منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالأحد يوليو 21, 2019 4:31 pm

مقدمة شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

مقدمة الشارح الشيخ القاشاني رحمه الله

الحمدلله الاحد ذاته وكبريائه الواحد بصفاته وأسمائه .
المتعالى عن أن يتكثر بكثرة النسب والتعيينات باحديته في صورة الاكوان والكثرات فلا كثرة في المظاهر والاسماء تكثره.
 ولا تكرر في تعاقب تارات التجلي تكرره .
تجلى بذاته لذاته وظهرت الحقائق والاعيان وجعلها براقع وجهه بوجوده .
وعلمنا بعلمه فاشهدنا ذاته بشهوده والصلاة على من جمع فيه مراتب الوجود بأسرها.
وجعل في يده مفاتح الغيوب فأوحى إليه بنشرها .
محمد الذي أوتي جوامع الكلم ليكمل بها طوائف الامم ويعلم جميع الخلائق لطائف الحكم .
فختم به ما أودع من الكمال عالم التكوين والإبداع.
وضبط بوجودك نظام الكل من الأصناف والأنواع .
وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين كشفوا الحجب عن جمال وجهه الباقي فتلألأت سبحاته متساطعة إلى يوم التلاقي.
(وبعد) :
 فإن الزمان لما تقاصرت أذياله وكادت يرتفع بانكشاف الحق اسباله.
ونطق الحق على لسان الخلق بأسراره وزهق الباطل بتشعشع أنواره .
واقتضت الحقيقة أن تهتك استارها  وطفقت في كل سمع يحدث أخبارها .
أقبل على جماعة من اخوان الصدق والصفا وأرباب الفتوة والوفا من أهل العرفان والتحقيق .
ومن أيدته العناية بالتوفيق خصوصا كالصاحب المعظم العالم العارف الموحد المحقق شمس الملة والدين قدوة أرباب اليقين محمد بن مصلح المشتهر بالتبریزی متعه الله بما فيه وأطلعه على خوافيه.
أن أشرح لهم كتاب فصوص الحكم المنسوب الى الشيخ الكامل المكمل البحر الخضم محيي الملة والدين ابی عبدالله محمد بن علي المعروف بابن العربي الطائي الحاتمي الاندلسي قدس الله روحه و كثر من عنده فتوحه  شارطين على أن لا أكتم شيئا من جواهر كنوزة وأبرز ما أمكن من معضلات مخفیانه ورموزه.
فأسعفتهم إلى ملتمسهم وصرفت عنان همتي الى تسهيل مقتبسهم مجتهدا في حل ألفاظ الكتاب بقدر مايسر الله لي من فهم ما هو الحق والصواب.
معتصما بالله فما أتصدى من المرام فإنه أصعب ما قصد من مطالب الأنام سائلا اياه أن لا يكلني فيما أعانيه إلى نفسي.
وأن يكلأني بإلهامه الحق عن تصرفات عقلی وحدسي .
وأن يلق الى قلبي ما ألقاه إلى من يلقاه .
ويحفظني عن الخطأ و الزلل فما أطلبه وألقاه .
وقد قدمت أمام الكلام ثلات مقدمات تحتوي على أصول فصوص الحكم هذه.
الكلمات الاولى في تحقيق حقيقة الذات الأحدية حقيقة الحق المسماة بالذات الأحدية :
ليست غير الوجود البحت من حيث هو وجود لا بشرط اللاتعين ولا بشرط التعيين فهو من حيث هو مقدس عن النعوت والأسماء لا نعت له ولا رسم ولا اسم ولا اعتبار للكثرة فيه بوجه من الوجوه .

وليس هو بجوهر ولا عرض فان الجوهر له ماهية غير الوجود وهو بها جوهر ممتاز عن غيره من الموجودات.  والعرض كذلك  
وهو مع ذلك محتاج إلى موضع موجود يحل "يتجلى" فيه "وعليه" وما عدا الواجب فهو إما جوهر وإما عرض .
فالوجود من حيث هو وجود لیس مما عدا الواجب.
وكل ما هو وجود مقيد فهو به موجود .
بل هو باعتبار الحقيقة غيره باعتبار التعيين .
فلا شئ غيره بحسب الحقيقة وإذا كان كذلك فوجوده عين ذاته .
إذ ما عدا الوجود من حيث هو وجود عدم صرف.
 والوجود لا يحتاج في امتيازه عن العدم الى تعیین نفی امتناع اشتراكهما في شي اذ العدم لا شيء محض .
ولا يقبل العدم وإلا لكان بعد القبول وجودا معدوما كما لا يقبل العدم الصرف الوجود كذلك .
ولو قبل أحدهما نقيضه لكان من حيث هو بالفعل نقيضه .
وهو محال ولإقتضاء القابلية التعدد فيه ولا تعدد في حقيقة الوجود من حيث هو وجود .
بل القابلة لهما الأعيان وأحوالهما الثابتة في العالم العقلي يظهر بالوجود وبختفي بالعدم .
وكل شي موجود بالوجود فعينه غير وجوده .
فلم يكن وجودا وإلا فإذا وجد كان للوجود وجود قبل وجود وجوده .
والوجود بذاته موجود فوجوده عینه .
والا لكان ماهيته غير الوجود فلم يكن وجودا وإلا فإذا وجد كان للوجود وجود قبل الوجود .
وذلك محال فالوجود بذاته واجب أن يوجد بعينه لا بوجود غيره .
وهو المقوم لكل موجود سواه لأنه موجود بالوجود وإلا لكان لا شيئا محضا .
فهو الغني بذاته عن كل شي والكل مفتقرا إليه .
وهو الأحد الصمد القيوم أولم یكف بربك أنه على كل شئ شهيد .
الثانية في بيان حقائق الأسماء ولاتناهيها :
اعلم أن ذات الحق تعالى من حيث هي هي يقتضي علمه بذاته بعين ذاته لا بصورة زائدة على ذاته .
وعلمه بذاته يقتضي علمه بجميع الأشياء على ما هي عليه في ذاته وذلك الاقتضاء هو المشيئة .
وقد تطلق علمها الارادة لكن الأراده :أخص منها .
فإنها قد تتعلق بالزيادة والنقصان علی سبیل الحدوث والظهور.
والكون في المظاهر الكونية في العالم الأعلى والأسفل بالايجاد والاعدام .
والإرادة إنما تتعلق بالايجاد ولا يقع بالارادة الأ مقتضى المشيئة الأولى.
كما أشار اليه في الفص اللقماني في عموم المشيئة وخصوص الارادة .
فنسبة الصفات الذات الأحدية إلى الصور العلمية المتعينة بعد التعين الاول الثابت للجوهر الأول وهي النسب الاسمائية .
لان كل نسبة صفة والذات مع أي صفة كانت اسم و اولاها النسبة العلمية التي تعينت بها الأعيان.
لكن العلم لا يتصور إلا بالحياة .
فالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام أمهات الصفات .
وهى نسبة ذاتية إذا اعتبرت مع الذات حصلت الأسماء السبعة التي سماها الشيخ في الفتوحات
الأئمة السبعة.
فالذات بحسب هذه النسب اقتضت الجوهر الأول وظهرت الموجدية والأولية والخلق والمبدئية والأمر وسائر الأسماء المنسوبة الى الابداء.
فالسبعة الأولى تسمى الأسماء الإلهية 
والثانية تسمى التالية لانها توابع الاولى .
فظهرت بعين الجوهر الأول الذي ينفصل عنه حقائق الأعيان نسب الذات الى كل متعين علمى.
وتعدد النسبة بتعدد الحقائق وأحوالها وأحكامها تعددت الصفات والأسماء وهي أسماء الربوبية وحضرتها أی حضرة الأسماء الحضرة الواحدية.
ولكل اسم من السبعة نسبة إلى كل عين .
فللذات بحسب كل عين اسم .
وتلك الأعيان أيضا أسامي لكونها عين الذات مع التعين .
ولكل عين الى جزيئاتها الحادثة في العالم نسبة والحوادث غير متناهية.
فأسماؤه تعالى غير متناهية ولهذا وصفها بأنها لا يبلغها الاحصاء .
وهي تقتضي وجود العالم .
بل هی ملكوتها التي يدبر الله الملك الحق بها .
ملك العالم وكل اسم رب الملكوت الذي هو مقتضاه لأن الله تعالى رب الاكوان بها. 
فاعلم بان هذا الأصل نافع في حل أكثر فصوص الكتاب .
والله الهادی.
 الثالثة  في بيان الشأن الإلهي :
اعلم أن الشأن الإلهي والأمر التدبیری دوری .
فان الحضرة الأحدية إذا اقتضت التعين الاول والعين الواحدة المسماة بلسان أهل الذوق البرزخ بين أحكام الوجوب والامكان المحيط بالطرفين .
كانت الذات الأحدية باعتبار الشؤون الأسمائية الحضرة الالهية والواحدية .
وتلك العين هي القلم الأعلى وتتشعب الى عقول كثيرة لا يعلمها الا الله .
ثم النفوس والافلاك وتتفاوت مراتبها في الاحاطة بحسم تفاوت العقول التي تفيض منها وقلة الوسائط بينها وبين الذات وكثرتها.
وإذا سمي العقل الأول القلم الاعلى سميت النفس الكلية باللوح المحفوظ لانتقاشها ما يفيض من القلم عليها من العلوم والنقوش المنطبعة في الأفلاك المنتقشة بصور الحوادث الجزئية الزمانية بمجموعها اللوح القدرى .
وينتهي إلى العناصر ثم يرجع إليه بالتركيب والمزيج في صور المواليد الثلاثة ومراتبها .
حتى يصل إلى الإنسان منصبغا يصبغ جميع المراتب .
فان ترقى بالعلم والعمل وسلك حتى انتهى إلى الأفق الأعلى ورجع إلى البرزخ الجامع كما نزل منه .
بلغ الحضرة الالهية واتصف بصفات الله بحسب ما قدر له من الإمكان .
وسبق العلم به عند تعيين عينه واتسم بما أمكن به من الأسماء الإلهية التي هي مفاتيح غيبه .
واطلع على ما في تلك الخزائن من العلوم ولم يبق بينه وبين الحضرة الاحدية حجاب فناسب باحدية جمعيته البرزخ الجامع واتصل بالنقطة الأحذية وتم به دائرة الوجود .
فكان أولا باعتبار حقيقته وآخرا بانتهاء أحكام الكل إليه اذ كان من الدائرة بمثابة النقطة التي انتهت الدائرة بها الى أولها .
ولما كانت الموجودات بأسرها كدائرة هو نقطتها الأخيرة وهو جزء من العالم أشبه العالم بالخاتم .
فانه حلقة ومن حيث أن الإنسان من جملة أجزاء العالم انتقش بنقش العلوم التي في الحضرة الإلهية.
وحمل سر أسمائه وصفاته وختم به العالم بأسره شبه بالفص من الخاتم .
فالحق تعالى بحسب أسمائه الحسنى يدبر امر الوجود باقتضاء هذه الاسماء أكوان العالم .
ويرب بالأسماء التالية التي هي أسماء الربوبية كلها ما يحتاج اليها وتطلبها ويمدها ويبلغها إلى كمالاتها التي هي معاني الأسماء الإلهية في الإنسان الكامل البالغ إلى الحقيقة الإلهية .
فيربيه الاسماء الالهية حتى تنصف بها وهذه الاضافات والامدادات هي الشؤون الالهية ثم يتولى بذاته ربوبية هذا الإنسان ويؤيده بجميع أسمائه.
فيعبده هذا الإنسان حق عبادته بالعبودية الذاتية وليس وراء عبادة الله قربة.

.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة أغسطس 02, 2019 3:47 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: شرح القاشاني لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالأحد يوليو 21, 2019 5:03 pm

شرح القاشاني لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم  

شرح الخطبة على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
شرح القاشاني لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي
متن النص : الحمد للَّه منزل الحِكَم على قلوب الكَلِم بأحديَّة الطريق الأمَم من المقام الأقدم و إن اختلفت النحل و الملل لاختلاف الأمم.
و صلى اللَّه على مُمِدِّ الهمم، من خزائن الجود و الكرم، و بالقيل الأقوم، محمد و على آله و سلم .
أما بعد:
فإني رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم في مُبشِّرة أُرِيتُها في العشر الآخِر من محرم سنة سبع و عشرونَ و ستمائة بمحروسة دمشق، و بيده صلى اللَّه عليه و آله و سلم كتاب، فقال لي: هذا «كتاب فصوص الحكم» خذه و اخرج به إلى الناس ينتفعون به. 
فقلت: السمع و الطاعة للَّه و لرسوله و أولي الأمر منا كما أُمِرْنا. فحقَّقْتُ الأمنية و أخلصت النيَّة و جردت القصد و الهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حدَّه لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم من غير زيادة و لا نقصان، و سألت اللَّه تعالى أن يجعلني فيه و في جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سطانٌ، و أن يَخُصَّني في جميع ما يرقمُهُ بَنَانِي و ينطق به لساني و ينطوي عليه جَناني بالإلقاء السُّبُوحي و النَّفْث الروحي في الرُّوعِ النفسي بالتأييد الاعتصامي، حتى أكون مترجماً لا متحكماً، ليتحقق من يقف عليه من أهلِ اللَّه أصحاب القلوبِ
أنه من مقام التقديس المنزَّه عن الأغراض النفسية التي يدخلها التلبيس.
و أرجو أن يكون الحق  لمَّا سمع دعائي قد أجاب ندائي، فما أُلقي إلا ما يُلْقِي إليَّ، و لا أُنزل في هذا المسطور إلَّا ما ينزِّل به عليَّ.
و لست بنبيّ رسول و لكنِّي وارث و لآخرتي حارث.
فمن اللَّه فاسمعوا ... و إلى اللَّه فارجعوا
فإذا ما سمعتم ما ... أتيت به فَعُوا
ثم بالفهم فَصِّلوا ... مجمل القول و أجمعوا
ثم مُنُّوا به على ... طالبيه لا تمنعوا
هذه الرحمة التي ... وَسِعتكم فوسِّعوا
و من اللَّه أرجو أن أكون ممن أُيِّد فتأيد و قُيِّد بالشرع المحمدي المطهّر فتقيد و قيَّد، و حشرنا في زمرته كما جعلنا من أمته.
فأول ما ألقاه المالك على العبد من ذلك:
شرح الشيخ القاشاني :-
(الحمدلله) حمدا لله على ما أنعم به من معرفة الحكم المنزلة على قلوب أنبيائه التي بينها وفصلها في فصوص كتابه  
فلذلك وصفه بما دل على مقصده مراعاة لبراعة الاستهلال .
وهو قوله (منزل الحكم على قلوب الكلم) والحكم جمع الحكمة وهي العلم بحقائق الأشياء و اوصافها واحكامها على ما هي عليه الأقوال والأفعال الإرادية المقتضي لسدادها وصوابها .
فان من العلوم ما لا يتعلق بالأفعال كمعرفة الله تعالى والحقائق المجردة من الأسماء الالهية وعلوم المشاهدات والمعارف الذوقية من المعاني الكلية.
وهي علوم الأرواح ومنها ما يتعلق بها ولايقتضي اتقانها وسدادها كعلوم النفوس الجزئية المدركة بقواها .
ومنها الجامعة للكليات والجزئيات الفائضة أصولها من الأرواح المضبوطة جزئياتها وفروعها المحكمة بانطباق كلیاتهاعلى جزئياتها المبقية جزئیاتها بكاياتها .
وهي حكم القلوب المتوسطة بين الأرواح والنفوس .
والكلام مستعارة لذوات الأنبياء و الأرواح المجردة من عالم الجبروت المسمى باصطلاح الاشراقيين الانوار القاهرة اما لانهم وسائط بين الحق والخلق.
تصل يتوسطهم المعاني التي في ذاته تعالى ايهم كالكلمات المتوسطة بين المتكلم والسامع لافادة المعنى الذي في نفس المتكلم للسامع.
أو لتجردها عن المواد وتعينها بالابداع وتقديسها عن الزمان والمكان الموجودة بكلمة كن في عالم الامر اطلاقا .
لاسم السبب على المسيب والدليل على الاستعمال بالمعنى المذ كور قوله تعالى: "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته" .
وقوله عن الملائكة: "أن الله يبشرك بكلمة منه" .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: " أعوذ بكلمات الله التامات وأعوذ باسمك الأعظم وبكلماتك التامة".
وهنا مخصوصة بذوات الأنبياء بقرينة اضافة القلوب اليها .
وقد تطلق الكلمة على كل موجود يصدر ون الله تعالى لدلالتها على معاني في ذاتها ولهذا قید المجردات بالتامات.
( باحدية الطريق الامم) الطريق الامم الصراط المستقيم  لأن الأمم القرب وأقرب الطرق "الطريق" المستقيم .
ولا يكون إلا واحدا أي طريق التوحيد الذاتي المشار إليه في سورة هود بقوله تعالى: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقیم".
یعنی بإلقائها (من المقام الأقدم) الذي هو احدية الذات المنزهة عن تكثر الأسماء والصفات الى قلوبهم  بلا واسطة .
فان الأحدية سارية في الكل وسريانه بذاته صراطه المستقيم ولا اقدم من الذات .
فوصف الطريق بالأمم وصف بالمصدر .
كما يقال طريق قصد . قال تعالى:  "وعلى الله قصد السبيل".
وقوله بأحدية يتعلق بمنزل :
إما بمعنى الظرفية كقولك حججت بطريق الكوفة
وإما بمعنى اللام وتضمين الانزال معنى الأخبار والأمر .
كقولك أنزل القرآن بتحليل البيع وتحريم الربا .
أی آمرا ومخبرا بان الطريق الأقرب واحد ليس إلا التوحيد الذاتي.
كقوله تعالى : "قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) "آل عمران.
و قوله (وإن اختلاف الملل والنحل) اشارة الى اعتراض جوابه (لاختلاف الأمم ) كانه قبل أن كان طریق نزول الحكم الى قلوب الأنبياء والمراد من إنزال الحكم طريقا واحدا فلما اختلفت أديانهم.
فأجيب بأنه لاختلاف استعدادات الام اختلفت صور سلوك طريق التوحيد وكيفية سلوكها معان المقصد والمراد وحقيقة الطريق واحد.
كالخطوط الواصلة بين المركز ونقط المحيط فإنها طرق شتى باعتبار اختلافات محاذيات المركز لكل واحدة من النقاط المفروضة في المحيط .
مع ان الكل طريق من المحيط إلى المركز وكالمعالجات المختلفة التي يعالج بها طبيب واحد لأمراض مختلفة.
فان المراد واحد وهو الصحبة وكلها في كونها طريقا فی رد المرض إلى الصحة واحد فطريق نزول الحكم الى الأنبياء واحد والمراد منه هو الهداية الى الحق.
فطريق التوحید واحد لكن اختلاف استعداداتهم اقتضى اختلاف الملل والنحل. فإن  إصلاح كل أمة يكون بإزالة فساد يختص بها .
وهدايتهم إنما تكون من مراكزهم ومراتبهم المختلفة بحسب طباعهم ونفوسهم.
وقوله (وصلى الله على ممد الهمم من خزائن الجود والكرم)
الهمة قوة القصد في طلب كمال يليق بحال العبد فعلة من الهم بمعنى القصد. أي نوع منه كالجلسة من الجلوس .
ولكل طالب استعداد خاص بطلب بهويته لما يليق به.
وتلك الاستعدادات من مقتضيات أسماء الله تعالى.
وكل اسم يقتضي استعدادا خاصا فهو خزانة كمال يقتضيه ذلك الاستعداد في الحضرة الواحدية التي ظهرت فيها الأعيان.
وفصلت تلك الأسماء خزائن الجود والكرم ولما كان محمد الخاتم صلى الله عليه وسلم صاحب الاسم الأعظم الشامل لحقائق جميع الأسماء كان ممد الكل همة بما في خزانة الاسم الذي يرب الحق تعالى صاحب تلك الهمة به.
و قوله (بالقيل الأقوم) متعلق بالممد فهو القول الحق الذي هو أعدل الأقوال .
من قام اذا اعتدل واستوى يقال أقام العود إذا قومه وعدله.
و يسمى القيام من الركوع الاعتدال.
(محمد وعلى آله وسلم) وإنما كان قوله أقوم الأقوال وإن كان قول كل نبي حقا لأنه أكملهم وأمته خير الأمم ومصدر قوله التوحيد الذاتي من مقام "قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى" وهو المقام الأقدم المقوم لكل اسم فيفيض بقوله منهما في كلام من المعاني والحقائق على كل استعداد ما يطلب بهمته .
وأما سائر الانبياء فيفيض كل منهم بقوله ما في بعض الأسماء فعسى أن يكون في أمته من يطلب بهمته معنى لم يكن عند سائرهم فيقوم قوله بحاجة البعض دون البعض.
وأما نبينا صلى الله عليه فيقوم بمطلوب الكل فيكون قوله أقوم.
وقوله (أما بعد فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة أريتها في العشر الآخر من المحرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق.
وبيده صلى الله عليه وسلم  كتاب فقال لهذا كتاب فصوص الحكم خذه واخرج به الى الناس ينتفعون به . فقلت السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا)
المبشرة في الأصل صفة الرؤيا ومي من الصفات الغالبة التي تقوم مقام الموصوف فلا يذكر معه الموصوف كالبطحاء .
فلا يقال رؤیا مبشرة كما لا يقال أرض بطحاء
قوله ( كما أمرنا) إشارة إلى قوله تعالى" أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم".
وقوله (فحققت الأمنية )أي جعلت امنیتی حقا كانه كان يتمنى أن ياخذ من الرسول هذا العلم والأذن بإفشائه.
فإذا رأى هذه الرؤيا تحققت أمنيته اذ كان الكتاب الذي أعطاه في المنام صورة هذا العلم الذي فاض من روحه علیه السلام عليه.
وقوله (وأخلصت النية وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لی رسول الله من غير زيادة  ولانقصان وسألت الله أن يجعلني فيه) أي في هذا الكتاب (وفي جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان وأن يخصني في جميع ما یرقمه بنانی وینطق به لساني و ینطوی جناني بالإلقاء السبوحی والنفث الروحي) أي يخصني فيما أكتب وأقول ويقع في قلبي بالخاطر الحقاني السبوحي من الحضرة الأحدية بلا واسطة و بواسطة الروح وهو الملك .
كما قال صلى الله عليه وسلم نفث روح القدس في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ".
والخواطر أربعة :
الحقاني و الملكي وهما اللذان سألهما "رضي الله عنه" في دعائه.
والشيطاني وهوالذي اعتصم بالله منه في قوله وأن يجعلني فيه وفي جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان أي تسلط بوسوسة .
والنفساني هو الذي احترز منه بقوله (في الروع النفسي )
إذ الروع هو القلب الخائف ولا يكون الخوف الا في الجهة التي تلي النفس منه وهو المسماة  بالصدر فنسبه إلى النفس طلبا لأن يبلغ الإلقاء أو النفث ذلك الوجه الذي يليها فینور ويشغله بالمعنى الغيبي.
ويتأثر منه النفس فلا تؤثر فيه بالوسوسة اذ لا تكون في حالة التأثر مؤثرة
ولذلك قيد التخصيص الإلقاء (بالتأييد الاعتصامی) فإنه لولا تأييده تعالى وتوفيقه الاعتصام لاستولت النفس عليه فصارت مؤثرة فيه لا متأثرة.
وقوله (حتى أكون مترجما لا متحكما ليتحقق من يقف عليه من أهل الأصحاب القلوب انه من مقام التقديس) أي الحضرة الاحدية والروحية المقدسة.
(المنزه عن الاغراض النفسية التي يدخلها التلبيس) أي الأغراض الدنيوية التي يمكن أن تلبس بإظهار انه لوجه الله ويلحقها الرياء والنفاق.
(وأرجو أن يكون الحق لما سمع دعائي قد أجاب ندائي فما ألقي إلا ما يلقي إلى)  ثم لما كان قوله أن يخصني بالإلقاء السبوحي والنفث الروحي .
وقوله (ولا أنزل في هذا المسطور إلا ما نزل به على) ولما قد يتوهم متوهم أنه كان يدعي النبوة احترز عنها بقوله (ولست بنبي ولا رسول ولكنی وارث )
العلم من النبي صلى الله عليه وسلم ببركة صحة المتابعة.
لقوله عليه السلام "العلماء ورثة الأنبياء" .
وقوله  (ولآخرتی حارث) أي لا أريد بإظهار هذا العلم الحظ الدنيوي بل الأخروي.
شعر
فمن الله فاسمعوا ... و إلى الله فارجعوا
فإذا ما سمعتم ما ... أتيت به فعوا
ثم بالفهم فصلوا ... مجمل القول و أجمعوا
ثم منوا به على ... طالبيه لا تمنعوا
هذه الرحمة التي ... وسعتكم فوسعوا
والفاء في البيت الأول للسببية وتقديم الصالة للتخصيص.
أي إذا كان ما اقوله انا یكون بالإلقاء السبوحي فلا تسمعوه إلا من الله لا مني. 
واليه فارجعوا لا إلى قولي.
(ومن الله أرجو أن أكون من أيد فتأيد وأيد و قيد بالشرع المحمدي المطهر فتقيد  وقيد وأن يحشرنا في زمرته كما جعلنا من أمته) ظاهرا وباطنا
(فأول ما ألقاه المالك على العبد من ذلك ).
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الأول .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالأحد يوليو 21, 2019 5:16 pm

01 -  فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الأول .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية   الجزء الأول

لما استعار الفص لنوع الإنسان وحقيقته المعبر عنه بآدم ، كما قال في نقش الفصوص وأعنى بآدم وجود العالم الإنسانى ، على أن العالم كالخاتم والإنسان كفصه كان قلب كل إنسان عارف باللَّه كامل فصا هو محل حكمته المخصوصة به .
كما قال : منزل الحكم على قلوب الكلم ، فإن لكل نبى مرتبة من الكمال هي جملة علوم وحكم متحدة بأحدية الاسم الإلهي الذي هو ربه .
فلذلك نقل الفص من قلبه الذي هو محل حكمته إلى الفص المشتمل على تلك الحكمة وسماه به للمناسبة .
ثم لما كان الإله المطلق الذي هو معبود الكل بذاته وجميع صفاته لا يتجلى إلا في هذا النوع فخص الفص المشتمل على الحكمة الإلهية بالكلمة الآدمية
( لما شاء الحق سبحانه ) المشيئة : اقتضاء الذات لما يقتضيه العلم فهي لازمة لجميع الأسماء ، لأن كل اسم إلهى هو الذات مع صفته فمقتضى الذات لازم لكل اسم
ولهذا قال ( من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء ) أي لما شاء مشيئة ذاتية أزلية نافذة في جميع الأسماء بحسب تطلب الكل أي الذات مع جميع الأسماء
( أن يرى أعيانها ) بظهورها وظهورها اقتضاؤها لوجود العالم مع ما فيه حتى الإنسان ولهذا قال ( وإن شئت قلت أن يرى عينه ) لأن أعيانها عينه باعتبار كثرة التعينات والنسب
( في كون جامع يحصر الأمر كله وهو الإنسان الكامل والعالم معه .
قوله ( لكونه متصفا بالوجود ) علة لرؤيته تعالى عينه في الكون الجامع أي لكون ذلك الكون الجامع متصفا بالوجود وذلك لأن الوجود الإضافي عكس الوجود الحقيقي المطلق.
فإن الحقيقي المطلق الواجب المقوم لكل شيء الذي هو الحق تعالى إذا ظهر في الممكن تقيد به وتخصص بالمحل فكان ممكنا من حيث التخصيص والتقيد .
وكل مقيد اسم فهو اسمه النور من حيث الظهور وكان كعكس صورة الرائي في المرآة المجلوة التي يرى الناظر صورته فيها وفي بعض النسخ لكونه متصفا بالوجوه .
فهو علة للحصر أي يحصر الأمر الإلهي كله لكونه متصفا بالوجوه الأسمائية فإن كل اسم وجه يرى الحق نفسه فيه بوجه ويرى عينه من جميع الوجوه في الإنسان الكامل الحاصر للأسماء كلها واللام في الأمر للاستغراق أي يحصر الأمور كلها أو بدل من المضاف إليه بمعنى أمره وهو إيجاده
( ويظهر به سره إليه ) منصوب عطفا على يرى ، أي يرى عينه في كون جامع ويظهر بذلك الكون سره ، أي وجوده الخفي إليه أو مرفوع عطفا على يحصر ، أي في كون يحصر الأمر ويظهر سر الحق تعالى به إليه وإليه صلة ظهر بمعنى له يقال ظهر له وإليه بمعنى .
وقد وجدت في نسخة قرأها الشيخ العارف مؤيد الدين الشارح للكتاب هذا على الشيخ الكامل صدر الدين القنوى بخطه بالوجوه .
وفي نسخة : ويظهر بالنصب والرفع معا .
قوله ( فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤية نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة ) تعليل للمشيئة المذكورة يتضمن الجواب عن اعتراض مقدر .
وهو أن الله تعالى أزلى الذات والصفات ، وهو بصير في الأزل بذاته وغيره : كما قال أمير المؤمنين على رضى الله عنه :
بصير إذ لا منظور إليه من خلقه ، فلا يحتاج في رؤية عينه إلى مظهر كوجود العالم يرى عينه فيه ، فأجاب أن بين الرؤيتين فرقا بينا وليست الرؤية الأولى مثل الثانية وبين الفرق
بقوله ( فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل ولا تجليه له )
وهي تعليل لنفى المماثلة بين الرؤيتين والضمير للشأن والجملة خبره أو للحق أي أن الحق يظهر له عينه في صورة المرآة وهي المحل المنظور فيه من وجه لم يظهر له من غير وجود هذا المحل ولا تجليه لنفسه فيه ، فإن الظهور في المحل رؤية عينية منضمة إلى علمية وفي غير المحل رؤية علمية فقط .
كما أن تخيل الإنسان صورة حسنة جميلة في نفسه لا يوجب له من الاهتزاز والبهجة ما توجب مشاهدة لها ورؤيته إياها .
قوله ( وقد كان الحق أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه وكان كمرآة غير مجلوة ) جملة اعتراضية بين الشرط وجوابه والشرط مشيئته لرؤية أعيان الأسماء أو عينه في كون جامع ، والأسماء مقتضية لوجود العالم اقتضاء كل اسم جزءا منه ، فقد كان العالم موجدا باقتضائها له قبل وجود الإنسان الذي هو الكون الجامع .
لأن كل اسم يطلب بانفراده ظهور ما اشتمل عليه وهو الذات مع صفة ما : أي وجودا مخصوصا بصفة ، والاسم الآخر وجودا مخصوصا بصفة أخرى ، فلم يكن لشيء من الأسماء اقتضاء وجود اتحد به جميع الصفات إذ ليس لأحد من الأسماء أحدية الجمع بين الصفات ، فلم يكن للعالم مظهرية أحدية جميع الوجود ولذلك شبهه قبل وجود الإنسان فيه بأمرين شبح مسوى لا روح فيه أو مرآة غير مجلوة ، إذ لم يظهر فيه وجه الله بل وجوه أسمائه ، فوجود شبح نصب على المصدر أي أوجده وجودا مثل وجود شبح مسوى لا روح فيه
( ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا ولا بد أن يقبل روحا إليها عبر عنه بالنفخ فيه )
معناه موقوف على معرفة حكمه وهو أن حكم الله تعالى أمره أي إيجاد الأشياء بقوله كن والله عين الوجود المحض المطلق الذي هو أظهر الأشياء ونور الأنوار فهو يتجلى بذاته لذاته دائما فتسويته للمحل ظهوره في صورة اسم .
وذلك الاسم هو عينه مقيدا بصفة من الصفات القابلية فلا يظهر فيه إلا عينه ، وذلك الظهور قبوله للروح وعينه هو الموصوف بكل صفة إلا أنه لا يظهر في ذلك المحل إلا بصفة واحدة من الصفات الفاعلية ، وذلك هو الخلق باليدين فهو روح إلهى ومعنى النفخ فيه هو الظهور فيه بتلك الصفة
ولذلك قال ( وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال )
أي لقبول الفيض الذي هو التجلي الدائم فهو بمعنى اسم الإشارة كما في قول رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق   .... كأنه في الجلد توليع البهق
أي كان ذلك بمعنى وما ذلك وهو إشارة إلى ما ذكر من قوله ما سوى محلا إلا ولا بد أن يقبل روحا إلهيا ، أي اقتضاء تسوية المحل لقبول الروح الإلهي ، مثاله الشهب وهي الأبخرة المستعدة للاشتعال في حيز النار إذ ولا بد لها من الاشتعال ، ولما ذكر الاستعداد والفيض لزم وجود المستعد الذي هو القابل .
قوله ( وما بقي إلا قابل ) اعتراض منه على نفسه كأنه قيل إذا كان الاستعداد والفيض منه فما المستعد القابل
فقال ( والقابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس ) وقد فسر الفيض بالتجلى ، فكأنه قال له تجليان ذاتى وهو ظهوره في صورة الأعيان الثابتة القابلة في الحضرة العلمية الأسمائية وهي الحضرة الواحدية ، فذلك الظهور ينزل عن الحضرة الأحدية إلى الحضرة الواحدية وهو فيضه الأقدس أي تجلى الذات بدون الأسماء الذي لا كثرة فيه أصلا فهو الأقدس أي أقدس من التجلي الشهودى الأسمائى الذي هو بحسب استعداد المحل لأن الثاني موقوف على المظاهر الأسمائية التي هي القوابل بخلاف التجلي الذاتي لأنه لا يتوقف على شيء فيكون أقدس ، فمنه الابتداء بالتجلى الذاتي كما ذكر في المقدمة وإليه الانتهاء بالتجلى الشهودى ( فالأمر ) أي الشأن وهو الإيجاد والتصريف والتكميل
( كله منه ابتداؤه وانتهاؤه وإليه يرجع الأمر كله كما ابتدأ منه ) .
قوله ( فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم ) جواب لما ، ولما وسط بين لما وجوابه علة المشيئة وانجر الكلام إلى اقتضاء أسمائه تعالى وجود العالم المحتاج إلى الجلاء وجب إيراد فاء السببية في جوابه ، لأن تعليل المشيئة المخصوصة تسبب للجلاء وإن كان لما لم يقتض ذلك لأنها تقتضي مقارنة الشرط والجزاء فحسب فجمع بين السببية والمقارنة ( فكان آدم ) أي حقيقة الإنسان
كما ذكر ( عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة ) بمناسبة أحدية الجمع فإن الحضرة
الإلهية جامعة الأسماء كلها لا واسطة بينها وبين الذات فكذلك الحضرة الإنسانية جامعة لها ، إذ الوجود ينزل من أحدية جمع الذات إلى الحضرة الإلهية وفاض في مراتب الممكنات على الصورة الانتشارية .
حتى انتهى إلى الإنسان منصبغا بصبغ جميع المراتب فصار الإنسان برزخا جامعا لأحكام الوجوب والإمكان كما كانت الحضرة الإلهية جامعة للذات والأسماء كلها .
فظهر فيه ما في الحضرة الإلهية فكان العالم بوجوده مرآة مجلوة ولم تبق واسطة بين الحضرة الإنسانية والذات الأحدية ، وإذا كان جلاء مرآة العالم كان روح صورته
وكانت ( الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير ، فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية والحسية التي في النشأة الإنسانية )
فكانت القوى الروحانية والنفسانية ملائكة وجود الإنسان ، لأن قوى العالم اجتمعت فيه بأسرها فالإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير لوجود الإنسان فيه ، إلا أن أحدية جمع الوجود التي ناسب بها العالم الحضرة الإلهية لم توجد في جميع أجزائه إلا في الإنسان فكان الإنسان مختصرا من الحضرة الإلهية ولهذا قال « خلق آدم على صورته » .
قوله ( وكل قوة منها محجوبة بنفسها ) إذ لم يكن عندها إلهيته الاجتماعية فلا تدرك ما ليس فيها .
فهي ( لا ترى شيئا أفضل من ذاتها ) لمعرفتها بنفسها وما تحتها واحتجابها عما فوقها .
قوله ( وإن فيها فيما تزعم الأهلية لكل منصب عال ومنزلة رفيعة عند الله ) بكسر إن وإن في هذه النشأة على حسب زعمها أي زعم النشأة الأهلية .
لما ذكر بالحقيقة أو بفتحها عطفا على أفضل أي لا ترى أن في هذه النشأة على زعمها الأهلية وفي بعض النسخ وإن فيها ما يزعم الأهلية أي شيئا يزعم الأهلية وهو قلبه لا غير أي نفسه الناطقة وحقيقته لأن القوى محجوبة عنها ولفظة ما على الأول مصدرية وعلى الثاني موصوفة .
قوله ( لما عندها ) تعليل لدعوى الأهلية المذكورة .
أي لما عندها ( من الجمعية الأهلية بين ما يرجع من ذلك إلى الجناب الإلهي وإلى جانب حقيقة الحقائق وفي هذه النشأة الحاملة لهذه الأوصاف إلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية التي حصرت قوابل العالم أعلاه وأسفله )
أي من بين ثلاثة أشياء :
أحدها : الجناب الإلهي وهو الحضرة الواحدية .
والثاني : حقيقة الحقائق أي الأحدية وهي الذات التي بتجليها يتحقق الحقائق كلها وهي حقيقة الوجود من حيث هو هو ، فهي بحقيقتها تحقق حقائق العالم العلوي والسفلى ولهذا وسطها بين العالم الروحاني وبين العالم الجسماني .
والثالث : الطبيعة الحاصرة للقوابل كلها ، فهذه الجمعية هي أحدية حقيقة الحقائق في معانى الأسماء وعوالم الروحانيات .
وفي صور الأسماء وعوالم الجسمانيات فلا يخرج من أحدية الجمعية الإنسانية شيء وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره وإلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية التي حصرت قوابل العالم كله أعلاه وأسفله في هذه النشأة الحاملة لهذه الأوصاف .
والكل بدل من الطبيعة أو عطف بيان لها ، والمراد الطبيعة الكلية الجسمانية الحاصرة لطبائع أنواع الأجسام الفلكية والعنصرية.
( وهذا لا يعرفه عقل بطريق نظر فكرى )
فإن العقل من الجناب الإلهي التي هي الحضرة الواحدية فلا يدرك إلا الحقائق المتعينة الكلية مع لوازمها في عالمها الروحاني .
وأما الجزئيات الجسمانية التي هي ما تقتضيه الطبيعة الكلية التي حصرت قوابل العالم فلا يعرفها وكذلك لا يعرف الحقيقة التي تحقق الحقائق الكلية والجزئية أي الذات التي تحقق بفيضها الأقدس أي تجلى الذاتي حقائق الروحانيات والجسمانيات وبتجليها الشهودى واسمها النور يظهر الكل .
فإنها لا يعرفها إلا عينها ، قوله وفي هذه النشأة الحاملة لهذه الأوصاف من القوى الروحانية ولوازمها من الحياة والقدرة والعلم والإرادة وأمثالها .
يشعر بأن الأوصاف المحمولة من النشأة المعنوية الروحانية المعبر عن عالمها بالجناب الإلهي .
قوله ( بل هذا الفن من الإدراك لا يكون إلا عن كشف إلهى منه يعرف ما أصل صور العالم القابلة لأرواحه )
إشارة إلى أن صورة العالم أيضا حقائق وأعيان وأصل الحقائق هو الذات الأحدية فحقيقة الحقائق كما تحقق الحقائق الروحانية في العالم الذي سماه الجناب الإلهي لتحقق أسماء الألوهية فيه فهي تحقق الحقائق الجسمانية في العالم السفلى بتجل واحد ذاتى .
فأصل الجميع أي الجناب الإلهي وما تقتضيه الطبيعة الكلية الحاصرة للقوابل واحد ، وهو الذات الأحدية السارية في الكل ولهذا قال عليه الصلاة والسلام « لو دلى أحدكم دلوه لهبط على الله وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله » .
وكيف يدرك العقل هذا المعنى فإنه لا يدركه إلا هو نفسه ، ولا يكشف إلا على من يأخذه من نفسه بنفسه.
( فسمى هذا المذكور إنسانا وخليفة ، فأما إنسانيته فلعموم نشأته وحصره الحقائق كلها ) أي لأن نشأته تحوى الحقائق كلها ، وجميع مراتب الوجود العلوية والسفلية بأحدية الجمع التي ناسب لها حقيقة الحقائق.
وهي الجمعية المذكورة إذ لا شيء في النشأتين إلا وهو موجود فيه أي لا مرتبة في الوجود إلا وشيء منها فيه فناسب وجود الكل مؤانسا به ، فسمى إنسانا لأنه عالم صغير ، والعالم يسمى إنسانا كبيرا ، أو باعتبار آخر ( وهو ) أنه ( للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي به يكون النظر وهو المعبر عنه بالبصر )
لأن الله تعالى نظر به إلى الخلق فرحمهم ( فلهذا سمى إنسانا ) أيضا .
والمعنى أنه المقصود من خلق العالم لأنه الحامل للسر الإلهي وأمانته أي معرفته والمقصود من الكل معرفته ،.
كما قال « فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق »
فلو لا محبة المعرفة لم يخلق الخلق فلا يعرفه من العالم إلا الإنسان فلو لا الإنسان العارف باللَّه لم يخلق العالم فالعالم تابع لوجوده
( فإنه به نظر الحق إلى خلقه فرحمهم ) أي فهو الذي نظر به إلى الخلق الموقوف هو عليهم فرحمهم بالإيجاد
( فهو الإنسان الحادث ) بجسده ( الأزلى ) بروحه ( والنشء الدائم الأبدى ) بحقيقته الجامعة بجسمانيته وروحانيته لأنه إذا انتقل من هذا العالم إلى الآخرة يعمر الآخرة في النشأة الثانية
( والكلمة الفاصلة ) أي المميزة للحقائق ( الجامعة ) لعموم نشأته كما ذكر ( فتم العالم بوجوده ) لمظهريته أسماءه كلها .
قوله ( فهو من العالم كفصّ الخاتم من الخاتم وهو محل النقش والعلامة التي بها يختم الملك على خزائنه ) معلوم من المقدمة الثالثة
( وسماه خليفة لأجل هذا ) أي لأن نقش اسمه الأعظم وهو الذات مع الأسماء كلها منقوش في قلبه ، الذي هو فص الخاتم فيحفظ به خزانة العالم بجميع ما فيه على النظام المعلوم والفسق المضبوط
( لأنه الحافظ خلقه كما يحفظ بالختم الخزائن ) أي لأن الإنسان الكامل هو الحافظ خلق الله بالحكمة الأحدية والواحدية الأسمائية البالغة التي هي نقش قلبه وهي العدالة أعنى صورة الواحدة في عالم الكثرة الذي هو خزانة القوابل والآلاء كلها كما يحفظ الختم الخزائن
( فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها إلا بإذنه ) لأن الختم صورة الجمعية الإلهية والعلامة التي هي نقش الفص هو الاسم الأعظم فلا يجسر أحد من خصوصيات طبائع العالم التي هي الأسماء الفاصلة على فتحها إلا بإذن خاص من الله على مقتضى حكمته
( فاستخلفه في حفظ العالم ) لأنه مظهر الأحق الأعظم والله باطنه فيحفظ بإذنه وما جعل في يده من المفاتيح الأسمائية صورة العالم
( فلا يزال العالم محفوظا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل ) لأن الخليفة ظاهر بصورة مستخلفه في حفظ خزائنه والله يحفظ صور خلقه في العالم بصورته فإنها طلسم الحفظ من حيث مظهريته لأسمائه وواسطة تدبيره بظهور تأثيرات أسمائه فيها.
( ألا تراه إذا زال وفك من خزانة الدنيا لم يبق فيها ما اختزنه الحق فيها وخرج ما كان فيها والتحق بعضه ببعض وانتقل الأمر إلى الآخرة فكان ختما على خزانة الآخرة ختما ابديا سرمديا ) أي زال لأن النشأة العنصرية الدنيوية لا تحتمل دوام الحفظ .
فلم يبق فيها ما اختزنه من العلوم والمعارف الكلية والجزئية والأخلاق الإلهية .
وفارقتها نشأته الروحانية أي فطرته الأولى بخراب دنياه أي نشأته الصورية والتحق الجزء الروحاني بالروحانيات في الحضرات أي البرازخ العلوية وما فوقها والجسماني كل جزء بكله من الجسمانيات .
وانتقل العمارة إلى الآخرة أي العوالم الروحانية أو النشأة الثانية في القيامة .
قوله ( فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية ، فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود وبه قامت الحجة لله تعالى على الملائكة فتحفظ ، فقد وعظك الله بغيرك وانظر من أين أتى على من أتى عليه ) أي حج من حج وبكت من بكت ظاهر وأصل أتى عليه أي أهلكه ، ويستعمل في كل مكروه .
قوله ( فإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة ولا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية ، فإنه ما يعرف احد من الحق إلا ما تعطيه ذاته ، وليس للملائكة جمعية آدم ولا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها وسبحت الحق بها وقدسته ، وما علمت أن لله اسماء ما وصل علمها إليها فما سبحت الحق بها ولا قدسته فغلب عليها
ما ذكرنا وحكم عليها هذا الحال فقالت من حيث النشأة " أَتَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها ".
- وليس إلا النزاع وهو عين ما وقع منهم .
فما قالوه في حق آدم هو عين ما هم فيه مع الحق ، فلو لا أن نشأتهم تعطى ذلك ما قالوا في حق آدم ما قالوه وهم لا يشعرون .
فلو عرفوا نفوسهم لعلموا ولو علموا لعصموا ثم لم يقفوا مع التجريح حتى زادوا في الدعوى بما هم عليه من التقديس والتسبيح وعند آدم من الأسماء الإلهية ما لم تكن الملائكة عليها فما سبحت ربها بها ولا قدسته عنها تقديس آدم وتسبيحه )
أي لم تطلع على ما تقتضيه نشأة آدم من الجمعية الإلهية وظهوره بصورة الحق وهويته لكونه مطلوبا بجميع الأسماء ولا على ما تقتضيه الحضرة الإلهية من أن يعبد بعبادة ذاتية أي يطلب عابدا يعبد ذاته بجميع أسمائه فهو من حيث أنه مطلوب جميع الأسماء أعز الموجودات ومن حيث أنه عابد ربه بجميع الأسماء أذل الأشياء إذ لا يعبد الله العبادة الذاتية التامة بجميع الأسماء إلا الإنسان الكامل .
ولهذا عبدوا الحجارة والجمادات فإنه لا يعبد أحد معبودا إلا إذا عرفه ولا يعرف إلا ما تقتضيه ذاته بأن يكون فيه فيدركه بالذوق ، وليس للملائكة جمعية آدم فلم تطلع على الأسماء التي تخص جمعية آدم .
وسبحت الحق وقدسته جمعية آدم بها ولم تعرف أن لله أسماء لم يصل علمها إليها فما سبحت بها ولا قدسته فغلب عليها مقتضى نشأتها .
فقوله : ولا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها وسبحت الحق بها وقدسته ، معناه بالقياس إلى قوله لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذه الخليفة على ما ذكرته من رجوع الضمير في تخصها وسبحته وقدسته إلى جمعية آدم ظاهر . ووجه آخر وهو أن يكون الوقوف بمعنى الثبات لا بمعنى الاطلاع ، والضمائر الثلاثة ترجع إلى الملائكة .
أي لم يثبت الملائكة مع الأسماء التي تخصها ولم تقف بحكمها حتى شرعت في تجريح آدم وقدحت فيه ، إذ ما عرفت ما في آدم من الأسماء التي لم تعرفها ، فحكم عليها حالها التي هي النقص حتى نسبوا النقص الذي هو مقتضى نشأتها إلى آدم ، فقالت :" أَتَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ".
- لأنها أدركت بنقصها نقص آدم وما تحت حيطتها ومرتبتها من خواص القوة الشهوانية والغضبية واحتجبت عما فوق نشأتها من الأسماء التي ليست لها فأظهرت النزاع الذي هو حالها ومقتضى نشأتها لأن إدراك النقص والاحتجاب عن الكمال عين الإنكار والنزاع.
فكان ما قالوا في حق آدم عين ما هم فيه مع الله
( فوصف الحق لنا ما جرى لنقف عنده ونتعلم الأدب مع الله تعالى ، فلا ندعى ما نحن متحققون به وحاوون عليه بالتقييد ) أي ما أن كل واحد منا محقق به وحاو عليه والمحقق لا يلتفت لفت العبارة فلا حرج في أن تختلف الضمائر بالجمع والتوحيد ، والمراد أن الحق تعالى قص لنا القصة لنتعلم الأدب معه ، فلا نعترض ولا ندعى فيما تحقق عندنا ولا نشك فيه أنه علمنا أو حالنا على التعيين والتقييد لأنه علم الله
( فكيف أن نطلق في الدعوى فنعم بها ما ليس لي بحال ولا أنا منه على علم ) أي فكيف ندعى ما ليس بعلمنا وحالنا ، أو لا ندعى أنه هو الحق على التعيين والتقييد وليس وراءه علم
( فنفتضح ، فهذا التعريف الإلهي مما أدب الحق به عباده الأدباء الأمناء الخلفاء ) أي تعريف حال الملائكة في ادعاء مطلق التسبيح والتقديس فإنه تأديب لعباده من الأناسى
( ثم نرجع إلى الحكمة ) أي الحكمة الإلهية المذكورة ، فإن قصة الملائكة اعتراض وقع في أثنائها على سبيل الاستطراد .
ليعلم أن ما قالوا إنما قالوه لنقصان نشأتهم بالنسبة إلى نشأة آدم ولم يعلموا أن تجرحهم أيضا كمال له ، فإن العبادة الذاتية إنما تتحقق بتجلى جميع الأسماء فيه .
وتجلى اسم التواب والعفو والغفور والعدل والمنتقم لا يمكن إلا إذا اقتضت المشيئة الإلهية جريان الذنب على العبد.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه « أنين المذنبين أحب إلىّ من زجل المسبحين » واعتبر بخطيئة آدم وداود عليهما السلام فإن بعض كمالات العبد وقبول تجلى بعض الأسماء الإلهية موقوف على انكساره بالذنب والاعتذار والتوبة .
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام « لو لم تذنبوا لخشيت عليكم أشد من الذنب العجب العجب العجب ».
ألا ترى أن عصمتهم حملتهم على قولهم :" ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ ".
- ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام « لو لا أنكم تذنبون لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم » .
فضم بنى آدم المعصية إلى الطاعة عبادة توجب تجلى الحق بأسماء كثيرة ، وذلك مما لم تقف الملائكة عليه أيضا لقصور نشأتهم .
وإذا رجع إلى الحكمة ومهد قاعدة يبتنى عليها ارتباط الحق بالخلق وتتبين منها الحكمة في إيجاد العالم وهو ظهور معنى الإلهية
فقال ( فنقول : اعلم أن الأمور الكلية وإن لم يكن لها وجود في عينها فهي معقولة معلومة بلا شك في الذهن فهي باطنة لا تزال عن الوجود الغيبى ) يعنى أن الأمور الكلية أي المطلقة كالحياة والعلم مثلا لها وجود عينى في العقل ووجود غيبى في الخارج .
فإن الوجود الخارجي عين المطلق العقلي مقيدا بقيد الجزئية لكن الكلية المطلقة لا تزال معقولة مندرجة تحت اسم الباطن ، ولا توجد من حيث كليته  في الخارج بل من حيث هي مقيدة وهي من تلك الحيثية تندرج تحت اسم الظاهر .
وفي بعض النسخ لا تزول فمعناه ومعنى لا تزال بضم التاء مبنيا للمفعول من أزال واحد ، والغيبى بالغين المعجمة والباء بمعنى المعقول .
وعند بعض الشارحين عن الوجود العيني بالعين المهملة والنون ، أي لا تزال من حيث هي طبائع مطلقة لا مقيدة بقيد الكلية عن الوجود العيني .
فإن الكل الطبيعي موجود في الخارج .
وقرئ لا تزال بفتح التاء على أنه من الأفعال الناقصة ، فهي باطنة عن الوجود العيني الشخصي لا تزال كذلك بحذف الخبر لدلالة باطنه عليه أو باطنة بالنصب على تقديم الخبر .
أي فهي لا تزال باطنة عن الوجود العيني ، والأول أظهر وأوفق لما بعده من قوله ولم تزل عن كونها معقولة في نفسها
( ولها الحكم والأثر في كل ما له وجود عينى ) أي للأمور الكلية الحكم والأثر في كل ما له وجود عينى ، كتأثير العلم والحياة في الموصوف بهما فيحكم عليه بأنه حى عالم ولا يحكم عليه إلا إذا كان فيه عين الحياة والعلم
وهذا معنى قوله ( بل هو عينها لا غيرها ) يعنى أن الأمر الكلى كالعلم والحياة عين الوصفين الموجودين في ذلك الموصوف لا غيرهما .
والمراد بقوله ( أعنى أعيان الموجودات العينية ) أعيان الأوصاف لا أعيان الموصوفات ، فإن الموصوفات أيضا معنى كلى وهو الإنسان المطلق فإنه عين هذا الإنسان مع قيد الجزئية ، فهذه نسبة الحياة والعلم المطلقين إلى الوصفين المقيدين
( ولم تزل عن كونها معقولة في نفسها ، فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات ، كما هي الباطنة من حيث معقوليتها ) أي الكليات .
وإن ظهرت في الصورة الجزئية فهي باقية على معقوليتها من حيث كليتها لم تزل عن كونها باطنة مع كونها ظاهرة
( فاستناد كل موجود عينى لهذه الأمور الكلية التي لا يمكن دفعها عن العقل ولا يمكن وجودها في العين ، وجودا تزول به عن أن تكون معقولة ) أي استناد كل عين موجود شخصى يكون إلى هذه الموجودات الكلية أبدا مع بقائها في عالم العقل على كليتها لا تزول عن ذلك الوجود الغيبى أبدا أي العيني موجود به .
فقوله فاستناد مبتدأ خبره لهذه الأمور واللام بمعنى إلى .
قوله ( وسواء كان ذلك الموجود العيني موقتا أو غير موقت ) أي زمانيا أو غير زمانى وكل منهما إما جسمانى أو غير جسمانى فالجسمانى الموقت كأجسادنا وغير الموقت كالفلك الأعظم .
فإن الزمان مقدار حركته فلا يكون جسمه زمانيا .
والروحاني الموقت كنفوس الحيوانات وغير الموقت كالأرواح العلوية المجردة
( نسبة الموقت وغير الموقت إلى هذا الأمر الكلى المعقول نسبة واحدة ) أي كلها في استنادها إلى الأمر الكلى المعقول سواء
( غير أن هذا الأمر الكلى يرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسب ما تطلبه حقائق تلك الموجودات العينية ، كنسبة العلم إلى العالم والحياة إلى الحي ، فالحياة حقيقة معقولة والعلم حقيقة معقولة متميزة عن الحياة ، كما أن الحياة متميزة عنه . ثم نقول في الحق إن له علما وحياة فهو الحي العالم ، ونقول في الملك إن له حياة وعلما فهو الحي العالم ، ونقول في الإنسان إن له حياة وعلما فهو الحي العالم ، وحقيقة العلم واحدة وحقيقة الحياة واحدة ونسبتهما إلى العالم والحي نسبة واحدة ، ونقول في علم الحق إنه قديم وفي علم الإنسان إنه محدث ، فانظر ما أحدثته الإضافة من الحكم في هذه الحقيقة المعقولة ، وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات والموجودات العينية ، فكما حكم العلم على من قام به أن يقال فيه إنه عالم حكم الموصوف به على العلم بأنه حادث في حق الحادث قديم في حق القديم ، فصار كل واحد محكوما به محكوما عليه ، ومعلوم أن هذه الأمور الكلية وإن كانت معقولة فإنها معدومة العين موجودة الحكم كما هي محكوم عليها إذا نسب إلى الموجود العيني ، فتقبل الحكم في الأعيان الموجودة ولا تقبل التفصيل ولا التجزي فإن ذلك محال عليها ، فإنها بذاتها في كل موصوف بها كالإنسانية في كل شخص شخص من هذا النوع الخاص لم تتفصل ولم تتعدد بتعدد الأشخاص ولا برحت معقولة ) أي لكون الموجود العيني يحكم على الكلى الغيبى بمقتضى حقيقته . والكلى أيضا يحكم على الجزئى بحقيقته.
كما أن العلم والحياة بالنسبة إلى الله تعالى محكوم عليهما بالقدم الذي هو مقتضى حقيقته تعالى.
وبالنسبة إلى الإنسان والملك محكوم عليهما بالحدوث بمقتضى حقيقة الإنسان والملك.
وكذلك العلم والحياة يحكمان على كل موصوف بهما بأنه حى عالم ولكل واحد من العيني والغيبى حكم على صاحبه بمقتضاه مع أن حقيقة العلم حقيقة واحدة لم تنقسم ولم تختلف باختلاف العارف لها بسبب الإضافة.
وكذلك الحياة ونسبتها إلى الموصوفين بها فإنها نسبة واحدة لم تختلف .
وانظر إلى هذا الارتباط بين الموجودات العينية وبين الموجودات العينية ، مع أن المعقولات الغيبية كليات معدومة العين في الخارج من حيث كليتها ، فإن كل موجود عينى مشخص جزئى وألفاظ الكتاب ظاهرة .
قوله ( وإذا كان الارتباط بين من له وجود عينى وبين من ليس له وجود عينى قد ثبت وهي نسب عدمية ، فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب أن يعقل لأنه على كل حال بينها جامع وهو الوجود العيني وهناك ، فما ثمة جامع وقد وجد الارتباط بعدم الجامع فبالجامع أقوى وأحق )
رجع إلى المقصود من تمهيد القاعدة ، وهو أن الارتباط بين الموجودات الغيبى الذي لا وجود له إلا في العقل وبين الموجودات العيني ثابت كما ذكر وهي نسبة عدمية عقلية فبالحرى أن يكون بين الموجودات العينية ثابتا ، وكيف لا وبينهما جامع وهو الوجود العيني وما ثم جامع ، إذ لا يكون بين الموجود العيني وبين المعدوم في العين جامع .
قوله ( ولا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه وافتقاره إلى محدث أحدثه لإمكانه لنفسه فوجوده من غيره فهو مرتبط به ارتباط افتقار ولا بد أن يكون المستند إليه واجب الوجود لذاته غنيا في وجوده بنفسه غير مفتقر ، وهو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث فانتسب إليه ) ظاهر ، وهو بيان الارتباط بين الواجب والممكن وهو الافتقار .
قوله ( ولما اقتضاه لذاته كان واجبا به ، ولما كان استناده إلى من ظهر عنه لذاته اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شيء من اسم وصفة ما عدا الوجوب الذاتي فإن ذلك لا يصح في الحادث وإن كان واجب الوجود ولكن وجوبه بغيره لا بنفسه ) معناه ولما اقتضى الواجب لذاته الممكن لذاته كان الممكن لذاته واجبا به معدوما في حد نفسه مستندا إليه في وجوده وعينه لأنه الذي أعطى عينه من ذاته ثم وجوده من اسمه النور .
فاستناده إلى الواجب الذي ظهر عنه لذاته اقتضى أن يكون على صورته في كل ما ينسب إلى ذلك الممكن من اسم وصفة وأي شيء كان لأن أصله العدم .
فاستند إلى الواجب في عينه وكل ما يتبع عينه من صفاته ووجوده وذلك صمديته تعالى أو في كل ما ينسب إلى الواجب والمراد بالممكن كل ما للواجب الصمد إلا الوجوب الذاتي وإنما قيد الوجوب بالذاتي لأنه ما لم  يجب لم يوجد لكنه واجب به لا بنفسه
( ثم ليعلم أنه لما كان الأمر على ما قلناه من ظهوره بصورته أحالنا تعالى في العلم به على النظر في الحادث وذكر أنه أرانا آياته فيه فاستدللنا بنا عليه ، فما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف إلا الوجوب الذاتي الخاص ، فلما علمناه بنا ومنا نسبنا إليه كل ما نسبناه إلينا ، وبذلك وردت الإخبارات الإلهية على ألسنة التراجم إلينا فوصف نفسه لنا بنا فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا وإذا شهدنا شهد نفسه ، ولا شك أنا كثيرون بالشخص والنوع وإنا وإن كنا على حقيقة واحدة تجمعنا فنعلم قطعا أن ثم فارقا به تميزت الأشخاص بعضها عن بعض ، ولو لا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد فكذلك أيضا ، وإن وصفنا بما وصف نفسه من جميع الوجوه فلا بد من فارق وليس إلا افتقارنا في الوجود وتوقف وجودنا عليه لإمكاننا وغناه عن مثل ما افتقرنا إليه ) معناه لما ظهر الحادث بصورته أحالنا في معرفته على النظر في الحادث
فقال :" سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّه الْحَقُّ ".
- فبسبب ما أحالنا استدللنا بنا عليه أي طلبنا الدليل بأنفسنا عليه ، فما وصفناه بوصف إلا وجدنا ذلك الوصف فينا إذ لو لم يكن فينا ولم نتصف به لم يمكنا أن نصفه به .
وهو معنى قوله إلا كنا نحن ذلك الوصف أي لو لم نكن نحن ذلك الوصف لم نصف به إلا الوجوب الذاتي .
فلما علمناه ومنا نسبناه إليه كل ما نسبناه إلينا كالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والكلام وغير ذلك ، والتراجم هم الأنبياء عليهم السلام .
فإنهم أخبروا بهذا المعنى في قوله تعالى :"وما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله ".
" وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى ".
" من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله ".
" إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ الله ".
- وفي الحديث « من عرف نفسه فقد عرف ربه » وأمثالها .
وهذا معنى قوله فوصف نفسه بنا فإذا شهدناه بوصف شهدنا نفوسنا بذلك الوصف ، إذ لو لم يكن ذلك الوصف فينا ما شهدناه به .
وإذا شهدنا بوصف شهد نفسه بذلك الوصف ، فإن ذلك الوصف وصفه تجلى به لنا بحسب استعدادنا وإلا من أين حصل لنا ذلك ونحن عدم محض ، ومن ثمة يعلم أن وجودنا وجوده تعين بصورتنا وانتسب إلينا فتقيد وتذكر صمديته لكل شيء حتى تراه في كل شيء.
" أَولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ".
- ولما بين هذا الاتحاد أراد أن يبين الفرق بين الحق والخلق .
فمثل بتعدد أشخاص النوع وأنواع الجنس .
فقال: (ولا شك أنا أي المحدثات كثيرون بالشخص كأشخاص الإنسان مع اتحادهم في حقيقة الإنسان من حيث هو إنسان ، فإنه حقيقة واحدة ، وبالنوع كالإنسان والفرس المتحدين في حقيقة الحيوان ، التي هي حقيقة واحدة وبالجملة أشخاص الموجودات المحدثة والموجودات المتعينة فإنها متميزة متعينة متشخصة ومتنوعة مع اتحادها في حقيقة الوجود ، ولو لا ذلك لما كان الكثرة في الواحد ، فكذلك ، وإن وصفنا الحق بما وصف به نفسه من جميع الوجوه فلا بد من فارق وليس إلا افتقارنا إليه وغناه عنا ، فإن الوجود المشخص مطلق الوجود مع قيد ، فذلك القيد الذي هو به غير المقيد الآخر ، وهو افتقار المقيد إلى المطلق وغنى المطلق عن المقيد ( فبهذا صح له الأزل والقدم الذي انتفت عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم فلا تنسب إليه مع كونه الأول ) أي فبالغنى الذاتي الصمدى القيومى لكل ممكن وكونه سند مقوم لكل مقيد صح له الأزل والقدم ، وانتفت عنه الأولية بمعنى افتتاح الوجود عن العدم ، فإنه محال في حقه مع كونه الأول
( ولهذا قيل فيه الآخر ) أي ولأن أوليته بالغنى الذاتي وعدم الاحتياج في وجوده إلى الغير قيل فيه الآخر ، لا بمعنى أنه آخر كل ممكن إذ الممكنات غير متناهية فلا آخر لها.
( فلو كانت أوليته أولية وجود التقييد لم يصح أن يكون الآخر للمقيد لأنه لا آخر للممكن لأن الممكنات غير متناهية فلا آخر لها ، وإنما كان آخرا لرجوع الأمر كله إليه بعد نسبة ذلك إلينا فهو الآخر في عين أوليته والأول في عين آخريته ) أي فلو كانت أوليته بأن يكون وجودا مقيدا واحدا من الموجودات المقيدة فابتدأ منه المقيدات لزم أن يكون آخريته بأن يكون آخرا للمقيدات لكنه لا آخر لها ولو كان لها آخرية ينتهى به الوجود لم يصح أن يكون الآخر عين الأول فآخريته برجوع الأمر كله إليه بعد نسبته إلينا كما ذكر في دائرة الوجود .
فكذلك أوليته بابتداء الكل منه بنسبته إلينا فالنسب والإضافات ممكنة والحقيقة من حيث هي هي واجبة وذلك معنى قولهم التوحيد إسقاط الإضافات ولا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه.
( ثم ليعلم أن الحق ) أي بعد العلم بما ذكر .
ليعلم أنه تعالى لما أرانا آيات أسمائه وصفاته في العالم جعل فينا ما نعرف به ذلك فشركنا مع العالم في صفاته لنعرف بما فينا ما فيه وما أمكن العالم قبول جميع أسماء الحق وصفاته ، لأن الفارق بينه وبين الحق الوجوب الذاتي والإمكان وما يلزمهما من الغنى والفقر لازم فيقبل بعضها وهو الذي لا يختص بالوجوب كالوجود والظهور والبطون .
وأما البعض الآخر فلا يقبل إلا آثارها التي يليق بفقره ونقصه ،وجمع فينا بأحدية الجمع الأمرين.
فلذلك قسمها قسمين وجعل القسم الأول مشتركا بين الكل أي بين الحق تعالى وبيننا وبين العالم فقال ( وصف نفسه بأنه ظاهر وباطن فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا )
لكنه فرق بين وصف العالم ووصف الحق بهما بأن جعل العالم عالمين عالم غيب وعالم شهادة إذ ليس في العالم إلا أحدية الجمع ولم يفرق بين وصف الحق ووصفنا فأضاف الغيب والشهادة إلينا بحكم أحدية جمعنا المخصوص فنحن على معناه وصورته دون العالم ، وأما القسم الآخر فسوانا فيه مع العالم وجعل في مقابلة كل صفة فعلية محضة لله تعالى صفة انفعالية مشتركة بيننا وبين العالم
فقال ( ووصف نفسه بالرضا والغضب وأوجد العالم ذا خوف ورجاء ) فإن الخوف انفعال وتأثر من تأثير الغضب نعرف به غضبه ، وكذا الرجاء في مقابلة الرضا
ولهذا قال ( فنخاف غضبه ونرجو رضاه )
وقال ( ووصف نفسه بأنه جميل ذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس ) فإن الهيبة انفعال من صفة الجلال ونعرف به عظمته وجلاله .
وكذا الأنس في مقابلة الجمال فجعلنا على صفته بوجه وعلى صفة العالم بوجه كما سيجيء
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالأحد يوليو 21, 2019 5:23 pm

01 -  فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية  الجزء الثاني

( وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به فعبر عن هاتين الصفتين ) أي المتقابلتين اللتين له تعالى كالظهور والبطون والرضا والغضب والجمال والجلال.
( باليدين اللتين توجهتا منه على خلق الإنسان الكامل ) .
قوله ( لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته ) فيه إشعار بأنه مع مساواته العالم في حقائقه ومفرداته يختص بالجامعية الأحدية دونه .
وبهذه الجمعية التي اتحدت بها مفردات العالم كاتحاد العناصر بالتركيب واتحاد كيفياتها بالمزاج واتحاد صورته بقوى العالم المسماة بالتسوية ليستعد لقبول روحه المنفوخ فيه .
فاستحق به الخلافة لأن الخليفة يجب أن يناسب المستخلف ليعرفه بصفاته وأسمائه وينفذ حكمه في المستخلف فيه .
ويناسب المستخلف فيه ليعرفه بصفاته وأسمائه فيجري كل حكم على ما يستحقه من مفرداته.
فيناسب بروحه وأحدية جمعية الحق وشارك بصورته وأجزاء وجوده ومفرداته العالم فهو عبد الله رب العالم وصورته التي هي من العالم شهادة وروحه غيب وربوبيته من جهة غيبه ولهذا
قال ( فالعالم شهادة والخليفة غيب ) لأنه من حيث الصورة داخل في العالم ، ومن حيث معناه خليفة الله ورب وسلطان للعالم
( ولهذا المعنى يحجب السلطان كما ذكر ووصف الحق نفسه بالحجب الظلمانية وهي الأجسام الطبيعية والنورية وهي الأرواح اللطيفة ، فالعالم بين كثيف ولطيف وهو عين الحجاب على نفسه ) فالظلمانية أجساد العالم والنورانية أرواحه .
وليس العالم إلا هذه الأجسام الكثيفة والأرواح اللطيفة فهو حجاب على نفسه.

( فلا يدرك الحق إدراكه نفسه ) لأن الشيء لا يدرك إلا ما فيه وليس في العالم إلا الحجب ، فلا يدرك إلا الحجاب دون المحجوب.
( فلا يزال في حجاب لا يرفع ) من هذا الوجه ( مع علمه ) أي مع أنه محجوب بحجاب آخر وهو علمه .
( بأنه متميز عن موجده بافتقاره ولكن لا حظ له في الوجوب الذاتي الذي لوجود الحق فلا يدركه أبدا ) أي ولكن لا يعلم من علمه بافتقاره الوجوب الذاتي الذي للحق إذ لا حظ له منه بوجه ، وما ليس فيه شيء منه لم يدركه إدراك ذوق وشهود.

( فلا يزال الحق من هذه الحيثية ) أي من هذا الوجه ( غير معلوم ) أبدا ( علم ذوق وشهود لأنه لا قدم ) ولا سابقة ( للحادث في ذلك ) أي في الوجوب الذاتي البتة .
قوله ( فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشريفا ، ولهذا قال لإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ ) لما ذكر أن الصفتين المتقابلتين يد الحق اللتان توجهتا منه على خلق الإنسان الكامل.
وكان قد مثل بصفات الله تعالى متقابلة مشتركة في أنها مؤثرة فكانت أيادى معطية متقابلة ، وقد أومأ إلى صفات العالم متقابلة مشتركة في أنها انفعالية .
فكانت أيادى قابلة آخذة وسوانا فيها مع العالم فأراد أن يثبت لنا التشريف من الله بالجمع بين يديه المتقابلتين في الإعطاء والقبول أيضا ، فإن لله تعالى يدين متقابلات معطية كالرضا والغضب ، ومتقابلات آخذة قابلة ألا ترى إلى قوله تعالى :" أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِه ويَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ".
- ولهذا وبخ إبليس وذمه على ترك السجود لآدم ، حيث رأى منه صفات العالم من الانفعالات القابلة كالخوف والرجاء ، ولم ير الصفات الفعلية ولم يعرف أن القابلة أيضا صفات الله فإنها من الاستعداد الفائض عن الفيض الأقدس .
وقال ( وما هو إلا عين جمعه بين الصورتين صورة العالم وصورة الحق وهما يد الحق ) يعنى كما أن المتقابلات المعطية يد الحق .
فالمعطية والقابلة والآخذة أيضا يدان متقابلتان للحق .
فلو لم يكن لآدم تلك القوابل لم يعرف الحق بجميع الأسماء ولم يعبده بها ( وإبليس ) لم يعرف ذلك لأنه ( جزء من العالم لم يحصل له هذه الجمعية ) فما عرف إلا ما هو من العالم فاستكبر وتعزز لاحتجابه عن معرفة آدم .
إذ لم يكن له جمعية فلم يعرف منه إلا ما هو من جنس نشأته ، فاستوهنه ونقص به وما عرف أن الذي حسبه نقصانا كان عين كماله .

كما قال ( ولهذا كان آدم خليفة ، فإن لم يكن ) أي آدم ظاهرا ( بصورة من استخلفه ) أي الحق ( فيما استخلفه فيه ) من العالم وأجزائه ( فما هو خليفة ) أي لم يكن خليفة لأن الخليفة يجب أن يعلم مراد المستخلف وينفذ أمره فلو لم يعرفه بجميع صفاته لم يمكنه إنفاذ أمره ( وإن لم يكن فيه جميع ما في العالم ) من الأسماء والصفات ( وما تطلبه الرعايا التي استخلف عليها ) يعنى أجزاء العالم المستخلف هو عليها لم يكن خليفة عليهم .
إذ ليس حينئذ عنده ما يحتاج إليه الرعايا ويطلبونه منه فلم يمكنه تدبيرهم ، فقوله فليس بخليفة عليهم جواب الشرط الثاني في الحقيقة لكن لما اعترض تعليل الشرط
وهو قوله ( لأن استنادها إليه فلا بد أن يقوم بجميع ما يحتاج إليه ) بينه وبين الجزاء فانجر الكلام إلى توسط شرط آخر وهو قوله وإلا اكتفى بجواب أحدهما عن جواب الآخر لاشتراكهما في الجواب فيكون جواب الأول محذوفا لدلالة جواب الثاني عليه .

تقديره وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا من الأسماء التي يرب الحق تعالى بها جميع من في العالم من الناس والدواب والأنعام وغيرها فليس بخليفة عليهم ، والاعتراض لبيان أن فيه مطالب جميع أجزاء العالم لأنها مقتضيات الأسماء الإلهية فيطلب ما في خزائن الأسماء من المعاني التي هي كمالاتها والأسماء كلها فيه كما مر فاستندت إليه فلا بد أن يقوم بكل ما يحتاج إليه ويعطيها مطالبها كلها ( وإلا ) أي وإن لم يقم بجميع ما يحتاج إليها ( فليس بخليفة عليهم )
ومن هذا ظهر معنى قوله ( فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل فأنشأ صورته الظاهرة ) أي لما ثبت أن استحقاق آدم للخلافة إنما يكون بالصورتين أنشأ صورته الظاهرة ( من حقائق العالم وصوّره )
حيث جمع فيه الحقائق الكونية ، فلم يبق من صور العالم وقواه شيء إلا وفيه نظير ( وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى ) فإنه سميع بصير عالم ، فيكون متصفا بالصفات الإلهية مسمى بأسمائه
( ولذلك قال فيه « كنت سمعه وبصره » وما قال كنت عينه وأذنه ففرق بين الصورتين ) أي صورة العالم وصورة الحق .
قوله ( وهكذا هو في كل موجود ) أي وكما أن الحق في آدم ظاهر بصورته كذلك في كل موجود ( من العالم ) يظهر ( بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود ) أي عينه باستعداده الأزلى ( لكن ليس لأحد ) أي لشيء من العالم ( مجموع ما للخليفة )
فإنه مظهر الذات مع جميع الصفات ، بخلاف سائر الأشياء وإلا لكان الكل مظهرا له ( فما فاز من بينهم إلا بالمجموع ) وإلا فكان الكل مظهرا له بقدر قبوله .
قوله ( ولو لا سريان الحق في الموجودات بالصورة ) أي بصورته ( ما كان للعالم وجود ) فإن أصل الممكن عدم والوجود صورته تعالى ووجهه الباقي بعد فناء الكل ، فلو لم يظهر بصورته التي هي الوجود من حيث هو وجود بقي الكل على العدم الصرف .

وقوله ( كما أنه لو لا تلك الحقائق المعقولة الكلية ما ظهر حكم في الموجودات العينية ) تشبيه لاستناد وجود العالم إلى صورة وجوده تعالى باستناد الأمور العينية من الصفات إلى الحقائق الكلية . كما ذكر في الحياة والعلم .
كما كان وجود العلم في زيد مثلا مستندا إلى العلم المطلق الكلى ولولاه لما وجد عالم وما صح الحكم بالعالمية على أحد كذلك كل موجود معين عينى مستند إلى وجود الحق الذي هو وجهه وصورته ولولاه لما وجد موجود وما صح الحكم على شيء بأنه موجود .
ولذلك قال ( ومن هذه الحقيقة ) أي من جهة أن الحق في الموجودات سار بالصورة حتى وجد ما وجد ( كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده ) لأن صورته هو الموجود فبوجوده وجد كما ذكر في المقدمة قوله نظما :
( فالكل مفتقر ما الكل مستغنى )
الفاء للسببية وما نافية ورفع خبرها على اللغة التميمية ، وعليها قرئ ما هذا بشر بالرفع أي إذا كان الحق ظاهرا بصورته في العالم والعالم مفتقر في وجوده إليه .
فكل واحد من العالم والحق مفتقر إلى الآخر ليس كل منهما مستغنيا عن الآخر . أما افتقار العالم إلى الحق ففي وجوده ، وأما افتقار الحق إلى العالم ففي ظهوره .

ولما كان التصريح بهذا الافتقار غير مأذون فيه وإن كان هو الحق قال :
( هذا هو الحق قد قلناه لا تكنى   ......       فإن ذكرت غنيا لا افتقار به)
أي ذاته من حيث هي هي ومن حيث اسمه الباطن لأنه تعالى بالذات غنى عن العالمين .
وأما من حيث اسمه الظاهر والخالق والرزاق فليس يغنى ( فقد علمت الذي بقولنا ) وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى ( نعنى ) أو بقولنا الحق من حيث هو أي فقد علمت لحق من حيث اسمه الباطن أو من حيث الذات بدون الصفات لأنه من هذه الحيثية غنى لا افتقار به .
ويجوز أن يكون المراد فإن ذكرت غنيا لا افتقار به فقد علمت أن المراد بقولنا فالكل مفتقر هو الحق مع جميع الصفات والأسماء والله أعلم .

قوله : ( فالكل بالكل مربوط وليس له ......      عنه انفصال خذوا ما قلته عنى )
أي العالم مربوط بالحق في الوجود والاستناد إلى صمديته والحق مربوط بالعالم في ظهوره وسائر أسمائه الإضافية .
قوله ( وقد علمت نشأة جسد آدم أعنى صورته الظاهرة ، وقد علمت نشأة روح آدم أعنى صورته الباطنة فهو الحق ) أي بحسب صورته الباطنة والحقيقة ( الخلق ) بحسب صورته الظاهرة .
قوله ( وقد علمت نشأة رتبته وهي المجموع الذي استحق به الخلافة ) وفي بعض النسخ بها حملا على المعنى وهو الرتبة ..
أي كونه واسطة بين الحق والخلق بمجموعه الذي استحق به الخلافة ، ليعرف صورة العالم وحقائقه بظاهره وصورة الحق وأسمائه الذاتية بباطنه ، ويتحقق له رتبة الخلافة بالجمع بين الصورتين ( فآدم هو النفس الواحدة ) أي حقيقة الإنسان من حيث هو .
وهو روح العالم ( التي خلق منها هذا النوع الكامل الإنسانى ) أي أفراد النوع وإلا فالنفس الواحدة هي حقيقة النوع بدليل قوله ( وهو قوله " يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ " .
فإن الخطاب للأفراد المخلوقة من النفس الواحدة ( وخلق منها زوجها ) أي خلق من الروح الكلى التي هي النفس الواحدة زوجها .
وهي النفس الكلية والرجال والنساء المبثوثة منها قوله تعالى " وبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً ونِساءً ".

هي أشخاص النوع قوله في تفسير قوله تعالى (فقوله : " اتَّقُوا رَبَّكُمُ ".
اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم واجعلوا ما بطن منكم وهو ربكم وقاية لكم ، فإن الأمر ذم وحمد فكونوا وقايته في الذم ، واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين ) .معناه اتخذوا وقاية لأنفسكم تتقون بها من يربكم .
ولما كان الرب هو الظاهر والباطن كانت ربوبيته لظواهركم من اسمه الظاهر بإمداد الحفظ والرزق وجميع ما يتعلق بالرحمة الرحمانية من الأسماء وربوبيته لبواطنكم من اسمه الباطن بإمداد العلم والحكمة وجميع ما يتعلق بالرحمة الرحيمية من الأسماء ، فعليكم بالاستمداد بالربوبية وتهيؤ الاستعداد القابلة من الوجهين .
وذلك بالتأدب بين يديه بآداب الحضرة فاتخذوا وقاية لأنفسكم مما ظهر منكم تتقون بها ربكم الظاهر أن يمنع ألطافه الظاهرة من الرزق والحفظ وأمثالهما .
وينتقم منكم في سوء أدبكم بنسبة الشرور والمعاصي إليه فتحرموا مدد الحفظ والرزق .
وفي الجملة ألطاف الربوبية الظاهرة لفساد المربوبية بظهور صفات النفس ونسبة الشرور إليه ، واتخذوا وقاية لأنفسكم مما بطن منكم تتقون بها ربكم الباطن أن يمنع ألطافه الباطنة من الرحمة الرحيمية بسوء أدبكم بنسبة الكمالات المعنوية والمعارف والحكم إلى أنفسكم فتحجبوا بصفاتكم وظهورها عن قبول أنوار صفاته .
وتحرموا إمداد الفيض العلوي والألطاف الباطنة لفساد استعداد المربوبية بحسب الباطن .
فظهر أن لفظ الاتقاء يساعده ما فسره الشيخ رضى الله عنه به من المعنى لاشتقاقه من الوقاية ، يقال اتقاه فاتقى أي اتخذ الوقاية يتقى بها بمعنى حذره .
فحذر إذ الحذر هو اتخاذ الوقاية ، قال تعالى " خُذُوا حِذْرَكُمْ " .
كأن الحذر آلة تتقى بها كالترس ونحوه مما يتقى به .

والوقاية مصدر سمى به ما يتقى به وقوله ( ثم إنه أطلعه على ما أودع فيه وجعل ذلك في قبضتيه القبضة الواحدة فيها العالم والقبضة الأخرى آدم وبنوه وبين مراتبهم فيه ) معناه أنه أطلع الإنسان الحقيقي على ما أودع فيه من أسرار الألوهية .
وجعل الجميع مما أوجد كالواحد وأودع فيه في قبضتيه أي قبضتى الحق فجعل حقيقة آدم وبنيه في قبضته اليمنى التي هي الأقوى أي الصفات الفعلية .
وأسمائه في العالم الأعلى الروحاني وجعل صورة العالم في قبضته اليسرى التي هي الأضعف أي الصفات القابلة المذكورة وأسمائه في العالم الجسماني .
وإن كانت كلتا يدي الرحمن يمينا لأن القابلية في قوة القبول تساوى الفاعلية في قوة الفعل لا تنقص منها ، وبين في ذاته مراتب بنى آدم في عرض عريض كما يشعر سائر الفصوص ببعضها .
قوله :
( ولما أطلعنى الله في سرى على ما أودع في هذا الإمام الوالد الأكبر جعلت في هذا الكتاب منه ما حد لي لا ما وقفت عليه فإن ذلك لا يسعه كتاب ولا العالم الموجود الآن ، فمما شهدته مما نودعه في هذا الكتاب كما حده له رسول الله صلى الله عليه وسلَّم حكمة إلهية في كلمة آدمية وهو هذا الباب ) ظاهر غنى عن التعريف
( ثم حكمة نفثية في كلمة شيثية
ثم حكمة سبوحية في كلمة نوحية
ثم حكمة قدوسية في كلمة إدريسية
ثم حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية
ثم حكمة حقية في كلمة إسحاقية
ثم حكمة علية في كلمة إسماعيلية
ثم حكمة روحية في كلمة يعقوبية
ثم حكمة نورية في كلمة يوسفية
ثم حكمة أحدية في كلمة هودية
ثم حكمة فاتحية في كلمة صالحية
ثم حكمة قلبية في كلمة شعيبية
ثم حكمة ملكية في كلمة لوطية
ثم حكمة قدرية في كلمة عزيرية
ثم حكمة نبوية في كلمة عيسوية
ثم حكمة روحانية في كلمة سليمانية
ثم حكمة وجودية في كلمة داودية
ثم حكمة نفسية في كلمة يونسية
ثم حكمة غيبية في كلمة أيوبية
ثم حكمة جلالية في كلمة يحيوية
ثم حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
ثم حكمة إيناسية في كلمة إلياسية
ثم حكمة إحسانية في كلمة لقمانية
ثم حكمة إمامية في كلمة هارونية
ثم حكمة علوية في كلمة موسوية
ثم حكمة صمدية في كلمة خالدية
ثم حكمة فردية في كلمة محمدية .
وفص كل حكمة الكلمة التي نسبت إليها فاقتصرت على ما ذكرت من هذه الحكم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب فامتثلت على ما رسم لي .
ووقفت عند ما حد لي ، ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت فإن الحضرة تمنع ذلك .
والله الموفق لا رب غيره .
.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الأول .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالأحد يوليو 21, 2019 5:37 pm

02 -  فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الأول .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية   الجزء الأول

إنما سميت الحكمة المنسوبة إلى شيث نفثية ، لأن الحق تعالى باعتبار تعينه الذاتي الجامع للتعينات كلها الذي هو علمه بذاته.
له أحدية الجمع المخصوصة بالإنسان الحقيقي المعبر عنه بآدم ، لأنه صورته وهو الوالد الأكبر الأول ، فلزم أن يكون المولود الأول من مرتبة المفيضة التي تليه .
فهو الإيجاد المسمى بالنفث الرحمانى والنفث بث النفس الواحد.
وذلك هو الوجود الخارج المنبسط على الماهيات القابلة له الظاهرة به وهو إذا اعتبر من حيث أنه واحد أي من حيث حقيقته كان اسم النور من أسماء الله المخبر عنه في التنزيل
بقوله تعالى :" الله نُورُ السَّماواتِ والأَرْضِ ".
- وباعتبار وقوعه على القوابل والمحال وعروضه للماهيات ، سمى الظل الممدود في قوله تعالى : " أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ".
وبهذا الاعتبار يسمى العطاء الذاتي ، لأن هذا الفيض من حيث حقيقة الواحدية اسم الله تعالى ليس بينه وبين الذات واسطة .
وباعتبار تعدده وتنوعه في القوابل وتعينه بها كان عطايا اسميا ومعنى لفظة شيث عطاء الله ، ولما كان حصول الوجود في الأشياء إنما يكون بالإيجاد الذي هو انبثاث النفس الرحمانى . سميت حكمته حكمة نفثية ، وهو العلم بالأعطية الحاصلة بالنفث .
ومن هذا ظهر انقسام العطايا إلى القسمين المذكورين ، كما قال الشيخ قدس الله روحه:
قوله رضي الله عنه : ( اعلم أن العطايا والمنح الظاهرة في الكون على أيدى العباد وعلى غير أيديهم على قسمين ،منها ما يكون عطايا ذاتية وعطايا أسمائية ويتميز عند أهل الأذواق ، كما أن منها ما يكون عن سؤال في معين وعن سؤال في غير معين ، ومنها ما لا يكون عن سؤال سواء كانت الأعطية ذاتية وأسمائية ، فالمعين كمن يقول : يا رب أعطنى كذا ، فيعين أمرا ما لا يخطر له سواه ، وغير المعين كمن يقول : أعطني ما تعلم فيه مصلحتى )
لأن كل ما لم يكن بينه وبين الذات واسطة أو وسائط كان إعطاء ذاتية .
وكل ما كان بينه وبين الذات واسطة أو وسائط كان إعطاء أسمائية .
والذوق يحكم بالامتياز ويدرك العطاء الأسمائى في ضمن العطايا الذاتي والعقل يعقل العطاء الذاتي في ضمن الأعطية الأسمائية .
قوله فالمعين بكسر الياء أي السائل المعين ، كمن يقول أو بفتحه أي السؤال المعين ، كسؤال من يقول على الإضمار .
ولما قسمها إلى الذاتية والأسمائية وأحال التمييز إلى الذوق قسمها باعتبار آخر إلى أقسام مدركة بالحس ، وشبه التقسيم المذكور في امتياز الأقسام به لا باعتبار آخر .
أي يتميز القسمان المذكوران بالذوق كما تتميز هذه الأقسام بالعقل بل بالحس وكلامه ظاهر إلى قوله:  ( من غير تعيين لكل جزء ذاتى من لطيف وكثيف ) أي من غير تفصيل لما أجمله في قوله أعطنى ما تعلم فيه مصلحتى.
فإن ما تعلم مجمل يحتمل اللطيف أي الروحاني كالعلم والحكمة ، والكثيف أي الجسماني كالمال والولد أو مجموعهما لا يخطر شيئا من الأشياء المعينة بباله .
وفي بعض النسخ :
لكل جزء من ذاتى لطيف وكثيف ومن بيانية والمراد بالذاتي ما تحقق حقيقة المطلوب وذاته ، فإن ما تعلم فيه مصلحتى أمر عارض لكل عطاء مطلوب.
قوله رضي الله عنه :( والسائلون صنفان : صنف بعثه على السؤال الاستعجال الطبيعي فإن الإنسان خلق عجولا ، والصنف الآخر : بعثه على السؤال لما علم أن ثم أمورا عند الله قد سبق العلم بأنها لا تنال إلا بعد سؤال ، فيقول فلعل ما نسأله سبحانه يكون من هذا القبيل فسؤاله احتياط لما هو الأمر عليه من الإمكان ، فهو لا يعلم ما في علم الله ولا ما يعطيه استعداد في القبول )
علمه فاعل بعثه الثاني لدلالة لما علم عليه أي بعثه على السؤال علمه بأن ثم أمورا عند الله قد سبق العلم بأنها لا تنال إلا بعد سؤال .
وفي الكلام تقديم وتأخير كان التقدير والصنف الآخر لما علم أن ثم أمورا عند الله قد سبق
العلم بأنها لا تنال إلا بعد سؤال بعثه علمه على السؤال . والباقي ظاهر .
( لأنه من أغمض المعلومات الوقوف في كل زمان فرد على استعداد الشخص في ذلك الزمان ) أي قد يقف الإنسان على استعداده لقبول شيء على الإجمال كما يقف أنه مستعد لقبول علم الفقه أو الطب وأمثال ذلك .
وأما وقوفه على استعداده لكل جزئى زمانى كوقوفه على أن الله يرزقه اليوم كذا وغدا كذا فلا سبيل له لقوله تعالى :  " وما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً " اللهم إلا أن يطلعه الله على بعضها .
قوله: ( ولو لا ما أعطاه على الاستعداد السؤال ما سأل ) إشارة إلى أن كل ما يجرى على العبد في كل ساعة فهو باستعداد منه يقتضي ذلك الشيء له في ذلك الوقت .
حتى أن السؤال أيضا إنما يكون باستعداد منه اقتضى ذلك السؤال في ذلك الوقت وإلا لما أمكنه أن يسأله:
قوله رضي الله عنه : ( فغاية أهل الحضور الذين لا يعلمون مثل هذا أن يعلموه في الزمان الذي يكونون فيه ، فإنهم بحضورهم يعلمون ما أعطاهم الحق في ذلك الزمان ، وأنهم ما قبلوه إلا بالاستعداد وهم صنفان : صنف يعلمون من قبولهم استعدادهم ، وصنف يعلمون من استعدادهم ما يقبلونه ، هذا أتم ما يكون في معرفة الاستعداد في هذا الصنف ) .
أهل الحضور مع الله هم الذين يرون كل ما يصل إليهم سواء كان على أيدى العباد أو لا على أيديهم من الله ، ولا يرون غير الله في التأثير ولا في الوجود الذين يعلمون مثل هذا أي أن استعدادهم في كل وقت أي شيء يقبل فإنه لا يسعه إلا علم الله المحيط بكل شيء فغاية علمهم في حضورهم أن يعلموا ما أعطاهم الحق في الزمان الحاضر الذين يكونون فيه ، وإنهم ما قبلوه إلا باستعدادهم الفطري العيني .
وهؤلاء صنفان :
صنف يعلمون من قبولهم العطاء أنهم كانوا يستعدون له وهم كثير.
وصنف يعلمون الاستعداد قبل القبول فيعلمون من استعدادهم أنهم أي شيء يقبلون .
وهذا أتم معرفة الاستعداد وهم قليل .
ولما قسم العطايا إلى ما يكون عن سؤال وإلى ما يكون عن غير سؤال .
وقسم القسم الأول إلى ما يكون عن سؤال في أمر معين
وإلى ما يكون عن سؤال في غير معين .
ثم قسم السائلين بحسب الباعث على السؤال على قسمين .
وفرغ من بيان القسمين قال:
قوله رضي الله عنه : ( ومن هذا الصنف من يسأل لا للاستعجال ولا للإمكان وإنما يسأل امتثالا لأمر الله في قوله تعالى : " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " فهو العبد المحض وليس لهذا الداعي همة متعلقة فيما يسأل فيه من معين أو غير معين ، وإنما همته في امتثال أوامر سيده ، فإذا اقتضى الحال السؤال سأل عبودية وإذا اقتضى التفويض والسكوت سكت ، فقد ابتلى أيوب وغيره وما سألوه رفع ما ابتلاهم الله به ، ثم اقتضى لهم الحال في زمان آخر أن يسألوا رفع ذلك فرفعه الله عنهم )
أي ومن القسم الأول الذي عطاؤه عن السؤال صنف ثالث يسأل لا للاستعجال الطبيعي أي للعجلة التي هي مقتضى الطبيعة البشرية وداعية الهوى النفساني .
ولا للإمكان أي لأنه يمكن أن يكون المسئول موقوفا على السؤال بأن الله علقه بسؤال بل سأل الله امتثالا لأمره ، فإن العبد مأمور بالسؤال والدعاء.
كما قال تعالى : " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ".
فغرض هذا العبد من السؤال ليس إلا العبادة لا المسئول ولا الإجابة .
فلا يتمنى الإجابة فهو عبد محض ، إذ ليست همته في دعائه متعلقة بشيء معين يطلبه أو غير معين بل امتثال أوامر سيده ، والباقي ظاهر .
إلى قوله: ( والتعجيل بالمسئول فيه والإبطاء للقدر المعين له عند الله ) أي التعجيل في الإجابة وإنجاح المطلوب والتأخير فيه إنما يكون للقدر المعين ، أي للأجل المسمى الذي عين وجود ذلك المطلوب عند الله فيه .
فالتعجيل مبتدأ والإبطاء عطف عليه وخبره للقدر ، أي التعجيل والإبطاء ثابت للقدر المعين والوقت المسمى عند الله .
فإن لكل حادث وقتا معينا عند الله يقارنه في اللوح القدري ، لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه
( فإذا وافق السؤال الوقت أسرع بالإجابة وإذا تأخر الوقت ) أي وقته المقدر الذي هو فيه.
( إما في الدنيا وإما في الآخرة ، تأخرت الإجابة ) أي المسئول فيه إلى ذلك الوقت ( لا الإجابة التي هي لبيك من الله فافهم هذا ) .
والمراد بالإجابة الإجابة بالفعل وهو حصول المسئول ، لا الإجابة بالقول الذي هو لبيك .
فقد يكون العبد محبوبا إلى الله ويجيب سؤاله بلبيك .
ولا يجيبه بإعطاء ما سأل لما يرى له من المصلحة في التأخير كما قدر مع أنه يحب سؤاله ودعاءه ويزيد في قربه وكرامته ويسمع إليه ويرضاه .
ولهذا قال فافهم هذا فقد يحب الله العبد ويجيب سؤاله ، ولا يعطيه المسئول لحبه له .
وقد يعطيه ولا يحبه بل يستدرجه.
قوله رضي الله عنه : ( وأما القسم الثاني : وهو قولنا ومنها ما لا يكون عن سؤال ، فالذي لا يكون عن سؤال فإنما أريد بالسؤال التلفظ به فإنه في نفس الأمر لا بد من سؤال إما باللفظ أو بالحال أو بالاستعداد ، كما أنه لا يصح حمد مطلق قط إلا في اللفظ وأما في المعنى فلا بد أن يقيده الحال فالذي يبعثك على حمد الله هو المقيد لك باسم فعل أو باسم تنزيه ، والاستعداد من العبد لا يشعر به صاحبه ويشعر بالحال لأنه يعلم الباعث وهو الحال ، فالاستعداد أخفى سؤال ).
القسم الثاني : هو الذي لا يكون عن سؤال ، ومنه تبين أن الأصناف الثلاثة كلها من القسم الأول كما ذكر ، وقد صرح بأن المراد بالسؤال في الأقسام كلها هو السؤال اللفظي.
فإنه على ثلاثة أقسام :  لفظى كما مر - وحالى  - واستعدادى
ولا بد في العطاء من سؤال الاستعداد ولا يتخلف عنه العطاء ، لأنه مقتضى الاستعداد في نفس الأمر ، أي ما قدر له حال عينه الثابتة قبل الوجود .
وأما الحال فهو الباعث على الطلب وهو أيضا من الاستعداد ، فلو لم يكن في الاستعداد الطلب لم تحصل الداعية .
ولكن لا يقتضي حصول المطلوب حال الطلب وإن اقتضاه في الجملة ، ثم شبه تقيد العطاء بالسؤال بتقيد الحمد بالسؤال .
فإن الحمد لا يكون مطلقا إلا في اللفظ كقولك الحمد لله .
وأما في المعنى فلا بد لك من باعث يبعثك على الحمد ، كما تتصور صحتك وسلامة بيتك فتحمد مطلقا .
وأنت تعلم أنت تحمده على حفظه إياك وخلقه لك بريئا من العاهات .
فقد قيد حمدك الباعث الذي هو تصور معنى صحتك وخلقتك السليمة ، باسم الباري الحافظ وهما اسما الفعل .
وكما تدرك ديموميته تعالى فتحمده ، فقد قيد الحال حمدك بالاسم الذي لم يزل ولا يزال وهو اسم تنزيه .
فكذلك العطاء فقد تستشرف نفسك إلى شيء فيرزقك ربك فذلك الاستشراف ، والطلب في النفس هو السؤال الحالي.
وقد يصل إليك العطايا من غير شعور منك به ولا استشراف في النفس ، كمن تصادف كنزا بغتة فذلك منى اقتضاء استعدادك.
ولذلك قال والاستعداد من العبد لا يشعر به صاحبه ويشعر بالحال لأنه يعلم الباعث وهو الحال ، والاستعداد أخفى سؤال وهو المشار إليه بقوله : " يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفى ".
فإن الحال لا يعلمه غير صاحبه إلا الله ، والاستعداد هو الأخفى الذي لا يعلمه صاحبه أيضا فهو من غيب الغيوب ، الذي لا يعلمه إلا الله .
قوله: ( وإنما يمنع هؤلاء من السؤال علمهم بأن لله فيهم سابقة قضاء ، فهم قد هيأوا محلهم لقبول ما يرد منه وقد غابوا عن نفوسهم وأغراضهم ) ظاهر وهم أهل الرضا المريدون بإرادة الله ، لا يريدون إلا ما أراد الله .
قوله: ( ومن هؤلاء من يعلم أن علم الله تعالى في جميع أحواله ، هو ما كان عليه في حال
ثبوت عينه قبل وجودها ) موقوف على العلم بالأعيان الثابتة .
وهو أن الروح الأول الذي هو أول ما خلق الله تعالى المسمى بلسان أهل الحكمة.
العقل الأول هو أول متعين في ذات الله وأول مرتبة من مراتب الممكنات متعين بسبب تعين أحديته تعالى بعلمه بذاته محيط بحقائق الأشياء كلها .
وهي المسماة بالأعيان الثابتة وهو نوع متشعب إلى أرواح فائتة الحصر ، منها الملائكة المقربون ومنها أرواح الكمل من نوع الإنسان .
وهي حقائق روحانية متمايزة كل روح منها منتقش بكل ما يجرى عليه من الأزل إلى الأبد ، وهو الصف الأول من صفوف الأرواح الإنسية ، وهي المسماة بالأعيان ، وأول تجل من تجليات الحق وهو التجلي الذاتي في صورة هذا المعلول الأول .
فإن الذات الأحدية قبل الظهور في الحضرة الأسمائية في عماء كما ذكر في المقدمة .
وفي هذه الحضرة تتعدد الأسماء وهو يعلم هذا المعلول بذاته أي بعين ذلك المعلول ، كما هو منتقشا بجميع ما فيه لا بصورة زائدة على ذاته .
وعلمه عين ذاته ليس إلا حضوره لذاته في صورة هذا المعلول .
فعلمه بالأعيان إنما هو من جملة علمه بذاته ، والأعيان وكل ما فيها من جملة معلوماته ، ومعلوماته عين ذاته من حيث الحقيقة غير ذاته من حيث تعيناتها .
ولكل عين من الأعيان الإنسانية صورة نفسانية مثالية ينفصل ما فيها من الحقائق العلمية ، التي هي أحوالها في هذه الصورة ، إلى جزئيات مقدرة بمقادير زمانية يقارن كل منها وقتا معينا من أوقات وجوده قبل وجوده والله من ورائهم محيط فسر القدر هذه الأمور المقدرة المتقارنة لآجالها وحضور الحق تعالى لها في ذاته علمه بها على ما هي عليها .
وهذا معنى قوله : (ومن هؤلاء )، أي ومن الذين يعلمون أن الله فيهم سابقة قضاء ، من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه في حال ثبوت يتفرق عينه قبل وجودها.
( ويعلم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به ) وكيف لا وتلك العين هو الكتاب الذي فيه أعماله وأحواله وأرزاقه " لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ".
والروح الكلى المنقسم إلى الأرواح كلها هو أم الكتاب الذي عنده تعالى ، وهو يحكم على كل أحد بما فيه في عينه من النقش وهو الاستعداد الفطري الأول للعبد ولا يعلم الحق من هذا العبد إلا ما في عينه .
( وهو ما كان عليه في حال ثبوته ، فيعلم ) هذا العبد ( علم الله به من أين حصل ).
قوله: ( وما ثم صنف من أهل الله أعلى وأكثف من هذا الصنف ، فهم الواقفون على سر القدر ) ظاهر .
ثم قسم هذا الصنف فقال: ( وهم على قسمين : منهم من يعلم ذلك مجملا ) وهو العالم بالبرهان أو الإيمان ( ومنهم من يعلمه مفصلا فالذي يعلمه مفصلا على وأتم من الذي يعلمه مجملا ) وهو العالم بالكشف والعيان.
( فإنه يعلم ما في علم الله فيه إما بإعلام الله تعالى إياه بما أعطاه عينه من العلم به ) بالإلقاء السبوحى ما في عينه وهو محجوب عن عينه.
( وإما بأن يكشف له عن عينه الثابتة ، وانتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى وهو أعلى ) فإن معدن علمه هو بعينه معدن علم الله تعالى به . فعين علمه بذاته علم الحق به فيرى هذا العبد القدر المقدور في حقه .
وهو معنى قوله:  ( فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به ، لأن الأخذ من معدن واحد ) ثم بين الفرق بين علم هذا العبد .
وعلم الحق به بعد ما بين اتحادهما بالحقيقة وأخذهما من معدن واحد.
فقال: ( إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له ) قبل أن يوجد عينه .
( هي من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف ) ولم يعلمها قبل وجوده بل علم ( إذا أطلعه الله تعالى على ذلك أي إلى أحوال عينه ) بعد وجوده لا قبله .
كما علم الله تعالى منه قبل وجوده ( فإنه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله تعالى على أحوال عينه الثابتة التي يقع صورة الوجود عليها أن يطلع في هذه الحال على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها ، لأنها نسب ذاتية لا صورة لها )
أي نسبة الذات الأحدية إلى كل عين نسبة ذاتية ، وهي حضور الذات لها ولما فيها من الأحوال والنقوش .
وهذا حضورها لذاتها قبل أن توجد هذه الأعيان في الخارج ، فلا صورة لها في الخارج والضمير في لأنها يرجع إلى الاطلاع أنث لمطابقة الخبر .
ولأن الاطلاع نسبة الذات إلى الأعيان ( فبهذا القدر نقول : إن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادة العلم )
وهو أن تعلم أن علمه تعالى وعلم العبد واحد من معدن واحد ، إلا أن علم العبد لم يكن إلا بعد وجوده وحصول صورته .
وعلمه تعالى كان قبل وجوده وبعده ، وعلمه عناية من الله سبقت ، وعلم الله ليس بعناية من غيره سابق ، وظهر الفرق ( ومن هنا يقول الله " حَتَّى نَعْلَمَ " وهي كلمة محققة المعنى ، ما هي كما يتوهمه من ليس له هذا المشرب ) يقصد الآية" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)" سورة محمد.
فإنه ينزه علمه تعالى من سمة الحدوث ، ويجعله صفة زائدة على ذاته قديمة يتعلق بالمعدوم تعلقا حادثا فيجعل الحدوث صفة التعلق لا صفة العلم .
وهو معنى قوله:
( وغاية المنزه أن يجعل ذلك الحدوث في العلم للتعلق ، وهو أعلى وجه يكون للمتكلم يعقله في هذه المسألة ، لو لا أنه أثبت العلم زائدا على الذات ، فجعل التعلق له لا للذات ) أي لو لا إثباته العلم زائدا على الذات ليجعل التعلق للعلم لا للذات ، لكان أعلى وجه يكون له ولكان محققا
( وبهذا انفصل عن المحقق من أهل الله صاحب الكشف والوجود ) يرى العلم عين الذات ولا يقول بالتعلق بل يقول معنى حتى يظهر علمنا .
فإن العلم الظاهر في الأعيان بعد الوجود هو عين علمه ، على ما علمت أن علمه بالأعيان هو الثابت حال عدمها فيها ( ثم نرجع إلى الأعطيات ) لما قسم العطايا بحسب السؤال انجر الكلام إلى بحث الاستعداد والأعيان .
فبحث عن ذلك بقدر ما احتاج إليه هاهنا ، ثم رجع إلى المقصود من بيان القسمين الأولين واستأنف القسمة لطول الكلام بقوله:
( فنقول : إن الأعطيات إما ذاتية أو أسمائية ، فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية ، فلا تكون أبدا إلا عن تجل إلهى ) أي ذاتى مطلق لا من الذات وحدها بلا صفة .
فإنها لا تتجلى وحدها لشيء بل الذات باعتبار الرحمانية لأن الله اسم الذات المطلقة .
وتجلى الذات من حيث هي هي لا يكون إلا لذاته ، أما للعبد فلا يكون إلا بصورة استعداد من تجلى له لا غير .
كما قال: ( والتجلي من الذات لا يكون إلا بصورة استعداد المتجلى له غير ذلك لا يكون ، فإذا المتجلى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق وما رأى الحق ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى سوى صورته إلا فيه ) ومثله بالمرآة في قوله ( كالمرآة في الشاهد في أنه إذا رأيت الصور أو صورتك فيها لا تراها ) أي جرم المرآة حيث ترى الصورة.
( مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها ) ثم ذكر أن مشاهدة الصور في المرآة مثال نصبه الله تعالى لتجليه الذاتي ليعلم المحقق أنه ما رأى ذاته تعالى بل رأى عينه فيه .
قوله رضي الله عنه : ( فأبرز الله ذلك مثالا نصبه لتجليه الذاتي ليعلم المتجلى له أنه ما رآه وما ثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلي من هذا واجهد في نفسك عند ما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة لا تراه أبدا البتة حتى أن بعض من أدرك مثل هذا في صورة المرآة ذهب إلى أن الصورة المرئية بين بصر الرائي وبين المرآة هذا أعظم ما قدر عليه والأمر كما قلناه وذهبنا إليه ) يعنى أن المرئي في مرآة الحق هو صورة الرائي لا صورة الحق .
وإن تجلى له ذات الحق بصورته لا بصورتها ، وليس الصورة المرئية في ذاته تعالى حجابا بين الرائي وبينه سبحانه .
بل هي الذات الأحدية المتجلية له بصورته لا كما زعم من ذهب في المرآة إلى أن الصورة حجاب بينها وبين الرائي فإنه وهم.
قال: ( وقد بينا هذا في الفتوحات المكية ) .
قوله: ( وإذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن ترقى أعلى من هذا الدرج ) إشارة إلى أن هذا المعنى لا يدرك إلا بالذوق والكشف والحال لا بمجرد العلم وهي الغاية في الكشف ليس فوقها أعلى منها.
( فما هو ثم أصلا وما بعده إلا العدم المحض ) أي فما أعلى من هذا الدرج موجود عند الشهود أصلا فالضمير يرجع إلى أعلى.
( فهو مرآتك في رؤيتك نفسك وأنت مرآته في رؤية أسمائه ) أي إذا انخلعت عن صفاتك وجردت ذاتك عن كل ما أمكن تجردك عنه شاهدت عينك في مرآة الحق .
وذلك تجليه بصورة عينك ، وهو يرى ذاته فيك متصفة بصفاتها كالسمع والبصر وما يتعلق بهما من أحكام المسموعات والمبصرات .
فإنها أحكام السميع والبصير ظهرت فيك من حيث أنك مظهر هذا بين الاسمين.
( وليست ) الأسماء ( سوى عينه كما علمت فاختلط الأمر وانبهم ) وهو أن المرئي غير عين الحق في صورة العبد .
فيكون العبد مرآة الحق أو عين العبد في صورة الحق .
فيكون الحق مرآة العبد ( فمنا من جهل الأمر في علمه فقال : العجز عن درك الإدراك إدراك ) أي غاية الإدراك هو الاعتراف بالعجز عن إدراك الأمر كما هو وهو التحير المطلوب.
في قوله : رب زدني تحيرا ( ومنا من علم ولم يقل مثل هذا ) أي علم أن الحق من حيث ذاته مرآة عين العبد أي لذاته ، والعبد مرآة الحق باعتبار أسمائه .
ولم يقل بالعجز ( وهو أعلى القول ) أي من القول بالعجز لأنه علم حقيقة الأمر على ما هو عليه ( فلم يعطه العلم العجز كالأول بل أعطاه العلم السكوت ما أعطاه العجز ) أي من العارفين من تحير في التمييز بين مرئية الحقية والعبدية ، ومنهم من سكت ولم يتحير ولم يقل بالعجز وهو أعلى.
( وهذا هو أعلى عالم باللَّه وليس هذا العلم ) بالأصالة ( إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء ، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم ، ولا يراه أحد من الأولياء ، إلا من مشكاة الولى الخاتم ، حتى أن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء ) أي الرسل كلهم يأخذونه من خاتم الرسل وهو يأخذ من باطنه من حيث أنه خاتم الأولياء لكن لا يظهر لأن وصف رسالته يمنعه فإذا ظهر باطنه في صورة خاتم الأولياء يظهره .
والحاصل أن الرسل والأولياء كلهم يرونه من مشكاة خاتم الأولياء .
( فإن الرسالة والنبوة أعنى نبوة التشريع ورسالته تنقطعان ) إنما قيد النبوة بالتشريع احترازا عن نبوة التحقيق فإن النبي له جهتان تبليغ الأحكام المتعلقة بحوادث الأكوان والإخبار عن الحق وأسمائه وصفاته وأحوال الملكوت والجبروت .
وعجائب عالم الغيب وهو باعتبار التبليغ رسول وشارع ونبوته تشريعية وباعتبار الأنباء عن الغيب وتعريف الحق بذاته وأسمائه ولى ونبوته تحقيقية .
فرسالة التشريع ونبوته تنقطعان لأنهما كمال له بالنسبة إلى الخلق .
وأما القسم الآخر فمن مقام ولايته التي هي كمال له بالنسبة إلى الحق لا بالنسبة إلى الخلق بل كمال حقانى أبد .
كما قال ( والولاية لا تنقطع أبدا ) فهو باعتبار ولايته أشرف منه باعتبار رسالته ونبوته التشريعية فخاتم الرسالة من حيث الحقيقة هو خاتم الولاية .
ومن حيث كونه خاتما للولاية معدن هذا العلم وعلوم جميع الأولياء والأنبياء وهو مقامه المحمود الذي يبعثه فيه فاعلم ذلك حتى لا تتوهم أنه محتاج في علمه إلى غيره .
وهو معنى قوله ( فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف من دونهم من الأولياء ) .
قوله رضي الله عنه : : ( وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه ، فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلى ، وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم في تأبير النخل ، فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة ، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في رتب العلم باللَّه هنالك مطلبهم . وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها فتحقق ما ذكرناه ) إشارة إلى أن خاتم الأولياء قد يكون تابعا في حكم الشرع كما يكون المهدى الذي يجيء في آخر الزمان .
فإنه يكون في الأحكام الشرعية تابعا لمحمد صلى الله عليه وسلَّم ، وفي المعارف والعلوم والحقيقة تكون جميع الأنبياء والأولياء تابعين له كلهم .
ولا يناقض ما ذكرناه لأن باطنه باطن محمد عليه الصلاة والسلام ولهذا قيل إنه حسنة من حسنات سيد المرسلين وأخبر عليه الصلاة والسلام بقوله « إن اسمه اسمى وكنيته كنيتي فله المقام المحمود » .
ولا يقدح كونه تابعا في أنه معدن علوم الجميع من الأنبياء والأولياء فإنه يكون في علم التشريع والأحكام أنزل كما يكون في علم التحقيق والمعرفة باللَّه أعلى .
ألا ترى إلى ما ظهر في شرعنا من فضل عمر في أسارى بدر حيث أشار إلى قتلهم حين نزل قوله تعالى : " ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَه أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ في الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا "  إلى قوله " لَوْ لا كِتابٌ من الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ".
وقال عليه الصلاة والسلام :« لو نزل العذاب لما نجى منه غير عمر وسعد بن معاذ » وبكى عليه الصلاة والسلام حين نبهه جبريل على الخطأ ونزول الوحى بأن يقتل من أصحابه بعدد الأسارى الذين أطلقوهم وأخذوا منهم الفداء .
ومن حديث تأبير النخل حيث منع عليه الصلاة والسلام منه ثم تبين الخطأ فقال « اعملوا فأنتم أعلم بأمور دنياكم » .
( وقال الخضر لموسى : أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علمك الله لا أعلمه أنا ) أي لا ينبغي لكل واحد منا الظهور بما يباين مقامه ومرتبته .
ولهذا قال فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة والباقي ظاهر .
وأما حديث الرؤيا في قوله رضي الله عنه :
قوله رضي الله عنه : (ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلَّم بالحائط من اللبن وقد كمل سوى موضع لبنة فكان صلى الله عليه وسلَّم تلك اللبنة ، غير أنه صلى الله عليه وسلَّم لا يراها إلا كما قال لبنة واحدة وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا ، فيرى ما مثله به رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، ويرى في الحائط موضع لبنتين واللبن من ذهب وفضة فيرى اللبنتين اللتين ينقص الحائط عنهما ويكمل بهما لبنة فضة ولبنة ذهب فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين فيكمل الحائط بهما ، والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضية وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه آخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسل ، فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع فكل نبى من لدن آدم إلى آخر نبى ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلَّم وإن تأخر وجود طينته ، فإنه صلى الله عليه وسلَّم بحقيقته موجود ، وهو قوله « كنت نبيا وآدم بين الماء والطين » وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث ، وكذلك خاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين ) .
وإنما يكون على ما ذكره ، لأن الرؤيا من عالم المثال وهو تمثل كل حقيقة بصورة تناسبه ، فتمثل حال النبي عليه الصلاة والسلام في نبوته في صورة اللبنة التي يكمل بها بنيان النبوة فكان خاتم الأولياء .
ولما لم يظهر بصورة الولاية لم يتمثل له موضعه باعتبار الولاية فلا بد من خاتم الولاية باعتبار ظهوره وختمه للولاية أن يرى مقامه في صورة اللبنة الذهبية من حيث أنه متشرع بشريعة خاتم الرسل .
ويرى مقامه في صورة اللبنة الفضية باعتبار ظاهره فإنه يظهر تابعا للشريعة المحمدية على أنه آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه .
لكن التمثل بالمثال إنما يكون باعتبار الصورة وولايته هي المسماة بالولاية الشمسية وولاية سائر الأولياء تسمى بالولاية القمرية لأنها مأخوذة من ولايته مستفادة منها كنور القمر من الشمس ، ولهذا قال: ( وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها ) لأنها ليست بذاتية له كما للخاتم ، وإذا لم تكن ذاتية فلا بد من كسبها .
وقوله: ( من كون الله يسمى بالولى الحميد ) لا ينافي أخذ تلك الصفات من الخاتم للولاية ، لأن الله تعالى إنما يسمى بالولى الحميد في عين هذا الخاتم وولايته إنما تكون بالوجود الحقانى بذاته وصفاته وأسمائه لا من حيث هو غيره.
( فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الخاتم للولاية نسبة الأنبياء ، والرسل معه ) استعمل مع بمعنى إلى ( فإنه الولى ) باعتبار الباطن ( والرسول ) باعتبار تبليغ الأحكام والشرائع ( النبي ) باعتبار الأنباء من الغيوب والتعريفات الإلهية ( وخاتم الأولياء الولى ) باعتبار الباطن ، فباطنه باطن خاتم الرسل ، فإنه لو لم يكمل في الولاية لم يكن خاتم الرسالة ( الوارث ) من خاتم الرسالة شرائعه وأحكامه ( الآخذ عن الأصل ) بلا واسطة كما ورد في حق النبي " فَأَوْحى إِلى عَبْدِه ما أَوْحى " أي بلا واسطة ( المشاهد للمراتب ) فإنه يفرق الكل ويعطيهم ويفيض عليهم بوسائط وغير وسائط.
( وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلَّم مقدم الجماعة ) لأنه عليه الصلاة والسلام ما دام ظاهرا بالشريعة في مقام الرسالة لم تظهر ولايته بالأحدية الذاتية الجامعة للأسماء كلها ليوفى اسم الهادي حقه .
فبقيت هذه الحسنة أعنى ولايته باطنة حتى يظهر في مظهرا الخاتم للولاية الوارث منه ظاهر النبوة وباطن الولاية .
فتحقق من هذا أن محمدا عليه الصلاة والسلام مقدم جماعة الأنبياء والأولياء حقيقة ( وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة فعين حالا خاصا ما عمم ) أي قيد سيادته بفتح باب الشفاعة لأن الله تعالى ما أعطى هذه الخاصية أحدا دونه .
( وفي هذه الحال الخاص ) أي بهذه الخاصية ( تقدم على الأسماء الإلهية ) التي يشارك فيها سائر الأنبياء والأولياء .
ثم علل تقدمه على الكل بهذه الخاصية بقوله:
( فإن الرحمن ما يشفع عند المنتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين ) لأنه عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين ولو كانت رحمته رحيمية فقط لكانت مختصة بالمؤمنين كما وصفه بقوله " بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ "  ولما شملت الكل .
كما قال: " وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ " كان مظهر اسمه الرحمن واسم الرحمن شامل لجميع الأسماء لا فرق بينه وبين الله كما قال تعالى : " قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَه الأَسْماءُ الْحُسْنى "  إلا أن اسم الله قد يطلق على الذات الأحدية لا باعتبار الأسماء كقوله " الله أَحَدٌ "  وهو لا ينافي كونه مع جميع الأسماء .
وإذا كان شاملا لا يتصف به إلا بعد الانصاف بجميعها ، فلا يشفع عند المنتقم إلا بعد شفاعة الأسماء الأخر .
فإن المنتقم القهار إذا كان انتقامه يسكن بالرؤف الرحيم لا يحتاج إلى شفاعة الرحمن ، أما إذا كان قهرا بليغا تاما لا يقبل صاحبه شفاعة سائر الأسماء شفع الرحمن الذي يسع رحمته جميع الأسماء حتى القهار والمنتقم .
فلو لم تكن الرحمة الرحمانية بالإيجاد لم يوجد القهر والغضب والانتقام ، فظهرت سلطنة الرحمن على الكل .
فينجو بشفاعته آخرا أهل الجهد والبلاء من الذل والعذاب كما نجى الجميع أولا بجوده وإحسانه من ظلمة العدم .
ولهذا قال :" ادخرت شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى " فافهم .
وشاهد سيادته للكل ( ففاز محمد صلى الله عليه وسلَّم بالسيادة في هذا المقام الخاص ، فمن فهم المراتب والمقامات لم يعسر عليه مثل هذا الكلام ) في هذا المقام الخاص الذي فاز به عليه الصلاة والسلام .
قوله: ( وأما المنح الأسمائية فاعلم أن منح الله تعالى خلقه رحمة منه بهم ) إشارة إلى أن المنح الأسمائية كلها بعد الوجود فإنه من الأعطية الذاتية كما مر .
ولهذا قال: ( وهي كلها من الأسماء ) فإنها رحمة على الخلق فكانت بعد الخلق .
قوله رضي الله عنه : ( فأما رحمة خالصة كالطيب من الرزق اللذين في الدنيا الخالص يوم القيامة ويعطى ذلك اسم الرحمن فهو عطاء رحمانى ، وأما رحمة ممتزجة كشرب الدواء الكره الذي يعقب شربه الراحة وهو العطاء الإلهي ، فإن العطايا الإلهية لا يمكن إطلاق عطائه منه من غير أن يكون على يد سادن من سدنة الأسماء فتارة يعطى الله العبد على يد الرحمن فيخلص له العطاء من الشوب الذي لا يلائم الطبع في الوقت أو لا ينيل الغرض وما أشبه ذلك ، وتارة يعطى على يدي الواسع فيعم أو على يدي الحكيم فينظروا في الأصلح في الوقت أو على يدي الواهب فيعطى التنعم ، ولا يكون مع الواهب تكليف المعطى له بعوض على ذلك من شكر أو عمل )
إشارة إلى أن الرحمة الرحمانية لا يشوبها شوب من غيرها من كراهة أو بشاعة أو شيء غير لذيذ فإن خاصية الرحمة النفع الخالص أو اللذة الخالصة .
فإن شابها شيء من كراهة وهو عطاء إلهى لأن من الأسماء الإلهية الحكيم والحكمة تقتضي تحمل كراهة قليلة تعقبها راحة كثيرة كشرب الدواء الكرية يعقبه الراحة والصحة كما مثل به ، وإنما سماه إلهيا لأنه ممتزج من مقتضيات أسماء عدة .
ولا يمكن إطلاق العطاء الإلهي إلا على يد سادن من سدنة الأسماء لأن الإله هو المعبود والمعبود معبود بالنسبة إلى العابد هو الذي يسد جهة فقره إلى المعبود وكما أن المريض يعبد اسم الشافي ويدعوه وقد يكون عطاؤه من اسم واحد وقد يكون من أسماء كثيرة ممتزجة فتمتزج مقتضياتها .
قوله:  ( أو على يدي الجبار فينظر في الموطن وما يستحقه ) معناه أن الجبار هو الذي يجبر الكسر ويزيل الآفة والنقص .
فينظر في جهة استحقاقه وفاقته فينجح حاجته ويجبر كسره ويصلح آفته ونقصه .
وله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالأحد يوليو 21, 2019 5:41 pm

02 -  فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية    الجزء الثاني

قوله: ( أو على يدي الغفار فينظر المحل وما هو عليه ) معناه أن الغفار هو الذي يستر بنور الذات ما في المحل من الظلمة الموجبة للعقوبة ، وكل اسم من أسمائه يقتضي مظهرا أو محلا يناسبه ليظهر خصوصيته فيه.
( فإن كان ) أي فالمحل الذي هو مقتضى الغفار إن كان ( على حال يستحق العقوبة فيستره عنها ) ورفع العقوبة عنه ( أو على حال لا يستحق العقوبة ) على تلك الحال.
( فيستره عن حال يستحق العقوبة ) أي عما به يستحق العقوبة من المعاصي ( فيسمى معصوما ومعتنى به ومحفوظا وغير ذلك مما يشاكل هذا النوع ) أي يناسب ذلك .
قوله: ( والمعطى هو الله من حيث ما هو خازن لما عنده من خزانته ) معناه أن الأسماء الأول التي يعبر عنها بالأسماء الذاتية والأسماء الإلهية هي خزانته.
فالحقيقة التي هي عين الذات لا تتكثر إلا بالنسب والإضافات إلى الأعيان والحقائق الروحانية المفصلة في الحضرة الواحدية التي هي مظهر علمه.
وتلك النسب صفاته والذات باعتبار كل نسبة اسم ، فالشيئية المقتضية لتعين كل عين من صفة توجب خزن بعض الأشياء المعلومة بمقتضى العلم الأول في ذلك العين .
وتلك الأشياء المخزونة أحوال تلك العين والذات مع تلك النسبة اسم لا يفتح هذه الخزانة إلا به ، فالمعطى للأشياء المخزونة فيها هو الذات الأحدية باعتبار تلك النسبة .
وذلك هو الاسم الخاص الخازن الفاتح لخزائنه المخصوصة ( فما يخرجه الله إلا بقدر معلوم ) يقتضيه استعداد القابل السائل ( على يدي اسم خاص بذلك الأمر ) أي على يدي هذا الاسم الخاص بهذه الأشياء التي عنده وفي خزانته .
ومن هذا قوله: ( فأعطى كل شيء خلقه على يدي الاسم العدل وأخواته ) كالمقسط والحق والحكم وأمثاله .


قوله رضي الله عنه( وأسماء الله تعالى لا تتناهى ، لأنها تعلم بما يكون عنها وما يكون غير متناه ) معلوم من المقدمة الثانية ، فإن الذات الأحدية مع النسبة إلى كل ما يصدر عنه اسم خاص وكل تعين يحدث فيها اسم ، والنسب لا تتناهى لأن القوابل واستعداداتها غير متناهية فأسماء الله تعالى لا تتناهى ( وإن كانت ترجع إلى أصول متناهية ) لأن الأسماء الغير المتناهية هي الأسماء التالية التي هي مصادر الأفعال والشئون ، فينتهى إلى الأسماء الذاتية التي ( هي أمهات الأسماء أو حضرات الأسماء ) .
فتبين من هذا قوله رضي الله عنه : ( وعلى الحقيقة فما ثم إلا حقيقة واحدة تقبل جميع هذه النسب والإضافات التي تكنى عنها بالأسماء الإلهية ، والحقيقة تعطى أن تكون لكل اسم يظهر إلى ما لا يتناهى حقيقة يتميز بها عن اسم آخر ).
أي تقتضي أن تكون الأسماء يتميز بعضها عن بعض بخصوصيات لاشتراكها في الذات ، فلو لم يكن لكل اسم يظهر إلى ما لا يتناهى من أسماء الربوبية التي لا يمكن إحصاؤها خصوصية هو بها هو لم يكن التعدد .
فحقيقة ذلك الاسم تلك الخصوصية لا ما به الاشتراك كالإرادة والقدرة في الأسماء الذاتية ، والإيجاد والتصوير في الأسماء الإلهية ، والرزق والهبة في الأسماء الربوبية .
وهذا معنى قوله رضي الله عنه ( وتلك الحقيقة التي بها يتميز هي الاسم عينه لا ما يقع فيه الاشتراك ) ثم مثل بالأعطية التي يتميز كل واحد منها عن الآخر بشخصيته التي لا يمكن أن يشاركه فيها عطاء آخر ، مع اشتراك الكل في كونها عطاء.
فقال ( كما أن الأعطيات يتميز كل أعطية عن غيرها بشخصيتها وإن كانت عن أصل واحد فمعلوم أن هذه ما هي هذه الأخرى وسبب ذلك تميز الأسماء )
وكل عطاء خاص يظهر عن اسم خاص ، يعطى الله تعالى ذلك العطاء على يد ذلك الاسم فكل ما يتجدد لا يشارك في شخصيته شيء آخر من الأزل إلى الأبد ( فما في الحضرة الإلهية لاتساعها شيء يتكرر أصلا هذا هو الحق الذي يعول عليه ) .
قوله رضي الله عنه :  ( وهذا العلم كان علم شيث عليه السلام وروحه هو الممد لكل من يتكلم في مثل هذا من الأرواح ما عدا روح الخاتم فإنه لا تأتيه المادة ) أي المدد ( إلا من الله لا من روح من الأرواح ، بل من روحه تكون المادة لجميع الأرواح ) ظاهر .
قوله: ( وإن كان لا يعقل ذلك من نفسه في زمان تركيب جسده العنصري ) معناه وإن كان الخاتم الممد لجميع الأرواح الذي لا يكون بينه وبين الله واسطة لا يعقل في زمان ظهوره في الصورة الجسدانية العنصرية من نفسه .
إنه هو الذي يمد جميع الأرواح الإنسية بالعلوم والحكمة التي لها ويفيض منها عليها ، لأن الحجاب الهيولاني الطبيعي من الغواشي وإلهيات الظلمانية اللازمة لصورته يمنعه .
ولهذا قالت الصوفية إن أصل الأربعينية التي يروضون بها أنفسهم من الأربعين المذكورة في قوله تعالى :« خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحا » فإن التخمير هو تخمير مادة جسده وتعديله ، حتى ناسب باعتداله النوع الإنسانى روحه .
فيظهر فيه ويحتجب به ظهورا واحتجابا سماها الحكماء بالتعلق التدبيرى ، فإن تلك الهيئات الطبيعية والغشاوات البدنية إذا كشفت عن وجهه بالرياضة والتوجه إلى الله تعالى بالإخلاص ظهرت تلك العلوم والحكم عليه .
كما قال عليه الصلاة والسلام: « من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه » .
ولكن لا يبقى ذلك إلا في وقت من الأوقات وهو الوقت الذي قال عليه الصلاة والسلام: « فيه لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبى مرسل » .
وذلك هو الوقت الذي تنكشف عليه فيه عينه بما فيه ( فهو من حيث حقيقته ) المجردة ( ورتبته ) العالية ( عالم بذلك كله بعينه ) أي بذاته ( من حيث ما هو جاهل به من جهة تركيبه العنصري )
أي عالم من حيث حقيقته بجميع أحوال عينه من إمداده لجميع الأرواح بعينه من حيث أنه جاهل من جهة تركيبه العنصري .
فيكون تأكيدا للأول على لغة تميم وقراءة من قرأ ما هذا بشر وأن يكون المراد ومن حيث تركيبه العنصري جاهل به على أنه خبر بعد خبر أي فهو من حيث أنه جاهل به كائن من جهة تركيبه العنصري
قوله رضي الله عنه :( فهو العالم الجاهل فيقبل الاتصاف بالأضداد ) باعتبار الحيثيات ( كما قبل الأصل ) أي الحق تعالى ( الاتصاف بذلك كالجليل والجميل والظاهر والباطن والأول والآخر وهو عينه ) أي باعتبار الحقيقة .
فإن الوجود المقيد في الحقيقة هو المطلق مع قيد التعين والتعين ليس إلا قصوره عن قبول سائر التعينات وضيقه عن الاتصاف بجميع الصفات والتسمى بالأسماء ، وذلك القصور والضيق خلقية فهو حق باعتبار الحقيقة والوجود خلق باعتبار النقص والعدم ( وليس غيره ) حقيقة ( فيعلم لا يعلم ويدرى لا يدرى ويشهد لا يشهد ) لأن ما هو به موجود عالم شاهد هو الحق ، وما هو به معدوم جاهل غير شاهد هو الخلق .
قوله ( وبهذا العلم ) أي علم الأعطية والأسماء ( سمى شيث لأن معناه الهبة ) أي هبة الله ( فبيده مفتاح العطايا ) لأن العطايا تصدر من الأسماء ، وهو يعرف الأسماء وما يعرف أحد شيئا إلا بما فيه من ذلك الشيء فهو من لا يعرف الأسماء إلا لأنها فيه وهو مفتاح العطايا ، فصح قوله بيده مفتاح العطايا ( على اختلاف أصنافها ونسبها ) فإن اختلاف أصناف العطايا إنما يكون باختلاف الأسماء التي هي مصادرها على ما مر .
قوله رضي الله عنه( فإن الله وهبه لآدم أول ما وهبه وما وهبه إلا منه ) معناه أنه عطاء من مقتضيات الأسماء التي علمه الله تعالى إياها حيث قال :" وعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها ".
وقد مر أنه أراد بآدم حقيقة النوع الإنسانى الذي هو الروح الأعظم والنفس الواحدة التي عبر عنها بالعين الواحدة والحضرة الواحدية وحضرة الأسماء الأول الذاتية .
فيكون أول مولود وهبه الله تعالى له هي النفس الناطقة الكلية والقلب الأعظم ، الذي يظهر فيه العطايا الأسمائية من الروح الأعظم.
فمن ثم قال : وما وهبه إلا منه ، لأن العطايا هي لوازم الأسماء التي لآدم .
ولهذا علله بقوله رضي الله عنه ( لأن الولد سر أبيه فمنه خرج وإليه عاد ، فما أتاه غريب لمن عقل عن الله ) أي معانى الأسماء كما عقلها آدم عنه.
( وكل عطاء في الكون على هذا المجرى فما في أحد من الله شيء ) أي شيء غريب لم يكن في عينه فإن الأعيان وأنصابها تقسمت بالتجلى الذاتي .
فما لم يكن في أحد من الفيض الأقدس بذلك التجلي قبل الوجود الخارجي لم يهبه الله له قط لأنه ليس بنصيبه فصح .
قوله رضي الله عنه: ( وما في أحد من سوى نفسه شيء ) وإن تنوعت عليه الصور .
قوله رضي الله عنه: ( وما كل أحد يعرف هذا وإن الأمر على ذلك إلا آحاد من أهل الله ، فإذا رأيت من يعرف ذلك فاعتمد عليه ، فذلك هو عين صفاء خلاصة خاصة الخاصة من عموم أهل الله ) ظاهر ، وذلك أن صفاء حقيقة خاصة الخاصة من شوب الغيرية والخلقية ، يقتضي أنهم لا يرون إلا الأحدية غير محتجبين بالأسباب والوسائط ، لأنهم مكاشفون بوجود الأحد الواحد الكبير المتعال الظاهر الباطن ، ويرون إثبات الغير شركاء .

قوله رضي الله عنه ( فأي صاحب كشف شاهد صورة تلقى إليه ما لم يكن عنده من المعارف ، وتمنحه ما لم يكن قبل ذلك في يده ، فتلك الصورة عينه لا غيره )
معناه أن صاحب الكشف قد يترقى بتزكية نفسه إلى عالم المثال وهي الحضرة الخيالية ، وقد يتجاوز عنه بتصفية الباطن إلى حضرة القلب وحضرة السر وحضرة الروح ، وفي كل حضرة يرى الشيء الواحد بصورة تقتضيها تلك الحضرة .
وأول حضرات الغيب بعد الترقي عن الحس الذي هو عالم الشهادة هي الحضرة الخيالية المسماة عالم المثال ومنها المنامات الصادقة والوحى .
فإذا رأى في هذه الحضرة شخصا ألقاه علما لم يكن عنده أو أعطاه عطاء لم يكن في يده فذلك الشخص عينه ظهر في تلك الصورة بحسب اقتضاء محل خياله ليس غيره .
وإعطاه نصيبه الذي اختص به عند تعين الأعيان من الفيض الأقدس.


( فمن شجرة نفسه جنى ثمرة غرسه ، كالصورة الظاهرة منه في مقابلة الجسم الصقيل ليس غيره ، إلا أن المحل أو الحضرة التي رأى فيها صورة نفسه ، تلقى إليه بتقلب من وجه لحقيقة تلك الحضرة ) أي ليس ذلك المرئي غيره وإلا لكان فيه قبل مقابلته ، إلا أن الحضرة التي رأى فيها صورته ملقية إليه تنصبغ صورته بصبغها .
أي بصبغ الحضرة المتجلى فيها وشكلها وخصوصياتها ( كما يظهر الكبير في المرآة الصغيرة صغيرا والمستطيلة مستطيلا والمتحركة متحركا ، وقد تعطيه انتكاس صورته من حضرة خاصة ) أي كما أن المحل المنظور فيه يؤثر في صورة الرائي .
 فقد يرى الرائي صورته في المرآة الكبيرة كبيرة ، وفي الصغيرة صغيرة ، وفي المستطيلة كالسيف مثلا طويلة .
وفي المتحركة كالماء الجاري متحركة ، وفي الموضوع تحته كالماء منكسة ، فكذلك الحضرات
التي يرى صاحب الكشف صورته فيها تؤثر في صورته وتقلبه إلى صورة تقتضيها الحضرة وحالها ، فإن رأى في الحضرة المثالية شخصا يقول له أنا الله .
أو يعلم الرائي أنه الله فهو عينه في عالم المثال ، وصدق في قوله أنا الله باعتبار الحقيقة ، لأنه هو الحق ، لكن لا على صورته بل على صورة الرائي في محل الخيال .
فهو الحق الذي يتجلى في صورة عينه ، رأى نفسه فيما يعطيه المحل المنظور فيه كالمرئى صورة عينه منصبغة بصبغ الخيال الذي رآها فيه وصورته صورة الحق المتجلى بصورة عينه.

( وقد يعطيه عين ما يظهر منها ، فيقابل اليمين منها اليمين من الرائي ) أي وقد تعطيه حضرة أعلى من حضرة الخيال عين ما يظهر من الصورة لا عكسها كحضرة السر والروح ، فيقابل اليمين منها اليمين من الرائي ، كظهور الحق في صورة الإنسان الكامل مطلقا.
( وقد يقابل اليمين اليسار ) كما في الحضرة الخيالية ( وهو الغالب في المرايا بمنزلة العادة في العموم ) على حسب الحال الغالبة عليه ، فإذا جاوز هذه الحضرة يرى عينه في صورة صفاته إما مجردة عن هذه الصورة الخيالية وإما فيها فإن كان القلب في مقام الصدر أي وجهه الذي يلي النفس رآه في الصورة الخيالية فيدرك معنى الصورة بصفاته .
وإن كان في مقام السر وهو وجهه الذي يلي الروح يراها مجردة وتكون في غاية الحسن والبهاء ، وإن بلغ صاحب الكشف حضرة الروح يرى عينه في مرآة الحق فهو الحق المتجلى بصورته ، فيرى الخلق حقا لأنه ما رآه إلا مقيدا بصورة عينه.
( وبحرق العادة تقابل اليمين اليمين ) أي على خلاف العادة لأنه يرى عينه بعينه في مرآة الحق ، فهو إذن كالرائى صورته في المرآة الكبيرة كبيرة ، وإذا شاهد الحق في صورة عينه أو غيره يرى الحق خلقا .
كالرائى صورته في المرآة الصغيرة صغيرة ( ويظهر الانتكاس ) لأن المرآة تحته مع كون اليمين يقابل اليمين لكون الحق بصره الذي به يبصره في مرآة عينه .
وإن أطلق الحق عن قيد تعينه كالكامل المطلق الفاني في الله الشاهد للأشياء في الحق بعين الحق ، يرى الحق حقا والخلق خلقا والمطلق في المقيد والمقيد في المطلق .
فيرى كل اسم من أسمائه موصوفا بجميع أسمائه كما سيأتي وقد استجيب في حقه دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: « اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه » .
ومما ذكر يظهر معنى قوله ( وهذا كله من أعطيات حقيقة الحضرة المتجلى فيها التي أنزلناها منزلة المرائى ) .
قوله: ( فمن عرف استعداده عرف قبوله ، وما كل من عرف قبوله يعرف استعداده إلا بعد القبول ، وإن كان يعرفه مجملا ) معلوم بما مر في أول هذا الفص عند تقسيم الواقفين على سر القدر .
حيث قال : فمنهم من يعلم ذلك مجملا ومنهم من يعلمه مفصلا .
قوله: ( إلا أن بعض اهل النظر من أصحاب العقول الضعيفة يرون أن الله لما ثبت عندهم أنه فعال لما يشاء جوزوا على الله ما يناقض الحكمة ، وما هو الأمر عليه في نفسه ) استثناء منقطع من الذين يعرفون استعدادهم مجملا وإلا بمعنى لكن يعنى أن الذين يعرفون استعدادهم مفصلا يعرفون قبولهم لكل ما اطلعوا عليه من استعدادهم بإعلام الله تعالى إياهم .
أو بكشف أعيانهم عليه حتى يطلعوا على أحوالهم المتجددة عليهم إلى ما يتناهى ، فهم لا يغلطون في علومهم أصلا .
وكذلك الذين لا يعرفون استعدادهم إلا من قبولهم ، فإنهم ما لم يقبلوا شيئا لم يعرفوا أن ذلك كان في استعدادهم أن يغلطوا بعد القبول .
فإنهم يستدلون بالواقع لكن الذين يعرفون استعدادهم مجملا قد يغلطون في التفاصيل كبعض أهل النظر من المتكلمين ، فإنهم قد عرفوا من استعدادهم أنهم يقبلون العلوم المعقولة على الإجمالى.
لكنهم لضعف عقولهم وعدم كشفهم لعدم ارتياضهم وتصفيتهم ، لما علموا أن الله تعالى فعال لما يشاء ، وأنه على كل شيء قدير .
جوزوا عليه القدرة على الممتنعات كإيجاد المثل وإعدام الوجود وإيجاد العدم ، وأمثال ذلك ، وتوهموا أنه تنزيه عن العجز وذلك لعدم معرفة الحقائق وتمييز الممكن من الممتنع ، وقصور أنفسهم عن معنى المشيئة ، وابتنائها على الحكمة الإلهية الحقية.
( ولهذا ) أي ولضعف عقولهم وتجويزهم على الله ما يناقض الحكمة الإلهية وما هو الأمر عليه في نفسه ( عدل بعض النظار إلى نفى الإمكان وإثبات الوجوب بالذات وبالغير ) وذلك لقصور نظرهم عن الحقائق العقلية وقصرهم الموجودات على ما هو في الخارج .
فإن ما هو موجود في الخارج محصور في الواجب بالذات والواجب بالغير لأن ما لم يجب لم يوجد
( والمحقق ) وهو الملاحظ للحقائق في نفس الأمر ، أي العالم العقلي مع قطع النظر عن وجودها الخارجي
( يثبت الإمكان ويعرف حضرته ، والممكن ما هو الممكن ومن أين هو ممكن ، وهو بعينه واجب الوجود بالغير ) فإنه إما أن تقتضي الحقيقة الوجود بذاتها أو لا تقتضي .
والأول الواجب لذاته .
والثاني إما أن يقتضي العدم لذاته وهو الممتنع لذاته.
وإما أن لا يقتضي شيئا منهما وهو الممكن لذاته ، فالممكن حضرة العقل قبل الوجود الخارجي من حيث هو هو كالسواد مثلا ، فإن عينه في العقل لا يقتضي الوجود والعدم .
وأما في الخارج فإنه لا ينفك عن وجود السبب وعدمه فإنه لا واسطة بينهما .
فإن كان السبب التام موجودا وجب وجوده به ، وإلا فوجب عدمه لعدم سببه التام ، فهو ممتنع بالغير ، فالممكن الموجود واجب بالغير وهو بعينه من حيث حقيقته مع قطع النظر عن وجوده ممكن بالذات .
قوله: ( ومن أين صح عليه اسم الغير الذي اقتضى له الوجوب ) إشارة إلى أن الوجود الإضافي الذي هو به موجود هو بعينه الوجود الحقانى المطلق الذي عرض له من هذه الإضافة والعينية والغيرية باعتبار الهاذية والهوية .
فمن حيث الهاذية غيره ومن حيث الهوية عينه ، كما أن عين الممكن باعتبار عينه ممكن وباعتبار وجوده واجب ، وكل وجود متعين ممكن من حيث تعينه واجب من حيث حقيقته وهويته ( ولا يعلم هذا التفصيل إلا العلماء باللَّه خاصة ) .
قوله ( وعلى قدم شيث يكون آخر مولود تولد من هذا النوع الإنسانى وهو حامل أسراره ) إشارة إلى أن أدنى مرتبة الإنسان باعتبار حقيقته التي هو بها إنسان .
أن يكون مقامه القلب الذي هو محل تجليات الصفات الإلهية ومظهر التعدد الأسمائى .
فإن العطايا من الأسماء وعلمه معرفة العطايا ولا بد للعطاء من معط وقابل .
فالمعطى هو الله باعتبار الأسماء والقابل هو نفس شيث باعتبار قبول الأعطية من النفث الروحي.
ومن انحط عن مقامه حتى وقع في حد القبول المحض ، فقد انحط عن درجة الإنسان وانخرط في سلك سائر الحيوان وإن كان في صورة الإنس . فلهذا يكون آخر مولود من هذا النوع على قدمه.
ولما كان مقامه أنزل من مقام الوالد وكان قاصرا عن مرتبة أحدية الجمع الذي لأبيه لم يثبت المعاد الروحاني ، لأن القلب من حيث ما فيه سنح النفس لا يتجرد بالكلية عن التعلق البدني ، وإن تجرد عن الحلول فيه لا يتجرد عن العلاقة بالكلية إلا من حيث أنه روح وفي مرتبته ولهذا كان أول من أثبت التناسخ وقال بالمعاد الجسماني وانتسب إليه الإشراقيون.
وهو الذي يسمونه بلسانهم آغاثاذيمون صاحب الشريعة والناموس .
وأنذر وحذر عن الانحطاط عن مرتبة الإنسان إلى درجات الحيوانات العجم وذلك لانحطاطه عن رتبة الأرواح ، المقدسة .
ولهذا المعنى قال ( وليس بعده ولد في هذا النوع فهو خاتم الأولاد ) لأن من انحط عن مرتبة الإنسان وقع في مرتبة السباع والبهائم ، وإن كان في صورة الإنسان لخلوه ، عن أحكام الوجوب والصفات الإلهية واستيلاء صفات النفس وغلبة أحكام الإمكان عليه .
وهو معنى قولهم : إن العالم قبل آدم كان مسكن الجن ، أي القوى النفسانية والنفوس الأرضية .
وبعضهم يقولون : كان قبل ذلك النوع الفرس ، إشارة إلى أن الفرس في الأفق الأعلى من الحيوان قبل طور الإنسان .
ولهذا قال : إنه خاتم الأولاد ، فإن القلب ولد الروح وخاتم الآباء في هذا النوع هو المهدى عليه السلام .
قوله : ( وتولد معه أخت له فتخرج قبله ويخرج بعدها ، يكون رأسه عند رجليها )
إشارة إلى مرتبة النفس الحيوانية الواقعة في جهة الانفعال المطلق .
فإن القلب من حيث أنه قلب لا يكون إلا مع التعلق البدني .
والتعلق لا يكون إلا بتوسط النفس الحيوانية المطبقة في البدن الغالب عليه التضاد من الطبيعة العنصرية المتنكسة بتوجهها إلى عالم الطبيعة .
ولما كان أصل التضاد من العالم العنصري والنفس الحيوانية مقبلة إليه متنكسة ، كانت اثنينية التضاد والتقابل تقوى عند رأسها وتضعف عند رجليها .
وإذا ضعفت جهة التضاد قويت جهة الوحدة بالاعتدال وتوجهت النفس الناطقة إليه ، فيكون رأس هذا الذكر هو حقيقة شيث عليه السلام عند رجليها ، ولا يمكنه إلا أن يكون توأما .
وتخرج الأخت قبله بظهور النفس قبل القلب ضرورة ( ويكون مولده بالصين ) لأنه أقصى البلاد لا عمارة بعده .
كما هو آخر الإنسان لا إنسان بعده ولا غاية بعده .
قال عليه الصلاة والسلام :« اطلبوا العلم ولو بالصين » .
ومعنى قوله( ولغته لغة بلده ) أن كلامه ودينه في مرتبة آخر الأصناف الإنسانية فإن الحكماء مذهبهم التناسخ لا يعدون عنه .
قوله: ( ويسرى العقم في الرجال والنساء ، فيكثر النكاح من غير ولادة ويدعوهم إلى الله فلا يجاب ، فإذا قبضه الله وقبض مؤمنى زمانه بقي من بقي مثل البهائم لا يحلون حلالا ولا يحرمون حراما يتصرفون بحكم الطبيعة ، شهوة مجردة عن العقل والشرع ،فعليهم تقوم الساعة) ظاهر ، لأنهم بعد هذا الطور لا يلدون الإنسان بالحقيقة وإن كانوا في صورة الإنسان فهم أشرار الناس فتجب أن تقوم عليهم القيامة .
كما قال عليه الصلاة والسلام: « لا تقوم الساعة إلا على أشرار الناس » .
وقال « شر الناس من قامت القيامة عليه وهو حى » .
وذلك بتجلى الحق في صورة العدل واستئناف الدور بالبعث والنشور ، وإحياء الموتى وإخراج من في القبور ، والله أعلم .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الأول .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالأحد يوليو 21, 2019 5:56 pm

03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الأول .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية  الجزء الأول

السبوح المنزه عن كل نقص وآفة . ولما كان شيث عليه السلام مظهر الفيض الإلهي الرحمانى ، والفيض لا يكون إلا بالأسماء الداخلة تحت اسم الرحمن والرحمانية تقتضي الاستواء على العرش لأن الفيض كما يكون بالأسماء كذلك لا يمكن إلا على القوابل ، فحكمة العطايا والوهب اقتضت التعدد الأسمائية ووجود المحل الموهوب له ، وأصل القابلية للطبيعة الجسمانية فغلب على قومه حكم التعدد والقوابل .
حتى إذا بعد عهد النبوة وتطاول زمان الفترة اتخذوا الأصنام على صورة الأسماء وحسبوا الأسماء أجساما وأشخاصا والمعاد جسمانيا محضا لاقتضاء دعوته ذلك ، فأوجب حالهم أن يدعوا إلى التنزيه وينبهوا على التوحيد والتجريد ويذكروا الأرواح المقدسة والمعاد الروحاني ، فبعث نوح عليه السلام بالحكمة السبوحية والدعوة إلى التنزيه ورفع التشبيه ، فكنسبته عليه السلام في الدعوة إلى الباطل إلى شيث عليه السلام نسبة عيسى إلى موسى عليه السلام .
قوله ( اعلم أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد ) .
معناه أن التنزيه تمييزه عن المحدثات والجسمانيات وعن كل ما لا يقبل التنزيه من الماديات ، وكل ما تميز عن شيء فهو إنما يتميز عنه بصفة منافية لصفة التميز عنه ، فهو إذن مقيد بصفة ومحدود بحد فكان التنزيه عين التحديد غاية ما في الباب أن المنزه نزهه عن صفات الجسمانيات فقد شبهه بالروحانيات في التجريد ، أو نزه عن التقييد فقد قيده بالإطلاق والله منزه عن قيدى التقييد والإطلاق ، بل مطلق لا يتقيد بأحدهما ولا ينافيهما.
( فالمنزه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب ) إذا وقف عند التنزيه ولم يقل بالتشبيه ، وهو معنى ( ولكن إذا أطلقاه وقالا به ) أي لم يتجاوزا إلى التشبيه والجمع بينهما ، لأنه إن لم يتبع الشرائع ونزهه تنزيها يقابل التقييد ، بأن جعله منزها عن كل قيد مجردا فهو جاهل ، وإن كان متبعا للشرائع .
كما قال ( فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزه ووقف عند التنزيه ولم ير غير ذلك فقد أساء الأدب وأكذب الحق والرسل صلوات الله عليهم وهو لا يشعر ، ويتخيل أنه في الحاصل وهو في الفائت ، وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض ) .
فقد أساء الأدب وأكذب الحق والرسل ، لأن الكتب الإلهية والرسل ناطقة بالجمع بين التشبيه والتنزيه وهو يخالفهما ( ولا سيما وقد علم أن ألسنة الشرائع الإلهية إذا نطقت في الحق تعالى بما نطقت به إنما جاءت به في العموم على المفهوم الأول وعلى الخصوص على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ ، بأى لسان كان في وضع ذلك اللسان ) المراد من العموم عامة الناس ومن الخصوص خاصتهم .
والمفهوم الأول ما يتبادر إلى الفهم عند سماع اللفظ ، وهو المعنى الذي يستوي فيه الخاصة والعامة .
والمفهوم الثاني الذي يفهم من وجوه ذلك اللفظ مختص بالخاصة ، ولا يجوز أن يتكلم الحق بكلام يختص فهمه ببعض الناس دون البعض ، ولا يفهم العامة منه شيئا أو يفهم ما ليس بمراد وإلا لكان تدليسا ، بل الحق من حيث هو مطلع على الكل يكلمهم بكلام ظاهر ما يسبق منه إلى الفهم وهو لسان العموم ، وله وجوه بحسب تركيب اللفظ والدلالات الالتزامية لا يفهمها إلا الخصوص ، وبحسب مراتب الفهم وانتقالاته تتفاوت الدلالات وتزيد وتنقص .
فللحق في كل مرتبة من مراتب الناس لسان ، ولهذا ورد قوله عليه الصلاة والسلام « نزل القرآن على سبعة أبطن » وقوله « ما من آية إلا ولها ظهر وبطن ، ولكل حرف حد ولكل حد مطلع » فمن الظهر إلى المطلع مراتب غير محصورة ولكن يجب أن يفهم أول المعاني من ذلك اللفظ بحسب وضع ذلك اللسان ، وترتب عليه سائرها بحسب الانتقالات الصحيحة فيكون الحق مخاطبا للكل بجميع تلك المعاني ، من المقام الأقدم الذي هو الأحدية إلى آخر مراتب الناس الذي هو لسان العموم ، كقوله مثلا " لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ".
فالمفهوم الأول ليس هو مثل الذي وصف بصفاته شيء إذ لا نظير له من غير قصد إلى مثل ونظير ، أو ليس مثله شيء على أن الكاف زائدة وهو محض التنزيه وهو السميع البصير عين التشبيه لكن الخاصة يفهمون من التنزيه التشبيه ومن التشبيه بلا تشبيه التنزيه ، فإن الكاف والمثل لو حملا على ظاهرهما كان معناه ليس مثل مثله شيء فيلزم ثبوت المثل والتشبيه بلا تشبيه ، وتعريف السميع البصير الدال على القصر يفيد أنه لا سميع ولا بصير إلا هو وهو عين التنزيه فافهم .
قوله رضي الله عنه : ( فإن للحق في كل خلق ظهورا خاصا ، وهو الظاهر في كل مفهوم وهو الباطن عن كل فهم ، إلا عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته وهو الاسم الظاهر ) تعليل لكون المفهوم الأول الذي هو مفهوم العامة مرادا للحق من كلامه ، وكذا المفهومات التي يفهم منها فيه الخاصة ، ولها مفهومات لا يفهم الخاصة أيضا إلا خواص الخاصة الأوحديون العارفون الراسخون في العلم المرادون بقوله :" وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَه إِلَّا الله والرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ " إن لم تقف على قوله إلا الله ، وإن وقفت فالراسخون الذين " يَقُولُونَ آمَنَّا به " هم الخاصة .
وأما الذين يبتغون التأويل بالفكر ويحملون معنى كلام الله على معقولهم كأرباب المعتقدات المتبعين للمشابهات الواقفين مع عقولهم كالمتشبهين بالخواص ، فهم الذين في قلوبهم زيغ ، فإن للحق في كل خلق ظهورا بحسب استعداد ذلك الخلق ، فهو الظاهر في كل مفهوم بقدر استعداد الفاهم .
وذلك حده كما قال تعالى :" فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها " وهو الباطن عن كل فهم بما زاد عن استعداده ، فإن رام ما فوق حده بالفكر وهو الذي بطن عن فهمه زاغ قلبه ، إلا فهم العارف الذي لا حد لفهمه وهو الفاهم باللَّه من الله لا بالفكر فلا يبطن عن فهمه شيء .
فيعلم أن العالم صورته وهويته أي حقيقته باعتبار الاسم الظاهر ، فإن الحقيقة الإلهية المطلقة لم تكن هوية إلا باعتبار تقيدها ولو تقيد الإطلاق كقوله :" هُوَ الله أَحَدٌ " وأما من حيث هي هي فهي مطلقة مع تقيدها بجميع القيود الأسمائية ، فالعالم هويته أي حقيقته بقيد الظهور ( كما أنه بالمعنى ) أي كما أن الحق بالمعنى ( روح ما ظهر ) أي حقيقته بقيد البطون ( فهو الباطن ) وذلك أيضا هويته ( فنسبته لما ظهر من صور العالم ، نسبة الروح المدبر للصورة ) لما أثبت للحقيقة الإلهية هوية باعتبار اسمه الظاهر وهوية باعتبار اسمه الباطن شبه نسبة باطنيته إلى ظاهريته من صور العالم بنسبة الروح الإنسانى المدبر لصورته إلى صورته .
واللام في لما ظهر بمعنى إلى أي نسبته مع قيد البطون إلى نفسه مع قيد الظهور ( فيؤخذ ) أي فكما يؤخذ ( في حد الإنسان مثلا باطنه وظاهره وكذلك كل محدود ) فكذلك يجب أن يؤخذ في حد الحق جميع الظواهر وجميع البواطن ، حتى يكون محدودا بكل الحدود.
كما قال ( فالحق محدود بكل حد وصور العالم لا تنضبط ولا يحاط بها ولا يعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل ، أي لكل عالم من صورته . فلذلك يجهل حد الحق فإنه لا يعلم حده إلا على قدر ما حصل ، أي لكل عالم من صورته . فلذلك يجهل حد الحق فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة ، وهذا محال حصوله فحد الحق محال ) أي لا يمكن لأحد الإحاطة بكل الظواهر والبواطن حتى يحيط بكل الحدود لأنها لا تنضبط ، فلا يعلم عالم حد الحق ومحال أن يعلم ، فلا يزال حده مجهولا محالا علمه ووجوده ، لأن مجموع الظواهر والبواطن ممكنات ليس بالمطلق ، فمجموع الحدود أيضا ليس بحده .
قوله: ( وكذلك من شبهه وما نزهه فقد قيده وحدده وما عرفه ) ظاهر ، لأن من شبههه حصره في تعين ، وكل ما كان محصورا في حد فهو بهذا الاعتبار خلق .
ومن هذا يعلم أن مجموع الحدود وإن لم يكن غيره ليس عينه ، لأن الحقيقة الواحدة الظاهرة في جميع التعينات غير مجموع التعينات ( ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه ووصفه بالوصفين على الإجمال ) بأن قال هو المنزه عن جميع التعينات بحقيقته الواحدة التي هو بها أحد المشبه بكل شيء ، باعتبار ظهوره في صورته وتجليه في صورة كل متعين على الإجمال.
( لأنه يستحيل ذلك على التفصيل لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور ، فقد عرفه مجملا لا على التفصيل كما عرف نفسه مجملا لا على التفصيل ) لأنك تعلم أنك واحد وتعبر عن حقيقتك بأنا ، وتضيف كل جزء من أجزائك على الإجمال إلى حقيقتك .
فتقول : عينى وأذنى وبصرى إلى آخر أجزائك . وتعلم أنك المدرك بالسمع والبصر ، فأنت غير جزء من أجزائك الظاهرة والباطنة ، وأنت الظاهر في صورة كل جزء منك بحيث لو قطعت علاقتك عنها لم يبق واحد منها وتغيب عن كل جزء منك على التفصيل ولا تغيب عن ذاتك قط ، فلا تغيب عن جزء ما من أجزائك على الإجمال .
( ولذلك ربط النبي صلى الله عليه وسلَّم معرفة الحق بمعرفة النفس ، فقال « من عرف نفسه فقد عرف ربه » ) فإن الحقيقة التي تعبر عنها بأنا هو الرب في الكل إذا لم تتقيد بتعينك وغيره إذا قيدته فلم تكن غيرا إلا من حيث التقيد .
وهو أيضا من حيث التقيد المعين هو جميع التقيدات لا بدونها فإنه هو المتقيد بجميع التقيدات ألا ترى إلى قوله : " وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى "  فسلب الرمي عنه لأنه بدون الله لا شيء محض فلا يكون راميا ، وأثبت الرمي له باعتبار أنه هو ، بل هو الظاهر بصورته حتى وجد فرمى ولذلك قال " ولكِنَّ الله رَمى "
قال رضي الله عنه : ( وقال تعالى " سَنُرِيهِمْ آياتِنا " أي صفاتنا " في الآفاقِ " وهو ما خرج عنك ) باعتبار كون تعيناتها غير تعينك.
( " وفي أَنْفُسِهِمْ " - وهو عينك ) الذي ظهر فيك بصفاته وإلا لم توجد ( " حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ " - أي للناظر – " أَنَّه الْحَقُّ " - من حيث أنك صورته وهو روحك ) أي يتبين للناظر أنه الحق الذي ظهر في الآفاق والأنفس ، فالناظر وكل واحد من المنظور فيه صورة ، وهو روح الكل ، ولهذا قال ( فأنت له كالصورة الجسمية لك ) لأنك مظهره كما أن الجسمية مظهرك ( وهو لك كالروح المدبر لصورة جسدك ) لأنه الظاهر بصورتك المدبر لها.
قال رضي الله عنه : ( والحد يشمل الظاهر والباطن منك ) يعنى أن الظاهر كالحيوانية مأخوذ في حد الإنسان كالباطن ، أي النفس الناطقة المأخوذ عنها الناطق الباطن في الحد ( فإن الصورة الباقية ) ما دام حيا ( إذا زال عنها الروح المدبر لها لم يبق إنسانا ولكن يقال فيها إنها صورة تشبه صورة الإنسان ) إذ ليس فيها معنى الإنسان ( فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة ، ولا ينطلق عليها اسم الإنسان إلا بالمجاز لا بالحقيقة ) .
قال رضي الله عنه : ( وصور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلا ، فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز كما هو حد الإنسان إذا كان حيا ) بناء على أن الحد يشمل الظاهر والباطن ، لأن صور العالم ظاهر الحق وروح العالم باطنه ولا يمكن زوال روح العالم عن صوره ، فحد الألوهية باعتبار الظاهر والباطن ثابت له بالحقيقة لا بالمجاز كما هو حد الإنسان حال حياته .
قوله ( وكما أن ظاهر صورة الإنسان يثنى بلسانها على روحها ونفسها المدبر لها ) معناه أن صورة الإنسان بحركاتها وإدراكاتها وإظهار خواصها وكمالاتها يثنى على روحها ونفسها .
فإن أعضاء الإنسان وجوارحه أجساد لو لا روحها لم تتحرك ولم تدرك شيئا ، ولا فضيلة لها من الكرم والعطاء والجود والسخاء والشجاعة والصدق والوفاء ، ولا ثناء إلا ذكر الجميل ، فهي تذكر روحها بهذه الصفات الجميلة التي هي اثنية فاتحة ( كذلك جعل الله صور العالم ) التي صورنا من جملتها ( تسبح بحمده ولكن لا يفقهون تسبيحهم ) أي تثنى بخواصها وكمالاتها ، وكل ما يصدر عنها على روح الكل فهو بظاهره يثنى على باطنه فباعتبار تنزيه تلك الصور روحها عن النقائص التي هي أضداد كمالاتها مسبحة له ، وباعتبار إظهارها لتلك الكمالات حامدة ، لكن لا نفقة تسبيحهم لأنا لا نفقة ألسنتهم.
كما لا يفهم التركي لسان الهندي ( لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور ) حتى نضبط أنواع التسبيح والتحميد فلا نحصيها ولكن نعلم على الإجمال.
قال رضي الله عنه : ( فالكل ألسنة الحق ناطقة بالثناء على الحق ولذلك قال – " الْحَمْدُ " ) أي الثناء المطلق من كل واحد على التفصيل ( " لِلَّه رَبِّ الْعالَمِينَ " ) أي الموصوف بجميع الأوصاف الكمالية رب الكل بأسمائه باعتبار أحدية الجمع ( أي إليه ) باعتبار الجمع ( يرجع عواقب الثناء ) التفصيلي (فهو المثنى ) تفصيلا ( والمثنى عليه ) جمعا قوله نظما :
( فإن قلت بالتنزيه كنت مقيدا   ...... وإن قلت بالتشبيه كنت محددا
وإن قلت بالأمرين كنت مسددا  ...... وكنت إماما في المعارف سيدا)
نتيجة لما ذكره ، فمن علم مقدماته علم معناه
( فمن قال بالإشفاع كان مشركا، ومن قال بالإفراد كان موحدا )
أي من قال بالاثنين وأثبت خلقا مباينا للحق في وجوده ، كان مثبتا لشريك له في الوجود قائلا بمتماثلين في الوجود مشبها .
ومن قال بأنه فرد لا يلحقه التعدد وأفرده من جميع الوجوه وجرده عن كل ما سواه وأخرج عنه التكثر للتنزيه ، فقد جعله واحدا منزها عن الكثرة مقيدا بالوحدة ، وقع بالشرك كالأول من حيث لا يشعر ، إذ التعدد والتكثر موجود فقد أخرج بعض الموجودات عن وجوده وثبت التماثل ، ولذلك قال : " فإياك والتشبيه إن كنت ثانيا "
أي إن كنت مثنيا للخلق مع الحق فاحذر التشبيه ، بأن تثبت خلقا غيره بل اجعل الخلق عينه بارزا في صورة التقييد والتعين " وإياك والتنزيه إن كنت مفردا "
أي وإن لم تثبت الخلق معه ، فلا تجرده عن التعدد حتى يلزم وجود متعددات غيره ، لغلوك في التنزيه فتقع فيما تهرب منه أو تعطله فتلحقه بالعدم ، بل اجعله الواحد بالحقيقة الكثير بالصفات ، فلا شيء بعده ولا شيء غيره ، واجعله عين الخلق محتجبا بصورهم ، وهذا معنى قوله قدس الله سره .
"فما أنت هو بل أنت هو وتراه في  ..... عين الأمور مسرحا ومقيدا "
لأن أنت حقيقة بقيد الخطاب أي بكونها مخاطبا وهو تلك الحقيقة مقيدة بقيد الغيبة ، ولا شك أن المقيد بقيد الخطاب غير المقيد بقيد الغيبة ، بل أنت من حيث الحقيقة عين هو باعتبار التسريح والإطلاق ، وتراه في عين الأمور ، أي في صور أعيان الأشياء مقيدا بكل واحد منها مسرحا ، أي مطلقا بكونها في الكل إذ الحقيقة في صور الكل واحدة ، وكل مقيد عين المقيد الآخر وعين المسرح .
قوله رضي الله عنه : ( قال الله تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ "  فنزه ) علم أن الكاف زائدة للتأكيد أي مثله شيء أصلا بوجه من الوجوه ، ومعنى التأكيد أن المراد بالمثل من يتصف بصفاته ، كقولك :
مثلك لا يفعل كذا ، أي من يتصف بمثل صفاتك من غير قصد إلى مثل بل من يناسبك في الصفات ، وإذا انتفى عمن يناسبه كان أبلغ في الانتفاء ، فيرجع معناه إلى قولك أنت لا تفعل كذا لاتصافك بصفات تأبى ذلك ( " وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ "  فشبه ) لأن الخلق سميع بصير .
( قال تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ "  فشبه وثنى ) على أن الكاف ليست بزائدة والمثل النظير فنفى مثل المثل وأثبت المثل فشبهه به وقال بالتشبيه إن المثل آخر يماثله ( " وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " فنزه وأفرد ) إذ تقديم الضمير وتعريف الخبر يفيد الحصر أي وحده السميع البصير دون غيره ، يعنى لا سميع ولا بصير إلا هو ، فنزه عن المثل وأفرد فشبه في عين التنزيه ونزه في عين التشبيه ليعلم أن الحق هو الجمع بينهما .
قوله رضي الله عنه : ( ولو أن نوحا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه ) معناه أن نوحا عليه السلام بالغ في التنزيه لإفراطهم في التشبيه ، وهم أثبتوا التعدد الأسمائى واحتجبوا بالكثرة عن الوحدة فلو لم يؤاخذهم بالتوحيد الصرف والتنزيه المحض وأثبت التعدد الأسمائى ودعاهم إلى الكثير الواحد والكثرة الواحدة .
وألبس الوحدة صورة الكثرة وجمع بين الدعوة التشبيهية والتنزيهية كما فعل محمد عليه الصلاة والسلام لأجابوه بما ناسب التشبيه من ظواهرهم لألفتهم مع الشرك وبما ناسب التنزيه من بواطنهم ، ولكن اقتضى حالهم من التعمق في الشرك القهر بالغيرة الإلهية ، فلم يرسل إليهم إلا ليباريهم ولا يداريهم ( فدعاهم جهارا ) إلى الاسم الظاهر وأحديته القامعة لكثرات الأسماء الداخلة تحته .
فلم يجيبوه بظواهرهم لغلبة أحكام الكثرة عليهم وإصرارهم بها (ثم دعاهم إسرارا ) إلى اسمه الباطن وأحديته الغامرة لكثرات الأسماء المنسوبة إليه ، لعل أرواحهم تقبل دعوتهم بالنور الاستعدادي الأصلي .
فلم يرفعوا بذلك رأسا لتوغلهم في الميل إلى الكثرة الظاهرة وبعدهم عن الوحدة الباطنة ، واستيلاء أحكام التعينات المظلمة الجرمانية عليها (ثم قال لهم : " اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ " ) الواحد ليستركم بنوره عن هذه الحجب الظلمانية والهيئات الفاسقة ( "إِنَّه كانَ غَفَّاراً " ) كثير الستر لهذه الذنوب المربوطة .
وشكا إلى ربه لبعدهم عن التوحيد ومنافاتهم عن حاله ( وقال " دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا " ) إلى الباطن ( "ونَهاراً " ) إلى الظاهر ( " فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً " ) لبعدهم عن التوحيد ونفارهم عما فيه ( وذكر عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته ) لأنهم فهموا بحكم ما غلب عليهم من الاحتجاب بالكثرة من الاستغفار الستر عما لا يوافقهم وينافي مقامهم وحالهم ودينهم من التوحيد الذي يدعوهم إليه ( لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته ) أي لما علموا بحسب اقتضاء حالهم ومقامهم أن إجابة دعوته في مقام التقييد الأسمائى .
إنما يجب على هذه الصورة
قال رضي الله عنه ( فعلم العلماء باللَّه ما أشار إليه نوح في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم ) فإن العزيز الجليل لما تعزز بجلاله ، وأقام أهل الذل والتأخير في مرتبة خير من مراتب جميع الوجود كان هو المانع عن تقدمهم ، فيكون العالم باللَّه الهادي بهدايته يذمهم بلسان الاسم الهادي بذم هو عين الثناء والمدح بلسان التوحيد ، لعلمه بأن إجابتهم الداعي إلى المقام الأعلى ومقام الجمال والتقدم لا تكون إلا هذه الصنعة.
وكلما كان المدعو أصلب في دينه وأشد إباء الداعي إلى ضد مقامه كان أشد طاعة وقبولا لأمر ربه وحكمه حتى إن إباء إبليس عن السجود وعصيانه واستكباره بحسب ظاهر الأمر عين سجوده وطاعته وخدمته وتواضعه لربه باعتبار الإرادة ، فإن العزيز الجليل أقامه في حجاب العزة والجلال ذليلا محجوبا حتى يكون إبليس .
فلم يكن له بد من موافقة مراده لذلك أقسم بعزته ، فإن الإغواء مقتضى العزة والاحتجاب بحجب الجلال ( وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان ) أي التفصيل وترك شق من الوجود إلى شق آخر ، أي من صورة الكثرة إلى الوحدة ، ومن اسم المذل إلى المعز ، ومن المفضل إلى الهادي ( والأمر قرآن ) أي الأمر الإلهي ( لا فرقان ) أي والأمر الإلهي جامع شامل للمراتب كلها ، فللذئب دين وللغنم ، وكل يدين بدينه مطيع لربه مسبح له بحمده .
قوله ( ومن أقيم في القرآن ) أي في الجمع ( لا يصغى إلى الفرقان ) أي التفصيل (وإن كان فيه) أي وإن كان الفرقان في القرآن ( فإن القرآن يتضمن الفرقان ، والفرقان لا يتضمن القرآن ) أي فإن تفاصيل المراتب والأسماء المقتضية لها موجودة في الجمع والجمع لا يوجد في التفاصيل ، أو وإن كان الذي أقيم في القرآن ولا يصغى في الفرقان في عين الفرقان فإن التفاصيل موجودة في الجمع ، وأهل كل مرتبة في مراتب التفصيل أهل تفرقة فرقانية في عين الجمع كقوم نوح فإنهم أهل الحجاب وعباد الكثرات ، لا يجيبون إلى التوحيد وتنزيه التجريد .
ومن كان مرتبته الجمع كنوح عليه السلام يطلع على مراتبهم ويعذر الكل ، ويعلم أن إنكارهم عين الإقرار وفرارهم عين الإجابة ، كما قال على كرم الله وجهه : يشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذى الجحود ( ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله عليه وسلَّم ، وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس ) أي ولأن القرآن يتضمن الفرقان إنما اختص به محمد عليه الصلاة والسلام وأمته لأنه الخاتم .
فكان جامعا لمقتضيات جميع الأسماء بجمع التنزيه والتشبيه في أمر واحد ، كما قال ( فليس كمثله شيء ، فجمع الأمور في أمر واحد ) وأثبت الفرق في الجمع والجمع في الفرق ، وحكم بأن الواحد كثير باعتبار والكثير واحد بالحقيقة ، ولهذا بعث عليه الصلاة والسلام بالحنيفية السمحة السهلة ، وأما صاحب الفرقان فأمره صعب ودعوته أصعب وأشق ، لأنه إن دعا إلى التنزيه والتوحيد والجمع بدون التفصيل أجابوه بمفهوم قوله : " ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ " . 
فلا فرق بين الهادي والمضل ولا بين العاصي والمطيع ، بل لا عاصى في هذا الشهود كما أجاب قوم نوح دعوته ، وإن دعا إلى التشبيه والتفصيل أجابوه بمثل قول قوم موسى " أَرِنَا الله جَهْرَةً " - وقولهم – " اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ " - لأن الداعي في شق والمدعو في شق ، فكل يرجع جانبه ويخالف عن سمته إلى ما يقابله ، بخلاف من جمع بين الجمع والتفصيل والتشبيه والتنزيه .
( فلو أن نوحا عليه السلام يأتى بمثل هذه الآية لفظا لأجابوه ، فإنه شبه ونزه في آية واحدة بل في نصف آية ) أي كانت دعوة نوح عليه السلام إلى التنزيه المحض ، لكون قومه محتجبين بعبادة الأصنام لتأدية دعوة الأنبياء السالفة إلى نفى الكثرة الأسمائية المؤدية إلى ذلك ، فنفروا عن ذلك نفور الضد عن الضد .
فلو جمع بين التنزيه والتشبيه كما ذكر في الآية لأجابوه لوجود المناسبة.
قال رضي الله عنه : ( ونوح دعا قومه ليلا من حيث عقولهم وروحانيتهم فإنها غيب ، ونهارا دعاهم أيضا من حيث ظاهر صورهم وجئثهم ، وما جمع في الدعوة مثل – " لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ " - فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان فزادهم فرارا ) ظاهر مما سلف لأنه تقرير له.
قال رضي الله عنه : ( ثم قال عن نفسه إنه دعاهم ليغفر لهم لا ليكشف لهم وفهموا ذلك منه صلى الله عليه وسلم ، لذلك جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ، وهذه كلها صورة الستر التي دعاهم إليها ، فأجابوا دعوته بالفعل لا بلبيك ) لأن الكشف إنما يكون لمن غلبت روحانيته ونورانيته بغلبة نور الوحدة والقوة العقلية على ظلمة الكثرة والقوة الحسية وهم أهل الهيئات الظلمانية المحتاجون إلى سترها بالنور القدسي.
فلذلك فهموا من الستر بمقتضى حالهم الستر الصوري ، فأجابوا دعوته في صورة الرد والإنكار بالستر لغلبة حكم الحجاب عليهم وكونهم أهل علتهم وكونهم أهل المعصية المقبلين على عمارة عالم الملك والاحتجاب .
كما لو قال تعالى « إنى جعلت معصية آدم سببا لعمارة العالم » فهم مدبرون بالطبع عما دعاهم إليه مقبلون إلى ضد جهته ، فلا تكون إجابتهم إلا في صورة التضاد إجابة فعلية ( ففي – " لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ " - إثبات المثل ونفيه . 
وبهذا قال عن نفسه صلى الله عليه وسلَّم إنه أوتى جوامع الكلم ، فما دعا محمد عليه الصلاة والسلام قومه ليلا ونهارا بل دعاهم ليلا في نهار ونهارا في ليل )
 أي في هذه الآية جمع بين التشبيه والتنزيه فهو كالنتيجة لما سبق التقرير له وبهذا الجمع أخبر عن نفسه أنه أوتى جوامع الكلم أي الأسماء الإلهية ومقتضياتها كلها ، فما دعا إلى الظاهر وأحكامه فقط وإلى الباطن وأحكامه ، بل جمع بين الباطن والظاهر بأحدية الجمع باطنا في الظاهر وظاهرا في الباطن ، أي الكل من حيث أنه واحد متجمل فيهما .
قوله ( فقال نوح عليه السلام في حكمته لقومه – " يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً " ) معناه أن نوحا عليه السلام لما رأى إجابتهم الفعلية بحكم مقامهم وحالهم ، حيث فهموا من الاستغفار طلب الستر ومن الغفران الستر وحملوا عليه قوله مستهزءين مستخفين لمنافاة حالهم حاله ، نزل عن مقامه ليمكر بهم فيهديهم من حيث لا يشعرون.
فتكلم بما ظاهره مناسب ما اختاروه من الظواهر ، وباطنه يناسب معقولهم الذي يتبعونه ويتلقونه بأفكارهم وعقولهم ، المشوبة بالوهم ، المحجوبة عن الفهم ، المشغولة عن نور القدس بظلمة عالم الرجس ، فقال – " يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً " - أي يستر الظلمات التي هي الصفات النفسانية والهيئات الفاسقة الجرمانية بنور الروح ، فيرسل من سماء العقل المجرد مياه العلوم.
( وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري ) المؤدى إلى الحقائق والمطالب النظرية (" ويُمْدِدْكُمْ " عند إدراككم المعارف العقلية والمعاني الكلية التنزيهية ، ويجردكم عن الغشاوى الطبيعية " بِأَمْوالٍ " - أي بما يميل بكم إليه ) من الواردات القدسية والكشوف الروحية والتجليات الشهودية الجاذبة إياكم إليه.
( فإذا مال بكم إليه ) أي جذبكم البارق القدسي والتجلي الشهودى إليه ( رأيتم صورتكم فيه ) كما مر ( فمن تخيل منكم أنه رآه فما عرف ) لأنه أكبر من أن يتجلى في صورة واحدة ( ومن عرف منكم أنه رأى نفسه ) أي رأى الحق في صورة عينه ( فهو العارف فلهذا انقسم الناس ) أي أهل الوجدان الذين هم الناس بالحقيقة ( إلى عالم باللَّه وغير عالم به ) .
كما هو الأمر عليه (وولده وهو ما أنتجه لهم نظرهم الفكرى ) أي ولما اشتد احتجابهم بالظواهر وتقيدوا بها كانت عقولهم مشوبة بالأوهام لم تتجاوز إلى المعارف المجردة الكلية في التنزيه عن مقتضيات أفكارهم العاديات والقياسيات العرفية المقيدة بالقيود الوهمية والتخييلية ، واحتجبت بالتعينات والتقيدات العقلية المطابقة لمدركاتها الوهمية والتخييلية والحسية في التقيد ( والأمر موقوف علمه على المشاهدة بعيد عن نتائج الفكر ) فأنكروا لما دعاهم إليه أشد إنكار واتبعوا معقولهم العادي.
فشكا نوح إلى ربه بقوله : " رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي واتَّبَعُوا من لَمْ يَزِدْه مالُه ووَلَدُه "  " إِلَّا خَساراً " - أي اتبعوا من ينزه الله التنزيه التقييدى الفكرى الموجب تشبيهه تعالى بالأرواح في التقييد ، فلم يزده ماله .
أي علمه ، ومعقوله الفكرى وولده أي ما أنتجه فكره في المعرفة ، فهو معتقده من إله مجعول متصور ، إلا خسارا بزوال نور استعدادهم الأصلي لاحتجابهم بمعقولهم.
قال رضي الله عنه : ( إلا خسارا, فما ربحت تجارتهم ) وما كانوا مهتدين ( فزال عنهم ما كان في أيديهم مما كانوا يتخيلون أنه ملك لهم ) وهو ما حصلوا بأفكارهم من معقولهم وما حسبوا النجاة فيه من الإله الاعتقادى وما توهموا أنه يمنحهم لأن الأمر كما قال موقوف علمه على المشاهدة بعيد عن نتائج الفكر .
ولا يزيد الفكر فيه إلا احتجابا بصورة معتقدهم ( وهو في المحمديين ) الضمير راجع إلى ما كانوا يتخيلون أنه ملك لهم ، أي ما تخيلوا أنه ملك لهم ثابت في المحمديين ، لقوله تعالى في حقهم " وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه " أمرهم بالإنفاق ليرجع بسبب إنفاقهم ما منه إليه ، ولما استخلفهم استأثر بالملك وجعلهم خلفاء فيه لأن الملك للمستخلف لا للمستخلف ( وفي نوح عليه السلام ) .
أي وفي النوحيين أو في قوم نوح ، لأن هذا الخطاب لبني إسرائيل وما هم ذرية نوح حين قال – " وآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وجَعَلْناه هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ " ( ألا تتخذوا من دوني وكيلا ) ذرية من حملنا مع نوح ( وأثبت الملك لهم والوكالة لله فيه ) فإن الملك إنما يكون للموكل لا للوكيل ، فلم يجعلهم خلفاء متصرفين وجعلهم مالكين .
لأنه تعالى هو الظاهر في صورة أعيانهم وما ملكت أيمانهم ، فالكل مالكون بتمليكه إياهم لا بأنفسهم ، ولكن لا يشعرون ، فما استحقوا الخلافة لأنهم لا يعرفون قدر الملك ، واستحقها المحمديون لمكان عرفانهم ( فهم ) أي المحمديون ( مستخلفين فيهم ) في أنفسهم أي في قوم نوح وفي الأمم كلهم لأنهم من جملة الملك.
( فالملك لله وهو وكيلهم ) لأن الوكالة الثابتة في النوحيين ثابتة في حقهم ، لقوله : " لا إِله إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْه وَكِيلًا " - وقالوا – " حَسْبُنَا الله ونِعْمَ الْوَكِيلُ " وإذا كان الله وكيلهم فالملك لهم وهو عين الملك الذي قال فيه ( وذلك ملك الاستخلاف ) وهو في المحمديين. فهم فيه مستخلفون فيهم.
قال رضي الله عنه : ( وبهذا كان الحق مالك الملك ، كما قال الترمذي ) وهو إشارة إلى ما ذكر الشيخ العارف محمد بن على الحكيم الترمذي من جملة سؤالاته لأنه التي سأل عنها الخاتم للولاية قبل ولادة الشيخ العارف محيى الدين بما يأتى سنة وهو قوله ما ملك الملك ، وإلى هذا المعنى أشار الشيخ العارف أبو يزيد البسطامي قدس الله روحه في مناجاته .
وقد تجلى له الملك الحق المبين فقال : ملكى أعظم من ملكك لكونك لي وأنا لك ، فأنا ملكك وأنت ملكى ، وأنت العظيم الأعظم وملكى أنت فأنت أعظم من ملكك وهو أنا .
قوله  رضي الله عنه : ( " ومَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً " - لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية – " أَدْعُوا إِلَى الله " - فهذا عين المكر – " عَلى بَصِيرَةٍ " - ) معناه أن الدعوة إلى الله دعوة منه إليه لأن الله عين المدعو والداعي والبداية والغاية لكونه عين كل شيء فهو مكر بالمدعو لأن المدعو مع الله فكيف يدعى إلى الله فقابلوا مكر الداعي بمكر أعظم من مكره .
فقالوا : " ولا تَذَرُنَّ وَدًّا ولا سُواعاً ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْراً " فإنهم إذا تركوهم ، فقد تركوا الحق وجهلوه بقدر ما تركوا من هؤلاء ، فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله ، فهم مقرون بما يدعو الداعي إليه .
وفي صورة الإنكار مجيبون دعوته في صورة الرد من حيث لا يشعرون ، فإن الدعوة فرقان وهم في القرآن ، فكأنهم مع كفرهم يقولون قد أتينا الله ونحن معه فإن المدعو معه عين المدعو إليه في شهود المكاشف وغيره في اعتقاد غير المكاشف .
فعندهم أنه لو أجابوه ظاهرا لتركوا الحق إلى الباطل فلذلك كان مكرهم أكبر من مكره ، فقوله ادعوا إلى الله عين المكر على بصيرة أي على علم بأن الدعوة منه إليه ( فنبه عليه السلام أن الأمر له كله ) وأنه يدعو بأمر الله والمدعو يجيبه بالفعل وأنه مطيع بما أمر به واقف مع ما خلق له وأريد منه تحت حكم قاهر وسلطنة أمر باهر .
وهو معنى قوله ( فأجابوه مكرا كما دعاهم ) على ما ذكر آنفا لكنه يعلم أن صلاح المستعدين المجيبين في قبول الدعوة من حيث أنهم وقعوا في غاية التفرقة والحجاب وتعمقوا في أقاصى عالم الإمكان فلو أجابوا لخرجوا من التفرقة إلى الجمع ، وخلصوا من مهاوي الإمكان إلى ذرى الجمع ، وبلغوا كمالهم الجمعى الذي منه يبدأ الأمر وإليه عاد.
ولهذا قال رضي الله عنه : ( فجاء المحمدي وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته ) لأن الهوية الأحدية مع الكل سواء ( وإنما هي من حيث أسماؤه ) فيدعون من الاسم الخافض إلى الرافع ومن اسم المنتقم إلى الرحيم ومن اسم المضل إلى الهادي .
( فقال تعالى : " يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً " فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم ) ليعلم أن الرحمن اسم شامل لجميع الأسماء فيكون العالم تحت إحاطته ، إذ لا فرق بينه وبين اسم الله .
كما قال : " قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَه الأَسْماءُ الْحُسْنى " وكل طائفة من أهل العالم تحت ربوبية اسم من أسمائه ومن كان تحت ربوبية اسم كان عبدا لذلك الاسم ، فيدعوهم رسول الله من تفرقة تلك الأسماء إلى حضرة جمع اسم الرحمن أو اسم الله وهي الدعوة على بصيرة .
لأنه تحصين من رق الآلهة المتشاكسة إلى عبودية الإله الواحد ، كما قال تعالى :" ضَرَبَ الله مَثَلًا رَجُلًا فِيه شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ورَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ "  واسم الرحمن يحكم على عباده بأن يكونوا متقين ويوجب عليهم التقوى ، وهو على معنى قوله :
( فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهى أوجب عليهم أن يكونوا متقين ) وحقيقة التقوى أن يجتنب الإنسان من إضافة الخيرات والكمالات والصفات الحميدة إلى نفسه أو غيره إلا إلى الله ، ويتقى به من أفعاله وصفاته فإنها شرور من معدن الإمكان ، فيطلع على سر قوله  : " وما أَصابَكَ من سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ " لأن الشرور أمور عدمية وأصله العدم ومنبعه الإمكان .
قوله ( فقالوا في مكرهم :" لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ولا تَذَرُنَّ وَدًّا ولا سُواعاً ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْراً " - فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء ، فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله ) مر تقريره ( في المحمديين "وقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه " أي حكم ربك ) رب الكل أن لا موجود سواه فلا يرى في صورة الكثرة إلا وجهه فيعلم أنه هو الذي ظهر في هذه الصور فلا يعبد إلا الله لأن صور الكثرة في الوجود الواحد إما معنوية غير محسوسة كالملائكة وإما صورية محسوسة كالسماوات والأرض وما بينهما من المحسوسات .
فالأولى بمثابة القوى الروحانية في الصور الإنسانية ، والثانية بمثابة الأعضاء ، فلا تقدح هذه الكثرة في أحدية الإنسان وهو معنى قوله ( فالعالم يعلم من عبد وفي أيّ صورة ظهر حتى عبد ، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية ،فما عبد غير الله في كل معبود فالأدنى).
قال رضي الله عنه :  ( فالأدنى من تخيل فيه الألوهية ) أي الجاهل المحجوب أي معنى الألوهية فهو أن يصور فيه هيئة مخصوصه متخيلة فإن الخيال لا يدرك إلا مشخصا فعبد ذلك المتخيل ( فلو لا هذا التخيل ) أي تخيل معنى الألوهية فيه ( ما عبد الحجر ولا غيره ولهذا ) أي ولأن الله أراد أن يبصرهم أنهم إنما يعبدون خيالهم.
( قال : " قُلْ سَمُّوهُمْ "  فلو سموهم لسموهم حجرا أو شجرا أو كوكبا ) فافتضحوا وانتهوا عن الشرك ( ولو قيل لهم من عبدتم لقالوا إلها ) بناء على ما تخيلوا فلزمهم تعدد الآلهة لأنهم ( ما كانوا يقولون الله ولا الإله ) إذ لم يرد الله الواحد المتجلى في صورة الكثرة ( والأعلى ) أي العالم العارف الكاشف بالحق ( ما تخيل ) نفى أي لم يتخيل ( بل قال هذا مجلى إلهى ينبغي تعظيمه فلا يقتصر ) أي على ذلك المتعين بل يرى كل شيء مجلى له ، فيرى تعدد المجالى من تجليه الأسمائى وأحدية المتجلى من تجلى وجهه فيها أي ذاته ( فالأدنى صاحب التخيل يقول : "ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى " ) لأنه تخيل في كل واحد منها إلها صغيرا وتخيل ما سمى الله إلها متعينا أكبر ، فلم يعبد إلا ما تخيله من الآلهة المجعولة ( والأعلى العالم يقول : " فَإِلهُكُمْ إِله واحِدٌ فَلَه أَسْلِمُوا " حيث ظهر ) أي انقادوا أو سلموا وجوداتكم له بالفناء فيه ( وبشر المخبتين الذين خبت نار طبيعتهم ).
أي المتذللين الخاشعين من الانكسار والتواضع لعظمة الله ، وقوله خبت ليس من الإخبات بل من الخبو لأن العلو والتكبر إنما يكون من الطبيعة النارية كما قال إبليس : " أَنَا خَيْرٌ مِنْه خَلَقْتَنِي من نارٍ "  فإذا خمدت الطبيعة النارية فيهم انكسرت الأنانية الحاجبة لله تعالى ( فقالوا إلها ولم يقولوا طبيعة ) لخبوها إذا لم يعرفوا إلا ما هو الغالب فيهم ، فإذا خبت نار الطبيعة ظهرت الإلهية وغلبته ( وقد أضلوا كثيرا أي حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب ) ولما غلب عليه التوحيد الذاتي المحمدي
في قوله رضي الله عنه : « عرفت الأشياء باللَّه حين سئل بم عرفت الله » حمل الآية على صورة حاله .
وفسر إضلال الأصنام أي صور الكثرة لمن نظر فيها بعين التوحيد بالتحير لشهود الواحد المطلق الحقيقي متعددا بحسب الإضافات إلى المظاهر حتى ترى أي الوجه الواحد وجوها مختلفة باختلاف المظاهر التي هي مراياه كما قال المحمدي :
وما الوجه إلا واحد غير أنه .....   إذا أنت أعددت المرايا تعددا
فتحير بين أحديته وكثرته ،
وفسر الظالمين في قوله : " ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ " بالمحمديين الظالمين ( لأنفسهم من جملة المصطفين الذين أورثوا الكتاب ) أي كتاب العقل القرآنى وهو كتاب الجمع والوجود الأحدى وجعلهم ( فهم أول الثلاثة ) في قوله تعالى : " فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِه ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ "  لأنهم شاهدوا الواحد كثيرا فعددوا الواحد فساروا من الواحد إلى الكثير ، ولذلك قال ( فقدمه على المقتصد والسابق ) أي فضله باعتبار سيره ونظره من الواحد إلى الكثير .
بناء على ما أورده الترمذي في صحيحه عن أبى سعيد ، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في هذه الآية « هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة » وإنما فضله على الباقين لأن المقتصد هو الشاهد للكثرة في الواحد .
والواحد في الكثرة جامعا في شهوده بين الحق والخلق .
والسابق بالخيرات هو الذي شهد الكثير واحدا .
فوحد الكثير وسار من الكثير إلى الواحد ، فهما ليسا في الحيرة لكونهما معتبرين للخلق مع الحق ، وأما هذا الظالم فلا يرى إلا الواحد الحقيقي كثيرا بالاعتبار ، فله الضلال أي الحيرة أبد الآباد فمن حقه أن لا يزيده الله ( " إِلَّا ضَلالًا " إلا حيرة المحمدي ) أي إلا حيرة المحمدية بالإضافة في قوله ( زدني فيك تحيرا ) أو إلا حيرة بالتنوين ورفع المحمدي أي قال :
المحمدي زدني فيك تحيرا وهو أصوب وأوفق لقوله ضلالا – (" كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيه وإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ") هذا وصف حيرتهم .
فإنهم إذا تجلى نور الأحدية مشوا أي ساروا سير الله ، وإذا أظلم عليهم بالاستتار وظهور حكم الكثرة والحجاج وقفوا متحيرين ( فالحائر له الدور ) أي السير باللَّه ومن الله وإلى الله ، فسيره سير الله منه المبدأ وإليه المنتهى ، فلا أول لسيرة ولا آخر ( والحركة الدورية حول القطب ) شبه لقرب الحائر وملازمته للحضرة الأحدية ولذلك قال ( فلا يبرح منه ).
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالأحد يوليو 21, 2019 5:59 pm

03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية  الجزء الثاني

ثم قال رضي الله عنه : ( وصاحب الطريق المستطيل ) . أي الأدنى الجاهل المحجوب الذي تخيل أن الله بعيد منه ( مائل خارج عن المقصود طالب ماهر فيه صاحب خيال ) لأنه تخيل أن الله بعيد خارج عنه فيطلبه من خارج وهو فيه ( إليه ) أي إلى ذلك الخيال ( غايته فله من وإلى وما بينهما ) أي فله ابتداء من نفسه على ما يتوهمه وهو في الحقيقة من الله الحاصل فيه ، وانتهاؤه إلى غاية الخيال الذي تخيله وما بينهما من المسافة التي توهمها وحسبها الطريق إلى الله.
 فهو يبعد بسيره عن الله دائما (وصاحب الحركة الدورية لا بداية ) أي لسيرة في شهوده ( فيلزمه من ولا غاية فتحكم عليه إلى فيلزمه ) منصوب جوابا للنفي وكذا فتحكم أي لا ابتداء لسيرة حتى يلزمه من ، ولا انتهاء حتى تحكم عليه إلى ( فله الوجود الأتم ) أي المحيط بكل شيء ، فسيره سير لله في الله باللَّه ( وهو المؤتى جوامع الكلم والحكم ) يعنى نبينا محمدا عليه الصلاة والسلام ومن اتبعه من المحبوبين من أمته المحبين الذين أراد الله بخطابه لنبيه " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله " .

فإن مشهدهم الحق – " فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه الله " – " قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ " – " مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ " يريد حيرة المحمديين والجمع باعتبار تعددهم وكثرتهم ولهذا وصفها بقوله ( فهي التي خطت لهم ) أي حازت بهم من خطط تعيناتهم وأنياتهم ( فغرقوا في بحار العلم باللَّه وهو الحيرة ).

أي في الأحدية السارية في الكل المتجلية في صورة الكثرة المحيرة بتعينها في كل شيء مع لا تعينها في الكل وإطلاقها وتقييدها ( " فَأُدْخِلُوا ناراً " في عين الماء ) أي نار العشق بنور سبحات وجهه المخترقة بجميع التعينات والأنيات في عين بحر ماء العلم باللَّه ، والحياة الحقيقية التي يحيا بها الكل من وجه ويفنى بها الكل من وجه ، فلا حيرة أشد من الحيرة في شهود الغرق والحرق مع الحياة والعلم والفناء مع البقاء ( في المحمديين " وإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ " ) من سجرت التنور إذا أوقدته .
فإن عين بحار العلم باللَّه في الكل عين إيقاد نار العشق المحرق .

قال رضي الله عنه : (" فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ من دُونِ الله أَنْصاراً " ) لأن الله إذا تجلى بذاته لهم أحرقهم وكل ما في الكون فلم يبق أحد ينصرهم ، لكن الله أحياهم به .

كما قال : ومن أحيانى فأنا قتلته ، ومن قتلته فعلىّ ديته ، ومن علىّ ديته فأنا ديته ولهذا قال (فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد ) لأن هلاكهم فيه عين حياتهم وبقائهم به ، فهو المهلك المبقى وهو الناصر المحيي ( فلو أخرجهم إلى السيف سيف الطبيعة ، لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة ) أي لو أنجاهم من الغرق في هذا البحر إلى ساحل الطبيعة ، وتركهم مع تعيناتهم ، لانحطوا عن هذه المرتبة إلى عالم الطبيعة ، واحتجبوا بتعيناتهم عنه.
( وإن كان الكل لله وباللَّه بل هو الله ) أي وإن كان أهل الطبيعة بائنين لله وباللَّه قانتين ، بل كل ما في الوجود هو الله ، ولكن بحسب الأسماء تتفاضل الدرجات وتتفاوت ، وبين الخافض والرافع والديان والرحمن بون بعيده .

قال رضي الله عنه : ( قال نوح رب ) المراد بالرب الذات مع الصفة التي يقتضي بها حاجته ويسد خلته ، فهو اسم خاص من أسمائه بالأمر الذي دعاه إليه وقت النداء ولذلك خص بالإضافة ( ما قال إلهى فإن الرب له الثبوت ) أي الثبوت على الصفة التي يكفى بها مهمه .
من غير أن يتحول إلى صفة أخرى فيكون اسما آخر ( والإله يتنوع بالأسماء فهو " كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ " فأراد بالرب ثبوت التلوين ) أي ثبوت ظهوره في صورة توافق مراده في دعائه وهو التلوين ( إذ لا يصح إلا هو ) في مقام الإجابة لدعائه .
وهو قوله " لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ " أي حال الظهور في الفوق الذي هم مستهزؤن به وهو ظاهر الأرض (يدعو عليهم أن يصيروا في بطنها) وذلك عين دعوته لهم إلى الباطن الأحدى الجمعى ( المحمدي : لو دليتم بحبل لهبط على الله ) أي هو التحت كما هو الفوق.
 وقال : " لَه ما في السَّماواتِ وما في الأَرْضِ "  أي الظهور بصورها.

قال رضي الله عنه : ( فإذا دفنت فيها فأنت فيها وهي ظرفك ) فأنت فان في باطنيته " وفِيها نُعِيدُكُمْ ومِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى " (لاختلاف الوجود ) عند الإعادة فيها بالباطنية .

وهي استهلاك تعيناتهم وكثرة أنياتهم الظاهرة في صورة الخلق بظاهر أرض الفوق ، في أحدية عين الحق ، وعند الإخراج منها بالظاهرية في المظاهر الخلقية ، وصور التعينات المختلفة ( من الكافرين ) أي الساترين وجه الحق بسترات استعداداتهم ( الذين استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم طلبا للستر ) لأنهم فهموا بحكم احتجابهم من الغفر ذلك كما ذكر وهو معنى قوله ( لأنه دعاهم ليغفر لهم والغفر الستر ) .
قوله : ( " دَيَّاراً " أحدا حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة ) معناه أنه عليه السلام إنما دعا المحتجبين بالكثرة الذي هم عباد صور الأسماء عن الوحدة لينقذهم عن مهلكة الشقاء الذي هو اختلاف وجوه الأسماء إلى منجاة السعادة التي هي أحدية وجه الذات ، وعن ظلمانية الجلالية إلى نور جمال الذات.

 فلما تحقق أنهم أهل الحجاب الذين لا يعبدون إلا صور الكثرة الأسمائية ، ولا تزيدهم الدعوة إلا زيادة الاحتجاب لقوة الشيطنة ونفاذ حكم الإرادة الإلهية فيهم بالعزة ، دعا ربها الناصر له باسم القهار المنتقم ليستر صور اختلافهم وتعيناتهم الظاهرة في ظاهر أرض الفوق بأحدية اسم الباطن في باطنها .

كما ستروا وجود استعداداتهم واستتروا عن سماع دعائه ، فتعم منفعة أثر الدعوة وهي صلاحهم بالرد عن الكثرة إلى الوحدة والمنع عن التمادي للتفرقة والبعد ، فإن نفاذ الفساد صلاح لهم وصلاح من بقي بعدهم من المؤمنين ، فلا يضلوهم ولا يهلكوهم ويحيروهم كما عمت الدعوة جميعهم.

قال رضي الله عنه : (" إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ " أي تدعهم وتتركهم " يُضِلُّوا عِبادَكَ " أي يحيروهم ، فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية ، فينظرون أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عند نفوسهم عبيدا ، فهم العبيد الأرباب ) أي إن هؤلاء إن تركتهم مع أهوائهم ، تظاهروا بأنياتهم التي هي هوية الأحدية المنصبغة بأنوار مظاهرهم .
فلا يتحركوا إلا إلى الغلو والطغيان ، فيخرجوا عبادك بدعوتهم إلى الأنية الشيطانية من العبودية التي هم عليها إلى ما فيهم من معنى الربوبية مع كونهم عبيدا فيتحيروا ويكونوا شر الناس كما قال عليه الصلاة والسلام « شر الناس من قامت القيامة عليه وهو حى » .
فإن الهادئ يدعو إلى طاعة الرحمن ، ليتفانوا عن حياة الهوى وينسلخوا عن رسومهم فيموتوا عن أنياتهم الحاجبة للحق ، فيحيوا بالحياة الحقيقية الأبدية ، والمضل يدعو إلى طاعة الشيطان ، فيمدهم إلى طغيانهم بتقوية أنانيتهم ، فيطلعهم على سر الربوبية .
فهم مع بقاء الهوى وحياة الأنية والأنانية ، أي الأحدية المنصبغة بلون الكثرة وأحكام الإمكان التي هم بها عبيد ، فينظرون أنفسهم أربابا مع كونهم عبيدا ، فيكونون شر الناس عبيدا أربابا عند أنفسهم ، وذلك عين الحيرة والضلال والهلاك ، بخلاف حيرة المحمدي ، فإنها بعد فناء الأنية في الأحدية والموقت الحقيقي والنظر إلى نفسه بأنه لا شيء محض.

قال رضي الله عنه : (" ولا يَلِدُوا " أي ما ينتجون ولا يظهرون " إِلَّا فاجِراً " أي مظهرا ما ستر "كَفَّاراً " أي ساترا ما ظهر بعد ظهوره) أي لأنهم فاجرون بإظهار أنانيتهم الشيطانية ودعوى الربوبية ، كفارون بستر الحقيقة الإلهية بأنانياتهم فلا يكون أولادهم إلا على صور أسرارهم .
كما قال عليه الصلاة والسلام: « الولد سر أبيه » فلا يلدوا إلا مظهرا لأنانيته بدعوى الربوبية المستورة فيه زورا وكذبا ، ساترا بأنانية الحقيقة الإلهية التي ظهرت بصورته بعد ما ظهرت ، فيكون متلبسا على عباد الله في دعواه.
( فيظهرون ما ستر ثم يسترونه بعد ظهوره ) أي فيظهرون بالدعوى ما ستر من الربوبية المستورة ، ويدعون بأنانيتهم أنهم الرب ، يعنى يدعون أن الأنانية الظاهرة هو الرب المستور فيهم زورا وكذبا.

ثم إنهم على الحقيقة لا يرون الذي يدعون ظهوره بعد ظهورهم في صورهم على الحقيقة ( فيحار الناظر ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره ولا الكافر في كفره والشخص واحد ) أي يحار الناظر الطالب للحق في الإظهار والستر .

ولا يعرف أن الفاجر في إظهار الربوبية بدعواه إياها ساتر لها في سترها هو ذلك المظهر كذبا وزورا والحال أن الشخص المظهر الساتر واحد وهو عين الضلال والتحير .
قال رضي الله عنه : " رَبِّ اغْفِرْ لِي " أي استرني واستر من أجلى ، فيجهل مقامى وقدرى كما جهل قدر الله في قولك " وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِه " أي استر بنور ذاتك أنانيتى .
واستر بنور صفاتك رسومى وآثارى ، وقوى نفسى وطيعتى لأجلي ، أي خلصني من التلوين بظهورها لأكون محوا بكليتى فيك ، فأينا مجهول القدر كما وصفت ذاتك.
قال رضي الله عنه :  ( ووالدى من كنت نتيجة عنهما وهي العقل والطبيعة ) أراد بالعقل والطبيعة الروح والنفس ، أو ردهما على اصطلاح الحكماء.
 وأراد بالنتيجة القلب الحاصل منهما ، فإن الحقيقة الإنسانية المعبر عنها بأنا وسرها من حملة السر لأجله ، حتى لا يبقى منه أصل واسم ورسم فلا ينعت فلا يعرف ( " ولِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ " أي قلبى " مُؤْمِناً " مصدقا بما يكون فيه من الإخبارات الإلهية وهو ما حدثت به أنفسهم ) ولما استجيب دعاؤه بالفناء باللَّه أقام أنية الله مقام أنانيته ، وكان بيته قلبه لقوله عليه الصلاة والسلام «قلب المؤمن بيت الله » .
وقوله حاكيا عن ربه:  « لا يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدى المؤمن » ومن حق التجلي الإلهي أن يفنى ما تجلى له فلم يبق إلا هو ، فكان أحاديث قلبه إخبارات إلهية وكان من دخله مصدقا بها عارفا واصلا مثله ، فيلزم أن تكون أحاديث أنفسهم من تلك الإخبارات الإلهية .
لأن القلب ومن دخله في مقام الفناء في عين أحدية الجمع.

فكل ما هجس ببال منهم كان إخبارا إلهيا ، وضمير الجمع وصيغته في أنفسهم لمن دخل محمول على المعنى ، وفي بعض النسخ : أنفسها على تأويل النفوس والأعيان ( وللمؤمنين من العقول والمؤمنات من النفوس ) ظاهر  (ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ " من الظلمات أهل الغيب المكتنفين خلف الحجب الظلمانية ) أول الظالمين بذوى الظلمات من قوله عليه الصلاة والسلام « الظلم ظلمات يوم القيامة » وفسرهم بأهل الغيب بحسب ما عليه من الحال والاستغراق في الغيب .

وقوله أهل الغيب بيان لهم ، المكتنفين أي المتخذين أكنافهم والمتوطنين خلف الحجب الظلمانية وراء الأستار الحجابية والأطوار الجسمانية الظلمانية ، المحتجبين في حظائر القدس عن أعين الناظرين ( " إِلَّا تَباراً " أي إلا هلاكا ) في الحق ( فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحق دونهم ) .

قوله 
رضي الله عنه :  ( في المحمديين " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه " والتبار : الهلاك ) يجوز أن يكون صفة للظالمين : أي الظالمين الكائنين ، أو حالا أي كائنين في المحمديين والمراد ظالمو أمة محمد عليه الصلاة والسلام من المصطفين .
أو صفة لهلاكا أي هلاكا واقعا في المحمديين أو في زمرتهم ، او متعلقا لشهودهم أي لشهودهم وجه الحق ، وقوله " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه " بيان لمشرب المحمديين أي فيهم شهود كلى باضمحلال الرسوم وفناء كل شيء عند طلوع الوجه الباقي المحرق سبحانه ما انتهى إليه بصره من خلقه .
ويجوز أن يكون قوله في المحمديين منقطعا عما قبله ، على أن الكلام مبتدأ في المحمديين خبره أي فيهم هذا الشهود ، والوجه هو الذات الموجودة مع لوازمها ، ووجه الحق هو عين الوجود الأحدى الجمعى أي المطلق ( ومن أراد أن يقف على أسرار نوح فعليه بالترقى في فلك نوح ، وهو في التنزلات الموصلية لنا ) أكثر أسرار الكلمة النوحية من الحكم والمعارف والمشاهدات لا تنكشف.
إلا لمن يترقى بروحه إلى فلك الشمس ، ونوح اسم الشمس لأنه المكان العلى الذي هو منشأ القطب ومبدأ تنزله ، ومن نور روحانيتها إمداده ، والتنزلات الموصلية كتاب من تصانيفه رفيع القدر ، ذكر فيه الأسرار النوحية والتنزلات الروحية لسائر الأنبياء والأولياء .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالأحد يوليو 21, 2019 6:11 pm

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية 
إنما قدم الشيخ فص الحكمية السبوحية على القدوسية، وجعلهما متقارنين وإن كان نوح متأخرا بالزمان عن إدريس عليهما السلام لاشتراكهما في التنزيه.
مع أن التقديس أبلغ من التسبيح والأبلغ بالتأخير أولى، فالتسبيح تنزيه عن الشريك وصفات النقص كالعجز وأمثاله .
والتقديس تنزيه عما ذكر مع التبعيد عن لوازم الإمكان وتعلق المواد ، وكل ما يتوهم ويتعقل في حقه تعالى من أحكام التعينات الموجبة للتحديد والتقييد ، وقد بالغ إدريس في التجريد والتروح حتى غلبت الروحانية على نفسه ، وخلع بدنه وخالط الملائكة واتصل بروحانيات الأفلاك وترقى إلى عالم القدس .
وأقام على ذلك ستة عشر عاما لم ينم ولم يطعم شيئا ، فتنزيهه ذوقى وجدانى تأصل في نفسه حتى خرق العادة ، وأما تنزيه نوح عليه السلام فهو عقلى لأنه كان أول المرسلين فلم يتجاوز في التنزيه مبالغة فهوم الأمة ، ولم يخل عن شوب التشبيه على ما هو طريق الرسالة وقاعدة الدعوى ، وتزوج وولد له بخلاف إدريس ، لأن الشهوة قد سقطت عنه وتروحت طبيعته وتبدلت أحكامها بالأحكام الروحية ، وانقلبت بكثرة الرياضة وصار عقلا مجردا ، ورفع مكانا عليا في السماء الرابعة .
فلهذا قال ( العلو نسبتان : علو مكان وعلو مكانة فعلو المكان – " ورَفَعْناه مَكاناً عَلِيًّا " .
وأعلى الأمكنة الذي يدور عليه رحى عالم الأفلاك ، وهو فلك الشمس ، وفيه مقام روحانية إدريس عليه السلام ) علو المكان كون الشيء في أرفع الأماكن ، وعلو المكانة كونه في أرفع المراتب ، وإن لم يكن مكانيا أو كان في أدنى الأماكن كعلو رتبة الإنسان الكامل بالنسبة إلى الفلك الأعلى .
وإنما أثبت لإدريس العلو المكاني لأنه لم يتجرد عن التعين الروحاني ، ولم يصل إلى التوحيد الذاتي المحمدي بالانسلاخ عن جميع صفات الغيرية ، والانطماس في عين الذات الأحدية ، بل انسلخ عن الصفات البشرية الطبيعية فتجرد عن النشأة العنصرية وأحكامها ، وبقي مع الصفات الروحانية وهيئاتها .
فتبدلت هيئات نفسه المظلمة بهيئات روحه المنور ، وانقلبت صورته صورة مثالية نورانية مناسبة بهيئاته الروحانية ، فعرج به إلى مأواه الأصلي ومقام فطرته الذي هو فلك الشمس وروحه منشأ تنزل روح القطب .
فإن روح هذا الفلك أشرف الأرواح السماوية كما أن روح القطب أشرف الأرواح الإنسية ، ولهذا كانت الشمس أشرف الكواكب ورئيس السماء ، وارتبطت بها جميع الكواكب ارتباط أصحاب الملك به .
العلوية من وجه والسفلية من وجه كما تبين في علم الهيئة ، وكان فلكها أخص الأفلاك وأوسطها كمكان الملك في وسط المملكة إذ الوسط أفضل المواضع وأحماها عن الفساد فهو بالنسبة إلى الأفلاك كالقطب من الرحى وبسيره ينتظم أمور العالم وينضبط الحساب والمواقيت.
فهو أعلى قدرا وأفضل روحا من الأماكن كلها .
قال رضي الله عنه : ( وتحته سبعة أفلاك وفوقه سبعة أفلاك وهو الخامس عشر فالذي فوقه :
فلك الأحمر أي المريخ ، وفلك المشترى ، وفلك كحيوان ، وفلك المنازل ، وفلك الأطلس فلك البروج ) أي الفلك الذي قسم إلى البروج الاثنى عشر ، واعلم كل برج بما بإزائه من صور الكواكب الثابتة التي على فلك المنازل الذي تحته.
وإنما سمى بفلك المنازل باعتبار منازل القمر المعروفة عند العرب من الثوابت التي عليها ( وفلك الكرسي ، وفلك العرش ) الظاهر أن المراد بهما النفس الكلية والعقل الكلى أي الروح الأعظم ، فإنهما مرتبتان في الوجود أعظم من مراتب الأفلاك ، والروح لوح القضاء والنفس لوح القدر ، فهما أرفع من الأجرام الفلكية فسماهما فلكين مجازا ، كما سمى كرة التراب فلكا مجازا فإنها لم تتحرك ولم تحط بشيء حتى تسمى فلكا بالحقيقة ، على أن البرهان لم يمنع وجود أفلاك غير مكوكبة فوق التسعة ، والحكماء جزموا في جانب القلة ، أي لا يجوز أقل مما ذكروا وأما في جانب الكثرة فلا جزم.
قال رضي الله عنه : ( والذي دونه : فلك الزهرة ، وفلك الكاتب ، وفلك القمر ، وكرة الأثير ، وكرة الهواء ، وكرة الماء وكرة التراب . فمن حيث هو قطب الأفلاك هو رفيع المكان ) ظاهر ، وتسمية العناصر أفلاكا تعضد أنه يريد بالأفلاك مراتب الموجودات الممكنة البسيطة ، من الأشرف إلى الأدنى.
قال رضي الله عنه : ( وأما علو المكانة فهو لنا أعنى المحمديين ، قال الله تعالى – " وأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ والله مَعَكُمْ " - في هذا العلو وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة ) إنما كان علو المكانة للمحمديين ، لأن واحدية الجمع أعلى رتبة في الوجود وهي رتبة محمد عليه الصلاة والسلام ، والله تعالى بأحدية الذات بالوجود المطلق متعالي عن كل قيد فله العلو الذاتي .
لأن كل مقيد هو المطلق من حيث الهوية أي حقيقة الوجود الغير المنحصر وهو به هو وبنفسه ليس بشيء ، فلا رتبة له من غير الوجود حتى يعتبر العلو بالنسبة إليه .
فاللَّه هو العلى المطلق بحسب الذات وحده لا بالنسبة إلى شيء ، وهو مع المحمديين في هذا العلو لفنائهم في أحدية وجودهم به ، وهو متعالي عن المكان لعدم التقيد وكون المكان به مكانا ، لا عن المكانة لكون المطلق أعلى مرتبة من المقيد .
قال رضي الله عنه : ( ولما خافت نفوس العمال منا أتبع المعية بقوله : " ولَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ " فالعمل يطلب المكان والعلم يطلب المكانة ، فجمع لنا بين الرفعتين : علو المكان بالعمل وعلو المكانة بالعلم ) أي ولما وصفنا بأننا الأعلون وأن الله معنا فهم العمال منا علو المكانة لتنزه الحق عن المكان وثبوت الأعلوية بالعلم .
فخافوا فوات أجر العمل ، لأن العمل يقتضي علو المكان وحصول الثواب في الجنة ، فأتبع المعية بقوله " ولَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ " أي ينقصكم أعمالكم ، ليعلموا أن الرفعة العلمية الرتبية لا تنافي الرفعة العلمية المكانية ، وأن الله يجمعهما لهم. فإن الله تعالى مع كل شيء في كل حضرة.
قال رضي الله عنه : ( ثم قال تنزيها لاشتراك المعية " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى " عن هذا الاشتراك المعنوي ) يعنى لما أثبت له تعالى معيتنا في الأعلوية ، أو هم الاشتراك في علو المكانة فنزهه بقوله " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى " عن هذا الاشتراك ، فإن العلو المطلق الذاتي له وحده وهو أعلى بذاته مطلقا لا بالنسبة إلى غيره ، فإن كل علو ليس إلا له وكل ما ينسب إليه علوه ، فبقدر ما يتجلى فيه باسمه العلى ينسب إليه فلا شريك له في أصل العلو ، فلا علوية إضافة له وكل ما علا فباسمه علا.
قال رضي الله عنه : ( ومن أعجب الأمور كون الإنسان أعلى الموجودات ، أعنى الإنسان الكامل ، وما نسب إليه العلو إلا بالتبعية ، إما إلى المكان وإما إلى المكانة وهي المنزلة ، فما كان علوه لذاته فهو العلى بعلو المكان وبعلو المكانة فالعلو لهما ) .
بيان أن العلو ليس إلا له فإن الإنسان الكامل أعلى الموجودات وما نسب إليه العلو إلا بتبعية المكان والمكانة فعلوه بسبب علوهما .
وإذا لم يكن لا على الموجودات علو ذاتى فكيف لغيره فعلم أن العلو الذي وصف به المكان والمكانة في قوله " مَكاناً عَلِيًّا " وفي كونهم أعلين بسبب معية الله ليس لهما بالذات فلا علو لمقيد أصلا إلا بالحق الذي له مطلق العلو الذاتي.
ومن ثم قال رضي الله عنه : ( فعلو المكان – كـ " الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى " وهو أعلى الأماكن ، وعلو المكانة " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه " وإليه يرجع الأمر كله " أَإِله مَعَ الله " ) .
يعنى أن أعلى الأماكن علوه المكاني ، إنما كان بتجلى اسمه الرحمن له وهو معنى استوائه عليه ، وأما اختصاص علو المكانة به ففي قوله :" كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه "  أي حقيقته التي بها وجد ما وجد وهو الوجود الحق المطلق ، فكل شيء في حد ذاته فان وهو الباقي بذاته والكل يرجع إليه بالفناء فيه ، وليس معه شيء فلا وجود لغيره فلا علو فلا وجه إلا واحد متعال بذاته ، ثم إنه نفى العلو عن كل متعين بخصوصه.
قال رضي الله عنه : ( ولما قال تعالى :" ورَفَعْناه مَكاناً عَلِيًّا " فجعل عليا نعتا للمكان " وإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً " فهذا علو المكانة .
وقال في الملائكة :" أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ " فجعل العلو للملائكة فلو كان لكونهم ملائكة لدخل الملائكة كلهم في هذا العلو ، فلما لم يعم مع اشتراكهم في حد الملائكة عرفنا أن هذا علو المكانة عند الله ، وكذلك الخلفاء من الناس لو كان علوهم بالخلافة علوا ذاتيا لكان لكل إنسان ، فلما لم يعم عرفنا أن ذلك العلو للمكانة ) .
إنما بين أن علو المكانة ليس لكل إنسان من حيث إنه إنسان ولا للملك من حيث إنه ملك ، وإلا لكان كل إنسان وكل ملك عاليا ، ولم يبين أن علو المكان كذلك .
لأنه لما علم أن العلو لم يكن للإشراف ذاتيا علم أنه لم يكن للأخس ذاتيا ، وللاكتفاء بما ذكر من كونه مستفادا من تجلى اسمه الرحمن ، لا لكونه مكانا ولمثل ما ذكر من الدليلين ، ولذلك حذف جواب لما .
وهو قولنا : عرفنا أن العلو له لا لكونه ذاتيا بل لكونه مجلى اسمه الرحمن ، وتقيد علو المكانة بقوله : من عند الله ، معناه علو القرب والزلفى من الله ، وهو علو المنزلة والرتبة لا علو الذات.
وقيل العالون الملائكة المهيمون لم يؤمروا بالسجود لهيمانهم في الحق وغيبوبتهم عن غيره فلم يعرفوا ما سوى الله من آدم وغيره ولا أنفسهم .
فهم في خطاب الملائكة بالسجود كالمجانين في خطاب الأناسى مستثنون عنهم.
قال رضي الله عنه : ( ومن أسمائه العلى على من وما ثم إلا هو فهو العلى لذاته ، أو عما ذا وما هو إلا هو فعلوّه لنفسه ، فهو من حيث الوجود عين الموجودات ، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو فهو العلى لا علو إضافة ، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمت رائحة من الوجود فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات ، والعين واحدة من المجموع في المجموع ) .
ولما بين أن العلو لكل ما سواه من المتعينات نسبى شرع في بيان العلو الذاتي ، وقوله على من استفهام بمعنى الإنكار لأنه ليس في الوجود غيره فلم يكن علوه نسبيا بل ذاتيا .
وبعض النسخ عمن وما ثم إلا هو وهو العلى لذاته ، أو عما ذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه ، والعلو يعدى بعن لما فيه من معنى الارتفاع ، وبعلي لما فيه من معنى العلية .
والمراد أن علوه ليس إضافيا فيدخل فيه عن وعلى ، إنما هو ذاتى وهو من حيث الحقيقة عين جميع الموجودات ، لأنها به موجودة بل وجودها وجوده ، وهي العلية لذاتها بحسب الحقيقة لأنها ليست إلا هو حقيقة .
وعلل ذلك بأن الأعيان الثابتة في العدم باقية على حالها من العدم ، والوجود المتعين بالأعيان هو عين الوجود الحق ، إذ ليس لها من ذاتها إلا العدم وما هي إلا مرايا له ، كما قيل :
وما الوجه إلا واحد غير أنه   .... إذا أنت أعددت المرايا تعددا
فتعدد الصور في الموجودات عين واحدة في مجموعها متكثرة بحسب أسمائها ، كما ذكر في المقدمة ، فإن الأعيان من مقتضيات اسمه العليم من حيث اسمه الباطن ، وظهورها وحدوثها من حيثية اسمه الظاهر .
وما العين إلا واحدة فلها العلو الذاتي باعتبار وحدتها الحقيقية ، والوجه الواحد المطلق من حيث هو مجموع الوجوه الأسمائية في صورة المجموع من حيث هو المجموع الوحدانى الذات والعلو الإضافي بنسبة بعض تلك الوجوه إلى بعض.
قال رضي الله عنه( فوجود الكثرة في الأسماء هي النسب وهي أمور عدمية ، وليس إلا العين الذي هو الذات فهو العلى لنفسه لا بالإضافة ، فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة لكن الوجوه الوجودية ) .
أي المنسوبة إلى الوجود المطلق وهي الموجودات الآفاقية .
قال رضي الله عنه( متفاضلة فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة ولذلك تقول فيه هو ) أي بحسب الحقيقة ( لا هو ) بحسب الانحصار في التعين مع الإضافة .
وكذلك في الخطاب ( أنت لا أنت ، قال الخراز رحمه الله وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ) كما علمت ( ينطق عن نفسه بأن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها ، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن ، فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره ، وما ثم من يراه غيره وما ثم من يبطن عنه ، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه ، وهو المسمى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات ) .
قيل لأبى سعيد الخراز رحمه الله : بم عرفت الله ؟
قال : بجمعه بين الأضداد وما هو إلا ظهور الحق في صورته بجميع أسمائه المتضادة ، فهو محكوم عليه بها كالحق ، بل هو حق من حيث الحقيقة ، وجه خاص من وجوهه من حيث تعينه وخصوصيته كسائر المحدثات .
إذ ليس في الوجود غيره إلا أن الوجود متفاوتة متفاضلة بحسب ظهور الأسماء فيها وبطونها ، وغلبة أحكام الوجوب والإمكان فيها بعضها على بعض .
كغلبة الروحانية في بعضها والجسمانية في بعضها .
قال رضي الله عنه:  ( فيقول الباطن لا إذا قال الظاهر أنا ، ويقول الظاهر لا إذا قال الباطن أنا ، وهذا في كل ضد والمتكلم واحد ، وهو عين السامع بقول النبي صلى الله عليه وسلم « وما حدثت به أنفسها » فهي المحدثة والسامعة حديثها ، العالمة بما حدثت به أنفسها ، والعين واحدة وإن اختلفت الأحكام ولا سبيل إلى جهل مثل هذا ، فإنه يعلم كل إنسان من نفسه وهو صورة الحق ).
يعنى أن كل اسم من أسمائه تعالى يثبت مقتضاه وينفى مقابله من الأسماء ما أثبته بإثبات ما يقتضيه ، وكذلك كل جزء من العالم يثبت أنانيته بإظهار خاصيته وينفى ضده ما أثبته ، ويبطل دعواه بإظهار ما يضاد تلك الخاصية ، فكل أحد يخبر عما في طبعه والآخر يجيبه والمخبر والمجيب واحد.
وقد تمثل بقول النبي عليه الصلاة والسلام في بيان مغفرته تعالى لذنوب أمته " ما صدرت عن جوارحهم وما حدثت به أنفسهم وإن لم يفعلوه ".
فإن كل إنسان قد يحدث نفسه بفعل شيء ويهم به ، ويرده عنه من فعله صارف منه وهو يسمع حديث نفسه ويعلم اختلاف أحكامها عند التردد في الفعل .
وهو المحدث والسامع والآمر والناهي والعالم بجميع ذلك ، مع أن عينه واحدة لاختلاف قواه ومبادئ أفعاله من العقل والوهم والغضب والشهوة وغير ذلك ، فهو بعينه صورة الحق في الوجوه والأحكام الأسمائية .
قال رضي الله عنه:  ( فاختلطت الأمور وظهرت الأعداد بالواحد في المراتب المعلومة ، فأوجد الواحد العدد وفصل العدد الواحد ، وما ظهر حكم العدد إلا بالمعدود ).
سبب اختلاط الأمور واشتباهها تكثر العين الواحدة بالتعينات والمراتب ، إذ لا شيء في الوجود إلا تلك العين الواحدة المتكررة بالتعينات المختلفة .
ألا ترى أن الواحد في أول مرتبة واحد ، وفي الثانية عشرة وفي الثالثة مائة ، وفي الرابعة ألف ، وكل واحدة من هذه المراتب كلية يحتوي على بسائط الآحاد والعقود .
كالأنواع المحتوية على الأشخاص ، والأجناس المحتوية على الأنواع ، فإن الواحد في المرتبة الأولى إذا تجلى في صورة أخرى يسمى اثنين ، وليس إلا واحدا وواحدا جمعا والواحد ليس بعدد والهيئة الاجتماعية واحدة .
والمجموع المسمى اثنين عدد واحد ، فالصورة واحدة والمادة واحدة والمجموع واحد تجلى في صورة كثرة ، فأنشأ الواحد العدد بتجليه في صورتين ، وكذا الثلاثة واحد وواحد وواحد وحكمها في الواحدية حكم الاثنين .
وهكذا إلى التسعة التي هي بسائط الواحد وتعيناتها في المرتبة الأولى ، فإذا تجلى في المرتبة الثانية يسمى عشرة وليس إلا الواحد صورة ومادة ومجموعا .
فالواحد هو المسمى بجميع مراتب العدد وأسمائه ، وصور المراتب تجلياته فهو الإنسان من حيث أنه عدد واحد وثانى اثنين وثالث ثلاثة ورابع أربعة .
وكذلك في التفسير لقوله تعالى :" ما يَكُونُ من نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ولا أَدْنى من ذلِكَ ولا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ ".
فالواحد منشئ العدد والعدد مفصل الواحد ، وإذا فصلت العدد عند التحليل والتحقيق لم تجد إلا الواحد المتجلى في صورة تعيناته ومراتب تجلياته .
ولما كان العدد نسبة متعينة تعرض الواحد في تعيناته وتجلياته ، لم يتعين إلا بالمعدود وهو الواحد الحقيقي الذي لا حقيقة إلا له ، وبه تحقق التعدد والتعين والتجلي ، واللاتعدد واللاتعين واللاتجلى .
فإن تجلى في صورة أحديته الذاتية « كان الله ولم يكن معه شيء » وبطنت فيه الأعداد الغير المتناهية بطون النصفية والثلثية والربعية وسائر النسب الغير المتناهية في الواحد ، فإنها لا تظهر إلا بالعدد مع كونها متمايزة فيه .
وإن تجلى في صورة تعيناته ومراتب تجلياته أظهر الأعداد وأنشأ الأزواج والأفراد ، وتلك مراتب تنزلاته وليس في الوجود إلا هو.
قال رضي الله عنه:  ( والمعدود منه عدم ومنه وجود فيه ) أي في الخارج ، فإن العدم المطلق الذي لا في العين ولا في الغيب لا شيء محض ولا تعدد فيه .
فلذلك بينه بقوله ( فقد يعدم الشيء من حيث الحس وهو موجود من حيث العقل ، فلا بد من عدد ومعدود ) .
إما في الخارج وإما في العقل ( ولا بد من واحد ينشئ ذلك فينشأ بسببه ) كما ذكر من بيان إنشاء الواحد العدد وتفصيل العدد الواحد ( فإن كان لكل مرتبة من العدد حقيقة واحدة كالتسعة مثلا والعشرة إلى أدنى ) حتى الاثنين ( وإلى أكثر إلى غير نهاية ما هي مجموع ) أي ليست تلك الحقيقة نفس المجموع فإن المجموع أمر مشترك بين جميع المراتب المختلفة الحقائق ، لامتياز كل واحدة منها باللوازم والخواص من الأخرى .
ولكل مرتبة اسم خاص وصورة نوعية متقومة بفصل الامتناع ، استتار اللازم الخاص إلى الأمر المشترك ( ولا ينفك عنها اسم جميع الآحاد ) لأنه صادق على جميع المراتب لازم عام.

قال رضي الله عنه:  ( فإن الاثنين حقيقة واحدة والثلاثة حقيقة واحدة ، بالغا ما بلغت هذه المراتب وإن كانت واحدة ) أي وإن كانت جميع المراتب واحدة في كونها جميع الآحاد وكونها عددا أو كثرة ومجموعا وما في معناها ( فما عين واحدة منهن عين ما بقي ) لما ذكر من اختلافها بالفصول المتنوعة . فقوله : فإن كان لكل مرتبة من العدد حقيقة واحدة ، شرط هذا جوابه .
.
يتبع الجزء الثاني
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالأحد يوليو 21, 2019 6:18 pm

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية  الجزء الثاني
 وقوله : ما هي مجموع صفة الحقيقة . وقوله : ولا ينفك عنها صفة أخرى معطوفة عليها ، وقوله : فإن الاثنين تعليل لاختلاف المراتب بالأعداد .
والشرط الثاني تقييد له محذوف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، أي وإن كانت واحدة في كونها جميع الآحاد فهي حقائق مختلفة ( فالجمع يأخذها ) أي يتناولها ويصدق عليها صدق الجنس على الأنواع ( فيقول بها منها ) أي فيقول بأحدية كل حقيقة من عين تلك الحقيقة التي هي جمع معين من آحاد معينة لها هيئة اجتماعية خاصة ، أي صورة نوعية تخالف بها جميع المراتب الأخر ( ويحكم بها عليها ) أي ويحكم بالأحدية النوعية على تلك الحقيقة
قال رضي الله عنه : ( وقد ظهر في هذا القول عشرون مرتبة ) هي من الواحد إلى التسعة التي هي مراتب الآحاد ، ثم العشرة والعشرون فإنه اسم لعقد خاص لا باعتبار أنه عقدان من العشرة ، وكذا الثلاثون والأربعون والخمسون والستون والسبعون والثمانون والتسعون ثم المائة ثم الألف .
فقد دخلها التركيب مما به الاشتراك وهو جمع الآحاد وما به الامتياز من الصورة النوعية إلا الواحد فإنه لا تركيب فيه ، وليس بعد دولة مرتبة خاصة في الوجود هي كونه أصل العدد ومنشأه .
ولهذا قال: ( وقد دخلها التركيب ) ولم يقل فإن جميع المراتب مركبة أي دخلها التركيب وجعلها عددا والضمير في دخلها يرجع إلى المراتب العشرين ، فيجوز أن يرجع إلى كل مرتبة من العدد فلا يتناول الواحد.
قال رضي الله عنه : ( فما تنفك تثبت عين ما هو منفى عندك لذاته ) أي لا تزال تثبت للكل أنه واحد ، أي حقيقة واحدة ومرتبة واحدة وكل منها عين الآخر بهذا الاعتبار ثم تقول :
إن الواحد غير البواقي لأنها عدد ، والواحد ليس بعدد وهو منشأ العدد وهي ليست كذلك وتقول لسائر المراتب إن كلا منها عدد وجمع آحاد ، فكل منها عين الأخرى بهذا الاعتبار ، وكل واحد منها حقيقة نوعية وغير الأخرى ، فإن الاثنين نوع غير الثلاثة والأربعة وسائر الأعداد وكذا الثلاثة ، فقد أثبت لكل واحدة أنها عين الأخرى ، ونفيت عنها أنها عين الأخرى لذاته.
قال رضي الله عنه : ( ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عين ثبتها علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه وإن كان قد تميز الخلق من الخالق ) أي من عرف أن الواحد بذاته منشئ الأعداد بتجلياته وتعيناته ، فهو المسمى بالكثير باعتبار تعدد التجليات والتعينات في مراتب ظهوراته ، والتعدد نعت له بتلك الاعتبارات لا باعتبار الحقيقة الواحدية من حيث هو واحد .
وكل واحد من حيث أنه حقيقة معينة وحدانية ليس بواحد من حيث التركيب ولا اشتمال على مراتب الوحد ، وإن نفى الواحدية عن كل عدد وإثباتها له فإنه حقيقة واحدة من الأعداد فالواحد محيط بأوله وآخره ونفى الجمعية التي هي التعدد عين إثباتها له.
وإن كل عدد غير الآخر باعتبار وعينه باعتبار عرف أن الحق المنزه عن التشبيه باعتبار الحقيقة الأحدية ، هو الخلق المشبه باعتبار تجليه في الصورة المتعينة .
فمن نظر إلى الأحدية الحقيقية المتجلية في صور التجليات والتعينات قال حق .
ومن نظر التعدد والتكثر قال خلق .
ومن تحقق ما ذكرناه قال حق من حيث الحقيقة ، خلق من حيث الخصوصية الموجبة للتعدد ، كما أشار إليه الشيخ العارف أبو الحسين النوري قدس سره لطف نفسه فسماه حقا وكثف نفسه فسماه خلقا .
فإن الحقيقة الأحدية في الكل تلطف عن الإبصار بل البصائر ، أي عن الحس والعقل والصور المتعينة بالخصوصيات المتمايزة من الهيئات والأشكال والألوان ، تكثف فتدرك بها ( فالأمر الخالق المخلوق ، والأمر المخلوق الخالق ) .
بالاعتبارين على ما مر من ظهور الهوية بصورة الهاذية تحقق، والهاذية بالهوية فهو هذا، وهذا هو طردا وعكسا.
قال رضي الله عنه : (كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة، وهو العيون الكثيرة) على ما بين في الواحد الكثير.
قال رضي الله عنه :  (" فَانْظُرْ ما ذا ترى ؟ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ " والولد عين أبيه ، فما رأى يذبح سوى نفسه وفداه بذبح عظيم فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان ، وظهر بصورة ولد لا بل بحكم ولد من هو عين الوالد " وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها " فما نكح سوى نفسه ، فمنه الصاحبة والولد والأمر واحد في العدد ) .

أي العين الواحدة بالحقيقة تعدد بكثرة التعينات عيونا كثيرة ، وتلك التعينات قد تكون كلية كالتعين الذي صارت الحقيقة الأحدية به إنسانا ، وقد تكون جزئية كالذي صار به إبراهيم ، فإن المتعين بالإنسانية المطلقة هو الذي صار بعد التعين النوعي بالتعين الشخصي إبراهيم وبتعين آخر إسماعيل ، فالمتعين بالإنسانية المطلقة لم يذبح سوى نفسه " بِذِبْحٍ عَظِيمٍ " هو نفسه بحسب الحقيقة ، قد تعينت بتعين نوعى آخر متشخصة بتعين شخصى ، فالحقيقة الواحدة التي ظهرت بصورة إنسان ، هي التي ظهرت بصورة كبش بحسب التعينين المختلفين نوعا وشخصا . ولما كانت الصورة الإنسانية في الوالد والولد محفوظة باقية على واحدية النوعية أضرب عنغيرية الصورة في الوالد والولد وأثبت غيرية الحكم .
فقال : لا بل بحكم ولد ، فإن صورتهما واحدة وهي الصورة الإنسانية ولم يتغير إلا حكم الوالدية والولدية فحسب ، وكذا بين آدم وحواء فإنهما وأولادهما واحد في الإنسانية ، فالأمر واحد في الحقيقة متعدد بتعينات نوعية وشخصية لا ينافي الوحدة الحقيقية .
فهو واحد في صورة العدد.
قال رضي الله عنه : ( فمن الطبيعة ومن الظاهر منها ) يعنى كذلك الوجود الحق الواحد يتعين بتعين كلى يكون بها طبيعة ، ويظهر منها تعينات ثنائية وثلاثية أجسام طبيعية لها كيفيات متضادة ، وليس الطبيعة ولا ما ظهر منها إلا العين الأحدية التي هي حقيقة الحق.
قال رضي الله عنه : ( وما رأيناها نقصت بما ظهر عنها ، وما ازدادت بعدم ما ظهر غيرها ) لأنها كلية طبيعية معقولة لا تزيد ولا تنقص ولا تتغير بنقصان جزئياتها وكثرتها وتغيرها ، فإن الحقائق الكلية كلمات الله التي لا تبديل فيها ( وما الذي ظهر غيرها ) بحسب الحقيقة ( وما هي عين ما ظهر ) بحسب التعين فإن المتعين المخصوص من حيث تعينه غير المطلق وغير المتعين الآخر.
قال رضي الله عنه : ( لاختلاف الصور بالحكم عليها ) فإن لكل صورة من الصور المتعينات حكما خاصا ليس لغيرها .
قال رضي الله عنه : ( فهذا بارد يابس ، وهذا حار يابس ، فجمع باليبس وأبان بغير ذلك ) مثال لاختلاف الصور بالأحكام ، فإن الأصل الواحد جمع بينهما باليبس وفرق بالحر والبرد ، وكذا بارد رطب وحار رطب فإنه جمع بالرطب وفرق بالحر والبرد ، وكذا بارد رطب وبارد يابس .
فقد جمع بالبرد وفرق بالرطوبة واليبوسة ، والجامع الطبيعة  أي الأصل الذي يحفظ في الكثرة جهة الجمعية الأحدية.
قال رضي الله عنه : ( لا بل العين الطبيعية ) أي العين الواحدة التي هي حقيقة الحق هو الطبيعة في الحقيقة ظهرت في العالم العقلي بصورتها وتلبست بتعينها الكلى فتسمت طبيعة.
قال رضي الله عنه : ( فعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة ) أي صور متضادة الكيفيات في مرآة الطبيعة الواحدة ، كما أن الطبيعة وسائر حقائق العالم صور مختلفة التعينات في مرآة واحدة هي الوجود الحق الواحد المطلق على ما هو شهود المحقق وكشف الكامل الموحد.
قال رضي الله عنه : ( لا بل صورة واحدة في مرايا مختلفة ) أي صورة الطبيعة الواحدة في مرايا قوابل مختلفة متضادة الكيفيات ، بعكس ما ذكر لظهور الوجود الواحد الحق في مرايا الحقائق والأعيان على ما هو شهود العارف الموحد المعاين.
قال رضي الله عنه : ( فما ثم إلا حيرة لتفرق النظر ) أي نظر أهل الحجاب الناظرين بالفكر العقلي ، لتحيرهم في أنه واحد في مرايا مختلفة أو كثير في مرآة واحدة .
قال رضي الله عنه : ( ومن عرف ما قلناه لم يحر ) أي من عرف أن الوجود الحق يظهر في الأعيان بحسب التعينات المختلفة بصور مختلفة فيقبل أحكاما مختلفة لم يتحير لصدق الأمرين جميعا ، باعتبار شهود الكثرة في الذات الواحدة لتجليها بصور الأعيان ، ولاعتبار شهود الوحدة في صور الكثرة لتحققها بالحقيقة الأحدية.
قال رضي الله عنه : ( وإن كان في مزيد علم ) أي لم يتحير وإن كان في مزيد علم باعتبار المشهدين.
كما قيل : إن معنى قوله رب زدني تحيرا " رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " ، فإن علم العارف المحقق في المشهدين جميعا عائد إلى العين الثابتة لا إلى الحق .

قال رضي الله عنه : ( فليس إلا من حكم المحل والمحل عين العين الثابتة فيها ، يتنوع الحق في المجلى فتتنوع الأحكام عليه فيقبل كل حكم ، وما يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه وما ثم إلا هذا ).
فالتحير إنما يكون في البداية إذا كان النظر العقلي باقيا والحجاب الفكرى مبتدأ .
فإذا تم الكشف وصفا العلم الشهودى والعرفان الذوقي ارتفع التحير مع زيادة العلم بشهود الوجود الواجد الحق المتجلى في صور الأعيان التي هي مقتضى الاسم العليم والتجلي الذاتي والفيض الأقدس ، أو شهود الأعيان الثابتة في الوجود الواحد الحق الذي لا خصوصية ولا حيثية له .
فإنه حق كل حقيقة وبه تحققت الأعيان في حقائقها بعد التعين الأول الذي ظهر به العين الواحدة المتكثرة بالتعينات المتنوعة ، فيتنوع الحق في الأعيان المختلفة الخصائص والأحكام ، فيقبل حكم كل ما يتجلى فيه من الأعيان ، فيكون كل عين عين حاكمة عليه بما فيه ولا يقبل الحكم إلا من ذاته ، فإن الذات هي الحاكمة أولا على كل عين بما فيه بعالميتها ، وما ثم أي في الوجود إلا هو وحده :
(فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا ) أي باعتبار ظهوره في صور الأعيان وقبول الأحكام منها
(وليس خلقا بهذا الوجه فادكروا ) أي بحسب الأحدية الذاتية وأسمائه الأول في الحضرة الإلهية الواحدية ، فإنه بذلك الوجه موجد الموجودات وخالق المخلوقات ، فلا يكون خلقا بذلك الاعتبار .
(من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته  .... وليس يدريه إلا من له بصر)
ظاهر فإن البصيرة التي يدرك بها باطن الحق والبصر الذي يدرك به ظاهره إذا وفقهما الله وأيد صاحبهما بنوره ، فرق بهما بين الاعتبارين ، وعلم أن الحق بأى الاعتبارين خلق وبأيهما حق :
(جمع وفرق فإن العين واحدة   .... وهي الكثيرة لا تبقى ولا تذر )
أي الوجود الواحد الحق في مرتبة الجمع الأسمائى إله ، وفي مرتبة الفرق مخلوق ، فليس في الوجود غيره فإنه العين الواحدة ، وهي بعينه الكثيرة بالتعينات ، وهي نسب لا تحقق لها بدونه فلا موجود إلا وحده.
قال رضي الله عنه : ( فالعلى لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية ، بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها ، وسواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا ) أي العلى بالعلو الذاتي الحقيقي لا الإضافي ، هو الذي له الكمال المطلق الشامل لجميع الكمالات الثابتة لجميع الأشياء ، وجودية كانت أو عدمية ، محمودة من جميع الوجوه أو مذمومة بوجه .

فإن بعض الكمالات أمور نسبية تكون بالنسبة إلى بعض الأشياء مذمومة ، كشجاعة الأسد بالنسبة إلى فريسته ، والكامل المطلق هو الذي لا يفوته شيء من النعوت والأخلاق والأفعال ، وإلا كان ناقصا من تلك الحيثية.
قال رضي الله عنه : ( وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة ) أي ولا يكون ذلك العلو الذاتي والكمال المطلق ، إلا للذات الأحدى المتعين بالتعين الأول في الحضرة الواحدية الجامعة للأسماء كلها ، وهو الاسم الأعظم الذي هو عين مسمى الله أو الرحمن . باعتبار أحدية جميع الأسماء المؤثرة الفعالة لا باعتبار كثرتها.

قال رضي الله عنه : ( وأما غير مسمى الله خاصة مما هو مجلى له أو صورة فيه ، فإن كان مجلى له فيقع التفاضل لا بد من ذلك بين مجلى ومجلى ، وإن كان صورة فيه فتلك الصورة عين الكمال الذاتي لأنها عين ما ظهرت فيه ، فالذي لمسمى الله هو الذي لتلك الصورة ) .
قوله : مما هو مجلى له أو صورة بيان لغير مسمى الله باعتبار المشهدين المذكورين ، فإن شهود الواحد الحق في الأعيان يوجب كونها مجالى له ، فيكون له وجوه بحسبها ، ولا بد من التفاضل بين المجالى بحسب ظهوره .
وفي بعضها بجميع الأسماء كالإنسان الكامل ، أو بأكثرها كالإنسان الغير الكامل أو بأقلها كالجمادات وشهود الصور في الوجود الحق يوجب أن يكون لكل واحدة من تلك الصور عين الكمال الذاتي الذي للكل أي لمسمى الله فإنها عين الذي ظهرت هي فيه فالذي لمسمى الله هو لها .
وفي بعض النسخ : فتلك الصورة عين الكمال الذاتي ، لأن كل صورة ظهرت فيه هي عينه فالذي له هو الذي لها ، وما في المتن أوجه وأظهر .
والفاء في قوله : فإن كان مجلى له ، هي التي تأتي في جواب أما الشرطية ، التي دخلت عليها خبر المبتدأ الذي هو غير مسمى الله.
قال رضي الله عنه : ( ولا يقال هي هو ) باعتبار تعينها وخصوصيتها . ( ولا هي غيره ) باعتبار حقيقتها .
قال رضي الله عنه : ( وقد أشار أبو القاسم بن قسى ) بفتح القاف وتخفيف السين وتشديد الياء (في خلعه ) أي في كتابه المسمى بخلع النعلين .
( إلى هذا بقوله : إن كل اسم إلهى يتسمى بجميع الأسماء الإلهية وينعت بنعتها ، وذلك هنالك أن كل اسم يدل على الذات وعلى المعنى الذي سيق له ويطلبه ) أي سيق ذلك الاسم لذلك المعنى .
أي صيغ وأطلق على الذات باعتبار ذلك المعنى ، ويطلب في ذلك المعنى ذلك الاسم ، أي يقتضيه ذلك ويطلب ذلك المعنى لأنه حقيقة الاسم.
قال رضي الله عنه : ( فمن حيث دلالته على الذات له جميع الأسماء ،ومن حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به يتميز عن غيره كالرب والخالق والمصور إلى غير ذلك ،فالاسم عين المسمى من حيث الذات والاسم غير المسمى من حيث ما يختص به من المعنى الذي سيق له) ظاهر غنى عن الشرح.

قال رضي الله عنه : ( فإذا فهمت أن العلى ما ذكرناه ، علمت أنه ليس علو المكان ولا علو المكانة ) أي إذا علمت أن العلى لنفسه أي بالعلو الذاتي ما ذكرناه . علمت أن علوه ليس علو المكان ولا علو المكانة.
قال رضي الله عنه : ( فإن علو المكانة يختص بولاية الأمر كالسلطان والحكام والوزراء والقضاة وكل ذى منصب ، سواء كانت فيه أهلية ذلك المنصب أو لم تكن ، والعلو بالصفات ليس كذلك فإنه قد يكون أعلم الناس يتحكم فيه من له منصب التحكم وإن كان أجهل الناس ، فهذا أعلى المكانة بحكم التبع ما هو علىّ في نفسه ، فإذا عزل زالت رفعته والعالم ليس كذلك ) .

هذا دليل على الفرق بين العلو الذاتي والعلو التبعى الذي هو بواسطة المكان أو المكانة.
وقد بينه في علو المكانة فإنه أرفع ليعلم منه الفرق بين الذاتي والتبعى .
وذلك أن العلو التبعى عرضى يزول بزوال متبوعه كما ذكر .
وأما الذاتي فلا يمكن زواله فيكون أعلى مراتب العلو وقد تمثل بالعلو الوصفي الذي هو دونه ، فإنه إذا كان الوصف لازما كان العلو ممتنع الزوال .
فمن كان أعلم كان أعلم بالصفة النفسية لا بالتبعية ، فما ظنك بمن هو أعلى بالذات ؟
قد يجتمع أنواعه من العلو بالذات والصفة والمكانة والمكان ، كما في الحق تعالى.
فإن له أعلى المكانات والمراتب وأعلى الأماكن ، وإن كان المكان في حقه مجازا كالعرش ، وأما علوه بالذات والصفات فظاهر ، وللإنسان الكامل أوفر نصيب منها كادريس عليه السلام في شرف ذاته وعلوها ، وكمال علمه ومكانة نبوته ومكانه. في قوله : " ورَفَعْناه مَكاناً عَلِيًّا " .
اللهم ارزقنا حظا وافرا ونصيبا كاملا منها بفضلك يا أرحم الراحمين .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الأول .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين يوليو 22, 2019 3:42 am

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الأول .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص الإبراهيمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية  الجزء الأول
إنما خصت الكلمة الإبراهيمية بالحكمة المهيمية ، لأن التهييم من الهيمان وهو شدة الوله الذي هو العشق بأن تجلى له الحق بجلال جماله .
أي بكمال الذات الأحدية بجميع الصفات مع بقاء حجاب أنيته ، فهام لقوة انحيازه إلى المحبوب من كل وجه .
فلا ينحاز إلى جهة تعينه وتقيده لما قبل من نور الذات جميع الصفات بقابلية العينية ، وهي معنى الخلة الدالة على تخلل المحبوب محبة وتخلق المحب بأخلاقه فإن إبراهيم خليل الله كان أول من كوشف بالذات.
ولو لا بقية قابليته لارتفع عنه الهيمان الموجب لتركه أباه وولده وماله ، ولتحقق بالأحدية الموهوبة لمحمد حبيب الله عليه الصلاة والسلام .
فإنه تبعه في الاتصاف بجميع الصفات مع  كشف الذات ، وسبقه بالتحقق بالأحدية الحقيقية بالبقاء بالحق بعد الفناء التام بارتفاع البقية دونه ، ولهذا ورد في الصحاح « إن أول ما يكسى من الخلق يوم القيامة إبراهيم عليه السلام » فإنه أول من كملت به أحكام الوجوب في مرتبة الإمكان.
أي ظهر بالصفات الإلهية كلها مع بقاء القابلية العينية بخلاف الخلة المحمدية الموهوبة له كما ذكرها في خطبة قبل وفاته بخمسة أيام ، وقال فيها بعد حمد الله والثناء عليه « أيها الناس ، إنه قد كان لي فيكم أخوة وأصدقاء ، وإني أبرأ إلى الله أن أتخذ أحدا منكم خليلا ، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، أوتيت البارحة مفاتيح خزائن الأرض والسماء ».
"" من حاشية تعليقات بالى اعلم أن التخلل عبارة عن السريان ، ومعنى سريان الحق في العبد وجود أثر ذاته وصفاته في وجود العبد مع كون الحق منزها بجميع صفاته عن هذا الكون ، لأن الاتحاد من كل الوجوه باطل عندهم ، فلما نزل الحق نفسه منزلة العهد فأثبت لنفسه ما هو من خواص عبده .
فقال : « مرضت وجعت ؟ »
علمنا أن المريض والجائع ليس صورة العبد ، بل هو الروح المتصف بصفات الله تعالى ، الظاهر في صورة العبد بالهيكل المحسوس المشاهد ، فما أثبت صفات المحدثات في الحقيقة لنفسه ، بل أثبت لأثر نفسه تنبيها على أنه واجب التعظيم فإنه ظل الله تعالى .
فاللَّه عظم ظله كما عظم نفسه فما قاله إلا تعظيما للعباد ، فمن عاده فقد عاد الحق ومن أشبعه فقد أشبع الحق على طريق " من أكرم عالما فقد أكرمني " وهذا مخصوص بالإنسان دون غيره ، لأن كمال ظهور الحق فيه لا في غيره ، لذلك لا يثبت لنفسه صفات سائر المحدثات ، ومعنى سريان العبد في الحق إحاطته ؟
جميع ما اتصف به ذات الحق بحسب استعداده ، فانظر بنظر الإنصاف كيف عادت مسائل الفن بتوجيهنا إلى سيرتها الأولى سيرة الشريعة اهـ بالى . ""
"" قال تعالى : "لئن شكرتم لأزيدنكم" [إبراهيم 7] وفي الحديث : لم يشكرني من لم يشكر من أجريت النعمة على يديه "" رواه أبو نعيم في حلية حلية الأولياء وفتح القدير وفتح المنعم بشرح مسلم ونوادر الأصول باحاديث الرسول.
فإنها المحبة التي لقب بها حبيب الله ، كما رمز إليه في الحديث « إن الناس إذا التجئوا يوم القيامة إلى الخليل أن يشفع لهم ، يقولون : أنت خليل الله اشفع لنا ، يقول لهم إنما كنت خليلا من وراء وراء » .
وفيه أيضا أن الناس يلجأون إلى نبينا يوم القيامة حتى إبراهيم عليه السلام وأنه شفيع الكل ، وسرّ ذلك أن كل واحد من النبيين له مقام الجمعية الإلهية ، وهو مقام قاب قوسين أي جميع الصفات المبدئية والمعادية .
وامتاز محمد عليه الصلاة والسلام بالتحقق بالأحدية المشار إليه بأو أدنى ، لاستواء حكم الظاهر والباطن فيه فختمه بالأحدية ، وقد غلب على إبراهيم حكم الباطن فهام ، كما غلب على موسى حكم الظاهر فملك وعلا وقهر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إنما سمي الخليل خليلا لتخلله وحصره جميع ما اتصف به الذات الإلهية ، قال الشاعر :قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا كما يتخلل اللون المتلون فيكون العرض بحيث جوهره ، ما هو كالمكان والمتمكن ) شبه اتصاف الذات بالصفات باتصاف الجوهر بالأعراض ، فإن حلول العرض في الجوهر حلول سريانى لشمول العرض جميع أجزاء الجوهر بحيث لا يخلو جزء ما منه ظاهرا أو باطنا ، بخلاف حلول المتمكن في المكان كسريان السواد في الجسم ، وهو تشبيه المعقول بالمحسوس للتفهيم.
وكذلك نفس التخلل في المحبة استعمال مبنى على التشبيه ، فإن اتصاف العبد بصفة الحق وحصره جميع صفاته ليس تخللا بمعنى الامتزاج ، بل هو محو صفات العبد بتجلى الصفات الإلهية له ، وقيامه محق صفاته حتى يكون العبد مسمى بأسماء الله تعالى كما ذكر في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وهي الكلمات التي ابتلاه الله بهن فأتمهن ، فقال له – " إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً " - فمعنى الخلة بالحقيقة ، ظهوره بصورة الحق فيكون الحق سمعه وبصره وسائر قواه ، فبه يسمع العبد وبه يبصر وتسمى هذه المحبة حب النوافل ، لكون الصفات الزائدة على ذات العبد ، ففناؤه في الحق بها حب النوافل أي الزوائد كأنه تخلل حضرات الأسماء الإلهية فتقرب به بصفات نفسه ، فكساه الله تعالى صفاته أو بالعكس
لقوله رضي الله عنه : ( أو لتخلل الحق وجود صورة إبراهيم ) وهو اتصاف الحق بصفات إبراهيم وصورته ، بأن يتعين بتعينه فيضاف إليه جميع ما يضاف إلى إبراهيم من الصفات ، فيفعل الله تعالى ما يفعل بإبراهيم ويسمع بسمعه ويرى بعينه وهو حب الفرائض ، إذ لا يوجد إبراهيم إلا به ضرورة انعدامه بنفسه ( وكل حكم يصح من ذلك كما ذكر ، فإن لكل حكم موطنا يظهر به لا يتعداه ) أي إنما يصح الحكم الأول وهو ظهور إبراهيم بصورة الحق ، في جناب الحق ومواطن قربه في الحضرة الإلهية وفي الدار الآخرة . والحكم الثاني وهو ظهور الحق بصورة إبراهيم من حيث تعينه في وجوده ، حتى تصدر عنه الصفات الخلقية وتنضاف إليه صفات النقص :
كالتأذى في قوله – " يُؤْذُونَ الله " –
والمكر في قوله – " ومَكَرَ الله " - .
والاستهزاء في قوله " الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ "
والسخرية في قوله – " سَخِرَ الله مِنْهُمْ " 
بسبب تعينه بعين العبد لا من حيث حقيقته ، وقد يضاف إليه صفات الكمال فكلا الحكمين في مواطن الحب ، كالرمى في قوله – " وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى " - فإن هذا لا يضاف إليه ، والحكم به عليه قد يصح في موطن حب الفرائض والنوافل جميعا .
فقوله رضي الله عنه : ( ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات ، وأخبر بذلك عن نفسه ، وبصفات النقص وبصفات الذم ) استشهاد ومثال للقسم الثاني .
وقوله رضي الله عنه : ( ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها ) استشهاد ومثال للحكم الأول ، كاتصاف العبد بالعلم والرحمة والكرم وأمثالها.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكلها حق له كما هي صفات المحدثات حق للحق ) أي وجميع صفات الحق تعالى حق واجب ثابت للمخلوق ، لأن حقيقة المخلوق هو الحق الظاهر بحقيقته في صورة عينه وصفاته صفاته فهي حق للمخلوق من حيث الحقيقة .
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي : ( وكلها ) أي كل صفات الحق حق له ، أي ثابت المخلوق وينعت بها ، ولولا تخلل العبد الحق لما صح هذا الحكم .اهـ بالى .""
وكذلك جميع صفات المحدثات حق واجب ثابت للحق تعالى فإنها شؤونه ، وإذا كان وجود المحدثات وجوده الظاهر فيها فكيف بصفاتها ، وصفات المحدثات بدل من الضمير أو بيان ، فإنه يجرى مجرى التفسير كأنه قال كما هي ، أي صفات المحدثات حق للحق .
قال الشيخ رضي الله عنه : ("الْحَمْدُ لِلَّه " فرجعت إليه عواقب الثناء من كل حامد ومحمود) فإن الحمد صفة كمال من كمالاته تعالى يصدر منه حقيقة ، فإنه هو الظاهر في صورة الحامد .
مظهرا لكماله بالحمد والثناء الذي هو حقيقة لكل محمود هو عينه المتجلى في صورة ذلك المحمود للكمال الذي يستحق به الحمد "وإِلَيْه يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ".
قال الشيخ رضي الله عنه : (فعم ما ذم  وحمد وما ثم إلا محمود أو مذموم ) أما عمومه لما حمد فظاهر مما مر ، وأما عمومه لما ذم فإن الذم العقلي والعرفي والشرعي لا يترتب إلا على متعين نسبى ذاتا كان أو صفة ، باعتبار تعينه ونسبته إلى متعين يوجب انعدامه أو انعدام كمال له.
ولو انقطع النظر عن ذلك التعين النسبي ، انقلب مدحا وحمدا بحسب الحقيقة وبحسب نسب أخرى أكثر من تلك النسبة ، كما أن الشهوة مذمومة والزاني والزنا مذمومان .
ولا شك أن حقيقة الشهوة هي قوة الحب الإلهي الساري في وجود النفس وهو محمود بذاته ، ألا ترى أن العنة كيف ذمت في نفسها ، وكذا الزاني باعتبار أنه إنسان ، والزنا باعتبار أنه وقاع فعل كمالى لو لم يقدر الإنسان عليه كان ناقصا مذموما .
فالشهوة باعتبار حقيقتها التي هي الحب ، وباعتبار تعينها في الصورة الذكورية أو الأنوثية ، وكونها سبب حفظ النوع وتوليد المثل وموجبة اللذة كمال محمود .
وكذا الزنا باعتبار قطع النظر عن هذا العارض كان محمودا في نفسه وبسائر النسب .
فانقلب الذم حمدا في الجميع ولم يبق توجه الذم إلا على عدم طاعة الشهوة العقل والشرع وترك سياستها لها .
فكونها مذمومة إنما هو بالإعراض عن حكمها ، حتى أدى فعلها إلى انقطاع النسب والتربية والإرث واختلال النظام بوقوع الهرج والمرج وهو فتنة .
وكلها أمور عدمية راجعة إلى اعتبار التعين الخلفي ، وجهة الإمكان وصفات الممكنات باعتبار عدميتها ، وإلا فالوجود والوجوب وأحكامهما كلها محمودة ، والأمر حمد كله .
قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم أنه ما تخلل شيء شيئا إلا كان محمولا فيه ، فالمتخلل : اسم فاعل محجوب ، بالمتخلَّل : اسم مفعول فاسم المفعول هو الظاهر ، واسم الفاعل هو الباطن المستور ) المتخلل : هو النافذ في الشيء المتغلغل في جوهره كالماء في الشجر.
ولا شك أن ذلك الشيء حامل له ظاهر ، والمحمول مستور فيه باطن ( وهو ) أي المتخلل ( غذاء له ) أي لما يتخلله ( كالماء يتخلل الصوفة فتربو به وتتسع).
قوله رضي الله عنه ( فإن كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه ، فيكون الخلق جميع أسماء الحق ، سمعه وبصره وجميع نسبه وإدراكاته وإن كان الخلق هو الظاهر فالحق مستور باطن فيه ، فالحق سمع الخلق وبصره ويده ورجله وجميع قواه ، كما ورد في الخبر الصحيح ) إشارة
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي : ( وإدراكاته ) عطف بيان لقوله ( جميع أسماء الحق ) هذا نتيجة قرب الفرائض ، فشاهد العهد في ذلك المقام في مرآة وجوده الوجود الحق ، ويرى أن الحق يسمع به ويبصر به ، وكأن الأحكام كلها للحق لكن بسبب العبد ، وهذا إذا تجلى الله لعباده باسمه الباطن ، وحينئذ كان العبد باطنا والحق ظاهرا له ( وإذا كان الخلق هو الظاهر ، فالحق مستور وباطن فيه ) أي في الخلق ، فالحق سمع الخلق وبصره ويده اه بالى . ""
إلى مقامي قربات الفرائض والنوافل ، فإن الأصل هو الحق الواجب ، فهو الفرض ، والخلق :
هو النفل الزائد ، فإذا كان الحق ظاهرا كان الخلق متخللا محمولا فيه خفيا .
وكان جميع أسماء الحق وصفاته ، كسمعه وبصره وسائر قواه وجوارحه ، كما قال عليه الصلاة والسلام « إن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده وقال هذه يد الله وأشار إلى يده » وقال تعالى  " ولكِنَّ الله رَمى" واليد يد محمد عليه الصلاة والسلام .
وقد نفى عنه الرمي حيث قال :" وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى ".
وذلك قرب الفرائض ، وإن كان الخلق ظاهرا كان الحق متخللا محمولا فيه مستورا ، فكان سمع العبد وبصره وجميع جوارحه وقواه كما جاء في الحديث وذلك قرب النفل ، وكلا الأمرين جائز في إبراهيم كما ذكر.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم إن الذات لو تعرت عن هذه النسب لم يكن إلها ، وهذه النسب أحدثتها أعياننا فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها فلا يعرف حتى نعرف ، قال عليه الصلاة والسلام « من عرف نفسه فقد عرف ربه» وهو أعلم الخلق باللَّه)
يعنى إن الذات الإلهية لا تثبت لها الصفات والنسب الأسمائية إلا بثبوت الأعيان ، فإن الصفات نسب والنسب لا تثبت بدون المنتسبين ، فالإلهية لا تثبت إلا بالمألوهية ، والربوبية بالمربوبية ، وكذا الخالقية والرازقية وأمثالها ، ولا يعرف أحد المتضايفين إلا بالآخر ، ولذلك علق عليه الصلاة والسلام معرفة الرب بمعرفة المربوب .
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي : ( وهذه النسب ) أي الصفات الإلهية التي ثبتت للحق كالخالق والرازق ، إلى غير ذلك من الصفات الإضافية ، فلا يعلم الحق من غير نظر إلى العالم . اهـ بالى ""
قال الشيخ رضي الله عنه : (فإن بعض الحكماء وأبا حامد ادعوا أنه يعرف الله من غير نظر في العالم وهذا غلط ، نعم تعرف ذات قديمة أزلية لا تعرف أنها إله حتى يعرف المألوه ، فهو الدليل عليه )
أبو حامد هو الغزالي رحمه الله ، والمراد أن الذات الموصوفة بصفة الألوهية لا تعرف إلا بالمألوهية كما مر .
بل العقل يعرف من نفس الوجود وجود الواجب وهو ذات قديمة أزلية ، فإن الله بالذات غنى عن العالمين لا بالأسماء ، فالمألوه هو الدليل على الإله .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم بعد هذا في ثاني حال يعطيك الكشف ، وأن الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيته ، )
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي :  ( وهذه النسب ) أي الصفات الإلهية التي ثبتت للحق كالخالق والرازق ،إلى غير ذلك من الصفات الإضافية ، فلا يعلم الحق من غير نظر إلى العالم.أهـ 
( ثم بعد هذا ) أي بعد معرفتك الحق بالعالم ، وهو أول مرتبة في العلم باللَّه لأنه استدلال من الأثر إلى المؤثر ، ولا توقف له على الكشف ، فإن الاستدلال المذكور يوصل إلى هذا الكشف ، على معنى أنه استدللنا بوجودنا الخارجي إلى أعياننا الثابتة لأنه أثرها ، واستدللنا بأعياننا على ألوهيته وهي صفات الله وأسماؤه ، واستدللنا بأسمائه وصفاته على ذاته تمت مرتبة الاستدلال
( ثم يعطيك الكشف ) أن أعياننا الثابتة عين الصفات وأنها عين الذات ، فكان الحق نفسه عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيته ، فإذا كان الحق عين ( الدليل ) كان نفس الحق دليلا ( على نفسه وعلى ألوهيته ) لا العالم بل العالم مرآة لفيضانه الوجود فيه بالتجلي الأسمائى كالمرآة ، فإن المرآة ليست دليلا على وجود الرائي .
بل الدليل هو الصورة الحاصلة فيها من الرائي التي هي عين الرائي ، فكان الرائي عين الدليل على نفسه ، فلا تحصل له هذه المعرفة لأن المعرفة في الحضرة فرع المعرفة بنفس الحضرة ، ومن لم يعرف الحضرة لم تكن الحضرة مرآة له ، ولم تظهر له الصور فيها حتى تحصل المعرفة اهـ بالى .""
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأن العالم ليس إلا تجليه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه ، وأنه يتنوع ويتصور بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها ، وهذا بعد العلم به منا أنه إلهنا )
يعنى أنه لما هداه العقل أنه لا بد من وجود واجب بذاته غنى عن العالمين انكشف عليه إن ساعده التوفيق ، أن ذلك الوجود الحق الواجب هو المتجلى في صور أعيان العالم بذاته .
وأن أول ظهوره هو تجليه في الجوهر الواحد والعين الواحدة المرتسمة بصور الأعيان الثابتة العلمية كلها ولا وجود لها إلا به ، فهي به موجودة أزلا وأبدا ، وينسبه إليها بنسب أسمائه ، بل التعينات العينية كلها صفاته وبها تتميز أسماؤه وتظهر الإلهية بظهورها به في صور العالم ، فهو الظاهر في صورة العالم والباطن في صور أعيانه والعين واحدة في ظهورها .
فذلك عين الدليل على نفسه ، وