة (كما لا تعقل) تلك الصورة (إلا به) أي بالجوهر (فلو قالوا بذلك) أي بأحدية عين الجوهر (فازوا بدرجة التحقيق في الأمر) فإنهم حينئذ كانوا من العارفين الأمر على ما هو عليه .
قال رضي الله عنه : (وأما الأشاعرة فلما علموا أن العالم كله مجموع أعراض) أي العالم كله عبارة عن أعراض مجتمعة في جوهر واحد قائمة به (فهو يتبدل في كل زمان إذ العرض لا يبقى زمانين) فخطا الحسبانية في أمر واحد والأشاعرة في أمرين .
(ويظهر ذلك) أي العالم كله أعراض أو يظهر خطأ الأشاعرة (في الحدود للأشياء فإنهم إذا حدوا الشيء تبين في حدهم تلك الأعراض و) تبين (أن هذه الأعراض المذكورة في حده) أي في حذ ذلك الشيء المحدود .
قال رضي الله عنه : (عين هذا الجوهر) الذي ظهر فيه الأعراض (وحقيقته) قوله (القائم بنفسه) صفة الجوهر (ومن حيث هو عرض) أي القائم بذاته من حيث هو عرض إذ العرض عين ذلك الجوهر (لا يقوم) ذلك الجوهر (بذاته فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه) وهي الأعراض (من يقوم بنفسه) الذي هو الجوهر (كالتحيز في حد الجوهر القائم بنفسه الذاتي) أي التحيز جزء لماهية الجوهر فإنهم حذوا الجوهر بأنه هو الجسم المتحيز القابل للأبعاد وهي الأعراض .
قال رضي الله عنه : (وقبوله) أي قبول الجوهر (للاعراض حد له ذاتي ولا شك أن القبول عرض إذ لا يكون إلا في قابل لأنه لا يقوم بنفسه وهو) أي القابل .
قال رضي الله عنه : (ذاتي للجوهر والتحيز عرض ولا يكون إلا في متحيز فلا يقوم بنفسه وليس التحيز والقبول بأمر زائد على عين الجوهر المحدود . لأن الحدود الذاتية هي عين المحدود وهويته فقد صار ما لا يبقى زمانين ، يبقى زمانين وازمنة ،وعاد ما لا يقوم بنفسه ، يقوم بنفسه) 
فكان أحدهما عين الآخر فالعالم كله عرض يتبدل في كل آن 
(ولا يشعرون) .
أي الأشاعرة أو المحجوبون (لما هم عليه) من الخطأ وهو المناقضة والمخالفة بما ذهبوا إليه.
فإنهم قالوا: العالم أما قائم بنفسه أو غير قائم بنفسه
الأول الجوهر 
والثاني العرض .
ثم قالوا: يتبدل العرض لا الجوهر وعرفوا الجوهر بالعرض فكان الجوهر عين العرض لاتحاد الحد والمحدود فقد لزمهم بمقتضى حدودهم بأن العالم كله عرض قائم بذاته تعالى بتبدل في كل آن لكنهم لا يشعرون لما لزمهم من المحذور بمقتضى حدودهم (وهؤلاء) أي طائفة المحجوبين قال رضي الله عنه : (هم في ليس من خلق جدید) ولا يشعرون بأن الله بخلقهم في كل آن خلقة جديدة.
قال رضي الله عنه : (وأما أهل الكشف فإنهم يرون) أي يشاهدون (أن الله يتجلى في كل نفس ولا يكرر التجلې) لحصول الفناء والبقاء في كل آن فينا في التكرار (ويرون ايضا شهودا أن كل تجلي يعطي خلقا جديدا ويذهب بخلق فذهابه) أي ذهاب الخلق السابق (هو الفناء عند التجلی) اللاحق لكن لما كان التجلي الثاني من جنس الأول التبس الأمر على المحجوبين ولا يشعرون التحدد .
قال رضي الله عنه : (والبقاء لما يعطيه التجلي الآخر) وهو التجلي الموجب للبقاء بالخلق الجديد (فافهم)، فإن الأمر هو ما نقول دون غيره .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 9:32 pm

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية
ولما التجأ لوط عليه السلام إلى الله لضعف نفسه وقوة قومه بقوله : "لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد" نسب الحكمة الملكية في كلمته عليه السلام (الملك) بفتح الميم وسكون اللام (الشدة والمليك الشديد يقال : ملكت العجين إذا شددت عجينة قال قيس بن الخطيم يصف طعنته) بشدة ضربه العدو بالرمح.
"" أضاف المحقق : من أهم المسائل التي تثار في هذا الفص مسألة "القوة" مصدرها وظهورها في الإنسان، وصلتها بقوته الروحية المسماة بالهمة، ومتى يجب عليه أن يستخدمها في التصرف بوساطة هذه القوة، ومتى ينبغي عليه أن يكف عن هذا التصرف.""
شعر قيس بن الخطيم الأوسي :  
ملكت بها كفي فانهرت فتقها ... يرى قائماً من دونها ما وراءها
أي فأوسعت فتق الطعنة حتى (يري قائم من دونها ما وراءها) أي يري القائم ما وراء الطعنة من جانب آخر (أي شددت بها كفي يعني الطعنة فهو) أي الملك المذكور مستفاد (عن قول الله على لسان لوط عليه السلام وهو).
أي قول الله تعالى: "لو أن لي بكم قوة " لمقاومتكم "أو آوي" أي التجأ   "إلى ركن شديد" [هود: 80] إلى قبيلة غالية على الأعداء.
(فقال رسول الله عليه السلام: يرحم الله أخې لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، فنبه عليه السلام أنه كان مع الله مع كونه شديدا) فكان غالبا على أعدائه مع نصرة الله من ركن شدید فكان له أبو طالب رکنا شدیدا . أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة
(والذي قصد لوط عليه السلام) مبتدأ (القبيلة) خبره ( بالركن الشديد ) يتعلق بقصد ( والمقاومة ) عطف على القبيلة ( بقوله : "لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً" يتعلق بقصد ( وهي الهمة هنا من البشر خاصة ) أي القوة الروحانية المؤثرة في النفوس لا القوة الجسمانية .
فإن القوة الروحانية أقوى تأثيرا من القوى الجسمانية فطلب لوط عليه السلام من اللّه لمقاومة قومه القوة الروحانية وهي الهمة هنا من البشر خاصة وهي همة الأنبياء والأولياء لا همة عامة في جميع البشر ( فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمن ذلك الوقت يعني من الزمن الذي قال فيه لوط عليه السلام :أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍما بعث نبي بعد ذلك إلا في شدة ومنعة من قومه ) يمنعون شرّ العدوّ منه الحديث.
هكذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم يرحم اللّه أخي لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد فمن ذلك الوقت ما بعث نبي بعد ذلك إلا في منعة من قومه ( فكان يحميه قبيلته ) أي يحفظونه ويمنعون عن ضرر عدوّه ( كأبي طالب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فقوله له :أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) يعني إنما قال لوط عليه السلام هذا القول .
( لكونه عليه السلام سمع اللّه يقول اللّه الذي خلقكم من ضعف بالأصالة ) فالضعف منشأ ومبدأ للخلق ( ثم جعل من بعد ضعف قوة فعرضت القوة ) على الضعف الأصلي ( بالجعل ) أي بالخلق الجديد ( فهي قوة عرضية ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة فالجعل تعلق بالشيبة ) لكونها أمرا وجوديا عرضيا كالقوة وأوجدها الحق سبحانه بالخلق الجديد ( وأما الضعف فهو رجوع إلى أصل خلقه وهو قوله "خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ") وهو عدم القوة فلا يتعلق الجعل به
فإن قلت :
فكيف يصح هذا التوجيه فإن قوله تعالى : " ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً " [ الروم : 54 ] ظاهر في تعلق بهما قلنا : صدقتم في قولكم هذا لكنه لما كان الشيب صفة عارضية للإنسان اعتبر المصنف تعلق الجعل إليه بمعنى الإيجاد .


ولما كان الضعف وصفا أصليا له اعتبر الجعل إليه بمعنى الردّ إلى أصله لذلك قال : ( فردّه ) أي ردّ اللّه الإنسان ( لما ) أي إلى ما ( خلقه منه ) وهو الضعف والشيبة سبب موجب لرد الشيء إلى أصله وهو الضعف وأورد دليلا على أن الضعف بعد القوة رد على أصله لا يتعلق به الجعل.
قوله تعالى : ( كما قال الشيخ رضي الله عنه :  "وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً " [ النحل : 70 ] فذكر ) في هذه الآية ( أنه ردّ ) الحق الإنسان ( إلى الضعف الأول ) فلا يتعلق الجعل إلى الضعف فإن الرد رجوع إلى الأصل فينافي تعلق الجعل إليه فازداد الإنسان بالشيخوخة إلى الضعف الأول ( فحكم الشيخ حكم الطفل في الضعف ) لذلك ناسب حركة الشيخ الطفل ( وما بعث نبي إلا بعد تمام الأربعين وهو زمان أخذه في النقص والضعف فلذا ) أي فلأجل إدراك لوط عليه السلام معنى قول اللّه بالنور الإلهي.
( قال :" لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " مع كون ذلك ) أي مع وجود القوة الجسمانية ( يطلب همة مؤثرة ) فظهر أن ما طلب لوط عليه السلام ليس بقوة جسمانية .
( فإن قلت : وما يمنعه من الهمة المؤثرة وهي موجودة في السالكين ) يتصرفون بها في بعض الأشياء ( من الاتباع والرسل عليهم السلام أولى بها ) أي بالهمة المؤثرة ( قلنا : صدقت ولكن نقصك ) أي منعك عن التصرف ( علم آخر وذلك أن المعرفة لا تترك للهمة تصرفا فكلما علت معرفته ) أي معرفة الشخص ( نقص تصرفه بالهمة وذلك ) أي منع المعرفة التصرف بالهمة .
قال رضي الله عنه :  ( لوجهين الوجه الواحد لتحققه ) أي لتحقق العارف ( بمقام العبودية ونظره إلى أصل خلقه الطبيعي ) الذي هو الضعف وهذه المعرفة والنظر إلى أصله تمنع لوطا عليه السلام عن التصرف بالهمة مع وجود الهمة فيه .
قال رضي الله عنه :  والوجه الآخر أحدية المتصرف والمتصرف فيه فلا يرى ) من اطلع هذا المقام ( على من يرسل همته فيمنعه ) عن التصرف ( ذلك ) العلم فعلم من ذلك أن المعرفة تمنع العارف عن التصرف وأن من تصرف من الأنبياء عليهم السلام والأولياء رضوان اللّه عليهم إنما هو بأمر اللّه تعالى.
( وفي هذا المشهد ) أي وفي مقام شهود الأحدية ( يرى ) المشاهد ( أن المنازع له ) وللأنبياء عليهم السلام والأولياء رضوان اللّه عليهم .
قال رضي الله عنه :  ( ما عدل عن حقيقته التي هو ) أي المنازع ( عليها ) أي على تلك الحقيقة ( في حال ثبوت عينه وحال عدمه فما ظهر في الوجود إلا ما كان له (في حال العدم في الثبوت فما تعدى حقيقته ولا أضل طريقته ) فكما أن الأنبياء عليهم السلام والأولياء رضوان اللّه عليهم ما عدلوا عن حقائقهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم من الطاعة لأمر اللّه .
كذلك المنازع لهم ما عدل عن حقيقته التي هو عليها من المخالفة لهم كل ذلك بتقدير اللّه وإرادته فما ثمة أي أحد تعدى حقيقته وأضل طريقته فلا نزاع في الحقيقة.
قال رضي الله عنه :  ( فتسمية ذلك نزاعا ) مطلقا وإنما قلنا : مطلقا فإن أهل اللّه يسمى نزاعا بحسب الأمر التكليفي ولا يسمى نزاعا بحسب الأمر الإرادي وأما أهل الحجاب فيسمون نزاعا مطلقا ( إنما هو ) عائد إلى التسمية باعتبار النزاع ( أمر عرضي أظهره الحجاب الذي على أعين الناس ) المانع للاطلاع على سر القدر فإنهم لعدم وقوفهم بسر القدر يزعمون أن الناس كلهم قابل للهداية واتباع الرسل عليهم السلام فيما جاءوا بهم وما يعلمون أن كلا موافق لطريقته التي عينت لهم في الأزل من عند اللّه بحسب اقتضاء عينهم الثابتة في العلم لذلك يسمون عدم اتباع الكفار نزاعا ومخالفة مطلقا فلو علموا ما علم أهل الكشف ما كانوا يسمونه نزاعا مطلقا بل يسمونه نزاعا من وجه واتباعا من وجه.
( كما قال اللّه تعالى فيهم ) أي في حق أهل الحجاب (" ووَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ") [ الأعراف : 187 ] . سر القدر
قال رضي الله عنه :  ( يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا )أي ما ظهر في نشأتهم الدنيوية ( وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ )أي عن النشأة الأخروية التي يظهر عندها سر القدر( هُمْ غافِلُونَ )وهم الذين قلوبهم في غلاف ( وهو ) الغافل ( من ) باب ( المقلوب فإنه ) أي الغافل مأخوذ ( من قولهم :"قُلُوبُنا غُلْفٌ" أي
في غلاف ) فقلب اللام والفاء بالقلب المكاني فكان أصل غافلون غافلون أي غالفون قلوبهم في غلاف الحجاب ( وهو ) أي الغلاف ( لكن الذي يستره ) أي يستر القلب ( عن إدراك الأمر على ما هو عليه ) وهذا الكن هو الذي ذكر الحق في قوله تعالى :" إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً " [ الكهف : 57 ] . ( فهذا ) أي التحقيق بمقام العبودية والنظر إلى أصل الخلقة والاطلاع على أحدية التصرف والمتصرف فيه .
قال رضي الله عنه :  ( وأمثاله يمنع العارف من التصرف بالهمة في العالم ويدل عليه ما قال الشيخ أبو عبد اللّه محمد بن قائد للشيخ أبي السعود بن الشبلي لم لا تتصرف فقال أبو السعود تركت الحق يتصرف لي كما يشاء يريد قوله تعالى آمرا :فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا فالوكيل هو المتصرف )
فاتخذ أبو السعود الحق وكيلا يتصرف ( ولا سيما وقد سمع ) أبو السعود أن ( اللّه يقول وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فعلم أبو السعود والعارفون ) بالعلم الشهودي .
قال رضي الله عنه :  ( أن الأمر الذي بيده ليس له وأنه مستخلف فيه ) أي في ذلك الأمر وإفراد الضمائر باعتبار الكل إذ اللام في العارفون للاستغراق أي فعلم كل واحد من العارفين ( ثم قال له ) أي لأبي السعود ( الحق هذا الأمر الذي استخلفتك فيه وملكتك إياه اجعلني واتخذه فيه وكيلا ) أي فقد تجلّى اللّه لأبي السعود في هذه الآية ( فامتثل أبو السعود أمر اللّه فاتخذوه وكيلا فكيف يبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر همة يتصرف بها والهمة لا تفعل إلا بالجمعية التي لا يتسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه وهذه المعرفة تفرقه ) أي تفرق صاحبها .
قال رضي الله عنه :  ( عن هذه الجمعية فيظهر المعارف التام المعرفة بغاية العجز والضعف قال بعد الأبدال للشيخ عبد الرزاق رحمه اللّه قل للشيخ أبي مدين بعد السلام عليه : يا أبا مدين لما لا يعتاض علينا شيء ) إذا أردنا حصوله يحصل بتصرفنا ويلين لنا ولا ينازعنا .
"" أضاف المحقق : الشيخ أبو مدين :هو شعيب بن الحسن المغربي الأنصاري الأندلسي ( ت 589 هـ - 1193 م ) ( أبو مدين ) صوفيّ خافه المنصور لكثرة أتباعه . من تصانيفه : أنس الوحيد ونزهة المريد في علم التوحيد ، الحكم ، حكم أبي مدين"".
قال رضي الله عنه :  ( وأنت تعتاض عليك الأشياء ) أي لا يتبع على مرادك يعني نحن نتصرف وأنت لا تتصرف ( و ) الحال ( نحن نرغب في مقامك وأنت لا ترغب في مقامنا وكذلك كان ) أبو مدين يعتاض عليه الأشياء فلا يتصرف وغيره يرغب هو في مقام غيره ( مع كون أبي مدين كان عنده ذلك المقام ) وهو مقام الإبدال صاحب التصرف ( وغيره ) أي وغير ذلك المقام ( ونحن أتم في مقام الضعف والعجز منه ) أي من أبي مدين ( ومع هذا قال له هذا البدل ما قال وهذا ) أي الذي منع أبا مدين من التصرف ( من ذلك القبيل ) أي من قبيل ما يمنع أبا السعود وأمثاله من التصرف وهو المعرفة التامة .
قال رضي الله عنه :  ( أيضا ) كأبي السعود وغيره من العارفين فظهر أن للبدل الذي قال لأبي مدين نصف من المعرفة ولو علم ما قال له لعلمه أن العارف لا يتصرف بالاختيار بل بالجبر والأمر من اللّه تعالى ( وقال صلى اللّه عليه وسلّم في هذا المقام عن أمر اللّه له بذلك ) المقام وهو مقام العجز والضعف ( ما أدري ما يفعل بي ولا ) أدري ما يفعل ( بكم أن اتبع إلا ما يوحى إليّ فالرسول يحكم ما يوحى إليه به ما ) أي ليس ( عنده غير ذلك ) أي غير الوحي ( فإن أوحي إليه بالتصرف ) بجزم ( تصرف وإن منع امتنع وإن خير اختار ترك التصرف ) لظهوره بمقام العبودية من العجز والضعف ( إلا ) استثناء منقطع .
قال رضي الله عنه :  ( أن يكون ) المخير ( ناقص المعرفة ) فإنه اختار التصرف لعدم علمه بمقام عبوديته .
قال رضي الله عنه :  ( قال أبو السعود لأصحابه المؤمنين به إن اللّه أعطاني التصرف ) أي أعطاني قدرة للتصرف وخيرني فيه ( منذ خمس عشر سنة وتركناه تطرفا ) أي اختيارا ولم يقل وتركناه لكمال المعرفة مع علمه بذلك إظهارا لعجزه وضعفه وتنبيها للمخاطبين على أن المقام الأصلي مقام العبودية وتأدبا بمقام العبودية حيث لم يثبت لنفسه كمال المعرفة مع حصولها له .
وإلى هذا أشار المصنف بقوله : ( وهذا ) الذي ذكر أبو السعود لأصحابه في وجه ترك التصرف وهو قوله تركناه تطرفا ( لسان إذلال ) أي لسان عبودية وفناء لا لسان بيان عن الحقيقة فليس التطرف وجها في ترك التصرف في حق الكاملين وإنما الوجه فيه كمال المعرفة وهو لسان الوجود وبينه.
بقوله : ( وأما نحن ما تركناه تطرفا وهو تركه إيثارا وإنما تركناه لكمال المعرفة ) أي نحن نقول في وجه ترك التصرف على ما هو الأمر عليه وهو لكمال المعرفة ولا نقول كما يقول أبو السعود وهو للتطرف وليس الأمر على ما يقوله فترك لسان الإذلال .
واختار لسان الوجود لكونه مأمورا بالبيان عن حقيقة الأمر ولم يظهر هذا المعنى إلا بقوله لكمال المعرفة بخلاف أبي السعود فإنه مختار في الإظهار لذلك لم يكشف الأمر لأصحابه مع علمه بحقيقة الأمر .
كما قال في حقه فكيف يبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر همة فإن من شهد هذا المشهد يعلم أنه أيّ شيء منعه عن التصرف وإنما اختار أبو السعود هذا اللسان تعليما لأصحابه طريق الفناء والتوحيد وهو بذل النفس وترك التصرفات بالاختيار ( فإن المعرفة ) أي كمال المعرفة ( لا تقتضيه ) أي التصرف ( بحكم الاختيار ) فلا اختيار للعارف في التصرف .
ولما يوهم ظاهر كلام أبي السعود أن العارف يتصرف بالهمة عن اختيار قال هذا لسان إذلال.
(فمتى تصرف العارف بالهمة في العالم فعن أمر إلهي وخبر لا باختيار ولا شك أن مقام النبوة يطلب التصرف لقبول الرسالة ) إذ التصرف سبب لقبول الرسالة ( التي جاء ) الرسول ( بها ) أي بهذه الرسالة ( فيظهر عليه ) أي على الرسول جاز كونه من الإظهار فكان فاعله ضميرا عائدا إلى التصرف أو من الظهور فاعله ( ما يصدّقه ) أي الذي يصدق الرسول في دعوى الرسالة ( عند أمته وقومه ) من المعجزات.
وكذلك ( ليظهر ) من الإظهار فاعله ضمير عائد إلى الرسول أو من الظهور فاعله ( دين اللّه والولي ليس كذلك ومع هذا ) أن الرسول يحتاج إلى التصرف في إظهار الدين ( فلا يطلبه ) أي التصرف ( الرسول في الظاهر ) أي من حيث النشأة العنصرية وأما من حيث النشأة الروحانية يطلب التصرف لذلك وإنما لا يطلب الرسول التصرف وهو إظهار المعجزة ( لأن للرسول الشفقة على قومه فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجة عليهم فإن في ذلك ) أي في ظهور الحجة ( هلاكهم ) اسم أن والظروف مقدم خبره ( فيبقى ) من الإبقاء (عليهم ) حجابهم لتعطفهم ( وقد علم الرسول عليه السلام أيضا أن الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة فمنهم من يؤمن عند ذلك ) أي عند ظهور المعجزة ( ومنهم من يعرفه ويجحده ولا يظهر التصديق به ظلما وعلوّا وحسدا ومنهم من يلحق ذلك بالسحر والإيهام ) أي الشعبذة ( فلما رأت ) أي شاهدت ( الرسل ذلك ) الأمر من أعيان قومه ( و ) رأت ( أنه ) أي الشأن ( لا يؤمن ) أحد وإن ظهرت المعجزة له ( إلا من أنار اللّه قبله ) في علمه ( بنور الإيمان ) الأزلي ( ومتى لم ينظر الشخص بذلك النور المسمى إيمانا ) عند الظهور فلا يظهر التصديق عن مثل هذا الشخص لعدم تنور قلبه بنور الإيمان الأزلي ( فلا ينفع في حقه الأمر المعجز ) فإذا علمت الرسل هذه الأحوال من قومهم ( فقصرت الهمم ) أي همم الرسل ( عن طلب الأمور المعجزة ) من اللّه لإظهار دين اللّه وإنما قصرت همم الرسل عن طلب المعجزة .
( لما لم يعم أثرها ) أي أثر المعجزة ( في الناظرين ) كله فإن بعض ناظري المعجزة لا يقرّ بها أي لا يؤثر المعجزة في ناظري المعجزة ( ولا ) يعم أثرها ( في قلوبهم ) فإن بعض قلوب الناظرين لا يصدق به فكان من الناظرين من يقرّ بلسانه ويجحد بقلبه وهم المنافقون لذلك قال ولا في قلوبهم فيختص أثر المعجزة من الناظرين لمن نوّر اللّه قلبه بنور الإيمان الأزلي فقصرت المعجزة فقصرت الهمم ولو عمت لعمت.
( كما قال في حق أكمل الرسل واعلم الخلق وأصدقهم في الحالإِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فلا أثر للهمة ( ولو كان للهمة أثر ولا بد لم يكن أكمل من رسول اللّه عليه السلام ولا أعلى درجة وأقوى همة منه وما أثرت ) همة ( في إسلام أبي طالب عمه فيه ) أي في حق أبي طالب ( نزلت الآية التي ذكرناها وكذلك قال في الرسول أنه ما عليه إلا البلاغ ) وهو قوله تعالى :" فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ " [ النحل : 82 ] فنفى عنه ما عدا التبليغ .
( وقال لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فنفى عنه هدايتهم كل ذلك نفي لتأثير همته مع كونه أكمل البشر بل أكمل الموجودات .
ولما كان إيضاح هذه المسألة موقوفة على سر القدر بينه بقوله ( وزاد ) الحق تعالى نفى أثر الهمة ( في سورة القصص وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي بالذين أعطوه ) أي الحق ( العلم بهدايتهم في حال عدمهم بأعيانهم الثابتة فأثبت ) الحق ( إن العلم تابع للمعلوم ) .
فإذا كان العلم تابعا للمعلوم.
قال رضي الله عنه :   ( فمن كان مؤمنا ) أي فمن كان أعطى العلم للحق بإيمانه ( في ثبوت عينه وحال عدمه ظهر بتلك الصورة في حال وجوده وقد علم اللّه ذلك ) أي الإيمان ( منه أنه هكذا يكون ) أي الذي كان مؤمنا في حال عدمه يكون مؤمنا في وجوده الخارجي ( فلذلك ) العلم ( قال "هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" فلما قال مثل هذا ) القول وهو قوله :" وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " ( قال أيضا ما يبدل القول ) وهو حكم اللّه بإيمان البعض وكفر البعض ( لديّ لأن قولي على حد ) أي على حسب (علمي في خلقي "وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ" أي ما قدرت عليهم ) أي على العبيد .
( الكفر الذي يشقيهم ) بدون اقتضاء أعيانهم الثابتة وطلبهم مني .
( ثم طلبتم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به ) حتى لا أكون ظالما للعبيد فكل أمر الحق بهم ما ليس في وسعهم من أحوال عينهم الثابتة وهذا هو الكلام الذي قطع عرق الحبر عن كليته فلا ظلم أصلا فلا جبر قطعا لا صرفا ولا متوسطا إذ ما مآل الجبر الظلم فلا يصح الجبر أصلا كما لا يصح الظلم .
قال رضي الله عنه :  ( بل ما عاملناهم إلا بحسب ما علمناهم وما علمناهم إلا بما أعطونا من نفوسهم بما عليه ) في حال عدمهم فما كان اللّه ظالما للعبيد في هذه المعاملة ( فإن كان ظالما ) هذا مجرد تقدير وفرض لإلزام الخصم ( فهم الظالمون ) لأنفسهم لا الحق لاقتضاء أعيانهم الثابتة هذا الظلم وطلبته من اللّه فما فعل الحق بهم بظلم إلا ما فعلوا بأنفسهم من الظلم فما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ولذلك قالوَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فلما كانوا هم الظالمين.
قال رضي الله عنه  : (وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ) فما طلب الحق منهم بما ليس في وسعهم إلا على حسب اقتضاء أعيانهم في حال عدمهم فكما أن ما عاملناهم إلا بحسب ما أعطونا من نفوسهم من العلم بهم.
قال رضي الله عنه :  ( كذلك ما قلنا ) والمراد من القول التكاليف الشرعية أي ما أمرنا ( لهم إلا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا و ) ومن أن ( لا نقول كذا ) فكما أعطى الحق لهم ما طلبت ذواتهم من الكفر أو الإيمان وغيره من الأحوال كذلك أعطى الحق لذاته تعالى ما اقتضت ذاته من القول كذا وعدم القول كذا.
قال رضي الله عنه :  ( فما قلنا إلا ما علمنا ) من ذاتنا ( أنا نقول قلنا القول منا ) أي الأمر التكليفي يدل على ذلك قوله : ( ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السماع منهم ) فإن عدم الامتثال لا يمكن في الأمر الإرادي .
(فالكل منا ومنهم ... والأخذ عنا وعنهم)
( فالكل ) أي القول والامتثال وعدم الامتثال ( منا ) أي من الحق من وجه.
قال رضي الله عنه :  ( ومنهم ) أي من العبيد من وجه ( والأخذ ) أي التعذيب بمن لم يمتثل الأمر التكليفي ( عنا ) أي عن الحق ( وعنهم ) أي عن العبيد فهم كانوا منا
( أن لم يكونوا منا فنحن لا شك نكون منهم )
تحقيقا للعبودية والربوبية فإذا إذا لم يكن الحق منهم على تقدير عدم كونهم من الحق لم يتحقق الربوبية والعبودية .
فكون الحق منهم محال بالضرورة فكانوا من الحق والحق ليس منهم وأما الأحوال التي بينهم وبين الحق فهي كلها منه ومنهم ويجوز أن يكون معناه فالكل أي إعطاء الكل منا ومنهم والأخذ أي أخذ الكل عنا وعنهم فكان الحق معطيا وآخذا والعبد معطيا وآخذا فهذا هو المعاملة بين الرب والعبد إن لم يكونوا يأخذون منا ما لم يعطونا أوّلا .
فنحن لا شك نأخذ عنهم ما لم أعطه قبله لهم وهو العلم فإن علمه بهم يأخذ عنهم ولم يعطه أوّلا ذلك العلم لهم لأن علمه تعالى تابع لمعلومه بخلاف العبد فإنه لا يمكن له أن يأخذ عن الحق ما لم يعطه للحق أوّلا إلا الوجود بل الوجود أيضا فائض عليهم من اللّه تعالى على حسب طلبهم ولاشتمال هذا الفص على المسائل الكلية اللطيفة أوصى بالتحقيق.
قال : ( فتحقق يا وليّ هذه الحكمة الملكية من الكلمة اللوطية فإنها لباب المعرفة)
(فقد بان لك السر ...  وقد اتضح الأمر)
(فقد بان)  أي ظهر ( لك السرّ ) أي سرّ القدر . ( وقد اتضح الأمر ) الذي اشتبه على علماء الظاهر .
(وقد أدرج في الشفع ... الذي قيل هو الوتر)
( وقد أدرج في الشفع ) أي في الخلق ( الذي ) قائم مقام الفاعل لأدرج ( قيل هو الوتر ) أي الحق كما أن الاثنين يحصل من الواحد كذلك الخلق يحصل من الحق .
فأدرج الحق في الخلق كما أدرج الواحد في الاثنين.
يعني أن تحققت الحكمة الملكية يظهر لك هذه المذكورات التي لا وسع لكل أحد أن يطلع عليها .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس نوفمبر 21, 2019 3:14 am

14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
 14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية
ولما كان العزيز عليه السلام بعينه الثابتة واستعداده الأصلي طالبا للمعرفة بسرّ القدر بقوله :" أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها"  [البقرة : 159 ] اختصت كلمته بالحكمة القدرية .
ولما تقدم القضاء على القدر بالذات قدمه عليه بالوضع .
فقال رضي الله عنه : ( اعلم أن القضاء حكم اللّه في الأشياء ) القضاء في اصطلاح الطائفة هو الحكم أي الإلهي في الموجودات كلها على ما هي عليها من الأحوال ( وحكم اللّه في الأشياء ) كان ( على حد ) أي على حسب ( علمه بها ) أي بالأشياء ( و ) على حد علمه ( فيها ) فقوله بها إشارة إلى إحاطة علمه تعالى بظواهر الأشياء وقوله : فيها إشارة إلى إحاطته ببواطن الأشياء ( وعلم اللّه في الأشياء على ما أعطته المعلومات مما هي عليه في نفسها ) فقد استغنى بفي الأشياء عن ذكره بالأشياء لأن من علم باطن الأشياء فبالحريّ أن يعلم ظاهرها .
قال رضي الله عنه :  ( والقدر توقيت ما هي عليه الأشياء في عينها ) أي القدر إيجاد الأشياء في أوقاتها بحسب اقتضاء عينها الثابتة ووقوعها في ذلك الوقت ( من غير مزيد ) ونقص عن اقتضاء استعدادها ( فما حكم القضاء ) أي القاضي وهو الحق تعالى ( على الأشياء ) بالكفر والعصيان ( إلا بها ) أي بما هي عليها في عينها فما قدر الكفر للعبيد إلا باقتضاء عينهم الثابتة فلا جبر أصلا من اللّه لا صرفا ولا متوسطا وإنما يلزم ذلك أن لو قدر من عند نفسه من غير اقتضاء عين العبد فهذا البيان رفع توهم الجبر عن أهل الحجاب الذين لم ينكشف لهم أصل المسألة .
( وهذا ) أي كون حكم اللّه على الأشياء بحسب ما هي عليها في حد ذاتها ( هو عين سرّ القدر ) الذي يظهر (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ولا يظهر لغير هذين الطائفتين فلا حظ لأهل النظر من المتكلمين والحكماء من مسألة سرّ القدر ولا يصل إليه أحد بنظر العقل أبدا( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) أي الكاملة التامة يعني إذا كان تقدير الحق أحوال العباد وأفعاله بحسب اقتضاء عينهم الثابتة كان للَّه الحجة التامة على خلقه لا للخلق عليه إذا قيل لم قدر على فلان الإيمان وعلى فلان الكفر أو لم قدر بعض الأشياء على صورة قبيحة وبعضها على الصورة الحسنة وإذا كان للَّه الحجة البالغة على خلقه لا للخلق على اللّه .


قال رضي الله عنه :  ( فالحاكم ) وهو الحق تعالى ( في التحقيق تابع ) في حكمه ( لعين المسألة ) وهي عبارة عن المحكوم عليه وبه والحكم ( التي يحكم ) الحق في القضاء والقدر ( فيها ) أي في تلك المسألة ( بما ) أي بحسب ما ( تقتضيه ذاتها ) أي ذات المسألة والمراد بعين المسألة الأعيان الثابتة في العلم ( فالمحكوم عليه بما ) أي بالذي ( هو ) وجد ( فيه ) أي في المحكوم عليه ( حاكم على الحاكم أن يحكم عليه بذلك ) فحكم العبد المؤمن على الحق بقوله :
فاحكم عليّ بالإيمان فحكم اللّه به إجابة لدعوة العبد فإنه يجب دعوة الداعي إذا دعي وكذاك في الشقاء ( فكل حاكم محكوم عليه بما ) أي بالذي ( حكم به ) ( و ) بما حكم ( فيه كان الحاكم من كان ) ربا أو عبدا فكان كل واحد من الرب والعبد حاكما ومحكوما عليه لكن حكم العبد على الحق بما فيه سابق على حكم الحق على العبد به .
لذلك كانت الحجة البالغة للَّه على العبد لا للعبد على اللّه واعلم أن العبد في الحكم على الحق على وجهين إخبار وهو حكمة عليه بصفاته وأفعاله الصادرة منه تعالى .
وإنشاء كقوله : رب اغفر لي ولا يقال عند أهل الشرع العبد حكم على الحق وأمره مع وجود المعنى الأصلي للحكم والأمر هاهنا .
بل يقال في الأول العبد مسبح أو منزه
وفي الثاني طالب من اللّه المغفرة احترازا عن سوء الأدب فإن الحكم والأمر من العبد.
بقوله : حكمت على الحق أو أمرته أو منك بقولك حكم العبد على الحق وأمره يوهم الجرأة على اللّه تعالى .
وكذا عند أهل الحقيقة في دائرة الشرع إذ ليس لهم لسان واصطلاح غير لسان أهل الشرع واصطلاحه .
وأما في مرتبة الحقيقة ، فقالوا : إن الأعيان الثابتة حاكمة على الحق وآمرة بلسان الاستعداد بيانا لوجود معنى الحكم والأمر في الأعيان فهم لم يقولوا : إن العبد حاكم على الحق باللسان الصوري كما أنهم لم يقولوا كذلك .
والأمر كما قلنا فإن أهل الشرع يتعلق غرضه بلسان الظاهر لسان الصوري الجسماني .
وأهل الحقيقة يتعلق غرضه بلسان الباطن المعنوي الاستعدادي لسان الأعيان الثابتة في العلم .
فإذا لم يتعلق غرض الشرع بالأعيان الثابتة ولسانها نفيا وإثباتا لم تقع المخالفة بينهما إذ المخالفة إنما تكون بين القولين لا بين السكوت .
والقول فهم ما قالوا خلاف ما ثبت عند الشرع حتى يلزم المخالفة ويرتكب التأويل بل قالوا : ما سكت عنه الشرع .
فأهل اللّه أظهر والمعاني اللطيفة من معاني القرآن أو الأحاديث التي لم يبين أهل الشرع هذه المعاني لعدم اطلاعه بانتفاء شروطه وأسبابه .
فلا يلزم من عدم وجود ما قاله أهل اللّه في الشرع أن يكون ذلك مخالفا للشرع ، وهذا إن فهمت يطلعك الموافقة بين العلوم الإلهية والشرعية فتحقق قولنا فإن الموافقة بين العلمين ما جهلت إلا لشدة الظهور يدل عليه ( فتحقق هذه المسألة فإن القدر ما جعل إلا لشدة ظهوره ) لا لشدة الخفاء فإن الصورة المشاهدة في الحس هي صور القدر .


فكما أن شدة الخفاء لغاية بعدها عن إدراك البصائر سبب للجهل كذلك شدة الظهور لغاية قربها وانحرافها عن الحدّ الأوسط سبب للجهل كالمرآة القريبة من الرائي لم يظهر له صورة فيها لشدة قربها منه .
بل نقول مسائل العلوم الإلهية كلها ما جهلت إلا لشدة ظهورها ( فلم يعرف وكثر فيه الطلب والإلحاح ) فقال إبراهيم عليه السلام "أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى"[ البقرة : 260 ] .
وقال العزيز عليه السلام :"أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها"[ البقرة : 159 ] .
فهذا السؤال من عدم علمهم بسرّ القدر فإن السؤال يطلب حصول ما لم يحصل .
قال رضي الله عنه :  ( واعلم أن الرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين من حيث هم رسل لا من حيث هم أولياء ) .
وقوله : ( وعارفون على مراتب ما هي عليه أممهم ) تفسير لقوله لا من حيث هم أولياء لأن كونهم أولياء لا يكون إلا كذلك فمن حيث كونهم رسلا ( فما ) أي فليس ( عندهم ) من اللّه ( من العلم الذي أرسلوا به إلا قدر ما يحتاج إليه أمة ذلك الرسول عليه السلام لا زائد ولا ناقص ). أي لا يكون ذلك العلم زائدا على قدر احتياج تلك الأمة ولا ناقصا عنه ( والأمم متفاضلة يزيد بعضها على بعض ) في الكمال وإذا كانت متفاضلة ( فتفاضل الرسل في علم الإرسال ) يزيد بعضها على بعض ( بتفاضل أممها وهو ) أي تفاضل الرسل بتفاضل الأمم معنى ( قوله تعالى "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ"[ البقرة : 253 ] ) أي فضلنا بعضهم على بعض في علم الإرسال بتفاضل الأمم .
قال رضي الله عنه :  ( كما هم أيضا فيما يرجع إلى ذواتهم عليهم السلام من العلوم والأحكام متفاضلون بحسب استعداداتهم ) فهم كانوا ذوي تفاضلين بحسب ذواتهم وبحسب تفاضل أممهم ( وهو ) أي التفاضل بحسب الاستعداد معنى ( قوله تعالى :وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) في العلوم الراجعة بالكثرة والقلة إلى ذواتهم .
قال رضي الله عنه :  ( وقال اللّه تعالى في حق الخلق وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) في الأزل ( في الرزق والرزق منه ما هو روحاني كالعلوم وحسي كالأغذية ) ثم ينزله على الخلق في الشهادة بأوقاتها ( وما ينزله ) أي وما ينزل ( الحق ) الرزق على الخلق روحانيا كان أو حسيا ( إلا بقدر معلوم ) للحق من استعداد الخلق في وقت .
( وهو ) أي القدر المعلوم ( الاستحقاق الذي يطلبه ) أي يطلب ( الخلق ) ذلك الاستحقاق من اللّه وإنما يطلب الخلق ذلك الاستحقاق من اللّه ( فإن اللّه تعالى أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ) مقتضى ( خَلْقَهُ ) في الأزل دفعة واحدة من الرزق المعنوي والصوري .
( فينزل بِقَدَرٍ ما يَشاءُ وما يشاء إلا ما علم فحكم به وما علم توقيت إلا بما أعطاه المعلوم من نفسه ) معناه ظاهر ( فالتوقيت ) أي توقيت ما عليه الأشياء ( في الأصل للمعلوم ) أي من اقتضاء ذات المعلوم فإنه طالب من اللّه ذلك التوقيت باستعداده ( والقضاء والعلم والإرادة والمشية ) كلها ( تبع للقدر ) أي للتوقيت أي يتعلق كلها للأشياء بحسب الأوقات والأزمان التي اقتضت ذات المعلوم ( فسّر القدر ) أي فعلم سرّ القدر (من أجل المعلوم ما يفهمه اللّه تعالى إلا لمن اختصه بالمعرفة التامة فالعلم به يعطي الراحة الكلية للعالم به ) .


لعلمه إن كل الرزق الصوري والمعنوي الذي اقتضت ذاته وطلبته لا بد أن يصل إليه فيحصل الاطمئنان فيستريح عن الطلب به ( ويعطي العذاب الأليم للعالم به أيضا فهو يعطي النقيضين ) لعلمه أن ما يلائم غرضه من مقتضى ذاته كالفقر وسوء المزاج وغير ذلك لا يزول البتة فلا يرى سببا للخلاص فيتألم بالعذاب الأليم وهذا حكم سر القدر في الخلق وأما حكمه في الحق فقد بينه بقوله ( وبه ) أي وبسر القدر أو بعلمه.
قال رضي الله عنه :   ( وصف الحق نفسه بالغضب والرضاء وبه تقابلت الأسماء الإلهية ) وانقسمت إلى اللطف والقهر من جهة العين لأن العين المؤمنة تقتضي أن يتجلى اللّه بها باللطف والعين الكافرة تقتضي أن يتجلى اللّه لها بالقهر فأظهرت الأعيان اللطف والرضاء والقهر والغضب وإذا كان الأمر كذلك ( فحقيقته ) أي فحقيقة سرّ القدر أو حقيقة العلم بسرّ القدر.
( تحكم ) باللطف والرضاء وبالقهر والغضب ( في الموجود المطلق ) أي في الحق ( و ) تحكم بالسعادة والشقاوة أو بالراحة والألم في ( الموجود المقيد ) أي في الخلق ( لا يمكن أن يكون شيء أتم منها ) أي من حقيقة سرّ القدر .
( ولا أقوى ) منها ( ولا أعظم لعموم حكمها ) باللطف والقهر ( المتعدي ) أي الحق ( و ) لعموم حكمها بالسعادة والشقاوة ( غير المتعدي ) أي الخلق قال بعض الشراح والمراد بالحكم المتعدي بالأحكام والتأثيرات التي تقع من الأعيان وغير المتعدي ما يقع من مظاهرها فيحتاج إلى حذف الموصوف تقديره الحكم المتعدي ( ولما كانت الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين لا تأخذ ) أي لا يأخذون ( علومها إلا من الوحي الخاص الإلهي ) أي الوحي الخاص بهم لا يأخذ غير الأنبياء عليهم السلام من ذلك الوحي.
قوله : ( فقلوبهم ) جواب لما ودخول الفاء لكونه جملة اسمية ( ساذجة ) خالية من العلوم التي تكسب ( من النظر العقلي لعلمهم بقصور العقل من حيث نظره الفكري عن إدراك الأمور على ما هي عليه والإخبار أيضا ) كالعقل من حيث نظره الفكري.
قال رضي الله عنه :  ( يقصر عن إدراك ما لا ينال إلا بالذوق ) فيختص بما يسعه العبارة والذوقيات لا تقبل التعبير ( فلم يبق العلم الكامل إلا في التجلي الإلهي وما ) أي وفي الذي ( يكشف الحق عن أعين البصائر والأبصار قوله من الأغطية ) بيان لما ( فتدرك الأمور قديمها وحديثها وعدمها ووجودها ومحالها وواجبها وجائزها على ما هي عليه في حقائقها وأعيانها ) .
ولا يكفي فيهن نظر العقل والإخبار فبالتجلي الإلهي والكشف يحصل العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه بخلاف النظر العقلي والإخبار فظهر احتياج أرباب العقول إلى أرباب التجلي في العلم ( فلما كان مطلب العزير ) وهو قوله :"أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها".
( على الطريقة الخاصة ) للَّه تعالى يدل عليه قوله بعد فطلب أن لا يكون له قدرة تتعلق بالمقدور.
وقوله : فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق ذوقا فلا يجوز أن يكون المراد بها طريق الوحي كما جوّزه البعض ( لذلك ) أي لكون مطلب العزير على الطريقة الخاصة للَّه تعالى ( وقع العتب عليه ) جواب لما لذلك يتعلق بوقع ( كما ورد ) ذلك العتب ( في الخبر) وهو لئن لم تنته لأمحونّ اسمك من ديوان النبوة.


قال رضي الله عنه :  ( ولو طلب ) العزير بهذا المطلب ( الكشف الذي ذكرناه ) الذي طريق الأنبياء والأولياء ( ربما كان لا يقع عليه عتب في ذلك ) الطلب كما كان إبراهيم عليه السلام فإن مطلبه أمر ممكن حصوله للإنسان .
لذلك لم يقع عليه عتب الحق على العزير علم أن ما طلبه من الخصائص الإلهية .
( والدليل على سذاجة قلبه قوله عز وجل في بعض الوجوه :أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها) حيث لم يعلم وقوع العتب عليه بهذا السؤال قوله في بعض الوجوه إشارة إلى اختلاف المفسرين في تفسير هذه الآية.
فإن منهم من قال : قائل هذا الكلام العزير وهو ما اختاره الشيخ وقيل : أرميا وقيل : الخضر وقيل : كان علجا كافرا هذا المعنى الذي ذكر في مطلب العزير وهو وقوع العتب عليه في مطلبه الذي على الطريقة الخاصة على أخذ البعض لا مطلقا يدل عليه قوله : ( وأما عندنا فصورته في قوله هذا ) أي فيأَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها ( كصورة إبراهيم عليه السلام في قوله :أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ويقتضي ذلك ) أي وتقتضي صورة سؤال العزير .
قال رضي الله عنه :  ( الجواب بالفعل الذي أظهره الحق فيه ) أي في نفس العزير (في قوله فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ فقال له : انظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فعاين كيف تنبت الأجسام معاينة تحقيق فأراه الكيفية ) كما أراها إبراهيم عليه السلام فلا فرق في المطلب بالنظر إلى الآية وإنما كانت التفرقة في الطلب بين إبراهيم وعزير عليهما السلام من أمر خارج وهو العتب .
( فسأل ) هذا استئناف لما تقدم من قوله : فلما كان مطلب العزير أي فتعين أن سأله ( عن القدر الذي لا يدركه إلا بالكشف للأشياء في حال ثبوتها في عدمها فما أعطى ) الحق ( ذلك ) السؤال بل ردّه وأعطى ما يمكن في حقه وأنفع في نفسه فأراه الكيفية كما أجاب لمن سأل عن الأهلة فقال : قل هي مواقيت للناس والحج فأعطى الاطلاع على غير الطريقة الخاصة التي طلبها فلا يذوق كيفية الإحياء بل يشاهدها .
قال رضي الله عنه :  ( فإن ذلك ) أي الاطلاع بسرّ القدر ذوقا ( من خصائص الاطلاع الإلهي فمن المحال أن يعلمه ) أي أن يعلم سر القدر ذوقا ( إلا هو ) وإنما لم يعلم سرّ القدر على هذه الطريقة الخاصة إلا اللّه ( فإنها ) أي فإن الأعيان الثابتة .
( المفاتح الأول أعني مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو وقد يطلع اللّه من يشاء من عباده على بعض الأمور من ذلك ) الغيب كما قال تعالى "عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ " كمحمد عليه السلام في انشقاق القمر .
وعيسى عليه السلام في إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.
قال رضي الله عنه :   ( واعلم أنه لا تسمى ) الأعيان ( مفاتح إلا في حال الفتح وحال الفتح هو حال تعلق التكوين بالأشياء وقل إن شئت حال تعلق القدرة بالمقدور ولا ذوق لغير اللّه في ذلك ) أي في تعلق القدرة بالمقدور .
( فلا يقع فيها ) أي في القدرة ( تجلي ولا كشف ) على طريق الذوق ( إذ لا قدرة ولا فعل إلا للَّه خاصة إذ له الوجود المطلق الذي لا يتقيد ) فلا يقدر من له الوجود المقيد على الإيجاد والإعدام إلا لمن ارتضى من رسول فإنه عناية إلهية سبقت له في حقه.
 
قال رضي الله عنه :  ( فلما رأينا عتب الحق له عليه السلام في سؤاله في القدر علمنا أنه ) أي العزير ( طلب هذا الاطلاع ) أي الاطلاع المذكور المختص للحق.
( فطلب أن تكون له قدرة تتعلق بالمقدور وما يقتضي ذلك إلا من له الوجود المطلق فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق ذوقا فإن الكيفيات لا تدرك إلا بالذوق وما رويناه ) ولما حقق معنى الآية وهو لا يدل على المطلب الخاص إلا بقرينة العتب.
 شرع في تحقيق العتب بقوله : ( مما أوحى اللّه به إليه ) يريد أن الانتهاء عن مثل هذا السؤال واجب عليك إما بنهي إلهي وإما بنهي عن نفسك والفرق بينهما إن الإلهي يتعلق بوجود المنهي عنه بمعنى وجد في المحل ثم نهاه اللّه عنه والنهي عن النفس يتعلق بعدمه بمعنى لم يوجد في المحل أصلا فلما سأل نهى اللّه عن السؤال الذي لا يناسب حاله فانتهى عن السؤال مع الندامة فقال : لولا لم أسأل لظنه أن عدم صدوره خير من أن يصدر فبين اللّه أن وجود السؤال منه .
ثم النهي عنه عناية له في حقه بقوله : ( لئن لم تنته ) بنهي إلهي عن السؤال عن الاطلاع الخاص للَّه ( لأمحونّ اسمك من ديوان النبوة ) كي يحصل الانتهاء منك بنفسك أي لا بد من الانتهاء عن السؤال الذي ليس في استعدادك.
 قوله : ( أي ارفع ) قائم مقام جواب أما تقديره فمعناه ارفع ( عنك طريق الخبر وأعطيك الأمور على التجلي والتجلي لا يكون إلا بما أنت عليه من الاستعداد الذي به يقع الإدراك الذوقي فتعلم أنك ما أدركت إلا بحسب استعدادك فتنظر في هذا ) أي ( الأمر الذي طلبت فإذا لم تره ) أي الأمر الذي طلبته.
قال رضي الله عنه :  ( تعلم أنه ليس عندك الاستعداد الذي تطلبه و ) تعلم ( أن ذلك ) الأمر ( من خصائص الذات الإلهية وقد علمت أن اللّه تعالى أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ فإذا لم يعطك هذا الاستعداد الخاص فما هو خلقك ولو كان خلقك لأعطاكه الحق الذي أخبر أنه أعطى كل شيء خلقه فتكون ) على هذا التقدير .
( أنت الذي تنتهي عن مثل هذا السؤال من نفسك لا تحتاج فيه إلى نهي إلهي ) ولم أفعل بك ذلك بل أبقيتك على نبوتك وجعلتك محتاجا إلى نهي إلهي وهذا أعلى مرتبة لك من أن تنتهي من نفسك فإن النبوة لاشتمالها الولاية أعلى مرتبة من الولاية بدونها فلما علم العزير حمد اللّه على عنايته له فزالت ندامته على سؤاله والنهي عنه.
هذا هو الذي انكشف لي في هذا المقام فعلى هذا التحقيق لا عتب على عزير على هذا المطلب بل صح من الأنبياء بمثل هذا السؤال حيث لم يعتب عليه وإن لم تقبل مسألتهم ( وهذا ) أي ما فعله الحق بالعزير ( عناية من اللّه بالعزير عليه السلام ) لا عتب عليه أخبر اللّه بها بقوله : لئن لم تنته لأمحونّ اسمك من ديوان النبوة .


فدل قوله : لئن لم تنته على أن مطلب العزير على طريقة خاصة ( علم ذلك ) العناية ذكر الإشارة باعتبار التأديب ( من علمه وجهل من جهله ) فلما علم من كلامه أنه لا يعلم سر القدر إلا اللّه أو ممن يطلعه اللّه من الأنبياء والأولياء شرع في بيان الولاية والنبوة ( واعلم أن الولاية ) أي حقيقة الولاية ( وهي الفلك المحيط العام ) الكلي الشامل على النبوة والرسالة.


 قال رضي الله عنه :  ( ولهذا ) أي ولأجل إحاطتها وعمومها ( لم تنقطع ولها الأنبياء العام وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة ، وفي محمد عليه السلام قد انقطعت فلا نبي بعده مشرّعا ) على صيغة اسم الفاعل أي لا داخلا تحت شريعته .
فإن عيسى عليه السلام نبي يجيء داخلا تحت شريعته ( أو مشرّعا له ) أي داخلا تحت شريعة نبي مشرّع وتابعا لشريعته كأنبياء نبي إسرائيل عليهم السلام فإنهم على شريعة موسى عليه السلام ( ولا رسول ) عطف على فلا نبي عليه السلام ( وهو ) أي والحال أن ذلك الرسول عليه السلام هو ( المشرع وهذا الحديث ) وهو قوله عليه السلام لا نبي بعدي ( قصم ) أي قطع ( ظهور أولياء اللّه ) بالأنباء عن المعارف الإلهية كما ظهر الأنبياء عليهم السلام بها من جهة ولايتهم ( لأنه ) أي لأن هذا الحديث ( يتضمن انقطاع ذوق العبودية الكاملة التامة ) لأن هذا الذوق لا يكون إلا في الرسول والنبي عليه السلام.


فإذا انقطعت الرسالة والنبوة بعد محمد صلى اللّه عليه وسلم انقطع هذا الذوق فإذا انقطعت العبودية الكاملة ( فلا ينطلق عليها ) أي على العبودية الكاملة .
( اسمها الخاص بها ) وهو النبوة والرسالة وإنما لم يظهر أولياء اللّه بانقطاع العبودية الكاملة ( فإن العبد ) الوليّ ( يريد أن لا يشارك سيده ) في اتصافه بالاسم الولي لعلمه أن الاتصاف ليس من مقتضى ذاته بل يحصل له عند فنائه في الحق بل يريد أن يظهر بمقتضى ذاته وهو العبادة .
فانقطع عن الظهور بالولاية ( وهو اللّه في اسم ) يتعلق بلا يشارك .
قال رضي الله عنه :  ( واللّه لم يتسم بنبي ولا رسول عليه السلام ويسمى بالولي واتصف بهذا الاسم فقال تعالى : " اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا"
وقال تعالى :" وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ " وهذا الاسم باق جار على عباد اللّه دنيا وآخرة فلم يبق اسم يختص به العبد دون الحق بانقطاع النبوة والرسالة ) فلم يبق اسم مختص ظهر به العبد بالولاية وهي واجبة الظهور لمصالح العباد في الدين والدنيا إلى انقراض الزمان .
فأظهرها اللّه تعالى لطفا وعناية بعباده بإبقائه لهم النبوة العامة فظهر بها الولاية كما ظهر بالنبوة والرسالة .
وإليه أشار بقوله : ( إلا أن اللّه لطف بعباده فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها ) وهي الأنباء أي الأخبار عن المعارف الإلهية فالأولياء وارثون بواطنهم أي جهة ولايتهم يظهرون أحكام ولايتهم من المعارف والحقائق الإلهية يرشدون الأمة إلى اللّه ويفيضون عليهم المعارف الإلهية بقدر نصيبهم منها فإبقاء النبوة العامة ليس إلا لظهور الولاية الخاصة للنبوة عن الأولياء وارثة.
قال رضي الله عنه :   ( وأبقى لهم التشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام وأبقى لهم الوراثة في التشريع فقال العلماء ورثة الأنبياء وما ثمة ميراث في ذلك إلا فيما اجتهدوا فيه من الأحكام فشرعوه ) أي فشرعوا ما اجتهدوا من الأحكام الشرعية فالأئمة الأربعة وغيرهم من المجتهدين وارثون ظواهرهم أي نبوتهم الخاصة بهم لا يرثون ولايتهم الخاصة كما لا يرث ظواهرهم من يرث بواطنهم فلا يجتمع الوراثتان في شخص واحد ولذلك لا يصح نصب المفتي من الأولياء الوارثين لعدم اجتهادهم في ثبوت الأحكام الشرعية فالمجتهدون كلهم أولياء بالولاية العامة لا الولاية بالوراثة ولذلك لم يظهروا بالولاية أي بالأنباء عن الحقائق الإلهية بل ظهروا بالإخبار عن الأحكام الاجتهادية فالمراد بإظهار الولاية الولاية بالوراثة لكونه سببا لإرشاد الخلق وانتفاعه.
.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الخميس نوفمبر 21, 2019 7:36 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس نوفمبر 21, 2019 3:14 am

14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
 14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية
وأما الولاية للمؤمنين فلا يظهر أبدا عن صاحبها فلا ينتفع عنه غيره كما في الأئمة الأربعة فإن ولايتهم العامة مستورة مخفية بوارثتهم في التشريع في الاجتهاد والمجتهد لا يتكلم بكلام خارج عن التشريع بل كل كلامه داخل تحت التشريع في الاجتهاد.
كما أن الولي الوارث لا يتكلم بكلام داخل تحت التشريع في الاجتهاد بل كل كلامه خارج عن الأحكام الاجتهادية وهو الأنباء عن الحقائق الإلهية والأنبياء لكونهم جامعين بين الولاية والرسالة يتكلمون بكليهما .
قال رضي الله عنه :  ( فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع فمن حيث هو ولي وعارف ) بالحقائق الإلهية لا من حيث أنه نبي ورسول كنقله عليه السلام الحديث القدسي عن اللّه .
وكقوله : لو دليتم بحبل لهبط على اللّه .
( ولهذا ) أي ولأجل عدم انقطاع الولاية وانقطاع النبوة والرسالة كان ( مقامه من حيث هو عالم ) باللّه وأسمائه وصفاته ( وولي أتم وأكمل من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع فإذا سمعت أحدا من أهل اللّه يقول أو ينقل إليك عنه أنه قال : الولاية أعلى من النبوة فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه أو يقول : إن الوليّ فوق النبي والرسول فإنه يعني بذلك في شخص واحد وهو أن الرسول من حيث أنه وليّ أتم منه من حيث هو نبي ورسول لا أن الولي التابع له أعلى منه فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه ) .
أما فيما هو غير تابع له فيه فقد يدركه فيه ( إذ لو أدركه ) فيما هو تابع له فيه ( لم يكن تابعا له فافهم ) فإذا كان الرسول من حيث هو ولي أتم منه في العلم من حيث هو نبي ورسول .
قال رضي الله عنه :  ( فمرجع الرسول والنبيّ المشرّع إلى الولاية والعلم ) باللّه وبأسمائه وصفاته .
واستدل عليه بقوله : ( ألا ترى أن اللّه قد أمره ) أي الرسول ( بطلب الزيادة من العلم لا من غيره ) أي من غير العلم وهو الرسالة والنبوة .
ولم يقل رب زدني رسالة أو نبوة ( فقال له أمرا : "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" وذلك ) أي بيان الأمر بطلب زيادة من العلم لا من غيره .
وهو ( أنك تعلم أن الشرع تكليف بأعمال مخصوصة أو نهي عن أعمال مخصوصة ومحلها ) أي محل الأعمال المخصوصة أمرا أو نهيا ( هذه الدار ) فإذا كان محل الرسالة هذه الدار ( فهي ) أي الرسالة ( منقطعة ) كمحلها لكونها صفة بشرية حادثة وكل حادث متناه .
قال رضي الله عنه :  ( والولاية ليست كذلك ) أي لا تنقطع أبدا في الدنيا والآخرة كانقطاع الرسالة ( إذ لو انقطعت لا لانقطعت من حيث هي كما انقطعت الرسالة من حيث هي ) أي من حيث الحقيقة ( وإذا انقطعت من حيث هي لم يبق لها ) أي للولاية ( اسم ) لا في حق الحق ولا في عباده .
( والولي اسم باق للَّه ) كما قال في حق يوسف :" أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ " ( فهو ) أي الولي اسم ( لعبيده تحققا ) في إفناء ذاته في ذات الحق ( وتخلقا ) في إفناء صفاته في صفات الحق ( وتعلقا ) في إفناء أفعاله في أفعال الحق فقد ظهر لك من هذا البيان أن الولاية مع الرسالة
أعلى مرتبة منها بدون الرسالة فإذا كانت الولاية مع الرسالة أعلى مرتبة منها بدونها.


قال رضي الله عنه :  ( فقوله للعزير : لئن لم تنته عن السؤال عن ماهية القدر لأمحونّ اسمك من ديوان النبوة فيأتيك الأمر على الكشف بالتجلي ويزول عنك اسم النبي والرسول قوله : ويبقي له ولايته ) التفات من الخطاب إلى الغيبة قوله فقوله : مبتدأ خبره فيأتيك الأمر أي معناه يأتيك الأمر .
فلما تبين أن هذا الخطاب عنده غاية له شرع في اختلاف القوم فيه بقوله:  ( ألا ) أي غير ( أنه لما دلت قرينة الحال ) أي حال السؤال وهي كونه على الطريقة الخاصة ( إن هذا الخطاب جرى مجرى الوعيد علم من اقترنت عنده هذه الحالة ) .
وهي حالة السؤال ( مع الخطاب ) وهو قوله : لئن لم تنته ( أنه ) أي الخطاب ( وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية في هذه الدار إذ النبوة والرسالة خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تحوي عليه الولاية من المراتب ) أي خصوصيان زائدتان على الولاية في هذه الدار وتنقطعان عنها فيها ويبقي الولاية مجردة عنها .
( فيعلم أنه ) أي النبي والرسول عليه السلام ( أعلى من الولي الذي لا نبوة تشريع عنده ولا رسالة ) فعلى تقدير الوعيد .
يكون معناه يا عزير انته عن السؤال عن ماهية القدر التي لا يمكن حصوله لك ولا تسألني مرة أخرى لئن لم تنته لأخذتك بهذه العقوبة وهي الإسقاط عن الدرجة العالية درجة النبوة والرسالة مع الولاية .
فلم يقل سؤاله الذوقي فأراه كيفية الإثبات كما في إبراهيم عليه السلام ( ومن اقترنت عنده حالة أخرى ) وهي أن النبي عليه السلام لكونه وليا عارفا لا يمكن أن يسأل عن اللّه ما لا يمكن حصوله : ( تقتضيها أيضا ) كالحالة الأولى ( مرتبة النبوة يثبت عنده أن هذا وعد لا وعيد وأن سؤاله عليه السلام مقبول ) بالفعل وهو كشف سر القدر بالإماتة .


قال رضي الله عنه :  ( إذ النبي هو الولي الخاص ) المستجاب الدعوة ( ويعرف هذا ) الشخص ( بقرينة الحال أن النبي من حيث له في الولاية هذا الاختصاص ) وهو كونه عارفا بربه وأسمائه.
( محال أن يقدم على ما يعلم أن اللّه يكرهه منه أو يقدم على ما يعلم أن حصوله محال فإذا اقترنت هذه الأحوال عند من اقترنت عنده وتقررت أخرج هذا الخطاب الإلهي عنده في قوله لأمحونّ اسمك من ديوان النبوة فخرج الوعد وصار ) الخطاب ( خبرا يدل على علوّ مرتبة باقية وهي المرتبة الباقية ) أي مرتبة العزير وهي الولاية .

قال رضي الله عنه :  ( على الأنبياء والرسل في الدار الآخرة التي ليست ) تلك الولاية ( بمحل الشرع يكون عليه أحد من خلق اللّه في جنة ولا نار بعد الدخول فيهما ) فعلى هذا التقدير كان معناه يا عزير انته عن السؤال عن ماهية القدر التي ممكنة الحصول لك .
لكن ليس هذا وقته لئن لم تنته في حصوله بغير أوانه لأمحونّ اسمك من ديوان النبوة وهي أدنى مرتبتك أو أبقيتك على ولايتك وهي أعلى مرتبة لك من نبوتك فحينئذ يحصل مرادك فما كان من شأنك في هذا الوقت .
إلا حصول كيفية سرّ القدر لا ذوقه فأراه الكيفية الآن ووعد ذوقه في الآخرة .
فكان هذا الخطاب وعد لحصول مطلوب العزير وهو الذوق بسر القدر .




وخبر يدل على بقاء علوّ مرتبة العزير ، وهي المرتبة الباقية على الأنبياء والرسل وأما عند الشيخ فبهذا الخطاب عتاب عناية ولطف لا عتاب قهر .
إذ العتاب في حق الأنبياء عليهم السلام اللطف والتأديب لا وعد ولا وعيد.
قال رضي الله عنه :  ( وإنما قيدناه بالدخول في الدارين الجنة والنار لما يشرع يوم القيامة لأصحاب الفترات ) وهم الذين ما بعث في زمانهم نبي مشرّع لهم ولم يصل إليهم شريعة من كان قبلهم ( والأطفال الصغار ) وهم الذين ماتوا قبل أوان التكليف ( والمجانين ) وهم الذين عرض لهم ما ينافي العقل فسقط التكليف معه في الدنيا ( فيحشر هؤلاء في صعيد واحد ) كلهم عقلاء بالغين لأن من لم يكن بالغا لا يستحق المؤاخذة بالجريمة والثواب العملي ( لإقامة العدل )
قوله : ( والمؤاخذة بالجريمة ) في حق أصحاب النار ( والثواب العملي في أصحاب الجنة ) تفسير للعدل .
قال رضي الله عنه :  ( فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل ) أي بمكان بعيد ( عن الناس بعث فيهم نبي من أفضلهم وتمثل لهم نار يأتي بها هذا النبي المبعوث في ذلك اليوم فيقول لهم : أنا رسول اللّه إليكم فيقع عندهم التصديق به ويقع التكذيب عند بعضهم ). وفي الكلام تقديم وتأخير وتقدير الكلام هكذا
 قال رضي الله عنه :  ( فيقول لهم ) : أنا رسول اللّه إليكم ( اقتحموا ) أي ادخلوا ( هذه النار بأنفسكم فمن أطاعني نجا ودخل الجنة ومن عصاني وخالف أمري هلك وكان من أهل النار ) فيقع عندهم التصديق به ويقع التكذيب عند بعضهم .
( فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها سعد ونال الثواب العملي ووجد تلك النار بردا وسلاما ) وفي الكلام تقديم وتأخير مع التقدير أصل الكلام هكذا روى بنفسه فيها سعد ووجد تلك النار بردا وسلاما فدخل الجنة.
فنال الثواب العملي ، وهو التمتعات بحور العين وغير ذلك من طعوم الجنة التي لا ينال إلا بأسبابه قال رضي الله عنه :  ( ومن عصاه استحق العقوبة فدخل النار ونزل فيها بعمله المخالف ) وإنما فعل ذلك ( ليقوم العدل من اللّه في عباده ) إذ لا بد من إقامة العدل فيهم .
فالأطفال والمجانين والمؤمنين كلهم سعدوا ونالوا نتائج أعمالهم لورود النص إن أطفال المؤمنين يشفعون لآبائهم وأمهاتهم فلا يجوّز أحد منهم أن يعصي أمر نبيه .
بخلاف أطفال الكفار ومجانينهم فجاز منهم العصيان والامتثال فعلى هذا لا فضل من اللّه إلا وفيه عدل ولو لم يفعل ذلك لفات العدل وهو يخالف الحكمة .
وإنما أتى بالنار دون غيرها لأن باطنها نور إلهي يناسب النفوس النورانية لذلك اختار الدخول بعضهم وظاهرها نار يناسب النفوس الظلمانية.
لذلك أبى بعضهم فلما أخبر عما رآه في كشفه الصحيح أورد دليلا على ذلك قوله تعالى : ( وكذلك قوله تعالى :" يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ " [ القلم : 42 ] ) أي أمر عظيم من أمور الآخرة .
( ويدعون إلى السجود فهذا ) أي هذا الأمر ( تكليف وتشريع فيهم فمنهم من يستطيع ) كما استطاع في الدنيا .
قال رضي الله عنه :  ( ومنهم من لا يستطيع وهم الذين قال اللّه فيهم ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون كما لا يستطيع في الدنيا امتثال أمر اللّه بعض العباد كأبي جهل وغيره فهذا ) التكليف والتشريع ( قدر ما يبقى من الشرع في الآخرة يوم القيامة قبل دخول النار والجنة فلهذا قيدناه والحمد للَّه رب العالمين ) . وتحقيق هذا المقام لما قال اللّه تعالى: "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ "
وقالوا بلى فالخطاب عام فالإجابة عامة على معنى بيان الطريق الموصل إليّ منكم والسلوك إليه منا .
إذ ما يظهر ما في استعداد الشخص إلا بالتكليف ولا يكلف العبد إلا بما قال لمولاه بلسان استعداده كلفني فكلفه اللّه بحسب الأوقات ليظهر ما في استعداده من الكمالات اللائقة به.
فلا بد من التكليف إما في الدنيا كما كان وإما في الآخرة كما يكون في هؤلاء الطائفة وعد اللّه لهم أن يبين طريق الهداية بسبب طلبهم ذلك من اللّه على حسب قابليتهم .
فلما لم يبين لهم طريق الهداية في الدنيا لعدم مساعدة أمزجة الأطفال والمجانين والمانع في أصحاب الفترات في يوم القيامة وفاء لعهده السابق .
ولا يتوهم أن هذا القول لا يقوله أهل الشرع ولا يذهب إليه أحد منهم فكان مخالفا للشرع .
لأن أحوال هذه الطوائف مختلف فيها عند أهل الشرع فمثل هذا الخلاف لا يعدّ مخالفا للشرع .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:26 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
ولأجل حصول هذه الحكمة في كلمته أخبر عن نبوته في المهد بقوله "إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا " بخلاف سائر الأنبياء فإنهم لا يدعي أحد منهم مثل ذلك والمراد بها النبوة العامة لا النبوة التشريعية فعيسى عليه السلام ختم النبوة العامة والولاية العامة فالأنبياء والأولياء لا يأخذونها إلا من مشكاته إلا ختم الرسل
( شعر ) :
عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين ... في صورة البشر الموجود من طين
( عن ماء مريم ) استفهام تقرير حذفت همزته ( أو ) بمعنى الواو ( عن نفخ جبرين ) أي جبرئيل قوله ( في صورة البشر الموجود ) ظرف لجبرين أي المخلوق ( من طين ) وقوله عن ماء مريم متعلق بقوله :
(تكون الروح في ذات مطهرة ... من الطبيعة تدعوها بسجين)
 ( تكون الروح ) العيسوي ( في ذات مطهرة ) وهي ذات مريم ( من الطبيعة ) أي من أدناسها وأرجاسها ومقتضياتها من اللذات الشهوانية ( تدعوها ) أي الطبيعة التي تدعو مريم أي شأن هذه الطبيعة أن تدعو مريم ( بسجين ) أي بجحيم
(لأجل ذلك قد طالت إقامته ... فيها فزاد على ألف بتعيين)
( لأجل ذلك ) أي لأجل تكون الروح العيسوي في الذات المطهرة ( قد طالت إقامته فيها ) أي في السماوات فإن طهارة المحل تبعد الحال عن الكون والفساد ( فزاد على ألف بتعيين ) مبين في علم التواريخ .
(روح من الله لا من غيره فلذا ... أحيا الموات وأنشا الطير من طين)
( روح ) خبر مبتدأ محذوف ( من اللّه لا من غيره ) أي هو خلقه اللّه بذاته لا بواسطة روح من الأرواح ( فلذا ) أي فلكون روحه من اللّه بغير واسطة ( أحي الموات وأنشأ الطير من طين ) بسبب تقربه إلى اللّه وتحققه بصفاته الخاصة به وإنما أحي الموتى وأنشأ الطير.
(حتى يصح له من ربه نسب ... به يؤثر في العالي وفي الدون)
( حتى يصح ) أي كي يصح أو معناه لأجل إحياء الأموات وإنشاء الطير صح ( له من ربه نسب ) بفتح النون مصدر والمراد به وصف أو بالكسر جمع نسبة وكلاهما صحيح ( به ) أي بسبب هذا النسب ( يؤثر في العالي ) وهو إحياء الموتى من الإنسان ( وفي الدون ) وهو خلق الطير المعروف من الطين .
(الله طهره جسما ونزهه  .... روحا وصيره مثلا بتكوين )
( اللّه طهره جسما ) من أرجاس الطبيعة ( ونزهه روحا ) عما يوجب
النقائض وزينه بالصفات الإلهية والأخلاق الكريمة ( وصيره ) أي جعله ( مثلا ) أي مماثلا له تعالى ( بتكوين ) أي بسبب تكوين الطير .
 
( واعلم أن من خصائص الأرواح أنها لا تطأ شيئا إلا حيى ذلك الشيء وسرت الحياة فيه ) لأن الحياة أول صفة تعرض للروح فيؤثر بها الروح فيما يطأ عليه ( ولهذا ) أي ولأجل سريان الحياة فيما يطأ عليه الروح ( قبض السامري قبضة من أثر الرسول ) أي أخذ السامري ترابا من مكان الذي وطئ عليه الرسول عليه السلام .
( الذي هو جبرائيل وهو الروح وكان السامري عالما بهذا الأمر فلما عرف أنه جبرائيل عرف أن الحياة قد سرت فيما وطئ عليه فقبض قبضة من أثر الرسول عليه السلام بالضاد ) المعجمة ( أو بالصاد ) المهملة ( أي بملء يده ) تفسير بالضاد المعجمة ( أو بأطراف أصابعه ) تفسير بالصاد المهملة .
( فنبذها ) أي القبضة والمراد به المقبوضة ( في العجل فخار العجل ) لسريان الحياة فيه وإنما لم يصوت غير الخوار ( إذ صوت البقر إنما هو خوار ) لا غير ( ولو إقامة ) أي لو نبذ السامري ما قبضه من أثر الرسول عليه السلام ( صورة أخرى ) أي غير صورة العجل .
( لنسب إليه اسم الصوت الذي لتلك الصورة كالرغاء للإبل والثواج للكباش والعياء للشياه والصوت للإنسان أو النطق أو الكلام ) .
(فذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء يسمى ) الروح ( لاهوتا ) لكون الحياة صفة إلهية فيسمى الروح بسبب اتصافه بالحياة السارية في الأشياء لاهوتا ( والناسوت هو المحل القائم به ذلك الروح ) فالناسوت هو البدن ( فسمي الناسوت روحا بما ) أي بسبب الذي ( قام ) هو ( به ) أي الناسوت وقد يسمى المجموع روحا لقوله عليه السلام : « وهو روح منه » .
 
فلما تمثل الروح الأمين الذي هو جبرائيل لمريم عليها السلام بشرا سويا تخيلت مريم ( أنه ) أي جبرائيل ( بشر يريد مواقعتها فاستعاذت باللّه منه استعاذة بجمعية منها ) أي استعاذة بجميع قواها الروحانية من نفسها ( ليخلصها اللّه منه لما تعلم ) مريم ( أن ذلك ) الفعل ( مما لا يجوز ) للإنسان أن يفعله ( فحصل لها ) بسبب هذه الاستعاذة ( حضور تام مع اللّه ) على وجه لا يبقى مناسبته خليقية لها .
( وهو ) أي الحضور التام ( الروح المعنوي ) فلما حصلت هذه الحالة لمريم لم ينفخ جبرئيل فيها في ذلك الوقت ( فلو نفخ فيها في ذلك الوقت ) حال كون مريم ( على هذه الحالة ) أي على الحضور التام مع اللّه ( لخرج عيسى عليه السلام لا يطيقه أحد لشكاسة ) أي لصعوبة ( خلقه بحال أمه ) لأن الولد يتبع الأم في الصفات والأخلاق .
( فلما قال ) جبرائيل ( لها :إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّاانبسطت عن ذلك القبض وانشرح صدرها فنفخ فيها في ذلك الحين عيسى عليه السلام فكان جبرائيل ناقلا كلمة اللّه لمريم كما ينقل الرسول كلام اللّه لأمته وهو ) أي تلك الكلمة المنقولة عن جبرائيل إلى مريم .
( قوله تعالى وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) وتذكير الضمير باعتبار عيسى عليه السلام أو باعتبار ما بعده فإذا نفخ فيها .
( فسرت الشهوة في مريم فخلق جسم عيسى عليه السلام من ماء محقق من مريم ومن ماء متوهم من جبرائيل سرى في رطوبة ذلك النفخ لأن النفخ من الجسم الحيواني رطب لما فيه ) أي في الجسم الحيواني .
( من ركن الماء فيكون جسم عيسى عليه السلام من ماء متوهم ) ماء جبرائيل ( و ) من ( ماء محقق ) ماء مريم فكان لكل واحد منهما خواص تظهر من عيسى عليه السلام .
 
( وخرج على صورة البشر من أجل أمّه ومن أجل تمثل جبرائيل في صورة البشر حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني الأعلى الحكم المعتاد ) فإن حفظ هذه الصورة الشريفة واجب على أنه لو لم يكن على هذه الصورة لما كان نبيا مبعوثا إليهم لعدم بقاء المناسبة بينه وبينهم .
( فخرج عيسى عليه السلام ) بسبب تكونه من هذين الأمرين ( يحيي الموتى لأنه روح إلهي وكان الأحياء للَّه والنفخ لعيسى عليه السلام كما كان ) النفخ ( لجبرائيل والكلمة للَّه)
(فكان إحياء عيسى عليه السلام للأموات إحياء محققا من حيث ما ظهر عن نفخته كما ظهر هو عن صورة أمّه فكان إحياؤه أيضا متوهما أنه ) أي الإحياء ( منه).
( وإنما كان ) أي الإحياء ( للَّه ) حقيقة ولعيسى عليه السلام مجازا ( فجمع ) عيسى عليه السلام هذين الوجهين ( بحقيقته التي خلق عليها كما قلناه إنه لمخلوق من ماء متوهم ومن ماء محقق لينسب إليه الأحياء بطريق التحقيق من وجه ) أي من حيث أن الإحياء في الحقيقة للَّه .
( فقيل فيه ) أي في حق عيسى عليه السلام ( من طريق التحقيق وتحيي الموتى ) أي أسند الإحياء إليه حقيقة ( وقيل فيه من طريق التوهم فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه فالعامل في المجرور يكون لا قوله : تنفخ ) فيكون الطير صادرا عن اللّه في الحقيقة فما كان لعيسى عليه السلام إلا النفخ .
 
( ويحتمل أن يكون العامل فيه تنفخ فيكون طيرا ) صادرا عن نفخ عيسى عليه السلام ( من حيث صورته الجسمية المحققة ) في الإحياء لعيسى عليه السلام حقيقة وما كان للَّه إلا الإذن بالنفخ ( وكذلك ) أي وكذا القول في قوله تعالى في حق عيسى عليه السلام (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وجميع ما ينسب إليه ( أي إلى عيسى عليه السلام ( وإلى إذن اللّه أو إذن الكناية.
(يقبل الجهتين جهة التحقيق وجهة التوهم ( في مثل قوله تعالى بِإِذْنِي وهو إذن الكناية .
( وبِإِذْنِ اللَّهِ فإذا تعلق المجرور بتنفخ فيكون النافخ مأذونا له في النفخ فيكون الطائر عن النافخ بإذن اللّه ) وهذا هو جهة الحقيقة .
( وإذا كان النافخ نافخا لا عن الإذن فيكون التكوين للطائر طائرا ) نفسه ( بإذن اللّه فيكون العامل عند ذلك يكون ) هذا هو جهة التوهم فثبت أن حقيقة عيسى عليه السلام من ماء متوهم.
( فلو لا أن في الأمر ) أي في حقيقة عيسى عليه السلام ( توهما تحققا ما قبلت هذه الصورة ) صورة الآيات وصورة عيسى عليه السلام ( في هذين الوجهين بل ) ثابت أو مختص ( لها ) أي لهذه الصورة ( هذان الوجهان لأن النشأة ) أي الحقيقة ( العيسوية يعطي ذلك ) الوجهين للصورة العيسوية .
( وخرج عيسى عليه السلام من التواضع إلى أن شرّع ) بتشديد الراء ( لامته ) فسرى ذلك التواضع الحاصل لعيسى عليه السلام من جهة أمّه إلى ( أن يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
 
صاغِرُونَ)  أي متذللون متواضعون جاعلون لأنفسهم حقيرا ذليلا منقادا .
 
( وأن أحدهم إذا لطم في خده وضع الخد الآخر لمن يلطمه ولا يرتفع عليه ولا يطلب القصاص منه هذا له ) أي هذا التواضع حاصل لعيسى عليه السلام ( من جهة أمّه إذ المرأة لها السفل ) في الحقيقة ( فلها التواضع في الصورة لأنها تحت الرجل حكما ) كما في قوله تعالىالرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ.
( وحسا ) كما في التصرف فما كان فيه وأمته من الضعف فهو من جهة أمّه ( وما كان فيه من قوة الإحياء والإبراء فمن جهة نفخ جبرائيل عليه السلام في صورة البشر فكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى بصورة البشر ) من أجل ذلك ( ولو لم يأت جبرائيل عليه السلام في صورة البشر وأتى في صورة غيرها من صور الأكوان العنصرية من حيوان أو نبات أو جماد لكان عيسى عليه السلام لا يحيي الموتى إلا حين يتلبس بتلك الصورة ويظهر فيها )
(ولو أتى جبرائيل عليه السلام بصورته النورية الخارجية عن العناصر ) والسماوات فإن كلها عنصرية .
 
( والأركان إذ ) أي حيث ( لا يخرج عن ) صورة ( طبيعية ) النورية ( لكان عيسى عليه السلام لا يحيي الموتى إلا حين يظهر في تلك الصورة الطبيعية النورية لا العنصرية مع الصورة البشرية من جهة أمّه فكان يقال فيه ) أي في حق عيسى عليه السلام حين تلبسه بالصورتين ( عند إحيائه الموتى هو ) من حيث تلبسه بالصورة البشرية ( لا هو )  من حيث تلبسه بالصورة النورية .
( وتقع الحيرة في النظر إليه كما وقعت في العاقل عند النظر الفكري إذا رأى شخصا سويا من البشر يحيي الموتى وهو ) أي إحياء الموتى ( من الخصائص الإلهية إحياء النطق ) أي يحيي الإنسان الميت ناطقا لعيسى عليه السلام مجيبا لدعوته فكان الأحياء مع النطق .
( لا احياء الحيوان ) أي لا الإحياء الذي يتحرك الميت ويقوم من قبره بدون النطق إذ لو كان كذلك لم يكن معجزة فلما أحيى سام فقام وشهد نبوته ثم رجع إلى أول حاله تحيروا فيه فاختلفوا على حسب مظهر نظرهم ( بقي الناظر حائرا إذ يرى الصورة بشرا بالأثر الإلهي فأدّى ) نظر ( بعضهم فيه ) أي في حق عيسى عليه السلام ( إلى القول بالحلول ) .
 
يعني قال بعضهم من النصارى أن اللّه تعالى حل عيسى عليه السلام فأحيا الموتى ( وأنه ) أي وبعد قولهم بالحلول قال ذلك البعض أن عيسى ( هو اللّه بما ) أي بسبب الذي ( أحيا به الموتى ) وهو قوله : قمبِإِذْنِ اللَّهِ ( ولذلك ) أي ولأجل أن بعضهم قالوا إن اللّه حل في صورة عيسى عليه السلام وأن عيسى عليه السلام هو اللّه ( نسبوا إلى الكفر وهو الستر لأنهم ستروا اللّه الذي أحيا الموتى ) قوله ( بصورة بشرية ) تنازع فيه ستروا وأحيا فأيهما عمل حذف مفعول الآخر ( عيسى ) عليه السلام بيان لصورة بشرية .
( فقال تعالى :لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ *فجمعوا بين الخطأ ) وهو حصر الحق في الصورة العيسوية ( والكفر ) وهو ستر الحق فيهما ( في تمام الكلام كله ) فكفروا بقولهم هذا بالكفر الشرعي ( لا بقولهم هو اللّه ) لأنه هو اللّه من حيث تعينه بالصورة
 
العيسوية وإحياء الموتى وخلق الطير فاللّه ليس هو من حيث تعينه بصورة أخرى فكان عيسى عليه السلام هو لا هو ( ولا بقولهم ابن مريم ) أي لتصديق هذا القول ( فعدلوا بالتضمين ) أي بأن جعلوا الحق في الصورة العيسوية وهو قولهم إن اللّه يحلّ في صورة عيسى عليه السلام .
( من اللّه ) متعلق بعدلوا ( من حيث أنه ) أي من حيث أن اللّه ( أحيا الموتى ) قوله ( إلى الصورة الناسوتية البشرية ) متعلق بعدلوا ( بقولهم ابن مريم وهو ابن مريم بلا شك ) وهو دليل عدولهم من اللّه إلى الصورة الناسوتية ( فتخيل السامع ) أي سامع قولهمإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ .
( أنهم ) أي القائلون بهذا القول ( نسبوا الألوهية ) ابتداء للصورة العيسوية ( وجعلوها ) أي الألوهية ( عين الصورة وما فعلوا ) ذلك ( بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء ) حالة ( في صورة بشرية ) صورة عيسى عليه السلام ( وهي ابن مريم ) وهو صورة سترهم ( ففصلوا بين الصورة ) العيسوية ( والحكم ).
أي الهوية الإلهية فكفروا بالكفر اللغوي وهو الستر إذ كل صورة وهي إستار طلعته لأن الكفر الشرعي في تمام الكلام كله وهو معنى قولهم بالحلول أي اللّه حالّ في صورة عيسى عليه السلام فأحيا الموتى فلما قالوا بالحلول حكموا أن اللّه هو عيسى وهو معنى قوله لا بقولهم هو اللّه وحصروا اللّه في المسيح فما جمع الكفر والخطأ إلا في قولهم هذا .
 
( لا أنهم جعلوا الصورة عين الحكم ) ابتداء وإنما نسبهم الحق إلى الكفر لا إلى الخطأ فإن خطأهم وهو الحصر في قولهم " إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ " ظاهر بين .
وأما كفرهم فلا يدل ظاهر الآية عليه لأن ظاهر قولهم "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ " لا يدل على العينية والكفر هو الستر والستر يقتضي المغايرة فلما نسبهم الحق في قولهم هذا إلى الكفر ارتفع تخيل السامع فظهر الحق بما قلناه من أنهم فصلوا بين الصورة والحكم ابتداء.
 
ولو أنهم لم يفعلوا ما قلناه لم ينسبوا إلى الكفر ولم يقل الحق في حقهملَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ *[ المائدة : 17 ] الآية فكانت الهوية ولا عيسى عليه السلام ثم وجد لتحققها بدونه ( كما كان جبرائيل ) متمثلا ( في صورة البشر ولا نفخ ثم نفخ ففصل ) أي فرق ( بين الصورة والنفخ ) سواء كان النفخ من صورة جبرائيل في عيسى عليهما السلام أو من صورة عيسى عليه السلام في الطير ( وكان النفخ ) أي وجد ( من الصورة فقد كانت ) أي وجدت الصورة ( ولا نفخ ) فإذا فصل بين الصورة والنفخ .
( فما هو النفخ من حدها الذاتي ) أي ليس النفخ من الحد الذاتي للصورة سواء كانت الصورة لجبرائيل أو لعيسى عليهما السلام لوجود الصورة بدون النفخ ولا الصورة العيسوية حدا ذاتيا للهوية الإلهية لتحقق الهوية بدون الصورة العيسوية ولا الأحياء حدا ذاتيا للصورة العيسوية لوجودها قبل الأحياء.
( فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى عليه السلام ما هو فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانية البشرية فيقول : هو ابن مريم ومن ناظر فيه من حيث الصورة الممثلة البشرية فينسبه لجبرائيل ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من احياء الموتى فينسبه
 
إلى اللّه بالروحية فيقول : روح اللّه أي به ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه فتارة يكون الحق فيه متوهما اسم مفعول ) من حيث إحيائه الموتى.
( وتارة يكون الملك فيه متوهما ) اسم مفعول من حيث كونه عن نفخ جبرائيل ( وتارة تكون البشرية الإنسانية فيه متوهما ) من حيث أنه ابن مريم ( فيكون ) عيسى عليه السلام  (عند كل ناظر بحسب ما يغلب عليه فهو كلمة اللّه ) لكونه حاصلا عن نفخ جبرائيل ( وهو روح اللّه ) لظهور الحياة فيمن نفخ فيه ( وهو عبد اللّه ) لكونه على الصورة البشرية .
( وليس ذلك ) الاجتماع أوليس ذلك النفخ الحاصل في الصورة الحسية العيسوية حاصلا ( في الصورة الحسية ) البشرية ( لغيره ) حتى وقع فيه الخلاف الواقع بين أهل الملل في عيسى عليه السلام ( بل كل شخص ) لعدم اجتماع حقائق هذه الوجوه فيه ( منسوب إلى أبيه الصوري لا إلى النافخ روحه في الصورة البشرية ).
وإنما لم يكن لغير عيسى عليه السلام من البشر ما كان لعيسى عليه السلام ( فإن اللّه تعالى إذا سوى الجسم الإنساني كما قالفَإِذا سَوَّيْتُهُ *) فنفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين .
قوله ( نفخ فيه هو تعالى من روحه ) جواب لقوله إذا سوّى الجسم الإنساني ( فنسب الروح في كونه ) أي في وجود الإنسان ( وعينه ) الحسي ( إليه تعالى ) فكان نسبة الروح إلى اللّه في حقه بعد التسوية ففصل بين تسوية الجسم والنفخ الروحي في غيره فلم يسم روح اللّه ( وعيسى عليه السلام ليس كذلك فإنه اندرجت تسوية جسمه وصورته البشرية بالنفخ الروحي ) فلم يفصل بين تسوية الجسم العيسوي وبين روحه فلا يتقدم تسوية جسمه على نفخ روحه .
( وغيره كما ذكرناه لم يكن مثله ) أي لم يكن مثل عيسى عليه السلام في الخلقة فلا يكون غير عيسى عليه السلام محلا للخلاف كما كان عيسى عليه السلام فإذا كان نافخ الروح هو اللّه ( فالموجودات كلها كلمات اللّه التي لا تنفد فإنها ) أي الموجودات صادرة (عن كن وكن كلمة اللّه ) فتنسب كلمة كن إلى اللّه .
إما بحسب مرتبة ألوهية وإما بحسب نزوله إلى صورة من يقول كن لإحياء الموتى ، وإليه أشار بقوله ( فهل تنسب الكلمة إليه تعالى بحسب ما هو عليه ) من مقام ألوهيته بدون النزول وتكلم بلسانه بكلمة كن فأحيا الموتى وخلق الطير من صورة عيسى عليه السلام ( فلا تعلم ماهيتها ) حينئذ إذ كلمته عين ماهيته فلا تعلم ماهيته فلا تعلم كلمته .
 
( أو ينزل هو تعالى إلى صورة من يقول ) له ("كُنْ فَيَكُونُ " قول كن حقيقة لتلك الصورة التي نزل ) الحق ( إليها وظهر فيها ) وتكلم بكن لإحياء الموتى وخلق الطير ( فبعض العارفين يذهب إلى الطرف الواحد ) وهو أن اللّه متكلم بكلمة كن في مقام ألوهيته وهو المحيي والخالق لا العبد ( وبعضهم إلى الطرف الآخر ) وهو أن اللّه متنزل في صورة من يتكلم بكلمة كن فالخالق والمحيي هو العبد بإذن اللّه .
( وبعضهم يحار في الأمر ) أي في صدور الأمر الخارق من العبد كالإحياء وخلق الطير ( ولا يدري ) من أي شيء هو أمن الحق أم من العبد لأن هذا العارف يعلم أن الإحياء من الخصائص الإلهية فشاهد صدوره من العبد فيحار في نسبته إلى اللّه وإلى العبد لعدم ذوق هذا العارف من تلك المسألة ( وهذه ) أي الإحياء والخلق .
( مسألة لا يمكن أن تعرف ) بكنه الحقيقة ( إلا ذوقا كأبي يزيد حين نفخ في النملة التي قتلها فحييت ) بسبب نفخه ( فعلم عند ذلك ) النفخ ( بمن ينفخ فنفخ فكان ) أبو يزيد ( عيسوي المشهد ) فعلم منه أن كل ما صدر من الأولياء مثل هذا كان بواسطة روحانية عيسى عليه السلام هذا هو الإحياء الصوري .
 
( وأما الإحياء المعنوي بالعلم فتلك الحياة الإلهية الذاتية العلمية النورية التي قال تعالى فيها ) أي في حق هذه الحياة ( أو من كان ميتا ) بالجهل ( فأحييناه ) بالحياة العلمية (وجعلنا له نورا ) وهو العلم ( يمشي به ) أي بالنور ( في الناس ) فيدرك بذلك النور ما في أنفسهم ( فكل من يحيي نفسا ميتة بحياة علمية في مسألة خاصة متعلقة بالعلم باللّه فقد أحياه بها وكانت ) هذه الحياة العلمية ( له نورا يمشي به في الناس أي بين أشكاله ) قوله ( في الصورة ) .
 
هو متعلق بأشكاله وضمير أشكاله لمن له النور فظهر أن الإحياء الحسي والمعنوي إما من اللّه بواسطة الإنسان الكامل بإذن اللّه فكان لكل واحد من الحق والعبد مدخل في وجود حادث فيستند الوجود إلى الحق والعبد
( شعر ) :
(فلولاه ولولانا ... لما كان الذي كانا )
( فلولاه ولولانا ) أي ولو لم يكن الحق وأعياننا ( لما كان الذي كانا ) أي لما ظهر في الكون ما ظهر وهو بيان لاتحاد الإنسان مع الحق في الربوبية
( فأنا أعبد حقا  .... وأن اللّه مولانا )
وهو بيان للفرق
( وأنا عينه فاعلم   ..... إذا ما قلت إنسانا )
أي إذا سميت عينك بإنسان أي لا ينافي عينيتنا مع الحق إنسانيتنا
(فلا تحجب بإنسان ...  فقد أعطاك برهانا )
( فلا تحجب ) على صيغة المجهول ( بإنسان ) أي لا تحجب بأن تسمى بالإنسانية عن عينيتك مع الحق ( فقد أعطاك ) على عينيتك أو عينيتنا مع الحق ( برهانا ) وهو قوله كنت سمعه وبصره وغير ذلك
(فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا )
( فكن حقا ) بحقيقتك وروحك ( وكن خلقا ) بنشأتك العنصرية (تكن باللّه رحمانا)  أي عام الرحمة بإفاضتك الكمالات الإلهية على عباده
(وغذ خلقه منه ...    تكن روحا وريحانا)
( وغذ خلقه منه ) الضميران عائدان إلى اللّه ( تكن روحا ) وغذاء روحانية الخلق يغتذي بك ويتلذذ بك ( وريحانا ) تشم من نفخات إنسك مع الحق .
(فأعطيناه ما يبدو ...    به فينا وأعطانا )
( فأعطيناه ما يبدو به ) أي أعطيناه الحق ما يظهر به من صورة استعدادنا ( فينا ) من الأسماء والصفات كالحياة والعلم والقدرة فيظهر فينا بهذه الصفات بحسب استعدادنا وفاعل ما يبدو ضمير عائد إلى الحق وبه عائد إلى الموصول ( وأعطانا ) ما ظهرنا به من وجودنا وأحوالنا  ومقتضيات ذواتنا
(فصار الأمر مقسوما   ... بإياه وإيانا )
( فصار الأمر مقسوما بإياه ) أي بما أعطيناه إياه ( وإيانا ) أي بما أعطاه إيانا
(فأحياه الذي يدري  ... بقلبي حين أحيانا )
( فأحياه ) الضمير للقلب المذكور حكما أي أحيى قلبي بالحياة العلمية ( الذي يدري بقلبي ) أي يعلم قلبي واستعداده الأزلي ( حين أحيانا ) بالحياة الحسية .

.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:27 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
(فكنا فيه أكوانا    ... وأعيانا وأزمانا )
( وكنا فيه ) أي وكنا في غيب الحق قبل الحياة ( أكوانا وأعيانا وأزمانا ) لا حياة لنا بالحياة الحسية والعلمية
(وليس بدائم فينا   ... ولكن ذاك أحيانا )
( وليس ) هذا المذكور وهذا التقرب مع اللّه ( بدائم فينا ولكن ذاك أحيانا ) أي وقتا دون وقت كما قال عليه السلام ( لي مع اللّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبي مرسل )  . ذكره الكلاباذي في بحر الفوائد يعقوب و السيوطي فى شرح سنن ابن ماجه و  لمناوي في فيض القدير
""و قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لي مع الله وقتا لا يسعني فيه غيره» ذكره الكلاباذي في بحر الفوائد ""
( ومما يدل على ما ذكرناه في أمر النفخ الروحاني مع صورة البشر العنصري ) يعني أن جبرائيل نفخ الروح العيسوي مع صورة البشر العنصري العيسوي بلا تقدم الاستواء على النفخ لا كما لغيره من أولاد آدم فإن استواء صورتهم البشرية العنصرية مقدم على نفخ أرواحهم بخلاف عيسى عليه السلام فإن تسوية جسمه مندرجة في نفخ روحه تحصل مع حصول روحه .
والدليل على ذلك هو ( أن الحق وصف نفسه بالنفس الرحماني ولا بد لكل موصوف بصفة أن يتبع الصفة جميع ما تستلزم تلك الصفة ) فإذا وصف الحق نفسه بالنفس فلا بد أن يصف نفسه بما يستلزم النفس ( وقد عرفت أن النفس ) الإنساني ( في المتنفس ما تستلزمه ) أي أيّ شيء الذي يستلزمه من إزالة الكرب وصور الحروف والكلمات النطقية وغير ذلك فاتبع المتنفس بالنفس جميع ما تستلزمه من إزالة الكرب وصور الحروف والكلمات النطقية .
( فلذلك ) أي فلأجل اتباع الموصوف جميع ما تستلزمه تلك الصفة ( قبل النفس الإلهي صور العالم فهو ) أي النفس الإلهي صور العالم ( لها ) أي لصور العالم ( كالجوهر الهيولاني وليس ) النفس الإلهي ( إلا عين الطبيعة ) التي هي تقبل الصور فقبل نفخ جبرائيل الصورة البشرية لعيسى بحيث لا تنفك عن النفخ الروحي .
( فالعناصر ) الأربع وهي الماء والتراب والهواء والنار والسماوات السبع ( صورة من صور الطبيعة وما فوق العناصر وما تولد عنها ) أي عن فوق العناصر أنث الضمير باعتبار كثرة الفوق ( فهو أيضا من صور الطبيعة وهي الأرواح العلوية التي فوق السماوات السبع ) وهي صورة من صور الطبيعة غير العنصرية .
والمراد بفوق السماوات السبع العرش والكرسي وبالأرواح العلوية ما تولد منهما من ملائكتهما وأرواحهما مع صورها وغيرها من العقول والنفوس المجردة كل ذلك غير عنصرية فالسماوات وما تولد منها داخلة في العناصر يدل على ذلك قوله :
( وأما أرواح السماوات السبع ) المدبرة لأجسامها ( وأعيانها ) أي وأجسام السماوات السبع ( فهي عنصرية ) وصورة من الطبيعة ( فإنها ) أي السماوات السبع متولدة ( من دخان العناصر المتولد عنها ) أي الدخان الذي تولد عن العناصر فالأرواح المنطبعة المدبرة بالعناصر أيضا عناصر .
(وما تكون) من التكون (عن كل سماء من الملائكة فهو) أيضا ( منها ) أي من العناصر(فهم ) أي الملائكة الذين تكونوا من السماوات السبع ( عنصريون ) كالسماوات ( و ) ما تكون ( من فوقهم ) أي من فوق هذه الملائكة طبيعيون فالعرش والكرسي مع أرواحهما وملائكتهما ( طبيعيون ) فما من صورة من الصور مما سوى اللّه إلا وهي صورة من صور الطبيعة ما عدا الملائكة المهيمة ومنهم العقل الأول فإنهم نوريون وإن كانوا طبيعيين  لكنهم لا داخلون تحت حكم الطبيعة وما من صورة من صور الطبيعة الإلهية إلا وهي إما عنصري وإما طبيعية 

( ولهذا ) أي ولأجل كون الملائكة التي فوق السماوات السبع طبيعيين ( وصفهم اللّه بالاختصام ) في الحديث القدسي قوله ( أعني الملأ الأعلى ) تفسير للملائكة الموصوفة بالاختصام وإنما وصف الحق الملأ الأعلى بالاختصام ( لأن الطبيعة متقابلة ) وهي مظهر ولاية الأسماء المتقابلة فأجسام الأرواح الملائكة العلوية المسماة بالأعلى لملإ الأعلى والملائكة المهيمية المخلوقة من جلال اللّه أجسام نورية طبيعية وهي أول ما خلق اللّه من الأجسام ( والتقابل الذي في الأسماء الإلهية التي هي النسب إنما أعطاه النفس ) الرحماني وهو عين الطبيعة فكان التقابل للطبيعة لذاتها وللأسماء بسبب كون الطبيعة محلا لولايتها فكان التقابل في الأسماء والطبيعة لا في الذات من حيث هي ( ألا ترى الذات ) وهي الذات الأحدية ( الخارجة عن هذا الحكم ) أي عن حكم التقابل ( كيف جاء فيها الغني عن العالمين ) ولم يجئ في حق الذات الداخلة في حكم التقابل الغني عن العالمين .

( فلهذا ) أي فلأجل كون التقابل حاصلا في الحضرة الاسمائية ( خرج العالم على صورة من أوجدهم ) أي العالم ( وليس ) من أوجدهم إلا ( النفس الإلهي ) فخرج العالم يتقابل بعضها بعضا فالطبيعة والعالم والنفس الإلهي يقتضي كل واحد منها التقابل ( فبما ) أي فبسبب الذي ( فيه ) أي حاصل في النفس الإلهي ( من الحرارة ) بيان لما ( علا ) ما ( علا من العالم كالنار والهوى وبما فيه من البرودة والرطوبة سفل ) من العالم ما سفل كالتراب والماء فتقابل من العالم بعضا بالعلو والسفل لتقابل طبيعتها بالحرارة والبرودة فخرج العالم على صورة النفس الإلهي من التقابل .

( وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل ) أي لم يتحرك ( فالرسوب ) وهو مقابل الثبوت والتزلزل ( للبرودة ) أي لمقتضى البرودة ( والرطوبة ألا ترى الطبيب إذا أراد سقى دواء لأحد ينظر في قارورة مائه فإذا رآه ) أي قارورة مائية ذكر الضمير لاستواء التذكير والتأنيث في قارورة أو باعتبار تعلقه لأحد ( رسبا علم ) الطبيب ( أن النضج ) أي أن قابلية اندفاع المرض عن هذا الشخص ( قد كمل فيسقيه ) أي هذا المريض ( الدواء ليسرع ) الدواء ( في النضج ) أي في النجاح لا ليرسب .

( وإنما يرسب لرطوبته وبرودته الطبيعة ) فظهر أن الرسوب للرطوبة والبرودة والإسراع للدواء فاختلف العالم بالكيفيات المختلفة في الطبيعة ( ثم أن هذا الشخص الإنساني ) وهو آدم عليه السلام ( عجن ) أي خمر الحق ( طينته بيديه ) وهو إشارة إلى قوله خمرت طينه آدم بيديّ أربعين صباحا ( وهما متقابلتان ) كنايتان عن صفتيه الجلال والجمال الجامعتين بجميع الصفات القهرية واللطفية ( وإن كانت كلتا يديه يمينا ) أي وإن كانتا متحدين في الأخذ والقوة لكنهما متقابلتان بالآثار ( فلا خفاء بما بينهما من الفرقان ) بالآثار والأحكام ( ولو لم يكن ) بينهما من الفرقان من كونهما يمينا مباركا موصولا إلى المطلوب متساويا في القدرة والتأثير ( إلا ) لكن ( كونهما اثنتين أعني يدين ) دليل واضح على أن بينهما من الفرقان يعني لو لم يكن بينهما تقابل لما قال تعالى بيديّ بالتثنية بل قال بيدي بالوحدة وإنما تقابل اليدان ( لأنه ) أي الشأن ( لا يؤثر في الطبيعة إلا ما يناسبها وهي ) أي الطبيعة ( متقابلة فجاء ) في حق تخمير طبيعة هذا الشخص ( باليدين ) المتناسبتين للطبيعة في التقابل فعلم منه أنه لا يؤثر العلة في المعلول إلا بشرط وجود المناسبة بينهما فأوجد آدم باليدين بهذه المناسبة .

( ولما وجده باليدين سماه بشرا للمباشرة اللائقة بذلك الجناب ) لا المباشرة الغير اللائقة به وهي المباشرة الجسمية الحسية فإنه منزه عن هذه المباشرة ( باليدين المضافتين إليه ) لا اليدين الغير المضافتين إليه تعالى وهما العضوان المخصوصان من أعضاء الإنسان فإنها محال أن يضاف إلى اللّه تعالى .

( وجعل ذلك ) الإيجاد وهو إيجاد باليدين ( من عنايته بهذا النوع الإنساني واستدل على جعل الحق ذلك الإيجاد من عنايته بهذا النوع بقوله تعالى فقال تعالى لمن أبى عن السجود له ) أي لآدم عليه السلام (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ على من هو مثلك يعني عنصريا ) أي لا مثلك في الخلقة فإنه خلقته بيديّ وخلقتك بيد واحدة .

فالذي خلق باليدين أعلى وأشرف على من هو بيد واحدة فلم لم تسجد لما فضلت عليك في الخلقة ما سبب منع سجدتك لما خلقت بيديّ أمجرد الاستكبار (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ[ ص : 75 ] عن العنصر ولست كذلك ) أي ولست من العالين عن العنصر فتعين أن المانع من السجود استكبارك القبيح اللازم لشأنك الخبيث .

( ويعني بالعالين من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النورية عنصريا وإن كان طبيعيا ) وهم الملائكة المهيمون والملائكة المقربون كجبرائيل وغيره من ملائكة العرش والكرسي .

( فما فضل الإنسان ) أي نوع الإنسان ( غيره من الأنواع العنصرية إلا بكونه بشرا من طين فهو أفضل نوع من كل ما خلق من العناصر من غير مباشرة ) باليدين وغيره من العنصريات الأرضية والسماوية حاصلة بمباشرة يد واحدة أو من غير ورود النص في مباشرته .

( فالإنسان في الرتبة فوق الملائكة الأرضية والمساوية والملائكة العالون خير من هذا النوع الإنساني بالنص الإلهي ) وهو قوله " :أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ " .

وقوله : "ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" فالإنسان من حيث كونه جامعا بجميع ما في الحقائق الكونية والإلهية خير من الملائكة العالين .

فكان بعض أفراد هذا النوع كالأنبياء والمرسلين أفضل من هذه الملائكة وغيرها من الموجودات فيكفي خيرية الملائكة من هذا النوع الإنساني خيريتهم من بعض أفراد النوع كما قال المحققون من علماء الشريعة .

رسل الملائكة أفضل من عامة البشر فكل واحد من الإنسان والملائكة العالين فاضلا ومفضولا فالإنسان من حيث حقيقته الجامعة لجميع المراتب أفضل من الموجودات العنصرية والطبيعية فكان الإنسان أفضل من الملائكة العالين من ذلك الوجه .

والعالون أفضل من الإنسان ، من حيث أنه لم يكن نشأتهم النورية عنصريا وإليه أشار بقوله ويعني بالعالين .

فالمراد بالخيرية بالنص هي هذه الخيرية لا الخيرية من كل الوجوه .

( فمن أراد أن يعرف النفس الإلهي ) بحقيقته ( فليعرف العالم ) الذي هو صورته وإنما توقف معرفة النفس الإلهي إلى معرفة العالم ( فإنه ) أي لأنه ( من عرف نفسه ) وهو جزء من العالم ( فقد عرف ربه ) فإن نفسه تفصيل وتعريف لربه فمن عرفها عرفه.

ولما يوهم قوله ( الذي ظهر فيه ) صفة للرب فسره ليعلم ابتداء أنه صفة للعالم لا للرب فقال : ( أي العالم ظهر في نفس الرحمن الذي نفس اللّه به ) أي بسبب الرحمن ( عن الأسماء الإلهية ) قوله : ( ما ) مفعول نفس ( تجده ) ضمير الفاعل عائد إلى الأسماء ( من عدم ظهور آثارها ) متعلق بتجد بيان لما والذي تجده من عدم ظهور آثارها هو الكرب ( بظهور آثارها ) متعلق بنفس أي نفس اللّه عن الأسماء الكرب بسبب ظهور آثارها .

أي أزال عنها الكرب بسبب إظهار كمالاتها التي في كونها ولو بقي آثارها في بطونها ولم تظهر في أوقاتها لزم الكرب للأسماء فأظهرها اللّه في أوقاتها لئلا يلزم الكرب لأن الكرب يحصل ثم أزاله اللّه بتنفيسه عن الأسماء فإن هذا محال في حق اللّه وحق الأسماء.

 ( فامتنّ على نفسه ) بقوله الحمد للَّه ( بما أوجده ) أي بالذي أوجده من صور الأعيان ( في نفسه ) بفتح الفاء متعلق بأوجد ( فأول أثر كان ) أي حصل ( للنفس ) أي من النفس الرحماني ( إنما كان في ذلك الجناب الإلهي ) أي عن الحضرة الاسم اللّه الجامع ( ثم لم يزل الأمر يتنزل بتنفيس الغموم إلى آخر ما وجد ) .

شعر :
(فالكل في عين النفس ... كالضوء في ذات الغلس )
( فالكل ) أي ظهور العالم كله ( في عين النفس ) الرحماني ( كالضوء ) أي كظهور الضوء بدون الشمس ( في ذات الغلس ) أي في آخر ظلمة الليل فكما أن الليل والنهار لا يظهر أحدهما بدون الآخر كذلك لا يظهر كل واحد من النفس الرحماني والعالم بدون أحدهما .
(والعلم بالبرهان في ... سلخ النهار لمن نعس  )
( والعلم ) أي العلم الحاصل ( بالبرهان في سلخ النهار ) أي في آخره ( لمن نعس ) أي لمن نام ولم يتحصل علم ما قلته بالكشف العياني قبل سلخ النهار فقوله لمن يتعلق بالعلم وفي سلخ النهار كذلك .
فيرى الذي قد قلته ... رؤيا تدل على النفس )
( فيرى ) الناعس ( الذي ) مفعول يرى ( قد قلته ) من تحقيق أنفس الرحماني والعالم ( رؤيا ) مفعول ثان ليرى ( تدل على النفس ) صفة للرؤيا .

(فيريحه من كل غم ... في تلاوته «عبس» )
( فيريحه ) أي يريح هذا العلم الناعس ( من كل غم ) أي من كل جهل حاصل ( في تلاوته ) .
أي في فكره ( عبس ) أي كأنه تلا بلسان الحال "عَبَسَ وَتَوَلَّى" حيث كانت نفسه في ضيق الجهل وعبوس الفكر .
لكن هذا العلم لا يجديه نفعا لأنه تعبير واستدلال بنظر العقل فلا يستلزم علم حقيقته ما يراه فهذه الأبيات في حق من طلب العلم بنظر عقلي لا من طلب بالكشف والبرهان وأما الذي طلب بطريق التجلي والكشف فحصل مطلوبه . فهو الذي قال في حقه

 ( ولقد تجلى للذي ....  قد جاء في طلب القبس )
شبه السالكين بحال موسى عليه السلام في حصول مطلوبهم فكما تجلى اللّه لموسى عليه السلام في طلب القبس من النار ، كذلك تجلى اللّه للسالكين الذين جاءوا في طلب القبس من النور فنفع علمهم لحصوله في وقته .

(فرآه نارا وهو نور ... في الملوك و في العسس)
( فرآه ) أي رأى موسى عليه السلام الحق ( نارا ) وهي صورة مطلوبة ( وهو نور في الملوك ) وهم الذين خلصوا عن ظلمة الطبيعة  وملكوا نور الحق فلا دليل عندهم والعالم كله نهار عندهم .
( وفي العسس ) وهم السالكون الذين لم يصلوا درجة التحقيق ولم يخلصوا عن ظلمة طبيعتهم وهم يتصرفون في ظلمة طبيعتهم بالنور الإلهي كما يتصرف العسس في ظلمة الليالي بالنار فكما أن العسس تابع في التصرف بالملوك كذلك السالكون المتوسطون تابعون في تصرف طبيعتهم الظلمانية بالكمل والمرشدين هم ملوك الطريقة وسلاطين الحقيقة.

( فإذا فهمت مقالتي   ..... تعلم بأنك مبتئس )
أي فقير ليس لك شيء من العلم بالحقائق فدعوتك غني بالعلم كدعوة الفقير غني بالمال وهذا دعوة من الشيخ رضي اللّه عنه في تحصيل العلم من طريق العقل إلى طريق الكشف .

(لو كان يطلب غير ذا ... لرآه فيه وما نكس)
( لو كان ) موسى عليه السلام ( يطلب غير ذا ) أي غير النار ( لرآه ) أي لرأى الحق ( فيه ) أي مطلوبة أي مطلوب كان ( وما نكس ) الحق في إعطاء مطلوب كل طالب إذا توجه إليه فتجلى له الحق في صورة مطلوبه وهو منزه عن الصورة والصورة تنشأ عن بصر الرائي.
ولما فرغ عن بيان الحقيقة العيسوية وما يتعلق بها شرع في بيان حكمته وتحقيق الآيات الواردة في حقه عليه السلام .

فقال : ( وأما هذه الكلمة العيسوية لما قام لها ) أي الكلمة العيسوية في اليوم الآخر ( الحق في مقام حتى نعلم ) بالمتكلم ( ويعلم ) بالغائب ( استفهمها ) أي استفهم الحق كلمة عيسى عليه السلام ( عما نسب إليها ) أي إلى كلمة عيسى عليه السلام وإلى أمها من الألوهية حتى يعلم الحق.
( هل هو ) أي المنسوب إليها وهو الألوهية ( حق ) واقع في نفس الأمر ( أم لا مع علمه الأول بهل وقع ذلك الأمر أم لا ) لكنه استفهم ليظهر علمه الأول عن صورة عيسى عليه السلام وإنما لم يقل عما نسب إليهما مع أن الألوهية منسوبة إليهما إذ لا يقع دعوى الألوهية عن المرأة لذلك استفهم عيسى عليه السلام عن الألوهية المنسوبة إلى أمه دون أمه فجمعها في الاستفهام .

( فقال له ) أي فقال اللّه لعيسى عليه السلام :أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ[ المائدة : 116 ] يعني أأنت نسبت الألوهية إليك وأمرت بالناس باتخاذكما آلهين من دون اللّه أم الناس نسبوا الألوهية واتخذوكما آلهين من عند أنفسهم.

( فلا بد في الأدب من الجواب للمستفهم ) أي لا بد في الأدب أن يجيب المستفهم الذي استفهمه جوابا موافقا لسؤاله ( لأنه لما تجلى له ) الحق ( في هذا المقام ) وهو مقام التفرقة وهو ضمير الخطاب ( و ) في ( هذه الصورة ) وهي صورة الاستفهام الإنكاري.
( اقتضت الحكمة الجواب في التفرقة بعين الجمع ) أي اقتضت الحكمة الجواب الجامع لمقام الفرق والجمع .

( فقال وقدم التنزيه سبحانك فحدّد بالكاف التي تقتضي المواجهة والخطاب ) فميز أوّلا بين العبودية والألوهية وهو التفرقة فخاطبه في الجواب كما خاطبه في السؤال ( ما يكون لي من حيث أنا لنفسي ) أي من حيث عبوديتي وآنيتي (دونك ) من دون ربوبيتك وهويتك ( أن أقول ما ليس لي بحق أي ما تقتضيه هويتي ولا ذاتي ) فإن مقتضى ذاتي العبودية لا الألوهية فلا أكون أقول ما لا تقتضيه ذاتي .

( أن كنت قلته ) أي ما ليس لي بحق وهو الألوهية  (فقد علمته لأنك أنت القائل ) في صورتي ( ومن قال أمرا فقد علم ما قال وأنت اللسان الذي أتكلم به ) والوجود واللسان والقول كله لك وما لي إلا العدم وهذا هو جهة الجمع ( كما أخبرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تعالى عليه وسلم عن ربه في الخبر الإلهي فقال : « كنت لسانه الذي يتكلم به » ) في أنه أخبر عن الأشياء على ما هي عليه فإن العبد إذا تقرب إليه علم الأشياء على ما هي عليه فأخبر عنها فعلمه علم الحق ولسانه لسان الحق .

( فجعل ) الحق ( هويته ) أي هوية نفسه بقوله كنت لسانه ( عين لسان المتكلم ) لكونه عين المتكلم بحسب الحقيقة ( ونسب الكلام إلى عبده ) بقوله الذي يتكلم به لكونه غير المتكلم بحسب التعين فالمتكلم هو العبد لكنه بالحق يتكلم وهو نتيجة قرب النوافل فجمع التنزيه والتشبيه في كلام واحد .

( ثم تمم العبد الصالح الجواب بقوله تعلم ما في نفسي ) من الكمالات والنقائص المستترة بهويتي لأن نفسي بحسب الحقيقة عين نفسك ( والمتكلم ) أي والحال أن المتكلم بهذا القول (الحق ) لكنه بلسان عيسى عليه السلام وهو إشارة إلى نتيجة قرب الفرائض ( ولا أعلم ما فيها فنفى ) الحق بلسان عيسى عليه السلام ( العلم عن هوية عيسى عليه السلام من حيث هويته ) فإنه حينئذ عدم .

( لا من حيث أنه ) أي لا من حيث أن عيسى عليه السلام ( قائل وذو أثر ) فإنه من هذه الحيثية عين الحق ( أنك أنت علام الغيوب فجاء بالفصل والعماد ) وهو أنت ( تأكيدا للبيان واعتمادا عليه إذ لا يعلم الغيب إلا اللّه ففرق ) عيسى عليه السلام الحق بجعله مخاطبا بقوله سبحانك ( وجمع ) بقوله إن كنت قلته فقد علمته ( ووحد ) وهو لازم للجمع ( وكثر ) وهو لازم للتفرقة ( ووسع ) من حيث سريان هويته جميع الموجودات وهو قوله " تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي" ( وضيق ) باعتبار الظاهر وهو قوله "وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ" وأتى كله بالتشديد للمبالغة .

( ثم قال ) العبد الصالح ( متمما للجواب ) إذ الجواب يحصل بقوله إن كنت قلته فقد علمته فعدّ ذلك من متمماته ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني فنفى أوّلا ) عن نفسه قولا ( مشيرا إلى أنه ما هو ثمة ) أي إلى أن عيسى عليه السلام ليس هو موجودا في هذا المقام حتى يقول قولا بل الوجود كله اللّه ( ثم أوجب القول أدبا مع المستفهم ولو لم يفعل كذلك لا تصف ) عيسى عليه السلام ( بعدم العلم بالحقائق وحاشاه من ذلك ) فلو لم يثبت الهوية الإلهية بعد نفيه الهوية العيسوية لكان نفيا مطلقا وليس كذلك بل الأمر الإثبات بعد النفي أو نفي بعد الإثبات فأثبت الهوية الإلهية ( فقال : إلا ما أمرتني به وأنت المتكلم على لساني وأنت لساني ) فأثبت الهوية الإلهية في ضمن الهوية العيسوية فالقول قول الحق واللسان لسان الحق لكن ظهر في الصورة العيسوية .

( فانظر إلى هذه التنبئة ) من الأنباء على وزن تفعله ( الروحية الإلهية ) أي فانظر إلى هذا الإخبار الروحي الإلهي ومن التنبي باعتبار السؤال من طرف الحق والجواب من عيسى عليه السلام يعني فانظر إلى هذا السؤال والجواب ( ما ألطفها ) بعبارتها ( وما أدقها ) بإشارتها ( أن اعبدوا اللّه فجاء ) عيسى عليه السلام ما أمر اللّه به  
( بالاسم اللّه لاختلاف العباد في العبادات واختلاف الشرائع ولم يخص اسما خاصا دون اسم ) ولم يقل أن اعبدوا الرحمن أو غيره من الأسماء الخاصة .
( بل جاء بالاسم الجامع للكل ) أي لجميع الأسماء ( ثم قال ) عيسى عليه السلام ( له ) : أي اللّه ( ربي وربكم ومعلوم أن نسبته ) أي نسبة الحق ( إلى موجود ما بالربوبية غير نسبة إلى موجود آخر ) فإن عبد الرحيم ليس عبد القهار.

 ( فلذلك ) أي فلكون نسبة الربوبية باختلاف المظاهر ( فصل ) عيسى عليه السلام الرب ( بقوله رَبِّي وَرَبَّكُمْ بالكنايتين كناية المتكلم به وكناية المخاطب إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ فأثبت نفسه مأمورا وليست نفسه سوى عبوديته إذ لا يؤمر إلا من يتصور منه الامتثال ) إلى الأمر .
( وإن لم يفعل ) فكان نفسه عين عبوديته وإلا لما قال إلا ما أمرتني.
( ولما كان الأمر ) أي أمر الحق عباده بالتكليف ( ينزل ) من الحضرة الجامعة لجميع الأسماء وهو الاسم اللّه ( بحكم المراتب ) أي بحكم المظاهر الكونية فيتصف بصفاتها من الحدوث والإمكان وغير ذلك من الصفات الامكانية .
( لذلك ) أي لأجل نزول الأمر التكليفي بحكم المراتب ( ينصبغ كل من ظهر في مرتبة ما ) من المراتب ( بما ) أي بالذي ( تعطيه حقيقة تلك المرتبة ) فإن القرآن الكريم بالنسبة إلى الحق القديم قديم وباعتبار نزوله وظهوره في مراتبنا حادث وجواب لما محذوف تقديره لما كان الأمر ينزل نزل بحكم المراتب أو قوله ينصبغ لأن قوله لذلك مؤخر عنه معنى ( فمرتبة المأمور ) وهي مرتبة كلية مشتملة على مراتب مخصوصة جزئية .
( لها حكم ) وهو التسليم والطاعة والقبول بأمر أمره ( يبدو ) أي يظهر ذلك الحكم ( في كل مأمور ) أي في كل مرتبة من جزئيات تلك المرتبة الكلية ( ومرتبة الأمر ) وهي مرتبة جامعة لجميع مراتب مخصوصة وهي مرتبة الاسم اللّه .


.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:27 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
( لها حكم ) يحكم به على المأمور وهو التكليف الشرعي للمأمور ( يبدو في كل آمر ) من خصوصيات تلك المرتبة الكلية الآمرية ( فيقول الحق أقيموا الصلاة فهو الأمر والمكلف ) بكسر اللام ( المأمور ) العبد فكان الحق في مرتبة الآمر يظهر منه الحكم والعبد في مرتبة المأمور يظهر منه الطاعة لأمره ( ويقول العبد رب اغفر لي فهو الآمر ) بحسب مفهوم الصيغة واللغة لا بحسب الاصطلاح وكذا قوله : ( والحق المأمور ) ولا يسمى بحسب الشرع بأنه مأمور بأمر شيء لكن أهل اللّه قد يطلقون لكشف المعاني المستورة على أعين أهل الحجاب لحكمة تقتضي كشفها فكان كل واحد من الحق والعبد آمرا ومأمورا .

لكن المأمور في حق الحق بمعنى المطلوب والآمر في حق العبد في رب اغفر لي بمعنى الطالب وإليه أشار بقوله : ( فما يطلب الحق من العبد بأمره هو بعينه يطلب العبد من الحق بأمره ) وليس ما طلبه كل واحد من الآخر بأمره إلا الإجابة .
وكانت الإجابة مطلوبة فمطلوب العبد من الحق بقول رب اغفر لي وجود الغفران ومطلوب الحق من العبد بقوله :"وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ *[ البقرة : 43 ] .
إقامة الصلاة إذ لا يتصور إقامة الصلاة إلا من فعل العبد فحصول الصلاة من الحق محال لذلك طلب حصولها من العبد كما أن حصول الغفران لا يكون إلا من الحق لذلك طلب العبد من اللّه .

( ولهذا ) أي ولأجل كون المطلوب من الطرفين الإجابة ( كان كل دعاء ) أي طلب سواء كان من الحق أو من العبد ( مجابا ) ليحصل المجازاة بينهما .
كما قال من أطاعني فقد أطعته ومن عصاني فقد عصيته ( ولا بد وإن تأخر ) حصول الدعاء عن وقت الطلب ( كما يتأخر ) حصوله ( عن بعض المكلفين فمن أقيم مخاطبا بإقامة الصلاة فلا يصلي في وقت ) أي في وقت كونه مخاطبا ( فيؤخر الامتثال ويصلي في وقت آخر إن كان متمكنا ) أي قادرا بالإقامة ( من ذلك ) أي في ذلك الوقت ( فلا بد من الإجابة ) من العبد ( ولو )  تأخر الأمر التكليفي ( بالقصد ) أي بقصد العبد .
( ثم قال ) عيسى عليه السلام ( وكنت عليهم ) أي على الأمم ( ولم يقل على نفسي معهم ) أي لم يفصل من نفسه وأنفسهم ( كما قال ربي وربكم ) أي كما فصل بين ربه وربهم بقوله " رَبِّي وَرَبَّكُمْ " ( شهيدا ما دمت فيهم ) .

وإنما قال هذا القول ( لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم فلما توفيتني أي رفعتني إليك ) وإنما فسر توفيتني برفعتي ليثبت حياة عيسى عليه السلام ( وحجبتهم عني وحجبتني عنهم كنت أنت الرقيب عليهم في غير مادتي بل في موادهم ) بمعنى المعية بحكم واللّه معكم لا بمعنى الحلول في موادهم الروحانية والجسمانية فإنه محال في حق اللّه كما ثبت عند أهل اللّه .
( إذا كنت ) تعليل لقوله بل في موادهم ( بصرهم الذي يقتضي المراقبة ) وهو البصر المجرد عن المواد وهو النور الإلهي ( فشهود الإنسان ) أي الإنسان الكامل ( نفسه شهود الحق إياه ) لكون الحق بصر الإنسان الكامل دون غيره .
( وجعله ) أي جعل عيسى عليه السلام ذلك الشهود في الحق ( بالاسم الرقيب لأنه ) أي لأن عيسى عليه السلام ( جعل الشهود له ) أي للحق في قوله " وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً" لأن شهود عيسى عليه السلام شهود الحق في مادة عيسى عليه السلام فلم يفصل بينه وبين ربه ( فأراد أن يفصل بينه وبين ربه ) كما هو عادة العالمين بالحقائق .

( حتى يعلم أنه هو ) أي أن عيسى عليه السلام هو عيسى عليه السلام ( لكونه عبدا ) في الواقع ( و ) يعلم ( أن الحق هو الحق ) في الواقع ( لكونه ربا له فجاء لنفسه بأنه شهيد ) لأن الشهيد قد يؤخذ بمعنى الشاهد على الشخص الحاضر عنده .
( و ) جاء ( في الحق بأنه رقيب ) لأن الرقيب هو الشاهد على الشيء أزلا وأبدا وفرق بين نفسه وبين ربه في الشهود عليهم لذلك قيد شهوده بقولهما دُمْتُ فِيهِمْوأطلق في الحق بقوله "أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ".
( وقدمهم في حق نفسه فقال " عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ " إيثارا لهم في التقدم وأدبا وآخرهم في جانب الحق عن الحق في قوله "الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " لما يستحق الرب من التقدم بالرتبة) عيسى عليه السلام على صيغة الماضي أي أخبر.

 ( ثم اعلم أن للحق الرقيب الاسم الذي جعله عيسى عليه السلام لنفسه وهو الشهيد في قوله " عَلَيْهِمْ شَهِيداً " فقالَ " وأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" ) يعني أنا شهيد على قوم مخصوص ما دمت فيهم وأنت شهيد عليهم وعلى كل شيء أزلا وأبدا هي شهادة الحق في مقام الجمع والإطلاق .

( فجاء بكل للعموم وشيء لكونه أنكر النكرات وجاء بالاسم الشهيد ) فإذا كان الأمر كذلك ( فهو الشهيد على كل مشهود بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود فنبه ) عيسى عليه السلام بقوله " وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ".

( على أنه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى عليه السلام حين قال "عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ" فهي ) أي شهادة عيسى عليه السلام ( شهادة الحق ) عليهم .
( في مادة عيسوية كما ثبت أنه لسانه وسمعه وبصره ) فأثبت الشهادة أوّلا لنفسه بقولهوَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداًونفي ثانيا بإثباتها وحصرها للحق بقوله " وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " لا غير .

( ثم قال ) الحق ( كلمة عيسوية ومحمدية ) مقول قال ( أما كونها عيسوية فإنها قول عيسى عليه السلام بإخبار اللّه عنه في كتابه وإما كونها محمدية فلوقوعها عن محمد عليه السلام بالمكان الذي وقعت منه فقام ) محمد عليه السلام ( بها ).
 أي بهذه الكلمة ( ليلة كاملة ) وقرأها ( يرددها لم يعدل إلى غيرها حتى طلع الفجر ) فهذه الكلمة المنسوبة إلى عيسى وإلى محمد عليهما السلام قوله تعالى :" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ " بجرمهم وهو جعلهم شركاء للَّه ( فإنهم عبادك ) لا اعتراض على المولى المطلق فيما يفعل بعبيده بما استحقوا به .

( وإن تغفر لهم )  أي تسترهم عن الذنوب " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " أي أنت القادر القوي على عفو المجرمين .
فإن عذبت فعدل فإن غفرت ففضل هذا تفسيرها .
وأما إشاراتها ولطائفها فسنبينك ( وهم ) في قوله " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ"، "وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ " ( ضمير الغائب كما أن هو ) في قوله تعالى :" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وفي غير ذلك ( ضمير الغائب كما قال هم الذين كفروا بضمير الغائب فكان الغيب سترا لهم عما يراد بالمشهود الحاضر ) .
والمراد بالمشهود الحاضر عالم الشهادة وبما يراد به هو الحق تعالى .

أي يشاهد الحق بالمشهود والحاضر ويستدل به فكان الحق نفسه مشهودا بالعالم الشهادة وهم لا يشاهدون الحق بالمشهود يستدلون به لكون الغيب سترا وحجابا لهم فكانوا محجوبين عن الحق فإذا كان الغيب سترا لهم .
( فقال إن تعذبهم بضمير الغائب وهو ) أي الغيب ( عين الحجاب الذي هم ) كانوا ( فيه ) أي في ذلك الحجاب الذي ( عن الحق ) أي حصل عن الحق ، فغيب الحق تسترهم فالحق معهم في حجابهم بل الحق عين حجابهم وهم لا يشعرون بذلك .

( فذكرهم اللّه ) النبي بتشديد الكاف فتذكر النبي فدعا لهم بضمير الغائب في قوله :" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ على كونهم في حجاب في الحياة الدنيا ( قبل حضورهم ) بين يديّ اللّه في يوم القيامة .
( حتى إذا حضروا ) بين يديّ اللّه وشاهدوا ما كانوا عليه قبل ذلك من الحجاب ( تكون الخميرة ) هي خميرة ما أودع في طينه أبدانهم من استعداد الوصول إلى حضرة الحق ( قد تحكمت في العجين ) أي في عجينهم العجين طينة أبدانهم ( فصيرته ) أي صيرت الخميرة العجين في وقت حضورهم ( مثلها ) أي مثل الخميرة في إيصالهم إلى الحق .
فمقتضى العجين الستر والحجاب عن الحق والخميرة الكشف عن الحق والوصول إلى الحق فقد يحكم عجينهم على خميرتهم في الحياة الدنيا فصيرها مثله في عدم الإيصال إلى الحق .

فإذا قامت قيامتهم انتهى بحكم العجين فتحكمت فيه كما تحكم فيها فصيرته كما صيرها مثله .
فقيام النبي عليه السلام بهذه الآية ليلة كاملة وانتهاؤه عند ظهور نور الشمس يدل على أنهم في ستر من الحق في الحياة الدنيا .
فهي كلها ليلة كاملة في حقهم لذلك لم يفعل العكس .
ولا نهار لهم في الدنيا لعدم ظهور الحق لهم فيها ولعدم شهودهم أنفسهم فيها وهم عند شهودهم أنفسهم وشهودهم الحق في اليوم الآخر .
فالحق مذكرهم ما داموا في غيبة موادهم الغيبية فإذا حضروا بين يديّ اللّه في يوم القيامة فالحق مشاهدهم في موادهم الصورية الأخروية مع كونه مشاهدهم في مقامه الجمعي الإلهي أزلا وأبدا فتذكيرهم الحق النبي على هذا الوجه يدل على استحقاقهم المغفرة بدعاء النبي عليه السلام .

( فإنهم عبادك فأفرد الخطاب للتوحيد الذي كانوا عليه ) في التولد وفي جواب ألست يعني وإن خالفوا أمرك في الظاهر ويعبدون غيرك ويجعلون لك شريكا لكنهم في المعنى يعبدونك لكون فطرتهم الأصلية على التوحيد .
( ولا ذلة أعظم من ذلة العبيد ) وإنما كانوا عبادك ( لأنهم لا تصرف لهم في أنفسهم فهم بحكم ما يريد بهم سيدهم ولا شريك له ) أي لسيدهم ( فيهم ) وإنما كان لا شريك للَّه فيهم .

( فإنه قال ) بلسان نبيه ( عبادك فأفرد ) فلما توجه أن يقال إذا كانوا يحكم ما يريد به سيدهم فلا استحقاق لهم العذاب الموجع من هذا الوجه .
قال ( والمراد بالعذاب إذلالهم و ) الحال ( لا أذل منهم لكونهم عبادا فذواتهم تقتضي أنهم أذلاء فلا تذلهم )  فمعنى قوله " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ " أي أن تريد إذلالهم ( فإنك لا تذلهم بأدون مما هم فيه ) من الإذلال ( من كونهم عبيدا ) .

فلا سبيل إلى إذلالهم لامتناع إذلال الأذلاء وامتناع تعلق قدرتك بالممتنع ولا سبيل إلى العذاب الموجع على الشق الأول من الترديد لعدم استحقاقهم من هذا الوجه .

( وإن تغفر لهم أي تسترهم عن إيقاع العذاب ) الموجع ( الذي يستحقونه بمخالفتهم ) بأمرك التكليفي ( أي تجعل لهم غفرا يسترهم عن ذلك ) العذاب ( ويمنعهم منه فإنك أنت العزيز أي المنيع الحمى ) .
يعني إن ذاتك بحسب الاسم العزيز والغفور يقتضي مظهرا يظهر بهما بكمال الظهور ولا أكمل مظهرا ممن جعل لك شريكا .
فإن لم تسترهم من العذاب لفائت هذه الحكمة التي يراد وقوعها وهو ظهور الحق بكمال الغفارية فلا بد من ظهور الحق بكمال الغفارية ولا بد من إجابة دعاء الرسول عليه السلام في حقهم بإذن اللّه .

فلا بد من ستر الحق عنهم إيقاع العذاب الذي يستحقونه بجرمهم هذا في حق المشركين الذين استحقوا العفو والمغفرة في العلم الأزلي بشرط دعاء الرسول عليه السلام ليلته الكاملة فخاتمتهم في آخر نفسهم على الإيمان وأما الذين قبضوا على الشرك فلن يغفر اللّه لهم .
فلا يؤذن للرسول عليه السلام إن يدعو لهم بل يدعو عليهم لوجوب التعذيب في حقهم بالنص.
ولا يجوز إلحاحا من النبي على ربه في المسألة ليلة كاملة طلبا للمغفرة لمن وجب في حقه التعذيب بالنص .
فلا ينفع الدعاء لهم فالأنبياء معصومون عن فعل العبث قال القاضي البيضاوي في تفسير الآية وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع الترديد تم كلامه .

فحينئذ ليس المراد من الترديد طلب المغفرة لهم بل ثناء للَّه من النبي عليه السلام بكمال التوحيد وكمال القدرة .
لكن الأنبياء ممنوعون بالنص الإلهي عن طلب المغفرة للمشركين فكان التريد عبادة خاصة للرسول نافعة له لا لهم هذا وإن كان له وجه لكن ظاهر الآية وقرنية الحال وهي تلاوة النبي عليه السلام ليلة كاملة يدلان ما قاله الشيخ رضي اللّه عنه من أنه دعاء لهم من النبي عليه السلام بإذن اللّه فما كان الدعاء إلا لطلب الإجابة فأجاب اللّه دعاءه .

ولو لم يجب لردّه في كرة أو كرتين أو ثلاث كرات كما قال تعالى :" اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ " [ التوبة : 80 ] .
فمنع نبيه عليه السلام عن طلب الاستغفار للمشركين وكما قال تعالى :" لَنْ تَرانِي " يا موسى.
 فمن سنة اللّه منع نبيه عليه السلام عن فعل ما لا يفيد ولو لم يفد هذا الترديد في حقهم لما ترك نبيه عليه السلام في ليلة كاملة .
فما ترك الترديد إلا بطلوع الفجر ولو طال لطال .
فظاهر الآية يدل على كمال شفقة النبي عليه السلام وترحمه عليهم فما هذا إلا دعاء وشفاعة لهم لا مجرد ترديد خال عن طلب المغفرة.

 ( وهذا الاسم ) العزيز ( إذا أعطاه ) أي هذا الاسم ( الحق لمن أعطاه من عباده يسمى الحق ) في ذلك الوقت ( بالمعز و ) العبد ( المعطى له هذا الاسم ) يسمى ( بالعزيز ) لكونه مظهرا لتجلي الحق بالعزة .
( فيكون ) الحق ( منيع الحمى ) أي مانعا حماه وما حماه إلا عين عبده ( عما يريد به المنتقم والمعذب من الانتقام والعذاب ) فمقتضى هذا الاسم منع العذاب عن العبد المذنب لذلك التجأ في دعائه إليه فأجاب اللّه دعاءه عن إضاعة مجاهدته في ليلة كاملة .

( وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ولتكون الآية على مساق واحد في قوله "إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ " وقوله " كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِم " ْفجاء أيضا "فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ") أعاده ليتفرع عليه بعض الأحكام .

( فكان ) ترديد النبي عليه السلام ليلته ( سؤالا من النبي عليه السلام وإلحاحا منه على ربه في المسألة ليلة الكاملة إلى طلوع الفجر يرددها ) أي يردد النبي عليه السلام تلك المسألة ( طلبا للإجابة فلو سمع الإجابة في أول سؤاله ما كرر ) سؤاله .

( فكان الحق يعرض عليه ) أي على النبي عليه السلام ( فصول ما استوجبوا به ) أي استحقوا به ( العذاب ) وهو الذنب الذي يطلب المغفرة وهو عدا الشرك إذ الشرك لا يقبل المغفرة فالشيء لا يطلب ما لا يقبله ( عرضا مفصلا ) أي كل واحد من الذنوب والمذنبين .

( فيقول ) النبي عليه السلام ( له ) أي للحق ( في كل عرض عرض وعين عين ) أي في كل عرض وعين فردا فردا ("إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "

(فلو رأى ) النبي عليه السلام ( في ذلك العرض ) أي عرض الحق على النبي عليه السلام ( ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه ) من أن الحق يريد القهر والانتقام منهم لا يريد المغفرة لهم ( لدعا عليهم لا لهم ) لأن الأنبياء لا يريدون ما لا يريده الحق .

فعلم النبي عليه السلام في ذلك العرض أن الحق يريد العفو والمغفرة لهم بدعائه فبالغ في دعائه ليلة كاملة ( فما عرض ) الحق ( عليه ) أي على النبي عليه السلام ( إلا ما استحقوا به ) أي بسبب ذلك الشيء وهو الذنب .

( ما ) مفعول استحقوا أي الذي ( تعطيه ) أي تعطي ذلك الشيء ( هذه الآية ) قوله ( من التسليم للَّه والتعريض لعفوه ) بيان لما يعني أن هذه الآية تعطي الرسول عليه السلام ما استحقوا به من أن الرسول عليه السلام يسلم للَّه في دعائه لهم إذ لا يدعو لهم إلا بأمر الحق ويعرض على الحق مغفرتهم فما نزل الآية عليه إلا أن يشفع لهم ولا يشفع إلا لمن يقبل الشفاعة .
 
( وقد ورد ) في الخبر ( أن الحق إذا أحب صوت عبده في دعائه إياه ) أي إلى الحق ( أخر الإجابة عنه ) أي عن العبد ( حتى يتكرر ذلك ) الدعاء ( منه ) أي من العبد ( حبا فيه ) أي في دعائه ( لا إعراضا عنه ولذلك ) أي ولأجل تأخير الإجابة عن العبد حبا من اللّه ليتكرر من العبد.
( جاء بالاسم الحكيم والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها ولا يعدل بها ) أي الأشياء ( عما ) أي عن الذي ( تقتضيه وتطلبه حقائقها ) أي حقائق الأشياء ( بصفاتها ) أي بصفات الحقائق .

( فالحكيم هو العليم بالترتيب فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بترداده هذه الآية على علم عظيم من اللّه فمن تلا هذه الآية فهكذا يتلو ) أي كتلاوة الرسول عليه السلام في كونه على علم عظيم ( وإلا فالسكوت أولى به فإذا وفق اللّه عبدا إلى نطق بأمر ما فما وفقه ) أي العبد ( إليه ) إلى نطق ( إلا وقد أراد إجابته ) أي إجابة عبده ( فيه ).

أي في ذلك النطق ( وقضاء حاجته ) فإذا كان الأمر كذلك ( فلا يستبطئ ) أي فلا يغتم ( أحد ) بتأخير ( ما يتضمنه ما وفق له ) من الدعاء ( وليثابر ) أي وليواظب على دعائه مثل ( مثابرة رسول اللّه على هذه الآية في جميع أحواله ) أي أحوال الرسول ( حتى يسمع ) الداعي ( بإذنه )  الجسماني ( أو بسمعه ) القلبي ( كيف شئت أو كيف أسمعك اللّه الإجابة فإن جازاك ) الحق ( بسؤال اللسان أسمعك بإذنك وإن جازاك بالمعنى أسمعك بسمعك ).
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:27 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فص حكمة رحمانية ) أي زبدة علوم منسوبة إلى الرحمن حاصلة ( في كلمة سليمانية ) أي في روح هذا النبي عليه السلام فكل من علم هذه الحكمة وتكلم بها .
"" إضافة المحقق : يبحث هذا الفص في مسألتين هامتين إلى جانب مسائل أخرى كثيرة تتصل بها : -
المسألة الأولى : الرحمة الإلهية ، معناها وأقسامها . وقد سبقت الإشارة إلى الرحمة في النصوص التي سبقت ولكننا هنا بإزاء شرح أوفى لأحد قسمي الرحمة وهو رحمة الوجوب .
المسألة الثانية : هي مسألة الملك والخلافة والتصرف وهي متصلة بسليمان عليه السلام على نحو ما فصله القرآن الكريم.""
فمن روح هذا النبي قال اللّه تعالى حكاية عن قراءة بلقيس كتاب سليمان عليه السلام ( أنه يعني الكتاب ) الملقى إليّ ( من سليمان وأنه أي مضمونه ) .
وإنما رجع الضمير الثاني إلى المضمون لا إلى  الكتاب لأن ما في الكتاب لا ينحصر في البسملة ( بسم اللّه الرحمن الرحيم فأخذ بعض الناس ) أي ذهب بعض المفسرين ( في تقديم ) يتعلق بأخذ باعتبار تضمنه معنى شرع وإن كان متعديا ( اسم سليمان على اسم اللّه ) .
 أي قدم سليمان في كتابه اسمه على اسم اللّه فحكى بلقيس مع حواشيها كذلك ( ولم يكن كذلك ) والحال أن سليمان لم يقدم اسمه على اسم اللّه في كتابه بل إنما كان التقديم عن قراءة بلقيس لأنه لما قالت بلقيس لحواشيها أني ألقي إليّ كتاب كريم نصب السامعون أعينهم وانتظروا إلى ذكر الملقى فاقتضى المقام تقديم اسمه على اسم اللّه في قراءة بلقيس وكذلك في كتاب سليمان بل قدم اسم اللّه على اسمه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وتكلموا في ذلك ) أي في وجه تقديم سليمان اسمه على اسم اللّه ( بما لا ينبغي ) يتعلق بتكلموا ( مما ) بيان لما لا ينبغي ( لا يليق بمعرفة سليمان عليه السلام بربه ) .
فإنهم قالوا إنما قدم اسمه على اسم اللّه لئلا يحرق الكتاب بحرمة صاحبه .
وبعضهم قالوا إنما قدم اسمه على اسم اللّه لأنها ملكة كافرة فخاف سليمان شتمها عند القراءة فقدم اسمه ليرجع الشتم إليه "لا" إلى اللّه .
كل ذلك لا يليق بحضرة سليمان العالم بالأمور على ما هي عليه لذلك ذهب الشيخ إلى أن سليمان لم يقدم اسمه على اسم اللّه والتقديم بتوهم من حكاية بلقيس ( وكيف يليق ما قالوه وبلقيس تقول ) لحواشيها ( فيه ) أي في حق الكتاب ( أنى ألقي إليّ كتاب كريم أي يكرم عليها ) على بلقيس.


وسليمان عالم بهذا القول من بلقيس قبل أن تقول فكيف يليق بهذه المعرفة معرفة سليمان ما قالوه في حقه من نسبة الجهل ( وإنما حملهم ) أي بعض الناس ( على ذلك ) التقديم ( ربما ) فاعل حملهم على التقديم علة لحملهم على التقديم ( تمزيق كسرى كتاب رسول اللّه عليه السلام ) يعني قالوا إنما قدم سليمان اسمه على اسم اللّه لئلا تمزق كتابه كما مزق كسرى كتاب رسول اللّه عليه السلام لتقديم اسم اللّه على اسمه فقولهم قدم الرسول اسم اللّه على اسمه وقولهم : مزق كسرى كتاب رسول اللّه عليه السلام قد أصابوا فيه لكنهم أخطئوا في قولهم إن تمزيق كسرى كتاب رسول اللّه لتقديم اسم اللّه على اسمه .


ولولا ذلك التقديم لما مزقه وإلى بطلان هذا القول أشار بقوله ( وما مزقه ) أي وما مزق كسرى كتاب رسول اللّه ( حتى قرأه كله وعرف مضمونه ) .
ولو كان تقديم اسم اللّه سببا لتمزيق كتاب رسول اللّه عليه السلام لما قرأ كله بل مزق عند رؤية اسم اللّه بدون قراءة ما في الكتاب فما مزقه إلا لعدم توفيق اللّه له .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك ) أي ككسرى ( كانت تفعل بلقيس ) أي ما مزقته حتى قرأت كله وعرفت مضمونه ( لو لم توفق ) من التوفيق على بناء المجهول ( لما وفقت له ) فسبب التمزيق عدم التوفيق وسبب عدم التمزيق التوفيق.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلم يكن يحمى الكتاب عن الإحراق بحرمة صاحبه تقديم اسمه عليه السلام على اسم اللّه عزّ وجلّ ولا تأخيره ) أي لم يكن تقديم اسمه ولا تأخيره سببا لحفظ الكتاب عن التمزيق قوله الكتاب مفعول يحمى وتقديم فاعله .


( فأتى سليمان بالرحمتين رحمة الامتنان ) وهي ما يحصل من اللّه تعالى للعبد بدون مقابلة عمل من أعماله بل عناية سابقة في حق عبده كإعطاء الوجود والقدرة للعمل والصحة فإنها رحمة من اللّه للعبد ليست في مقابلة عمل بل منة وعطاء محض من اللّه تعالى ( ورحمة الوجوب ) .
وهي التي تحصل من اللّه للعبد بمقابلة عمله كإعطاء ثواب أعمالهم في الجنة ( اللتان هما الرحمن الرحيم فامتن ) أي امتن الحق ( بالرحمن ) لعموم حكمه على جميع الموجودات فامتن بقوله :" وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ "
وبقوله :" رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً"


( وأوجب ) أي جعل الحق على نفسه الرحمة واجبا ( بالرحيم ) المخصص بالرحمن العام ( وهذا الوجوب ) أي وجوب رحمة الوجوب ( من الامتنان فدخل الرحيم في الرحمن دخول تضمن ) يعني دخول الخاص تحت العام وإنما كانت رحمة الوجوب من الامتنان .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه كتب على نفسه الرحمة سبحانه ليكون ذلك ) وجوب الرحمة ( للعبد بما ) أي بسبب الذي ( ذكره الحق من الأعمال ) بيان لما أو لضميره ( التي يأتي بها هذا العبد ) قوله :
( حقا ) خبر ليكون ( على اللّه ) متعلق بحقا ( أوجبه ) الضمير المنصوب المتصل يرجع إلى اللّه وجوب الرحمة ( له ) يتعلق بأوجبه والضمير المجرور المتصل يرجع إلى العبد أي أوجب الحق الرحمة ( على نفسه ) للعبد على نفسه يتعلق بأوجبه ( يستحق بها ) أي يستحق العبد بإتيان الأعمال التي أمره الحق أن يفعلها.


( هذه الرحمة ) مفعول يستحق ( أعني رحمة الوجوب ) يعني أن العبد من حيث أنه عبد يجب عليه إتيان أوامر مولاه فلا تجب الرحمة على المولى في مقابلتها شيء .
فإذا قدر المولى وأوجب على نفسه لعبده شيئا في مقابلة عمله يستحق العبد بذلك الشيء بسبب عمله فوصل ذلك الشيء للعبد من المولى في مقابلة عمله فذلك امتنان وعطاء محض .
ومن ذلك قالوا الجنة فضل إلهي فلا يستحق بها العبد إلا بفضل اللّه تعالى فإن جعل الحق الأعمال أسبابا للجنة وهو من جملة فضل اللّه فكان وجوب الرحمة من رحمة الامتنان ( ومن كان من العبيد بهذه المثابة ) أي محققا بهذه المرتبة ومشاهدا إياها وهي مرتبة أن يكون الحق موجبا على نفسه الرحمة للعبد ( فإنه ) أي فإن ذلك العبد ( يعلم من هو العامل منه ) .


أي يعلم ذلك العبد يقينا ان العامل في الحقيقة من نفسه هو الحق ويعلم أن العمل لا يستند إليه إلا بحسب الظاهر وأما العبد الذي لم يكن بهذه المثابة فهو يزعم أنه عامل في الحقيقة ولما قال إن العامل في الحقيقة من صورة العبد هو الحق شرع في بيانه.
بقوله ( والعمل منقسم على ثمانية أعضاء من الإنسان ) لكل عضو عمل خاص له يعمل الإنسان ذلك العمل بذلك العضو على ما لا يخفى
( وقد أخبر الحق تعالى أنه ) أي الحق ( هوية كل عضو منها ) أي من أعضاء الإنسان فإذا كان الحق هوية كل عضو .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلم يكن العامل فيها غير الحق والصورة ) التي تظهر منها العمل ( للعبد والهوية ) الإلهية ( مندرجة فيه ) أي في العبد ( أي في اسمه ) أي في اسم اللّه أو في اسم العبد إذ لكل عبد اسم يظهر فيه أحكام ذلك الاسم ( لا غير ).
فسر بقوله أي في اسمه ليعلم أن اندراج الهوية ليس في نفس العبد بل في اسمه الظاهر في العبد ، كما قال : ولكن فيّ مظهره ولم يقل أنا مظهره لكنهم سامحوا وقالوا الهوية الإلهية مندرجة في العبد والمراد ما يظهر في العبد ويريه من أسماء اللّه تعالى .


فإن اندراج الهوية لا يكون إلا في الأسماء الإلهية ومعنى اندراج الهوية الإلهية في الموجودات كاندراج الهوية الشخصية في صورها الحاصلة في المرايا المختلفة وبه اندفع توهم الحلول لأهل الحجاب فإن الحلول محال عند أهل اللّه أيضا وإنما كانت الهوية الإلهية مندرجة في العبد ( لأنه تعالى عين ما ظهر ) منه ( ويسمى خلقا ) ومعنى كون الحق عين ما ظهر منه أي كون الحق عين الخلق كون المخلوق ظاهرا على صفة الحق وهي الحياة والعلم والقدرة .
 ومعنى كون الحق غير الخلق كون الخلق ظاهرا على الصفة الناقصة كالحدوث والإمكان ولوازمهما فكما أنت عين ما ظهر منك في المرايا المختلفة .
كذلك الحق عين العبد الذي ظهر منه بمعنى ما من صفة من صفات الحق إلا وهي موجودة في العبد إلا الوجوب الذاتي .
فإنه لاحظ للممكن فيه فمعنى العينية في اصطلاح هذه الطائفة اشتراك الأمرين أو الأمور في الحقيقة الواحدة كاشتراك زيد وعمرو وخالد في حقيقة الإنسانية .


فإن كل واحد منهم عين الآخر في الإنسانية أو في صفة كاشتراك زيد وعمرو في العلم وكاشتراك الموجودات مع الحق في الوجود .
يعني لا تمايز بينهما من هذا الوجه والغيرية امتيازها بوصف مختص .
فظهر لك معنى قوله لأنه تعالى عين ما ظهر أي عين ما ظهر من حيث الأمور الكلية المشتركة بينهما لا من جميع الوجوه .
فإنه محال ( وبه ) أي وبكون الحق عين ما ظهر ( كان ) أي حصل ( الاسم الظاهر والآخر للعبد وبكونه ) أي وبكون العبد ( لم يكن ثم كان ويتوقف ظهوره ) أي ويتوقف ظهور العبد ( عليه ) أي على الحق ( و ) توقف ( صدور العمل منه ).
أي من العبد على الحق أو يتوقف ظهور الحق على العبد وتوقف صدور العمل من الحق على العبد ( كان الاسم الباطن والأول ) للعبد .
فكان هو الأول والآخر والظاهر والباطن كما كان الحق كذلك أولية العبد وآخريته وظاهريته وباطنيته لا كما كان الحق ( فإذا رأيت الخلق رأيت الأول والآخر والظاهر والباطن ) يعني أن الخلق دليل تام على الخالق وأسمائه وصفاته لمن كشف اللّه عين بصيرته .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهذه معرفة ) وهي معرفة الحق من الخلق بأمهات أسمائه ( لا يغيب عنها سليمان عليه السلام ) لكونه متصرفا في الملك متحققا بمعرفة الأسماء الإلهية ليمكن التصرف بها في الملك كله .
( بل هي ) أي بل هذه المعرفة ( من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ) أي من بعد سليمان عليه السلام ( يعني الظهور به ) أي بهذا الملك ( في عالم الشهادة ) .
فدعا سليمان عليه السلام اختصاص ظهور الملك لا نفس الملك فجاز أن يعطي هذا الملك لأحد بعده لكن لا يظهر به ( فقد أوتي محمدا صلى اللّه عليه وسلم ما أوتيه سليمان عليه السلام وما ظهر ) أي ولم يظهر محمد عليه السلام ( به ) .


لأن ظهوره مختص بسليمان عليه السلام ( فمكنه اللّه ) أي محمدا بتشديد الكاف ( تمكين قهر من العفريت ) أي من كفرة الجن
( الذي جاءه ) أي جاء الرسول عليه السلام ( بالليل ليضل به ) وفي بعض النسخ ليفتك به أي ليقتله غفلة ( فهمّ ) أي قصد الرسول عليه السلام ( بأخذه ) أي بأخذ العفريت ( وربطه بسارية ) أي بعمد ( من سواري ) أي من عمود ( المسجد حتى ) أن ( يصبح فيلعب به ) أي بهذا العفريت ( ولدان المدينة فذكر ) الرسول عليه السلام ( دعوة سليمان عليه السلام ) وهي قوله "وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" .
( فردّه اللّه ) أي العفريت ( خاسئا ) من الظفر على محمد صلى اللّه عليه وسلم ( فلم يظهر ) محمد ( عليه السلام بما أقدر عليه ) على البناء للمجهول أي جعل الحق محمدا قادرا على العفريت ( وظهر بذلك ) .


أي بما أقدر عليه محمد عليه السلام ( سليمان عليه السلام ثم قوله ملكا فلم يعم فعلمنا أنه ) أي سليمان عليه السلام ( يريد ملكا ما ) أي ملكا خاصا من الأملاك .
( ورأيناه ) أي رأينا سليمان عليه السلام ( قد شورك ) سليمان عليه السلام مع غيره ( في كل جزء من الملك الذي أعطاه اللّه فعلمنا أنه ) أي أن سليمان عليه السلام ( ما اختص إلا بالمجموع من ذلك ) الملك الخاص المعطى له وأما أجزاء ذلك الملك الخاص فلا اختصاص لسليمان عليه السلام به .
فكان المجموع مختصا والأجزاء مشتركة ( و ) علمنا ( بحديث العفريت أنه ) أي أن سليمان عليه السلام ( ما اختص إلا بالظهور وقد يختص ) أي وقد اختص سليمان عليه السلام ( بالمجموع ) .


إذ لا يعطى هذا المجموع غير سليمان عليه السلام فلا شورك في نفس المجموع فكيف يشارك في الظهور بالمجموع وهو الملك المركب من الأجزاء ( والظهور ) أي اختص سليمان عليه السلام بظهور جزء جزء من الملك الذي أعطاه اللّه فلا يختص سليمان عليه السلام بذات جزء جزء .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلو لم يقل عليه السلام في حديث العفريت فأمكنني اللّه منه ) أي أعطاني اللّه قدرة وتصرفا في العفريت ( لقلنا إنه لما همّ بأخذه ) أي بأخذ هذا العفريت ( ذكره اللّه دعوة سليمان عليه السلام ليعلم الرسول عليه السلام أنه لا يقدره اللّه ) من الأقدار .
أي ليعلم الرسول عليه السلام أن اللّه لا يعطي له القدرة ( على أخذه فردّه اللّه خاسئا فلما قال فامكنني اللّه منه علمنا ) من هذا القول ( إن اللّه تعالى قد وهبه التصرف فيه ) أي في العفريت .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم إن اللّه ذكره ) من التذكير ( فتذكر ) الرسول عليه السلام ( دعوة سليمان عليه السلام فتأدب معه فعلمنا من هذا ) أي من حديث العفريت ( أن ) هذا ( الذي ) أي الملك الذي ( لا ينبغي لأحد من الخلق بعد سليمان عليه السلام الظهور بذلك ) الملك ( في العموم ) أي لا يظهر تصرفه في ذلك الملك في عموم الخلائق فعلم اختصاصه بالظهور بحديث العفريت واختصاصه بالمجموع باشتراكه في أجزاء الملك .
( وليس غرضنا من هذه المسألة ) المذكورة ( إلا الكلام والتنبيه على الرحمتين ) الرحمة العامة وهي صورة اشتراك سليمان عليه السلام في أجزاء الملك والرحمة الخاصة .
وهي اختصاص سليمان عليه السلام بالمجموع وبالظهور فجمع سليمان عليه السلام الرحمة العامة والرحمة الخاصة ( اللتين ذكرهما سليمان عليه السلام في الاسمين اللذين تفسيرهما بلسان العرب الرحمن الرحيم فقيد )  الحق ( رحمة الوجوب ) في قوله "وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً". وفي قوله: " فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. "  .
(وأطلق مرحمة الامتنان في قوله :"وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" حتى الأسماء الإلهية أعني حقائق النسب ) فرحم اللّه تعالى الأسماء رحمة الامتنان بإعطاء ما طلبته من المظاهر .
( فامتن ) اللّه ( عليها ) أي الأسماء ( بنا ) عبارة عن العالم كله أي بوجودنا فإن كان كذلك ( فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء ) أي بسبب الأسماء ( الإلهية والنسب الربانية).
(ثم ) أي بعد إعطاء وجودنا بالرحمة الامتنانية ( أوجبها ) أي أوجب تلك الرحمة الامتنانية ( على نفسه بظهورنا ) أي بسبب ظهورنا برحمة الامتنان ( لنا ) متعلق بأوجب أي ليرحمنا بها.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأعلمنا ) من الإعلام ( أنه ) أي اللّه ( هويتنا ) وهو قوله كنت سمعه وبصره ( لنعلم أنه ما أوجبها ) أي ما أوجب الحق تلك الرحمة ( على نفسه ) في التحقيق ( إلا لنفسه ) أي علة الوجوب وسببه هي جهة اتحادنا عينيتنا معه في صفاته لا من جهة غيريتنا معه ولو كنا غير الحق من كل الوجوه لما كتب الرحمة على نفسه .
والرحمة لا تكون إلا بقرب المناسبة وكثرتها ألا ترى أن الإنسان يتفاوت ترحمه بقوة المناسبة وضعفها والرحمة تنشأ من الميل الحسي والشيء لا يميل إلى مباينه بل يميل إلى مجانسه .
 
فالحق لا يميل إلينا إلا بمجانستنا إياه في أخلاقه وأوصافه ( فما خرجت الرحمة عنه ) خروجا منفكا بحيث يزول عنه ويحدث في غيرها لأن رحمته وأصله إلى من اتصف بصفاته الكاملة وصفاته عين ذاته من وجه أو موجودة فيه فمنه خرجت وإليه عادت ( فعلى من امتن وما ثمة ) أي وما في مقام الامتنان ( إلا هو ) أي إلا اللّه.
فإن قوله كتب على نفسه الرحمة قديم أزلي واقع قبل أن يحدث العالم في مقام كان اللّه ولم يكن معه شيء وهذا المقام ثابت للحق الآن فلما تكلم عن لسان التوحيد أراد أن يتكلم بلسان التفريق على ما هو سنته وسنة أهل التحقيق للجمع بين الوحدة والكثرة.
فقال : ( إلا أنه ) استثناء منقطع ( لا بد من حكم لسان التفصيل ) كما لا بد من حكم لسان الإجمال فإن الكثرة واقعة كما أن الوحدة واقعة فلا بد من البيان عن أحكامها وإنما كان لا بد من حكم لسان التفصيل ( لما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم حتى يقال إن هذا أعلم من هذا مع أحدية العين ) بحسب الحقيقة والتفاضل إنما يكون بحسب تفاوت الاستعدادات من القرب والبعد من الاعتدال الروحاني والجسماني .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومعناه ) أي معنى تفاضل الخلق في العلوم مع أحدية العين ( معنى نقص الإرادة عن تعلق العلم ) فإن الإرادة تتعلق بالممكنات والعلم يتعلق بالممكنات والممتنعات ( فهذه مفاضلة في الصفات الإلهية ) معنى ( كمال تعلق الإرادة وفضلها ) لكونها سابقة على تعلق القدرة وشرطها لحصولها .
( وزيادتها ) أي زيادة تعلق الإرادة ( على تعلق القدرة ) فإن الإرادة والقدرة تتعلقان بإيجاد المعدوم الممكن وإعدامه والإرادة تتعلق بعدم ممكن الوجود في نفسه فكان ممتنع الوجود بإرادة اللّه ولا يقال ممتنع بقدرة اللّه بل يقال ممتنع بإرادة اللّه كالغفران للمشركين الذين ماتوا وهم كفار فإنه ممكن في ذاته لأن العفو مستحسن لكل مجرم وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد.
( وكذلك السمع الإلهي والبصر وجميع الأسماء الإلهية على درجات في تفاضل بعضها على بعض ) علم ذلك التفاضل من علم المراتب الأسماء الإلهية وحقائقها .
 
( كذلك ) أي كتفاضل الأسماء ( تفاضل ما ظهر في الخلق من أن يقال هذا أعلم من هذا مع أحدية العين ) فالتفاضل في الأسماء الإلهية والخلق بحسب التعينات لا بحسب الأحدية ( وكما أن كل اسم إلهي إذا قدمته سميته بجميع الأسماء ونعته ) من التنعيت ( بها كذلك فيما ظهر من الخلق فيه أهلية كل ما فوضل به ) أي حصل في المفضول عليه أهلية كل مفضول به.
 
لاندراج الهوية الإلهية في المفضول عليه التي يستند جميع الكمالات الصادرة من المظاهر الخلقية إليها فزيد من حيث تضمنه الهوية الإنسانية فيه أهلية لجميع الكمالات الموجودة في إفراد تلك الحقيقة لأن الكمالات الظاهرة في إفراد كل نوع مودعة في شأن ذلك النوع .
وباعتبار ذلك كل فرد من ذلك النوع فيه أهلية كل ما كان في جميع أفراد ذلك النوع من الكمال وهو معنى قوله ( فكل جزء من العالم مجموع العالم أي هو قابل بحقائق متفرقات العالم كله ) لأن معناه أنه تكون تلك الأهلية ظاهرة بالفعل في كل جزء ( فلا يقدح قولنا إن زيدا دون عمرو في العلم ) يعني أن الاختلاف في الأحكام لا يقدح الاتحاد في الهوية ( ويكون ) الحق ( في عمرو أكمل وأعلم منه في زيد ) هذا إذا أسند العلم والكمال إلى الحق.
أي نظر إلى جهة إسناد الكمالات الظاهرة من المظاهر الخلقية إلى الحق فكان علمه الظاهر في صورة عمرو أكمل وأتم منه في علمه الظاهر في صورة زيد .
فكانت الذات الواحدة في حد نفسها بالوحدة الحقيقة فاضلا ومفضولا على نفسه باعتبار المظاهر وأما من حيث ذاته فلا فاضل ولا مفضول .
كما أن الحقيقة الإنسانية واحدة لذاتها كثيرة بحسب الأشخاص وكثرتها مودعة في شأن تلك الحقيقة .
 
فالواحد والوحدة والكثير والكثرة والأشخاص هي تلك الحقيقة التي تظهر في مراتبها بأحكامها ( كما تفاضلت الأسماء الإلهية و ) الحال أن الأسماء الإلهية ( ليست غير الحق ) من وجه فتفاضلها تفاضل الحق من حيث كونه مسمى بها موصوفا بحقائقها فإذا كان الحق متفاضلا على نفسه بتفاضل الأسماء
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهو تعالى من حيث هو عالم أعم في التعلق من حيث هو مريد وقادر وهو ) أي الحق ( هو ) عين العالم والمريد والقادر ( ليس غيره ) .
لأن الأسماء الإلهية متحدة في الهوية الإلهية فكان الحق ظاهرا في كل مقام ومظهرا كاملا أو ناقصا فإذا كان الأمر كذلك .
( فلا تعلمه يا ولي ) أي فلا تعلم الحق يا صاحبي ( هنا ) أي في مقام لعلوّ شأنه وشرفه ( و ) لا ( تجهله هنا ) أي لا تجهل الحق في مقام لدناءته وخساسته بل تعلمه في كل مقام شريفا كان أو حقيرا .
( و ) لا ( تنفيه هنا ) أي في مقام نظرا إلى نقصه ( و ) لا ( تثبته هنا ) نظرا إلى شرفه وزيادته بل اعلم الحق في كل مظهر ومقام عظيم أو حقير وأثبته كذلك لتكون عالما بالأسماء على ما هي عليه ( إلا أن أثبته ) أي إلا أن أثبت الحق .
( بالوجه الذي أثبت نفسه ونفيته عن كذا بالوجه الذي نفى نفسه ) فحينئذ المثبت والنافي الحق لا أنت وحينئذ أنت عبد محض تابع لحكم الحق في الحكم بالنفي والإثبات وحكم الحق على نفسه بالنفي والإثبات.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كالآية الجامعة للنفي والإثبات في حقه تعالى حين قال : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" فنفى "وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " فأثبت بصفة تعم كل سامع بصير من حيوان . وما ثمة ) أي وما في العالم
 ( إلا حيوان إلا أنه ) أي لكنه ( بطن ) الحيوان ( في الدنيا عن إدراك بعض الناس ) وهم محجوبون فيسمون بعض الأشياء جمادا والبعض الآخر حيوانا .
( وظهر في الآخرة لكل الناس فإنها دار الحيوان وكذلك الدنيا ) كلها حيوان ( إلا أن حياتها ) أي حياة الدنيا .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( مستورة عن بعض العباد ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد اللّه بما يدركونه من حقائق العالم فمن عم إدراكه كان الحق فيه أظهر في الحكم ممن ليس له ذلك العموم ) .
فيتفاضل من عم إدراكه على من لم يعم فإذا كان الأمر على ما بيناه ( فلا تحجب ) على المبني للمفعول أي لا تكن محجوبا ( بالتفاضل وتقول ) أي والحال أنك قائلا ( لا يصح كلام من يقول إن الخلق هوية الحق بعد ) يتعلق بلا تحجب .
( ما ) له ( إراءتك التفاضل في الأسماء الإلهية التي لا تشك أنت في أنها هي الحق ومدلولها المسمى بها ليس إلا اللّه ) فلا منافاة بين التفاضل واتحاد العلمين في الهوية .
ثم رجع إلى بيان حكمة تقديم سليمان عليه السلام اسم اللّه على اسمه فقال :
( ثم إنه كيف تقدم سليمان عليه السلام كما زعموا وهو ) أي سليمان عليه السلام (من جملة من أوجدته الرحمة) الرحمانية ومن جملة من رحمته الرحيمية بإفاضة الكمالات المختصة به .
( فلا بد أن يتقدم الرحمن الرحيم ليصح استناد المرحوم ) إليهما لكونه علة لوجود سليمان عليه السلام ومرحوميته ( هذا ) أي تقديم سليمان عليه السلام اسمه على اسم اللّه ( عكس الحقائق ) وهو ( تقديم من يستحق التأخير وتأخير من يستحق التقديم في الموضع الذي يستحقه ).
وسليمان عليه السلام مع كونه عالما بذلك كيف يقدم اسمه الذي يستحق التأخير على اسم اللّه الذي يستحق التقديم مع أن اسم اللّه يستحق في ابتداء كل أمر ذي بال وكتاب سليمان عليه السلام أمر ذو بال يجب تقديم اسم اللّه على ما في الكتاب .
ثم شرع في بيان حكمة بلقيس بقوله ( ومن حكمة بلقيس وعلوّ علمها كونها لم تذكر ) لحواشيها ( من ألقى إليها الكتاب وما عملت ) بلقيس ( ذلك ) العمل ( إلا لتعلم ) بلقيس من الأعلام ( أصحابها أن لها اتصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها ) أي لا يعلمون حواشيها الطريق الواصل إلى تلك الأمور التي وصلت إلى بلقيس .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا ) أي ما عملته بلقيس مع حواشيها ( من التدبير الإلهي في الملك لأنه إذا جهل طريق الاخبار الواصل للملك خاف أهل الدولة على أنفسهم في تصرفاتهم فلا يتصرفون إلا في أمر إذا وصل ) ذلك ( الأمر إلى سلطانهم عنهم ) أي عن أهل الدولة ( يأمنون غائلة ذلك التصرف فلو تعين لهم ) أي لأهل الدولة كوزراء السلاطين ( على يدي من ) قوله على يدي من متعلق بتصل ومن فاعله أي لو تعين لهم من على يديه .
( تصل الأخبار إلى ملكهم ) متعلق بتصل ( لصانعوه ) أي لخدموا صاحب تلك اليدين ( وأعطوا له الرشا ) بضم الراء جمع رشوة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حتى يفعلوا ما يريدون ولا يصل ذلك ) الأخبار ( إلى ملكهم فكان قولها ) أي قول بلقيس ( ألقي إليّ ولم تسم من ألقاه سياسة منها أورثت الحذر منها ) أي من بلقيس.
( في أهل مملكتها وخواص مدبرها وبهذا ) العلم ( استحقت ) بلقيس ( التقدم عليهم ) أي على خواص مدبرها مع كونها امرأة يجب تأخيرها عن مرتبة الرجال .
( وما أفضل العالم ) وهو آصف بن برخيا وزير سليمان عليه السلام ( من الصنف الإنساني على العالم من الجن ) وهو من قال : "مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ" ( بأسرار التصرف ) يتعلق بالعالم ( وخواص الأشياء فمعلوم ) .
أي ذلك الفضل معلوم (بالقدر الزماني فإن رجوع الطرف إلى الناظر ) قوله : ( به ) يتعلق بالناظر والضمير المجرور راجع إلى الطرف ( أسرع من قيام القائم من مجلسه لأن حركة البصر في الإدراك ) .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إلى ما يدركه ) متعلق بالحركة ( أسرع من حركة الجسم فيما يتحرك منه فإن الزمان الذي يتحرك فيه البصر عين الزمان الذي يتعلق بمبصره مع بعد المسافة بين الناظر والمنظور فإن زمان فتح البصر عين زمان تعلقه بتلك الكواكب الثابتة وزمان رجوع طرفه إليه ).
أي زمان رجوع طرف العين إلى الناظر ( عين زمان عدم إدراكه والقيام من مقام الإنسان ليس كذلك أي ليس له هذه السرعة فكان ) .
قوله: ( آصف بن برخيا ) وهو قوله "أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ" ( أتم في العلم من الجن ) وأتمية العمل توجب أتمية العلم فكان العلم من الإنس بأسرار التصرف أفضل من العالم من الجن.
( فكان عين قول آصف بن برخيا عين فعله في الزمن الواحد ) فإن قوله أهل التصرف وجميع قواه عين الحق من وجه خاص يتصرفون فيما يريدون بإذن اللّه .
فكان قول آصف بمنزلة قول اللّه تعالى "كُنْ فَيَكُونُ " في أن قول الحق عين فعله في الزمن الواحد .
وبذلك كان وزيرا لسليمان عليه السلام ( فرأى في ذلك الزمان ) الضمير المحدود في ( بعينه ) راجع إلى الزمان (سليمان عليه السلام عرش بلقيس) حال كون العرش ( مستقرا عنده ) أي موجودا أو حاصلا عند سليمان عليه السلام وإنما قال تعالى "مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ" بعد قوله "فَلَمَّا رَآهُ " (لئلا يتخيل ) على المبني للمفعول .
( أنه أدركه ) أي أن سليمان عليه السلام أدرك العرش ( وهو ) والحال أن العرش ثابت ( في مكانه من غير انتقال ) بأن رافع الحجاب من البين فرآه سليمان عليه السلام بدون حصول عنده فلما قال مستقرا عنده زال ذلك التخيل .
وعلم أن العرش قد انتقل عن مكانه بفعل آصف وحصل عند سليمان فرآه عنده هذا عند من كان عنده باتحاد الزمان انتقال فكان استقرار العرش عند سليمان عنده بالانتقال ، وأما عند من لم يكن عنده باتحاد الزمان انتقال .
وقد صرح به بقوله ( ولم يكن عندنا باتحاد الزمان انتقال ) يعني أن قولهأَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَعين فعله في زمان واحد فاتحد قوله وفعله باتحاد الزمان ولا يمكن فيه الانتقال .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:28 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
الانتقال فإن الانتقال حركة والحركة لا بد لها من زمان كما أن القول لا بد له من زمان فلا يمكن أن يكون زمان القول عين زمان الانتقال.
 فلم يكن فعله بالعرش انتقالا ( وإنما كان إعداما وإيجادا ) .
أي وإنما كان فعله إعداما في مكانه وإيجادا عند سليمان عليه السلام فعلى هذا كان معنى قوله تعالى : مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ " أي أعدم في مكانه وأوجد عند سليمان عليه السلام من غير انتقال.
( من حيث لا يشعر أحد بذلك ) الإعدام والإيجاد ( إلا من عرفه ) أي من عرف الإعدام والإيجاد ذوقا وحالا من أهل التصرف فهو يشعر لا غير.
( وهو ) أي ذلك الإعدام والإيجاد ( قوله تعالى ) أي بين اللّه تعالى من لم يعرف ذلك الإعدام والإيجاد في قوله ( بل هم في لبس من خلق جديد ) فمن لم يعرف معنى الخلق الجديد لم يشعر بذلك .
( ولا يمضي عليهم وقت لا يرون فيه ما هم راؤون له ) أي إنما لم يشعروا الإيجاد والإعدام في كل آن لأن كل ما يعدم يوجد مثله في آن عدمه فاتوا به متشابها فيزعمون أن وجودهم باق في الماضي والمستقبل بدون الإيجاد والإعدام فيرون بسبب ذلك في وقت يمضي عليهم ما هم راؤون ولا يعلمون أن العالم في كل وقت في لبس جديد من خلق جديد فهم لعدم شعورهم بذلك كانوا في لبس من خلق جديد .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا كان هذا ) أي حصول العرش عند سليمان عليه السلام ( كما ذكرناه ) من أن حصول العرش عند سليمان عليه السلام بطريق الإيجاد والإعدام في زمان واحد ( فكان عدمه أعني عدم العرش من مكانه ) عين ( زمان وجوده عند سليمان عليه السلام من تجديد الخلق مع الأنفاس ولا علم لأحد بهذا القدر بل الإنسان لا يشعر به من نفسه أنه في كل نفس لا يكون ثم يكون ).
 
 قوله : ( ولا تقل ثم تقتضي المهلة فليس ذلك بصحيح ) رد للاعتراض الوارد على قوله بل الإنسان في كل نفس لا يكون ثم يكون وهم أن لفظة ثم للمهلة فلا يكون زمان عدمه عين زمان وجوده .
وأجاب عن هذا الاعتراض بقوله : ( وإنما هي تقتضي تقدم الرتبة العلية ) بكسر العين من العلة ( عند العرب في مواضع مخصوصة كقول الشاعر ) :
كهز الرديني ثم اضطراب  ....   وزمان الهز عين زمان
اضطراب المهزوز بلا شك وقد جاء بثم ولا مهلة )
فلا يستعمل ثم مطلقا للمهلة بل قد يكون للمرتبة العلية
كما في قول الشاعر فاستعملنا ثم في قولنا لا يكون للرتبة العلية لأن إعدامه في آن علة لإيجاده في آن آخر فكان زمان عدمه وجوده بأن يحصل عدمه في آن ووجوده في آن آخر
لأن أقل جزء الزمان من آنين فكما أن زمان الهز زمان المهزوز في قول الشاعر
( كذلك تجديد الخلق مع الأنفاس زمان العدم عين زمان وجود المثل ) ولما كانت في إدراك تجديد الخلق صعوبة شبه بقول الأشاعرة تسهيلا لأهل النظر
فقال : ( كتجديد الأعراض في دليل الأشاعرة )  في الأعراض فاختص دليل الأشاعرة في تجديد الخلق بالأعراض والشيخ رضي اللّه عنه قد أثبت تبدل الجواهر والأعراض كما مر تحقيقه .
 
ولما كان هذا المقام مظنة أن يقال لم طوّل الكلام في حصول العرش مع أن البيان على وجه الاختصار مطلوب أجاب بصورة الاعتذار يعني إنما طوّلت الكلام في تحقيق صورة العرش.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن مسألة حصول عرش بلقيس من أشكل المسائل إلا عند من عرف ما ذكرناه آنفا في قصته من الإيجاد والإعدام ) إن حصوله إعدام في مكانه إيجاد عند سليمان عليه السلام في زمان واحد من تجديد الخلق مع الأنفاس .
فإذا كان الأمر كذلك ( فلم يكن لآصف من الفضل في ذلك ) الفعل ( إلا حصول التجديد في مجلس سليمان عليه السلام ) فإذا كان حصول العرش على طريق التجديد .
( فما قطع العرش مسافة ولا زويت له ) أي ولا طويت للعرش ( أرض ولا خرقها ) أي ولا خرق آصف أو العرش الأرض ( لمن فهم ) معنى ( ما ذكرناه ) من تجديد الخلق .
( وكان ) أي وحصل ( ذلك ) الفعل العظيم الشأن وجليل القدر ( على يدي بعض أصحاب سليمان عليه السلام ) وهو آصف بن برخيا .
( ليكون ) ذلك الفضل ( أعظم لسليمان عليه السلام ) أي ليكون ما فعله آصف بالعرش من الأمور العظام دليلا على أعظمية سليمان عليه السلام ( في نفوس الحاضرين من بلقيس وأصحابها ) .
فإن أعظمية التابع تدل على أعظمية المتبوع فكان فعل آصف معجزة لسليمان عليه السلام ( وسبب) حصول (ذلك) الفعل على يدي بعض أصحابه مع أن سليمان عليه السلام قادر عليه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كون سليمان عليه السلام هبة اللّه لداود عليه السلام من قوله تعالى :وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ [ ص : 30 ] ، والهبة عطاء الواهب بطريق الأنعام لا بطريق الجزاء الوفاق ) .
أي الجزاء الموافق لأعمال العباد كما قال جزاء وفاقا ( أو ) بطريق ( الاستحقاق ) بحسب العمل يعني أن وجود سليمان عليه السلام هبة اللّه لداود والفعل الذي حصل على يدي بعض أصحابه في مجلس سليمان عليه السلام هبة اللّه لسليمان لذلك لم يظهر على يدي نفسه إذ لو ظهر لتوهم أن ذلك في مقابلة عمله لا بطريق الأنعام .
( فهو ) أي ما فعل آصف بالعرش في مجلس سليمان ( النعمة السابقة ) لسليمان ( والحجة البالغة ) على أعيان أمته يوم القيامة ( والضربة الدامغة ) في حق الكفار ( وما أعلمه ) أي وأما اختصاص سليمان بالعلم يريد ذلك بيان مرتبة سليمان في العلم .
( بقوله ) تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ مع نقيض الحكم ) أي مع وجود نقيض حكم سليمان وهو حكم داود في المسألة .
( وكلا ) أي وكل واحد من الأنبياء ( أتاه اللّه حكما وعلما فكان علم داود علما مؤتى آتاه اللّه ) على يد من أيدي الأسماء من الوهاب وغيره .
فجاز في حكمه أن يصيب وأن لا يصيب كما في المسألة ( وعلم سليمان علم اللّه في المسألة إذا كان ) أي سليمان ( هو الحاكم بلا واسطة ) فعلم سليمان الأمر على ما هو عليه لكون علمه عين علم الحق .
وفضل سليمان على داود عليهما السلام في رتب العلم في هذه المسألة لا ينافي أفضلية داود على سليمان .
( فكان سليمان ترجمان حق في مقعد صدق ) فكان لسليمان في المسألة أجران ولداود أجر واحد قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما أن المجتهد المصيب لحكم اللّه الذي يحكم به اللّه ) أي بذلك الحكم
 
(في المسألة لو تولاها بنفسه ) أي لو تولى الحق بنفسه المسألة ( أو ) تولاها ( بما يوحي به لرسوله له ) خبر مقدم الضمير يرجع إلى المصيب ( أجران ) مبتدأ والجملة خبران أي فله أجر لإصابته في الحكم وأجر لبذل جهده  .
 (والمخطئ لهذا الحكم المعين له أجر ) واحد لبذل جهده ( مع كونه ) أي مع كون خطأه يعدّ ( علما ) بحسب الشرع كعلم المصيب ( و ) يعدّ حكمه ( حكما ) بحسب الشرع في وجوب العمل به كحكم المصيب ( فأعطيت هذه الأمة المحمدية رتبة سليمان عليه السلام في الحكم ) بالإصابة .
( ورتبة داود عليه السلام ) بالاجتهاد فجمع هذه الأمة رتبة سليمان ورتبة داود عليهما السلام ( فما أفضلها ) تعجب أي فما أفضل رتبة سليمان ورتبة داود عليهما السلام ( من أمة ) محمدية ولا يتوهم أفضلية الأمة عليهما في هذه الرتبة ، لأن هذه الرتبة لسليمان وداود عليهما السلام أعطيت من اللّه أوّلا وبالذات وللأمة بواسطة روحانيتهما .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما رأت بلقيس عرشها مع علمها ببعد المسافة واستحالة انتقاله في تلك المدة عندها قالت كأنه هو ) أي حكمت بالمغايرة على وجه التشبيه.
 (وصدقت بما ذكرناه من تجديد الخلق بالامتثال وهو هو وصدق الأمر ) فكان كلام بلقيس جامعا بين الكثرة والوحدة .
فقولها كأن إشارة إلى المثلية فإن مثل الشيء من حيث أنه لا يكون عينه
وقولها هو إشارة إلى العينية فإن مثل الشيء عين ذلك الشيء بحسب الحقيقة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما أنك في زمان التجديد عين ما أنت في زمن الماضي ثم أنه من كمال علم سليمان عليه السلام التنبيه الذي ذكره في الصرح فقيل لها ادخلي الصرح وكان صرحا أملس لا أمت ).
أي لا عوج ( فيه من زجاج فلما رأته حسبته لجة أي ماء فكشفت عن ساقيها حتى لا يصيب الماء ثوبها فنبهها بذلك على أن عرشها الذي رأته من هذا القبيل ) أي من قبيل التشابه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا ) التنبيه ( غاية الانصاف ) من سليمان عليه السلام ( فإنه أعلمها ) أي فإن سليمان عليه السلام أعلم بلقيس ( بذلك ) التنبيه ( أصابتها في قولها كأنه هو فقالت عند ذلك ) التنبيه (" رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ") بالعصيان إلى هذا الوقت ( وَ ) الآن (أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ أي إسلام سليمان) عليه السلام ، أي تبعت له في الإسلام ( لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ).
إسلام مع سليمان ( فما انقادت لسليمان وإنما انقادت لرب العالمين وسليمان من العالمين فما تقيدت في انقيادها ) في اللّه برب خاص حيث لم تقل أسلمت برب سليمان عليه السلام أو لسليمان عليه السلام .
كما قال السحرة " آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى" ( كما لا تتقيد الرسل في اعتقادها في اللّه ) فكان إسلام بلقيس عين إسلام سليمان عليه السلام في الإطلاق . وإن كانت تابعة له في الإسلام.
بخلاف فرعون فإنه قال "رَبِّ مُوسى وَهارُونَ") حيث لم يقل رب العالمين فخصص اعتقاده برب دون رب .
( وإن كان ) انقياد فرعون ( يلحق بهذا الانقياد البلقيسي من وجه ) وهو من حيث أن ربها رب العالمين ( ولكن ) انقياد فرعون ( لا يقوي قوته ) أي لا يساوي انقياد بلقيس في القوة لتقيده في اعتقاده اللّه برب خاص رب موسى عليه السلام وهارون عليه السلام .
( فكانت ) بلقيس ( أفقه من فرعون في الانقياد للَّه فكان فرعون تحت حكم الوقت حيث قال آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل فخصص فرعون ) إيمانه برب بني إسرائيل
وإن كان رب بني إسرائيل رب العالمين لكن لم يقل به صريحا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما خصص لما رأى السحرة قالوا في إيمانهم باللّه رب موسى وهارون ) فكان إيمان بلقيس لإطلاقه فوق إيمان السحرة وإيمان فرعون في القوة .
فكان إيمان فرعون كإيمان السحرة في القوة لكنه لم يقبل منه لعدم وقوعه في وقته .
وفيه كلام تتكلم إن شاء اللّه في حكمة موسوية .
 
( فكان إسلام بلقيس إسلام سليمان عليه السلام إذ قالت مع سليمان عليه السلام فتبعه ) في الإسلام ( فما يمر سليمان عليه السلام بشيء من العقائد إلا مرّت ) بلقيس ( به ).
أي بذلك الشيء مع سليمان عليه السلام ( معتقدة ) أي حال كون بلقيس معتقدة ( ذلك ) الشيء ( كما كنا نحن على الصراط المستقيم الذي الرب تعالى عليه لكون نواصينا في يده ويستحيل مفارقتنا إياه ).
 فإذا كان الأمر كذلك ( فنحن معه بالتضمين وهو معنا بالتصريح فإنه قال "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ" ) وهذا هو التصريح .
( ونحن معه بكونه آخذا بنواصينا ) وهو معنى التضمين فلما اتجه أن يقال إذا كان الحق معنا لزم أن يكون تابعا لنا كما إذا كنا معه اعتبارا بمعنى مع وكون الحق تابعا لشيء من الأشياء محال.
فكيف يصح معيته بنا دفع ذلك بقوله : ( فهو تعالى مع نفسه حيث ما مشى بنا من صراطه فما أحد من العالم إلا على صراط مستقيم وهو صراط الرب فهو عيننا ) من حيث الوجود والحقيقة وإن كان غيرنا باعتبار تعيناتنا الشخصية فكونه معنا من حيث الوجود والوحدة معنا عين مشيته مع نفسه.
فكما علمنا أنا كنا مع الحق بالتبعية ( وكذا علمت بلقيس من سليمان عليه السلام ) أنه مع اللّه بالتبعية فتبعته في الإسلام لتكون مع اللّه بالتبعية كما كان سليمان عليه السلام .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقالت للَّه رب العالمين وما خصصت عالما من عالم ) أي ما خصصت إسلامها رب عالم بل أضافت إسلامها رب جميع العوالم ( وأما التسخير الذي اختص به سليمان عليه السلام وفضل به ) من التفضيل على البناء المجهول ( على غيره ) أي فضل بذلك التسخير على غيره ( وجعله اللّه له ) أي جعل اللّه ذلك التسخير لسليمان .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده فهو كونه ) أي كون ذلك التسخير ( عن أمره ) أي عن أمر سليمان ( فقال ) تعالى في حقه "فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ "  أي بأمر سليمان.
 ( فما هو ) أي فما كان اختصاص سليمان ذلك التسخير ( من كونه تسخيرا ) وإلا لما عمم اللّه التسخير في حقنا ( فإن اللّه تعالى يقول في حقنا كلنا ) بني آدم ( من غير تخصيص بأحد منا سليمان كان ) أو غيره وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه .
(وقد ذكر ) الحق (تسخير الرياح والنجوم وغير ذلك ولكن ) ذلك التسخير لنا ( لا عن أمرنا بل عن أمر اللّه ) ولسليمان بأمر سليمان.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما اختص سليمان أن عقلت إلا بالأمر من غير جمعية ولا همة بل بمجرد الأمر وإنما قلنا ذلك لأنا نعرف أن أجرم العالم تنفعل بهمم النفوس إذا أقيمت في مقام الجمعية وقد عاينا ) أي وقد ظهر لنا ( ذلك)
 
أي انفعال الأجرام بهمم النفوس حين أقامهم في مقام الجمعية فكان الريح والنجوم مسخرا لنا بأمر اللّه بجمعيتنا وهمتنا ( في هذا الطريق ) أي في طريق أهل اللّه أو في طريق الجمع ( فكان ) التسخير منا بجميعه وهمة فكان ذلك التسخير .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( من سليمان مجرد التلفظ بالأمر لمن أراد تسخيره من غير همة ولا جمعية واعلم أيدنا اللّه وإياك بروح منه ) والمراد من التأييد الحياة العلمية وبالروح الروح المعنوي وهو الإحضار التام مع اللّه دعا لنفسه ولنا بذلك إشارة إلى أن من لم يكن على هذا الوصف لا يدرك المسألة المذكورة بعد أعلم استعظاما لشأن المسألة.
واعلم أيدنا اللّه وإياك بروح منه أن مثل هذا العطاء ) الدنيوي ( إذا حصل للعبد أيّ عبد كان فإنه ) أي لشأن ( لا ينقصه ) أي العبد ( ذلك ) العطاء ( من ملك آخرته ولا يحسب عليه ) في الآخرة إذا حصل من غير طلب من العبد أو مع طلب لكنه عن أمر اللّه .
( مع كون سليمان عليه السلام طلبه ) أي ذلك العطاء ( من ربه تعالى ) لكن عن أمر ربه فكيف ينقص درجته ويحسب عليه في الآخرة تعريض لمن زعم أنه اختار الدنيا وطلب أنه لا يكون لأحد بعده فينقص من ملك آخرته ويحسب عليه السلام .
 
( فيقتضي ذوق الطريق ) أي طريق سوق الآية الكريمة في حق سليمان أو طريق الكشف أو طريق التصوف أو طريق سليمان أو طريق الحق ، وهي صراط مستقيم وهذه أحسن الوجوه.
( أن يكون قد عجل له ) أي لسليمان ( ما ادّخر لغيره ) فلا يحاسب على ما عجل له كما لا يحاسب غيره على ما ادّخر عليه ( ويحاسب ) العبد ( به ) .
أي بذلك العطاء إن شاء الحق حسابه ( إذا أراده ) من غير أمر إلهي ( في الآخرة ) تتعلق بيحاسب ( فقال اللّه هذا عطاؤنا ولم يقل ) بعد إضافة العطاء إلى نفسه ( لك ) أي لأجلك ( ولغيرك فامنن أي أعط أو أمسك بغير حساب ) أي لا حساب به عليك في الآخرة .
( فعلمنا من ذوق الطريق ) وهو طريق الجواب أو غير ذلك مما ذكرناه ( أن سؤاله ) عليه السلام ( ذلك ) أي الملك الذي لا ينبغي لأحد من الخلق بعده ( كان ) أي حصل ذلك السؤال.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( عن أمر ربه والطلب إذا وقع عن الأمر الإلهي كان الطالب له الأجر التام على طلبه والباري تعالى إن شاء قضي حاجته فيما طلب منه وإن شاء أمسك وإن العبد قد وفي ما أوجب اللّه عليه من امتثال أمره فيما سأل ربه فيه فلو سأل ذلك من نفسه عن غير أمر ربه له بذلك لحسابه به ) .
أن تعلق إرادته بحسابه ( وهذا ) الحكم الذي ذكرناه في حق سؤال سليمان .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( سار في جميع ما يسأل فيه اللّه تعالى كما قال لنبيه محمد عليه السلام "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" فامتثل الرسول أمر ربه فكان يطلب الزيادة من العلم حتى كان إذا سيق له لبن يتأوّله علما كما تؤوّل رؤياه لما رأى في النوم أنه أتى إليه بقدح لبن بشربه وأعطى فضله عمر بن الخطاب قالوا : فما أوّلته ، قال : العلم وكذلك لما أسري به ) في ليلة المعراج .
 
( أتاه ملك بإناء فيه لبن وإناء فيه خمر فشرب اللبن ) لكونه مأمورا بشربه دون الخمر .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال له الملك أصبت الفطرة أصاب اللّه بك أمتك فاللبن متى ظهر فهو صورة العلم فهو ) أي ما شرب الرسول ( العلم تمثل في صورة اللبن ) فما شرب إلا طلبا  للزيادة من العلم ( كجبرائيل تمثل في صورة بشر سوي لمريم ) في كون كل واحد منهما يعطي الحياة إلا أن جبرائيل بتمثله في صورة بشر سوي يعطي الحياة الحسية والعلم بتمثله في صورة اللبن يعطي الحياة المعنوية.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما قال عليه السلام الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا نبه على أنه كل ما يراه الإنسان في حياته الدنيا إنما هو بمنزلة الرؤيا للنائم خيال فلا بد من تأويله ) كما لا بد من تأويل الرؤيا .
( شعر ) : ( إنما الكون خيال )
لأنه ظل إلهي وظل الشيء من حيث أنه ظل له غير ذلك ( وهو ) أي الكون ( حق ) أي عين الحق ( في الحقيقة ) باعتبار الجود والحقيقة وقد سبق غير مرة تحقيق كون العالم عين الحق.
( والذي يفهم هذا ) أي يفهم كون العالم خيالا من وجه وحقا من وجه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حاز أسرار الطريقة. فكان عليه السلام إذا قدم له لبن قال اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه لأنه كان يراه صورة العلم . وقد أمر بطلب الزيادة من العلم وإذا قدم إليه غير اللبن .
قال اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه . فمن أعطاه اللّه ما أعطاه بسؤال عن أمر إلهي فإن اللّه لا يحاسبه فيه في الدار الآخرة
ومن أعطاه اللّه ما أعطاه بسؤال عن غير أمر إلهي فالأمر فيه إلى اللّه إن شاء حاسبه وإن لم يشأ لم يحاسبه وأرجو من اللّه في العلم خاصة أنه لا يحاسبه به .
فإن أمره تعالى لنبيه بطلب الزيادة من العلم عين أمره لأمته فإن اللّه تعالى يقول "لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" ، وأيّ أسوة أعظم من هذا التأسي ) وهو طلب الزيادة من العلم .
( لمن عقل عن اللّه تعالى ولو نبهنا على المقام السليماني على تمامه لرأيت أمرا يهولك الاطلاع عليه فإن أكثر علماء هذه الطريقة ) وهي طريقة نظر العقل .
( جهلوا حالة سليمان عليه السلام ومكانته ) وزعموا أنه قدم اسمه على اسم اللّه ملك الدنيا وطلب أن لا يكون لأحد بعده.
( وليس الأمر كما زعموا وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:04 am

 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الجزء الأول
17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فص حكمة وجودية ) أي فص الحكمة المنسوبة إلى الوجود الإنساني حاصلة ( في كلمة داودية ) أي في روح منسوبة إلى داود عليه السلام وإنما نسب الحكمة الوجودية إلى داود عليه السلام لأن المقصود من الوجود الإنساني الخلافة ولا يتم ذلك بكماله إلا بداود عليه السلام
لذلك ما ظهرت الخلافة في أحد مثل ظهورها في داود عليه السلام حيث خاطبه الحق بقوله :يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً 
بخلاف آدم عليه السلام فإنه ليس بهذه المثابة في التصريح فلا يظهر خلافة آدم بتمامه إلا بداود .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أنه لما كانت النبوة والرسالة اختصاصا إلهيا ليس فيها شيء من الاكتساب ) أي لا يحصل بتعلق إرادة الإنسان ( أعني نبوة التشريع ) فالنبوة العامة لكونها لازمة للولاية الكسبية خارجة عن هذا الحكم ( كانت عطاياه تعالى لهم عليهم السلام من هذا القبيل )

قوله رضي الله عنه  : ( مواهب ليست جزاء ولا يطلب عليها منهم جزاء فاعطاؤه تعالى إياهم على طريق الإنعام والإفصال ) بدل قوله من هذا القبيل على التفضيل ( فقال :وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ *يعني لإبراهيم الخليل ، وقال في أيوب :وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُم ْوقال في حق موسى :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّاإلى مثل ذلك فالذي تولاهم أوّلا ) .

أي تولا بإعطاء كمالاتهم في الدنيا من غير كسب ( هو الذي تولاهم آخرا في عموم أحوالهم أو أكثرهم ) بإعطاء درجاتهم من غير كسب فكانت نعم اللّه عليهم في الدنيا والآخرة بطريق الإفضال لكونهم مظاهر اسمه الوهاب فلا ينفك تصرف الاسم الوهاب ولا الجواد عنهم ( وليس ) متوليهم ( إلا اسمه الوهاب ).

قوله رضي الله عنه  : (وقال في حق داود عليه السلام :وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا) الحق ( به ) أي بإعطائه لداود عليه السلام ( جزاء ) أي عملا ( يطلب منه ) .
أي بطلب الحق ذلك العمل من داود عليه السلام ( ولا أخبر ) الحق ( أنه ) أي الفاضل ( أعطاه ) أي أعطى الحق لداود عليه السلام ( هذا ) مبتدأ ( الذي ذكره ) صفة ( جزاء ) خبره أي ولا أخبر الحق أن الفضل الذي أعطى لداود عليه السلام جزاء من عمل داود عليه السلام .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما طلب الشكر على ذلك بالعمل طلبه ) أي طلب الحق ذلك الشكر ( من آل داود عليه السلام ولم يتعرض لذكر داود عليه السلام ) في طلب الشكر ( ليشكره ) يتعلق بطلبه أي إنما طلب الحق الشكر من آل داود ليشكر ( الآل ) الحق ( على ما أنعم به على داود ) عليه السلام حتى يزيد نعم اللّه على عباده بالشكر لقوله تعالى :لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[ إبراهيم : 7 ] .
فكان طلب الشكر من العباد نعمة وعطاء محضا من اللّه على عباده فإعطاء النعمة على العباد أحب إليه تعالى لذلك طلب الشكر الذي يزيد به النعمة فالشكر أحب الأعمال إلى اللّه تعالى فإذا لم يطلب على ما أنعم به على داود عليه السلام من داود عليه السلام جزاء .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو ) أي ذلك الفضل ( في حق داود عليه السلام عطاء نعمة وإفضال ) فإذا طلب على ذلك من آله جزاء لم يكن النعمة في حق آله إفضالا لذلك قال : ( وفي حق آله على غير ذلك ) بالإعطاء والإفضال ( لطلب المعاوضة ) في حق آله دون داود عليه السلام ( فقال تعالى :اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) أي أشكروا اللّه يا أمة محمد على ما أنعمت به على نبيكم محمد عليه السلام كما شكر آل داود عليه السلام على ما أنعمت به على نبيهم داود عليه السلاموَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُوهو بيان لعظمة شأن الشكر عند اللّه فلا يصل إلى مرتبة الشكر من العباد إلا قليل.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن كانت الأنبياء قد شكروا اللّه على ما أنعم به عليهم ) الحق ( ووهبهم ) من الرسالة والنبوة والكمالات المختصة بهم ( فلم يكن ذلك ) الشكر منهم ( عن طلب من اللّه بل تبرعوا بذلك ) الشكر ( من نفوسهم كما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى تورّمت قدماه شكرا لما غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلما قيل له في ذلك ) يعني قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن اللّه غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فلم فعلت ذلك الفعل الشاق.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال أفلا أكون عبدا شكورا ) لعلمه أن الشكر أعظم منزلة عند اللّه فالعبد الشكور من خواص عباده تعالى لذلك قال قل الشكور فطلب رسول اللّه والأنبياء كلهم أن يكون عبدا شكورا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقال في نوح عليه السلام :إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراًوالشكور من عباد اللّه قليل ) فالعبد الشكور هو الذي شكر اللّه على ما أنعم اللّه به عليه من غير طلب من اللّه الشكر وأما الذي شكر عن طلب من اللّه فهو ليس عبدا شكورا فما كان الشكور من عباد اللّه إلا الأنبياء عليهم السلام خاصة لورود النص في حقهم .

وهو قوله تعالى في حق نوح عليه السلام :إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُور اًو قول الرسول عليه السلام : « أفلا أكون عبدا شكورا » وأما غيرهم من المؤمنين وإن كانوا شاكرين لكنهم لا يكونون عبدا شكورا لعدم ورود النص في حقهم نعم قد أنعم على المؤمنين بعض نعمة من غير طلب الشكر فتبرعوا الشكر من عند أنفسهم فكانوا حينئذ عبدا شكورا لكن الكلام في النص الإلهي.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأوّل نعمة أنعم اللّه بها على داود عليه السلام أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتصال ) والاتصال يعتبر إلى البعد فهذه الحروف لا تتصل إلى حرف بعدها ويتصل بها غيرها قبلها فهذه الحروف تنقطع عن الحروف الباقية وتتصل الحروف الباقية إليها فداود عليه السلام ينقطع عن العالم أي لا يميل إليه والعالم يتصل إليه لذلك ترجع الجبال معه.

( فقطعه ) أي قطع الحق داود عليه السلام ( عن العالم بذلك ) أي بإعطاء ذلك الاسم له فكان هذا الاسم سببا لقطعه تعالى عن العالم وإنما فعل الحق ذلك في حق داود عليه السلام ( إخبارا ) أي للإخبار ( لنا عنه ) أي عن العالم ( بمجرد هذا الاسم ) المنقطع الحروف قوله بمجرد يتعلق بإخبارا ( وهي الدال والألف والواو ) فلما أعطاه ذلك علمنا منه أن اللّه قد قطعه عن العالم بدون مجاهدة وكسب من داود عليه السلام فكان ذلك القطع عطاء نعمة وإفضال من اللّه على داود عليه السلام .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسمّى اللّه محمدا عليه السلام بحروف الاتصال والانفصال فوصله ) أي محمدا صلى اللّه عليه وسلم بذلك الاسم من جهته وصله ( به ) أي بالحق أو وصله بسبب هذا الاسم إلى الحق ( وفصله ) بهذا الاسم من جهة فصله ( عن العالم فجمع له ) أي لمحمد عليه السلام ( بين الحالتين ) حالتي الاتصال والانفصال ( في ) لفظ ( اسمه ) فعلمنا من اسم محمد صلى اللّه عليه وسلم أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم قد انفصل عن العالم واتصل بالحق بخلاف داود عليه السلام فإنه وإن علمنا انقطاعه عن العالم واتصاله بالحق لكن الاتصال بدلالة المعنى فإن الانقطاع عن العالم يوجب الاتصال بالحق فدل اسم داود عليه السلام عليه التزاما وهو معنى قوله ( كما جمع لداود عليه السلام بين الحالتين من طريق المعنى ولم يجعل ذلك ) الجمع .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( في اسمه فكان ذلك ) الجمع في اسم محمد صلى اللّه عليه وسلم ( اختصاصا لمحمد عليه السلام على داود عليه السلام ) قوله ( أعني التنبيه عليه باسمه ) تفسير لقوله فكان ذلك اختصاصا .

( فتم له الأمر ) أي أمر الجمع ( من جميع جهاته ) من الاسم والمعنى ( وكذلك في اسمه أحمد فهذا ) أي الجمع بين الحالتين في اسم محمد واسم داود عليهما السلام ( من حكمة اللّه تعالى ) وهي الانقطاع عن العالم والاتصال ظاهر بالحق فلا يخلو ما في الوجود لفظا وكتابه وعقلا وخارجا عن حكمة إلهية ولا يطلع على هذا المعنى إلا من اكتحل بصره بالنور الإلهي . 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم قال في حق داود عليه السلام ) والضمير المنصوب ( فيما أعطاه ) راجع إلى ما أي وما أعطاه إياه ( على طريق الانعام ) والضمير المجرور في ( عليه ) راجع إلى داود عليه السلام والجار والمجرور يتعلق بالانعام ترجيع الجبال معه التسبيح مقول قال التسبيح منصوب بترجيع أي قال اللّه في حق داود عليه السلام .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ترجيع الجبال معه التسبيح ) في قوله سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ( فتسبح ) الجبال ( تسبيحه ليكون له ) أي لداود عليه السلام ( عملها ) أي عمل الجبال .
( وكذلك ) خبر مقدم ( الطير ) مبتدأ أي وكالجبال الطير في الترجيع معه التسبيح أو بالجر على تقدير المضاف أي وكذلك قال اللّه تعالى ترجيع الطير معه التسبيح في قوله :وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ[ ص : 19 ] .

وتسبيح الجبال والطير معه وهو تسبيح داود لا التسبيح المخصوص بكل منهما ( وأعطاه القوة ونعته بها ) في القرآن الكريم بكلامه ذا الأيد إنه أوّاب ( وأعطاه الحكمة ) أي علم الحقائق والأسماء والصفات ( و ) أعطاه ( فصل الخطاب ) قال مولانا سعد الدين في كتابه المسمى بالمطول يقال الكلام البين فصل بمعنى المفصول ففصل الخطاب البين من الكلام الملخص الذي ينبه من يخاطب ولا يلتبس عليه أو بمعنى الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الحق والباطل والثواب والخطأ .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم المنة الكبرى والمكانة الزلفى ) أي المرتبة القربى من اللّه ( التي خصه اللّه تعالى بها التنصيص ) قوله ثم المنة مبتدأ والتنصيص خبره ( على خلافته ولم يفعل ذلك ) التنصيص ( مع أحد من أبناء جنسه ) أي من بني آدم .

( وإن كان فيهم خلفاء ) فلا يكون نفس الخلافة لداود المنة الكبرى والمكانة الزلفى بل المنة الكبرى التنصيص على خلافته لعموم الخلافة وخصوص تنصيصه وإنما كان تنصيص الخلافة المنة الكبرى دون تنصيص سائر النعم التي خصها لداود لأن الخلافة لكونها المرتبة الألوهية أعلى المراتب كلها فتنصيصها كذلك ولم يلزم فضل داود عليه السلام بذلك التنصيص على سائر الخلفاء من الأنبياء عليهم السلام تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده .
ولو كان داود عليه السلام فاضلا بذلك التنصيص على الخلفاء لما نص فضل محمد عليه السلام كلها فتنصيص الخلافة غير تنصيص الفضل مع أن الفضل بذلك لا يستلزم الفضل مطلقا فالشيء الواحد جاز أن يكون فاضلا ومفضولا بحسب الوجوه والمراتب وقد بيناه غير مرة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال :يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي ما يخطر لك في حكمك من غير مني يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن الطريق الذي أوحى أنا بها ) . أي بهذا الطريق 
 ( إلى رسلي ثم تأدب سبحانه معه فقال :إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ، ولم يقل له فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد ).
فانظر كيف تأدب الحق مع عباده حتى نتأدب معه ومع عباده . 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن قلت وآدم عليه السلام قد نص على خلافته ) فما معنى اختصاص التنصيص على خلافة داود عليه السلام ( قلنا ما نص ) آدم عليه السلام على خلافته ( مثل التنصيص على ) خلافة ( داود عليه السلام :وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ولم يقل أني جاعل آدم عليه السلام في الأرض ) خليفة.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولو قال ) أني جاعل آدم عليه السلام خليفة ( لم يكن ) هذا القول الذي في حق آدم ( مثل قوله إنا جعلناك خليفة في حق داود عليه السلام فإن هذا ) أي قوله في حق داود عليه السلام ( محقق ) لأنه خطاب ( وليس ذلك ) أي وليس قوله أني جاعل آدم عليه السلام خليفة ( كذلك ) في التحقيق لأنه غيب ( وما ) أي ولا ( يدل ذكر آدم عليه السلام في القصة بعد ذلك ) أي بعد قوله :إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ( على أنه ) أي على أن آدم عليه السلام ( عين ذلك الخليفة الذي نص اللّه عليه فاجعل بالك لإخبارات الحق عن عباده إذا أخبرك ) أي أخبر بالتنصيص أم لا .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك في حق إبراهيم الخليل : قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً . ولم يقل خليفة وإن كنا نعلم أن الإمامة هنا خلافة ولكن ما هي مثلها لأنه ) أي الشأن .
( ما ذكرها ) أي ما ذكر الحق الإمامة ( بأخص أسمائها وهي الخلافة ) وغيرها فالامامة تعم الخلافة وغيرها.
 ( ثم في داود عليه السلام من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم وليس ذلك ) أي خليفة حكم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إلا عن اللّه فقال :فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وخلافة آدم عليه السلام قد لا تكون من هذه المرتبة فتكون خلافته أن يخلف من كان فيها ) أي في الأرض .
( قبل ذلك ) أي قبل آدم عليه السلام من الملائكة ( لا أنه ) أي لا يدل أن آدم عليه السلام ( نائب عن اللّه في خلقه بالحكم الإلهي فيهم وإن كان الأمر كذلك وقع ) أي وإن كان آدم نائبا عن اللّه في خلقه بالحكم الإلهي فيهم في نفس الأمر .
( ولكن ليس كلامنا ) في حق داود عليه السلام ( إلا في التنصيص عليه ) أي على داود عليه السلام ( والتصريح به ) فامتاز داود عليه السلام عن آدم عليه السلام في الخلافة تنصيصها ( وللَّه في الأرض خلائف عن اللّه وهم الرسل ) فلا اختصاص في الخلافة كما اختص داود عليه السلام إلا على تنصيصها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما الخلافة اليوم ) أي الخلافة التي بعد انقضاء الرسل ( فعن الرسل لا عن اللّه فإنهم ) أي الخلفاء اليوم ( ما يحكمون إلا بما شرّع لهم الرسول عليه السلام ولا يخرجون عن ذلك ) التشريع (غير أن هنا ) أي إلا أن في مقام الخلافة . 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( دقيقة لا يعلمها ) ذوقا وحالا ( إلا أمثالنا ) في العلم والمرتبة ( وذلك ) الدقيقة المعلومة لنا حاصلة ( في أخذ ما يحكمون به ) ومن في ( مما ) بيان لما ( هو ) راجع إلى ما في مما ( شرّع للرسول عليه السلام ) على البناء للمجهول من التشريع . 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالخليفة عن الرسول من يأخذ الحكم بالنقل عنه أو بالاجتهاد الذي أصله أيضا منقول عنه ) هذا تفصيل لقوله وأما الخلافة اليوم فعن الرسل إلى قوله غير أن هنا شرع في تفصيل قوله غير أن هنا دقيقة إلى آخره بقوله ( وفينا من يأخذه ) أي الحكم.
( عن اللّه فيكون خليفة عن اللّه بعين ذلك الحكم ) أي الحكم الذي يأخذه خليفة الرسول بالنقل أو بالاجتهاد ويأخذ منا ذلك الحكم بعينه عن اللّه كما يأخذ الرسول عنه ( فتكون المادة له ) في أخذ الحكم .
( من حيث كانت المادة لرسول اللّه ) عليه السلام وهذه المرتبة والمساواة برسول اللّه عليه السلام لمن سبقت له العناية الأزلية من كبار أولياء اللّه واتحاد الولي مع النبي في درجة واحدة وهي مادة أخذ العلم أو في غير ذلك من الكمالات لا ينافي أفضلية الأنبياء على الأولياء ( فهو ) أي من يأخذ الحكم عن اللّه ( في الظاهر ) متعلق بقوله

( متبع ) أي للرسول ( لعدم مخالفته ) الرسول ( في الحكم ) لكون الأخذ من معدن واحد ( كعيسى ) عليه السلام ( إذا نزل فحكم ) فإنه يأخذ الحكم عن اللّه ويتبع الرسول في الظاهر فيكون خليفة عن اللّه لا خليفة عن الرسول إذ لم يأخذ الحكم بالنقل عنه أو بالاجتهاد لكن بلسان الظاهر يقال خليفة رسول اللّه ( وكالنبي محمد عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى :أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ، فقد أمر اللّه تعالى الرسول باتباع هدى الأنبياء والمرسلين فالهدى حقيقة واحدة تدوم بدوام الإنسان إلى يوم القيامة باتباع اللاحق بالسابق .

( وهو ) أي الأخذ عن اللّه تعالى ( في حق ما نعرفه ) على صيغة التكلم أو الغائب ( من صورة الأخذ ) بيان لما ( مختص ) أي لا يأخذ الحكم إلا عن اللّه ( موافق ) للرسول في الحكم فقوله وهو مبتدأ مختص خبره وموافق صفة مختص أو خبر ثان ( هو ) مبتدأ أي ذلك الأخذ ( فيه ) أي في أخذه عن اللّه وتقرير شرع رسول اللّه عليه السلام وخبر المبتدأ قوله : ( بمنزلة ما قرره النبي من شرع من تقدم من الرسل ) قوله ( بكونه ) يتعلق بقوله ( قرره ) أي قرر الرسول شرع من تقدم من الرسل بإيجاده لا بالنقل عنهم . 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فاتبعناه ) أي الرسول فيما قرره من شرع من تقدم ( من حيث تقريره ) أي تقرير الرسول ( لا من حيث أنه هو شرع لغيره قبله ) إذ لا يكون من هذه الحيثية شرع محمد صلى اللّه عليه وسلم فنحن مأمورون باتباع شريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم لا باتباع شريعة غيره من الرسل.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك ) يعني كما أن ما أخذه الرسول عن اللّه عين ما أخذه الرسل منه كذلك ( أخذ الخليفة عن اللّه عين ما أخذه منه الرسول فنقول فيه ) أي في حق الأخذ عن اللّه ( بلسان الكشف خليفة اللّه وبلسان الظاهر خليفة رسول اللّه ولهذا ) أي ولأجل أن من عباد اللّه من يأخذ الخليفة عن اللّه.


قال الشيخ رضي الله عنه : ( مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما نص بخلافة عنه إلى أحد عنه ولا عينه لعلمه أن في أمته من يأخذ الخلافة عن ربه فيكون ) ذلك الأخذ ( خليفة عن اللّه مع الموافقة ) لرسول اللّه ( في الحكم المشروع ) والنصوص الواردة في حق الأصحاب في الإمامة لا في الخلافة وإن كان الأمر قد وقع كذلك لكن أمر الخلافة لا كأمر الإمامة كما عرفت .
( فلما علم ذلك عليه السلام لم يحجر الأمر ) أي لم يمنع أمر الخلافة عن أحد فإذا لم يمنع الرسول الخلافة ( فللّه خلفاء في خلقه يأخذون من معدن الرسول والرسل ) . 

قوله ( ما أخذته الرسل ) مفعول يأخذون المعدن هو ذات الحق وأسمائه وصفاته ( ويعرفون ) عطف على يأخذ ( فضل المتقدم ) في الرتبة ( هنالك ) أي في الأخذ عن اللّه فإن الأخذ عن اللّه يتفاوت بحسب المشارب والمراتب وكم بين أخذ الأنبياء عن اللّه وبين الأولياء فيتفاوت أخذ الأنبياء بحسب درجاتهم .
قال اللّه تعالى :تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ[البقرة : 253 ] ،

وكذا الأولياء وإنما فضل الرسول على الخلفاء في المرتبة ( لأن الرسول قابل للزيادة وهذا الخليفة ) أي الخليفة الذي يأخذ عن اللّه مع الموافقة في الحكم المشروع للرسول ( ليس بقابل للزيادة التي لو كان ) هذا الخليفة ( الرسول قبلها ) على صيغة الماضي فإذا كان الأمر كذلك ( فلا يعطي ) اللّه ذلك الخليفة ( من العلم والحكم فيما شرع له ) على البناء للمجهول الأمر ( إلا ما شرع للرسول خاصة فهو ) أي الولي الأخذ عن اللّه ( في الظاهر ) .
متعلق بقوله : ( متبع غير مخالف بخلاف الرسل ) فإن شريعة بعضهم تخالف شريعة من قبلهم في بعض الأحكام المشروعة وإن كانت شريعة كلهم متفقة في الهدى لقوله تعالى :فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْفالهداية لا تقبل الزيادة والنقصان بخلاف الأحكام .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا ترى عيسى عليه السلام لما تخيلت اليهود أنه لا يزيد على ) دين ( موسى عليه السلام مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرسول آمنوا به واقرّوا فلما زاد ) عيسى عليه السلام ( حكما أو نسخ حكما كان قد قرره موسى عليه السلام ) .
قوله رضي الله عنه  : ( لكون عيسى عليه السلام رسولا ) يتعلق بقوله فلما زاد ( لم يحتملوا ) أي اليهود ( ذلك ) الزائد أو النسخ فأنكروا عيسى عليه السلام واعرضوا عن حكمه وإنما لم يحتملوا ( لأنه خالف ) أي عيسى عليه السلام ( اعتقادهم فيه ) أي في الحكم الزائد أو الناسخ ( وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه ) أي جهلت اليهود أن الرسالة تقبل الزيادة والنقصان. 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فطلبت قتله فكان من قصة ما أخبرنا اللّه في كتابه العزيز عنه وعنهم فلما كان ) عيسى أو الخليفة ( رسولا قبل الزيادة إما بنقص حكم قد تقرر أو زيادة حكم على أن النقص ) أي نقص قد تقرر ( زيادة حكم بلا شك ) فإن نقص الحكم حكم زائد على ما قرره ( والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب ) أي قبول الزيادة والنقص ولما قبل خلافة اليوم الزيادة والنقصان في بعض الأحكام المشروعة وهي المسائل الاجتهادية .

قال رضي الله عنه  : ( وإنما تنقص أو تزيد على الشرع الذي قد تقرر بالاجتهاد ) و ( لا ) تزيد ولا تنقص ( على الشرع الذي شوفه ) أي خوطب ( به محمد صلى اللّه عليه وسلم ) والشرع الذي شوفه به محمد صلى اللّه عليه وسلم هو المشروع المنصوص الذي لا يقبل الزيادة والنقصان لامتناع دخول الاجتهاد فيه فلا يتغير بالزيادة أو النقص 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد يظهر من الخليفة ) اليوم ( ما يخالف حديثا ما في الحكم فيتخيل أنه ) على البناء للمفعول أي فيتخيل أهل الحجاب أن ذلك الحكم منه ( من الاجتهاد وليس كذلك وإنما هذا الامام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي عليه السلام ولو ثبت ) ذلك الخبر عنده عن النبي من جهة الكشف ( لحكم به ) أي بذلك الخبر.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن كان الطريق فيه ) أي في ثبوت الخبر ( العدل من العدل فما هو ) أي فليس العدل ( معصوم عن الوهم ولا من النقل على المعنى ) فاحتمل فيه على ما هو الأمر عليه بخلاف الكشف الإلهي فإنه يعطي الأمر على ما هو عليه في نفسه فالكشف الإلهي أقوى وأرجح من العدل في إفادة اليقين . 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم و ) كما يقع من الخليفة اليوم ما يخالف حديثا ما في الحكم ( كذلك يقع من عيسى عليه السلام فإنه إذا نزل يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرر ) لعدم ثبوت ذلك الشرع الاجتهادي من جهة كشفه فكل حكم شرعي اجتهادي مقرر إذا وافق كشفه يثبته وإذا لم يوافق برفعه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيبين ) على صيغة المعلوم أو المجهول ( برفعه صورة الحق المشروع الذي كان عليه النبي ولا سيما إذا تعارضت أحكام الأئمة في النازلة الواحدة فنعلم قطعا أنه لو نزل وحي لنزل بأحد الوجوه فذلك هو الحكم الإلهي وما عداه ) أي ما عدا ذلك الوجه .

( وإن قرره الحق ) أي ما عدا الوجه الذي لو نزل وحي لنزل به ( فهو شرع تقرير لرفع الحرج عن هذه الأمة واتساع الحكم فيها ) فعلم منه أن الشارع قد ستر الحق المشروع في بعض أحكامه فاختلف الناس فيه بحسب اجتهادهم وقرر اجتهاد كل منهم لرفع الحرج عن هذه الأمة فهذا عناية من اللّه في حقهم فرفع الحرج سبب لحياة الأمة فإذا نزل عيسى عليه السلام نزل معه الحرج فتمت مدة حياتهم وقرب هلاكهم .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما قوله عليه السلام إذا بويع الخليفتين فاقتلوا الأخير منهما هذا في الخلافة الظاهرة التي لها السيف ) قوله ( وإن ) مبالغة ( اتفقا فلا بد من قتل أحدهما بخلاف الخلافة المعنوية فإنه لا قتل فيها ) لأنه لا حكم للسيف لها أصلا .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما جاء القتل في الخلافة الظاهرة ) في حق الأخير ( وإن لم يكن لذلك الخليفة ) التي جاء القتل في حقه ( هذا المقام ) وهو أخذ الحكم عن اللّه ( هو خليفة رسول اللّه عليه السلام ) كالأولى ( أن عدل ) إذ قول الرسول عليه السلام في حقهما خليفتين يشتمل كليهما على السؤال وجواب أما قوله ( فمن حكم الأصل الذي به ) أي بسبب ذلك الأصل .
( تخيل وجود آلهين ) فالقتل يتوجه إلى من كان سببا لتخيل وجوده إلهين وهو الثاني دون الأول فإن الخليفة مظهر الحق فيتخيل بتعدده تعدد الحق فوجب لرفع التخيل قتل الثاني الذي هو سببه (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وإن اتفقا ) أي آلهين .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنحن نعلم ) قطعا ( أنهما لو اختلفا تقديرا لنفذ حكم أحدهما فالنافذ الحكم هو الإله على الحقيقة والذي لم ينفذ حكمه ليس بآله) أي ومن قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا . 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن هاهنا نعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم فإنه حكم اللّه وإن ) مبالغة ( خالف ) ذلك الحكم النافذ ( الحكم المقرر في الظاهر المسمى شرعا إذ لا ينفذ حكم إلا للَّه في نفس الأمر ) وإن كان ينفذ في الظاهر من مظهر خاص ( لأن الأمر الواقع ) الأمر يعم جميع الأفعال والأقوال .
( في العالم إنما هو على حكم المشية الإلهية لا على حكم الشرع المقرر وإن كان تقريره ) إن مبالغة أي وإن كان تقرير الشرع المقرر . 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( من المشية ولذلك ) أي ولكون تقرير الشرع من المشية ( نفذ تقريره خاصة ) عند عدم العمل به ( وإن ) بالفتح عطف على نفذ ( المشية ليست لها فيه ) أي في الشرع الذي نفذ تقريره خاصة ( إلا التقرير لا العمل بما جاء به )  فالمشية إذا تعلقت تقرير الحكم المشروع خاصة نفذ تقرير ذلك الحكم لا العمل به وإذا تعلقت تقريره مع العمل به نفذ تقرير ذلك الحكم والعمل به .
فالتكاليف نفذ تقريرها وأما العمل بها فقد ينفذ لتعلق المشية به وقد لا ينفذ لعدم تعلقها به فإذن لم يقع الأمر إلا بحسب المشية . 

فإذا كان الأمر كذلك ( فالمشية سلطانها ) أي قوتها وقدرتها ( عظيم ولهذا ) أي ولأجل عظمة سلطان المشية ( جعلها أبو طالب ) وهو من كبار الأولياء ( عرش الذات ) أي يظهر حكم اللّه بها. 

قوله رضي الله عنه  ( لأنها ) علة لقولها سلطانها عظيم ويجوز أن يكون علة لقوله عرش الذات أي لأن المشية ( لذاتها تقتضي الحكم فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع عنه ) قوله ( خارجا ) قيد بالوقوع والارتفاع ( عن المشية ).
 وعلل عدم خروج شيء عن المشية وجودا وارتفاعا بقوله ( فإن الأمر الإلهي إذا خولف هنا ) أي في مقام الشرع ( بالمسمى ) أي بالذي يسمى ( معصية). 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فليس ) ذلك الأمر الإلهي الذي خولف ( إلا الأمر بالواسطة ) أي بواسطة الأنبياء كالصلاة إذا لم يفعل المكلف فإنه خالف الأمر الواسطي ( لا الأمر التكويني ) وهو قوله تعالى :إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[ يس : 82 ] ، .
ولو أراد اللّه بالأمر التكويني عن ذلك العبد فعل الصلاة لفعل
.

 يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:06 am

 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الجزء الثاني
17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما خالف اللّه أحد قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشية فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة ) إذا لم يتعلق المشية بذلك الأمر ( فافهم ) إشارة إلى أن هذه المسألة من دقائق الفن وأعظم مسائله .

ولما يشعر كلامه أن للعبد تأثيرا في الجملة في وجود الفعل نفى ذلك بقوله رضي الله عنه  :
( وعلى الحقيقة فأمر المشية إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل لا على من ظهر ) الفعل ( على يديه فيستحيل أن لا يكون ) ذلك الفعل ( ولكن في هذا المحل الخاص ) فكان ذلك المحل شرطا لصدور الفعل .
فأمر المشية يتعلق بالمشروط بتعلق آخر غير تعلقه بالشرط ، إلا أن المشية تتعلق بعين العبد والعبد يفعل الفعل بلا تعلق المشية بذلك الفعل أو يشترك في الفعل .
معنى المشية فالمشية تستقل في وجود الفعل في التأثير كما تستقل في وجود العبد .
فالعبد لا تأثير له في فعله كما لا تأثير له في وجود نفسه .
وإنما بنى هذا المعنى على الحقيقة لأنه بناء على الظاهر هو أن العبد يكسب فعله .
فاللّه يخلقه فكان للعبد تأثيرا في فعله بهذا الوجه ولا تأثير بذلك الوجه .
فمراد اللّه بحسب الوقوع في الخارج تابع لمشيته وبحسب الوجود العلي فالمشية تابعة له فلا جبر.
فإن كان الجبر فمن العبد لا من اللّه وإنما كان من اللّه أن لو كان المعلوم والمراد تابعا للعلم والمشية من كل الوجوه ( فوقتا يسمى به مخالفة لأمر اللّه ووقتا يسمى موافقة وطاعة لأمر اللّه ويتبعه لسان الحمد أو الذم على حسب ما يكون ولما كان الأمر في نفسه على ما قررناه ) من أنه لا يقع شيء في الوجود ولا يرتفع خارجا عن المشية .
 
( لذلك ) يتعلق بقوله ( كان مآل الخلق ) في الآخرة ( إلى السعادة ) أي إلى الرحمة ( على اختلاف أنواعها ) أي أنواع السعادة لأن مآل بعضهم إلى رحمة خالصة من شوب الألم وهم أهل الجنان وبعضهم إلى الرحمة الممتزجة من العذاب وهم المخلدون في النار قوله كان جواب لما.
( فعبر ) الحق ( عن هذا المقام بأن الرحمة وسعت كل شيء وأنها سبقت الغضب الإلهي ) أي العذاب الإلهي باستيفاء .
 
اعلم إن العذاب في حق العباد إلهي وإمكاني والعذاب الإلهي ينقطع باستيفاء حقوق اللّه وحقوق الناس في النار عن عصاة المؤمنين ثم يخرجون منها ويدخلون النعيم لأن ذواتهم يقتضي ذلك.
وعلم اللّه منهم فتعلقت مشيته على حسب علمه فوقع الأمر على حسب تعلق مشيته والعذاب الامكاني هو الذي يقتضيه ذات الممكن فلا ينفك ذلك العذاب عن ذات الممكن في الآخرة أبدا .
وهم المخلدون في جهنم أبدا فإنهم وإن انقطع العذاب الإلهي في حقهم باستيفاء الحقوق الشرعية لكن لا ينقطع عنهم العذاب الذي يقتضي ذواتهم ظهر لهم بانقطاع العذاب الإلهي عنهم فإن ذواتهم تقتضي ذلك .
وعلم اللّه منهم ذلك وتعلقت مشيته على ذلك فكانت المشية تابعة تقتضي ذواتهم فلا تسبق الرحمة في حقهم إلا على العذاب الإلهي لا العذاب الامكاني لتقدمه على المشية .
وإنما يكون ذلك أن لو كانت المشية مقدمة من كل الوجوه على ذوات المعلومات ومقتضياتها 
وليس كذلك كما قال الشيخ الأكبر :
خسف الكتاب فما شاء إلا بما علم وما علم إلا ما أعطته المعلومات فسبق في حقهم من جهة كونهم تابعة للمشية في وجودهم ووجود مقتضياتهم فما لهم إلى الرحمة من هذا الوجه ، وأما من جهة أن المشية تابعة بأحوالهم ومقتضياتهم فما لهم إلى الألم .
 
فاللّه تعالى أعطى كل ذي حق حقه فحقهم على حسب اقتضاء ذواتهم الراحة مع الألم وهذا هو النعيم في عين الجحيم والنعيم الذي في عين الجحيم لا يخلو أبدا عن نوع من العذاب وبه حصل التوفيق بين أهل الشرع وأهل التحقيق فلا يزالون عن العذاب الممتزج بالألم أبدا ولو كان أحد منهم آمن باللّه ورسوله وعمل بمقتضاه ولا يعصي اللّه قط في مدة عمره ولا يبقي على ذمته حقوقه الناس أصلا
وقبض في آخر جزء من عمره على الشرك للقضاء السابق عليه نعوذ باللّه من ذلك
فقد وصل في النار بلا حساب ولا عذاب غايته وهي الرحمة الممتزجة بالألم كما أن من أهل الجنة من ينال غايته بلا حساب ولا عذاب ،
وأما الذين لم يؤمنوا باللّه ورسوله فلهم عذاب أليم لاستيفاء الحقوق الشرعية ثم الوصول إلى غايتهم وهي الرحمة الممتزجة بالألم ،
ومن العذاب الذي نشأ من شقاوتهم الذاتية حبسهم في بيت مظلم بلا أكل وشرب على الأبد وهو أقل العذاب الأبد لهم وأشد عذابهم خلودهم في نار شقاوتهم الذاتية بعد انقطاع عذاب نار شقاوتهم العارضية وهي مخالفتهم الشرائع وقد فهمت هذه المسألة من كلام الشيخ هكذا فتوفقت ولم أسطر إلى أن جاء الإثبات على فهمي من روح صاحب الكتاب ولقد أورد الشيخ هذه المسألة كثيرا ما استعظاما لشأنها واهتماما على فهمها فافهم فإن فهمها سعادة ينحل به جميع المشكلات الاعتقادية الكلامية الشرعية
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والسابق متقدم فإذا لحقه ) أي المتقدم أو السابق بالسلوك إذ هو غايته لأن الكل سالك إلى الغاية ( هذا ) فاعل لحقه ( الذي ) صفته ( حكم عليه المتأخر ) أي العذاب مدة أيام دولته ( حكم عليه المتقدم ) وهو الرحمة وإلا كان ذلك العبد عدما محضا ، وهو خلاف ما وقع عليه النص والكشف من أنهما مع أهلهما يبقيان لا يفنيان ( فنالته الرحمة إذ لم يكن غيرها سبق ) من موانع ظهورها والعذاب الذي اجتمع معها لا يعدّ غيرها وإن لم يكن عينها ( فهذا ) أي هذا المعنى الذي بيناه بقولنا والسابق متقدم معنى « سبقت رحمته غضبه » وما سبقت الرحمة على الغضب إلا ( لتحكم الرحمة على من وصل إليها ).
 
وإنما وجب الوصول إليها ( فإنها في الغاية وقفت والكل سالك إلى الغاية فلا بد من الوصول إليها فلا بد من الوصول إلى الرحمة ومفارقة الغضب ) فكانت الرحمة مركز العالم كلها ( فيكون الحكم لها في كل واصل إليها بحسب ما تعطيه حال الواصل إليها ) لأن بعضهم يصل إليها في عين الجحيم مع بقاء الألم وبعضها يصل في دار النعيم بلا ألم.
 
 شعر   قال الشيخ رضي الله عنه : 
(فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلناه ... وإن لم يكن فهم فيأخذه عنا)
(فمن كان ذا فهم ) أي ذا بصيرة وصاحب كشف ( يشاهد ما قلنا ) من غير أخذ عن قولنا ( وإن لم يكن ) ذا ( فهم ) ( فيأخذه عنا ) أي فيدرك هذا المعنى عن قولنا على ما هو الأمر عليه بالعقل السليم وهم المؤمنون بحال أهل اللّه وفيه إشارة إلى أن المحبين من زمرة أولياء اللّه.
 
(فما ثم إلا ما ذكرناه فاعتمد ... عليه وكن بالحال فيه كما كنا)
( فما ثمة ) أي فما في هذه المسألة في نفس الأمر (إلا ما ذكرناه فاعتمد عليه وكن بالحال فيه) أي فيما ذكرناه لا تكن بالقال ( كما كنا ) بالحال فيه
 
(فمنه إلينا ما تلونا عليكم ... ومنا إليكم ما وهبناكم منا)
( فمنه ) أي من الحق أو من الرسول إذ ما في الكتاب كله نزل إليه من الرسول في الرؤيا وإن كان في التحقيق من اللّه ( إلينا ما تلونا ) أي الذي تلونا ( عليكم) ، (ومنا ) نزل ( إليكم ما ) أي ليس ( وهبناكم منا ) أي من عند أنفسنا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما تليين الحديد فقلوب قاسية ) إشارة إلى القلوب القاسية التي (يلينها الزجر والوعيد تليين) أي كتليين ( النار الحديد وتليين الحديد ما هو صعب ) فلا صعب في القلوب القاسية التي كالحديد فإنها يلينها الوعظ كما يلين النار الحديد .
( وإنما الصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة تكسرها وتكلسها النار ولا تلينها ) فالحجارة وإن كانت لا تلينها النار لكنها تكسرها فمن القلوب القاسية من أشد قسوة من الحجارة بحيث لا يلين بالزجر ولا تكسر وهو قوله تعالى :فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً[ البقرة : 74 ] ،
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما الآن ) الحق له لداود عليه السلام ( الحديد إلا لعمل الدروع ) بضم الدال جمع الدرع (الواقية ) أي الحافظ عن ضرر سلاح العدوّ و ( تنبيها من اللّه أن لا يتقي ) على البناء المجهول ( الشيء إلا بنفسه فإن الدرع يتقي به السنان والسيف والسكين والنصل فاتقيت ) أنت ( الحديد ) أي من الحديد ( بالحديد ) فجاء الاتقاء من الحديد بالحديد في شرع داود عليه السلام .
( فجاء الشرع المحمدي بأعوذ بك ) من حيث رحمانيتك ( منك ) من حيث انتقامك ( فهذا ) المذكور ( روح تليين الحديد فهو المنتقم الرحيم )  فيستعاذ من الاسم المنتقم بالرحيم
واللّه الموفق ) لهذه الاستعاذة وإدراك روح الشريعة لا غير .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد يناير 19, 2020 6:29 pm

18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليونسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية
 ( فص حكمة نفسية ) بفتح الفاء ( في كلمة يونسية ) ولما كان بين النفوس الناطقة وبين هذا النبي مناسبة في بعض الأحكام وهي ابتلاؤه بالحوت وابتلاؤها بالتعلق بالجسم الظلماني وغير ذلك من المناسبات الجامعة التي ذكرها داود القيصري في شرحه لهذا الكتاب .
"" أضاف المحقق :النقطة الأساسية التي يحوم حولها هذا الفص هي الإنسان طبيعته ومنزلته من الوجود .
وحكمة هذا الفص إلى يونس فلا يمكن تعليها إلا أساس أن المؤلف يعتبر يونس مجرد رمز للنفس الإنسانية الناطقة التي نادت ربها في الظلمات
وإذا كان في مقدور النفس الإنسانية وحدها أن تعرف اللّه وأن تسبحه وتقدسه فهي الجديرة وحدها بأن تحمل اسم الإنسان وأن تكون منه موضع الكرامة .""
 
أورد حكمتها في كلمته ( اعلم أن هذه النشأة الانسانية بكمالها ) قوله ( روحا وجسما ونفسا ) وقع تميزا بكمالها ( خلقها اللّه على صورته ) أي على صفته الكاملة من السمع والبصر والقدرة والإرادة وغير ذلك ، كما قال : كنت سمعه وبصره إلخ فإذا خلق اللّه هذه النشأة على صورته ( فلا يتولى ) أحد ( حل نظامها إلا من خلقها إما بيده ) أي إما حل بيده من غير واسطة في الخارج ( وليس ) سبب الحل ( إلا ذلك ) أي باليد ( أو بأمره ) أي بأمر الحق كالقصاص وغيره من الأسباب الشرعية فقوله وليس إلا ذلك جملة معترضة بين قوله إما بيده أو بأمره لحصر الحل في أحدهما فقطعت احتمال السبب الآخر غيرهما ( ومن تولاها ) أي ومن تولى حل نظام هذه النشأة ( بغير أمر اللّه ) أي بغير أمر شرعي كالقتل بغير حق ( فقد ظلم نفسه وتعدى حدّ اللّه فيها ) أي في النشأة الانسانية ( وسعى في خراب ما أمره اللّه بعمارته ) وهو قوله تعالى :وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ[ الطلاق : 1 ] .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( واعلم أن الشفقة على عباد اللّه أحق بالرعاية من الغيرة في اللّه ) أي من القتل بأمر اللّه وأورد دليلا على ذلك بقوله ( أراد داود عليه السلام بنيان بيت المقدس فبناه مرارا فكلما فرغ منه تهدم ، فشكا ذلك إلى اللّه فأوحى اللّه إليه أن بيتي هذا لا يقوم على يد من يسفك الدماء فقال داود عليه السلام يا رب ألم يكن ذلك ) الدماء ( في سبيلك قال اللّه تعالى بلى ولكن هم أليسوا عبادي ) فأشفق الحق عباده الذين وجب عليهم القتل بأمره فكيف على عباده الذين لم يجب عليهم القتال ( فقال ) داود عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه :( يا رب اجعل بنيانه على يدي من هو مني فأوحى اللّه إليه إن ابنك سليمان عليه السلام يبنيه فالغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الانسانية وإن إقامتها أولى من هدمه ألا ترى عدوّ الدين قد فرض اللّه في حقهم الجزية والصلح إبقاء عليهم وقال وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) أي للسلم وهو مؤنث سماعي


قال الشيخ رضي الله عنه : ( ألا ترى من وجب عليه القصاص كيف شرع لوليّ الدم أخذ الفدية أو العفو فإن أبى فحينئذ يقتل ألا ترى سبحانه إذا كان أولياء الدم جماعة فرضي واحد بالدية أو عفى وباقي الأولياء لا يريدون إلا القتل كيف يراعى من عفى ويرجح على من لم يعف فلا يقتل قصاصا ألا تراه عليه السلام يقول في صاحب التسعة ) أي صاحب الحيل ( أن قتله كان مثله ) حكايته مذكورة في كتب الأحاديث .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( ألا ترى تعالى يقول :وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فجعل القصاص سيئة أي يسوء ذلك الفعل مع كونه مشروعا فمن عفى وأصلح فأجره على اللّه لأنه ) أي لأن المعفوّ عنه ( على صورته ) أي على صورة الحق ( فمن عفى عنه ) أي عن القاتل ( ولم يقتله فأجره ) أي أجر من عفى عنه ( على من ) وهو الحق ( هو ) راجع إلى المعفو عنه ( على صورته ) الضمير المجرور راجع إلى من ( لأنه ) أي لأن الحق ( أحق به ) أي بالعفو من ذلك العبد العفوّ ( إذا نشأه ) أي العبد ( له ) أي لنفسه ليكون مظهرا لكمالاته وأحكامه ( وما ظهر الحق ) بالاسم ( الظاهر إلا بوجوده ) أي بوجود العبد أو بوجود الإنسان ( فمن راعاه ) أي الإنسان ( فإنما يراعي الحق ) .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " من أكرم عالما فقد أكرمني ومن أكرمني فقد أكرم اللّه تعالى".
"" ورد بلفظ : " من أكرمهم فقد أكرمني ومن أكرمني فقد أكرم اللّه". ذكره بهذا اللّفظ السّيوطي في كتابه الدّرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ""


قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما يذمّ الإنسان لعينه ) إذا عينه مخلوق على صورة الحق ( وإنما يذم لفعله وفعله ليس عينه وكلامنا ) في مدحه ( في عينه ) لا من حيث فعله ( ولا فعل إلا اللّه ومع هذا ذم منها ) أي من الأفعال ( ما ذم وحمد ما حمد ولسان الذمّ على جهة الغرض مذموم عند اللّه ) وأما لسان الذمّ على جهة الشرع فممدوح عند اللّه فالمذموم بلسان الذمّ على جهة الغرض ليس بمذموم عند اللّه بل هو مذموم عند صاحب الغرض لعدم موافقة ذلك الشيء غرضه فذمه ليس باخبار عن الشيء على ما هو عليه فلا يكون ذمه لحكمة .
( فلا مذموم إلا ما ذمه الشرع فإن ذم الشرع لحكمة يعلمها اللّه أو من أعلمه اللّه ) فكان ذم الشرع اخبارا عن الشيء على ما هو عليه ، فذلك الذمّ لا يخلو عن حكمة ( كما شرع القصاص للمصلحة ) قوله ( إبقاء ) بيان للمصلحة ومفعول لشرع ( لهذا النوع وإرداعا للمتعدي حدود اللّه فيه ) أي هذا النوع الانساني قال اللّه تعالى :وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ
قوله ( وهم ) مبتدأ ( أهل لب الشيء ) خبره ( الذين عثروا ) صفة أهل لبّ أي أولي الألباب أهل لبّ الشيء الذين اطلعوا ( على أسرار النواميس ) أي الشرائع ( الإلهية و ) أسرار ( الحكمية ) العقلية ( وإذا علمت أن اللّه راعى هذه النشأة و ) راعى ( أقامتها فأنت أولى ) وأحق من الحق ( بمراعاتها ذلك ) خبر ( بذلك ) يتعلق بالظرف ( السعادة ) مبتدأ أي إذا حصل ذلك بسبب رعاية هذه النشأة السعادة فالحق أولى منك برعاية هذه النشأة لأنه أنشأ لأجل ظهور أحكامه فأنت أولى منه برعايتها إذ بها لا بغيرها يحصل لك السعادة وهي أجر من اللّه وإذا لم يراع الحق لم يزد ولم ينقص في ألوهيته وكمال ذاته شيء ،


وإذا لم تراع تحصل لك السعادة فقد انحطت عن درجة الكمال إذ كمال الإنسان السعادة لا غير فأنت أحق بالأولوية في رعايتها وبما ذكرنا اندفع توهم المخالفة بين قوله لأنه أحق به وبين قوله فأنت أولى بمراعاتها وإنما تحصل لك السعادة برعايتها .


( فإنه ) أي الشأن ( ما دام الإنسان حيا يرجى له تحصيل صفة الكمال ) وهي ظهور معرفة اللّه تعالى منه ( الذي خلق له ) فإذا راعيته فقد أعنته لتحصيل كماله فحينئذ كان أجر عملك على اللّه ( ومن سعى في هدمه فقد سعى في منع وصوله لما خلق له ) فمن سعى في منع وصوله لما خلق له فقد سعى في منع وصول نفسه لما خلق لها لقوله تعالى : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فاللّه تعالى يجازي عباده بمثل أعمالهم ( وما أحسن ) تعجب ( ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألا أنبئكم ) أي أخبركم ( بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ذكر اللّه ) .


أي لا يقابل جزاء الغزاء في سبيل اللّه جزاء ذكر اللّه لأن فيه منعا عن ذكر اللّه بسبب عدم بنيان الرب فالإنسان ما دام حيا يرجى له ذكر اللّه وإن كان عدوّ اللّه ( وذلك ) أي وبيان أفضلية ذكر اللّه من الغزو في الشهادة في سبيل اللّه ( إنه ) أي الشأن ( لا يعلم قدر هذه النشأة الانسانية إلا من ذكر اللّه الذكر المطلوب منه ) وهو الذي يشاهد الذكر به ربه ( فإنه تعالى جليس من ذكره ) أي حاضر لمن ذكره ( والجليس مشهود الذاكر ومتى لم يشاهد الذاكر الحق الذي هو جليسه فليس بذاكر ) بالذكر المطلوب بل هو ذاكر باللسان خاصة وهو من الغافلين عند أهل اللّه فذكره ليس بذكر اللّه على الحقيقة ( فإن ذكر اللّه ) بالذكر المطلوب ( سار في جميع أجزاء العبد ) من قواه الروحانية والجسمانية .


قوله رضي الله عنه : ( لا من ذكره بلسانه خاصة ) عطف على قوله جليس من ذكره أي فإن اللّه تعالى جليس من ذكر بالذكر الساري في جميع أعضائه لا جليس من ذكره بلسانه خاصة ( فإن الحق لا يكون في ذلك الوقت ) أي في وقت ذكر العبد باللسان خاصة لا بقلبه وروحه ( إلا جليس اللسان خاصة فيراه اللسان من حيث لا يراه الإنسان ) وليس ذلك من تمام مراد اللّه بل المطلوب من ذكر الإنسان رؤية الإنسان ربه لا رؤية جزء من أجزائه فإذا رآه الإنسان فقد رآه كل جزء من أجزاء الإنسان من حيث لا يراه الإنسان فالكمال ذكر الإنسان لا ذكر اللسان قوله رضي الله عنه :
( بما هو راء ) يجوز أن يكون متعلقا بقوله لا يراه أي من حيث لا يراه الإنسان بالذي هو أي الإنسان لا يراه وهو بصره المعروف الموضع
بل يراه الإنسان بما يراه به اللسان لأن اللسان بضر يخصه
ويجوز أن يكون متعلقا بقوله فيراه أي يراه الإنسان بما يراه به اللسان
لأن اللسان بضر يخصه ويجوز أن يكون متعلقا بقوله فيراه أي يراه اللسان بالذي هو
أي اللسان راء به ولا يراه بما يرى به الإنسان والمقصود من رؤية اللسان الحق رؤيته بما يرى به الإنسان كما ورد في الخبر الصحيح.


قال الشيخ رضي الله عنه : ( كنت سمعه وبصره وبي يسمع وبي يبصر ) فكان هذا القول من قبيل التنازع فأيهما أعمل قدّر مفعول الآخر والضمير العائد إلى الموصول محذوف وهو به وظهر من هذا البيان إن ذكر اللّه أفضل من سائر الأعمال
( فافهم هذا السر ) أي أفضل سر الذكر ( في ذكر الغافلين فالذاكر ) وهو اللسان ( من الغافل حاضر ) لا غافل ( بلا شك والمذكور جليسه فهو ) أي الذاكر وهو اللسان ( يشاهده ) أي يشاهد جليسه وهو الحق .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( والغافل ) وهو الإنسان ( من حيث غفلته ) لا من حيث جزئه الذاكر إذ من هذه الحيثية ذاكر في الجملة لا غافل لذلك قيده بهذه الحيثية ( ليس بذاكر فما هو ) أي فليس الحق ( جليس الغافل فإن الإنسان كثير ) بالأجزاء ( ما هو ) أي ليس الإنسان ( إحدى العين ) لكونه عينه مركبا من الأجزاء ( والحق إحدى العين ) لكونه لا جزء له ( كثير بالأسماء الإلهية ) والأسماء الإلهية ليست أجزاء لذات الحق وهو منزه عن الأجزاء والتأليف فمعناه أن ذاته تعالى موصوفة بالصفات الكثيرة فيعدد عند اعتبار العقل فإنه من حيث أنه ضارّ يغاير من حيث أنه نافع عند العقل .


قال الشيخ رضي الله عنه :( كما أن الإنسان كثير بالأجزاء وما يلزم من ذكر جزء ما ذكر جزء آخر ) حتى يلزم من ذكر الجزء ذكر الكل ليلزم الذكر المطلوب في كل ذاكر من الإنسان فاعتبر إلى هذا البيان هل تظنك ذاكرا أم غافلا واذكر اللّه ذكر المطلوب حتى كان الحق جليسا بخلاف سائر الأعمال من الغزو وغيره ، فإنه ما كان اللّه جليسا لعامتها والمقصود من تحقيق الذكر في هذا المقام تحريض وترغيب للسالكين الطالبين لأسرار الذكر .


قال الشيخ رضي الله عنه :( فالحق جليس الجزء الذاكر منه ) أي من الإنسان ( والآخر متصف بالغفلة عن الذكر ولا بد أن يكون في الإنسان جزء ) قوله ( يذكر به ) جاز على البناء المجهول والمعلوم وإنما لا بد للإنسان جزء ذاكر إذ لو لم يكن كذلك لعدم الإنسان ( فيكون الحق جليس ذلك الجزء ) الذاكر فيحفظ ذلك الجزء بذكر اللّه وجليسه ( فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية الإلهية ) بسبب الجزء الآخر الذاكر والإنسان ما دام ذاكرا للحق فهو حي محفوظ بالعناية الإلهية فإذا جاء أجله فنسي ذكر اللّه فطر عليه الموت .
ولما اتجه إن يقال أن وجود الإنسان خير محض في حقه من عدمه ومراعى عند اللّه فما الحكمة يتولى الحق بهدمه الموت أجاب عنه بقوله ( وما ) موصولة ( يتولى الحق بهدم هذه النشأة بالمسمى موتا فليس بإعدام ) مطلقا حتى تفوت الحكمة ( وإنما هو ) أي الموت ( تفريق ) لأجزاء الإنسان ( فيأخذه إليه وليس المراد ) بالموت ( إلا أن يأخذه الحق إليه تعالى ) كما أن للقصاص وإن كان سببا للموت حكمة وهي إبقاء النوع الانساني كذلك للهدم وإن كان سببا للموت حكمة وهي أخذ الحق عباده به وتقريبه إلى ذاته تعالى وإنجاؤهم عن العالم الجسماني الظلماني وإدخالهم في نور ذاته وصفاته.
وهذا خير في حق الإنسان من حياته وبقائه في الدنيا ( وإليه يرجع الأمر كله ) وموت الإنسان سبب لرجوعه إلى اللّه تعالى فما فعل الإنسان إلا بأحسن الأمر في حقه .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا أخذه إليه ) بقبض روحه ( سوى له مركبا غير هذا المركب من جنس الدار التي ينتقل إليها وهي دار البقاء ) فكان ذلك المركب باقيا ( لوجود الاعتدال ) الذي يوجب البقاء وينافي الفناء ( فلا يموت ) بعد ذلك ( أبدا ) أي ( لا تفترق أجزاؤه )  الأخروية ،
 
ولما اتجه أن يقال إن هذا الكلام لا يصدق إلا في حق أهل النعيم وأما أهل الجحيم فيفترق أجزاء أبدانهم الأخروية بالنصوص كما قال اللّه تعالى :كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها[ النساء : 56 ] ،


فالنار تأكل لحومهم وعظامهم فتفرقت الأجزاء بأكل النار ثم سوى لهم مركبا من الأبدان الأخروية فلا بقاء لهم بهذا المعنى أي بمعنى عدم افتراق الأجزاء أجاب عنه بقوله ( وأما أهل النار فما لهم إلى النعيم ) يعني أن تبديل جلودهم وإفناء أجزائهم بسبب أكل النار لحومهم قبل وصولهم إلى نعيمهم الخاص بهم وبعد وصولهم وإن كانوا يعذبون بالنار أبدا ويتنعمون بمشاهدة ربهم أبدا لكن لا يموتون أبدا أي لا يفترق أجزاؤهم بذلك لحصول الاعتدال بالإحراق وتبديل الأبدان فكان حالهم في النار حال أهل النعيم في النعيم في عدم افتراق أجزاء أبدانهم والنعيم باق وكذا أهله باق سواء كان في دار النعيم أو الجحيم .


اعلم إن هذه المسألة مبنية على أصل عند أهل اللّه وهو أنهم قسموا أسماء اللّه تعالى بحسب الأحكام منها ما لا ينقطع حكمه أبدا كالأسماء الحاكمة على الآخرة منها اللطيف والقهار ،
وهذان الاسمان قسم من الاسم الآخر فلا ينقطع حكم القهار أبدا وهو وصول أثره إلى أهل النار وهو العذاب كما أن حكم اللطيف لا ينقطع حكمه أبدا في دار السلام فلا يخلو أهلها عن العذاب كما لا يخلو أهل دار السلام عن النعيم فلا ينقطع حكم النار عن أهلها وهو الإحراق ،
هذا هو الأصل الثابت بالنص الإلهي والكشف الإلهي عند الشيخ صاحب الكتاب وأمثاله من أهل اللّه .
 
فإذا علمت هذا فاعلم أن معنى قوله وأما أهل النار فما لهم أي آخر حالهم إن يرجع من العذاب الخاص عن الراحة والنعيم إلى النعيم الممتزج بالعذاب فتبدل عذابهم الخالص إلى العذاب الذي فيه العذاب لأن العذاب محرق في الأصل.
وهذا لا يكون إلا بظهور حكم الرحمة التي سبقت في حقهم بعد استيفاء الحقوق فكان العذاب لاستيفاء الحقوق ساقطا في حقهم وبعد ذلك ظهر العذاب الذي اقتضته شقاوتهم الذاتية فعذبوا لأجل ذلك على الأبد لاستيفاء الحقوق فصار النار بردا وسلاما لأرواحهم من هذا الوجه
ومؤلما لأبدانهم من حيث شقاوتهم الذاتية فقد تساوي راحتهم عذابهم فيجتمع نوع من الرحمة بنوع من العذاب فيهم لاستحقاقهم الذاتي
فلا ينقطع حكم الرحمة بعد الوصول إليها ولا حكم القهر عنهم أبدا ( ولكن ) هذا النعيم حاصل لهم ( في النار ) وإنما كان النعيم لهم في النار ( إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب ) وهي مدة استيفاء الحقوق ( أن تكون ) تلك الصورة النارية مع بقاء صورته اللونية ( بردا وسلاما على من فيها ) من حيث روحانيتهم من جهة إنها لا تأكل لحومهم وجلودهم ولا نضجت وتمزقت جلودهم .


ولا يفني أبدانهم لكنها أحرقت أبدانهم بوجه آخر فلا يطلع على أفئدتهم بعد ذلك لعدم تبديل الجلود ونضجها فلا يصل ألمها إلى أرواحهم بخلاف العذاب الأول فإنه يأكل النار أبدانهم ويبقي أفئدتهم ليصل ألمها إلى أرواحهم ثم وثم إلى ما شاء ثم سوى مركبا معتدلا من جنس هذا الدار لا يفنى بعذاب النار فلا مخالفة بين الطائفتين في دوام أصل العذاب .
 
بل الاختلاف في نوعه ولا يضرّ في الاعتقادات الدينية هذا المقدار من الاختلاف في مثل هذا المحل فإنه محل تحيرت العقول فيه أرواحهم في راحة لتجلي الحق لهم بالرحمة التي سبقت في حقهم وإيصاله لهم غذاء أرواحهم من انكشاف جماله على حسب مراتبهم فهم في راحة غير راحة فالنار تكون بردا وغير برد ولا يعجبك هذا الكلام ،
فإن الإنسان إذا شرع في تحصيل الكمالات بتكاليف الشاقة التي لا تلائم الطبع والنفس فهو في تعب وعذاب من حيث النفس والبدن وتلذذ وراحة من حيث الروح
فإن روحه متلذذ بنتائج هذه الأعمال الشاقة لأجل تلذذه يتحمل الأعراب فكانت الراحة مع العذاب في حق الكفار أحق من الراحة بدون العذاب إذ راحتهم نتيجة عذابهم فكلما ازدادوا عذابا ازدادوا راحة
كما أن طالب المعارف الإلهية كلما ازدادوا تعبا ومشقة ازدادوا راحة ولذة روحانية وهي تلذذ راحة بالمعارف


( وهذا ) أي كون النار بردا وسلاما على من فيها ( نعيمهم ) وهذا المقدار القليل الغير المتعدي به من النعيم ضيافة اللّه لهم فإنهم وإن كانوا أشقياء لكنهم أليسوا عباد اللّه فلا وجه لمنع ضيافة اللّه عن عباده بكلتيها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أكرموا الضيف ولو كان كافرا » والإكرام إيصال النعم وحسن المعاشرة معه والشرع وضع على الحقيقة
فدل ذلك الحديث على أن الإكرام على حسب حالهم ومقامهم واقع عند اللّه فما أكرم وأنعم عليهم إلا بكون النار عليهم بردا وسلاما فقط لا غير مع أن زيادة النعم بالغا ما بلغ حسن عند اللّه تعالى لذلك لا يعدّ ولا يحصى نعمه لعباده إلا اللّه على أن كونهم في جحيم بلا أكل وشرب وحور ولباس حرير وغير ذلك من نعم الجنان عين العذاب وإن كان النار بردا وسلاما ، وإياك وظن السوء لأولياء اللّه في ظهور مثل هذا المعنى منهم .
 
فلما ذكر أحوال أهل النار مثل بقصة إبراهيم عليه السلام تفهيما لأهل الحجاب لأن بعض أحوالهم في النار تشبه بعض أحوال إبراهيم عليه السلام وإلا فليس حالهم كله يشبه حال إبراهيم عليه السلام ( فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق ) التي كانت ثابتة على ذمتهم فالنعيم حاصل لهم بعد استيفاء المنتقم حقوق الغير فعذبوا على الأبد لاستحقاق ذواتهم التي تقتضي الشقاوة أبدا فتمتنع إجابتهم الدعوة في أي حال كانوا ويدعون إلى السجود .
أي إلى الإطاعة فلا يستطيعون فعذبوا بها بنار الجلال على الأبد فذواتهم باقية وكذا اقتضاؤها وهو شقاوتهم الذاتية ومقتضى الشقاوة الذاتية على الأبد بنوع من العذاب .
 
وذاته تعالى اقتضت سبقة رحمته على غضبه فكان حق الرحمة السبقة على الغضب وحق الشقاوة الذاتية التعذيب على الأبد ومن مقتضى ذاته أن يعطى كل ذي حق حقه فجمع اللّه تعالى بحسب مقتضى حكمته الراحة والألم في وجودهم ومن اعتقد أن للشيء الواحد وجوها مختلفة بالظهور والخفاء متضادة بعضها بعضا وعرف أن التجليات الإلهية متنوعة علم ما قلناه
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( نعيم ) منصوب بتقدير حرف الجر ( خليل اللّه حين ألقي في النار فإنه عليه السلام تعذب ) ماض على البناء المعلوم أي تعذب بنفسه من غير تعذيب من اللّه بمس النار ( برؤيتها ) تعذب ( بما ) أي بسبب الذي ( تعود ) بالدال المهملة ماض معلوم من التعود أي اعتقاد إبراهيم عليه السلام ( في علمه وتقرر من أنها ) أي النار ( صورة تولم من جاورها من الحيوان وما علم ) إبراهيم عليه السلام ( مراد اللّه فيها ومنها في حقه ) أي في حق إبراهيم عليه السلام
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فبعد وجود هذه الآلام ) المذكورة في وجود إبراهيم عليه السلام ( وجد ) إبراهيم عليه السلام النار ( بردا وسلاما مع شهود الصورة اللونية ) التي توجب الإحراق فعلم إبراهيم عليه السلام أن التأثيرات كلها للَّه لا للأشياء فزال عن إبراهيم عليه السلام هذا الألم لزوال تعوده بعلم الألم فلا يخاف إبراهيم عليه السلام عن النار بعد ذلك
أي بعد وجدان النار بردا وسلاما فلا يتعذب بشهود الصورة اللونية لعدم ذوقه ألم النار وأما أهل النار فإنهم لتعودهم بذوق يخافون عن عود العذاب على عادته الأولى لبقاء الصورة النارية فيتعذبون بشهود الصورة أبدا
فيرضون بذلك العذاب بالضرورة لعلمهم بعدم النجاة عن النار أبدا
فإنهم يظنون قبل ذلك أن في حقهم رحمة تصل إليهم ويرجونها ولكن لا يدرون كيفيتها ووقتها فلما وصلت إليهم بهذه الكيفية انقطع رجاؤهم
 
فرضوا بمقامهم وحالهم وذلك نعيمهم ولا يرفع بذلك حكم النصوص على تخليدهم في العذاب بل تصدق النصوص على ذلك التقدير أيضا فلا وجه للنزاع مع أهل اللّه فيه فمن نازع فقد نازع بلا دليل وتمسك.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( في حقه ) متعلق ببردا وسلاما أو بوجد ( وهي ) أي الصورة اللونية ( نار في عيون الناس ) ونور وراحة وسلام في حق إبراهيم عليه السلام حتى لو كان مع إبراهيم عليه السلام أحد من الناس لجاز إحراقه ولو في جبة مع إبراهيم عليه السلام .
مع كون النار في حق إبراهيم عليه السلام بردا وسلاما فكان حال أهل النار حال إبراهيم عليه السلام في أنه تعذب برؤيتها ولما تعوّد في علمه قبل وجدان النار بردا وسلاما مع أنه لا يخلو في تلك الحالة عن الراحة الروحانية فهو في ذلك الوقت متلذذ ومتألم .
 
حكي أن جبرائيل عليه السلام جاء لخلاصه حين ألقي في النار فقال إبراهيم عليه السلام : يكفني علم ربي بحالي فهذا القول منه يدل على راحته ومجيء جبرائيل يدل على تألمه وكل ذلك في شخص واحد في وقت واحد وهكذا إحراق أهل النار في النار على الأبد
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالشيء الواحد يتنوع في عيون الناظرين ) فإن النار برد وسلام في عين إبراهيم عليه السلام ونار محرق في عيون الناس ( هكذا ) أي كنار إبراهيم عليه السلام ( هو ) ضمير الشأن
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( التجلي الإلهي ) عبارة عن الضمير فإن التجلي الإلهي وإن كان واحدا لكنه يتنوع بحسب قابلية الخلائق فيتكثر بذلك وأهل الحجاب لعدم علمه بذلك يزعم أن الأمر في نفسه ينحصر إلى ما في علمه فينكر بعض التجليات الخفية عن إدراكه فإذا علمت أن الشيء الواحد يتنوع ( فإن شئت قلت إن اللّه تجلي ) لقلوب عباده ( مثل هذا الأمر ) .
أي مثل تجلي نار إبراهيم عليه السلام لعيون الناظرين وهذا ظهور الحق في الخلق ( وإن شئت قلت إن العالم في النظر إليه وفيه ) قوله في النظر إليه إشارة إلى مرتبة الصفات وقوله وفيه إشارة إلى مرتبة الذات ( مثل الحق في التجلي ) خبر أن أي العالم يتنوع في مرآة وجود الحق كما يتنوع الحق في مرآة العالم عند التجلي وهو ظهور الخلق في الحق ( فيتنوع ) التجلي ( في عين الناظر بحسب مزاج الناظر ) هذا في التجلي الشهادي .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( أو يتنوع مزاج الناظر لتنوع التجلي ) هذا في التجلي الغيبي وقد مر بيان هذين القسمين في الفص الشعبي ( وكل هذا سائغ في الحقائق ) ولما فرغ عن أحوال الآخرة رجع إلى ما صدده وهو قوله والإنسان بالموت يرجع إليه فقال : ( ولو أن الميت أو المقتول أيّ ميت كان ) شقيا أو سعيدا ( أو أيّ مقتول كان ) ظلما أو حقا ( إذا مات أو قتل ) .


قوله ( لا يرجع إلى اللّه ) خبر أن ( لم يقض اللّه بموت أحد ولا شرع قتله ) جواب لو أي ولو قضى بلا رجوع لوقع موت العبد بلا حكمة مع أن وجوده راجع ومراعى عند اللّه وذلك محال على اللّه ( فالكل ) سواء كان ميتا أو مقتولا ( في قبضته فلا فقدان ) للعبد ( في حقه )
أي في حق الحق ( فشرّع القتل وحكم بالموت لعلمه بأن عبده لا يفوته فهو راجع إليه ) بالموت ( على أن قوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي ) يقع ( فيه ) أي في الأمر ( يقع التصرف وهو ) أي الحق ( المتصرف ) .
فلا يخلو العبد أن يكون متصرفا فيه الحق أبدا والعدم المحض لا يقبل التصرف فلا يكون العبد بالموت عدما مطلقا فحذف اسم إن للعلم به أي على أن قوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ دلالة على هذا المعنى
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما خرج عنه ) أي ما ظهر عن الحق ( شيء لم يكن ) ذلك الشيء ( عينه ) أي عين الحق في بعض صفاته لا في كلها كما قال الشيخ الأكبر في مواضع وكل وصف وصف اللّه به نفسه كنا نتصف به إلا الوجوب الذاتي .
فإنه لاحظ للإنسان فيه وكل وصف نتصف به اتصف الحق به إلا الإمكان الذاتي ولوازمه فإن ذلك يستحيل على اللّه ثم كلامه .


قال الشيخ رضي الله عنه :( بل هويته ) أي هوبة الحق هو راجع إلى الهوية باعتبار إضافتها إلى الحق لذلك ذكر ( عين ذلك الشيء ) من وجه وهو كونه مخلوقا على صفة الحق لا غير .
فإنه قال قدس سره من قبل فإن الإنسان كثيرا ما هو أحدي العين والحق أحدي العين فدل ذلك الكلام على امتناع اتحاد العينين ( وهو ) أي ما ذكرناه ( الذي يعطيه الكشف في قوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) إشارة إلى أن أخذ هذا المعنى من هذا القول لا يكون إلا بالكشف لخفائه من إدراك العقول فظهر منه أن للقرآن والأحاديث معان لا تظهر دلالتهما عليها إلا بالكشف الإلهي .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين يناير 27, 2020 4:16 pm

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الأيوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية
لما كان سريان الحياة في الماء أظهر وكأن مسر الشيء غيبة وكان طهارة جسم أيوب عليه السلام عن الأمراض بالماء سمى هذه الحكمة غيبية وأضافها إلى كلمته
لذلك ابتداء بقوله : ( اعلم أن سر الحياة سرى في الماء فهو ) أي الماء ( أصل العناصر والأركان ) وهي النار والتراب والهواء والحياة صفة من صفات اللّه تعالى حقيقة واحدة كلية شاملة على جميع الموجودات ، لكن يظهر في بعضها في العموم والخصوص وفي بعضها لا يظهر إلا في حق الخصوص وسرها هو الهوية الإلهية الظاهرة بالصورة الحيوانية فأول ما ظهرت به الهوية الإلهية الحياة لذلك تقدمت على باقي الصفات تقدما ذاتيا وأول ما ظهرت به الحياة من الممكنات الماء لذلك كان أول كل شيء وأصله.
 
قال رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي ولأجل سريان سر الحياة في الماء ( جعل اللّه من الماء كل شيء حيا ) كالحيوانات فإنها خلقت من نطفة الأمهات والآباء وهي الماء وكالنباتات فإنها لا تنبت إلا ( وما ثمة ) أي وما في العالم عند الخواص ( شيء إلا وهو حي فإنه ما من شيء إلا وهو يسبح بحمد اللّه ولكن لا يفقه ) يجوز على البناء المجهول والمعلوم فمعناه على المجهول لا يفقه أحد ( تسبيحه ) بشيء ( إلا بكشف إلهي ولا يسبح ) بحمد اللّه ( إلا حي فكل شيء حي وكل شيء أصله الماء ) عند أهل الحقيقة بخلاف أهل الحجاب فإنه يزعم أن بعض الأشياء حي وبعضها ليس بحي وإن أصل بعضها من الماء وبعضها ليس من الماء ( ألا ترى العرش كيف كان على الماء ) لقوله تعالى :وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ[ هود : 11 ] ،
 
قال رضي الله عنه :  ( لأنه تكوّن منه فطفا ) أي ارتفع ( عليه فهو يحفظ من تحته ) أي الماء يحفظ العرش من تحته فإذا كان الماء أصلا للعرش كان أصلا لكل ما أحاط العرش فكل شيء أصله الماء قال بعض الأفاضل المراد بالماء الذي هو أصل كل شيء
النفس الرحماني الذي كان عرشه عليه ويراد بالعرش الملك فهذا وجه صحيح قد بين الشيخ في مواضع لكن لا يناسب هذا المقام
فإن أول الكلام مختص بالعناصر وهو قوله سرى في الماء فهو أصل العناصر وقوله فكل شيء حي وكل شيء أصله الماء نتيجة القياس
وما ينتج القياس الصحيح إلا عين الدعوى وهي وكل شيء من العناصر أصله الماء المتعارف
فالمراد بالعرش العرش المتعارف عند أهل الشرع ،
وأما قوله رضي اللّه عنه في الحكمة العيسوية وما فوق السماوات كالعرش والكرسي وملائكتهما طبيعيون لا عنصريون فهو ما ثبت عند أهل الحقيقة والعرش عند أهل الشرع سابع السبعة التي خلقت من دخان الماء الذي هو أصل العناصر
 ويدل على ما قلناه قوله ألا ترى العرش فإنه إنما ورده بعد إثبات المطلوب تسهيلا لفهم أهل الحجاب بما هو معلوم ومسلم عندهم
فإنهم قائلون بأن العرش المعروف عندهم كان على الماء المتعارف وأنه يحيط بالأشياء وما هذا إلا قول منهم بأن أصل كل شيء الماء ولكن لا يشعرون 
فيشعرهم بذلك بهذا الكلام ليزول حجابهم فيطلعون حقيقة الأمر في دائرتهم أو لأن المراد بإيراد هذا الكلام في أول الفص بيان خواص الماء الذي هو يزيل به مرض أيوب عليه السلام وهو الماء المتعارف والماء الذي هو النفس الرحماني خارج عن المقصود في اختصاص إزالة ألم أيوب عليه السلام بالماء .


فما أزال الماء مرض أيوب عليه السلام إلا لحكمة مختصة وهي سريان الحياة في الماء المتعارف بالذات وفي غيره بواسطة الماء ، فإن قيل كيف يصح قوله فهو أصل العناصر والأركان
فقد ورد في الحديث النبوي أن اللّه خلق درة بيضاء فنظر إليها بنظر الجلال والهيبة فذابت حياء فصار نصفها ماء ونصفها نارا فحصل منها دخان فخلق السماوات من دخانها والأرض من زبدها ومقتضى هذا الحديث أن الماء ليس بأصل للنار قلنا المراد بالنار المتعارف وهو النار التي تستخرج من الحديد والحجر بضرب أحدهما على الآخر فالأرض زبد الماء والحجر والحديد من جنس الأرض فالماء أصل النار
 
وعلى الحقيقة أن الصورة المذابية وإن تضمنت الحرارة النارية والبرودة المائية غالبة في هذا المزاج المذابي حتى لو عين له الاسم لاستحق باسم الماء دون غيره فعلى كلا التقديرين كان الماء أصلا للنار ، لكن هذا المعنى غير مناسب بالمقام كما قلنا في نفس الرحماني وإنما قلنا المائية لكن المائية غالبة في هذه الطبيعة لامتناع الاعتدال الحقيقي الذي يوجب البقاء وذا لا يكون إلا في الوجود الأخروي فالاعتدال لا يكون إلا فيه
 
 قال رضي الله عنه :  ( كما أن الإنسان خلقه اللّه عبدا فتكبر على ربه وعلا عليه ) هذا إشارة إلى من ادّعى الربوبية ( فهو سبحانه مع هذا ) أي مع تكبر عبده عليه لا يتكبر عليه ولا يهلكه مع أنه قادر بذلك ( يحفظه من تحته ) بلطفه وكرمه ( بالنظر إلى علو هذا العبد ) من حيث أنه مخلوق على صورته ( الجاهل بنفسه ) ولو عرف نفسه لعرف ربه ولو عرف ربه ما تكبر وما علا ( وهو ) أي المذكور معنى ( قوله عليه السلام : « لو دليتم بحبل لهبط على اللّه » فأشار إلى أن نسبة التحت إليه كما أن نسبة الفوق إليه ).
 
" ورد بلفظ « لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السفلى السابعة لهبط على اللّه » " .
وفي بعض النسخ كما نسبة الفوق إليه وفي بعض النسخ كما نسبة الفوق إليه فما زائدة للتأكيد أي كنسبة الفوق إليه ( في قوله :"يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ" وهو القاهر فوق عباده فله الفوق ) أي فثبت أن به الفوقية بهذه الآية بإضافة الفوق إلى الإنسان ( والتحت ) بهذا الحديث فلا يظهر أن له الفوق والتحت إلا بالإنسان لاستواء نسبة الفوق والتحت إليه لكونه محيطا بالأشياء من جميع الجهات ( ولهذا ) أي ولأجل استواء نسبة الفوق والتحت إليه ( ما ظهرت الجهات الست ) أي إلى الحق بشيء ( إلا بإنسان فهو على صورة الرحمن ) فإن الجهات الست وجميع الصفات المتقابلة سره ولا يظهر سره إليه إلا بمن هو على صورته كما مر تحقيقه في أول الفص الآدمي ، فظهر أن الفوق والتحت للَّه لا للإنسان وما عرف العبد الجاهل ذلك فتفوق على ربه وعلا وكلام بعض الأفاضل في توجيه هذا الكلام مما لا ينبغي لهذا الكلام
 
( ولا يطعم إلا اللّه وقد قال) الشيخ رضي الله عنه :
( اللّه في حق طائفة ) أي في حق قوم عيسى عليه السلام ( ولو أنهم أقاموا التورية والإنجيل ) أي ولو عملوا بما فيهما من الأحكام ( ثم نكر وعمم ) المعطوف ( فقال و ) أقاموا ( ما أنزل إليهم ) من الأحكام ( من ربهم فدخل في قولهوَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْكل حكم منزل ) من ربهم ( على لسان رسول اللّه ) ولم يوجد ذلك الحكم نسخا أو إثباتا في التورية والإنجيل وإلا لكان من التورية والإنجيل كسائر الأحكام الموجودة فيهما ويدل عليه قوله ( أو ملهم ) من ربهم على قلوبهم مما لا يعلم بالتوراة والإنجيل وما أنزل على لسان رسول من الأحكام وإلا لكان ذلك الحكم داخلا فيها والمقصود تعميم الحكم بها لا يدخل فيها ( لأكلوا ) من المعارف الإلهية وهي الأرزاق الروحانية
 ( من ) جهة ( فوقهم ) المعنوي كما أكلوا الرزق الصوري من فوقهم الصوري بسبب المطر فعلى أيّ حال ( وهو المطعم من الفوقية التي نسبت إليه و ) لأكلوا الرزق المعنوي ( من تحت أرجلهم ) بالسلوك والرياضات والمجاهدات كما أكلوا الرزق الصوري من أنواع الفواكه من الأرض التي تحت أرجلهم ( وهو المطعم من التحية التي نسبها إلى نفسه على لسان رسوله المترجم عنه ) بقوله : "لو دليتم بحبل لهبط على اللّه " .
ولما فرغ عن بيان حفظ وجود الحق عباده من فوقهم وتحتهم رجع إلى إثبات حفظ الماء وجود العرش من تحته
 
فقال رضي الله عنه  : ( ولو لم يكن العرش على الماء ما انحفظ وجوده فإنه بالحياة ينحفظ وجود الحي ألا ترى الحي إذا مات الموت العرفي ينحل أجزاء نظامه وتنعدم قواه عن ذلك النظم الخاص ) وكل شيء حي وكل حي ينحفظ وجوده بالحياة ومن الماء كل شيء حي فإذا لم يكن العرش على الماء لم ينحفظ وجوده من تحته فلم يكن حيا بل ينحل أجزاءه عن الظلم الخاص وتبدلت أخرى فاختص حفظ الإنسان بالنص الإلهي بالحق وحفظ العرش بالماء ، مع أنه هو حافظ أيضا تعظيما لشأن الإنسان فعظمه اللّه حق تعظيم فلو علم الإنسان قدره عند اللّه لم يخالف قط .
 
ولما فرغ عن بيان خواص الماء وما يتوقف عليه من معرفة حال أيوب شرع في بيان حال أيوب عليه السلام قال : ( قال اللّه تعالى لأيوب :ارْكُضْ) أي اضرب بِرِجْلِكَ الأرض فلما ركض خرج منها الماء فقال : (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ[ ص : 42 ] أي ماء بارد ) ، يزيل باغتساله مرضك من بدنك وإنما كان الماء باردا ( لما كان عليه من إفراط حرارة الألم فسكنه اللّه ) إفراطها (ببرد الماء ) من التسكين الضمير يرجع إلى الإفراط فسكن اللّه إفراطها الزائد المهلك فبقي الحرارة النافعة للإنسان والإشارة فيه .
 
وهي أن اللّه تعالى أمر نبيه بضرب الرجل على الأرض ليخرج منها الماء لإزالته ألم البدن فهو أمر لنا بالسلوك والمجاهدة ليخرج الماء الحياة وهو العلم باللّه والأرض وجودنا لإزالة أمراض أرواحنا وهي الحجبات المبعدة عن الحق وفي هذه الآية سر لطيف .
وهو أن السالكين سلوك التقوى بالمجاهدة والرياضات إذا اجتمعوا في منزل وذكروا اللّه كثيرا بأعلى صوت وضربوا أرجلهم على الأرض مع الحركة أيّ حركة كانت
وكانت نيتهم بذلك لإزالة ألم الروحاني جاز منهم ذلك إذ ضرب الرجل الصوري على الأرض الصورية مع الذكر الصوري بنية خالصة يوصل إلى الحقيقة إذ ما من حكم شرعي إلا وله حقيقة يوصل عامل إلى حقيقته ( ولهذا ) أي لكون الإزالة إفراط الحرارة مطلقا ( كان الطب النقص من الزائد والزيادة في الناقص فالمقصود ) من نقص الزائد وازدياد الناقص ( طلب الاعتدال ولا سبيل إليه إلا أنه يقاربه ) فكان المزاج المنحرف قريبا من الاعتدال بالتداوي
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما قلنا ولا سبيل إليه أعني الاعتدال من أجل أن الحقائق والشهود يعطي التكوين مع الأنفاس على الدوام ولا يكون التكوين إلا عن ميل يسمى ) ذلك الميل ( في الطبيعة انحرافا ) كالإنسان وغيره من الحيوانات ( أو تعفينا ) كما في المأكولات والمشروبات كالفاكهة واللبن أو عصيرا وغيرها إذا تغيرت أمزجتهم ( وفي حق الحق ) يسمى ذلك الميل ( إرادة وهو ) راجع إلى الإرادة باعتبار الميل ( إلى المراد الخاص دون غيره والاعتدال يؤذن بالسواء في الجميع وهذا ) السواء ( ليس بواقع ) لإعطاء الحقائق والشهود خلاف ( فلهذا ) أي فلأجل عدم وقوع التسوية في الجمع أو فلأجل هذا المذكور ( منعنا من حكمة الاعتدال ) بقولنا ولا سبيل إليه إلا أنه يقاربه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد ورد في العلم الإلهي النبوي اتصاف الحق بالرضى وبالغضب وبالصفات المتقابلة والرضى مزيل للغضب ) عن المغضوب عليه ( والغضب مزيل للرضي عن المرضى عنه ، والاعتدال أن يتساوى الرضى والغضب ) وهذا ليس بواقع كما أمر آنفا فإذا ثبت أن حقيقة الرضى إزالة الغضب عن المغضوب عليه وحقيقة الغضب إزالة الرضى عن المرضى عنه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما غضب الغاضب على من غضب عليه وهو عنه راض فقد اتصف ) الحق ( بأحد الحكمين في حقه ) أي في حق المغضوب عليه ( وهو ) أي الاتصاف بأحد الحكمين في حق المغضوب عليه وهي الرضى والغضب ( ميل ) من الاتصاف بالرضى إلى الاتصاف بالغضب فكان الغضب قبل اتصافه بالغضب متصفا بالرضى في حقه إذ الغضب إزالة وجود الرضى
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما رضي الحق عن من رضي عنه وهو ) أي الحق ( غاضب عليه فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه وهو ) أي الاتصاف بأحد الحكمين في حق المرضى عنه وهو الرضى ( ميل ) من الاتصاف بالغضب إلى الاتصاف بالرضى والمقصود أن اللّه لا يخلو عن الاتصاف في حق عباده بأحد هذين الحكمين المتقابلين فلا بد اتصافهما بأحدهما في حق شخص قبل أن يسبق اتصافه بالآخر في حق ذلك الشخص لعدم الاعتدال فانقطع التسلسل
 
بقوله سبقت رحمتي على غضبي ألا ترى أيوب عليه السلام كيف اتصف الحق بأحد الحكمين في حقه فاتصف الحق بالغضب عند المرض إذ الغضب عين الألم فأزال ذلك الألم بالماء فاتصف في حقه بالرضى إذ زوال الألم عين الرضى فقد اتصف الحق في حق الأنبياء عليهم السلام بأحد الحكمين فإنهم يتألمون بآية الورود وإن لم تمسهم النار
 
فقد اتصف الحق في حقهم بالرضى وبإدخال الجنة فزال عنهم ذلك الألم فقد ظهر من هذا التحقيق إن أهل النار ما غضب اللّه عليهم إلا وهو عنهم راض فكان حكم الرضى ثابتا في حقهم فلا يدوم غضب اللّه عليهم في النار فلهم حكم الرضى من اللّه الذي سبق على الغضب وإنما يدوم عذابهم إذا لم يتصف الحق في حقهم بأحد الحكمين بأن يتساوى الرضاء والغضب وليس بواقع فالواقع اتصاف الحق بأحد الحكمين في حقهم فالواقع في حقهم حكم الرضاء من اللّه بإزالة الغضب وهذا معنى قوله
 
قال الشيخ رضي الله عنه :   ( وإنما قلنا هذا ) المذكور ( من أجل من يرى أن أهل النار لا يزال غضب اللّه عليهم دائما أبدا في زعمه ) فإذا كان غضب اللّه عليهم دائما في زعمه ( فما لهم حكم الرضى من اللّه ) في زعمه فإذا قلت هذا من أجل ذلك قلنا ( فصح المقصود ) وهو أن لهم حكم الرضا من اللّه فلا يصح قول من زعم أنه ما لهم حكم الرضى من اللّه فكان الأمر كما قلناه لا كما قاله فكان هذا القول منه ردا لمن زعم أن أهل النار لا يزال غضب اللّه عليهم دائما
 
قال رضي الله عنه :  ( فإن كان كما قلنا حال أهل النار إلى إزالة الآلام وإن سكنوا النار فذلك رضى فزال الغضب لزوال الآلام إذ عين الألم عين الغضب إن فهمت ) تصريح منه بأن الوجوه المذكورة في إثبات حكم الرضى والرحمة تدل على جواز وقوع ذلك الحكم لهم فلا يقع أن يكون العذاب دائما لهم فيؤدي أدلته إلى التوقف بين جواز دوام وقوع العذاب وبين جواز إزالته فمذهبه التوقف في مثل هذه المسألة كما بيناه من قبل وسنبين إن شاء اللّه تعالى في مسألة فرعون فقد أعاد الشيخ رضي اللّه عنه هذه المسألة في هذا الكتاب كثيرا في مواضع لتضمنه في كل إعادة فائدة جديدة للطالبين لذلك شرحت في كل مرة وإن كان البيان كافيا في موضع .
 
فلما بين غضب اللّه وهو إيصال الألم إلى عباده أراد أن يبين غضب الناس فقال ( فمن غضب ) من الناس على غيره ( فقد تأذى ) بذلك الغضب ( فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلام إلا ليجد الغاضب الراحة بذلك ) الإيلام فإذا وجد الراحة بإيلام المغضوب عليه ( فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه الحق إذا أفردته ) أي إذا نظرته من حيث غنائه ( عن العالم يتعالى علوا كبيرا عن هذه الصفة على هذا الحد فإذا كان الحق هوية العالم )
 
 أي إذا نظرته من حيث أسمائه وصفاته كان مرآة للعالم ( فما ظهرت الأحكام كلها إلا فيه ومنه ) مع أنه متعال منزه بالانفعال والتأثير بالأحكام كظهور أحكام الرائي في المرآة فإن صورة المتألم في المرآة لا تتألم به الرائي أو نقول إذ كان الحق هوية العالم ففي حق كل فرد من العالم هوية من الحق مختصة به يظهر جميع أحكامه في الهوية المختصة به وهو الحق الخلق وهو العبد فالمتألم هو الحق الخلق لا الحق الخالق فلا يستريح الخالق باستراحة المخلوق ،
 
ولا يتألم بتألمه فهوية العالم هو الحق المخلوق لا الحق الخالق فالإنسان من حيث تحققه بالصفات الإلهية من الحياة والقدرة والإرادة وغير ذلك يقال له حق ومن حيث إمكانه وتحققه بالصفات اللائقة بشأنه حق ومن حيث وجوبه الذاتي خالق وموجد جرى اصطلاحهم على ذلك
 
( وهو ) أي ظهور الأحكام كلها في معنى قوله لاحتياجه إليه ( قوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) في الظهور فيه كما إن الصورة في المرآة ترجع في الظهور إلى صاحبها ( حقيقة وكشفا ) أي يعلم هذا المعنى من هذا القول بالحقيقة والكشف فكل شيء يرجع إليه لاحتياجه إليه من كل الوجوه لا يرجع هو إلى شيء أصلا وهو المرجع والمآب فإذا كان الأمر في نفسه على ما قلناه فأنت عبد ضعيف ( فاعبده ) بما أمرك ( وتوكل عليه حجابا ) أي حياء من ربك ( وسترا ) أي وكن مستور الحال بين الناس بحفظ آداب الشريعة والطريقة 


( فليس في ) عالم ( الإمكان ) وهو عالم الأول والآخر والظاهر والباطن ( أبدع من هذا العالم ) وهو العالم الظاهر الجامع جميع ما في العوالم ( لأنه على صورة الرحمن ) يتعلق بقوله ( أوجده اللّه تعالى ) أي وإنما كان هذا العالم أبدع من غيره من العوالم لأن اللّه أوجده على صورة الرحمن قوله ( أي ظهر وجوده تعالى بظهور العالم ) تفسير لقوله على صورة الرحمن أوجده اللّه أي وإنما كان أبدع لأنه ظهر وجود الحق بظهور العالم لا ببطونه وفيه دليل على أن علم الشريعة لكون ظهور وجود الحق بظهوره ظهورا تاما أبدع من العلم المسمى بالباطن فكان أبدع العلوم كلها ( كما ظهر ) حقيقة ( الإنسان ) وهي الروح الانساني ( بوجود الصورة الطبيعية ) وهي هذا الهيكل المحسوس
 
قوله رضي الله عنه  : ( فنحن ) يجوز أن يكون عبارة عن الإنسان خاصة أي فإذا كان الأمر كذلك فنحن مع أرواحنا وأبداننا .
( صورة الظاهرة ) أي الصورة الفائضة لأرواحنا منه ( وهويته تعالى روح هذه الصورة المدبرة لها ) لظهور وجود الحق بوجودنا لكوننا على صورة الرحمن كما ظهر الحق بوجود هذا العالم لكونه على صورة الرحمن فالعالم من حيث كونه عبارة عن الهيئة الاجتماعية كان على صورة الرحمن أي يظهر الحق فيه مع جميع صفاته وأسمائه وأفعاله وليس كذلك أجزاؤه إلا الإنسان فإنه وإن كان جزءا منه لكنه لكونه جامعا لما فيه كان على صورة الرحمن ويجوز أن يكون كناية عن العالم كله فنحن أي العالم من حيث صورته الجمعية .
 
قال رضي الله عنه :  ( فما كان التدبير ) أي تدبير الحق العالم كله ( إلا فيه ) أي في الحق ( كما لم يكن ) التدبير ( إلا منه ) فكان الحق مدبرا فيه ومدبرا منه أي يقع التدبير منه وفيه بالاعتبارين هذا لسان الوحدة ( فهو الأول بالمعنى ) أي يظهر أوليته بسبب المعنى ( والآخر بالصورة ) أي يظهر آخريته بسبب ظهور الصورة ( وهو الظاهر بتغيير الأحكام والأحوال ) إذ لا بد من متغير فيظهر الحق بسبب تغير الأحوال .
 
( والباطن بالتدبير ) أي بتدبير خلقه وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فإذا كان بكل شيء عليم ( فهو على كل شيء شهيد ) وإنما قال اللّه في حقه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد ٌ( ليعلم ) أن علمه بكل شيء ( عن شهود لا عن فكر ) ويجوز ليعلم أن يكون مبينا للفاعل من الأعلام ليعلم الحق خلقه أو من العلم ، أي ليعلم الخلق وأن يكون مبنيا للمفعول ( فكذلك علم الأذواق ) عن شهود ( لا عن فكر وهو ) أي علم الأذواق ( العلم الصحيح ) لأنه حاصل بتجلي الحق لعباده بعلمه فلا يقع في هذا العلم خطأ ( وما عداه ) من العلم
( فحدس وتخمين ليس بعلم أصلا ) ثم رجع إلى بيان حكمة مسألة أيوب عليه السلام .
 
فقال رضي الله عنه   : ( ثم كان لأيوب عليه السلام ذلك الماء ) أي الماء الذي سرى الحياة فيه فكان ذلك الماء ماء الحياة ( شرابا لإزالة ألم العطش ) وهو نار الاشتياق ( الذي هو ) حاصل له ( من النصب ) أي الضرّ بفتحتي النون والصاد وضمتيهما وضمة وسكون ( والعذاب الذي مسه به ) أي بذلك العذاب ( الشيطان أي البعد عن الحقائق أن يدركها على ما هي عليها ) فلما اغتسل أيوب زال حرارة بدنه التي كانت من مس الشيطان بضرّ فإذا شرب زال حرارة العطش من روحه التي حصلت من مس الشيطان أي البعد عن إدراك الحقائق وهو الحجاب الذي يقع على عين القلب فيبعده عن الإدراك فأشار عليه السلام في كلامه إلى ألمه الروحاني فإذا شرب أدرك الحقائق وإنما فسر الشيطان بالبعد عن إدراك الحقائق مع أن الشيطان بعيد عن إدراك الحقائق ليس يبعد لكون البعد من صفة الشيطان فكان المعنى أني مسني شطن الشيطان ، فتركت الإضافة إلى الشيطان مبالغة ،
قال رضي الله عنه :  ( فيكون ) أيوب عليه السلام ( بإدراكها في محل القرب وكل مشهود قريب من العين ولو كان ) ذلك المشهود ( بعيدا بالمسافة ) من البدن ( فإن البصر ) بسبب خروج الشعاع منه ( يتصل به ) أي بالمشهود ( من حيث شهود ولولا ذلك ) الاتصال ( لم يشهده ) أي لم يشهد الشاهد المشهود ( أو يتصل المشهود بالبصر ) بحسب انطباعه به ( كيف كان )


قلت ( فهو ) أي الشهود ( قريب بين البصر والمبصر ولهذا ) أي ولأجل كون الشهود قريبا بين البصر والمبصر ( كنى ) أي أتى ( أيوب عليه السلام ) كلامه ( في المس ) بالكناية ( فأضافه إلى الشيطان ) بقوله أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ وهو البعد ( مع قرب المس فقال البعيد مني ) وهو الشيطان ( قريب مني لحكمة فيّ ) وهذه الحكمة هو الحجاب الذي يمس عين قلبه فالشيطان يقرب منه بسبب هذا المعنى فطلب من اللّه إزالة الحجاب عنه خوفا عن تصرف الشيطان فيه ،
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد علمت أن القرب والبعد أمران إضافيان فهما نسبتان لا وجود لهما في العين مع ثبوت أحكامهما في البعيد والقريب ) فكان البعيد من الشيء لمعنى قريبا منه لمعنى آخر كما ذكر في المشهود فإنه قريب من الشاهد من مشهوده بعيد من حيث المسافة .
( واعلم أن سر اللّه في أيوب عليه السلام الذي جعله عبرة لنا وكتابا مسطورا حاليا ) أي لا يعرف معنى ذلك الكتاب إلا أهل الحال ومنسوبا إلى حال أيوب عليه السلام ( تقرؤه هذه الأمة المحمدية لتعلم ما فيه )  من الأعلام على البناء للفاعل أو من العلم على البناء للمفعول أو على صيغة الغيبة ،
 
وكذا قوله رضي الله عنه   ( فتلحق بصاحبه ) أي فتصل هذه الأمة في الدرجة بمقام صاحب ذلك الكتاب وهو أيوب عليه السلام في الرضاء بالقضايا والصبر على البلايا فمن صبر منا على الأعمال الشاقة في طريق الحق فقد أعطى اللّه له ما أعطى أيوب عليه السلام وإنما جعله اللّه هكذا ( تشريفا لها ) أي لهذه الأمة وأيّ تشريف وتكريم أعظم من هذا الذي ابتلي نبيه لنا ( فأثنى اللّه عليه ) أي فإذا كان البصر أجمل الوصف الجميل وأكرمه عند اللّه أثنى عليه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أعني على أيوب عليه السلام بالصبر مع دعائه في رفع الضرّ عنه فعلمنا ) من معاملة الحق مع أيوب عليه السلام ( أن العبد إذا دعا اللّه في كشف الضرّ عنه ) أي عن نفس العبد ( لا يقدح في صبره ) وإلا لما أثنى على أيوب عليه السلام ( وإنه ) أي والحال أن أيوب عليه السلام ( صابر وأنه نعم العبد ) ولو كان دعاؤه في كشف الضرّ عنه يقدح في صبره لما جعله متصفا بهذه الصفة الحسنة ( كما قال ) تعالى في حقه (إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجاع إلى اللّه ) في كشف الضرّ ( لا إلى الأسباب ) فلا ينافي صبره إذ الرجوع إلى اللّه في كل أمر أحسن الصفة الحسنة فلا ينافي الصبر بل إنما ينافيه الرجوع إلى الأسباب في رفع الضرّ ( والحق يفعل ) ما دعاه العبد ( عند ذلك ) أي عند دعائه ( بالسبب ) وإنما أعطى الحق ما طلبه العبد منه بالسبب مع أن اللّه قادر أن يفعله بدون سبب ( لأن العبد ) وإن كان رجّاعا إلى اللّه لكنه ( يستند إليه ) ،
أي السبب ولما اتجه أن يقال لم لا يجوز رجوع العبد إلى الأسباب مع أن الرجوع إلى الأسباب رجوع إلى اللّه بحسب العين على أن الإزالة لا يكون إلا بالأسباب فلا يذمّ العبد في رجوعه إلى ما يزيل به ضرّه فلا ينافي ذلك الرجوع أيضا صبره أجاب ذلك بقوله له ( إذ الأسباب المزيلة لأمر ما ) من الأمور المضارّة ( كثيرة ) والعبد لا يعلم يقينا أن الحق بأيّ سبب كشف ضرّه ( والمسبب واحد العين فرجوع العبد إلى الواحد العين المزيل بالسبب ذلك الألم أولى ) أي أوجب ( من الرجوع إلى سبب خاص ربما لا يوافق ) ذلك الرجوع ( علم اللّه فيه فيقول ) العبد ( إن اللّه لم يستجب لي ) دعائي ( وهو ما دعاه ) ،
أي والحال أن العبد لم يدعو فافترى على اللّه وعلى نفسه وهو لا يشعر بذلك وأساء الأدب ( وإنما جنح ) أي مال العبد في وقت دعائه ( إلى سبب خاص لم يقتضه ) أي السبب ( الزمان ولا الوقت فعمل أيوب عليه السلام بحكمة اللّه إذ كان نبيا لما علم ) أيوب عليه السلام ( إن الصبر الذي هو حبس النفس عن الشكوى ) مطلقا ( عند الطائفة ) الذين لم يروا الأمر على ما كان عليه ( وليس ذلك ) أي ما ذهب الطائفة ( بحد للصبر عندنا ) أي عند الأنبياء والأولياء الكاملين ( وإنما كان ) هذا عندنا
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حبس النفس عن الشكوى لغير اللّه لا إلى اللّه فحجب الطائفة نظرهم في أن الشاكي يقدح بالشكوى في الرضاء بالقضاء ) كما يقدح في الصبر بالبلاء ( وليس كذلك فإن الرضا بالقضاء لا يقدح فيه الشكوى إلى اللّه ولا غيره وإنما يقدح ) الشكوى ( في الرضاء بالمقتضيّ ونحوه ما خوطبنا بالرضا بالمقتضيّ والضرّ هو المقضيّ ما هو عين القضاء ) إذ المقضيّ هو المحكوم به والقضاء حكم اللّه فظهر أن الصبر أخص مطلقا من الرضاء
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعلم أيوب عليه السلام أن في حبس النفس عن الشكوى إلى اللّه في رفع الضرّ مقاومة القهر الإلهي وهو ) أي مقاومة القهر الإلهي ذكر الضمير باعتبار حبس النفس أو باعتبار ما بعده ( جهل بالشخص إذا ابتلاه اللّه بما تألم منه نفسه فلا يدعو اللّه في إزالة ذلك الأمر المؤلم بل ينبغي له عند المحقق أن يتضرع ويسأل إلى اللّه في إزالة ذلك الألم عنه ) أي عن نفسه
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن ذلك إزالة عن جناب اللّه عند العارف صاحب الكشف فإن اللّه قد وصف نفسه ) على البناء للفاعل ( بأنه يؤذي ) على المبني للمفعول ( فقال إن الذين يؤذون اللّه ورسوله ) فإن الرسول وجه خاص من الوجوه الإلهية فمن يؤذيه فقد أذى اللّه واللّه منزه عن التألم لكن لما كان الأذى غاية كراهة عنده وصف نفسه بما يتأذى به عبده ( وأيّ أذى أعظم من أن يبتليك ببلاء عند غفلتك عنه أو ) عند غفلتك ( عن مقام إلهي لا تعلمه ) أي لا تعلم أنت أن ابتلاء أعظم أذى للحق فإنه يتأذى بما تتأذى به أي لا يرضى الحق أن يتأذى عباده فكانت غفلتك سببا لابتلاءك باشتغالك بغير اللّه والغفلة في الحقيقة إعراض عن الحق ( لترجع إليه بالشكوى فيرفعه ) أي فيرفع اللّه ذلك الابتلاء ( عنك ) فالبلاء عناية ورحمة من اللّه على عباده المحبين والإشارة في هذه المسألة يقول اللّه لعباده المحبين السالكين في طريق الحق بالرياضات والمجاهدات إذا ابتلاهم اللّه عند غفلتهم يا عبادي إن رضيتم ببلائي فقد رضيت بغفلتكم عني وإن شكيتم إليّ من ضرّي فقد شكيت إليكم من غفلتكم فهذا الكراهة غفلة العبد عبد اللّه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيصح الافتقار الذي هو حقيقتك ) أي لازم لحقيقتك وبه تميز العبد عن ربه كأنه عين حقيقة العبد لذلك قال هو حقيقتك ( فيرتفع الأذى عن الحق بسؤالك إياه في رفعه عنك إذ أنت صورته الظاهرة ) أي أنت مظهر من مظاهرة فإذا رفع الأذى عنك فقد ارتفع عن الحق الذي هو حقيقتك ونصيبك عن الحق الواجب الوجود الخالق والحق من هذه الحيثية لا يوصف بأنه يؤذي فقد عرفت أن الإنسان من حيث تحققه بالصفات الإلهية يوصف بأنه حق في الحقيقة كان معناه فترفع الأذى عن جهة حقيتك بسؤالك إياه في رفعه عن جهة حقيتك واللّه تعالى منزه عن الأذى إذا أفردته عن العالم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما جاع بعض العارفين فبكى فقال له في ذلك ) البكاء ( من لا ذوق له في هذا الفن ) أي في العلوم الإلهية ( معاتبا له فقال العارف ) المبتلى مجيبا له ( إنما جوّعني لأبكي يقول ) العارف ( إنما ابتلائي بالضرّ لأسأله في رفعه عني وذلك ) السؤال ( لا يقدح كوني صابرا فعلمنا ) من قول هذا العارف ( أن الصبر إنما هو حبس النفس عن الشكوى لغير اللّه وأعني بالغير وجها خاصا من وجوه اللّه ) متعينا بتعينات متعددة وهو الوجه المفصل والمقيد ( وقد عين الحق وجها خاصا من وجوه اللّه وهو المسمى وجه الهوية فيدعوه ) أي فيدعو العبد المبتلى من الحق ( من ذلك الوجه في رفع الضرّ لا ) يدعو ( من الوجوه الأخر المسماة أسبابا وليست ) أي والحال إن الوجوه الأخر والأسباب ليست ( إلا هو ) أي الأعين ذلك الوجه الخاص المدعوّ في رفع الضرّ .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( من حيث تفصيل الأمر في نفسه فالعارف لا يحجب سؤاله هوية الحق في رفع الضرّ عنه عن أن يكون جميع الأسباب عينه من حيثية خاصة ) فإذا سأل غير العارف زيدا في رفع ضرّه عنه فقد سأل عن الحق المتعين بذلك الوجه الخاص من وجوه اللّه فسؤاله إنما يكون هوية الحق لكن سؤاله يحجبه عن أن يكون جميع الأسباب عينه من حيثية خاصة بخلاف العارف وإن كان سؤاله عما سأله غير العارف لكن لا يحجبه سؤاله عن أن يكون جميع الأسباب عينه فسؤال العارف حين سأل وجه الهوية الخاصة سؤال عن وجه الهوية المطلقة التي تجمع جميع الوجوه وهو الاسم اللّه ولا كذلك غير العارف لاحتجابه عن العينية كان سؤاله عن الغير لا عن اللّه .
 
قال رضي الله عنه :  ( وهذا ) أي ما ذكرناه ( لا يلزم طريقته ) أي لا يلازم ولا يداوم عن السؤال الذي على هذه الطريقة ( إلا الأدباء من عباد اللّه الأمناء على أسرار اللّه فإن اللّه أمناء لا يعرفهم إلا اللّه ويعرف بعضهم بعضا وقد نصحناك فاعمل وإياه سبحانه فاسأل ) فكن من عباد اللّه الأمناء .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 19, 2020 11:57 pm

20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زادة الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليحيوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية
اعلم أن وجه اختصاص كل حكمة في كلمة مخصوصة هو التفاوت في الظهور والتنصيص لا غير فلما كان أثر جلال اللّه تعالى غالبا على يحيى عليه السلام وكان النص واردا في حقه على ذلك اختصت هذه الحكمة بكلمة يحيى عليه السلام ولما كانت الجلال المطلق أولية في الصفات أي في الجمال المطلق إذ الجلال الخفاء وهو يلي الذات والجمال الظهور وهو بعد الخفاء لا بعدية زمانية 
وإلى هذا المعنى أشار بقوله : ( كنت كنزا مخفيا ) وكانت ليحيى عليه السلام أولية في الأسماء صح لحكمة يحيى الأسماء الجلالية والأولية لذلك صرح بالجلالية بقوله حكمة جلالية وبقوله ( هذه ) أي الحكمة الجلالية ( حكمة الأولية في الأسماء فإن اللّه سماه ) أي هذا الشخص ( بيحيى ) فسره بقوله : ( أي يحيى به ذكر زكريا ) أعلاما لاعتبار الصفة في هذا الاسم في يحيى عليه السلام ( ولم يجعل له من قبل سميا ) أي لم يسم اللّه بهذا الاسم أحدا قبل يحيى عليه السلام 


( فجمع ) اللّه ( بين حصول الصفة التي ) حاصلة ( فيمن عبر ) أي مضى ( ممن ترك ولدا يحيى به ذكره وبين اسمه بذلك ) أي بيحيى ( فسماه ) أي الولد ( فكان اسمه يحيى ) كعينه ( كالعلم الذوقي ) الذي يحيي به قلوب الموتى بالجهل وإنما قلنا ممن ترك ولدا يحيي به ذكر أبيه
قال رضي الله عنه :  ( فإن آدم حي ذكره بشيث ونوحا حي ذكره بسام وكذلك الأنبياء عليهم السلام ولكن ما جمع اللّه لأحد قبل يحيى بين الاسم العلم منه وبين الصفة إلا لزكريا عليه السلام عناية منه ) وإنما كان هذا الجمع عناية من اللّه في حق زكريا عليه السلام ، ولم يفعل في غيره من الأنبياء عليهم السلام ( إذ ) أي لأنه ( قال :" فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي " [ مريم : 5 - 6 ] ، فقدم الحق على ذكر ولده كما قدمت آسية ذكر الجار على الدار في قولها عندك بيتا في الجنة فأكرمه اللّه بأن قضى حاجته وسماه ) أي ذلك الولد .
 
قال رضي الله عنه :  ( بصفته ) فاختص يحيى عليه السلام بهذا الجمع تكرمه من اللّه به لأبيه زكريا عليه السلام ( حتى يكون اسمه تذكارا لما طلب منه نبيه زكريا ) أي يكون اسم يحيى عليه السلام دليلا على ما طلبه زكريا عليه السلام من اللّه ( لأنه أثر بقاء ذكر اللّه في عقبة ) كما بقي ذكر اللّه ببقائه له .
قال رضي الله عنه :  ( والولد سرّ أبيه فقال يرثني ويرث من آل يعقوب وليس ثمة ) أي في مقام طلب زكريا عليه السلام ( موروث في حق هؤلاء ) وهم آل يعقوب عليه السلام ( إلا مقام ذكر اللّه والدعوة إليه ) فلما طلب من اللّه بقاء ذكر اللّه أبقى اللّه ذكره باسم ولده يحيى عليه السلام.
 
قال رضي الله عنه :  ( ثم إنه تعالى بشره ) أي بشر زكريا عليه السلام ( بما قدمه من سلامه عليه ) أي على يحيى عليه السلام : (يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا[ مريم : 15 ] ، فجاء بصفة الحياة وهي اسمه ) أي اسم يحيى عليه السلام وفيه دلالة على أن الاسم قد يطلق على الصفة.
قال رضي الله عنه :  ( واعلم ) اللّه ( زكريا بسلامه عليه وكلامه صدق فهو مقطوع به وإن كان قول الروح والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا أكمل في الاتحاد ) .


 أي هذا القول أكمل في الدلالة على اتحاد عيسى عليه السلام مع الحق فإذا كان قول الحق صدقا مقطوعا به ( فهذا ) أي قول الحق يحيى عليه السلام ( أكمل في الاتحاد ) أي أكمل في الدلالة على اتحاد الحق مع يحيى عليه السلام ( و ) أكمل في ( الاعتقاد ) في عدم الاحتمال على خلافه إذ شهادة الحق على سلامه العبد أقوى من شهادة العبد على سلامة نفسه .
 
قال رضي الله عنه :  ( وأرفع للتأويلات ) بخلاف قول عيسى عليه السلام فإنه يؤول بأن عيسى عليه السلام لسان الحق وبه نطق وشهد على سلامة نفسه فشهادته على نفسه شهادة الحق عليه وكلامه صدق فهو مقطوع به لأنه كلام الحق .
إذ هو شاهد على براءة أمه وبهذا التأويل يصل إلى درجة الأكملية في الاعتقاد فاحتاج قول الروح في رفع الالتباس إلى التأويل والمقصود ما نص سلامة عيسى عليه السلام مثل تنصيص سلامه يحيى وسلامة عيسى عليه السلام بالنسبة إلى سلامة يحيى عليه السلام كخلافة آدم بالنسبة إلى خلافة داود في التنصيص .


كما مر بيانه في موضعه فقوله وإن كان قول الروح الظاهر أنه يتصل إلى ما قبله من قوله فهو مقطوع أي قول الحق في سلامة يحيى مقطوع به وإن كان قول الروح في سلامة نفسه أكمل في الاتحاد لكن لا يصل إلى درجته في القطع .
فإن قول الحق زائد بزيادتين على قول الروح وهما قوله وأكمل في الاعتقاد وارفع للتأويلات وقال بعضهم إن في هذا الكلام تقديما وتأخيرا تقديره فهذا أكمل في الاتحاد والاعتقاد وارفع للتأويلات وإن كان قول الروح أكمل في الاتحاد وهو عدول عن الظاهر بلا ضرورة ونكتة وإنما كان قول الحق في سلامة يحيى أكمل في الاعتقاد من قول الروح في سلامة نفسه.
 
قال رضي الله عنه :   ( فإن الذي انخرقت فيه العادة في حق عيسى عليه السلام إنما هو النطق ) وهو تكلمه في المهد ( فقد تمكن ) من التمكين ( عقله وتكمل ) من التكميل ( في ذلك الوقت الذي أنطقه اللّه فيه ولا يلزم للمتمكن من النطق ) أي القادر إلى النطق ( على أيّ حالة كان ) المتمكن أي سواء أتى للمعجزة والشهادة على الحق أولا ( الصدق ) فاعل يلزم ( فيما به نطق ) أي في الكلام الذي تكلم به ( خلاف المشهود له كيحيى ) عليه السلام حيث شاهد الحق له بسلام عليه فإذا كان الأمر كذلك.
 
قال رضي الله عنه :  ( فسلام الحق على يحيى من هذا الوجه ) أي من وجه أنه مشاهد ( أرفع للالتباس الواقع في العناية الإلهية به ) أي بيحيى والعناية هي سلام الحق عليه إذ الشاهد لرفع الالتباس الواقع في وقوع الأمر فإذا شهد الحق بسلامه عليه علم علما يقينا أن العناية الإلهية قد سبقت عليه بخلاف سلام عيسى على نفسه ،
فإنه وإن كان أرفع للالتباس الواقع في العناية الإلهية في حق أمه لأنه أحد الشاهدين في براءة أمه فلا يدخل الاحتمال من هذا الوجه أصلا لكنه ليس كذلك في حق نفسه لدخول الاحتمال الوهمي في حق نفسه فكان كلام عيسى في حق أمه أرفع للالتباس وفي حق نفسه رافع الالتباس لذلك قال فسلام الحق على يحيى أرفع للالتباس.
قال رضي الله عنه :  ( من سلام عيسى عليه السلام على نفسه وإن كانت قرائن الأحوال تدل على قربه ) أي على قرب عيسى ( من اللّه في ذلك ) الوقت .
 
قال رضي الله عنه :  ( و ) تدل على ( صدقه ) فيما به نطق ( إذ نطق في معرض الدلالة على براءة أمه في المهد فهو أحد الشاهدين ) فلا يستوي كلامه مع كلام الحق في رفع الالتباس بوجود هذه القرائن لأنه لما كان هذا الكلام منه بإشارة أمه لم يخلص عن دخول الاحتمال وهو عدم الالتفات إلى ما نطق به مع ثبوت براءة أمه به .
 
قال رضي الله عنه :  ( والشاهد الآخر ) على براءة أمه ( هز ) المريم ( الجذع ) أي النخلة ( اليابس فسقط رطبا جنياًّ من غير فحل ولا تذكير كما ولدت مريم عيسى عليه السلام من غير فحل ولا ذكر ولا جماع عرفي معتاد ) فكان حال الشاهد حال المشهود له .
 
قال رضي الله عنه :  ( لو قال نبيّ آيتي ومعجزتي أن ينطق هذا الحائط فنطق الحائط وقال في نطفة تكذب ما أنت رسول اللّه لصحت الآية وثبت بها أنه رسول اللّه ولم يلتفت إلى ما نطق به الحائط فلما دخل هذا الاحتمال في كلام عيسى بإشارة أمه إليه وهو في المهد كان سلام اللّه على يحيى أرفع ) للالتباس ( من هذا الوجه ) أي من وجه دخول احتمال في كلام عيسى وعدم دخوله في كلام الحق فلو لم يكن هذا الكلام منه بإشارة أمه ولم يكن في معرض الدلالة على براءة أمه لم يدخل هذا الاحتمال ( فموضع ) أي متعلق ( الدلالة أنه عبد اللّه ) في قوله "إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ".
 
قال رضي الله عنه :  ( من أجل ما قيل فيه أنه ابن اللّه وفرغت أي تمت الدلالة بمجرد النطق ) وهو قولهإِنِّي عَبْدُ اللَّهِإذ قراره يثبت عبوديته وينتفي ما قيل في حقه أنه ابن اللّه ( وأنه عبد اللّه عند الطائفة الأخرى القائلة بالنبوة ، وبقي ما زاد في حكم الاحتمال في النظر العقلي حتى ظهر في المستقبل ) عند نزوله ( صدقه ) أي صدق عيسى ( في جميع ما أخبر به في المهد فتحقق ما أشرنا إليه ) من أسرار الكلامين الذين في حق عيسى ويحيى عليهما السلام .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 19, 2020 11:58 pm

21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زادة الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   

الفص الزكرياوية على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
ولما كان أظهر مالكية الحق في وجود زكريا عليه السلام إذ أخذه بالشدة لأن المليك
يختلف هذا الفص عن غيره من فصوص الكتاب في أنّه لا ذكر فيه ، إلا في العنوان ، للنبي الخاص الذي تنسب إليه الحكمة .
وقد جرت العادة عند المؤلف في الفصوص الأخرى أن يجعل محور كلامه في كل فص حول مناقشة بعض الآيات القرآنية الواردة في حق النّبي المنسوب إليه حكمة الفص ، وأن يشرح على لسان النبي الموضع الحديث أسرار الحكمة التي يريد شرحها .
 
الشديد حتى قدّ بنصفين وصبر ولم يدع اللّه رفع ذلك فكان كيوم الدين كما أضاف الحق مالكيته إلى يوم الدين لظهور كمال مالكيته فيه في قوله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فكان اللّه مالك زكريا كما كان مالك يوم الدين فزكريا بمنزلة يوم الدين في تحققه بأحواله من ظهور الرحمة والنعمة فإن اللّه تعالى يرحم بعضا ويعذب بعضا في ذلك اليوم،
 فكما يظهر مالكيته بظهور الرحمة والعذاب بذلك اليوم لذلك أضاف إليه كذلك يظهر بظهورهما في هذا اليوم في وجود زكريا عليه السلام لذلك أضاف هذه الحكمة إلى كلمته وبين الرحمة والغضب في كلمته ليعلم أن الآلام الموجودة في وجوده رحمة به من اللّه لا إعراض عنه
 
فقال رضي الله عنه : ( اعلم أن رحمة اللّه تعالى وسعت كل شيء وجودا وحكما وإن وجود الغضب من رحمة اللّه بالغضب ) فرحمة اللّه قد ظهرت بصورة نفسها فقد سترت بصورة الألم لحكمة يعلمها ( فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه ) فإن أول ما نسب إليه تعالى وجود الأعيان وهو عين الرحمة فسبقت نسبة الرحمة إليه على كل ما نسب إليه تعالى من الموجودات .
 
ولما دعي أن رحمة اللّه وسعت كل شيء أراد أن يثبته فقال ( ولما كان لكل عين وجود ) خاص بها ( تطلبه ) تطلب تلك العين ذلك الوجود الخاص بها ( من اللّه لذلك ) أي لأجل طلبها وجودها من اللّه ( عمت رحمته كل عين ) قوله لذلك يتعلق بعمت وعمت جواب لما وإنما عمت رحمته كل عين من أجل ذلك الطلب ( فإنه ) أي كل عين أو اللّه ( برحمته ) أي برحمة اللّه ( التي رحمه بها ) أي رحم الحق كل عين بتلك الرحمة ( قبل ) العين ( رغبته ) أي طلب كل عين من اللّه ( في وجود عينه ) الخارجي ( فأوجدها ) في الخارج بعد حصول قبول الطلب من اللّه
 
أو بعد قبول الحق طلبه قوله برحمته يتعلق بقوله قبل بكسر الباء ويجوز أن يكون قبل جواب لما والجملة اعتراضية أي لما طلب قبل طلبه فأوجدها أو معناه فإنه أي فإن اللّه تحقق برحمته التي رحم أي أوجد بها كل عين في علمه الأزلي قبل طلب كل عين وجوده الخارجي فالرحمة صفة أزلية للحق وذات الحق سابقة على كل عين وكذا لوازمه من صفاته :قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى[ الإسراء: 110 ].
 
فكل عين مع لوازمه رحمة من رحمة الرحمن بل الأسماء الإلهية كلها ونفس الرحمة رحمة من الاسم الرحمن فعموم الرحمة من أجل المعلومات
وما ذكره الشيخ في إثباته تنبيهات فقبل حينئذ بسكون الباء أو معناه فإنه أي فإن كل عين موجود بالوجود العلمي برحمة اللّه التي أوجد للَّه بها كل عين ويجوز أن يكون جواب لما فأوجدها ودخول الفاء لطول الكلام المعترض بينهما أي لما كان لكل عين وجود طلبه من اللّه أوحدها اللّه أي أعطى اللّه لها ما طلبها من الوجود فعلى أيّ حال والمقصود أن الطالب هو العين والمطلوب هو الوجود والطلب وقبوله تعالى كل ذلك من رحمة اللّه
وإليه أشار بقوله ( فلذلك ) أي فلأجل كون الأمر على ما حققناه من عموم رحمته تعالى
 
قال رضي الله عنه :  ( قلنا إن رحمة اللّه وسعت كل شيء وجودا ) بالنسبة إلى الأعيان الخارجية ( وحكما ) بالنسبة إلى الأعيان الثابتة في العلم إذ لا يحكم عليها ظاهرا بالوجود فكانت الأعيان الخارجية من رحمة اللّه وجودا والأعيان الثابتة من رحمة اللّه حكما أو معناه لا حكم إلا بها كما لا وجود إلا بها كما سنبينه عن قريب بقوله فلها الحكم والحكم ليس بموجود في الخارج ( والأسماء الإلهية من الأشياء ) فتدخل تحت الرحمة ( وهي ترجع إلى عين واحدة ) وهي العين الرحمانية ( فأوّل ما وسعت رحمة اللّه شيئية تلك العين الموجدة ) في الخارج ( للرحمة ) على غائية للإيجاد ( بالرحمة ) أي بسبب الرحمة وهي الحقيقة المحمدية التي هي عين الرحمة أوجدها اللّه بالرحمة رحمة للعالمين أي ليوجد العالمين من وجوده قال تعالى :وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ[ الأنبياء : 107].
 
وقال تعالى خلقتك من نوري وخلقت الأشياء من نورك فالرحمة شيء ( فأوّل شيء وسعته الرحمة نفسها ) أي نفس الرحمة ( ثم الشيئية المشار إليها ) بقوله شيئية تلك العين الموجودة والمراد بالمشار إليها وصف جيء به لبيان معنى الشيئية فالرحمة من حيث نفسها صفة ذاتية للحق ومن حيث شيئيتها حقيقة محمدية مظهر للاسم الرحمن شيئية الشيء ما به يتعين الشيء ويمتاز عن غيره وهي من لوازم الوجود ( ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة عرضا وجوهرا ومركبا وبسيطا ) وقوله جوهرا على لسان الظاهر إذ العالم كله عرض عند أهل الحقيقة ( ولا يعتبر فيها ) أي في الرحمة
 
قال رضي الله عنه :  ( حصول غرض ولا ملاءمة طبع بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا وقد ذكرنا في الفتوحات المكّي إن الأثر لا يكون إلا للمعدوم ) في الخارج مع كونه موجودا في الباطن
 
قال رضي الله عنه :  ( لا للموجود ) الخارجي ( وإن كان ) الأثر ( للموجود فحكم المعدوم ) فالرحمة وإن كانت لا عين لها في الخارج لكن لها أثر في كل ما له وجود في الخارج ( وهو ) أي كون الأثر للمعدوم لا للموجود ( علم غريب ومسألة نادرة ) إشارة إلى أن هذه المسألة لا تظهر بتمامها إلا منه وإن علمها غيره من أهل الحقيقة قوله ( ولا يعلم تحقيقها إلا أصحاب الأوهام فلذلك ) العلم حاصل ( بالذوق عندهم ) 
إشارة إلى أن أصحاب الأوهام نادرا لوقوع وإنها غريب بين الناس لعدم المجانسة والمماثلة بهم فقوله فذلك بالذوق عندهم أي أصحاب الأوهام يذوقون إن الأمور المعدومة تؤثر في وجودهم فمن لا وهم له لا ذوق له إن الأثر للمعدوم لا للموجود إذ الأمور المعدومة المتوهمة لا تدرك إلا بالوهم ( وأما من لا يؤثر الوهم فيه ) أي من لا يتوهم أمورا معدومة ولا يتأثر بإدراكها ( فهو بعيد عن ) علم ( هذه المسألة ) فإذا كان الأمر كذلك ( شعرفرحمة اللّه في الأكوان سارية ) وجودا :
 
( وفي الذوات وفي الأعيان جارية ) حكما وفي اختصاص الجريان بالذوات والأعيان لها في الخارج إشارة إلى غاية لطافتها فكأنها تجري كالماء الجاري فإنها أنوار لطيفة ولا تحجب ما وراها ( مكانه الرحمة ) مبتدأ ( المثليّ ) خبره وجاء الخبر معرفا باللام لنكتة والجملة جزاء ،
 
لقوله رضي الله عنه : ( إذا علمت من الشهود ) وقوله ( مع الأفكار ) مفعول للشرط المقدر ( عالية ) خبر لمبتدأ محذوف والجملة جزاء للشرط المقدّر وباب التقدير واسع في الأبيات فمعناه مرتبة الرحمة الفضلى إذا علمت من الشهود وإذا علمت مع الأفكار فهي عالية فوسعت الرحمة العلم كلها ذوقيا أي فكريا كما وسعت الأمور كلها موجودها ومعدومها وكلام بعض الأفاضل في هذا المقام لا يناسب المقصود إذ المقصود بإيراد البيتين ذكر محصل التفضيل المذكور .
 
ونتيجة لذلك أورده بالفاء السببية فقسم الأشياء إلى الموجود والمعدوم وعبر عنهما بالأكوان والذوات وأدرج شمول الرحمة على كلها في البيت الأوّل وقسم العلم إلى الشهودي والفكري وأدرج وسعة الرحمة العلم فيهما في البيت الثاني فوسعت الرحمة كل شيء وجودا وحكما وعلما وهو المطلوب
( فكل من ذكرته الرحمة فقد سعد وما ثمة ) أي وما في العالم ( إلا من ذكرته الرحمة ) فما في العالم إلا من سعد والمراد بالسعادة هاهنا النجاة عن ظلمة العدم لا السعادة المعتبرة في الشرع التي بها يحصل النجاة عن النار ( وذكر الرحمة الأشياء عين إيجادها إياها فكل موجود مرحوم ) فكل مرحوم سعيد
 
قال رضي الله عنه :  ( ولا تحجب ) على البناء للمفعول ( يا وليّ عن إدراك ما قلناه ) من أن رحمته وسعت كل شيء ( بما تراه من أصحاب البلاء وما ) أي وبما ( تؤمن ) أنت ( به من الآلام الآخرة التي لا تفتر عمن قامت به ) الآلام ( فاعلم أوّلا أن الرحمة إنما هي في الإيجاد عامة فبالرحمة بالآلام أوجد الآلام ) كما إن الرحمة أوجد الرحمة المطلقة .
 
قال رضي الله عنه :  ( ثم إن الرحمة لها الأثر بوجهين أثر بالذات وهو إيجادها كل عين موجودة ) وهو أثر الرحمة الرحمانية ( ولا تنظر ) الرحمة في الإيجاد ( إلى غرض ولا إلى عدم غرض ولا إلى ملائم بالطبع ولا إلى غير ملائم فإنها ناظرة في عين كل موجود قبل وجوده بل تنظره ) بنظرة ( في عين ثبوته ) وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره بل تنظره في عين ثبوته فإنها ناظرة في عين كل موجود قبل وجوده فقبل بسكون الباء لا على صيغة الماضي .
 
قال رضي الله عنه :  ( ولهذا ) أي ولكون الرحمة ناظرة في عين ثبوت كل موجود ( رأيت الحق المخلوق في الاعتقادات عينا ثابتة في العيون الثابتة فرحمته بنفسها ) أي رحمت الرحمة الحق المخلوق بنفس الرحمة ( بالإيجاد ) أي بإيجاد نفسها فأوجدت الرحمة نفسها بالرحمة ثم أوجدت الحق المخلوق بنفسها ( ولذلك ) أي ولأجل أن الرحمة رحمت الحق المخلوق بنفسها بالإيجاد ( قلنا ) أي نقول عبر بالماضي لتحقق وقوع معناه أو لسبق هذا القول منه معنى في قوله فأول ما وسعته الرحمة نفسها ثم الشيئية المشار إليها
 
قال رضي الله عنه :  ( أن الحق المخلوق في الاعتقادات أول شيء مرحوم بعد رحمتها بنفسها في تعلقها بإيجاد المرحومين ولها أثر آخر بالسؤال ) وهو أثر الرحمة الرحمية ( فيسأل المحجوبون الحق أن يرحمهم ) بأن يغفر لهم عن ذنوبهم ويدخلهم الجنة ( في اعتقادهم ) يتعلق بالحق أن يسألون الحق الذي هو في اعتقادهم أن يرحمهم
قال رضي الله عنه :  ( وأهل الكشف يسألون رحمة اللّه أن تقوم بهم ) ومعنى قيام الرحمة بهم اتصافهم بالرحمة ( فيسألونها باسم اللّه ) أي يسألون الرحمة عن الحضرة الجامعة الإلهية فكم بين السؤالين ( فيقولون ) أي أهل الكشف في السؤال يا اللّه ارحمنا ولا يرحمهم إلا قيام الرحمة بهم لأن مرادهم بالسؤال هو لا غير كما إذا سأل أهل الحجاب
 
فقال في السؤال ( يا اللّه ارحمنا ولا يرحمهم إلا قيام ) أثر ( الرحمة بهم ) وهو الاستراحة في عيشة راضية وهو يعطي كل ذي حق حقه ولما كان اعتقاد المحجوبين مطابقا بما وصف اللّه به ذاته وصفاته وعرف به نفسه في الشرع المطهر أجاب اللّه سؤالهم وأعمالهم ويغفر لهم من ذنوبهم ويدخلهم الجنة إذ لا وسعة لكل أحد بهذا المقام في السؤال والأعمال فإذا كان لها الأثر بالذات والأثر بالسؤال
 
قال رضي الله عنه :  ( فلها الحكم ) في كل راحم ومرحوم لا لغيرها ( لأن الحكم إنما هو في الحقيقة للمعنى القائم بالمحل فهو ) أي هذا المعنى القائم بالمحل ( الراحم على الحقيقة ) لا المحل فالراحم هو الرحمة لا من اتصف بها ( فلا يرحم عباده المعتنى بهم ) وهم أهل الكشف والوجود ( إلا بالرحمة ) فقامت بهم
 
قال رضي الله عنه :  ( فإذا قامت بهم الرحمة وجدوا حكمها ) في أنفسهم ( ذوقا ) فإن الرحمة تحكم عليهم أن يرحموا من طلب منهم الرحمة فعلموا ذوقا كيف يرحمهم اللّه عباده فإن الرحمة حاكمة على الحق أن يرحم من يسأل الرحمة من عباده فإذا وجدوا حكم الرحمة فقد ذكرتهم الرحمة ( فمن ذكرته الرحمة ) أي قامت الرحمة به ( فقد رحم ) لكون الرحمة حاكمة عليه أن يرحم على غيره ممن يسأل الرحمة منه ( واسم الفاعل ) ممن ذكرته الرحمة ( هو الرحيم والراحم ) فكان رحيمية الرحيم أو الراحم من حكم الرحمة القائمة هي به
 
قال رضي الله عنه :  ( والحكم لا يتصف بالخلق لأنه أمر توجيه المعاني لذواتها ) لمن اتصف بها من الذوات فالرحمة معنى من المعاني لأنها لا عين لها في الخارج توجب الحكم لذاتها الذي لا عين له في الخارج لذلك قالرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍوجودا وحكما ولم يكتف بقوله وجودا والأمور التي توجبها المعاني أحوال فالحكم حال من الأحوال
قال رضي الله عنه :  ( فالأحوال لا موجودة ولا معدومة أي لا عين لها ) أي للأحوال ( في الوجود لأنها نسب ولا معدومة في الحكم لأن الذي قام به العلم يسمى عالما وهو ) أي كونه عالما ( الحال فعالم ذات موصوفة بالعلم فما هو ) أي فليس كون العالم ذاتا موصوفة بالعلم
 
قال رضي الله عنه :  ( عين الذات ) أي عين ذات العالم ( ولا عين العلم وما ثمة ) أي وليس في ذات موصوفة بالعلم ( إلا علم وذات قام بها هذا العلم وكونه ) أي وكون العالم ( عالما حال لهذه الذات باتصافها ) أي بسبب اتصاف الذات ( بهذا المعنى ) وهو ( العلم فحدثت نسبة العلم إليه ) أي إلى العالم بسبب اتصافه بالعلم ( فهو المسمى عالما ) وهو الحال ثم رجع إلى أصل المسألة التي هو بصددها فقال ( والرحمة على الحقيقة نسبة من الراحم وهي الموجبة للحكم)
 
في الراحم ( فهي الراحمة ) على الحقيقة لا الراحم بل الراحم إنما يرحم بسبب قيامها به ( والذي ) وهو الحق ( أوجدها في المرحوم ما أوجدها ليرحمه بها ) أي ليجعل الحق ذلك الشخص مرحوما ( وإنما أوجدها ليرحم بها من قامت ) الرحمة ( به ) ومن فاعل يرحم أي بل إنما أوجدها ليجعل ذلك المرحوم راحما لغيره فصار مرحوما للحق راحما لغيره ،
 
قال رضي الله عنه :  ( وهو ) أي الحق ( سبحانه ليس بمحل للحوادث فليس بمحل لإيجاد الرحمة فيه وهو ) أي والحال إن الحق ( الراحم ولا يكون الراحم راحما إلا بقيام الرحمة به فثبت أنه ) أي الحق ( عين الرحمة ومن لم يذق ) والذائق أهل الكشف فإنهم اجترءوا أن يقول إن الصفات عين ذاته تعالى ( هذا الأمر ) أي أمر الرحمة ( ولا كان له فيه قدم ) ومن كان له قدم في هذا الأمر أي علم في الجملة وهم الحكماء والمعتزلة فإنهم اجترءوا أن يقول إن ذاته عين صفاته ( ما اجترءوا أن يقول إنه ) أي الحق ( عين الرحمة أو عين الصفة فقال ) الذي لم يقل هكذا ( ما هو ) أي ليس الحق
 
قال رضي الله عنه :  ( عين الصفة ولا غيرها فصفات الحق عنده لا هي هو ولا هي غيره لأنه لا يقدر على نفيها ولا يقدر أن يجعلها عينه ) لعدم ذوقه الأمر على ما هو عليه وهم الأشاعرة ( فعدل إلى هذه العبارة وهي عبارة حسنة وغيرها ) أي وغير هذه العبارة ( أحق بالأمر منها ) أي أحق بالدلالة على الأمر على ما هو عليه في نفسه من هذه العبارة
 
قال رضي الله عنه :  ( وأرفع للإشكال ) وهو كون الحق محلا للحوادث إذا لم يكن عينها فإنه وإن رفع الأشكال بهذه العبارة الحسنة لكنه أرفع بغيرها ( وهو ) أي ذلك الغير ( القول بنفي أعيان الصفات وجودا ) في الخارج ( قائما بذات الموصوف وإنما هي نسب وإضافات بين الموصوف بها وبين أعيانها المعقولة ) فصفات الحق موجودة زائدة على ذاته في العقل فإن لها حقائق معقولة ممتازة وأما في الخارج فلا أعيان لها فلا وجود فكان وجودها في الخارج عين ذاته تعالى والتحق الحكماء والمعتزلة في هذه المسألة بأهل الحق
 
قال رضي الله عنه :  ( وإن كانت الرحمة ) في المرتبة الرحمانية الاجمالية وهي مرتبة اسم اللّه واسم الرحمن ( جامعة ) لأنواعها ( فإنها بالنسبة إلى كل اسم إلهي مختلفة فلهذا ) الاختلاف ( يسأل ) على البناء المجهول أو على البناء المعلوم أي يسأل العبد ( سبحانه ) وكذلك ( أن يرحم ) جاز فيه الوجهان قوله ( بكل اسم إلهي ) يجوز أن يتعلق بيرحم وأن يتعلق بيسأل فأيهما أعمل قدّر مفعول الآخر فهو من باب التنازع ( فرحمه اللّه ) أي رحم اللّه ذلك السائل،
 
قال رضي الله عنه :  ( والكناية ) وهي ضمير المتكلم في ورحمتي وسعت كل شيء ، والخطاب فيرَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ ( هي التي وسعت كل شيء ) إذ ذاته تعالى عين الرحمة فوسعة الرحمة وسعة ذات الحق ( ثم ) أي بعد جامعيتها وو سعتها كل شيء ( لها شعب كثيرة تتعدد بتعدد الأسماء الإلهية ) فإذا تعددت بتعدد الأسماء ( فما تعم بالنسبة إلى ذلك الاسم الخاص الإلهي ) الذي يسأل اللّه السائل بذلك الاسم الخاص الإلهي الحاصل ( في قول السائل يا رب ارحم وغير ذلك من الأسماء ) سواء كان من الاسم الجامع كالاسم اللّه والاسم الرحمن
 
( حتى المنتقم له ) أي للسائل ( بأن يقول يا منتقم ارحمني ) أي ارفع عني العذاب فإذا قلت يا اللّه أو يا رحمن أو غير ذلك ارحمني تريد الاتصاف بكمالات اللائقة بك فلا تعم الرحمة في قول السائل يا رب ارحم بالنسبة إلى اسم الرب جميع أنواع الرحمة بل تريد نوعا مخصوصا من أنواع الرحمة
 
قال رضي الله عنه :  ( وذلك ) أي بيان عدم عموم الرحمة ( أن هذه الأسماء ) وهي الأسماء الحسنى التي يدعو السائل بها الرحمة ( تدل على الذات المسماة وتدل بحقائقها ) الممتازة عن غيره ( على معان مختلفة فيدعو ) السائل ( بها في ) طلب ( الرحمة من حيث دلالتها ) أي من حيث دلالة الاسم المدعوّ ( على الذات المسماة بذلك الاسم لا غير ) أي اعتبر الداعي دلالة الاسم على الذات المسماة بهذا الاسم فقط
 
قال رضي الله عنه :   ( لا بما يعطيه مدلول ذلك الاسم الذي ينفصل ) ذلك الاسم ( به ) أي بذلك المدلول ( عن غيره ويتميز ) أي لا يدعو به في الرحمة من حيث دلالته على هذا المعنى يعني إذا قال المريض يا شافي ارحمني يدل الشافي على الذات وعلى معنى يمتاز به عن الاسم الآخر وذلك المعنى حقيقة كلية نوعية تحته خصوصيات كثيرة فإذا اعتبر هذا المعنى تعم الرحمة جميع ما تحته من الخصوصيات المتكثرة فلا نظر للسائل فيه حتى تكون الرحمة في سؤاله عامة بالنسبة إلى ذلك الاسم
 
قال رضي الله عنه :  ( فإنه ) أي الاسم الخاص ( لا يتميز عن غيره ) في الدلالة على الذات ( وهو ) أي ذلك الاسم الخاص ( عنده ) أي السائل ( دليل الذات ) لا دليل الحقيقة المتميزة إذ لا حاجة له في الحقيقة المتميزة بل حاجته في الذات التي هي قاضي الحاجات وقبلتها
( وإنما يتميز ) الاسم الخاص ( بنفسه عن غيره لذاته إذ المصطلح عليه بأيّ لفظ كان حقيقة متميزة بذاتها عن غيرها ) وهذا المعنى مسلوب في نظر السائل عن دلالة الاسم عليه ( وإن كان الكل قد سيق ليدل على عين واحدة مسماة ) وهي ذات الحق ( ولا خلاف في أنه لكل اسم حكم ليس للآخر فذلك الحكم أيضا ينبغي أن يعتبر ) في ذلك الاسم في السؤال
 
قال رضي الله عنه :  ( كما يعتبر دلالتها على الذات المسماة ) فاختصت الرحمة بحكم ذلك الاسم فما تعم الرحمة بالنسبة إلى ذلك الاسم فإذا قال المريض يا شافي ارحمني فلا يريد إلا صحة البدن بالخلاص عن المرض فقد اعتبر حكم الشافي في الرحمة وهي هذه الصحة المخصوصة وكذا في غيره فقد ظهر منه أن الرحمة تتعدد بتعدد الأسماء وتتبع حكم كل اسم دعيت به
 
قال رضي الله عنه :  ( ولهذا ) أي ولأجل سوق كل اسم للدلالة على عين واحدة مسماة بكل واحد منها ( قال أبو القاسم بن القيسي ) وهو من كبار أهل الطريق ( في ) تحقيق ( الأسماء الإلهية أن كل اسم إلهي ) على انفراده ( مسمى بجميع الأسماء الإلهية كلها إذا قدمته في الذكر نعته بجميع الأسماء وذلك ) النعت ( لدلالتها ) أي لدلالة الأسماء كلها ( على عين واحدة ) والعين تسمى بجميع الأسماء وكذا ما يدل عليها
 
قال رضي الله عنه :  ( وأن تكثرت الأسماء عليها ) أي على عين واحدة ( واختلف حقائقها أي حقائق تلك الأسماء ثم أن الرحمة تنال على طريقين طريق الوجوب ) يعني أوجب اللّه هذه الرحمة على نفسه لعباده الصالحين في مقابلة أعمالهم ( وهو ) أي طريق الوجوب
 
( قوله تعالى فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) قوله ( وما ) أي الذي ( قيدهم به من الصفات العملية والعلمية ) عطف على قوله وهو قوله ( والطريق الآخر الذي ينال به ) العبد ( هذه الرحمة على طريق الامتنان الإلهي الذي لا يقترن به عمل وهو ) أي طريق الامتنان ( قوله تعالى :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وهو عام في حق كل شيء وهو الرحمة الذاتية ( ومنه ) أي من طريق الامتنان

قوله تعالى : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ في حق نبينا عليه السلام وهي رحمة امتنانية خاصة به عليه السلام ( ومنها قوله : « اعمل ما شئت فقد غفرت لك فاعلم ذلك»). 
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 19, 2020 11:59 pm

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية           الجزء الأول
اعلم أن إلياس عليه السلام لما أنس الملائكة وخالطهم بحسب مزاجه الروحاني وأنس الإنسان بحسب مزاجه العنصري أورد الحكمة الإيناسية في كلمته فبين في هذا الفص التنزيه والتشبيه ، فالتنزيه من جهة ملكيته والتشبيه من جهة بشريته فتم له الأمر و ( إلياس هو إدريس ) وكون إلياس هو إدريس معلوم له من الكشف الإلهي إذا أطلعه اللّه أعيان رسله من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام وما ذكر في كتب التفاسير من قصة إدريس وإلياس وإن دل على تغاير الأحوال لكن لا يدل قطعيا على تغايرهما في المسمى فسمي بإلياس بعد البعثة إلى قرية بعلبك .
 
قال المفسرون وهو إلياس بن ياسين سبط هارون أخي موسى بعث بعده ،
وقيل هو إدريس لأنه قرئ إدريس وإدراس مكان إلياس وكشف الشيخ وافق الأخير
فإدريس ( كان نبيا قبل نوح ورفعه اللّه مكانا عليا وهو ) أي إدريس ( في قلب الأفلاك ) متعلق بقوله رضي الله عنه : ( ساكن وهو ) أي قلب الأفلاك قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلك الشمس ثم بعث إلى قرية بعلبك وبعل اسم صنم وبك هو سلطان تلك القرية وكان هذا الصنم المسمى بعلا مخصوصا بالملك وكان إلياس الذي هو إدريس قد مثل له انفلاق الجبل المسمى لبنان من اللبنانة وهي الحاجة )
قوله ( عن فرس ) يتعلق بانفلاق أي انفرج الجبل فخرج منه فرس ( من نار وجميع الآية من نار فلما رآه ركب عليه فسقطت عنه الشهوة فكان عقلا بلا شهوة فلم يبق له تعلق بما يتعلق به الأعراض النفسية )
أما الفرس فهو النفس الناطقة المجردة مركب الروح المجردة وكون جميع الآية ناريا حرارة الشوق بجميع قواه إلى لقاء اللّه وركوبه تصرفه في عالم المجردات وانعزاله عن مركب النفس الحيواني لذلك سقطت عنه الشهوة فأثر الركوب عليه في حيوانية فقطع تعلقه بالأغراض النفسية التي كانت بسبب الحقيقة الحيوانية فكان هذا الفرس نورا على صورة النار
 
كل ذلك من غلبة نور القدس على روحه وجميع قواه لذلك آنس الملائكة وخالطهم فسبح الحق وقدسه تقديسهم وتسبيحهم ( فكان الحق فيه ) أي في قلب إلياس أو في هذا المقام ( منزها ) اسم مفعول أي كان إلياس ينزه من جهة كونه عقلا مجردا عن الشهوة ( وكان ) إلياس ( على النصف من المعرفة باللّه فإن العقل إذا تجرد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره كانت معرفته باللّه على التنزيه ) خاصة
( لا على التشبيه ) والتنزيه فمن كانت معرفته باللّه على التنزيه بلا تشبيه أو على التشبيه بلا تنزيه كانت معرفته على النصف ثم بعد ذلك تجلى اللّه له بالاسم الجامع تكملة له فأعطاه المعرفة بالتجلي فسقط عنه أخذ العلوم عن نظر العقل.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا أعطاه اللّه المعرفة بالتجلي كملت معرفته باللّه فنزه بموضع ) التنزيه ( وشبه في موضع ) التشبيه ( ورأى ) أي شاهد بسبب هذا التجلي ( سريان الحق في الصور الطبيعية والعنصرية وما بقيت له ) أي لإلياس ( صورة إلا ويرى عين الحق عنها ) من وجه ومعنى سريان الحق في الصور ظهور آثار أسمائه وصفاته فيها ولو لم يكن للصورة مع الحق جهة الاتحاد والعينية في وجه خاص لم يكن العالم دليلا على وجوده ووجوبه ووحدانيته
فكان إلياس من هذا الوجه أنس الأناسيّ فسريان الحق في الصور عند أهل الحقيقة كإحاطة الحق بالأشياء عند علماء الرسوم في أن المراد بكل واحد منهما معنى واحد وكون الحق عين الأشياء عند أهل اللّه كاتحاد الحق مع الأشياء في بعض الأمور الكلية عند أهل الظاهر ولا مخالفة بينهما إلا في العبارة لا في المعنى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذه المعرفة التامة ) التي تحصل من تجلي الحق وهي مشاهدة سريان الحق في كل صورة ( التي جاءت بها الشرائع المنزلة ) من التنزيل ( من عند اللّه ) إذ الشرائع كلها جاءت بالتنزيه والتشبيه معا ولم تنفرد بأحدهما ( وحكمت بهذه المعرفة الأوهام كلها ) الوهم والعقل قوتان روحانيتان في هذه النشأة الانسانية العنصرية
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي ولأجل كون الأوهام حاكمة بهذه المعرفة التامة دون العقول ( كانت الأوهام أقوى سلطانا ) أي قوة وحجة ( في هذه النشأة من العقول لأن العاقل ولو بلغ ما بلغ في عقله ) أي بلغ كمالا في التنزيه تنتهي إليه العقول ( لم يخل ) ذلك العاقل ( عن حكم الوهم عليه والتصور ) أي وعلى تصوره ( فيما عقل ) فإذا حكم العقل بالتنزيه في موضع فقد حكم الوهم بالتشبيه في ذلك الموضع لشهوده سريان الحق في الصور الذهنية والخارجية فشاهد الحق في صورة التنزيه الذي حصل في العقل ويرى أن إثبات التنزيه له تحديد والتحديد عن التشبيه ،
 
ولا شعور للعقل أن تنزيهه صورة من الصور التي يجب تنزيه الحق عنها عنده فحكم على العقل وعلى إدراكه ( فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه الصورة الكاملة الانسانية وبه ) أي وبهذا المعنى وهو التشبيه ( جاءت الشرائع المنزلة ) والتنزيه أعاد تنزيل الشرائع ليورد بعض الأحكام عليها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فشبهت ونزهت شبهت في التنزيه ) أي في تنزيه العقل ( بالوهم ونزهت في التشبيه ) أي في تشبيه الوهم ( بالعقل فارتبط الكل بالكل ) أي ارتبط كل واحد منهما بالآخر ( فلا يمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه ولا تشبيه عن تنزيه ) ولما فرغ عن بيان التنزيه والتشبيه شرع في إيراد الآيات الجامعة بين التنزيه والتشبيه
 
فقال رضي الله عنه : ( قال تعالى :لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ( فنزه ) بحكم العقل ( فشبه ) بحكم الوهم فالتنزيه ناظر إلى جهة النفي وهو على تقدير زيادة الكاف والتشبيه ناظر إلى جهة الإثبات لأنه لما نفى المماثلة عن مثله فقد أثبت المثل لنفسه وهو التشبيه .
والمراد بالمثل هو الإنسان المخلوق على صورته والمراد بالمماثلة هو الاتصاف بصفات الحق كالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك ما عدا الوجوب الذاتي
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُفشبه ) ولم يقل ونزه وإن كان فيه التنزيه أيضا لعدم استفادة التنزيه من نفس الكلام بل إنما يستفاد التنزيه من تقديم الضمير بخلاف الأول فإن التنزيه والتشبيه مستفاد من نفس الكلام ( وهي ) أي هذه الآية ( أعظم آية تنزيه نزلت ومع ذلك لم تخل عن تشبيه بالكاف فهو ) أي الحق ( اعلم العلماء بنفسه وما عبر عن التعبير عن نفسه إلا بما ذكرناه ) من التنزيه والتشبيه بحكم العقل والوهم ( ثم قال سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وما يصفونه إلا بما تعطيه عقولهم فنزه نفسه عن تنزيههم إذ حددوه بذلك التنزيه ) والتحديد بالتنزيه تشبيه وهم لا يشعرون بذلك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وذلك ) التحديد الذي يلزمهم من تنزيههم ( لقصور العقول عن إدراك مثل هذا ) أي عن إدراك أن التنزيه عين التحديد بخلاف الوهم فإنه يدرك ذلك لذلك حكم على العقل بالتشبيه فيما نزهه فلما نزه وشبه ثم نزه نفسه عن التنزيه وأبقى التشبيه على حاله كان الاعتماد في إدراك الأمر على ما كان عليه في نفسه على الوهم دون العقل فإن الأمر في نفسه لا يخلو عن صورة ما بالشرع والكشف ، والعقل يجرده عنها دائما والوهم يشبهها له دائما.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم جاءت الشرائع كلها ) من لدن آدم إلى محمد عليهم السلام ( بما تحكم به الأوهام كلها ) وما حكم الأوهام إلا بسريان الحق في كل صورة من الصور التنزيهية والتشبيهية فكذلك الشرع جاء نزه وشبه ثم نزه عن التنزيه
وقرر بذلك حكم الوهم فإذا جاءت الشرائع بما حكم به الأوهام ( فلم تخل ) من الأخلاء أي لم تجعل الشرائع ( الحق ) خاليا ( عن صفة تظهر فيها ) إذ لا بد بظهور الحق من صفة وثبوت تلك الصفة له عين التشبيه على أن كونه في كنزه ظهوره بصفة الخفاء والعماء وتنزيه الشرع إنما هو بمقتضى العقول لا لكون الأمر في نفسه كذلك لذلك نزه عن تنزيه العقول بقولهسُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ( كذا ) أي كقولي هذا
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قالت ) الشرائع ( وبذا ) أي وبما حكم الأوهام ( جاءت فعلمت الأمم ) أي جميع الأمم ( على ذلك ) أي على ما جاءت به الشرائع وحكم الأوهام ( فأعطاها ) أي الأمم ( الحق التجلي ) الذي يحصل به شهود سريان الحق في جميع الصور كما أعطاه الرسل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلحقت ) الأمم في هذا التجلي ( بالرسل وراثة فنطقت ) الأمم ( بما نطقت به رسل اللّه ) من التنزيه والتشبيه وقال اللّه تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ، فاللّه أعلم موجه له وجه بالخبرية إلى رسل اللّه ) على تقدير أن يكون قوله لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ كلاما تاما بأن جعل مفعول أوتي الذي أقيم مقام الفاعل ضميرا عائدا إلى الرسل ،
فعلى هذا قوله رُسُلُ اللَّهِ مبتدأ اللّه خبره واعلم خبر مبتدأ محذوف
أي رسل اللّه هم عين اللّه من جهة اتصافهم بالصفات الحقانية وإن كانوا غيره من جهة اتصافهم بالصفات الامكانية فكان هذا القول من قبيل إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ، ومن أكرمني فقد أكرم اللّه وغير ذلك ولا استحالة في هذا التوجيه والمقصود من هذا التوجيه مع أنه لا يخلو عن تعسف إظهار التشبيه للمحجوبين في الآية
 
فلا يظهر لهم التشبيه في الآية إلا بهذا الوجه ( وله وجه بالابتداء إلى أعلم حيث يجعل رسالته ) وهو ظاهر وبهذا الوجه ثبت التنزيه أي اللّه أعلم لا غير ) وكلا الوجهين حقيقة فيه ) ،
 
أي في اللّه أما أكون وجه الابتداء حقيقة فلكون دلالتهما على الذات الموصوفة بالألوهية حقيقة وأما كون وجه الخبرية حقيقة فلكونه للوصفية في التحقيق ( لذلك ) أي لأجل كون كلا الوجهين حقيقة ) قلنا بالتشبيه في التنزيه وبالتنزيه في التشبيه ، وبعد أن تقرر هذا ) ولما انتقل كلامه إلى مقام الفرق والفرق لا يكون إلا بالاحتجاب
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنرخي الستور ونسدل الحجب على عين المنتقد ) وهو أهل الحقيقة ( والمعتقد ) وهو الذي يعتقد بأهل الحق ويصدق فيما بقوله ( وإن كانا من بعض صور ما تجلى فيها الحق ولكن قد أمرنا بالستر ليظهر تفاضل استعداد الصور ) بتجلي الحق المراد من هذا الكلام النهي عن الظهور بما تقرر من أسرار التنزيه والتشبيه والأمر بالستر ليظهر التفاضل
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن المتجلي في صورة ) إنما يتجلى ( بحكم استعداد تلك الصورة فينسب إليه ) أي المتجلي وهو الحق ( ما تعطيه حقيقتها ) أي حقيقة تلك الصورة ( و ) ينسب إليه ما تعطيه ( لوازمها ) أي لوازم تلك الحقيقة فلا يذوق هذه المسألة إلا من تجلى له الحق في صورة استعداد فينسبه ما نسبه لنفسه ويشاهده بذلك التجلي تفاضل الصور فيشبهه فينزهه.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لا بد من ذلك ) في التجلي فلا بد لظهور استعداد الصور من التجلي مثل هذه المسألة بما وقع في المنام من الصور الإلهية حتى يعلم منه ما في اليقظة فإن اليقظة على الحقيقة منام ، قال عليه السلام : « الناس نيام » فكما قيل إنما الكون خيال ،
فقال رضي الله عنه  : ( مثل من يرى الحق في النوم ) في صورة ( ولا ينكر هذا ) كما رأى رسول اللّه عليه السلام وقال : « رأيت ربي في أحسن صورة شاب » ( وأنه لا شك الحق عينه ) أي ولا ينكر أن الحق عين ذلك المرئي بلا شك ( فيتبعه ( أي الحق ( لوازم تلك الصورة وحقائقها ).


قوله رضي الله عنه : ( التي تجلى فيها في النوم ) صفة للصورة ( ثم بعد ذلك يعبر ) ذلك الرائي ( أي يجاز عنها ) أي عن الصورة التي رأى فيها الحق ( إلى أمر آخر يقتضي ) ذلك الأمر ( التنزيه عقلا فإن كان الذي يعبرها ذا كشف أو ) ذا ( إيمان فلا يجوز عنها إلى تنزيه فقط بل يعطيها حقها ) أي بل ذلك الرائي يعطي حق تلك الصورة المرئية ( من التنزيه ومما ظهرت ) تلك الصورة ( فيه ) الضمير راجع إلى ما ،
فكان لهذه الصورة حقان حق التنزيه وحق التشبيه مما يلزمها في المنام فالعابر المذكور يعطي لها حقها في التنزيه بأن يقول الحق منزه عن الصورة بحسب ذاته ويعطي حقها من التشبيه بأن يقول هذه صورة من الصور التي يظهر فيها الحق هكذا أهل الكشف والشهود يرى الحق في كل صورة وفي كل كلام ينزه ويشبه يعني يرى .
من وجه ولم ير من وجه فجمع الرؤية وعدمها في صورة واحدة في زمان واحد ( فاللّه ) يعني فإذا علمت ما ذكرته فاعلم فلفظة اللّه في قوله تعالى رُسُلُ اللَّهِ اللّه أعلم
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( على التحقيق عبارة ) عن ذات الحق من حيث ظهوره بالألوهية وما يظهر ألوهيته تعالى إلا في صورة مألوهاته فكما يظهر في صور مصنوعاته يظهر في كلامه ، لذلك وجه بالخبرية والابتدائية إعطاء الحق التشبيه والتنزيه في الكلام أيضا أو معناه فاللّه على التحقيق عبارة أي نسبة وإضافة في التحقيق لا وجود له في الخارج ثم جعل علما لذات الواجب الوجود من حيث اتصافه بالألوهية بالنسبة إلى مألوهاته فجعله خبرا بناء على هذا الأصل بلا اعتبار كونه علما للذات فإن اعتبار الذات مانع للخبرية ولا اعتبار هذا التحقيق.


قال الشيخ رضي الله عنه : ( لمن فهم الإشارة ) أي إشارة كلامه القديم فإن أهل الإشارة يفهم من وجه لفظة اللّه هذا المعنى في هذا المقام وإن تركه أهل الشرع أو معناه أن يقول فاللّه على التحقيق عبارة أي يعبر عنه القارئ بهذين الوجهين إلى التنزيه ،
 
والتشبيه كما يعبر عن مسماه في المقام إليهما فإن قيل إن اللّه علم لذات الواجب الوجود فمن أطلق على غيره فقد كفر وأشرك باللّه تعالى فكيف وجه هذا الكامل وجه الخبرية قلنا إن معنى التنزيه والتشبيه عندهم عين معنى النفي والإثبات في كلمة التوحيد عند أهل الشرع ألا ترى كيف يعم النفي بحسب المفهوم وجود الواجب والممكن في كلمة التوحيد لذلك لو توقف القائل في النفي زمانا بلا عذر يكفر فوجب بالشرع ذلك النفي المحال على اللّه تعالى بمقارنة الإثبات بمعنى لولا الإثبات لاستحال على اللّه ذلك النفي فلا وجود لهذا النفي في الشرع ولا في نفس الأمر إلا بإثبات لذلك تسمى كلمة لا كلاما
وإن كان تفيد فائدة الكلام إذ الكلام يقتضي وجود الأجزاء قبل التأليف في كلمة عزيزة مركبة من النفي والإثبات فنفيه إشارة إلى تنزيه الحق وإثباته إشارة إلى تشبيه الحق وصورته المخصوصة إشارة إلى أن ذاته تعالى جامعة محيطة بكل ما يدخل تحت العدم المطلق والوجود المطلق ، فكما لا يخلو النفي عن الإثبات ولا الإثبات عن النفي في كلمة التوحيد كذلك لا يخلو التنزيه عن التشبيه ولا التشبيه عن التنزيه كما مر ،
فكما يكفر قائل النفي بدون الإثبات كذلك يكفر المشبه بدون التنزيه وبالعكس
أي يستر بعض أحكام اللّه التي جاءت بها الشرائع فظهر أنه إنما يلزم ذلك لو لم يقارن ذلك الإطلاق التشبيهي إلى التنزيه فهو بعينه مع التنزيه النفي مع الإثبات
فأطلق فنزه في زمان واحد فلا ينفك الوجه الخبري عن الوجه الابتدائي ولا الابتدائية عن الخبري في مشاهدة أهل الذوق فما أطلق فقط بدون النفي حتى يكفر
بل أطلق فنفى في زمان واحد بلا فصل بينهما بشيء فيهما كلمة واحدة لا عين لها في الخارج كما أن كلمة التوحيد لا عين لها في الخارج إذ ما في الخارج شيء مركب من النفي والإثبات يصدق عليه هي بل ما في الخارج إلا ذات واحدة مستجمعة بجميع الصفات
مع أن هذا الوجه أي الوجه الخبري في اللّه مختص بالرسل عندهم لا يتناول إلى غيرهم من الأعيان لكون الحق سمعهم وبصرهم وجميع قواهم من أجل تحصيلهم بالنوافل المحبة الإلهية فلم يكن الحق قوي لمن لم يحصل له هذا الكمال
 
فصدق اللّه على الرسل إلى التنزيه مقدار صدق النفي عليه إلى الإثبات بل هو أقصر منه صدقا لطول النفي باللسان منه وليس هذا أعقل من ذلك فجمع بين التنزيه والتشبيه أهل الحقيقة والشهود في قولهم هو لا هو كما جمع في كلمة التوحيد بين النفي والإثبات ،
فجمع الشهود بينهما أسرع من جمع اللسان لأن جمع التنزيه والتشبيه يرجع إلى العقل والوهم فالعقل ينزه الحق عما يثبت له الوهم والوهم يثبت للحق عما ينزهه عنه والشهود يجمع بينهما بلا تخلل آن والشيخ قدس سره وجه بالخبرية أعلاما للمحجوبين بهذا المعنى وهو من لطائف كلام رب العزة وأسراره لا يطلعه إلا أهل الإشارة بهذا التوفيق وبهذا ظهر تقدم أهل الكشف والذوق في رتب العلم عند أهل الانصاف .
ولما فرغ عن بيان حقيقة التنزيه والتشبيه وما يلزمهما من الأحكام شرع فيما هو المقصود من هذا الفص ،
 
فقال رضي الله عنه  : ( روح هذه الحكمة وفصها ) أشار به إلى أن للفص فصا وهو روح ذلك الفص ( إن الأمر ينقسم إلى مؤثر ) وهو إيجاد الأثر في غيره ( و ) إلى ( مؤثر فيه ) وهو قبول الأثر عن غيره ) وهما عبارتان ) متقابلتان لا يصدق إحداهما على ما يصدق عليه الأخرى كتقابل العلة والمعلول وإن كان كل واحد منهما مظهرا بحقيقة واحدة ( فالمؤثر بكل وجه وعلى كل حال وفي كل حضرة هو اللّه تعالى والمؤثر فيه بكل وجه وعلى كل حال وفي كل حضرة هو العالم ) فالأثر هو الإضافة الحاصلة بينهما فكان الحق أصلا للبعض المناسب له والعالم أصلا للبعض المناسب له.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا ورد ) عليك الوارد وهو ظهور الحق في النوم في صورة مثالية أو في صورة حسية شهادية ، أو الوارد الأثر مطلقا ( فالحق ) أنت ( كل شيء ) من الوارد ( بأصله الذي يناسبه ) فإن الكمالات الإلهية كالوجود والعلم والقدرة والحياة وغير ذلك آثار فيك لاحقة إلى أصلها الذي مناسبه وهو الحق تعالى قال اللّه تعالى :ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ[ النساء : 79 ] .
والنقائص الامكانية كالاحتياج وغيره وهو الأثر الحاصل فيك من اللّه فالحق إلى أصله الذي يناسب ذلك الاحتياج به وهو أنت فلا يكون الحق أصلا له وإنما الحق الوارد بأصله المناسب له
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن الوارد أبدا ) لكونه أثرا ( لا بد أن يكون فرعا عن أصل كذلك كانت المحبة الإلهية فرعا عن النوافل من العبد فهذا ) أي المحبة الإلهية أو الحب عن النوافل ( أثر ) حاصل ( بين مؤثر ) وهو الحق ( ومؤثر فيه ) وهو العبد العامل بالنوافل فالمحبة الإلهية على التحقيق هي صورة ظهور ذلك العبد بالنوافل فالحق إلى أصله ( كان الحق سمع العبد وبصره وقواه عن هذه المحبة الإلهية فهذا ) أي كون الحق قوى العبد ( أثر ) حاصل بين المؤثر وهو الحق والمؤثر فيه وهو العبد المحب فكون الحق قوى العبد على التحقيق هي صورة ظهور المحبة الإلهية ، وهو أثر حاصل من العبد العامل بالنوافل فألحقه إلى أصله ( مقرر لا تقدر ) أنت ( على إنكاره لثبوته شرعا إن كنت مؤمنا ) بالشرع .
 
ولما أتم انقسام الأمر إلى المؤثر والمؤثر فيه وأحوالهما رجع إلى تفصيل ما أجمله
في رؤية الحق في المنام فقال ( وأما العقل السليم ) وهو الباقي على الفطرة الأصلية الخالي عن العقائد الفاسدة ( فهو إما صاحب تجل إلهي في مجلى طبيعي فيعرف ) ما قلناه من ظهور الحق في صور الأشياء في النوم وغيره أو يعرف ما قلناه من انقسام الأمر إلى مؤثر ومؤثر فيه ( وإما مؤمن مسلم يؤمن به ) أي يؤمن ما قلناه ( كما ورد في الصحيح )
 
وأيا ما كان ( ولا بد من سلطان الوهم أن يحكم على العاقل الباحث فيما جاء به الحق في هذه الصورة ) المرئية في المنام ( لأنه ) أي العاقل ( مؤمن بها ) أي بهذه الصورة التي تجلى الحق له فيها فطلب حقيتها فبحث بالوهم في ذلك فيحكم الوهم عليه في تصوره .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإما غيره المؤمن ) وهو صاحب الاعتقادات الفاسدة والعقل المشوب بالوهم الحيواني ( فيحكم على الوهم ) أي فيحكم على بطلان ما حكم عليه الوهم من ظهور الحق بصور الأشياء ( بالوهم فيتخيل بنظره الفكري أنه قد أحال على اللّه ما أعطاه ذلك التجلي في الرؤيا والوهم في ذلك لا يفارقه ).
 
أي والحال أن الوهم السلطاني لا يفارق عن ذلك المتخيل ( من حيث لا يشعر ) عدم مفارقة الوهم عنه ( لغفلته عن نفسه ومن ذلك ) أي ومن انقسام الأمر إلى مؤثر ومؤثر فيه ( قوله تعالى :ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْوَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ إذ لا يكون مجيبا إلا إذا كان ) أي وجد ( من يدعوه ) فالمجيب فاعل ومؤثر والداعي قابل ومؤثر فيه فالأثر الحاصل بينهما له وجه إلى الفاعل ووجه إلى القابل فالحق كل شيء بأصله
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن كان عين الداعي عين المجيب ) في الحقيقة ( فلا خلاف في اختلاف الصور فهما صورتان بلا شك ) فإن قيل لا شك أن المراد بالمجيب هو الحق تعالى الواجب الوجود وبالداعي هو العبد الممكن الوجود فلا يمكن الاتحاد والعينية بينهما في الحقيقة ،
 
فإن حقيقة الممكن لا يكون إلا ممكنا كما أن حقيقة الواجب لا يكون إلا واجبا قلنا لا شك أن صورة الداعي أثر لصورة المجيب والأثر لا حقيقة له في نفسه بل حقيقته حقيقة من له ذلك الأثر الحاصل منك في المرآة لا شك أنه عينك في الحقيقة إذ لا حقيقة له إلا حقيقتك فعينية الحق والعبد في الحقيقة عينية الأثر بمن له الأثر لا عينية زيد وعمرو في الحقيقة الانسانية فإن هذه الحقيقة حقيقة كل واحد منهما في نفسه بالنسبة إليهما وعند التحقيق تلك الحقيقة أثر للحق فقولنا حقائق الأشياء ثابتة
وإن لم يكن مجعولة لكونها أمورا معقولة لا أعيان لها في الخارج لكنها لا يقال في حقها أنها ليست بفيض الفياض فلا حقيقة في أنفسها لكونها آثارا لا حقيقة الحق الفياض لذلك كان الحق حقيقة الحقائق
خلق اللّه آدم على صورته وهو آدم عليه السلام الحقيقي الذي هو العقل الأول والروح المحمدي لا آدم الصوري العنصري وهو أول ما خلقه اللّه من الأشياء وهو حقيقة الإنسان الكامل عند أهل الكشف الذي خلق اللّه على صفة الكامل ،
وهو أمر لطيف نوري ومن لطافته ينشعب منه الأرواح الكثيرة وما نقص بالانشعاب وما زاد بعدم لذلك قال الرسول عليه السلام : " أنا أب الأرواح وأم الأشياء "
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وتلك الصورة كلها ) التي تظهر فيها الحقيقة الواحدة اسمائية كانت أو كونية ( كالأعضاء لزيد ) من بعض الوجوه وهو تمثيل بالظاهر لما في الباطن ) فمعلوم أن زيدا حقيقة واحدة شخصية ، وأن صورة يده ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبيه فهو الكثير الواحد الكثير بالصور الواحد بالعين ) أي الكثير باعتبار أجزائه إذ لكل جزء من أجزائه صورة شخصية يمتاز بها عن الآخر فكان بالنسبة إلى أجزائه كثيرا وواحدا باعتبار حقيقته الشخصية إذ هي صورة واحدة ممتازة بذاتها عن الآخر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكالإنسان بالعين ) أي باعتبار حقيقته الكلية ( واحد بلا شك ولا شك أن عمرا ما هو زيد ولا خالد ولا جعفر ) في الصورة ( وأن أشخاص هذه العين الواحدة لا يتناهى وجودا فهو ) أي الإنسان ) وإن كان واحدا بالعين فهو كثير بالصور والأشخاص ) فكذلك الحق تعالى جل ذكره واحد من حيث ذاته كثير بحسب أسمائه وصفاته فلا تعدد في ذاته بتعدد أسمائه وصفاته . ولما فرغ عن التمثيل شرع في المقصود من التمثيل .
 
فقال رضي الله عنه : ( وقد علمت قطعا إن كنت مؤمنا ) بالشرائع ( أن الحق عينه ) وعينه تأكيدا للحق ( يتجلى يوم القيامة في صورة فيعرف ثم يتحول في صورة فينكر ثم يتحول عنها ) فيتجلى ( في صورة فيعرف وهو ) أي الحق ( هو المتجلي ) وجاء ضمير الفصل لحصر التجلي بالحق ( ليس غيره ) تأكيدا للحصر ( في كل صورة ) تنازعا فيه المتجلي وليس فأيهما أعمل قدّر مفعول الآخر كما أن المتجلي في صورة زيد وعمرو وخالد ليس إلا عين الإنسان لا غير .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومعلوم أن هذه الصورة ما هي تلك الصورة الأخرى ) أي الصورة المعروفة ليست عين الصورة المنكرة ولا الصورة المعروفة عين الصورة المعروفة الأخرى ( فكأن ) بالتشديد ( العين الواحدة ) وهي الذات الإلهية ( قامت مقام المرآة ) في ظهور اختلاف الصور فيها بعين الناظرين ) فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقدة في اللّه عرفه فأقرّ به وإذا اتفق أن يرى فيها معتقد غيره أنكره كما يرى في المرآة صورته وصورة غيره فالمرآة عين واحدة والصورة كثيرة في عين الرائي و ) الحال ( ليس في المرآة صورة منها ) أي من الصور التي رأى الرائي فيها ( جملة واحدة ) أي أصلا بل الصور إنما تحصل في عين الرائي عند نظره في المرآة ( مع كون المرآة لها أثر في الصور بوجه وما ) أي ليس ( لها أثر بوجه فالأثر الذي لها ) أي المرآة ) كونها ) أي كون المرآة ( تردّ الصورة ) إلى الناظر ( متغيرة الشكل من الصغر والكبر والطول والعرض ) فإذا كان الأمر كذلك ( فلها ) أي للمرآة ( أثر في المقادير وذلك الأثر راجع إليها ) أي إلى المرآة لا إلى الرائي
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما كانت هذه التغيرات منها لاختلاف مقادير المرايا ) فللحق أثر في الصورة الظاهرة في مرآته بحسب تجلياته الذاتية وللرائي أثر بحسب اعتقاده إذ الحق لا يتجلى له إلا بصورة اعتقاده فكان للحق أثر بوجه وما له أثر بوجه فأهل الذوق والتمييز لعلمه بمراتب الأشياء يلحق كل أثر إلى صاحبه يعطي كل ذي حق حقه فإن طلبت أنت معرفة الحق بالمثال الشهادي
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فانظر في المثال مرآة واحدة من هذه المرائي لا تنظر الجماعة ) أي لا ينظر العامة بل ينظر الخواص ، فإن العامة لا تنظر فيها لطلب معرفة اللّه بل إنما تنظر لمعرفة صورته المجهولة له بوجه والخواص إنما ينظرون من حيث كونها مثالا لمعرفة اللّه هنالك مطلبهم أو بتاء الخطاب فمعناه لا تنظر كثرة المرآة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهو ) أي النظر في المثال مرآة واحدة ( نظرك ) في الحق ( من حيث كونه ذاتا فهو ) أي الحق من هذه الحيثية ( غني عن العالمين ) لا يكون مرآة لأحد ولا يكون أحد مرآة له فكما أن المرآة المنظور فيها من حيث نفسها واحدة غنية عن الصور الحاصلة فيها كذلك ذات الحق ( من حيث ذاته غني عن العالمين ) وانظر إلى المرايا المتخالفة في المقدار وهو نظرك في الحق ( من حيث الأسماء الإلهية فكذلك الوقت ) أي وقت نظرك في الحق من حيث الأسماء الإلهية.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( يكون ) الحق ) كالمرايا المتكثرة المتخالفة المقادير فأيّ اسم إلهي نظرت ) أنت ( فيه نفسك أو من نظر فيه ) نفسه ( فإنما يظهر للناظر حقيقة ذلك الاسم ) كما يظهر للناظر حقيقة المرآة من الطول في المرآة الطويلة والعرض من المرآة العريضة والصغر والكبر والناظر واحد وهذه الصور المختلفة هي حقائق المرايا تظهر للناظر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهكذا ) أي فكما ذكرنا ( هو ) الشأن ( الأمر ) في حق الحق ( إن فهمت ) فاطلب بقتل نفسك بالفناء في اللّه فاصبر بالبلايا في طريق الوصول إلى ما ذكرناه من معرفة الحق ( فلا تجزع ولا تخف ) وكن شجاعا على قتل نفسك فإنه يوصلك إلى شهود الحق ( فإن اللّه يحب الشجاعة ولو على قتل حية ) حقيرة خارجة عنك قليلة الضرّ والعداوة التي لا تضرّك إذا لم تقتل فلا يجب عليك قتلها مع أنها لو قتلها وصلت درجة الشجاعة فاستحقت حب اللّه
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وليست الحية ) الكاملة في العداوة المهلكة الواجب القتل المانعة عما ذكرناه من المعارف الإلهية ( سوى نفسك ) فإذا قتلها بالفناء في اللّه فقد وصلت أعلى درجة الشجاعة فاستحقت كمال حب اللّه فلما شجع السالكين إلى محاربة النفس ونفلهم من قتل قتيلا فله سلبه ، وسلب النفس حب اللّه ومعرفته رجع إلى تحقيق القتل والاعدام وجعله مبني لبيان المعارف بعده.
 
فقال رضي الله عنه  : ( والحية حية لنفسها بالصورة والحقيقة ) أي الحية لا تعدم بالقتل مطلقا بل هي باقية بذاتها وحقيقتها بصورتها النوعية وإن انعدمت بالصورة الحسية ( والشيء لا يقتل عن نفسه ، وإن أفسدت الصورة في الحس ) فنفسه باقية بالصورة البرزخية قال بعض الأفاضل إنما نقل الكلام في هذه الحكمة الايناسية إلى بيان البقاء وكشف المعاد
لأن إلياس كان إدريس فارتفع إلى السماء وبقي فيها وفني صورته الشخصية ثم عاد إلى الصورة الالياسية تم كلامه وليس بصحيح لأن إدريس إنما رفع إلى السماء بعد تحصيل الاعتدال الحقيقي الذي هو سبب للبقاء فينا في فناء صورته الشخصية

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:00 am

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثاني .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية              الجزء الثاني
وإنما جاءت الصورة الالياسية لتحويل الحق باطنه في النشأة الأخروية فيحشر بالحشر الروحاني مع بقاء صورته الشخصية كما سيأتي تحقيقه تفصيلا في المتن ولا إشارة في كلام المصنف إلى ما قاله ذلك الفاضل بل كلامه كله في هذا المقام يدل على خلافه ومثل هذا الكلام ينشأ من الميل إلى التناسخ وإنما يبقى ذات المقتول أو الميت بالصورة ( فإن الحد ) أي حد المقتول ) يضبطها ) أي الصورة ( والخيال ) البرزخي ( لا يزيلها ) أي الصورة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا كان الأمر على هذا فهذا هو الأمان من اللّه على الذوات والعزة والمنعة فإنك لا تقدر على فساد الحدود وأيّ عزة أعظم من هذه العزة ) وفيه دلالة على أن الإنسان في الحقيقة هو الروح الباقي أزلا وأبدا ولا يفنى بفناء الصورة العنصرية ، بل يصوّر بصورة بحسب استعداده وينتقل إلى عالم آخر فلا قتل ولا موت عن نفسه فلا خوف من الموت لمن انكشف له هذا المعنى وإنما الخوف للمحجوبين ( فتتخيل ) أنت ( بالوهم ) الفكري ( أنك قتلت ) وأزلت الصورة مطلقا ( وبالعقل ) المنور بنور القدس ( والوهم ) السلطاني ( لم تزل الصورة موجودة في الحد ) وإنك لا تقتل إلا في تخيل عقلك المشوب بالوهم والأمر في نفسه ليس على ما في تخيلك بل القاتل في الحقيقة هو اللّه لا أنت .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والدليل على ذلك ) أي على أنك قاتل في تخيلك بالوهم وأن اللّه هو القاتل في الحقيقة لا أنت ( قوله تعالى :وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى[ الأنفال : 17 ] ،والعين ما أدركت إلا الصورة المحمدية التي ثبت لها الرمي في الحس وهي ) أي الصورة المحمدية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( التي نفى اللّه الرمي عنها أوّلا ) بقولهما رَمَيْتَ ( ثم أثبته ) أي الرمي ( لها ) أي للصورة المحمدية ( وسطا ) بقوله إِذْ رَمَيْتَ بناء على ما أدركته العين من ثبوت الرمي لها في الحس ( ثم عاد بالاستدراك أن اللّه هو الرامي في صورة محمدية ) فاثبت الحق لنفسه الرمي ملاصقا بالصورة المحمدية لا من حيث كونه مجردا عنها والمقصود أن الرمي أثر حاصل بينهما .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا بد من الإيمان بهذا فانظر إلى هذا المؤثر ) وهو الرمي فإنه وإن كان في التحقيق أثرا للحق لكنه يؤثر فيه ( حتى أنزل ) هذا المؤثر ( الحق في صورة محمدية ) فالمعلول علة لعلة بوجه كما سيأتي فإن تأثير الحق في وجود الرمي وتأثير الرمي في نزول الحق في صورة رامية ليظهر منه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأخبر ) الحق قوله ( نفسه ) بالنصب أو بالرفع ( عباده بذلك ) أي رميه في صورة محمدية ( فما قال أحد منا ذلك بل هو قائل عن نفسه وخبره صدق والايمان به واجب سواء أدركت ) بالذوق والشهود ( علم ما قال ) الحق في الرمي ( أو لم تدركه ) فإذا وجب الايمان به ( فإما عالم ) أنت ( وإما مسلم مؤمن ) ولا ثالث إلا باطل وهو العقل الذي ينقاد إلى نظره الفكري في تحصيل مجهولاته ، فإن طابق شيء بنظره الفكري قبل وإلا فلا
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومما يدلك على ضعف النظر العقلي من حيث فكره كون العقل يحكم على العلة أنها لا تكون معلولة لمن هي علة له هذا حكم العقل لإخفاء به وما ) أي وليس ( في علم التجلي إلا هذا )
قوله ( وهو ) بيان لما أشير إليه بهذا فهو ضمير الشأن ( أن العلة تكون معلولة لمن هي علة له ) فالعقل يحكم على أن العلة لا تكون معلولة لمعلولها والكشف وهو العلم الحاصل من التجلي يحكم على أن العلة تكون معلولة لمعلولها فلا يصح حكم العقل من حيث نظره الفكري وإلا لما حكم على أن العلة ليست معلولة لمعلولها
وليس كذلك بل العلة قد يكون معلولة لمعلولها بالكشف الصحيح وجاء من العقل الحكم الصحيح إذا تحرز عن الفكر عند رؤية الأمر على ما هو عليه وبينه بقوله ( والذي حكم به العقل صحيح ) واقع مطابق بما في نفس الأمر ( مع التحرز في النظر ) أي إذا لم يقف مع نظره الفكري بل جرد نفسه عنه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وغايته ) أي غاية العقل ( في ذلك ) أي في صحة حكمة مع التحرز في نظره ( أن يقول إذا رأى ) العقل ( الأمر على خلاف ما أعطاه الدليل النظري ) قوله ( إن العين ) مقول القول ( بعد أن ثبت ) أي بعد التسليم ( أنها ) أي العين ( واحدة في هذا الكثير ) فإذا كانت واحدة ( فمن حيث هي علة في صورته من هذه الصور ) وهي صورته العلية ( لمعلول ما ) يتعلق بقوله علة ( فلا يكون ) العين (معلولة لمعلولها في حال كونها علة) أي حال كون العين علة لذلك المعلول ( بل ينتقل الحكم ) أي حكم العلية والمعلولية (بانتقالها ) أي بانتقال العين ( في الصور فتكون ) العين التي هي علة في صورة ( معلولة لمعلولها فيصير معلولها ) أي معلول العين ( علة لها ) أي للعين كالمعلول الأول وهو العقل الأول فإن العين علة له
فلما انتقل العين إلى المعلول الثاني وهو نفس الكلية يصير العقل الأول علة لظهور العين في صورة النفس الكلية
ومما أظهر لك منه آدم وحواء أو بنوه فإن العين تعينت في صورة من الصور فكانت علة لآدم فلا يكون العين معلولة لآدم في حال كونها علة له بل ينتقل الحكم بانتقال العين التي هي علة لآدم إلى صورة حوّاء وصورة البنين والبنات فيصير آدم علة للعين في ظهورها بهذه الصورة .
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  (هذا ) الحكم الصحيح ( غايته ) أي غاية العقل ( إذا كان قدر أي الأمر على ما هو عليه ) وهو رؤيته أن العين واحدة في الكثير ( ولم يقف مع نظره الفكري ) فإذا وقف مع نظره الفكري ولم يتحرز في النظر لا يجيء هذا الحكم منه بل يحكم على العلة بأنها لا يكون معلولة لمعلولها


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا كان الأمر في العلية ) في حق النظر العقل ( بهذه المثابة ) فإنه لا يدرك الأمر في العلية على ما كان عليه إلا مع التحرز في النظر فلا يسع الأمر في هذا المضيق مع أن الأمر لم يكن خارجا عن طوره في هذا المقام
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما ظنك باتساع النظر العقلي في غير هذا المضيق ) الذي أضيق منه فإن من الأمور أضيق منه بحيث كانت خارجة عن طور النظر العقلي فكيف يتسع العقل فيها فلا تظن أن العقل يدركها بالنظر فإنما علمها بالتجلي الإلهي
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فلا أعقل من الرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين ، وقد جاءوا به في الخبر عن الجناب الإلهي فأثبتوا للحق ما أثبته العقل وزادوا فيما لا يستقل العقل بإدراكه) بل يحتاج إلى التجلي الإلهي (وما يخيله رأسا) أي ولا يخيل العقل ثبوته للحق بكلية (ويقرّ به)
من الإقرار ( في التجلي الإلهي ) إذ التجلي يزيل حكم النظر العقلي أي زادوا كل ذلك في الإثبات ( فإذا خلا ) العقل ( بعد التجلي بنفسه ) أي رجع إلى مرتبة عقله ( حار فما رآه ) فإذا كان الأمر كذلك ( فإن كان ) العبد ( عبد رب ردّ العقل إليه ) إلى ربه كالأنبياء والأولياء
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن كان ) العبد ( عبد نظر ردّ الحق إلى حكمه ) أي حكم العقل أو فإن كان المتجلي له عبد ربّ ردّ إلخ ( وهذا ) أي رد الحق إلى حكم العقل ( لا يكون إلا ما دام ) المتجلي له ( في هذه النشأة الدنيوية محجوبا عن نشأة الأخروية في الدنيا فإن العارفين يظهرون هنا ) أي في عالمنا هذا ( كأنهم في الصورة الدنيوية لما يجري عليهم من أحكامها ) أي من أحكام الدنيوية
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واللّه تعالى قد حوّلهم في بواطنهم في النشأة الأخروية لا بد من ذلك ) التحول لهم وإلا لم يكونوا عارفين ( فهم بالصورة مجهولون ) لا يعلمهم الناس فإنهم ستروا اللّه عن أعين الأغيار فسترهم اللّه عن أعين المحجوبين ( إلا لمن كشف اللّه ) غطاءه ( عن بصيرته فأدرك ) وهم الذين قال تعالى في حقهم : أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما من عارف باللّه من حيث التجلي الإلهي إلا وهو على النشأة الأخروية قد حشر في دنياه ونشر من قبره ) في باطنه ( فهو يرى ما لا يرون ) أي المحجوبون ( ويشهد ما لا يشهدون عناية من اللّه ببعض عباده في ذلك ) المقام الدنيوي فعجل لهم ما أجل لغيرهم فأنشأ اللّه العارفين نشأتين فجمع العارفون في حال حياتهم نشأتين دنيوية وأخروية.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أراد العثور ) أي الاطلاع ( على هذه الحكمة الالياسية الإدريسية الذي أنشأه اللّه نشأتين ) فجمع الالياس وهو إدريس نشأتين نشأة دنيوية ونشأة أخروية من حيث التجلي الإلهي كما ذكر في حق العارفين ( فكان نبيا قبل نوح ثم رفع ) إلى السماء ( ونزل رسولا بعد ذلك فجمع اللّه ) فيه ( بين المنزلتين ) النبوة والرسالة ( فلينزل ) جواب من ( عن حكم عقله إلى شهوته وليكن حيوانا مطلقا ) بحيث لا يحكم العقل عليه أصلا فيفوته العقل مطلقا ( حتى يكشف ) ذلك النازل ( ما يكشفه كل دابة ما عدا الثقلين ) من أحوال الموتى من التنعيم والتعذيب ( فحينئذ ) أي فحين يكشف ما يكشف كل دابة ( يعلم أنه قد تحقق بحيوانيته ) فيه أنزل منزلة إدريس حيث نزل عن سماء غفلة إلى أرض نفسه فهذا النزول لا يكون إلا بعد العروج إلى سماء الروح بالرياضات والمجاهدات كما كان رفع إدريس إلى السماء كذلك
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعلامته ) أي وشرط التحقق بمقام الحيوانية ( علامتان الواحدة هذا الكشف ) المذكور وهو قوله حتى يكشف ما يكشفه كل دابة فإذا كشف هذا المذكور ( فيرى من يعذب في قبره ومن ينعم ويرى الميت حيا في قبره والصامت متكلما والقاعد ماشيا والعلامة الثانية الخرس بحيث أنه لو أراد أن ينطق بما رآه لم يقدر فحينئذ ) أي فحين تحقق العلامتان .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( يتحقق بحيوانيته وكان لنا تلميذ قد حصل له هذا الكشف غير أنه لم يحفظ عليه الخرس فلم يتحقق بحيوانيته ) لعدم وجود العلامتين ( ولما أقامني اللّه تعالى في هذا المقام تحققت بحيوانيتي تحققا كليا فكنت أرى وأريد أن أنطق بما أشاهده فلا أستطيع فكنت لا أفترق بيني وبين الخرس الذين لا يتكلمون فإذا تحقق ) ذلك النازل ( بما ذكرناه ) من مقام حيوانيته ( انتقل إلى أن يكون عقلا مجردا في غير مادة طبيعية ) فحينئذ قد تحقق بمقام إلياسية (فيشهد أمورا) كلية مجردة في غير مادة طبيعية ( هي أصول لما تظهر في الصورة الطبيعية ) كشهود إلياس.
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فيعلم ) حينئذ ( من أين يظهر هذا الحكم ) وهو الرمي والقتل وغير ذلك ( في الصور الطبيعية علما ذوقيا ) كما علم إلياس ( فإن كوشف ) لهذا العارف المشاهد أصول الأمور مع هذا الكشف ( على أن الطبيعية عين النفس الرحمن فقد أوتي خيرا كثيرا وإن اقتصر ) هذا العارف ( معه ) أي مع هذا الكشف ( على ما ذكرناه فهذا القدر ) أي كشف الأصول الظاهرة في صور الطبيعة على الاقتصار ( يكفيه من المعرفة الحاكمة على عقله فيلحق بالعارفين ويعرف عند ذلك ) الشهود ( ذوقا ) معنى قوله تعالى :فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ[ الأنفال : 17 ] ، لشهوده كيفية صدور الأفعال من اللّه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما قتلهم ) في الحقيقة ( إلا الحديد والضارب والذي خلق هذه الصورة ) الضاربية والحديدية وهو الذات الإلهية الباقية بعد إفناء هذه الصورة العنصرية ( فبالمجموع وقع القتل والرمي فيشاهد الأمور بأصولها ) وهي الحقائق المجردة الإلهية والحقائق المجردة الكونية ( وصورها ) الطبيعية والعنصرية ويشاهد كيفية صدور الأحكام من جملتها ( فيكون تاما ) في المعرفة باللّه لا كاملا ( فإن شهد النفس ) أي فإن شهد مع ذلك أن النفس الرحمن عين الطبيعية .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كان مع التمام كاملا ) في المعرفة باللّه فعلى هذا التقدير ( فلا يرى إلا اللّه في عين كل ما يرى فيرى الرائي عين المرئي ) فمن حيث أنه كاملا يرى الرائي عين المرئي ويرى غيره من حيث أنه تام لا كامل فجمع بين الشهودين شهود النفس الرحمن وشهود أصول الأمور وصورها فلكل شهود حكم في هذا العارف ( وهذا القدر ) من البيان في المعرفة باللّه ( كاف ) للطالبين والسالكين إلى اللّه ( واللّه الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد ) .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس مارس 12, 2020 2:24 am

23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص اللقماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية
ولاختصاص الخير الكثير بلقمان بالنص أورد هذه الحكمة في كلمته 
"" أضاف المحقق :
موضع هذا الفص « الإحسان » وهو في اللّغة فعل ما ينبغي أن يفعل من الخير ، بالمال أو بالقول أو العمل .
وفي الشرع أن تتوجه إلى اللّه في عبادتك بكليتك وتتمثله في محرابك .
وهو في عرف أصحاب « وحدة الوجود » شهود الحق في جميع المراتب الوجودية والتحقق من أنه متجل في كل شيء . وهذا المعنى الأخير هو ما يدور عليه هذا الفص. أهـ ""
شعر:  
إذ شاء الإله يريد رزقا ... له فالكون أجمعه غذاء
(إذ شاء الإله يريد رزقا له ) أي إذا أراد الحق سببا لظهور نفسه .
( فالكون أجمعه غذاء له ) من حيث إظهارها إياه واختفاؤها فيه .
 
وإن شاء الإله يريد رزقا ... لنا فهو الغذاء كما يشاء
( وإن شاء اللّه يريد رزقا لنا فهو ) أي الحق ( الغذاء ) لنا من حيث اختفائه فينا وبقاء وجودنا به ( كما نشاء ) من اللّه بحسب استعدادنا. وقابليتنا الرزق والغذاء
ولفظ كما نشاء يجوز على صيغة المتكلم والغائب فالرزق والغذاء روحاني ومجاز من الغذاء الصوري والرزق الصوري يطلق على هذا المعنى لأدنى مناسبة ففرق بين المشية والإرادة حيث جعل المشية متعلقة بالإرادة
فكانت سابقة على الإرادة فكانت سابقة على الإرادة بالسبق الذاتي كسبق بعض الصفات على البعض فهي غيرها من هذا الوجه .
 
مشيئته إرادته فقولوا ... بها قد شاءها فهي المشاء
( مشيته ) عين ( إرادته فقولوا بها قد شاءها ) أي بالمشية قد شاء الإرادة
( فهي ) أي الإرادة ( المشاء ) بفتح الميم أي المراد فهذا وجه اتحادهما ومعنى البيت الأول على تقدير الاتحاد إذ شاء الإله أن يشاء فحينئذ يكون المشية المشاء ويفرق بينهما فرقا آخر
يريد زيادة و يريد نقصا ... وليس مشاءه إلا المشاء
بقوله ( يريد زيادة ويريد نقصا ) يعني أن الإرادة يتعلق بزيادة شيء ونقصه ( وليس مشاؤه إلا المشاء ) أي لا يتعلق مشيته بزيادة شيء ونقصه بل هي العناية الإلهية المتعلقة بإيجاد المشاء من غير تعرض إلى الزيادة والنقصان.


فهذا الفرق بينهما فحقق ... ومن وجه فعينهما سواء
(  فهذا الفرق بينهما محقق فمن وجه فعينهما سواء ) وهو كون عين كل واحد منهما عين الذات من حيث الأحدية .
 
قال رضي الله عنه :  ( قال اللّه تعالى :وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [ لقمان : 12 ] ،وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً[ البقرة : 269 ] ، فلقمان بالنص هو ذو الخير الكثير بشهادة اللّه له بذلك ) أي بكونه ذا الخير الكثير .
 
قال رضي الله عنه :  ( والحكمة قد تكون متلفظا بها وقد تكون مسكوتا عنها ) أما الحكمة المتلفظ بها ( مثل قول لقمان لابنهيا بُنَيَّ إِنَّها) أي القصة (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، فهذه حكمة منطوق بها وهي إن جعل اللّه هو الآتي بها وقرّر اللّه ذلك ) الكلام ( في كتابه ولم يردّ هذا القول على قائله ) مع أن الإتيان يضاف إلى العبد أيضا ولم يقل الحق للقمان ليس الأمر كما قلت فدل ذلك على أن كل آتي الحبة عين الحق من جهة الحقيقة .
 
قال رضي الله عنه :  ( وأما الحكمة المسكوت عنها ) قوله ( وعلمت ) معطوف على قول المسكوت باعتبار تضمنه بمعنى الفعل تقديره الذي سكت عنها وعلمت تلك الحكمة ( بقرينة الحال ) وجواب .
أما قوله ( فكونه سكت عن الموتى إليه بتلك الحبة فما ذكره ) أي لقمان المؤتى إليه
( ولا قال لابنه يأت بها اللّه إليك ولا إلى غيرك فأرسل لقمان الإتيان عاما ) أي لا يجعل متعلقا بشيء ( وجعل المؤتى به ) وهو حبة من خردل ( في السماوات ) وإن كان ذلك المؤتى به فيها ( أو في الأرض ) وإن كان ذلك فيها ( تنبيها ) بذلك الجعل .
 
قال رضي الله عنه :  ( لينظر الناظر في قوله "وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ " فنبه لقمان بما تكلم به ) وهو جعل المؤتى به في السماوات أو في الأرض وجعل الآتي هو اللّه .
قال رضي الله عنه :  ( وبما سكت عنه ) وهو سكوته عن المؤتى إليه ( أن الحق عين كل معلوم ) سواء كان موجودا أو معدوما .
قوله ( لأن المعلوم أعم من الشيء ) دليلا على تنبيهه بالمنطوق والمسكوت عنه من أن الحق عين كل معلوم ، لأن المراد بهذا التنبيه تعميم إحاطة الحق ، وهذا لا يتم إلا بما هو أعم .

ولو كان الشيء أعم من المعلوم لنبه به ، فقال إن الحق عين كل شيء فلو وجد أعم من المعلوم لأتي به وبهذا المعنى أشار بقوله فأرسل الإتيان عاما فما حذف المفعول إلا للتعميم ولو قيل عين كل شيء لفات التعميم واختص إحاطة الحق وهو يخالف بما هو المفهوم من كلام لقمان من التكلم والسكوت فهذا التعميم ثبت من كلامه اقتضاء .

فاقتضى هذا الكلام أن الحق عين أعم الأشياء صدقا ولا أعم من المعلوم فكان عين كل معلوم
( فهو ) أي الشيء ( أنكر النكرات ) وأعلاها فاستوى المعلوم مع الحق في رتبة الإحاطة دون الشيء وغيره من النكرات.
 
قال رضي الله عنه :  ( ثم تمم الحكمة واستوفاها لتكون النشأة ) اللقمانية ( كاملة فيها ) أي في الحكمة والمعرفة ( فقال إن اللّه لطيف فمن ) غاية ( لطافته ولطفه أنه ) أي اللّه (في الشيء المسمى بكذا المحدود بكذا) أي في الأشياء المختلفة الأسماء والحدود (عين ذلك الشيء).
فإن اللطيف للطافته يرى الكثيف ( حتى لا يقال فيه ) أي لا يحمل في حق ذلك الشيء ( إلا ما يدل عليه اسمه ) وما عبارة عما يدل عليه اسم ذلك الشيء من المفهوم .
 
فإن قولنا هذا سماء لا يحمل على المبتدأ إلا مدلول السماء ( بالتواطؤ ) أي بالتوافق ( والاصطلاح فيقال هذا سماء وأرض وصخرة وشجر وحيوان وملك ورزق وطعام و ) الحال أن ( العين واحدة من كل شيء ) مسمى بالأسماء المختلفة ومحدود بالحدود المختلفة .
( وفيه ) أي وفي موجود كل شيء ( كما تقول الأشاعرة أن العالم كله متماثل بالجوهر ) كتماثل أفراد الإنسان بالإنسان ( فهو جوهر واحد ) في كل تماثل كما أن الإنسان واحد في كل تماثل من أفراده.
 
قال رضي الله عنه :  ( فهو ) أي قول الأشاعرة ( عين قولنا العين واحدة ثم قالت ) الأشاعرة ( ويختلف ) ذلك الجوهر الواحد ( بالأعراض وهو ) أي هذا القول ( قولنا ويختلف ) العين ( ويتكثر بالصور والنسب حتى يتميز فيقال هذا ليس هذا من حيث صورته أو عرضه أو مزاجه كيف شئت فقل وهذا عين هذا من حيث جوهره ولهذا ) أي ولأجل اتحاد كل شيء في الجوهر الواحد.
( يؤخذ عين الجوهر في حد كل صورة ومزاج فيقول إنه ليس سوى الحق ويظن المتكلم ) بعقله ونظره الفكري .
 
قال رضي الله عنه :  ( أن مسمى الجوهر وإن كان حقا ثابتا في نفسه ما ) أي ليس ( هو عين الحق الذي يطلقه أهل الكشف والتجلي ) من أن مسمى الجوهر هو الحق تعالى وهو جوهر حقيقي سار في كل شيء ( فهذا ) السريان في الأشياء ( حكمة بكونه ) أي كون الحق ( لطيفا).
( ثم نعت ) لقمان الحق ( فقال خبيرا أي عالما عن اختبار وهو ) أي كون الحق عالما عن اختبار قوله تعالى:  (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ) [ محمد : 31 ] .
 
قال رضي الله عنه :  (وهذا ) أي العلم الاختباري ( هو علم الأذواق ) أي مختص بالذوق الذي لا يحصل إلا بالقول (فجعل الحق نفسه مع علمه ) بالعلم المطلق ( بما هو الأمر عليه مستفيدا علما ) بقوله حَتَّى نَعْلَمَ وهو علم الذوق لا العلم المطلق .
( ولا يقدر على إنكار ما نص الحق عليه في حق نفسه ففرق تعالى ما بين علم الذوق والعلم المطلق ) بقوله حَتَّى نَعْلَمَ فيتميز الاسم الخبير من الاسم العليم ( فعلم الذوق مقيد بالقوى ) الروحانية أو الجسمانية .
 
قال رضي الله عنه :  ( وقد قال تعالى عن نفسه أنه عين قوى عبده في قوله كنت سمعه وهو ) أي السمع ( قوة من قوى العبد وبصره وهو قوة من قوى العبد ولسانه وهو عضو من أعضاء العبد ورجله ويده ، فما اقتصر في التعريف ) أي في تعريف نفسه ( على القوى فحسب حتى ذكر الأعضاء ) لحصول العلم الذوقي.
قال رضي الله عنه :  ( وليس العبد بغير لهذه الأعضاء والقوى ) فعلى هذا ( فعين مسمى العبد ) ومسمى العبد مجموع الأعضاء والقوى ( هو الحق لا عين العبد هو السيد ) .
فإذا اعتبر السيادة والعبودية لا يمكن أن يكون أحدهما عين الآخر وإنما لم يكن عين العبد هو السيد وكان عين مسمى العبد هو الحق ( فإن النسب متميزة لذاتها ) وهي السيادة والعبودية وغيرهما ( وليس المنسوب إليه متميزا فإنه ليس ثمة ) أي في العالم ( سوى عينه في جميع النسب فهو عين واحدة ذات نسب وإضافات وصفات ) وما الكثرة إلا في هذه المراتب والعين التي ظهرت فيها واحدة .
 
قال رضي الله عنه :  ( فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ابنه ما جاء به في هذه الآية من هذين الاسمين الإلهين لطيفا خبيرا سمى بهما اللّه تعالى فلو جعل ذلك ) أي ما جاء به من الاسمين ( في الكون وهو الوجود فقال كان اللّه ) لطيفا خبيرا .
( لكان ) ذلك القول ( أتم في الحكمة وأبلغ ) لدلالته على اتصاف الحق في الأزل بهذين الاسمين بخلاف قوله إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ.
 
قال رضي الله عنه :  ( فحكى اللّه قول لقمان على المعنى كما قال ) لقمان ( لم يزد عليه شيئا ) من الكون ( وإن كان قوله ) أي قول لقمان (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌمن قول اللّه ) فإن اللّه أخبر عن نفسه بذلك لجميع الأنبياء لكن لما تكلم به لقمان في تعليمه لابنه جعل اللّه من قول فحكى عنه .
 
قال رضي الله عنه :  ( فلما علم اللّه تعالى من لقمان أنه لو نطق متمما لتمم بهذا ) فحكاية اللّه قول لقمان من غير زيادة مع احتياجه إلى الزيادة كانت من تمام حكمة لقمان وإنما لم ينطق متمما مع أن المقام التتميم لأنه أورد في مقام التعليم والنصيحة
فالواجب عليه الإتيان بما هو أول على المعرفة باللّه متأدبا مع اللّه لعلمه أن هذا القول قول اللّه
 
فحكى كما قال لابنه من غير زيادة فتأدب اللّه معه فحكى قوله كما قال
فكان عدم نطقه متمما مع علمه بالتتميم من تمام كلمته
فجواب فلما محذوف لدلالة قوله فحكى اللّه تقديره فلما علم اللّه من لقمان أنه لو نطق متمما لتمم بهذا حكى اللّه قوله كما قال لم يردّ عليه شيئا حذف للعلم به .
 
قال رضي الله عنه :  ( وأما قوله ) أي وأما الحكمة في قوله : (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ[ لقمان : 16 ] لمن ليس له غذاء وليس ) ذلك المتغذي ( إلا الذرة المذكورة في قوله :فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [ الزلزلة : 7 - 8 ] .
وجواب أما قوله ( فهي ) أي الذرة التي هي النملة الصغيرة ( أصغر متغذ ) من الحيوان ( والحبة من الخردل أصغر غذاء ) من الأغذية ( ولو كان ثمة ) أي في العالم ( أصغر ) غذاء ومتغذيا من خردل وذرة ( لجاء به كما جاء بقوله :إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً ) [ البقرة :26 ] ،
قال رضي الله عنه :  (ثم لما علم أنه ثمة ما هو صغر من البعوضة قال فما فوقها يعني في الصغر وهذا قول اللّه ) أي ليس حكاية عن قول أحد ( والتي في الزلزلة قول اللّه أيضا فاعلم ذلك فنحن نعلم أن اللّه ما اقتصر على وزن الذرة و ) الحال أن ( ثمة ) أي في العالم من المتغذي كان ( ما هو أصغر منها ) بل إنما اقتصر لعدم كونه أصغر من الذرة .
 
قال رضي الله عنه :  ( فإنه جاء ) أي لو كان ثم أصغر من الذرة لجاء ( بذلك ) الأصغر أيضا ( على المبالغة ) إذ الكلام سيق للمبالغة كما جاء في ضرب المثل بقولهفَما فَوْقَهاولما شبه الحق بقوله فنحن نعلم نزه بقوله ( واللّه أعلم ) وهذا تأدب منه مع اللّه
قال رضي الله عنه :  ( وأما تصغيره اسم ابنه فتصغير رحمة ) لا أنه صغير غير بالغ في نفسه ( ولهذا ) أي ولأجل تصغيره تصغير رحمة ( وصاة بما فيه سعادته إذا عمل بذلك ) أي بما وصاة ( وأما حكمة وصيته في نهيه إياه ) أي ابنه ( أن لا تشرك باللّه ) أي لا تقل أن فيهما آلهة يتصرفون على الاشتراك فإن اللّه فرد واحد لا ثاني له في نفس الأمر فإن شركت باللّه فما أشركت إلا مع عينه.
 
قال رضي الله عنه :  ( فإن الشرك لظلم عظيم ) والظلم يقتضي المظلوم ( والمظلوم المقام ) الذي وقع فيه الظلم ( حيث نعته ) أي حيث وصف المشرك ذلك المقام الذي هو الحق ( بالانقسام ) إلى الاثنينية ( وهو ) أي الحال أن المقام ( عين واحدة ) وهو اللّه الواحد بالوحدة الذاتية وجوب .
أما قوله ( فإنه ) أي الشريك ( لا يشرك معه ) أي مع اللّه ( إلا عينه وهذا ) أي الإشراك مع اللّه عينه ( غاية الجهل ) لذلك قال عظيم فقد ظلم نفسه بالجهل حيث لم يعلم بأن العين واحدة لا تقبل الانقسام ،.
وجعل له شريكا وما جعله شريكا إلا عينه إذ إثبات الشريك معه في ملكه يقتضي انقسام ذلك العين الواحدة التي لا تقبل الاثنينية فما قسمه إلا إلى عينه فلا يشرك إلا عينه .
 
لذلك قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسبب ذلك ) الإشراك الذي هو غاية الجهل ( أن الشخص الذي لا معرفة له بالأمر على ما هو عليه ولا بحقيقة الشيء إذا اختلفت عليه الصور في العين الواحدة وهو لا يعرف أن ذلك الاختلاف في عين واحدة جعل الصورة مشاركة للأخرى في ذلك المقام فجعل لكل صورة جزءا من ذلك المقام ومعلوم في الشريك إن الأمر الذي يخصه ) أي يخص الشريك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( مما وقعت فيه المشاركة ليس ) ذلك الأمر ( عين ) الأمر ( الآخر الذي يشاركه إذ هو للآخر فإذا ما ثمة شريك على الحقيقة فإن كل واحد ) منهما كان ( على حظه ) أي نصيبه ( مما قيل فيه أن بينهما مشاركة فيه ) كالإنسان والفرس فإن الحيوان الذي يخص الإنسان ليس عين الحيوان الذي يخص الفرس ، فإذن لا شركة على الحقيقة في عين واحدة بل الشركة فيه وهم محض فإن كل واحد منهما على حظه فإذا أخذ كل واحد منهما نصيبه من الطبيعة الحيوانية لا يبقى لكل واحد منهما حق فيها حتى اشتركا فيها.
 
قوله رضي الله عنه : ( وسبب ذلك الشركة ) مبتدأ ( المشاعة ) خبره أي وسبب ذلك الشركة المذكورة الإشاعة في عين واحدة ولا إشاعة في الحقيقة فلا شركة إذ الشركة تبتني على الإشاعة ( وإن كانت ) العين الواحدة ( مشاعة ) فلا بد أن يتصرف كل واحد منهما وذلك محال فإن المتصرف في الملك مطلقا هو اللّه الواحد القهار فلا تصرف للآخر فزالت الإشاعة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن التصرف من أحدهما يزيل الإشاعة ) فما أثبته الأشقياء من الشريك باللّه أمر وهمي لا روح فيه وأما ما أثبته السعداء من الأولياء المشتركين
فإنه حق فإنهم يجعلون الأسماء الإلهية مشتركة في الدلالة على الذات الواحدة وهو الذات الواجب الوجود
فإن لكل واحد من الأسماء الإلهية الحكم في الذات الواحدة على السواء وهو الدلالة وذلك الشركة أمر حقيقي لذلك قال : قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [ الإسراء : 110 ] ،
 
فإن كل واحد من الاسم اللّه والاسم الرحمن مشترك في الدلالة على الذات الواجب الوجود قبلة الحاجات فبأيهما دعوتهم يقضي اللّه حاجتكم وكذا كل الأسماء الإلهية قال عليه السلام : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ".
 
فإن النجوم مشتركة في الدلالة على الطريق الموصل إلى المطلوب وكذا الأصحاب مشتركة على الحقيقة في الدلالة على الصراط المستقيم الموصل إلى الحق
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( هذا ) أي الاشتراك بين الأسماء في الدلالة على الذات الواحدة ( روح المسألة ) أي روح مسألة الشركة لوجود معنى الشركة فيها على الحقيقة وأما ما قاله المنطقيون من أن الجزئيات مشتركة في الأمر الكلي الشامل لها فمجرد اصطلاح منهم لا شركة فيه في الحقيقة بل هو أمر وهمي فما وقع اصطلاحهم إلا على ما في وهمهم من الشركة.
 
فلا روح لمسألة الشركة فيه وإنما الشركة في دلالة ألقاب الجزئيات على ذلك الكلي فاعلم ذلك فدعوى الشركة من الكفار كاذبة لإثباتهم الشركة فيما لا شركة فيه ولا قابلية لها أصلا ودعوى الموحد صادقة لإثباتهم الشركة في محلها واللّه الهادي إلى صراط مستقيم .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس مارس 12, 2020 2:25 am

24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص الهاروني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية
ولما كان هارون نبيا وخليفة من اللّه وخليفة من موسى عليهما السلام أورد الحكمة الإمامية في كلمته.
"" أضاف المحقق :
يدور هذا الفص حول مسألة الألوهية والعبادة . فيشرح ابن العربي نظريته في الدين بمعناه الصوفي الواسع .
وهو دين وحدة الوجود ، ويخلص منه إلى الحب هو أساس عبادة كل معبود ، وأن المعبود على الحقيقة هو المحبوب على الحقيقة وهو اللّه .""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أن وجود هارون كان من حضرة الرحموت ) مبالغة من الرحمة ( بقوله :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا يعني لموسى أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا فكانت نبوته من حضرة الرحموت ) بالنص الإلهي ( فإنه ) أي هارون عليه السلام ( أكبر من موسى سنا ) والكبير لشفقته ورحمته للصغير تحت تسخيره
( وكان موسى أكبر منه نبوة ولما كانت نبوة هارون من حضرة الرحمة لذلك ) أي لأجل كون نبوته من الرحمة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال لأخيه موسى ) في وقت أخذه بلحيته ( يا ابن أمّ فناداه بأمه لا بأبيه ) أي لم يقل لموسى يا ابن أبي ( إذ كانت الرحمة للأم دون الأب أوفر ) أي أغلب ( في الحكم ) أي في الشفقة والمرحمة للولد ( ولولا تلك الرحمة ) للأم ( ما صبرت على مباشرة التربية ) لولده وجواب لما قال في قوله لذلك قال فإن العامل مقدم على معموله في الأصل فكان أصل الكلام قال لذلك ( ثم قال ) هارون لأخيه موسى ( لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ولا تشمت بي الأعداء فهذا كله نفس من أنفاس الرحمة وسبب ذلك ) الأخذ من موسى عليه السلام .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( عدم التثبت في النظر فيما كان في يديه من الألواح التي ألقاها من يديه فلو نظر فيها نظر تثبت لوجد فيها الهدى والرحمة فالهدى ) التي وجدت في الألواح ( بيان ما وقع من الأمر الذي أغضبه ) أي الأمر الذي أغضب موسى عليه السلام هو عبادة قومه العجل .
( بما هو هارون بريء منه ) أي وجد موسى عليه السلام في الألواح ما أضل قومه إلا السامري وهارون بريء منه ( والرحمة ) هي الرحمة ( بأخيه ) فالرحمة مبتدأ وخبره محذوف أي الرحمة التي وجد موسى عليه السلام فيها هي رحمة هارون على موسى عليهما السلام .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان ) موسى ( لا يأخذ بلحيته ولا برأسه بمرأى ) أي بمنظر ( من قومه مع كبره وأنه ) أي هارون ( أسن منه فكان ذلك الكلام كله من هارون ) إلى موسى عليه السلام ( شفقة على موسى عليه السلام لأن نبوة هارون من رحمة اللّه فلا يصدر منه إلا مثل هذا ، ثم قال هارون لموسى عليهما السلام إني خشيت أن تقول فرقت ) من التفريق ( بين بني إسرائيل فتجعلني يا موسى سببا في تفريقهم ) وما كنت سببا في تفريقهم وإنما قال هارون في تفريقهم ( فإن عبادة العجل فرقت بينهم فكان منهم من عبده اتباعا للسامري وتقليدا له ومنهم من توقف عن عبادته حتى يرجع موسى إليهم فيسألون في ذلك ) أي في عبادة العجل ( فخشي هارون أن ينسب موسى ذلك الفرقان بينهم إليهم ) أي إلى هارون فخاطبه بهذا الكلام لئلا ينسب هذا الفرقان إليه
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكان موسى عليه السلام أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ) موسى عليه السلام ( ما ) أي الذي ( عبده أصحاب العجل ) فكانت العبادة في علم موسى عليه السلام للحق الظاهر في صورة العجل لا للعجل ( لعلمه بأن اللّه قد قضى ) أي حكم ( أن لا يعبد ) على صيغة الغائب المبني للمفعول ( إلا إياه وما حكم اللّه بشيء إلا وقع ) فقد حكم اللّه في الأزل أن يعبد له فصورة العجل لذلك وقع هارون لم يعلم بذلك فأنكر عبادة الحق في صورة العجل .
( فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره ) لعدم علمه بما علم موسى ( وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء ) وقد مر مرارا تحقيق كون الحق عين كل شيء ( فكان موسى يربي هارون تربية علم وإن كان أصغر منه في السن ) فالأنبياء والأولياء العارفون وإن كانوا ينكرون العبادة للأرباب الجزئية لكن إنكارهم ليس لاحتجاجهم عن الحق الظاهر في صورة الأشياء ، بل إنكارهم بحسب اقتضاء نبوتهم وبحسب اقتضاء الظاهر فإنهم يرون الحق بحسب الباطن في كل شيء ونهى العبادة عن الأمة بحسب النبوة في مظهر خاص والمحجوبون وإن أنكروا أيضا لكن إنكارهم لاحتجابهم عن ظهور الحق في صور الأشياء.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي ولأجل كون موسى عليه السلام مربيا لهارون ( لما قال له هارون ما قال رجع ) موسى ( إلى السامري فقال له ما خطبك ) أي ما مرادك ( يا سامري يعني فيما صنعت من عدو لك إلى صورة العجل على الاختصاص وصنعك هذا الشبح من حلي القوم حتى أخذت أنت بقلوبهم من أجل أموالهم ) وإنما أخذت القلوب من أجل الأموال .
( فإن عيسى عليه السلام يقول لبني إسرائيل قلب كل إنسان ) أي المراد منه قلب كل إنسان لا يختص لبني إسرائيل ( من حيث ماله فاجعلوا أموالكم في السماء تكن قلوبكم في السماء ) فأشار عيسى عليه السلام إلى أن القلوب حيث كان المال ( وما سمي المال مالا إلا لكونه بالذات تميل القلوب إليه بالعبادة فهو ) أي المال ( المقصود الأعظم المعظم في القلوب لما فيها ) أي في القلوب ( من الافتقار إليه ) أي إلى المال .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وليس للصور بقاء فلا بد من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى عليه السلام بحرقه فغلبت عليه الغيرة فحرقه ثم نسف رماد تلك الصورة في اليم نسفا وقال ) موسى عليه السلام ( له ) للسامري ( انظر إلى إلهك فسماه إلها بطريق التنبيه للتعليم ) أنه مظهر إلهي ( لما علم ) موسى عليه السلام ( أنه بعض المجالي الإلهية ) فعلم هارون ما أشار إليه موسى عليه السلام من كلامه إلى السامري ، وعلم أن غضبه وأخذه بلحيته لا لأجل عبادة قومه العجل بل لأجل تعليمه بأن الحق يعبد في صورة العجل فما قال للسامري ما قال وما غضب على هارون إلا تربية لهارون بالعلم ( لأحرّقنه ) أي وقال له انظر إلى إلهك لنحرّقنه ولننسفنه وإنما تصرف موسى في صورة العجل بالحرق والنسف .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن حيوانية الإنسان لها التصرف في حيوانية الحيوان لكون اللّه سخرها ) أي الحيوان ( للإنسان ولا سيما وأصله ليس من حيوان ) بل هو معمول من الحلي ( فكان ) العجل المعمول ( أعظم ) أي أهون ( في التسخير لأن غير الحيوان ما ) أي ليس ( له إرادة ) فلا يمتنع بما يريد الإنسان ( بل هو بحكم من يتصرف فيه من غير إباء ) أي امتناع .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما الحيوان فهو ذو إرادة وغرض فقد يقع منه الاباءة في بعض التصريف فإن كان فيه ) أي في الحيوان ( قوة إظهار ذلك ) الاباءة ( ظهر منه الجموح ) يقال جمح الفرس جماحا وجموحا وبالفارسية سركشي كردن أي ظهر منه عدم الانقيادي و ( لما يريده منه الإنسان وإن لم يكن له هذه القوة أو يصادف ) أي يوافق ( الإنسان غرض الحيوان انقاد ) الحيوان ( مذللا لما يريده منه ) الإنسان ( كما ينقاد ) الإنسان ( مثله ) من الإنسان ( لأمر ) أي أي لأجل أمر ( فيما رفعه اللّه ) أي في الذي رفع اللّه ذلك المثل المنقاد إليه ( به ) عائد إلى ما قوله ( من أجل المال الذي يرجوه منه ) يتعلق بالانقياد ( المعبر عنه في بعض الأحوال بالأجرة في قوله تعالى ) أي كما جاء انقياد الإنسان .
 
مثله في قوله تعالى : (" وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ " [ الأنعام : 165 ] ، ليتخذ بعضكم بعضا سخريا فما يسخر له من هو مثله إلا من ) جهة ( حيوانيته لا من ) جهة ( إنسانيته ) فالمسخر اسم فاعل هو الانسانية والمسخر اسم مفعول هو الحيوانية وإنما لا يسخر من إنسانية.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأن المثلين ضدان ) والضدان متساويان في الدرجة لا يجتمعان ليس بينهما جهة جامعة من هذا الوجه فلا ينقاد الإنسان من هو مثله من جهة الانسانية ( فيسخره الأرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانيته ويتسخر له ذلك الآخر إما خوفا أو طمعا ) قوله ( من حيوانيته لا من إنسانيته ) يتعلق بيتسخر ( فما يسخر له من هو مثله ) في المنزلة ( ألا ترى ما بين البهائم من التحريش لأنها أمثال فالمثلان ضدان فلذلك ) أي فلأجل عدم تسخير الأمثال بعضهم بعضا ( قال اللّه تعالى :وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ فما هو ) أي فليس المسخر ( معه ) أي المسخر ( في درجته ) أي في درجة المسخر ( فوقع التسخير من أجل الدرجات والتسخير على قسمين تسخير مراد للمسخر اسم فاعل قاهر في تسخيره لهذا الشخص المسخر كتسخير السيد لعبده وإن كان مثله في الانسانية وكتسخير السلطان لرعاياه وإن كان أمثالا له في الانسانية فيسخرهم ) أي فيسخر السلطان لرعاياه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بالدرجة والقسم الآخر تسخير بالحال كتسخير الرعايا الملك القائم بأمرهم في الذب عنهم وحمايتهم وقتال من عاداهم وحفظ أموالهم وأنفسهم عليهم وهذا ) المذكور ( كله تسخير بالحال من الرعايا يسخرون بذلك مليكهم ويسمى ) هذا التسخير ( على الحقيقة تسخير المرتبة ) وأما على الظاهر فتسخير بالحال ( فالمرتبة حكمت عليه ) أي مرتبة الرعية حكمت على الملك.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (بذلك فمن الملوك من سعى لنفسه ) وما عرف أن مرتبة الرعية تسخره في ذلك الأمر ( ومنهم من عرف الأمر فعلم أنه بالمرتبة في تسخيره رعاياه فعلم قدرهم وحقهم فآجره اللّه ) أي أعطى اللّه ذلك الملك العالم العامل .
( على ذلك ) العلم والعمل ( أجر العلماء بالأمر على ما هو عليه وأجر مثل هذا ) العمل الذي ( يكون على اللّه في كون اللّه في شؤون عباده ) فمثل هذا السلطان خليفة اللّه وقائم مقامه في قضاء حوائجهم فأجر هذا العمل على اللّه ( فالعالم كله مسخر بالحال ) اسم الفاعل ( من لا يمكن أن يطلق عليه أنه مسخر ) اسم مفعول فاستحال على اللّه إطلاق هذا الاسم عند أهل الشرع وأما عند أهل الحقيقة فمجرد وجود المعنى يجوز إطلاق اسم ذلك المعنى على اللّه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال اللّه تعالى ) في ثبوت هذا التسخير بينه وبين عباده :" كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ " [ الرحمن : 29 ] ، من شؤون عباده ثم رجع إلى أصل المسألة فقال ( فكان عدم قوة إرداع ) أي عدم تأثير منع ( هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل كما سلط موسى عليه السلام ) أي العجل بالحرق والنسف ولم يقدر هارون بالفعل كذلك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حكمة من اللّه ) خبر كان ( ظاهرة في الوجود ليعبد ) الحق في كل صورة نوعية من الأنواع وإنما قيدنا بذلك القيد إذ لا يعبد الحق ( في كل صورة ) شخصية بل يعبد في صورة شخص من كل نوع ( وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك ) أي بعد عبادة الحق فيها ( فما ذهبت ) الصورة ( إلا بعد ما تلبست عند عابرها بالألوهية ولهذا ) أي ولأجل اقتضاء الحكمة أن يعبد الحق في كل صورة ( ما بقي نوع من الأنواع إلا وقد عبد الحق ) في صورة فرد من أفراد ذلك النوع .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إما عبادة تأله ) كما في العجل والأصنام والشمس والقمر والنار ( وإما عبادة تسخير ) كما مر في تحقيق التسخير ( فلا بد من ذلك ) العبادة إما تألها وإما تسخيرا ( لمن عقل ) عن اللّه فإنه يعلم ما قلناه ويميز المراتب فالأمر في هذا المقام منقسم بين العابد والمعبود والمعبود لا يكون معبودا إلا بعد الظهور بالرفعة عند عابدة وهذا معنى قوله ( وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد و ) بعد ( الظهور بالدرجة في قلبه ولذلك ) أي ولأجل عدم عبادة المعبود إلا بعد ظهور بالدرجة في قلب العابد .
 
( يسمى الحق لنا برفيع الدرجات ولم يقل رفيع الدرجة فكثر ) من التكثير ( الدرجات في عين واحدة فإنه قضى أن لا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كل درجة مجلى إلهيا عبد فيها وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه الهوى كما قالأَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُفهو أعظم معبود ) وإنما كان الهوى أعظم معبود ( فإنه لا يعبد شيء إلا به ) أي بالهوى حتى الحق لا يعبد إلا به.
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا يعبد هو ) أي ولا يعبد الهوى ( إلا بذاته وفيه ) أي في حق الهوى
( أقول شعر : وحق الهوى ) والمراد هو الحق .
( أن الهوى سب الهوى ... ولولا الهوى في القلب ) وهو المعبود بذاته
( ما عبد الهوى ) وهو المعبود بالهوى ( ألا ترى علم اللّه بالأشياء ما أكمله ) أي علمه و ( كيف تمم ) علمه ( في حق من عبد هواه واتخذه إلها ) أي سماه إلها فقط دون من مجالي الحق لظهور الحق له فيه دون غيره .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال ) في حقه (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ والضلالة الحيرة وذلك ) التكميل والتتميم ( أنه لما رأى ) الحق ( هذا العابد ) وهو من عبده هواه واتخذه إلها ( ما عبد إلا هواه بانقياده لطاعته ) أي لطاعة هواه ( فيما ) أي في الذي ( يأمره ) الهوى ( به ) راجع إلى العابد ( من عبادة من عبده من الأشخاص ) بيان لما ( حتى أن عبادته ) أي عبادة من عبده هواه ( للَّه كانت عن هوى أيضا ) كما أن عبادته لمن عبده من الأشخاص عن هوى وإنما كانت عبادة هذا العباد عن هوى ( لأنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس هوى وهو الإرادة ) النفسانية من رجاء الجنة والنجاة عن النار ( بمحبته ) أي مع محبة اللّه ( ما عبد اللّه ولا آثره على غيره ) ولولا عظمة شأن الهوى لما سلط على هذا العابد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم واتخذها إلها ما اتخذها ) إلها ( إلا بالهوى ) فإذا كان كذلك ( فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه ) فله حكم في كل عابد ( ثم رأى ) أي علم الحق ( المعبودات ) الكونية والاعتقادية ( تتنوع في العابدين فكل عابد أمرا ما يكفر من يعبد سواه ) وهم المحجوبون .
( والذي عنده أدنى تنبه ) أي أدنى مرتبة من العلم وهو الذي عبد هواه واتخذوه إلها ( يحار ) أي وقع في الحيرة فلا يكفر أحدا من العابدين فيما عبده فقوله والذي مبتدأ يحار خبره ( لاتحاد الهوى ) يتعلق بقوله أدنى تنبه لا بقوله يحار إذ سبب الحيرة هو العلم باتحاد الهوى ( لا اتخاذ الهوى ) ويجوز أن يتعلق بقوله يحار .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بل لأحدية الهوى فإنه ) أي الهوى ( عين واحدة في كل عابد فأضله اللّه أي حيره على علم بأن كل عابد ما عبد إلا هواه ولا استعبده إلا هواه سواه صادف ) هواه ( الأمر المشروع أو لم يصادفه )  فإذا علم هذا العابد هذا المعنى أكمله اللّه علمه في حقه بقولهوَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍولم يقل فأضله اللّه على جهل وهو حيرة الجهل ،
 
فهو علم تام عند اللّه فهذا العابد يعلم هذا المقام كما علم اللّه والمقصود أن الهوى أعظم مجلى عبد فيه الحق لذلك أكمل الحق علمه في حق من عبد الهوى واتخذه إلها بقوله "وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ" فدل هذا الكلام أن الهوى أعظم مجلى إلهي عبد فيه الحق
فكانت عبادته للهوى واتخاذه إلها عن علم تجلى وجواب لما قوله "وَأَضَلَّهُ اللَّهُ " أدخله الفاء لطول الكلام أو محذوف لقرينة دالة عليه تقديره لما رأى الحق كذا وكذا أكمل علمه في حق من عبد الهوى واتخذه إلها أو تمم علمه أو أضله اللّه كيف شئت قلت .
 
ويظهر من هذا المقام أن العابد ثلاثة أقسام عابد جاهل غير منقاد للشرع كعابد الأصنام وعابد محجوب منقاد للشرع ولا يعلم هذا العابد بأن كل عابد ما عبد إلا هواه بل هو صاحب اعتقاد يعتقد أمرا ما في حق الحق ، وعابد يعلم بأن كل عابد ما عبد إلا هواه وهو الذي قال في حقه وأضله اللّه على علم وهو الذي أعلى العابدين وأدنى العارفين وليس هو عارفا مكملا .
( والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه ) أي يعبد الحق في ذلك المجلى ولا كذلك ذلك العابد فإنه رأى الهوى مجلى للحق يعبد فيه وبه يلحق بالعارفين ولا يرى غير الهوى مجلى إليها يعبد فيه الحق وليس كذلك بل الحق هو المعبود مطلقا سواء كان في الصور الهوائية أو غيرها من الصور الامكانية وبعد علمه بهذا انفصل عنهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي ولأجل أن العارف المكمل رأى كل معبود مجلى يعبد فيه الحق ( سموه كلهم ) أي سموا المعبود كلهم ( إلها ) مجازا تسمية المظهر باسم الظاهر وإنما اصطلحوا هذا الاسم لتوقف إفادة بعض المعاني واستفادتها عليه وهذا الاسم ليس من حيث شخصيته بل من حيث أنه مظهرا إلهي من المظاهر الإلهية.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك هذا اسم الشخصية فيه ) أي في كل معبود ( والألوهية ) فيه ( مرتبة إلهية تخيل العابد له ) أي تخيل عابد هذا المعبود ( أنها ) أي الألوهية ( مرتبة معبودة ) وليس الأمر كما تخيله بل الأمر فيه على الحقيقة ما بينه بقوله ( وهي ) أي تلك المرتبة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( على الحقيقة مجلى للحق لبصر هذا العابد الخاص المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختص ولهذا ) أي ولأجل كون تلك المرتبة مجلى للحق لبصر هذا العابد ( قال بعض من عرف ) هذا المعنى من عبدة الأصنام ( مقالة جهل ) مصدر قال (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى مع تسميتهم إياهم إلهة ) فلو لم يعرفوا وحدة الحق لما أجابوا بهذا القول فإن قولهم " لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ " يدل على ما في علمهم من وحدة الحق وتسميتهم آلهة تدل على أنها مجالي الحق لكنهم عبدوا المجالي من حيث هي مجالي للحق لا من حيث شيئيتها ، ولا يعبدون الحق الظاهر فيها وإنما كان هذا القول مقالة جهل جهالة لأن عبادة الأصنام لا يقرب فيها إلى اللّه فصدر هذا الكلام منهم عن جهل
 
( حتى قالوا أجعل الالهة إلها واحدا إن هذا ) أي جعل الالهة إلها واحدا ( لشيء عجاب فما أنكروه ) أي ما أنكروا كون الإله واحدا ( بل تعجبوا من ذلك ) أي من كون الإله واحدا وإنما تعجبوا من ذلك ( فإنهم وقفوا ) أي ثبتوا وقنعوا ( مع كثرة الصور ونسبة الألوهية لها ) أي إلى الصور الكثيرة ( فجاء الرسول دعاهم إلى إله واحد يعرف ) أي معروف عندهم ( ولا يشهد ) أي ولا مشهود فإن إلهتهم المشهودة لهم أصنامهم ( بشهادتهم إنهم أثبتوه ) أي الإله الواحد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( عندهم واعتقدوه في قولهمما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) وإنما قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه ولم يقولوا لكونهم إلهة ( لعلمهم بأن تلك الصورة حجارة ) لا تستحق العبادة لذاتها بل إنما تستحق العبادة لكونها مقربة إلى اللّه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي ولأجل علمهم بأن تلك الصورة حجارة لا تستحق العبادة والألوهية ( قامت الحجة عليهم بقوله قُلْ سَمُّوهُمْ فما يسمونهم إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم ) من الحجر والشجر والكوكب ( حقيقة ) فظهر أن تسميتهم إلهة لهم مجاز عندهم .
والمقصود أن الرسول ما دعاهم إلى المجهول المطلق عندهم بل دعاهم إلى عبادة ما علموا من الحق فإنهم علموا أن اللّه واحد حقيقي واعتقدوه لكنه لما غاب وبعد مشاهدتهم لا يعبدون ولا ينقادون إليه لاستحالتهم عبادة الغائب عن المشاهدة ولو قرب مع مشاهدتهم لعبدوه لذلك
 
قالوا ليقربونا فلا يمكن العبادة بدون القرب والمشاهدة عندهم فكأنهم قالوا في التحقيق ما نعبد إلها لم نره ولم ينكروا بأن اللّه واحد وإنما إنكارهم في عبادة الإله الواحد المعروف الغير المشهود لهم فجاء الرسول بما يزيل به إنكارهم من أن الإله المعروف الغير المشهود يجب له العبادة وقرّر ما في علمهم واعتقادهم من أن الإله واحد .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما العارفون بالأمر على ما هو عليه ) وهو الذين علموا أن الحق واحد ظاهر في مجالي متعددة ( فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور ) مع علمهم بأن الصور كلها مجالي إلهي عبد فيها الحق ( لأن مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت لحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم الذي به ) أي الايمان الذي يسببه .
( سموا مؤمنين فهم عباد الوقت ) أي يعبدون اللّه بمقتضى الوقت فالوقت يحكم على ظهورهم بصورة الإنكار لما عبد من الصور قوله ( مع علمهم ) يتصل إلى قوله فيظهرون العارفون بصور الإنكار مع علمهم ( بأنهم ) أي بأن عبدة الأصنام ( ما عبدوا من تلك الصور أعيانها ) المسماة بأسماء المحدثات ( وإنما عبدوا اللّه فيها ) أي في أعيان الأصنام .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بحكم سلطان التجلي الذي عرفوه منهم ) أي من صور أصنامهم فعبادتهم للأصنام ليست إلا ما كان عليه الأمر فإنكار العارفين ليس عن جهل بحقيقة الأمر بل مرتبتهم في العلم تعطيهم ذلك وقوله بحكم يتعلق بقوله عبدوا اللّه ( وجهله ) أي جهل بما علم العارفون من أن عبدة الأصنام ما عبدوا أعيانها ( المنكر الذي لا علم له بما تجلى ) اللّه لعباده في صور الأكوان ( وستره ) أي ستر تجلي الحق في الصور الكونية والعبادة فيها
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( العارف المكمل من نبي ورسول ووارث عنهم ) فإنكارهم ستر الإنكار على الحقيقة ( فأمرهم ) أي أمر العارف عبدة الأصنام ( بالانتزاح ) أي بالاجتناب ( عن ) عبادة ( تلك الصور لما انتزح عنها رسول الوقت اتباعا للرسول طمعا في محبة اللّه إياهم الثابتة بقوله قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه فدعا ) الرسول عابد الأصنام ( إلى ) عبادة ( إله يصمد ) على صيغة المجهول أي يحتاج ( إليه ) كل شيء في وجوده وجميع أحواله ولا يحتاج هو إلى غيره .
 
( ويعلم ) مبني للمفعول ( من حيث الجملة ) أي من حيث الإجمال أي يعلم كل شيء إجمالا أن لهم إلها وهذا العلم بديهي لذلك لا ينكر أحد وجود الحق وإنما الاختلاف في التعيين فبعضهم عين الأصنام وبعضهم الكوكب وبعضهم النار وغير ذلك ( ولا يشهد ) ذاته كما قال تعالى :" لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ" [ الأنعام : 103].
 
قوله رضي الله عنه  : ( للطفه وسريانه في أعيان الأشياء ) تعليل لقوله "لا تُدْرِكُهُ" ولقوله "وَهُوَ يُدْرِكُ" ( فلا تدركه الأبصار كما أنها ) أي كما أن الأبصار ( لا تدرك ) قوله ( أرواحها ) مفعول لا تدرك الضمير راجع إلى الأبصار ( المدبرة ) منصوب صفة أرواحها ( أشباحها ) منصوب بالمدبرة (وصورها ) عطف على أشباحها ( الظاهرة ) صفة لصورها فإذا كان كذلك .
 

( فهو ) أي الحق ( اللطيف الخبير والخبرة ذوق ) كما ذكر ( والذوق تجلى والتجلي ) لا يكون إلا ( في الصور فلا بد ) لظهور التجلي ( منها ) أي من الصور ( ولا بد ) لظهور الصور ( منه ) أي من التجلي إذ لا يكون الصور أيضا بدون التجلي ( فلا بد أن يعبده من رآه ) قوله ( بهواه ) متعلق بقوله أن يعبده ( إن فهمت ) ما ذكرناه لك ( وعلى اللّه قصد السبيل ) أي بيان الطريق الموصلة إليه .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:51 am

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الجزء الأول  

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية
أورد الحكمة العلوية في كلمة موسى عليه السلام فإن علو موسى عليه السلام يقتضي من هو علا عليه باعتبار إبطال دعوى علوية من هو علا عليه وأنه قال تعالى في حقه :لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى[ طه : 68 ]
فكان موسى عليه السلام علا على من ادّعى العلوية الربوبية بقوله "أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى " فأبطل دعويه الكاذبة وسحره ( حكمة قتل الأبناء من أجل موسى ) عليه السلام ( ليعود إليه ) أي إلى موسى عليه السلام ( بالامداد حياة كل من قتل من أجله ) أي يمددن موسى عليه السلام في هلاك فرعون ويعينونه فيه فكان موسى أعلى على فرعون بالامداد من أرواحهم وإنما يعود إليه بالامداد .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأنه قتل على أنه موسى وما ثمة ) أي وما في قتل الأبناء من أجل موسى ( جهل ) لعلمه بأن من الكائن قد يدفع بمباشرة الأسباب إذ ليس بلا حكمة يعني ما قتل الأبناء من أجل موسى عن جهل بل إنما قتل من أجله عن علم وحكمة وهي العود إليه بالامداد .
ولو لم يقتل من أجل موسى لا يعود إليه بالامداد فقد كان في علمه تعالى أن موسى لا يعلو على فرعون إلا بالامداد ممن قتل من أجله على يد فرعون إلا ما هو في علم اللّه
ويجوز أن يكون معناه وما ثمة جهل أي وما قتل الأبناء على أنه موسى عليه السلام جهل بل علم قتل كل واحد منهم على أنه موسى بالنص الإلهي أو معناه وما جهل فرعون أن قتل الأبناء على أنه موسى عليه السلام ليس بموسى فكان ذلك القتل عمدا وظلما فوجب عليه القصاص فعلى كل حال .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا بد أن تعود حياته على موسى أعني حياة المقتول من أجله ) وفيه معنى لطيف وهو أنه لما قتل فرعون على أنه موسى وجب عليه القصاص فوجب على موسى أداء من قتل من أجله فاجتمعوا مع موسى وطلبوا حقهم منه .
فكأنهم قالوا يا موسى إنا قد قتلنا من أجلك فكان لنا حقا ثابتا عليك فأدّ إلينا حقنا فقتل موسى فرعون أداء لما هو عليه من حقهم فما كان قتل فرعون على الحقيقة إلا قصاصا ( وهي ) أي حياة المقتول .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حياة ظاهرة على الفطرة لم تدنسها الأغراض النفسية بل هي على فطرة بلى ) فهي أرواح لطيفة مجردة عن تعلق الصور المادية وأنوار لطيفة وكذلك روح موسى نور لطيف فناسب كل منهم الآخر كذلك اتحد كلهم كاتحاد نور القمر والشمس في النهار
فمثل هذه الأرواح للطافتها قد يتحد بعضها مع بعض ويمتاز أخرى كما يمتاز نور القمر عن نور الشمس بعد اتحاده معها في النهار فإذا انقطع روح موسى عن تعلق الصورة الموسومة العنصرية افترقوا عنه


وامتاز كل واحد منهم على الآخر كما امتاز قبل الاتحاد فانفرد كل واحد منهم كما انفرد قبل الاجتماع ورجع إلى مقامهم الأصلي فانفرد روح موسى كما انفرد قبله فإن لكل صورة روح خاص عند اللّه ممتاز عن روح الصورة الأخرى وبهذا المذكور قد انقطع وهم التناسخ من ظاهر كلامه ( فكان موسى ) أي فإذا اجتمع هذه الأرواح الطيبة اللطيفة في حياة موسى
وكان موسى ( مجموع ) بالنصب خبر كان ( حياة من قتل على أنه هو وكل ما كان مهيئا لذلك المقتول ) قوله ( مما ) بيان لما ( كان استعداد روحه ) الضمير يرجع إلى المقتول ( له ) راجع إلى ما في قوله مما ( كان في موسى ) أي ظهرت تلك الكمالات المهيئات للمقتول في استعداد روحه في صورة موسوية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا ) الأمداد ( اختصاص إلهي لموسى لم يكن لأحد قبله ) من الأنبياء ولا يكون أيضا بعده فلا تعجب اختصاص هذا الحكم بموسى دون غيره من الأنبياء ( فإن حكم موسى ) أي فإن الأحكام الإلهية المختصة لموسى ( كثيرة ) فإن شأن موسى في اختصاص الأحكام الإلهية لا كشأن سائر الأنبياء قبله .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنا إن شاء اللّه أسرد منها في هذا الباب على قدر ما بلغ به الأمر الإلهي في خاطري وكان هذا ) الاختصاص المذكور ( أول ما شوفهت ) أي خوطبت ( به ) مشافهة ( من هذا الباب )
 أي من الفص الموسوي فإذا كان الأمر في حق موسى على ما ذكرناه.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما ولد موسى إلا وهو مجموع أرواح كثيرة ) موجودة بوجود واحد بحيث لا امتياز بينها ( جمع قوى فعالة ) على صيغة المفعول بدل من قوله مجموع أرواح أي فما ولد موسى إلا وهو جمع قوى فعالة ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى المجموع وهو ما يدل من مجموع على ما ذكر أو صفة له أو خبر مبتدأ محذوف أي هو جمع قوى فعالة أو منصوب بنزع الخافض أي كجمع قوى فعالة وإنما قلنا جمع قوى فعالة
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأن الصغير يفعل في الكبير ) لذلك يفعل موسى في صغره لفرعون وغيره لأنه مجموع أرواح الأطفال وهي قوى فعالة ( ألا ترى الطفل يفعل في الكبير بالخاصية فينزل ) من التنزيل ( الكبير من رياسته إليه فيلاعبه الكبير ) ولهذا صح هذه الملاعبة في الشرع مع أنه قال الشارع كل لعب حرام لأن هذه الملاعبة ليست من فعل الكبير بل فعل الصغير في الكبير يظهر من صورة الكبير يصدر منه بلا اختيار وشعور ولا يؤخذ الفاعل بمثل هذا الفعل .
( ويزقزق ) أي يتكلم الكبير بلسان الصغير ( له ) أي للصغير ( ويظهر له بعقله ) أي وينزل الكبير للصغير في مرتبة عقل الصغير ( فهو ) أي الكبير ( تحت تسخيره وهو ) أي الكبير ( لا يشعر ) أنه تحت تسخير الصغير ( ثم يشغله ) أي يجعل الطفل الكبير مشغولا ( بتربيته وحمايته وتفقد مصالحه وتأنيسه حتى لا يضيق صدره هذا كله من فعل الصغير بالكبير وذلك ) أي فعل الصغير بالكبير
 ( لقوة المقام فإن الصغير حديث عهد بربه لأنه حديث التكوين والكبير أبعد فمن كان من اللّه أقرب سخر من كان من اللّه أبعد كخواص الملك للقرب منه ) أي لكونهم قريبا من الملك ( يسخرون إلا بعدين كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبرز ) أي يظهر ( بنفسه للمطر إذا نزل ويكشف رأسه حتى يصيب منه ويقول إنه حديث عهد بربه ) وبروزه عليه السلام إليه تلقيه إلى ما ينزل عليه من ربه من العلوم والمعارف الإلهية وكشف رأسه رفع التعينات المانعة لوصول الفيض الإلهي


( فانظر إلى هذه المعرفة باللّه من هذا النبي ما أجلها وما أعلاها وما أوضحها فقد سخر المطر أفضل البشر لقربه من ربه فكان ) المطر ( مثل الرسول ) أي الملك وهو جبرائيل ( الذي ينزل إليه ) أي إلى الرسول ( بالوحي فدعاه بالحال بذاته ) أي دعا المطر الرسول بذاته بلسان الحال كما دعا الملك بلسان الوحي ( فبرز إليه ) إلى المطر النازل ( ليصيب منه ما أتاه من ربه ) من المعارف وحقائق العلوم الإلهية كما برز للملك النازل ليصيب من الملك ما أتاه به من ربه من الوحي
( فلو لا ما حصل له ) أي للرسول ( منه ) أي من المطر ( الفائدة الإلهية بما أصاب ) إلى الرسول ( منه ) أي من المطر ( ما برز بنفسه إليه ) فقوله بما أصاب يتعلق بقوله حصلت وفاعل أصاب يرجع إلى ما ، وما في قوله فلو لا ما حصلت زائدة زيدت لتأكيد الفائدة الحاصلة من المطر .
( فهذه ) أي ما ذكر من أحوال النبي مع المطر ( رسالة ماء جعل اللّه منه كل شيء حي فافهم)
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما حكمة إلقائه في التابوت ورميه في اليم ) وهو المسمى بالنبل ( فالتابوت ) إشارة إلى ( ناسوته ) وهو الجسم العنصري الموسوي ( واليم ) إشارة إلى ( ما حصل له ) أي لموسى ( من العلم بوساطة هذا الجسم ) قوله ( مما ) بيان للعلم ( أعطته ) ذلك العلم لموسى ( القوة النظرية الفكرية والقوى الحسية والخيالية )
قوله ( التي ) صفة لقوى المذكورة كلها ( لا يكون شيء منها ) أي من تلك القوى ( ولا ) يكون أيضا ( من أمثالها لهذه النفس الانسانية إلا بوجود هذا الجسم العنصري )
 
فالجسم العنصري الانساني أجل مخلوق اللّه تعالى خلقه اللّه للإنسان ليحصل كمالاته المودعة في نشأته وبه عظم اللّه آدم فأمر الملائكة بالسجود .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما حصلت النفس في هذا الجسم وأمرت بالتصرف فيه وتدبيره جعل اللّه لها ) أي للنفس الانسانية ( هذه القوى آلات يتوصل بها إلى ما أراده اللّه منها ) أي من النفس ( في تدبير هذا التابوت الذي فيه سكينة الرب ) إذ ربوبيته تعالى لا تزال تتحرك إلى أن تصل إلى هذا المربوب التام فسكن فيه الرب لحصول ما هو المقصود من الربوبية بهذا التابوت دون غيره.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فرمى به ) على صيغة المجهول أي رمى موسى بالتابوت أو المعلوم أي رمى الحق موسى بالتابوت على يد أمّه ( في اليم ليحصل ) أي ليكون موسى مستعليا ( بهذه القوى ) وهي القوى المذكورة للنفس بواسطة الجسم العنصري ( على فنون العلم ) يعني أن هذا الرمي إشارة إلى النفس الانسانية ألقيت في تابوت البدن ورميت به في يم العلم لتكون بهذه القوى الحاصلة لها في التابوت مستعلية على فنون العلم ( فأعلمه ) أي الحق موسى ( بذلك ) الرمي ( أنه ) أي الشأن ( وإن كان الروح المدبر له ) أي للتابوت هو الجسم العنصري ( هو الملك ) بفتح الميم وكسر اللام إذ الروح مالك التابوت وجاز بكسر الميم وسكون اللام فإن الروح ملك الحق ( فإنه ) أي فإن الشأن ( لا يدبره ) أي لا يدبر هذا التابوت ( إلا به ) أي بسبب هذا التابوت ( فاصحبه ) أي فاصحب اللّه الروح ( هذه القوى الكائنة في هذا الناسوت الذي عبر ) على البناء للمفعول من التعبير ( عنه بالتابوت في باب الإشارات ) قوله ( والحكم ) على صيغة الجمع أي يقال في اصطلاح أهل الإشارة للناسوت تابوتا فدبر الروح ملكه الذي هو الجسم العنصري بملكه التي هي القوى الكائنة في هذا الناسوت فدبر ملكه بملكه
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كذلك تدبير الحق العالم فإنه ما دبره إلا به ) أي الحق ما دبر العالم إلا بالعالم ( أو بصورته ) وتفسير الصورة سيأتي من بعد فأيا ما كان ( فما دبره إلا به ) أي فما دبر الحق العالم إلا بالعالم إذ صورة العالم من العالم لكنه ليس من عالم الناسوت فجعل مقابلا تارة بقوله أو بصورته ومتحدا بقوله فما دبره إلا به
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كتوقف الولد على إيجاد الوالد والمسببات على أسبابها والمشروطات على شروطها والمعلولات على عللها والمدلولات على أدلتها والمحققات ) بفتح القافين ( على حقائقها وكل ذلك من العالم وهو)  . أي توقف المذكور
 
( تدبير الحق فيه ) أي في العالم ( فما دبره إلا به وأما قولنا أو بصورته أعني صورة العالم فأعني به ) أي بقوله صورة العالم ( الأسماء الحسنى والصفات العليا ) قوله ( التي ) صفة للأسماء والصفات ( تسمى الحق بها ) أي بالأسماء الحسنى ( واتصف ) الحق ( بها ) أي بالصفات العليا
"" كنار موسى يراها عين حاجته ..... وهو الإله ولكن ليس يدريه ""
وإنما فسر الصورة هاهنا بالأسماء الحسنى والصفات العليا مع أن صورة العالم هي الأعيان الثابتة في العلم وهي مظاهر الأسماء الحسنى والصفات العليا نظر إلى اتحادهما بالذات فإذا دبر الحق العالم بالأسماء والصفات
 
قال رضي الله عنه :  ( فما وصل إلينا من اسم تسمى به ) الحق ( إلا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في العالم فما دبر العالم أيضا ) كتدبيره بالعالم ( إلا بصورة العالم ) فاجتمع في كل فرد فرد من العالم الناسوت تدبيران من وجهين تدبير بصورته وهي الأسماء الحسنى وحينئذ ليست الأسماء الحسنى والصفات العليا والأعيان الثابتة في العلم من العالم بل هي صورة العالم فصورة العالم ليست من العالم بالنسبة إلى ذي الصورة ، وأما بالنسبة إلى ذات الحق المدبرة لها فهي من العالم فذات الحق مدبرة لها فالمراد هاهنا بالعالم ما عدا الأسماء الحسنى إذ الكلام في عالم الناسوت وهو التابوت والعالم الجسماني وعالم الملك لا في عالم اللاهوت وهو عالم الأسماء والأرواح فتدبير الحق في مثل هذا العالم عالم الأسماء لا يكون إلا بذاته لا بواسطة أمر آخر بخلاف عالم الناسوت فلا بد من تدبير الحق فيها من واسطة وتدبير العالم بالعالم مثله فالحرف الفاصلة بمعنى الواصلة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي ولأجل أن الحق ما دبر العالم إلا بصورة العالم ( قال في خلق آدم الذي هو البرنامج ) أي الأنموذج ( الجامع لنعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال قوله إن اللّه خلق آدم على صورته ) مقول قال ( وليست صورته ) أي صورة الحق ( سوى ) تلك ( الحضرة الإلهية فأوجد في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية و )  جميع ( حقائق ما خرج ) هو ( عنه ) أي عن هذا المختصر
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( في العالم الكبير المنفصل ) وإنما قال حقائق ما خرج عنه إذ ما يوجد في المختصر جميع ما في العالم الكبير بصورها وتشخصاتها وتعيناتها بل ما يوجد ما في العالم الكبير إلا بحقائقها وهي الأمور الكلية التي تحتها أفراد شخصية فلا يوجد في الإنسان الكامل الأشخاص الجزئية الموجودة في العالم الكبير بل توجد حقائق تلك الأشخاص فيه ( وجعله روحا للعالم ) الكبير المنفصل ( فسخر له العلو والسفل لكمال الصورة ) التي خلق اللّه الإنسان الكامل عليها فالمراد بآدم في قوله خلق آدم على صورته هو آدم الحقيقي الذي يسمى الإنسان الكامل والروح المحمدي
 
وهو قوله أول ما خلق اللّه روحي وهو عالم اللاهوت لا آدم الصوري العنصري وهو جزء من عالم الكبير عالم الملك مسخر لهذا الروح الكلي وهو صورة العالم الكبير وروحه فدبر الحق الإنسان الكامل بذاته ودبر العالم بالإنسان الكامل
 
قال رضي الله عنه :  ( فكما أنه ليس شيء من العالم إلا وهو يسبح اللّه بحمده كذلك ليس شيء في العالم إلا وهو مسخر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته ) أي تقتضي حقيقة الإنسان الكامل وهو صورة العالم أن يكون العالم كله مسخرا له
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاًمنه وكل ما في العالم تحت تسخير الإنسان علم ذلك ) أي علم كون كل ما في العالم تحت تسخير الإنسان ( من علمه ) أي من علم الإنسان ( وهو ) أي العالم بذلك ( الإنسان الكامل ) إذ علمه عن كشف إلهي وتجلي جمعي ( وجهل ذلك ) التسخير ( من جهله ) أي من جهل الإنسان
 
قال رضي الله عنه :  ( وهو ) أي الجاهل بذلك ( الإنسان الحيوان فكانت صورة إلقاء موسى في التابوت في اليم صورة هلاك في الظاهر وفي الباطن كانت نجاة له من القتل ) فدبر الحق حياة موسى في صورة الهلاك
( فحي ) موسى بأليم من موت القتل ( كما تحيى النفوس بالعلم عن موت الجهل كما قال أو من كان ميتا يعني بالجهل فأحييناه يعني بالعلم ،وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ وهو ) أي النور ( الهدى كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ وهي ) أي الظلمات
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( الظلال ليس بخارج منها أي لا يهتدي أبدا فإن الأمر في نفسه لا غاية له يوقف عندها فالهدى هو أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة فيعلم ) الإنسان ( أن الأمر حيرة ) فالظلال هاهنا ما يقابل الحيرة الحاصلة من العلم إذ هو تفسير للظلمات وهو الجهل وهو لا يهتدي الإنسان به إلى الحيرة فلا يعلم أن الأمر حيره .
( والحيرة قلق ) بثلاث فتحات ( وحركة ) عطف تفسير للقلق ( والحركة حياة فلا سكون فلا موت ) أبدا لمن كان حيا بحياة العلم ( ووجود ) عطف على حياة أي الحركة وجود ( فلا عدم ) فظهر بذلك أن العلم حياة ووجود والجهل موت وعدم ( وكذلك في الماء الذي به حياة الأرض ) أي كما أن حياة الإنسان بالعلم كذلك حياة الأرض بالماء .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وحركتها ) أي حركة الأرض ( قوله فاهتزت ) وهو قوله "وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً" أي ميتة ساكنة فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ أي تحركت والحركة حياة فكانت الأرض الميتة حيا بالماء كما أن النفوس الميتة حيا بالعلم وَرَبَتْ أي ازدادت (وحملها قوله "وَرَبَتْ" وولادتها قوله "وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" أي أنها ) أي الأرض ( ما ولدت إلا من يشبهها أي طبيعيا مثلها ) كما أن أرض بدن الإنسان ما ولدت إلا مثلها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكانت الزوجية التي هي الشفعية لها ) أي للأرض ( بما تولد منها وظهر عنها كذلك وجود الحق كانت الكثرة له وتعداد الأسماء أنه كذا وكذا بما ) أي بسبب ما ( ظهر عنه ) أي عن الحق ( من العالم الذي يطلب بنشأته حقائق الأسماء الإلهية ) ليظهر عن الحق سبب اتصافه بها ( فثنيت به ) على صيغة المجهول من باب التفعيل أي شفعت بسبب العالم ( وبخالقه ) بالقاف أي وبسبب خالق العالم إذ الحق لا يوجد العالم إلا من حيث اتصافه بحقائق الأسماء الإلهية وهي الحياة والعلم والقدرة فثنيت بهذا المجموع أي العالم وحقائق الأسماء وبالفاء أي ثنيت بالعالم وبالأسماء ، إذ الأسماء والعالم حضرتان متقابلتان بالربوبية والمربوبية فالمعنى واحد بل الفاء أقرب إلى الفهم وأنسب بالمقام لأن الأسماء الحسنى ما ذكرت في هذا المقام إلا مقابلا ومخالفا للعالم فهي خلاف العالم وصورته وروحه المدبرة له قال الشارح القصيري وصحف بعض الشارحين قوله بخالقه وقرأ بخالفه من الخلاف وهو خطأ تم كلامه فانظر بنظر الانصاف هل هو محل تخطئة أم لا .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أحدية الكثرة )  مفعول قام مقام فاعل ثنيت ( وقد كان ) والحال أن الحق ( إحدى العين من حيث ذاته ) غني عن العالمين واحدية الكثرة نشأ بما ظهر عنه من العالم.
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كالجوهر الهيولاني احدى العين من حيث ذاته كثير من حيث الصور الظاهرة فيه ) أي في الجوهر ( حامل لها بذاته ) بين أوّلا أن الحق أحدى العين من حيث ذاته وكثير بالأسماء والعالم وشبه بالجوهر الهيولاني ثم عكس التشبه اهتماما في بيان هذه المسألة التي هي أصل المسائل الإلهية .
 
فقال ( كذلك ) أي كالجوهر الهيولاني ( الحق ) إحدى العين من حيث ذاته كثير ( بما ظهر منه من صور التجلي وكان ) الحق ( مجلى صورة العالم مع أحديته المعقولة ) كالمرآة الواحدة التي كانت مجلى للصور الكثيرة مع أحديتها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فانظر ما أحسن هذا التعليم الإلهي الذي خص اللّه بالاطلاع عليه من شاء من عباده ) وإنما كان هذا التعليم إلهيا إذ كل ما ذكر من التعليم هو التحقيق الذي علمه اللّه في كلامه المجيد ( ولما وجده آل فرعون في اليم عند الشجرة سماه فرعون موسى والمو هو الماء بالقبطية وسى هو الشجر فسماه بما وجده عنده فإن التابوت وقف عند الشجرة في اليم فأراد قتله فقالت امرأته ) آسية وكانت ( منطقة بالنطق الإلهي ) أي هي التي أنطقها اللّه من غير اختيار ( فيما قالت لفرعون ) وإنما قالت منطقة بالنطق الإلهي ( إذ كان اللّه خلقها للكمال كما قال عليه السلام عنها حيث شهد لها ولمريم بنت عمران ) .
 
قوله رضي الله عنه  : ( بالكمال ) يتعلق بقوله شهد أي شهد بالكمال ( الذي هو للذكران ) وهذا معنى حديث النبي عليه السلام : "كملت من النساء أربع مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة "
""ورد بلفظ: « كمل من الرّجال كثير ولم يكمل من النّساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران » ذكره البخاري ومسلم والترمذي  .
 
فشهد رسول اللّه عليه السلام في حقهن بالكمال الذي هو للرجال فجعل رسول اللّه عليه السلام آسية من زمرة الرجال فكانت منطقة بالنطق الإلهي أي تخبر عن الكمال الذي يحصل لها ولفرعون بموسى فكلاهما صدق واقع ( فيما قالت لفرعون في حق موسى أنه قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) فلما قالت كذلك ( فبه ) أي فبموسى ( قرة عينها ) أي عين آسية ( بالكمال الذي حصل لها ) أي أعطاها اللّه ذلك بسبب موسى.
 
( كما قلنا ) من أن الرسول عليه السلام شهد لها بالكمال الذي هو للذكران فكان قرة عين لها بهذا الكمال المشهود به .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان ) موسى ( قرة عين لفرعون بالايمان الذي أعطاه اللّه عند الغرق ) والمراد بذلك الكلام إتيان الشاهدة للعادلة لإيمان فرعون من النساء الصادقة المكرمة عند اللّه متزكيا بقول الرسول حيث قال عليه السلام عنها حيث شهد لها ( فقبضه اللّه ) على تقدير ثبوت ما ذكر من الدليل ( طاهرا ) أي حال كونه طاهرا ( مطهرا ) من حيث البدن والروح ( ليس فيه ) أي بحيث لا يوجد فيه عند الانتقال ( شيء من الخبث ) وهو الشرك وإنما قلنا قبضه على الطهارة ( لأنه ) أي لأن الشأن ( قبضه اللّه عند إيمانه ) وهو قوله آمنت بالذيآمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَفظهر جسده وروحه بالايمان ثم قبض فكان قبض الروح واقعا بعد الايمان ( وقبل أن يكتب شيئا من الآثام والإسلام يجب ) أي يسقط ويمحو ( ما قبله ) .
 
من حقوق اللّه ومقتضى مثل هذا الايمان أن يجعل صحيحا معتدّا به أي لم يعارضه الدليل أو لم يردّ المنع على دليله فسنذكره إن شاء اللّه ما فيه من المنع  والمعارضة فقوله وكانت منطقة بالنطق الإلهي دليل ، وقوله لأنه قبضه دليل
 
وقوله رضي الله عنه : ( وجعله آية على عنايته سبحانه بمن شاء حتى لا ييأس أحد من رحمة اللّه ) دليل وقوله ( فإنه لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ فلو كان فرعون ممن ييأس ) من رحمة اللّه
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ما بادر إلى الايمان ) دليل وقوله من بعد وقرينة الحال تعطى أنه ما كان على يقين بالانتقال دليل ونتيجة الدلائل المذكورة .
 
قوله رضي الله عنه  : ( فكان موسى كما قالت امرأة فرعون فيه ) أي في حق موسى ( أنه قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ. . . عَسى أَنْ يَنْفَعَنا وكذلك وقع فإن اللّه نفعهما به عليه السلام ) أي بموسى ( وإن كانا ما شعرا بأنه هو النبي الذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون وهلاك إله ) وليس كل واحد منها دليلا قطعيا على مقبولية إيمان فرعون وصحته عند المصنف لورود المنع على كل منها لا مجموعها دليلا عنده أيضا على صحة إيمانه لتعارض الإجماع .
 
أما الأول فلأن قوله وكانت منطقة بالنطق الإلهي أنه قرة عين لي ولك عسى أن ينفعنا احتمل أن يكون من قبيل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فكان هذا القول من الكاملة نجاة لموسى عليه السلام عن القتل عن يد فرعون سواء كان موسى قرة عين لفرعون بالايمان أم لا ،
فكان سببا لحياة موسى فلا يلزم الكذب على تقدير عدم صحة الايمان لصدور هذا الكلام عن حكمة وهي النجاة عن القتل فوقع كما قالت مع أنها لا تقول هذا القول إلا على مراد فرعون مما في قلبه من تشوق الولد
فإن الصبيان قرة عين للأبوين فكان موسى قرة عين لفرعون في زمان صباوته فصدقت في قولها عسى أن ينفعنا من غير احتياج إلى صحة الايمان .
 
وأما الثاني فلأن قوله لأنه قبضه عند إيمانه نص في وجود الايمان ولا يلزم منه الدلالة على صحة الايمان أي على منفعته لجواز ثبوت الايمان ولا منفعة لعدم وقوعه في وقته إذ الايمان هو التصديق بما جاء به من عند اللّه والمقبولة خارجة عن ماهية التصديق لازمة له بحسب الوقت كقوله يوملا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها.
 
وأما الثالث فلأن قوله وجعله آية على عنايته سبحانه وتعالى بمن شاء ممنوع لكثرة الدلالة على عنايته سبحانه في الاخبارات الإلهية فلا احتياج إلى الدليل على عنايته بمن شاء إلى صحة إيمانه .
وأما الرابع فلأن قوله فلو كان فرعون ممن ييأس من رحمة اللّه ما بادر إلى الايمان
يحتمل أن يكون فرعون بادر إلى الايمان ولم يكن مأيوسا عن رحمة اللّه بل راجيا رحمته من اللّه وبادر إلى الايمان
وكان كافرا لعدم وقوع رجاء الرحمة كما آمن الناس كلهم عند طلوع الشمس مغربها وذلك الايمان لا يكون إلا عن رجاء
فإنهم لا ييأسون ويبادرون إلى الايمان لكنهم كافرون لعدم وقوع رجائهم وإيمانهم في وقته فكان إيمان فرعون ضروريا خارجا عن الاختيار لانكشاف ما جاءت به الاخبارات الإلهية من الوعد والوعيد .
 
وأما الخامس فلأن قوله وقرينة الحال تعطى أنه ما كان على يقين بالانتقال لأنه عاين المؤمنين يمشون في الطريق فإنه يجوز أن يكون إيمانه في تلك الساعة للنجاة عن الهلاك وأسرّ في نفسه بعدها دعوة الربوبية فعلم اللّه منه ذلك فلم يقبل إيمانه
وسبب ذلك أن فرعون حيث رأى السحرة لما آمنوا نجوا عن الهلاك فزعم أن مجرد الإقرار باللسان سبب النجاة عن الهلاك ففعل فعلا لم ينفع له في الدنيا والآخرة
فقد ظهر لك أن قوله فقبضه اللّه طاهرا مطهرا لا يثبت عنده إلا على تقدير ثبوت الأدلة المذكورة في إثباته
فلم يكن هذه الأدلة عنده نصوصا في إيمانه كما لم تكن الأدلة الدالة على شقائه في الآخرة عند أهل الظاهر نصوصا عنده لأن قوله تعالى :"آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" [ يونس : 91 ] ، يحتمل أن يكون عتابا لفرعون لا رادّا للإيمان وكذا سائر الآيات الدالة على شقائه مثل هذه الآية فلما لم ينص المصنف بآية من القرآن الكريم وبحديث النبي في سعادته وشقاوته في الآخر ذهب إلى التوقف في حق فرعون فقال والأمر فيه إلى اللّه وأما حديث ابن عباس أنه لما قال فرعون لا إله إلا اللّه أتاه جبرائيل فحاشى فاه التراب خشية أن تدركه الرحمة فنص في منع الرحمة عقيب الايمان لا غير
ولو كان له نص في ذلك لوجب عليه الحكم بمقتضى النص فقال والأمر فيه إلى الايمان ، ولم يقل كذلك إشارة إلى ورود المنع المذكور ولم يترجح أحد الدليلين على الآخر عنده فتوقف فمن عثر مراتب الأدلة لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام
ولا تعرف أن التوقف في مثل هذا المقام مثل هذا الكامل يخالف الإجماع
وإنما المخالف من ذهب إلى صحة إيمانه حاشا من العقلاء فضلا عن هذا الكامل فإن التوقف هو الوقوف مع النسبة الحكمية وهو نوع من التقليل إلى الجماعة ودخول فيهم في الجملة لأنه الوقوف مع خلفهم لإخلافهم الذي هو صحة الايمان فلا يكون خارجا منقطعا عنهم ولئن سلم التوقف ليس مذهب الشيخ
وإنما مذهبه ما قاله في الفتوحات المكية فرعون ونمرود مؤبدان في النار
والمراد في هذا المقام إظهار الدلائل الموصلة إلى التوقف التي لم يتفطن عليها علماء الرسوم ولا يأتيها أحد غيره من أهل اللّه فلا يكون التوقف مذهبا للشيخ كيف ؟
وقد قال في هذا الكتاب وفي بعض كتبه لا بد لأهل الكشف أن يتبع إماما من الأئمة الأربعة في الاعتقادات الدينية والعمليات الشرعية ولا شك أن شقاء فرعون من الاعتقادات الدينية وإلا لما كفر من قال بإيمانه ولا دلالة في عبارات الكتاب على صحة إيمانه
بل عبارته كلها تدل على جواز صحته بالنظر إلى ظاهر القرآن من غير نظر إلى الإجماع لتوقفه في آخر المسألة فيما ذكرناه حصل التوفيق بينه وبين أهل الشرع عند أهل الانصاف
فظهر لك أن ما يقوله الناس في هذه المسألة في حق الشيخ افتراء منهم عليه
ولعل غلط العامة ينشأ من كلام الشارحين الذي لم يصلوا بروحانية الشيخ وبينوا كلامه على خلاف مراده لعدم مناسباتهم بالمجردات وموضع غلطهم قوله في حق فرعون فقبضه اللّه طاهرا مطهرا .
 
قال داود  القيصري في شرح هذا الكلام:
لما كان إيمان فرعون في البحر حيث رأى طريقا واضحا عبر عليها بنو إسرائيل قبل التغرغر وقبل ظهور أحكام الآخرة له مما يشاهده الناس عند الغرغرة جعل إيمانه صحيحا معتدّا به فإنه إيمان بالغيب.أهـ  تم كلامه
 
وليس بصحيح لأنه لو جعل إيمانه صحيحا معتدّا به لم يتوقف في آخر كلامه أصلا فقد توقف وجعل الإجماع دليلا على توقفه
فقال هذا هو الظاهر الذي ورد به القرآن ولم يقل نص ثم نقول بعد ذلك والأمر فيه إلى اللّه لما استقر في نفوس عامة الخلق من شقائه
فتبين آخر الكلام ما هو المراد من قوله فقبضه اللّه طاهرا مطهرا وهو الجواز لا الصحة أي فجاز أن يقبضه اللّه ظاهرا مطهرا
وقد ثبت في علم الأصول أن الكلام يتوقف على آخره إن كان آخره مغيرا بمنزلة الشرط والاستثناء
والشيخ قد حرر كلامه في مسألة فرعون على هذه القاعدة وإن كان منفصلا في الظاهر لكنه متصل في المعنى
لأن الكلام في مسألة واحدة وهي مسألة فرعون مع أنه جاز عند البعض منفصلا فالحكم والاعتبار للآخر دون الأول
فكل ما ذكر من الأدلة في حق إيمان فرعون مجمل يحتمل البيان ، فقوله :
ثم إنا نقول بعد ذلك والأمر فيه إلى اللّه بيان المجمل وهو بيان تفسير فيصح موصولا ومفصولا
وما علم هذا الشارح مراد النص ، فغلط ومن غلطه غلط بعض الناس حتى أكثر الصوفية في زماننا فشاع هذا المعنى فيما بينهم فاشتهر فزعموا أن الشيخ قد ذهب إلى أن فرعون من أهل الإسلام وهو بريء من زعمهم هذا .
 
والمقصود أن اللّه قد تجلى لأهل اللّه برحمته فانكشف لهم جواز الرحمة في حق فرعون من وجوه الآيات وإشاراتها التي لا تنكشف للعلماء وسيتم الكلام في المسألة في آخر الفص إن شاء اللّه .
فإن قيل فما الحكمة في انكشاف هذا المعنى في حق فرعون من الآيات لأهل اللّه وعدم انكشافه لأهل الظاهر
قلنا : أما عدم الانكشاف فلأنه لما كان رجاء العوام غالبا على خوفهم لبعضهم عن الحق باحتجابهم بالصفات النفسانية ،
وكان العلماء رئيسهم ومقتداهم جعل اللّه في قلوبهم غيرة وجرأة حتى اجتمعوا وحكموا بحسب ورود ظاهر القرآن على شقائه في الآخرة ، فلم ينكشف لهم هذا المعنى اللطيف من الآيات ليظهر هذه الحكمة المقصودة ظهورها .
فلو كشف اللّه لهم ما كشف لأهل الفناء لم يظهر منهم هذا الحكم بل يظاهرون جواز الرحمة فيهلك الناس من الجهلاء بتخفيف الشرع المطهر فإنهم إذا سمعوا من علمائهم الذين هم رئيسهم جواز رحمة اللّه بمثل هذا الكافر المدعي الربوبية كانوا مغرورين بكرمه ولطفه وسعة رحمته ،
 
فزال عن قلوبهم خوف عظمة اللّه وكبريائه وقهاريته فاجترءوا على اللّه وارتكبوا المنهيات فهلكوا في بحار العصيان كهلاك فرعون وقومه .
وأما الانكشاف فلأنه لما كان خوف هذه الطائفة غالبا على رجائهم لأنهم أهل فناء وأهل قرب وكان حالهم أن يروا أنفسهم أحقر الأشياء وإذ لها عند اللّه حتى يشاهدون عند غلبة الفناء أن الكفار أعز وأكرم منهم عند اللّه فلو لم يطلعهم اللّه بإشارات القرآن الكريم في حق فرعون لمالوا عن الاعتدال
وهو بين الخوف والرجاء وخرجوا عن دائرة العقل بسبب ازدياد خوفهم ويبقوا حيارى ساقطين عن العمل أو تصدعت قلوبهم من خشية اللّه لشهود استحقاقهم بعذاب اللّه

فأظهر اللّه لهم شمول رحمته بأخبث الأشياء وهو المدعي الربوبية تسلية لهم وحفطا عن مثل هذه المهالك
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:52 am

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الثاني  .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الجزء الثاني 

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية
فكانت هذه الدلائل الرحمانية آية لأهل الفناء حتى لا ييأس أحد منهم من رحمة اللّه فهم بتلك الدلائل يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ . وبالدلائل القهارية يخافون عذاب اللّه .
فهم بين الخوف والرجاء بالآيات الواردة في حق فرعون فإنهم إذا نظروا إلى الإجماع خافوا عقاب اللّه وإذا نظروا إلى إشارات الآيات يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ
فهم صاحب الدليلين لأنهم جامعون بين الشريعة والحقيقة وتلك الدلائل القهارية والانتقامية وهي الإجماع .
 
وظاهر القرآن آية لأهل الوجود حتى لا يجترئ أحد منهم على المعاصي فهم بذلك يخافون عذاب اللّه فقط حيث قهره اللّه ومن تابعه في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الأبدي ولا رجاء لهم في حق فرعون لعدم اطلاعهم بالحقائق القرآنية .
 
فهم صاحب دليل واحد وأما حكمة ظهور هذه المعاني من لسانهم فهي ابتلاء من اللّه للراسخين في العلم من علماء الظاهر .
حتى علموا أن للَّه عبادا لم يصلوا درجتهم في رتب العلم ويلقوا أنفسهم في مدرجة العجز ويضمحل علمهم في علم ذلك العبد .
فمثل هذا الكلام من كراماتهم القولية وتشابهاتهم يصدر منهم بأمر اللّه تعالى ومن لم يعلم محكمات أقوالهم أو لم يردّها إلى المحكمات فقد أخطأ باتباعه بالمشابهات فضل وأضل وأنكر وظن السوء لخفاء سببها عليه .
فبعد صدور مثل هذا الكلام منهم وقع الخلاف بين الناس فمنهم من علم مرادهم من كلامهم وعلم مرتبتهم في العلم لسلامة عقلهم وقوة مناسبتهم الروحانية بينهما .
ومنهم من فوّض أمرهم إلى اللّه تعظيما لهذه الطائفة واتصافا من أنفسهم .
ومنهم من أنكر لعدم المناسبة والكل مصيب ومأجور إلا من اتبع المتشابهات وعمل بها فإنه ضال مضل أعوذ باللّه من الاتباع بالمشابهات والعمل بها واللّه أعلم بحقيقة الحال .
 
ثم رجع إلى أحوال موسى عليه السلام فقال:
( ولما عصمه اللّه من فرعون أصبح فؤاد أم موسى فارغا من الهم الذي كان قد أصابها ثم إن اللّه حرم عليه المراضع حتى أقبل على ثدي أمه فأرضعته ليكمل اللّه لها سرورها ) أي سرور أمه ( به ) أي بالإرضاع أو بموسى ( كذلك علم الشرائع ) من التعلم .
أي كما أن اللّه حرم على موسى المراضع وعلم ثدي أمه من عنده كذلك علم الشرائع لموسى من لدنه وحرم عليه اتباع شريعة غيره .
أو من العلم أي نسبة علم الشرائع مع صاحبها كنسبة موسى مع لبن أمه.
أو معناه كما أن اللّه حرم على موسى المراضع وعلمه طريق لبنه كذلك علم لكل نبي شريعة أي طريقة علمه الذي جاء منها وحرّم على ذلك النبي شريعة غيره كما حرم على موسى ثدي غير أمه.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما قال : لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً و منهاجا أي طريقا ومنهاجا أي من تلك الطريقة جاء فكان هذا القول إشارة إلى الأصل الذي منه جاء) كل واحد منكم وغذاؤكم الروحاني والجسماني من طريقتكم الخاصة التي هي الأصل ، كما أن موسى وغذاؤه جاء عن أصله وهي أمه.
 
( فهو ) أي الأصل ( غذاؤه ) أي غذاء الذي جاء منه ( كما أن فرع الشجرة لا يتغذى إلا من أصله فما كان حراما في شرع يكون ) عين ما كان ( حلالا في شرع آخر ) كما أن ما كان حراما لموسى من المراضع يكون حلالا لآخر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( يعني في الصورة أعني قولي يكون حلالا ) أي عينيته الحلال والحرام لا يكون إلا في الصورة ( وفي نفس الأمر ما هو عين ما مضى لأن الأمر خلق جديد ولا تكرار ) في نفس الأمر فالخمر الحرام في شرعنا هو عين الخمر المباح في شرع آخر في الصورة وأما في نفس الأمر فليس ما كان حراما في شرع يكون عين ما كان حلالا في شرع آخر.
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلهذا ) أي فلأجل كون الأمر خلقا جديدا ( نبهناك فكنى ) الحق ( عن هذا في حق موسى ) إشارة إلى قوله فما كان حراما وإلى قوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أو إلى قوله كذلك علم الشرائع .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بتحريم المراضع فأمه ) أي أم الولد ( على الحقيقة من أرضعته لا من ولدته فإن أم الولادة حملته على جهة الأمانة فتكون ) من التكون ( فيها ) أي في رحم الأم ( وتغذى بدم طمثها ) وهو دم الحيض ( من غير إرادة لها في ذلك ) التكون والتغذي ( حتى لا يكون عليه امتنان فإنه ) أي الشأن ( ما تغذى إلا بما أنه ) أي الشأن .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لو لم يتغذ به ولم يخرج عنها ذلك الدم لأهلكها وأمرضها فللجنين المنة على أمه بكونه تغذى بذلك الدم فوقاها بنفسه من الضرر الذي كانت تجده لو أمسك ذلك الدم عندها ولا يخرج ولا يتغذى به جنينها والمرضعة ليس كذلك فإنها قصدت برضاعته وحياته وبقائه ) وقد أشار بذلك أن الأنبياء والمرشدين والمعلمين مرضعة العلم للناس قال الرسول : « أنا أب الأرواح وأم الأشياء » وهو أم ولادة وأم مرضعة كما كان أم موسى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فجعل اللّه ذلك ) الرضاع ( لموسى في أم ولادته فلم يكن لامرأة عليه فضل إلا لأم ولادته لتقرّ عينها أيضا ) كما تقرّ عين امرأة فرعون أو كما تقرّ عينها بعصمة اللّه عن الهلاك من فرعون لكون فؤادها فارغا من الهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بتربيته وتشاهد إنشاءه في حجرها ولا تحزن ونجاه اللّه ) أي ونجا اللّه روح موسى ( من غم التابوت ) أي موسى البدن ( فخرق ) موسى ( ظلمة الطبيعة بما أعطاه اللّه من العلم الإلهي وإن لم يخرج عنها ) أي عن الطبيعة بالكلية لكن نجى عن حجاب ظلمات الطبيعة ( وفتنه فتونا أي اختبره في مواطن كثيرة ليتحقق في نفسه صبره على ما ابتلاه اللّه به فأول ما ابتلاه اللّه به قتله القبطي بما ألهمه اللّه وو فقه له في سرّه وإن لم يعلم بذلك ) التوفيق ( ولكن لم يجد في نفسه اكتراثا ) أي مبالاة ( بقتله مع كونه ما توقف ) أي ما صبر ( حتى يأتيه أمر ربه بذلك ) القتل وإنما قتله بإلهام اللّه وتوفيقه مع عدم العلم بذلك الإلهام والتوفيق (لأن النبي معصوم الباطن) عن الكبائر (من حيث لا يشعر حتى ينبأ أي يخبر بذلك ) أي كونه معصوم الباطن
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولهذا) أي ولأجل عدم شعور موسى بكونه معصوم الباطن ( أراه الخضر قتل الغلام وأنكر عليه ) أي أنكر موسى على الخضر ( قتله ) حيث قالأَ " قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً" ( ولم يتذكر ) موسى بقتل الخضر الغلام ( قتله القبطي ) فاحتاج إلى تنبيه آخر ( فقال له الخضر ما فعلته عن أمري ينبهه ) أي ينبه الخضر موسى عليهما السلام بقولهما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ( على مرتبته ) أي مرتبة موسى ( قبل أن ينبأ أنه ) أي الشأن ( كان ) موسى ( معصوم الحركة في نفس الأمر وإن لم يشعر ) موسى ( بذلك ) أي كونه معصوم الحركة فعلم موسى بذلك التنبيه أن قتله القبطي عن أمر إلهي ( وأراه أيضا خرق السفينة التي ظاهرها هلاك وباطنها نجاة من يد الغاضب جعل ) الخضر ( له ) أي لموسى ( ذلك )
 
أي خرق السفينة ( في مقابلة التابوت له ) أي لموسى ( الذي كان في اليم مطبقا عليه فظاهره هلاك وباطنه نجاة وإنما فعلت به ) أي بموسى ( أمه ذلك ) الفعل وهو جعله في التابوت والقاؤه في اليم ( خوفا من يد الغاضب فرعون ) بدل من الغاضب ( أن يذبحه ضيرا ) وهو ضرب عظيم من الذبح ( وهي ) أي أم موسى ( تنظر إليه ) خوفا من أن يذبحه فرعون على نظر أمه فإنه أشدّ إيلاما من أن يذبحه على غيبتها قوله ( مع الوحي ) يتعلق بقوله إنما فعلت ( الذي ألهمها اللّه من حيث لا تشعر ) فعلم موسى بفعل الخضر بالسفينة أن ما فعلت أمه به ليس عن أمرها بل عن أمر اللّه وإلهامه لها وإن لم تشعر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فوجدت في نفسها أنها ترضعه ) فوقعت كما وجدت في نفسها ( فإذا فعلت ) ذلك الفعل بموسى ( خافت عليه الفتنة ) أي خافت على موسى أن يصيبه الفتنة ( في اليم ) وهو خوف غيبته فقوله خافت جزاء لأذا الذي للشرط وفعل الشرط محذوف لوجود قرينة وهي فعلت.
( لأن في المثل عين لا ترى قلب لا يفجع فلم تخف عليه خوف مشاهدة عين ولا حزنت عليه حزن رؤية بصر وغلب على ظنها أن اللّه ربما يردّه إليها لحسن ظنها به ) أي باللّه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعاشت بهذا الظن في نفسها والرجاء يقابل الخوف واليأس ، وقالت حين ألهمت ) أي حين ألهمها اللّه فعل التابوت ( لذلك ) الرجاء وحسن الظن فقوله لذلك يتعلق بقالت ( لعل هذا هو الرسول الذي يهلك فرعون والقبط على يديه فعاشت وسرّت ) من السرور .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بهذا التوهم والظن بالنظر إليها وهو ) أي ذلك التوهم ( علم في نفس الأمر ثم إنه لما وقع عليه الطلب خرج فارّا خوفا في الظاهر وكان في المعنى حبا للنجاة ) ففعل موسى بنفسه مثل ما فعلته أمه به ، فمثل فرار موسى كمثل فعل التابوت من أمه في أن صورة كل منهما خوف ومعناهما حب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن الحركة أبدا إنما هي حبية ويحجب ) مبني للمفعول ( الناظر فيها ) أي في الحركة ( بأسباب أخر ) كالخوف والغضب وغير ذلك ( وليست تلك الأسباب ) المحجبة للناظر أسبابا لها على الحقيقة بل إنما كان سببا حبا ( وذلك ) أي وبيانه أي أن الحركة لا تكون أبدا إلا حبية ( لأن الأصل حركة العالم من العدم الذي كان ) العالم ( ساكنا فيه ) أي العدم ( إلى الوجود ) يتعلق بالحركة ( ولذلك ) الأصل ( يقال إن الأمر ) أي الوجود ( حركة عن سكون فكانت الحركة التي هي وجود العالم حركة الحب وقد نبه رسول اللّه عليه السلام على ذلك ) الحب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بقوله : « كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف » ، فلو لا هذه المحبة ما ظهر العالم في عينه ) أي في وجوده الخارجي ( وحركته ) أي حركة العالم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( من العدم إلى الوجود حركة حب الموجد لذلك ) العالم أي السبب لحركة العالم حب اللّه الموجد للعالم فكان الحق يحب حركة العالم من العدم إلى الوجود ليكون مرآة لكمالاته الذاتية والاسمائية والصفاتية ( ولأن العالم أيضا يحب ) في حال عدمه ( شهود نفسه وجودا ) خارجيا ( كما شهدها ثبوتا ) أي في الأعيان الثابتة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكانت ) الحركة ( بكل وجه حركته ) أي حركة العالم ( من العدم الثبوتي إلى الوجود العيني حركة حب من جانب الحق وجانبه ) أي جانب العالم وإنما كانت الحركة حبية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن الكمال محبوب لذاته ) يقول الحركة حبية لأنه وجود عيني والوجود كمال والكمال محبوب لذاته والحركة محبوبة لذاتها ( وعلمه تعالى بنفسه من حيث هو غني عن العالمين هو له ) أي هذا العلم علمه تعالى لذاته بذاته مختص للَّه تعالى وهو تمام مرتبة العلم الأزلي القديم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما بقي إلا تمام مرتبة العلم بالعلم الحادث الذي يكون من هذه الأعيان أعيان العالم إذا وجدت فتظهر صورة الكمال بالعلم المحدث و ) العلم .
( القديم فتكمل مرتبة العلم بالوجهين ) أي تكمل مرتبة العلم بالعلم القديم الذي كان من ذاته تعالى من حيث غناه عن العالمين وهو الوجه القديم وتكمل بالعلم بالحادث الذي يكون في صور الأعيان الخارجية وهو الوجه الحادث .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك ) أي وكما تكمل مراتب العلم ( تكمل مراتب الوجود منه أزلي وغير أزلي وهو الحادث فالأزلي وجود الحق لنفسه ) وهو الوجود من حيث غناه عن العالمين .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وغير الأزلي وجود الحق بصور العالم الثابت ) والمراد منه تعلق وجود الحق إلى العالم فالحدوث وصف للتعلق لا للوجود فلا يلزم أن يكون وجوده تعالى محلا للحوادث ألا ترى أن الوجود وصف للموجود والعدم وصف للوجود فلا يلزم منه أن يكون الموجود محلا للعدم.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيسمى حدوثا ) وإنما يسمى هذا الوجود وجود العالم حدوثا ( لأنه ظهر بعضه ) أي بعض العالم ( لبعضه وظهر ) الحق ( لنفسه بصور العالم فكمل الوجود فكانت حركة العالم حبية للكمال ) وهو الوجود والعلم.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فافهم ، ألا تراه ) أي الحق ( كيف نفس عن الأسماء الإلهية ما كانت تجده من عدم ظهور آثارها في عين يسمى العالم فكانت الراحة ) أي راحة عباده وأسمائه ( محبوبة له ) أي للحق فيجب أن يوصلها إلى عباده ( ولم يوصل إليها إلا بالوجود الصوري الأعلى والأسفل ) فلا يتوهم أن الحق يتصف بالراحة المعلومة لنا فإنه يستحيل ذلك على اللّه فإن كانت الراحة وصفا له فلا بد من معنى لائق بحضرته كما أن حياته غير حياتنا كذلك راحته غير راحتنا.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فثبت أن الحركة كانت للحب فما ثمة حركة في الكون ) أي فما في العالم حركة ( إلا وهي حبية ) فقوله في الكون بدل من قوله ثمة ( فمن العلماء من يعلم ذلك ) أي كون الحركة للحب وهي أهل الكشف .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومنهم من يحجبه السبب الأقرب لحكمه ) أي لحكم السبب الأقرب ( في الحال واستيلائه عن النفس ) أي على نفس المحجوب فيجعلها محجوبة عن الاطلاع بالحقائق
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان الخوف لموسى عليه السلام مشهودا له بما وقع من قتله القبطي وتضمن الخوف حب النجاة من القتل ففرّ لما خاف وفي المعنى ففرّ لما أحب النجاة من فرعون وعمله به )
فكان سبب الفرار في الظاهر الخوف وفي المعنى حب النجاة ( فذكر ) موسى ( السبب الأقرب المشهود له ) .
 
قوله رضي الله عنه  : ( في الوقت ) يتعلق بقوله فذكر أي ذكر موسى في وقت ملاقاته مع فرعون وهو قوله "فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ " ( الذي ) أي السبب الأقرب الذي ( هو كصورة الجسم للبشر ، وحب النجاة متضمن فيه تضمين الجسد للروح المدبر له والأنبياء عليهم السلام لهم لسان الظاهر به ) الباء يتعلق بقوله ( يتكلمون ) . وإنما يتكلمون بلسان الظاهر ولم يبينوا ما في الظاهر من المعنى.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لعموم الخطاب واعتمادهم على فهم العالم السامع فلا تعتبر الرسل إلا العامة لعلمهم بمرتبة أهل الفهم كما نبه رسول اللّه عليه السلام على هذه المرتبة في العطايا فقال : « إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه مخافة أن يكبه اللّه في النار » ) .
 
روى سعد بن وقاص كان يقسم الغنيمة بين رهط فترك منهم رجلا
فقلت يا رسول اللّه ما أعطيت فلانا وهو مؤمن
فقال الحديث فعلم الرسول أن إيمانه ضعيف فلو لم يعطه لأعرض عن الحق فارتدّ فكان من أهل النار فخاف لأجل ذلك وأعطى. فكان سببه الخوف لا الحب
وعلم من هذا الرجل أن إيمانه كامل تام ، فلا يخاف عليه بترك العطاء فلم يعطه من الغنيمة مع أنه أحب إليه من الرجل الذي أعطى له فيظن المحجوب أن الإعطاء أثر الحب وتركه أثر البغض . فنبه الرسول عليه السلام أن الأمر ليس كذلك
 
قال الشيخ رضي الله عنه :   ( فاعتبر ) الرسول إلى ( ضعف العقل والنظر الذي غلب عليه الطمع ) قوله ( والطبع ) بثلاث فتحات وهو الدين وهو قوله تعالى "طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ " ( فكذا ما جاءوا به من العلوم جاءوا به و ) الحال أن ما جاءوا به من العلوم و ( عليه خلعة أدنى الفهوم ) أي يفهم هذه الخلعة وهي العبارات والألفاظ الدالة على ما جاءوا به من العلم من له أدنى فهم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ليقف ) أي ليثبت ( من لا غوص له عند الخلعة ) أي عند صورة الخلعة ( فيقول ) من لا غوص له ( ما أحسن هذه الخلعة )  فأعجبته صورة الخلعة فاحتجب بذلك ولم يعلم ما في الخلعة ( ويراها غاية الدرجة فيقول صاحب الفهم الدقيق الغائص في درر الحكم بما استوجب ) الباء في بما استوجب تتعلق بقوله فيقول أي يقول بسبب الذي استجاب صاحب الفهم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( هذا ) المعطى له ( هذه الخلعة ) جاءت إلينا ( من الملك فينظر في قدر الخلعة وصنفها من الثياب فيعلم منها ) أي من الخلعة ( قدر من خلعت ) هذه الخلعة ( عليه فيعثر على علم لم يحصل ) ذلك العلم ( لغيره ممن لا علم له بمثل هذا ) وظهر بذلك التمثيل فضل أهل الفهوم على أهل الظاهر في رتب العلم ( ولما علمت الأنبياء والرسل والورثة أن في العالم ) بفتح اللام ( وأممهم من هو بهذه المثابة ) في العلم وهي مرتبة من له فهم دقيق .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( عمدوا في ) بيان ما جاءوا به من العلوم في ( العبارة إلى اللسان الظاهر الذي يقع فيه اشتراك الخاص والعام فيفهم منه الخاص ما فهم العامة منه ) أي من هذا اللسان ( وزيادة ).
 
 قوله رضي الله عنه  : ( مما ) بيان للزيادة أي من الذي ( صح له ) أي للخاص ( به ) عائد إلى الموصول ( اسم ) فاعل صحّ ( أنه خاص ) أي يفهم الخاص ما يفهمه العامة فاشتركا في هذه المرتبة فلم يتميز أحدهما عن الآخر ويفهم الزيادة التي بسببها يصح إطلاق اسم الخاص عليه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيتميز ) الخاص ( به ) أي بسبب هذا الاسم أو بسبب هذا الفهم أو بسبب الزيادة باعتبار الفهم ( على العامي فاكتفى المبلغون العلوم بهذا اللسان ) لعموم نفعه في حق أهل الكشف وأهل الحجاب وهذه الزيادة الخاصة لأهل الكشف عين المشترك من وجه وغيره من وجه والمشترك فيه هو الشريعة والزيادة هي الحقيقة وهما متحدان بالذات لكونهما من معدن واحد ومتغايران بالاعتبار ( فهذا حكمة قوله ) أي قول موسى عليه السلام ("فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ" ولم يقل ففررت منكم حبا في السلامة والعافية )  تبليغا للعلوم بلسان الظاهر على ما هو عادة المبلغين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فجاء إلى مدين فوجد الجاريتين فسقى لهما من غير أجر ثم تولى إلى الظل الإلهي فقال : "رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير" فجعل عين عمله السقي ) أي عمله هو السقي
( عين الخير الذي أنزله اللّه لو ووصف نفسه بالفقر إلى اللّه في الخبر الذي عنده ) وهو العلوم الحكمية المتعلقة بالنبوة ، فالماء صورة العلم فسقيه عين افاضته العلوم عليهما ، فلا أجر لمثل هذا العمل فإنه بأمر اللّه فأجره على اللّه بل هو محتاج إلى اللّه في إفاضته هذا الخير إلى محله وأهله.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأراه الخضر إقامة الجدار من غير أجر فعتبه على ذلك ) أي عتب موسى عليه السلام الخضر عليه السلام على إقامة الجدار من غير أجر ( فذكره ) من التذكير ( بسقايته ) أي ذكر الخضر موسى عليه السلام بسقاية موسى عليه السلام لجاريتين ( من غير أجر وغير ذلك ) من أحوالهما ( مما لم يذكر ) في كلام اللّه تعالى
فما أورد في هذا الكتاب إلا ما ذكر في كلام رب العزة وروي أنه قد أخبره الخضر في كشفه فقال أعددت لموسى بن عمران ألف مسألة مما جرى عليه من أوّل ما ولد إلى زمان الاجتماع مما وفق اللّه إليه موسى من غير علم ، فلم يصبر عليه السلام على ثلاث مسائل منهما .
 
فاستخبر الشيخ هذه المسائل كلها عن الخضر فأخبره تفصيلا ولم يذكر الشيخ حفظا للأدب ( حتى تمنى رسول اللّه عليه السلام أن يسكت موسى عليه السلام ولا يعترض حتى يقص اللّه عليه ) أي على رسول اللّه عليه السلام ( من أمرهما فيعلم ) الرسول ( بذلك ) أي ما يقص اللّه عليه ( ما وفق إليه موسى عليه السلام من غير علم منه ) فنبه رسول اللّه عليه السلام بهذا التمني أن أمرهما لا ينحصر بما يقص اللّه عليه في كلام المجيد رسول اللّه عليه السلام بهذا التمني أن أمرهما لا ينحصر بما يقص اللّه عليه في كلام المجيد مما وفق إليه موسى عليه السلام من غير علم وتذكيره الخضر بل كان كثير من الأمور مما وفق إليه موسى عليه السلام من غير علم كما وفق إلى هذه الأمور الثلاث من غير علم .
 
وإنما كان موسى عليه السلام في هذه الأمور من غير علم منه ( إذ لو كان ) موسى عليه السلام في تلك الأمور ( عن علم ما أنكر مثل ذلك ) أي مثل فعل نفسه ( على الخضر الذي قد شهد اللّه له عند موسى عليه السلام وزكاه وعدله ومع هذا قد غفل موسى عليه السلام عن تزكية اللّه وعما شرطه ) الخضر ( عليه في اتباعه ) فكانت تلك الغفلة
 
( رحمة بنا إذا نسينا أمر اللّه ) لا تؤاخذنا بما نسينا فلم يكن موسى عليه السلام عالما بما علم الخضر ( ولو كان موسى عليه السلام عالما بذلك ) أي بما علم الخضر ( لما قال له الخضر ما لم تحط به خبرا أي أني على علم لم يحصل لك عن ذوق كما أنت على علم لا أعلمه أنا فانصف ) الخضر في حق موسى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما حكمة فراقه فلان الرسول يقول اللّه فيه ) أي في حق الرسول : " وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" [ الحشر : 7 ] ،
( فوقف العلماء باللّه الذين يعرفون قدر الرسالة والرسول ) قوله ( عند هذا القول ) يتعلق بقوله فوقف ( وقد علم الخضر أن موسى عليه السلام رسول اللّه فأخذ يرقب ما يكون منه ) أي ينظر ما يصدر من موسى في الاستقبال وهو السؤال ( ليوفي الأدب حقه مع الرسول ) كما يقول اللّه في حق الرسول .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال له "إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي" فنهاه عن صحبته ) فوفى الأدب حقه مع الرسول ( فلما وقعت من الثالثة قال :"هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ "ولم يقل له موسى لا تفعل ولا طلب صحبته ) فوقف عند نهيه ( لعلمه بقدر الربوبية التي هو ) أي موسى
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيها التي أنطقته ) أي أنطقت تلك الربوبية الخضر ( بالنهي عن أن يصحبه ) وهو مرتبة النبوة ( فسكت موسى فوقع الفراق فانظر إلى كمال هذين الرجلين في العلم وتوفية الأدب الإلهي حقه و ) إلى ( إنصاف الخضر فيما اعترف به عند موسى حيث قال له أنا على علم علمنيه اللّه لا تعلمه أنت وأنت على علم علمك اللّه لا أعلمه أنا فكان هذا الأعلام من الخضر لموسى دواء لما جرحه به ) .
 
أي لما جعل الخضر موسى عليهما السلام مجروحا به و ( في قوله "وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً" مع علمه بعلو مرتبته ) أي مع كون الخضر عالما بعلو مرتبة موسى ( بالرسالة وليست تلك المرتبة ) وهي الرسالة ( للخضر ) فإن الخضر نبيّ لا رسول ( وظهر ذلك ) الانصاف ( في الأمة المحمدية ) أي من نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلّم في حق أمته ( في حديث إبار النخل فقال لأصحابه : « أنتم أعلم بأمور دنياكم ».
 
"" الحديث : أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَرَّ بقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقالَ: لو لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ قالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بهِمْ فَقالَ: ما لِنَخْلِكُمْ؟ قالوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ. رواه مسلم والبزار في البحر الزاخر و العراقيى في تخريج الإحياء وابن رجب  والهيتمي في مجمع الزوائد. شعيب الأرناؤوط في مشكل الآثار ""
ولا شك أن العلم بالشيء خير من الجهل به ولهذا ) أي ولأجل كون العلم بالشيء خيرا من الجهل به .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( مدح اللّه نفسه بأنه كل شيء عليم فقد اعترف عليه السلام لأصحابه بالعلم بأنهم أعلم بمصالح الدنيا منه).
أي من الرسول وإنما كانوا أعلم بمصالح الدنيا من الرسول ( لكونه ) أي لكون الرسول ( لا خبرة ) أي لا علم ( له بذلك ) الأمر وهو تأبير النخل وأمثاله ( فإنه ) أي هذا العلم ( علم ذوق وتجربة ولم يتفرغ ) أي لم يشغل ( عليه السلام لعلم ذلك ) الأمر الدنيوي .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بل كان شغله بالأهم فالأهم فقد نبهتك على أدب عظيم تنتفع به إن استعملت نفسك فيه وقوله "فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً " يريد الخلافة "وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ" يريد الرسالة فما كل رسول خليفة فالخليفة صاحب السيف والعزل والولاية والرسول ليس كذلك إنما عليه البلاغ لما أرسل به فإن قاتل عليه وحماه بالسيف فذلك الخليفة الرسول فكما أن ما كل نبي رسولا كذلك ما ) كان .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كل رسول خليفة أي ما أعطى الملك ولا التحكم فيه ) أي في الملك ( وأما حكمة سؤال فرعون عن الماهية الإلهية فلم يكن ) ذلك السؤال من فرعون ( عن جهل ) فإنه يعلم أن الماهية الإلهية لإيجاب عنها ( وإنما كان ) هذا السؤال منه ( عن اختبار حتى يرى ) فرعون ( جوابه ) أي جواب موسى ( مع دعواه الرسالة عن ربه وقد علم فرعون مرتبة المرسلين في العلم باللّه فيستدل ) فرعون ( بجوابه على صدق دعواه وسأل سؤال إيهام من أجل الحاضرين حتى يعرّفهم )  من التعريف.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( من حيث لا يشعرون بما شعر هو في نفسه في سؤاله فإذا أجابه جواب العلماء بالأمر أظهر فرعون إبقاء لمنصبه ) ومفعول أظهر قوله ( أن موسى عليه السلام ) أي أظهر فرعون أن موسى ( ما أجابه على سؤاله فتبين عند الحاضرين لقصور فهمهم أن فرعون أعلم من موسى عليه السلام ولهذا ) أي ولأجل كون سؤال فرعون عن الماهية الإلهية ليتبين عند الحاضرين أن فرعون أعلم من موسى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لما قال ) موسى ( له ) أي لفرعون ( في الجواب ) يتعلق بقوله ( ما ينبغي وهو ) أي والحال أن هذا الجواب ( في الظاهر ) يتعلق بقوله ( غير جواب على ما سئل عنه ) ( و ) الحال ( قد علم فرعون ) قبل السؤال ( أنه ) أي الشأن ( لا يجيبه ) أي لا يجيب موسى فرعون ( إلا بذلك ) الجواب ( فقال لأصحابه ) الحاضرين ( أن رسولكم الذي أرسل إليكم ) في زعمكم ( لمجنون أي مستور عنه علم ما سألته إذ لا يتصور ) ما سئل عنه وهي الماهية الإلهية ( أن يعلم أصلا ) فكلامه صادق في المعنى وإيهام في الظاهر فضله على موسى في رتبة العلم ( فالسؤال ) عن الماهية الإلهية ( صحيح ) .
لذلك لم يرد موسى سؤال فرعون عنها والجواب أيضا صحيح بما أجاب به موسى لذلك صدقه في المعنى بقوله لَمَجْنُونٌ.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن السؤال عن الماهية سؤال عن حقيقة المطلوب ولا بد أن يكون ) المطلوب ( على حقيقة في نفسه وأما الذين جعلوا الحدود مركبة من جنس وفصل وذلك ) الحد المركب من الجنس والفصل .
 
قال رضي الله عنه :  ( في كل ما يقع فيه الاشتراك ومن لا جنس له لا يلزم أن لا يكون على حقيقة في نفسه ) قوله ( لا يكون لغيره ( صفة لقوله على حقيقة في نفسه
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالسؤال ) عن الماهية الإلهية ( صحيح على مذهب أهل الحق و ) على ( العلم الصحيح والعقل السليم والجواب عنه لا يكون إلا بما أجاب به موسى وهنا سرّ كبير فإنه أجاب بالفعل ) أي أجاب موسى بفعل الحق وهو السماوات والأرض
( لمن سأل عن الحد الذاتي فجعل الحد الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم أو ) عين ( ما ظهر فيه من صور العالم فكأنه قال له في جواب قوله" وَما رَبُّ الْعالَمِينَ") قوله ( قال ) مقول لقوله فكأنه قال :
( الذي تظهر فيه صور العالم من علو وهو السماء وسفل وهو الأرض" إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ " أو يظهر هو بها ) أي أو كأنه قال في الجواب الذي يظهر هو بصور العالم من علو وسفل مقول القول
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما قال فرعون لأصحابه أنه لمجنون كما قلنا في معنى كونه مجنونا زاد موسى في البيان ليعلم فرعون مرتبته في العلم الإلهي لعلمه ) أي لكون موسى عالما ( بأن فرعون يعلم ذلك ) أي يعلم معنى ما زاد موسى في البيان فيعلم فرعون من هذا البيان مرتبة موسى في العلم الإلهي ( فقال :رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فجاء بما يظهر ) وهو موضع ظهور الشمس ( ويستتر ) وهو موضع استتار الشمس ( وهو ) أي الحق ( الظاهر والباطن ) أي جاء موسى بهذا القول إشارة إلى أن الحق هو الظاهر والباطن ( وما بينهما وهو ) أي معنى قوله :رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُمامعنى ( قوله : وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي إن كنتم أصحاب تقييد) وإنما فسر العقل بالتقييد ( فإن للعقل التقييد )
فأجاب جوابين ( فالجواب الأول جواب الموقنين وهم أهل الكشف والوجود ) فقال لهم :إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي أهل الكشف والوجود
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقد أعلمتكم بما تيقنتموه في شهودكم ووجودكم فإن لم تكونوا من هذا الصنف فقد أجبتكم في الجواب الثاني إن كنتم أهل عقل وتقييد وحصرتم الحق فيما تعطيه أدلة عقولكم فظهر موسى بالوجهين ليعلم فرعون فضله وصدقه وعلم موسى أن فرعون علم ) بلا تأمل وتنبيه من جواب موسى .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ذلك ) أي فضله في العلم باللّه ( أو يعلم ذلك ) بعد مدة يسيرة ولا ثالث في حق فرعون في هذا المقام إنما علم موسى ذلك من فرعون ( لكونه ) أي لكون فرعون ( سأل عن الماهية فعلم ) موسى ( أن سؤاله ليس على اصطلاح القدماء في السؤال بما ) فإنه لا يسئل في اصطلاح القدماء بما عما ليس له أجزاء ذاتية فاللّه سبحانه تعالى عن الأجزاء فلا يسئل عنه بما ( فلذلك ) أي فلأجل علمه بذلك ( أجاب فلو علم منه ) أي فلو علم موسى من فرعون ( غير ذلك لخطأه في السؤال )
فقال إن سؤالك خطأ لا يقع موقعه ، فعلم موسى من سؤال فرعون بأن فرعون يعلم فضل موسى في العلم باللّه .
إذ ظهر في الجواب بالوجهين فظهر لأجل هذا ( فلما جعل موسى عليه السلام المسؤول عنه عين العالم خاطبه فرعون بهذا اللسان والقوم لا يشعرون ) بما قصده فرعون من خطابة موسى ( فقال له :لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ والسين في السجن من حروف الزوائد ) فيدل على الستر والجن أيضا الستر .
 

كذلك بقوله رضي الله عنه  : ( أي لأسترنك فإنك أجبتني بما أيدتني به أن أقول لك مثل هذا القول فإن قلت لي ) يا موسى ( فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي والعين واحدة فكيف فرقت ) وهو كلام فرعون يسئل عن جانب موسى ( فيقول فرعون ) في جوابه لموسى :

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس مايو 14, 2020 11:53 am

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الثالث .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

الجزء الثالث 

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إنما فرقت المراتب العين ما تفرقت العين ولا انقسمت في ذاتها ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل وأنا أنت بالعين وغيرك بالرتبة فلما فهم ذلك موسى منه ) أي فلما فهم موسى ذلك الحكم والتسلط من فرعون ( أعطاه ) أي أعطى موسى فرعون ( حقه في كونه يقول له ) أي حال كون موسى قائلا لفرعون ( لا تقدر على ذلك ) التحكم يعني أن قول موسى لفرعون لا تقدر على ذلك مجرد إعطاء لحق فرعون في مقابلة قوله لموسى ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى لا تكذيب له في قوله هذا .
 
فإن مرتبة فرعون لها التحكم على مرتبة موسى في ذلك المجلس لذلك قيد التحكم بقوله الآن وبالفعل لعلمه بأن مرتبة موسى أعلى منه في غير هذا المجلس ولعلم موسى أن مرتبة فرعون لها التحكم عليه في ذلك المجلس فكان فرعون صادقا في قوله هذا وبين المصنف ما قلناه بقوله .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والرتبة ) أي رتبة فرعون ( تشهد له ) أي لموسى ( بالقدرة عليه ) أي على موسى ( وإظهار الأثر فيه ) أي وإظهار أثر القدرة في موسى وإنما تشهد له الرتبة على ذلك ( لأن الحق ) الظاهر ( في رتبة فرعون ) قوله ( من الصورة الظاهرة ) خبر أن ( لها ) خبر ( التحكم ) مبتدأ أي كان لهذه الرتبة الفرعونية التحكم ( على الرتبة التي كان فيها ظهور موسى في ذلك المجلس ) .
 
فلما علم موسى بشهادة الرتبة أن له منصب التحكم على موسى في ذلك المجلس أراد موسى إتيان ما يدفع مضرّة فرعون عن تعديه إلى موسى في ذلك المجلس .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال له ) حال كونه ( يظهر له ) أي لموسى ( المانع من تعديه ) أي من أن يتعدى فرعون موسى ( عليه ) يتعلق بقوله يظهر الضمير المجرور لفرعون أي يظهر على فرعون لموسى شيء يمنع فرعون عن التعدي إلى موسى .
(أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) حتى يظهر به صدقي فيما قلت أنا وكذبك فيما قلت أنت وهو العصا ، وهذا القول يمنع فرعون من أن يتعدى موسى بالضرر فكأنه طلب الأمان عن فرعون بذلك القول في ذلك المجلس لعلمه أن مرتبة فرعون لها التحكم على مرتبته في ذلك المجلس .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلم يسع ) أي لم يقدر ( فرعون ) بعد هذا القول بشيء من التحكم على موسى في ذلك المجلس ( إلا أن يقول لهفَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواه ( حتى لا يظهر فرعون عند ضعفاء الرأي من قومه بعدم الانصاف وكانوا يرتابون فيه ) أي يشكون في ربوبية فرعون .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهي الطائفة التي استخفها فرعون فأطاعوه أنهم كانوا قوما فاسقين أي خارجين عما تعطيه العقول الصحيحة ) قوله ( من ) بيان لما في عما ( إنكار ما ادّعاه فرعون باللسان الظاهر ) قوله ( في العقل ) يتعلق بقوله في الظاهر ولم ينكروا هذا القوم مع أن العقول الصحيحة تعطي إنكار ما ادّعاه من قوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وهو لسان ظاهر معناه في العقل فكانوا خارجين عما يعطيه العقل ولم يقفوا عندما يعطيه العقل وإنما كانوا خارجين عما يعطيه العقل.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :   ( فإن له ) أي للعقل ( حدّا يقف عنده ) أي يقف العقل عند ذلك الحد ( إذ جاوزه صاحب الكشف واليقين ) أي ولأجل أن لكل واحد من العاقل وصاحب الكشف حدّا يقف كل عنده حدّه ( ولهذا جاء موسى في الجواب بما يقبله الموقن والعاقل خاصة ) فهم لا يقبلون حكم العقل ولا حكم الكشف فهم ليسوا من الموقنين ولا من العاقلين بل هم بهائم في صورة الأناسي .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فألقى عصاه وهي صورة ما عصى به فرعون موسى في ابائه عن إجابة دعوته فإذا هي ثعبان مبين أي حية ظاهرة فانقلبت المعصية التي هي السيئة طاعة أي حسنة كما قاليُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) روي أن فرعون آمن باللّه وصدق بموسى بقلبه فأراد إظهاره فشاور لوزيره فمنعه فانقلاب العصا إيماء إلى انقلاب كفر فرعون إيمانا وإعادتها سيرتها الأولى إشارة إلى أن فرعون عاد سيرته الأولى .
 
فانقلب إيمان فرعون كفرا كما انقلبت الحية عصا فكأنه قال له الوزير لا تخف خذه سينقلب إلى سيرته الأولى
 
وهو في مقابلة قوله تعالى لموسى سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى فكانت حقيقة السيئة باقية في فرعون وإنما الانقلاب في صورة السيئة
 
لذلك قال انقلبت ولم يقل محيت وفسر الانقلاب بقوله ( يعني في الحكم ) يريد أن حقيقة السيئة التي في فرعون تظهر في صورة الحسنة فتحكم عليها طاعة وحسنة
كما ظهرت بصورة السيئة فتحكم عليها سيئة لا أن عين السيئة يصبر حسنة أو تمحو حقيقة السيئة وتجيء بدلها حقيقة الحسنة
 
فبقي الكفر في فرعون إلى ما شاء اللّه فالتبديل لا يكون إلا في الصورة والمقصود بيان الأحكام الواردة بينهما في هذا المجلس لا إثبات إيمان فرعون مطلقا
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فظهر الحكم هاهنا ) أي في ذلك المقام حال كونه ( عينا متميزة ) قوله ( في جوهر واحد ) يتعلق بقوله فظهر ( فهي ) أي تلك العين المتميزة ( العصا وهي الحية ) فالحية والعصا عينان متميزان يظهر كل منهما بحسب الوقت في الجوهر الواحد الذي لا يدركه الحس بل لا بد للعقل أن يحكم أن ثمة جوهرا واحدا لا يقبل القسمة لذاته ويقبل الصور والأحكام ( والثعبان الظاهر فالتقم ) الثعبان ( أمثاله من الحيات من ) جهة ( كونها حية ) و ( التقم العصا من ) جهة ( كونها عصا فظهرت ) أي غلبت ( حجة موسى عليه السلام على حجج فرعون ) .
 
قوله رضي الله عنه :  ( في صورة عصا وحيات وحبال ) يتعلق بقوله حجج ( فكانت للسحرة الحبال ولم يكن لموسى عليه السلام حبل والحبل التل الصغير أي مقاديرهم ) أي مقادير السحرة ( بالنسبة إلى قدر موسى عليه السلام بمنزلة الحبال من الحبال الشامخة فلما رأت السحرة ذلك ) من موسى عليه السلام ( علموا رتبة موسى عليه السلام في العلم وأن الذين رأوه ليس من مقدور البشر وإن كان من مقدور البشر فلا يكون إلا ممن له تميز في العلم المحقق ) بفتح القاف الأولى .
 
قوله رضي الله عنه  : ( عن التخيل والإيهام ) متعلق بقوله تميز ( فآمنوا ) بسبب علمهم هذا ( برب العالمين رَبِّ مُوسى وَهارُونَ  أي الرب الذي يدعو إليه موسى وهارون عليهما السلام لعلمهم ) أي لعلم السحرة ( بأن القوم يعلمون أنه ما دعي ) موسى عليه السلام الخلق ( لفرعون ) أي إلى فرعون بل دعي إلى رب العالمين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما كان فرعون في منصب التحكم ) قوله ( صاحب الوقت ) خبر كان ( وأنه ) أي وأن فرعون ( الخليفة بالسيف وإن جار ) أي ظلم قوله ( في العرف الناموسي ) يتعلق بقوله الخليفة أي يطلق الخلافة بالسيف على الأمير الظالم في الشرع كما قال رسول اللّه عليه السلام : « أطيعوا أمراءكم وإن جاروا »  أي ظلموا . ورد بلفظ « أطيعوا أمراءكم مهما كانوا » ، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وابن عساكر في كتابه تهذيب تاريخ دمشق وذكره أيضا المتقي الهندي في كتابه كنز العمال .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لذلك ) يتعلق بقوله ( قال ) وهو جواب لما (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله ) من قوله :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ( لم ينكروا وأقرّوا بذلك فقالوا : إنما تقتضي هذه الحياة الدنيا فاقض ما أنت قاض فالدولة لك فصح قوله :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) بمعنى صاحب الدولة ولما اتجه أن يقال كيف يصح أن يقال قوله :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ورب الأعلى ليس إلا هو على الحق أجاب بقوله


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن كان ) الرب الأعلى ( عين الحق فالصورة ) التي ظهرت الربوبية عنها ( لفرعون ) فصح قوله :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى بحسب الصورة الفرعونية ( فقطع ) فرعون ( الأيدي ) مفعول قطع ( وإلا رجل وصلب بغير حق ) فإن السلطنة في الحقيقة لها لا له ( في صورة باطل ) وهي الصورة الفرعونية وإنما وقع القطع والصلب من فرعون ( لنيل ) كل من السحرة وفرعون ( مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل ) أما فرعون فإنه لا يصل إلى مقصوده في الدنيا وهو إظهار التحكم والسلطنة إلا بالقتل والصلب وكذلك لا يصل في الآخرة إلى مقصوده وهو جزاء القتل والصلب إلا به وهو من نيل المراتب وأما السحرة فإنهم لا ينالون درجة الشهادة في الآخرة إلا بالقتل في يد فرعون
( فإن الأسباب ) سواء كانت أسبابا للباطل أو للحق ( لا سبيل إلى تعطيلها فإن الأعيان الثابتة ) في علم اللّه التي هي صور العالم ( اقتضتها ) لتنال إلى مقاصدها فعلم اللّه منها وقضى عليها وقدّرها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا تظهر الأعيان في الوجود إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت إذ لا تبديل لكلمات اللّه تعالى ) هذا باعتبار الكثرة وإما باعتبار الوحدة فمعنى قوله فقطع أي قطع الحق الأيدي والأرجل وصلب بغير حق أي باقتضاء العين الثابتة في صورة باطلة أي في صورة خلقية فانية ، إذ كل زائل باطل عندهم وهو مقابل للحق الثابت الباقي وهو عين الثابتة فالحق يفعل القطع بمقتضى العين الثابتة بيد الفاعلة في صورة فرعون وبيد القابلة في صورة السحرة لنيل الحق مراتب الوجود التي لا تنال إلا بذلك الفعل
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وليست كلمات اللّه تعالى سوى أعيان إليها القدم من حيث ثبوتها ) ويقال من هذا الوجه أنه حق ثابت دائم باق ( وينسب إليها الحدوث من حيث وجودها وظهورها كما تقول حدث اليوم عندنا إنسان أو ضيف ولا يلزم من حدوثه أنه ما كان له وجود قبل هذا الحدوث ولذلك ) أي ولأجل أن ما له وجود وحدوث له ثبوت وقدم
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال تعالى في كلامه العزيز أي في إثباته مع قدم كلامه ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون وما يأتيهم من ذكر الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين والرحمن لا يأتي إلا بالرحمة ومن أعرض عن الرحمة استقبل العذاب الذي هو عدم الرحمة ) .
ولما فرغ عن ذكر الحكم الإلهية التي كانت في الآيات الواردة في حق موسى عليه السلام وفرعون رجع إلى إتمام الكلام في حق فرعون .
 
فقال رضي الله عنه  : ( وأما قوله تعالى : فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ [ غافر : 85 ] ، إلّا قوم يونس عليه السلام فلم يدل ذلك على أنه ينفعهم في الآخرة بقوله في الاستثناءإِلَّا قَوْمَ يُونُسَ عليه السلام فأراد الحق ) بالآية .
 
فقال رضي الله عنه  : ( أن ذلك ) الايمان وهو الايمان عند اليأس ( لا يرفع عنهم الأخذ في الدنيا ) عن القوم الذين هم غير قوم يونس عليه السلام كقوم عاد وصالح وغير ذلك إذ كلهم آمنوا عند ظهور العذاب من ربهم لكن لم ينفعهم إيمانهم نجاة عن عذاب الخزي في الحياة الدنيا فلا ينجيهم عن الهلاك في الدنيا وأما عدم منفعة إيمانهم في الآخرة فلم يدل تلك الآية على ذلك
فبقي على احتمال النفي في الآخرة ولا يقطع هذا الاحتمال إلا بالإجماع لأن النصوص الواردة في حقهم لا تدل على التعذيب والورود إلى جهنم وهو لا يدل على حرمانهم أبدا لكن الأمة قد اتفقوا واجتمعوا بهذه الدلالة على حرمانهم أبدا .
 
فلم ينفع إيمانهم في الآخرة بالإجماع كما لم ينفعهم في الدنيا فجعلوا عدم نفع إيمانهم في الدنيا دليلا على عدم نفعه في الآخرة فحكموا على شقاء الطائفة المستهلكة يقهر اللّه وعذابه بتكذيبهم النبي عليه السلام .
 
ونقل عن مالك رضي اللّه عنه أنه ذهب إلى أن الايمان عند اليأس وهو قبل نزع الروح عن الجسد بعد انكشاف أحوال الآخرة من الوعد والوعيد مقبول صحيح
أقول هذا المذهب منه لعدم النصوص الدالة عنده على عدم صحة الايمان في تلك الساعة وأما فرعون فقد شقي عنده سواء قبض عند التيقن بالانتقال أو قبل التيقن لوجود النصوص الدالة عنده على شقائه كسائر الأئمة
 
وما كانت عند الأئمة نصوصا في شقاء فرعون ليست بنصوص عند الشيخ بل هو ظاهر عنده لذلك قال وما لهم نص في ذلك مع أن لهم نصا في ذلك بحسب علمهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلذلك ) أي فلأجل أن إيمانهم لا يرفع عنهم الأخذ في الدنيا ( أخذ فرعون ) في الدنيا ( مع وجود الايمان منه ) أي من فرعون ( هذا ) أي جواز نفع إيمان فرعون في الآخرة ( إن كان أمره ) أي أمر فرعون في الايمان ( أمر من تيقن بالانتقال في تلك الساعة )
كما قال المفسرون والأئمة المجتهدون أن إيمان فرعون عند تيقنه بالانتقال الذي لا ينفع الايمان في تلك الساعة فحكموا كلهم على أن فرعون شقي في الدنيا والآخرة
فالسبب بعدم صحة الايمان عندهم التيقن بالانتقال ، وأما عند المالك فإن الايمان عند التيقن صحيح لو لم يردّ الدليل ذلك الايمان فإن إيمان فرعون مردود عنده بدليل قوله تعالى :آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ[ يونس : 91 ] ،
 
وغير ذلك من الآيات الدالة على شقائه لا بتيقنه بالانتقال حتى لو لم يدل النص على شقائه لصح إيمانه عنده ولو عند التيقن بالانتقال بخلاف جمهور العلماء حتى لو لم يثبت شقاؤه بالنص وثبت أن إيمانه كان عند التيقن بالانتقال لم يصح إيمانه
وأما عند الشيخ فالأولى التوقف في مثل هذا الايمان حتى جاء البيان من الصحة وعدم الصحة فإنه مالكي المذهب فكأنه مال إلى مذهبه في ذلك
قال في حق فرعون إن كان أمره أمر من تيقن بالانتقال فإنه لو لم يردّ الدليل من النصوص والإجماع لصح عنده إيمان من تيقن بالانتقال
 
لذلك لم يصح إيمان فرعون عنده مع ورود ظاهر القرآن حيث جعله مؤبدا في النار في فتوحاته المكية وتوقف في هذا الكتاب
فإن الإجماع دليل عنده على عدم صحة إيمانه ثم ذكر القرينة التي لم يتفطن عليها علماء الشريعة.
 
بقوله رضي الله عنه  : ( وقرينة الحال تعطى أنه ) أي الشأن ( ما كان ) فرعون عند الايمان ( على يقين من الانتقال لأنه عاين المؤمنين يمشون في الطريق اليبس ) بالفتحتين أي اليابس ( الذي ظهر بضرب موسى بعصاه البحر فلم يتيقن فرعون بالهلاك إذ آمن ) أي وقت إيمانه ( بخلاف المحتضر ) فإنه آمن عند تيقنه بالهلاك لذلك لم يجعل إيمانه صحيحا
( حتى لا يلحق به ) أي فلم يلحق فرعون بالمحتضر على تقدير ثبوت هذه القرينة فكان أمر فرعون عنده دائرا بين الشيئين له وجه يلحق به بالمحتضر وله وجه لا يلحق به بالمحتضر بحسب دلالة ظاهر القرآن مع قطع النظر عن الإجماع.
( فآمن ) أي إن كان أمره أمر من لم يتيقن بالهلاك آمن ( بالذي آمنت به بنو إسرائيل على التيقن بالنجاة فكان على ذلك ) التقدير ( كما تيقن لكن على غير الصورة التي أراد ) فإن مقصوده من الايمان النجاة عن الهلاك
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنجاه اللّه من عذاب الآخرة في حق نفسه ) وإنما قال في حق نفسه لعدم النجاة في حق غيره من حقوق العباد مما كان عليه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ونجى بدنه كما قال تعالى : فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [ يونس : 92] ، أي حتى يعلم قومك ممن اعتقد بربوبيتك أنك كاذب في دعويك ( لأنه لو غاب بصورته ربما قال قومه احتجب ) عن أعين الناس فلا يزال اعتقادهم الباطل لعدم تيقنهم بهلاكه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فظهر بالصورة المعهودة ميتا ليعلم أنه هو ) فيزول اعتقادهم بربوبيته ( فقد عمته النجاة حسا ) من حيث الصورة المعهودة وإن كان ميتا ( ومعنى ) وهو نجاة الروح عن الحجب المبعدة عن الحق من الشرك والكفر ودعوى الربوبية التي يحصل للروح بسبب تعلقه بالبدن.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ومن حقت عليه كلمة العذاب الأخروي لا يؤمن ولو جاءته كل آية حتى يروا العذاب الأليم أي يذوق العذاب الأخروي ) فلا يصدق في حق هذا الصنف أنه قبضه اللّه تعالى طاهرا ومطهرا لأنه قبض مع الشرك فبقي جسده نجسا وكذلك روحه وقع في القبضة مع الشرك فذاق العذاب الأخروي ثم آمن فلا ينفع ذلك الايمان لهم بالنص الإلهي وتفسير الرؤية بالذوق على من يرى إيمان اليأس صحيحا ( فخرج فرعون ) على ذلك التفسير ( من هذا الصنف ) وأما من لم يفسر الآية بذلك التفسير دخل فرعون عنده في هذا المصنف ( هذا ) أي المذكور في إيمان فرعون ( هو الظاهر الذي ورد به القرآن ) أي يدل عليه ظاهرا القرآن الذي يجب العمل به إذا لم يعارضه النص أو الإجماع .
 
فلما زعم من لا يفهم كلامه أنه قد جعل فرعون الذي قد ثبت شقاؤه بحجة قاطعة شرعية من المؤمنين فظن السوء في حقه أراد دفع ذلك الظن الفاسد في حقه فقال ( ثم أنا نقول ) لإزالة إنكار المنكرين في حقه ( بعد ذلك ) أي بعد ورود ظاهر القرآن على إيمانه
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والأمر فيه إلى اللّه )  فعدل عن الظاهر الذي ذكره وأورده دليلا على إيمان فرعون إلى التوقف لمعارضته الإجماع وبين سبب عدوله ( لما استقر في نفوس عامة الخلق ) وهم الفرق الاسلامية كلها بل الكفرة أيضا
 
( من شقائه ) بيان لما ( وما لهم نص في ذلك ) أي في شقاء فرعون ( يستندون ) الشقاء ( إليه ) أي إلى ذلك النص أو يستندون الشقاء بسبب ذلك النص إليه أي إلى فرعون ( وأما إله فلهم حكم آخر ليس هذا موضعه ثم ليعلم أنه ما يقبض اللّه أحدا إلا وهو مؤمن أي مصدّق بما جاءت به الأخبار الإلهية وأعني ) بقوله ما يقبض اللّه أحدا إلا وهو مؤمن .
 
قال رضي الله عنه :  ( من المحتضرين ولهذا ) أي ولأجل كون المحتضر صاحب إيمان وشهود (يكره موت الفجاءة وقتل الغفلة )
 
قال رضي الله عنه :  ( فأما موت الفجاءة فحده أن يخرج النفس الداخل ولا يدخل النفس الخارج فهذا موت الفجاءة وهذا غير المحتضر وكذلك قتل الغفلة بضرب عنقه من ورائه وهو لا يشعر فيقبض على ما كان عليه من إيمان أو كفر ولذلك قال عليه السلام : « ويحشر على ما عليه مات كما أنه يقبض على ما كان عليه » والمحتضر لا يكون إلا صاحب شهود فهو صاحب إيمان بما ثمة ) .
 
أي يؤمن بالذي كان يشاهده من الوعد والوعيد فإنه ثبت بالنص بأن كل كافر لا يموت إلا وهو مؤمن لكن لا ينفع إيمان من يتيقن بالموت وعلى أيّ حال فالمحتضر صاحب إيمان .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا يقبض ) أحد ( إلا على ما كان عليه ) من إيمان أو كفر ( لأن كان حرف وجودي ) تدل على وجود المعنى في محله كما في قوله تعالى :إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [ الأحزاب : 1 ] ،
تدل على وجود العلم في ذاته تعالى فيدل على وجود معنى في المقبوض فقط لا على زمان وجوده في ذلك المقبوض فاعتبر ذلك المعنى في القبض أن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ
فلا يعتبر الزمان في معناه ( لا ينجرّ معه ) أي مع كان ( الزمان إلا بقرائن الأحوال ) فلا يدل على الزمان إلا بالقرائن فلا يستدل به على زمان القبض على معنى إن كان زمان القبض يأسا قبض مأيوسا فكان كافرا وإن لم يكن مأيوسا في زمان الايمان قبض متيقنا بالنجاة فكان مؤمنا ( فنفرق ) على صيغة المتكلم ( بين الكافر المحتضر في الموت ) وهو الكافر الذي آمن عند التيقن بالموت فقبض على ذلك الايمان فهو في مشية اللّه عند المالك .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وبين الكافر المقتول غفلة أو ) الكافر ( الميت فجاءة ) لتحقق الكفر فيهما فقبض على الشرك وأما المؤمن المقتول غفلة أو الميت فجاءة فحكم بكراهتهما لعدم علمه بإيمانهما ( كما قلنا في حد الفجاءة وأما حكمة التجلي والكلام ) .
 
قوله رضي الله عنه : ( في صورة النار ) من التنازع فحذف مفعول أحدهما بإعمال الآخر ( لأنها كانت ) النار ( بغية ) أي مطلوب ( موسى فتجلى اللّه له ) أي لموسى ( في مطلوبه ليقبل عليه ولا يعرض عنه فإنه لو تجلى له في غير صورة مطلوبه أعرض عنه لاجتماع همته على مطلوب خاص ) وهو النار لكمال احتياجه إليها.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولو أعرض لعاد عمله عليه ) وهو الاعراض عن الحق ( فأعرض عنه الحق ) مجازاة له ( وهو مصطفى مقرب ) عند اللّه ( فمن قرّبه ) أي قرّب الحق من التقريب ومن موصولة أي فمن جعله الحق مقرّبا عنده وعند البعض من القرب ومن حرف جر والأول أنسب ( أنه ) أي الشأن ( تجلي ) الحق ( له ) أي لمن قرّبه الحق ( في ) صورة ( مطلوبه وهو لا يعلم كنار موسى رآها عين حاجته وهو الإله ولكن ليس يدريه ) والضمير في قوله وهو الإله وفي يدريه راجع إلى النار إما باعتبار كون النار مطلوبا أو باعتبار الخير .


.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:06 pm

26 - فص حكمة صمدية في كلمة خالدية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص الخالدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
26 - فص حكمة صمدية في كلمة خالدية
الصمد المصمد إليه أي المحتاج إليه أو الصمد هو الذي لا جوف له ولما غلبت صفة الصمدية على خالد عليه السلام اختصت الحكمة الصمدية بكلمته ( وأما حكمة خالد بن سنان عليه السلام فإنه أظهر بدعواه النبوة البرزخية ) أي الاخبار عن أحوال القبر .
"" أضاف المحقق :
هو خالد بن سنان بن غيث العبسي من أهل زمن الفترة التي امتدت بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى اللّه عليه وسلم ، أو ممن عاش قبل زمن عيسى عليه السلام على بعض الأقوال .
والمعروف عنه أنه كان يقول بالتوحيد قبل بعثة سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ناهجا نهج الملة الحنفية وقد عده كثير من المسلمين ومنهم ابن عربي من الأنبياء ،
استنادا فيما يظهر على ما يروى من أن ابنته أو إحدى بنات ذرّيته جاءت إلى الرسول فقال لها : " مرحبا يا بنت نبي أضاعه قومه " .
ويقال إنها لما أتت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم سمعته يقرأ :قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌفقالت قد كان أبي يقرأ هذا . ذكره القاشاني في شرحه على الفصوص ص 426 .""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه ما ادّعى الاخبار بما هنالك ) أي لم يدّع الاخبار بما في البرزخ ( إلا بعد الموت فأمر أن ينبش عليه فيسأل ) عن أحوال القبر ( فيخبر أن الحكم في البرزخ على صورة الحياة الدنيا فيعلم بذلك (  أي بما أخبره خالد عليه السلام .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( صدق الرسل كلهم فيما أخبروا به في حياتهم الدنيا ) من نعيم القبر وعذابه ( فكان غرض خالد عليه السلام إيمان العالم كله بما جاءت به الرسل ) من المقامات البرزخية وأحوالها ومقصود خالد عليه السلام من هذا الفعل ( ليكون ) خالد عليه السلام ( رحمة للجميع فإنه تشرف ) من التشريف ( بقرب نبوته من نبوة محمد عليه السلام وعلم ) خالد عليه السلام ( أن اللّه أرسله ) أي محمدا عليه السلام ( رحمة للعالمين ولم يكن خالد عليه السلام فأراد أن يحصل من هذه الرحمة في الرسالة المحمدية على حظ وافر ولم يؤمر بالتبليغ فأراد أن يحظ بذلك ) التبليغ.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( في البرزخ ليكون أقوى في العلم في حق الخلق ) أي ليظهر أعلميته بين الناس في البرزخ وقصته مذكورة في كتب التفاسير ونحن أوردناها على ما أوردها القيصري في شرحه بعبارته بلا نقص ولا زيادة تبركا بهذه الحكاية وهي أنه كان مع قومه يسكنون بلاد عدن فخرجت نار عظيمة من مغارة فأهلكت الذرع والضرع فالتجأ إليه قومه
فأخذ خالد عليه السلام يضرب تلك النار بعصاه حتى رجعت هاربة منه إلى المغارة التي خرجت منها ...
ثم قال لأولاده إني أدخل المغارة خلف النار حتى أطفأها وأمرهم أن يدعوه بعد ثلاثة أيام تامة فإنهم إن نادوا قبل ثلاثة أيام فهو يخرج ويموت .
وإن صبروا ثلاثة أيام يخرج سالما فلما دخل صبروا يومين واستفزهم الشيطان فلم يصبروا تمام ثلاثة أيام فظنوا أنه هلك فصاحوا به فخرج من المغارة وعلى رأسه ألم حصل من صياحهم .
 
فقال : ضيعتموني وأضعتم قولي ووصيتي وأخبرهم بموته وأمرهم أن يقبروه ويرقبوه أربعين يوما فإنهم يأتيهم قطيع من الغنم يقدمها حمار أبتر مقطوع الذنب
فإذا حاذى قبره ووقف فلينبشوا عليه فإنه يقوم ويخبرهم بأحوال البرزخ والقبر عن يقين ورؤية فانتظروا أربعين يوما فجاء القطيع ويقدم حمار أبتر فوقف حذاء قبره
فهمّ مؤمنو قومه أن ينبشوا عليه فأبى أولاده خوفا من العار ، لئلا يقال لهم أولاد المنبوش قبره فحملتهم الحمية الجاهلية على ذلك فضيعوا وصيته وأضاعوه
فلما بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاءته بنت خالد عليه السلام فقال الرسول عليه السلام مرحبا يا ابنة نبيّ أضاعه قومه
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأضاعه قومه ولم يصف النبي عليه السلام بأنهم ضاعوه وإنما وصفهم بأنهم أضاعوا نبيهم ) أي وصيته ( حيث لم يبلغوه ) من التبليغ ( مراده ) من أخبار أحوال القبر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهل بلغه اللّه أجر أمنيته ) أي قصده ونيته ( فلا شك ولا خلاف في أن له أجر أمنيته وإنما الشك والخلاف في أجر المطلوب هل يساوي تمني وقوعه مع عدم وقوعه ) قوله ( بالوجود ) يتعلق بيساوي ( أم لا فإن في الشرع ما يؤيد التساوي في مواضع كثيرة كالآتي للصلاة في الجماعة فتفوته الجماعة فله أجر من حضر الجماعة وكالمتمني مع فقره ما همّ عليه أصحاب الثروة والمال ) .
 
 قوله رضي الله عنه  : ( من فعل الخيرات ) بيان لما ( فله مثل أجورهم ولكم مثل أجورهم في نياتهم أو في عملهم فإنهم ) أي أصحاب الثروة ( جمعوا بين العمل والنية ولم ينص النبي عليه السلام ) أي لم يذكر النص ( عليهما ) أي على العمل والنية ( ولا على واحد منهما ) بل قال فله أجر من حضر الجماعة فإن من حضر الجماعة له أجران أجر النية وأجر العمل فلم يعين النبي صلى اللّه عليه وسلم الأجر الحاصل له أمجموعهما أو واحد منهما على التعيين .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والظاهر أنه لا تساوي بينهما ) أي لا تساوي في الأجر بين من نوى الخير ولم يقدر العمل وبين من نوى وعمل ( ولذلك ) الأجر ( طلب خالد بن سنان عليه السلام الإبلاغ حتى يحصل له مقام الجمع بين الأمرين النية والعمل فيحصل الأجرين ) ثواب النية وثواب العمل ( واللّه أعلم ) .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس مايو 14, 2020 12:07 pm

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .كتاب شرح فصوص الحكم مصطفي بالي زاده على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب شرح الشيخ مصطفى بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
قال الشيخ رضي الله عنه : (إنما كانت حكمته فردية لأنه أكمل موجود في هذا النوع الانساني ) لكونه بمرتبة روحه جامعا بجميع الأسماء الإلهية وبمرتبة جسمه بجميع المراتب الكونية ( ولهذا ) أي ولأجل أنه أكمل موجود ( بدىء به الأمر ) أي أمر النبوة من حيث روحه وختم من حيث جسده العنصري .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكان نبيا وآدم بين الماء والطين ) فنبوته أزلي ونبوة غيره من الأنبياء عليهم السلام حادثة فهم نبيون حين البعثة ( ثم كان ) النبي ( بنشأته العنصرية خاتم النبيين ) كما أنه عليه السلام بنشأته الروحانية أول النبيين فبه بدئ أمر النبوة وختم ( وأول الأفراد ) أي وأول ما يوجد من الفردية ( الثلاثة ) خبر لقوله وأول وهي الأحدية الذاتية والأحدية الصفاتية والحقيقة المحمدية ( وما زاد على هذه ) الفردية ( الأولية من الأفراد فإنه عنها ) أي صادر عن هذه الفردية الأولية .
 
قال رضي الله عنه :  ( فكان عليه السلام أدل دليل على ربه فإنه أوتي بجوامع الكلم التي هي مسميات أسماء آدم ) ومسميات أسماء آدم هي الحقائق التي تدل كل واحد منها على ربه فإذا أوتي الرسول بجوامعها كان دالا على ربه أدل دليل فكان الرسول من حيث نشأته الروحية مشتملا على الفردية الثلاثة الأولية ( فأشبه الدليل ) المنتج للمعاني (في تثليثه والدليل دليل لنفسه) على ربه لحديث النبي عليه السلام : «من عرف نفسه فقد عرف ربه».

فكل نفس دليل لنفسه على ربه ولا يدل نفس شخص لنفس شخص آخر على رب ذلك الآخر لذلك قال النبي عليه السلام من عرف نفسه ولم يقل من عرف نفسا فظهر أن اللام في قوله والدليل للاستغراق أي كل واحد من أفراد الدليل دليل لنفسه على ربه لا للعهد كما زعم بعض الشارحين.
 
قال رضي الله عنه :  ( ولما كانت حقيقته تعطي الفردية الأولى ) قوله ( بما ) يتعلق بتعطي أي تعطي الفردية الأولى بالذي ( هو مثلث النشأة ) قوله ( لذلك ) يتعلق بقوله ( قال ) وهو جواب لما أي قال الرسول
قال الشيخ رضي الله عنه : ( في ) باب ( المحبة التي هي أصل الوجود حبب إليّ من دنياكم ثلاث بما ) أي قال ذلك القول أو حبب إليه ثلاث بسبب الذي وجد ( فيه ) أي في وجود محمد عليه السلام ( من التثليث ) بيان لما ( ثم ذكر النساء والطيب وجعلت قرة عينه في الصلاة فابتدأ بذكر النساء وأخر الصلاة وذلك ) أي بيان سبب تقديم النساء في الذكر على الطيب والصلاة ( لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها ) لذلك ابتدأ بذكرها ثم رجع إلى بيان قوله والدليل دليل لنفسه فقال : ( ومعرفة الإنسان بنفسه مقدمة على معرفته بربه فإن معرفته بربه نتيجة عن معرفته بنفسه لذلك ) أي لأجل أن معرفة الرب نتيجة عن معرفة الإنسان بنفسه .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( قال عليه السلام : « من عرف نفسه فقد عرف ربه » فإن شئت قلت بمنع المعرفة في هذا الخبر والعجز عن الوصول فإنه سائع فيه ) فإن حقيقة النفس لا تدرك بكنهها كما أشار إليه النبي عليه السلام ما عرفناك حق معرفتك ( وإن شئت قلت بثبوت المعرفة ) وهو بحسب كمالاتها لا بحسب حقيقتها ( فالأول أن تعرف أن نفسك لا تعرفها فلا تعرف ربك فأنت ) عالم بعدم علمك نفسك وربك ( والثاني أن تعرفها فتعرف ربك فكان محمد عليه السلام أوضح دليل ) لنفسه ( على ربه ) وإنما كان أوضح دليل ( فإن كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربه ) ومحمد عليه السلام لما كان عبارة عن مجموع حقائق ما في العالم كان أوضح دليل فإن دلالة الكل أوضح لكونها دلالة مطابقة كاملة في الدلالة من دلالة الجزء 


وأشار إليه بقوله رضي الله عنه  :( فافهم فإنما حبب إليه النساء فحن ) أي فمال ( إليهن لأنه من باب حنين الكل إلى جزئية فأبان ) أي أظهر الرسول عليه السلام ( بذلك ) القول أو بحنينه إلى النساء ( عن الأمر في نفسه ) قوله ( من جانب الحق ) يتعلق بالأمر ( في قوله ) أي في قول الحق ( في هذه النشأة العنصرية وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فحن الحق إلينا حنين الكل إلى جزئه فحن إليه حنين الجزء إلى كله والفرع إلى أصله فأبان رسول اللّه هذا المعنى بحنينه النساء في قوله حبب إليّ من دنياكم ثلاث النساء فإن الأمر كذلك بين اللّه وبين عباده .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم وصف ) الحق ( نفسه بشدة الشوق إلى لقائه ) يضاف إلى الفاعل ، وترك ذكر المفعول أي يشتاق الحق للقاء نفسه إلى من يشتاق إليه ( فقال للمشتاقين ) لأجل اشتياقهم إليه ( يا داود أني أشدّ شوقا إليهم ، يعني للمشتاقين إليه وهو ) أي اللقاء الذي يشتاق الحق أشدّ اشتياق ( لقاء خاص ) بالموت الطبيعي ( فإنه قال في حديث الرجال أن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت فلا بد من الشوق لمن هذه صفته ) أي لا بد لمن لم ير ربه إلا بالموت من شوق إلى هذا اللقاء الخاص وإن كره سبب هذا اللقاء عنده وهو الموت فكان الحق أشدّ شوقا إلى هذا اللقاء الخاص وإن كره سببه عنده كما في حديث التردد ( فشوق الحق ) ثابت ( لهؤلاء المقرّبين مع كونه يراهم ) بالشهود المطلق الأزلي ( فيجب أن يروه ) بالرؤية الخاصة بموت العبد فإن رؤيتك نفسك في نفسك لا كرؤيتك في المرآة فإنها رؤية خاصة لا تكون بدون المرآة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ويأبى المقام ) الدنيوي ( ذلك ) اللقاء فلا بد من الخروج من هذا المقام بالموت الطبيعي لحصول اللقاء فأشبه قوله أني أشدّ شوقا إليهم ( قوله حتى نعلم مع كونه عالما ) بجميع الأشياء بعلمه الأزلي وهو علم خاص حاصل له بصور المظاهر ( فهو ) أي الحق ( يشتاق لهذه الصفة الخاصة التي لا وجود لها إلا عند الموت ) الطبيعي وإنما قيدنا الموت الطبيعي فإن الموت الإرادي وإن كان سببا لمشاهدة الرب لكنه ليس سببا لهذا اللقاء الخاص وتعميم الموت بالارادي وغيره في هذا المقام كما قال البعض لا يجوز لأن الحق لا يشتاق إلا للمقرّبين الذين يموتون بالموت الإرادي ، كما قال فاشتاق الحق لهؤلاء المقرّبين فلقاء الموت الطبيعي غير لقاء الموت الإرادي ( فيبل ) الحق ( بها ) أي بتلك الصفة التي هي الرؤية الخاصة بالموت ( شوقهم إليه ) وينجيهم بماء الوصال عن عذاب نار الشوق نار الفراق ( كما قال تعالى في حديث التردد وهو ) أي حديث التردد ( من هذا الباب ) وهو باب الشوق إليهم.


قال الشيخ رضي الله عنه : ( ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره ) من كره يكره ( مساءته ) أي وأنا أكره ما يكرهه المؤمن من الموت فإن المحب هو الذي يكره ما يكرهه محبوبه ( ولا بد له من لقائي ) فلا بد له من الموت ( فبشره ) أي بشر الحق العبد المؤمن بلقائه بقوله ولا بد من لقائي ( وما قال له ) أي ولم يقل للعبد المؤمن ( ولا بد له من الموت لئلا يغمه بذكر الموت ولما كان لا يلقي ) من لقي أي لما كان لا يلاقي المؤمن ( الحق إلا بعد الموت كما قال عليه السلام : « إن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت لذلك » ) يتعلق بقوله ( قال تعالى ) وهو جواب لما ( ولا بد له من لقائي فاشتياق الحق ) إلى لقاء عبده ( لوجود هذه النسبة ) الحاصلة له من موت العبد وكذلك اشتياق العبد إلى لقاء ربه إنما يكون لوجود هذه النسبة الحاصلة له من موته وأشار إلى الشوق عن لسان الحق تعالى بقوله


قال الشيخ رضي الله عنه : ( شعر :
يحن الحبيب إلى رؤيتي وإني إليه ) أي إلى الحبيب ( أشدّ حنينا ) فإن كل واحد من الحق والعبد كان محبا ومحبوبا فالحق محب للعبد ومحبوب له وكذلك العبد ( وتهفوا ) أي تضطرب ( النفوس ) في طلب رؤيتي ( ويأبى القضاء ) والتقدير الإلهي عن حصول مرادهم قبل وقت الأجل وقد حكم القضاء وقدّر التقدير لكل نفس أجلها في وقته لا يتقدم ولا يتأخر فإذا كان ذلك ( فأشكو ) على صيغة المتكلم ( الأنين ) أي فأشكو من الأزمنة والأنين إلى أن جاء آن الأجل ( ويشكو ) الحبيب ( الأنينا ) ليكون الأنين حائلة بيني وبين حبيبي ( فلما أبان ) أي فلما أظهر الحق ( أنه ) أي أن الشأن ( نفخ ) الحق ( من روحه ) في هذه النشأة العنصرية ( فما اشتاق إلا لنفسه ) المتعينة بالتعين الخلقية ( ألا تراه ) أي الإنسان كيف ( خلقه ) اللّه ( على صورته ) وإنما خلقه على صورته ( لأنه ) حاصل ( من روحه ) المنفوخة في النشأة العنصرية ( ولما كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسماة في جسده أخلاطا حدث عن نفخه فيه ) أي عن نفخ الحق في جسده ( اشتعال ) كاشتعال الشمعة ( بما ) أي بسبب الذي كان ( في جسده ) أي في جسد آدم ( من الرطوبة ) بيان لما وهي كالدهن للسراج ( فكان روح الإنسان نارا ) مشتعلا بالحرارة الغريزية ( لأجل نشأته العنصرية ) التي فيها الرطوبة ( ولهذا ) أي ولأجل كون روح الإنسان ( لأجل نشأته ) نارا 


قال الشيخ رضي الله عنه : ( ما كلم اللّه ) أي ما تجلى اللّه ( موسى إلا في صورة النار وجعل حاجته فيها ) أي في صورة النار ( فلو كانت نشأته ) أي نشأة الإنسان ( طبيعية ) لا عنصرية ( لكان روحه نورا ) فظهر أن الروح يتبع في الظهور للنشأة فكان في النشأة الطبيعية نورا كما في الملائكة التي فوق السماوات وفي العنصرية نارا كما في الإنسان ( وكنى ) الحق ( عنه ) أي عن الروح ( بالنفخ يشير إلى أنه ) حاصل ( من نفس الرحمن فإنه ) أي فإن الشأن قوله ( بهذا النفس الذي هو النفخة ) يتعلق بقوله ( ظهر عينه ) أي حصل عين الإنسان أو عين الروح في الخارج قوله ( وباستعداد المنفوخ فيه ) وهو النشأة العنصرية يتعلق بقوله ( كان الاشتعال نارا لا نورا فبطن نفس الحق فيما كان به الإنسان إنسانا ) وهو الروح الذي كان به الإنسان إنسانا فإذا ظهر الإنسان بالروح وظهر الروح بنفس الحق بطن النفس واستتر في الروح الانساني ( ثم اشتق له شخصا على صورته سماه امرأة فظهرت بصورته فحن ) آدم ( إليها حنين الشيء إلى نفسه وحنت المرآة إليه حنين الشيء إلى وطنه ) وأصله ( فحبب إليه النساء ) بذلك الحب 


قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن اللّه أحب من خلقه على صورته واسجد له ملائكته النوريين على ) أي مع ( عظم قدرهم ومنزلتهم وعلو نشأتهم الطبيعية ) والمراد بها الملائكة السماوية فإن الملائكة التي فوق السماوات وهم الملائكة العالون لم يسجدهم اللّه لآدم وقد يقال للملائكة السماوية طبيعيون كما يقال عنصريون إذ ما في العالم شيء إلا وهو صورة من صور الطبيعية فبهذا الاعتبار كل شيء طبيعي فهم الملائكة العنصريون الطبيعيون النوريين فكانوا عالين عن الإنسان بحسب نشأتهم النورية وإن كانوا عنصريين.


قال الشيخ رضي الله عنه :( فمن هناك ) أي فمن مقام حب اللّه أو مقام الحنين من الطرفين ( وقعت المناسبة ) أي الارتباط بين الرب والعبد ( والصورة ) أي والحال أن الصورة ( أعظم مناسبة وأجلها وأكملها فإنها ) أي فإن الصورة الانسانية ( زوّجت ) من التزويج ( أي شفعت وجود الحق كما كانت المرأة شفعت بوجود الرجل فصيرته ) أي فصيرت المرأة الرجل ( زوجا ) فجعل الصورة الانسانية الصورة الإلهية زوجا والمقصود إثبات حب اللّه إلى الإنسان المخلوق على صورته وهو الإنسان الكامل وهو المسمى بالقولي والروح المحمدي وأقل ما انشعب منه أرواح الأنبياء وما أمر الحق الملائكة إلا أن يسجد لمن كان على صفة الحق وأما جسد آدم وهو قبله الملائكة كقبلتنا هذه إذ ليس هو مخلوقا على صفة الحق.
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فظهرت الثلاث حق ورجل وامرأة فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه فحبب إليه ربه النساء ) التي على صورته ( كما أحب اللّه من هو على صورته فما وقع الحب ) أي حب الرجل في الحقيقة ( إلا لمن تكوّن ) من التكوين ( عنه ) وهو المرأة ( وقد كان حبه ) أي حب الرجل ( لمن تكوّن ) الرجل ( منه وهو الحق فلهذا ) أي فلأجل أن حب الرجل لا يكون إلا لمن تكوّن الرجل منه ( قال ) الرسول عليه السلام ( حبب إليّ ولم يقل أحببت من نفسه ) أي لم يسند الحب إلى نفسه بل أسنده إلى ربه فكان حب الرسول للنساء عين حب الحق لمن خلقه على صورته ( لتعلق حبه بربه الذي هو ) أي الرسول ( على صورته ) أي على صورة ربه ( حتى في محبته لامرأته ) يتعلق حبه بربه ( فإنه ) أي فإن الشأن ( أحبها ) أي أحب الرسول امرأته ( بحب اللّه إياه تخلقا إلهيا ) فكيف كان لا بد من محبة الرجل المرأة فأحب الرجل المرأة 


قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولما أحب المرأة طلب الوصلة أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح ) أي الجماع بالنكاح ( ولهذا ) أي ولأجل كون الجماع أعظم وصلة ( تعم الشهوة أجزاءه ) أي أجزاء الرجل ( كلها ) والمرأة كذلك ( ولذلك ) أي لأجل عموم الشهوة إلى أجزائه كلها ( أمر الاغتسال منه ) أي من الجماع ( فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها ) أي في المرأة ( عند حصول الشهوة فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد ) العبد ( أنه يلتذ بغيره ) أي بغير الحق أي نسي الحق في حالة التذاذه ويعتقد أن من يتلذذ به غير الحق مطلقا فتنجس برجس الغفلة التي تحصل بالتوجه والاشتغال بمن اتصف بالحدوث والإمكان واتسم باسم الغير فلا يمكن رجوع العبد إلى الحق بما كسب من الجماع ( فطهره ) أي فطهر الحق ذلك العبد بعد الجماع ( بالغسل ليرجع ) العبد ( بالنظر إليه ) أي إلى الحق.
 
 قال الشيخ رضي الله عنه : ( فيمن فني فيه ) أي في المرأة فكانت الطهارة لأجل المشاهدة الرجل الحق في المرأة ( إذ لا يكون إلا ذلك ) النظر والشهود أي نظر الرجل إلى الحق في المرأة فلا بد للرجل أن ينظر إلى الحق في المرأة ( فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهوده ) أي كان شهود الرجل الحق في المرأة شهوده الحق .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( في منفعل ) متضمنا مشاهدة فاعل وهو مشاهدة المؤثر من الأثر فكانت المرأة كالمرآة القابلة لأثر الرائي ( وإذا شاهده ) أي الحق ( في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده في فاعل ) متضمنا منفعل وهو مشاهدة الأثر من المؤثر كمن شاهد الرائي من حيث ظهور صورة عنه في المرآة ( وإذا شاهده من نفسه من غير استحضار صورة ما تكوّن عنه ) وهو المرأة ( كان شهوده ) أي الحق ( في منفعل عن الحق بلا واسطة فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل ) من شهوده في نفسه بلا استحضار المرأة ( لأنه ) أي لأن الشأن ( يشاهد ) الرجل ( الحق ) في المرأة ( من حيث هو ) أي من حيث أن اللّه ( هو فاعل ومنفعل ) وهذا القسم نتيجة للقسمين الأوّلين لأن كل واحد منهما لا يكون إلا باستحضار صورة ما تكوّن عنه وهو المرأة فلا يتحقق أحدهما بدون الآخر بل كل واحد منهما متضمن للآخر بخلاف القسم الثالث فإنه لا يشاهد الحق فيه إلا من حيث هو منفعل خاصة ولذلك لم يقيد القسمين الأوّلين بقوله خاصة بناء على الظاهر إذ في الصورتين كان أحدهما ظاهرا والآخر متضمنا في أحدهما لذلك أظهر في النتيجة فقال من حيث هو فاعل فهو تصرف الرجل فيها كتصرف الحق فيه وهو جهة الفاعلية ، وأما شهوده من حيث هو ومنفعل فهو كونها تحت تصرفه ومحل الانفعال.


قال الشيخ رضي الله عنه : ( و ) يشاهد الحق ( من نفسه ) من غير استحضار المرأة ( من حيث هو منفعل خاصة فلهذا ) أي فلأجل هذا المذكور ( أحب ) الرسول ( النساء لكمال شهود الحق فيهن إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا ) فهي أكمل المواد لمشاهدة الحق ( فإن اللّه بالذات غني عن العالمين ) فلا يمكن شهوده من هذا الوجه ( وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ولم تكن الشهادة إلا في مادة فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله ) .
ثم رجع إلى أصل المسألة وأعاد ليثبت عليها الأحكام فقال ( وأعظم الوصلة النكاح ) أي الجماع الحلال وهو إما بالنكاح أو بالملك إذ الجماع بدونهما لا روح له فلا يشاهد فيه الحق أبدا لذلك حرّم الزنا في جميع الأديان فكنى عن الجماع الحلال بالنكاح ( وهو ) أي النكاح ( نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته ليخلفه ) أي ليكون خليفة في الملك كما قال :"إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً " [ البقرة : 30 ] ،
( فيرى فيه ) أي فيمن خلقه ( صورته بل ) يرى ( نفسه ) فإن المتعين بكل تعين هي الطبيعة التي هي مظهر الذات الإلهية ( فسوّاه وعدّله ونفخ فيه من روحه الذي هو نفسه ) أي عينه من جهة حقيقته وباطنته لا من جهة إمكانه وحدوثه وخلقه فإنه قال عليه السلام : « أوّل ما خلق اللّه روحي » .
 
"" أضاف الجامع :
 ورد الحديث : واستدل بحديث جابر المروي في "المواهب اللدنية" حيث قال: "قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلق الله قبل الأشياء فقال: يا جابر! إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيت شاء الله ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة, ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول السماوات ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار ثم قسم الرابع أربعة ... أورده الصنعاني في الحديث التَّحبير لإيضَاح مَعَاني التَّيسير.
وأطال في "قصد السبيل" بيان ذلك، وأن نوره - صلى الله عليه وسلم - أصل الأشياء كلها.
* وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : قام فينا رسول الله  صلى الله عليه وسلم مقاما، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، حفظ ذلك من حفظه, ونسيه من نسيه. أخرجه البخاري. أورده الصنعاني التَّحبير لإيضَاح مَعَاني التَّيسير.
 
حديث : (أول ما خلق اللهُ نورُ نبِيكِ يا جابر - الحديث) رواه عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله بلفظ قال قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء.
قال: يا جابر، أن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقُدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جِنِّيٌ ولا إنسي، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم ومن الثاني اللوح ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول حَمَلَة العرش ومن الثاني الكرسي ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول السماوات ومن الثاني الأرضين ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ومن الثاني نور قلوبهم وهى المعرفة بالله ومن الثالث نور إنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله - الحديث، كذا في المواهب، وقال فيها أيضا واختُلِف هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدي أم لا فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني: الأصح أن العرش قبل القلم، لِما ثبت في الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء. كشف الخفاء ومزيل الإلباس العجلوني ""
 
فإنه باعتبار إضافته إلى الرسول خلق وحادث وباعتبار نسبته إلى الحق حق وقديم فكان نسبة الروح إلى الحق نسبة الصفات الإلهية إليه لذلك قال ( فظاهره ) أي ظاهر من خلقه على صورته ( خلق ) أي متصف بصفة الخلقية من الإمكان والحدوث ولوازمها ( وباطنه ) الذي هو الروح ( حق ) أي ثابت محقق لا يفنى بخراب البدن موصوف ببعض الصفات الإلهية من القدم والربوبية والتدبير ( ولهذا ) أي ولأجل كون باطنه حقا ( وصفه ) أي وصف الحق الروح ( بالتدبير لهذا الهيكل ) المحسوس ( فإنه تعالى به يدبر الأمر ) فوصفه بما وصف نفسه به ( من السماء وهو العلو إلى الأرض وهو أسفل السافلين لأنها ) أي الأرض ( أسفل الأركان كلها ) فدبر اللّه تعالى أمر الوجود من الروح الانساني وهو السماء إلى الأرض وهي الهيكل الانساني أو دبر اللّه الأمر من الرجل وهو السماء إلى الأرض وهي المرأة .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( وسماهن ) أي سمى الحق والرسول من تأخر في الوجود عن الرجل ( بالنساء ) لتأخرهن عن الرجال ( وهو جمع لا واحد له من لفظه ولذلك ) أي ولأجل تأخرهن عن الرجال ( قال عليه السلام : « حبب إليّ من دنياكم ثلاث النساء » ولم يقل المرأة فراعى ) رسول اللّه عليه السلام ( تأخرهن في الوجود عنه ) أي عن الرجل ( فإن النساء هي التأخير قوله تعالىإِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِوالبيع بنسيئة يقول بتأخير فلذلك ) أي فلأجل كون وجود معنى التأخير في وجودهن ( ذكر النساء فما أحبهن ) أي فإذا راعى مرتبتهن في الوجود حيث قال النساء علم أنه ما أحبهن ( إلا بالمرتبة وإنهن محل الانفعال ) بخلاف ما إذا قال المرأة فإنها لا تفيد ما أفاد به النساء لجواز أن يحبهن لقضاء الشهوة لعدم وجود ما روعي في النساء ( فهن له ) أي النساء للرجل ( كالطبيعة للحق التي فتح فيها صور العالم بالتوجه الإرادي والأمر الإلهي الذي هو نكاح في عالم الصور العنصرية وهمة في عالم الأرواح النورية وترتيب مقدمات في المعاني للإنتاج وكل ذلك نكاح الفردية الأولى في كل وجه من هذه الوجوه ) فالأمر واحد وهو فتح الحق الصور في الطبيعة الكلية بالتوجه الإرادي والمراتب كثيرة .


قال الشيخ رضي الله عنه :( فمن أحب النساء على هذا الحد ) أي على المرتبة ( فهو ) أي حبه ( حب إلهي ) يشاهد ربه في هذه المرآة الأكمل ( ومن أحبهن على جهة الشهوة الطبيعة خاصة نقصه ) أي نقص هذا المحب عن مشاهدة الحق في النساء ( علم هذه الشهوة فكان ) هذا الحب ( صورة بلا روح عنده ) أي عند المحب ( وإن كانت تلك الصورة ) أي صورة الشهوة الطبيعية ( في نفس الأمر ذات روح ولكنها غير مشهودة لمن جاء لامرأته أو لأنثى حيث كانت بمجرد الالتذاذ لكن لا يدري لمن التذاذه ) ومن استفهام ( فجهل ) هذا الرجل من نفسه ( ما يجهل الغير منه ) والمراد بالغير من أحبهن بحب إلهي فإنه يعلم أن التذاذ هذا الرجل لمن وما في قوله ما يجهل للنفي والضمير في منه راجع إلى الرجل الجاهل من نفسه.
 
( ما لم يسم هو ) أي ما دام لم يسم الغير هذا الرجل الجاهل ( بلسانه ) أي بلسان ذلك الرجل ( حتى يعلم ) يعني يعلم ذلك الرجل من نفسه ما هو وما تلذذه وما امرأته ولمن يلتذ إذا أخبره غيره الذي هو عالم بذلك فحينئذ يعلم من هو وما تلذذه ولمن ثبت التذاذه وما امرأته 


قال الشيخ رضي الله عنه : ( كما قال بعضهم شعر :
صح عند الناس أني عاشق  .... غير أن لم يعرفوا عشقي لمن
كذلك هذا الجاهل أحب الالتذاذ فأحب المحل الذي يكون ) فيه الالتذاذ وهو المرأة ( ولكن غاب عنه روح المسألة ) وهي مشاهدة الحق في المرأة فاعلا ومنفعلا ( فلو علمها ) أي روح المسألة ( لعلم بمن ) موصول أو استفهام ( التذ ومن التذ وكان كاملا ) في رتب العلم باللّه لكونه مشاهدا للحق أعظم شهود ( وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته فتلك الدرجة التي تميز ) الحق ( بها ) أي بسبب تلك الدرجة ( عنه ) أي عن مخلوقه على صورته ( بها ) أي بسبب تلك الدرجة ( كان ) الحق ( غنيا عن العالمين وفاعلا أوّلا ) فكان غناؤه وفاعليته الأولية مسببا عن تلك الدرجة ( فإن الصورة ) المخلوقة على صورته ( فاعل ثان ) لأنه متصرف في العالم خلافة عن اللّه ( فما ) أي ليس ( له الأولية التي للحق ) فتميز الحق عنه بالمرتبة ( فتميزت الأعيان ) عن الحق ( بالمراتب ) وتميز بعضها عن بعض بحصة معينة 


قال الشيخ رضي الله عنه : ( فأعطى كل ذي حق حقه كل عارف ) بلا نقص وزيادة متخلفا بتخلق إلهي ( فلهذا ) أي فلأجل إعطاء كل عارف وكل ذي حق حقه ( كان حب النساء لمحمد عليه السلام عن تحبب إلهي وإن اللّه أعطى كل شيء خلقه وهو عين حقه ) فاقتضى عين محمد عليه السلام حبهن فأعطى اللّه حقه فأحبهن فاقتضت أعيان النساء أن يحبهن الرجل فأعطى محمد عليه السلام حقهن مما أعطاه اللّه له فكل عارف أعطى كل ذي حق حقه وهذا معنى قوله ( فما أعطاه ) أي فما أعطى الحق الحب لمحمد عليه السلام ( إلا باستحقاق استحقه ) أي استحق محمد عليه السلام حبهن ( بمسماه أي بذات ذلك المستحق وإنما قدم ) الرسول في الحديث ( النساء لأنهن محل الانفعال كما تقدمت الطبيعة على من وجد منها ) قوله ( بالصورة ) متعلق بقوله تقدمت ( وليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفس الرحماني فإنه ) أي فإن الشأن ( فيه ) أي في النفس الرحماني ( انفتحت صور العالم ) لا في غيره ( أعلاه وأسفله ) ولا يغني بالطبيعة إلا هو فكانت الطبيعة عين النفس الرحماني في أن كل واحدة منهما محل لانفتاح صور العالم فقدمت الطبيعة على من وجد منها من صور العالم ( لسريان النفخة ) يتعلق بقوله انفتحت وهي قولهفَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
( في الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام خاصة ) فكانت الطبيعة والنفس الرحماني واحد لأن كل واحد منهما يسري في الأجسام بواسطة الهيولى الجسمية .
 
( وأما سريانها ) أي سريان الطبيعة ( لوجود الأرواح النورية والأعراض فذلك سريان آخر ) فإن الطبيعة تسري في وجود الأرواح بالذات والنفس الرحماني يسري بواسطة سريان الطبيعة الجوهرية
قال الشيخ رضي الله عنه :( ثم إنه عليه السلام غلب في هذا الخبر التأنيث على التذكير لأنه قصد ) الرسول ( التهمم بالنساء وقال ثلاث ولم يقل ثلاثة بالهاء الذي هو لعدد الذكران إذ وفيها ) أي في الثلاث الواو للعطف والمعطوف عليه مقدر تقديره إذ فيها ذكر النساء وفيها ( ذكر الطيب وهو مذكر وعادة العرب أن يغلب التذكير على التأنيث فتقول الفواطم وزيد خرجوا ولا تقول خرجن فغلبوا التذكير وإن كان واحدا على التأنيث وإن كن جماعة وهو ) أي والحال أن الرسول ( عربي ) أفصح الفصحاء مع أنه خالف قاعدتهم في ذلك ( فراعى النبي عليه السلام المعنى الذي قصد ) الرسول ( به ) أي بهذا المعنى ( في التحبب إليه ) وهو قوله حبب إليّ ولم يقل أحببت من نفسه ( ما ) دام ( لم يكن يؤثر حبه ) أي حب الرسول فقوله ما لم يكن قيد لقوله فراعى أي فراعى هذا المعنى ما دام لم يكن حب الرسول إليهن مؤثرا بل هو متأثر بحبهن فيحبهن بحب اللّه فغلب التأنيث على التذكير رعاية لهذا المعنى.


( فعلمه اللّه ) من الحقائق والأسرار ( ما لم يكن يعلم ) فأخبرنا بلسانه الفصيح مما علمه اللّه فقال حبب إليّ ولم تقل أحببت لتعلق حبه بربه قال وثلاث ولم يقل ثلاثة لقصده التهمم بالنساء ( وكان فضل اللّه عليه ) أجرا ( عظيما فغلب التأنيث على التذكير بقوله ثلاث بغير هاء فما أعلمه عليه السلام بالحقائق وما أشدّ رعايته للحقوق ) فإن حق التأنيث في هذا المقام التغليب على التذكير فهو أعطى كل ذي حق حقه ( ثم إنه ) أي النبي عليه السلام 


قال الشيخ رضي الله عنه : ( جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث وأدرج بينهما التذكير فبدأ بالنساء وختم الصلاة وكلتاهما تأنيث والطيب بينهما كهو ) أي النبي عليه السلام أو كآدم ( في وجوده فإن الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها وبين امرأة ظهرت عنه فهو ) أي الرجل ( بين مؤنثين تأنيث ذات وتأنيث حقيقي كذلك النساء تأنيث حقيقي والصلاة تأنيث غير حقيقي والطيب مذكر بينهما كآدم بين الذات الموجودة هو ) أي آدم ( عنها وبين حوّاء الموجودة عنه وإن شئت قلت الصفة فمؤنثة أيضا وإن شئت قلت القدرة فمؤنثة أيضا فكن على أيّ مذهب شئت فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدم حتى أن أصحاب العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم والعلة مؤنثة ) والمقصود إظهار كمال الرسول في الفصاحة والبلاغة كيف علم الحقائق وراعاها في كلامه الفصيح وعلمنا ما لم نكن نعلم مما علمه اللّه ما لم يكن يعلم ( وأما حكمة الطيب وجعله بعد النساء فلما في النساء من روائح التكوين ) فإنهن سبب لتكوين الأولاد ( فإنه أطيب الطيب عناق الحبيب كذا قالوا في المثل السائر ) .


ولما فرغ عن بيان حقائق كلامه شرع في بيان كماله في نفسه فقال ( ولما خلق ) رسول اللّه عليه السلام ( عبدا بالأصالة لم يرفع رأسه قط ) فعلا وقولا ( إلى السيادة بل لم يزل ساجدا واقفا ) أي ثابتا .


قال الشيخ رضي الله عنه :( مع كونه منفعلا ) ولم يتجاوز إلى كونه فاعلا ( حتى كوّن اللّه عنه ما كوّن ) كما قال خلقتك من نوري وخلقت الأشياء من نورك ( فأعطاه ) أي أعطى اللّه النبي ( رتبة الفاعلية ) يتصرف بأمر اللّه خلافة عنه ( في عالم الأنفاس التي هي الأعراف الطيبة ) وهي عالم الأرواح المدبرة بنفوسهم في الوجود الشهادي فإن فيها روائح الطيبة الوجودية فعالم الأنفاس بمنزلة النساء في الشهادة فأعطاه رتبة الفاعلية في النساء فكما وجد في النساء روائح التكوين كذلك وجد في عالم الأنفاس روائح الوجود إذ ما يحصل الوجود الشهادي إلا بعالم الأنفاس ( فحبب إليه الطيب ) كما حبب إليه ما فيه الطيب وهو عالم الأنفاس والنساء فالطيب هو الرائحة الطيبة فكانت عرضا متأخرا الوجود عن الجوهر قائما به قوله فحبب إليه يجوز أن يكون معلوما ومجهولا ( فلذلك ) أي فلأجل كون الطيب متأخرا بالوجود عما يقوم به ( جعله ) أي جعل رسول اللّه عليه السلام الطيب ( بعد النساء فراعى ) رسول اللّه عليه السلام في هذا الترتيب ( الدرجات التي للحق في قوله "رَفِيعُ الدَّرَجاتِ") فأول الدرجات العقل الأول وهو آدم الحقيقي والثاني النفس الكلية وهي حوّاء فالعقل الأول مذكر بين المؤنثين ذات الحق والنفس الكلية فراعى النبي عليه السلام هذه الدرجات الإلهية بجعل المذكر بين المؤنثين
فكان رسول اللّه رفيع الدرجات الثلاث بإضافة حبهن إليه في قوله : حبب إليّ وكذلك رفيع جميع الدرجات من الجواهر المجردة والأجسام ( ذو العرش لاستوائه ) أي لاستواء النبي العرش ( باسم الرحمن ) فإن العرش مخلوق من العقل الأول الذي هو روح محمد عليه السلام فكان محمد عليه السلام ذا العرش فإن الدرجات كما تنسب إلى الحق تنسب إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم تبعا لا أصالة فإذا استوى الرحمن على العرش ( فلا يبقى فيمن حوى ) أي أحاط واشتمل 


قال الشيخ رضي الله عنه : ( عليه العرش من لا تصيبه الرحمة الإلهية الرحمانية وهو ) أي المعنى المذكور معنى ( قوله تعالى ":وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" والعرش وسع كل شيء والمستوي ) أي الحاكم والمستولى عليه ( الرحمن ) فكان العرش مظهر الرحمن يظهر منه فيض الرحمن على ما تحته من الموجودات ( فبحقيقته ) أي بحقيقة اسم الرحمن ( يكون سريان الرحمة في العالم كما قد بيناه في غير موضع من هذا الكتاب ومن الفتوح المكيّ وقد جعل الحق الطيب في هذا الالتحام النكاحي ) أي نكاح الشهادي الواقع بين الرجل والمرأة ( في براءة عائشة رضي اللّه عنها فقال :الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) [ النور : 26 ] ،
من الافتراء في حقهن فإن عائشة رضي اللّه عنها وباقي أزواجه أطيب الطيبات كما أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم أطيب الطيبين ( فجعل روائحهم ) أي فجعل الحق روائح الطيبين وهي أقوالهم لأن الطيب من يتكلم كلمة طيبة أي صادقة والخبيث من يتكلم كلمة خبيثة وهي كلمة كاذبة طيبة أي صادقة وإنما جعل أقوالهم روائح ( لأن القول نفس هو ) أي النفس ( عين الرائحة فيخرج النفس بالطيب والخبيث على حسب ما يظهر به في صورة النطق ) أي يخرج النفس من الطيب طيبا ومن الخبيث خبيثا ( فمن حيث هو إلهي بالأصالة كلمة طيب فهو) أي النطق أو القول كله .


قال الشيخ رضي الله عنه :( طيب ومن حيث ما يحمد ويذم ) النفس ( فهو ) أي القول ( طيب وخبيث وقال في خبث الثوم هي شجرة أكره ريحها ولم يقل أكرهها فالعين لا تكره وإنما يكره ما يظهر منها والكراهة لذلك ) أي لما ظهر منها وهي الرائحة التي هي العرض القائم بها ( إما عرفا أو بعدم ملاءمة طبع أو غرض أو شرع أو نقص عن كمال مطلوب وما ثمة ) أي وليس في كراهة العين سبب ( غير ما ذكرناه ولما انقسم الأمر إلى الطيب والخبيث كما قررناه حبب إليه ) أي إلى محمد عليه السلام ( الطيب دون الخبيث ووصف ) النبي عليه السلام ( الملائكة بأنها تتأذى بالروائح الخبيثة لما في هذه النشأة العنصرية من التعفين فإنه ) أي الإنسان ( مخلوق من صلصال من حمأ مسنون أي متغير الريح فتكرهه الملائكة بالذات ) لعدم ملاءمة طبعهم فيكره عين الإنسان لهم لما ظهر منه من تغير الريح فيتضرر مزاج الملائكة دون غيرهم
 
( كما أن مزاج الجعل يتضرر برائحة الورد وهي من الروائح الطيبة فليس الورد عند الجعل بريح طيبة ) كما أن رائحة النكهة التي حصلت من الصوم يتضرر الإنسان بها وهي عند اللّه أطيب من المسك ( ومن كان ) من الناس ( على مثل هذا المزاج ) أي الجعل ( معنى ) بأن يكون قلبه مائلا إلى الباطل ( وصورة ) بأن يفعل القبائح ( أضرّ به الحق ) وهو ريح طيبة ( إذا سمعه وسرّ بالباطل ) وهو ريح خبيثة فكان محمد عليه السلام عند هذه الطائفة كالورد عند الجعل ( وهو ) أي المذكور ( قوله تعالى :"وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ")[ العنكبوت : 52 ] ، ووصفهم بالخسران .
 
فقال رضي الله عنه  : ("أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ . الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ "فإنه ) أي الشأن ( من لم يدرك الطيب من الخبيث ) كالملائكة التي نازعت في آدم فقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ولم يدركوا أن آدم طيب مدرج في الخبيث ، ( فلا ادراك له فما حبب إلى رسول اللّه عليه السلام إلا الطيب من كل شيء وما ثمة ) أي وليس في الحقيقة أي بالنسبة إلى مقام الجمع لا بالنسبة إلى المظاهر ( إلا هو ) أي الطيب ( وهل يتصور أن يكون في العالم مزاج لا يجد إلا الطيب من كل شيء لا يعرف الخبيث أم لا ، قلنا : هذا لا يكون فإنا ما وجدناه في الأصل الذي ظهر العالم منه وهو الحق فوجدناه يكره ويحب وليس الخبيث إلا ما يكره ولا الطيب إلا ما يحب ) مبنيان للمفعول هذا باعتبار المظاهر فإن اللّه يحب ويكره بها وأما باعتبار الجمعي الاتحادي فيحب كل شيء وإلا لما أجاد ما يكرهه في المظاهر فظهر أن ما يكرهه في المظاهر يحبه في مقامه الجمعي .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( والعالم على صورة الحق والإنسان على الصورتين ) صورة الحق وصورة العالم فقد سبق تفصيله ( فلا يكون ثمة ) أي في العالم ( مزاج لا يدرك إلا الأمر الواحد ) الطيب والخبيث ( من كل شيء بل ثمة مزاج يدرك الطيب من الخبيث مع علمه بأنه خبيث بالذوق طيب بغير الذوق فيشغله ) أي فيشغل هذا المزاج ( إدراك الطيب منه ) أي من الخبيث ( عن الإحساس ) أي عن إحساس ذلك المزاج ( خبثه ) أي خبث ذلك الخبيث ( هذا قد يكون ) أي هذا المزاج قد يوجد ( وأما رفع الخبيث من العالم أي من الكون فإنه لا يصح ) لاختلاف الطبائع ( ورحمة اللّه ) موجودة ( في الخبيث والطيب والخبيث عند نفسه طيب والطيب عنده ) أي عند الخبيث .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( خبيث فما ثمة ) أي فما في الكون ( شيء طيب إلا وهو من وجه في حق مزاج ما خبيث وكذلك بالعكس وأما الثالث الذي به كملت الفردية فالصلاة ) فقال ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) وإنما جعلت الصلاة قرة عين المصلي ( لأنها مشاهدة ) أي سبب لمشاهدة العبد المصلي ربه ( وذلك ) أي بيان كون الصلاة مشاهدة ( لأنها مناجاة بين اللّه وبين عبده كما قال فاذكروني أذكركم وهي ) أي الصلاة 
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 2انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر
» كتاب فصوص الحكم الشيخ الاكبر محيي الدين بن العربي الطائي الحاتمي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: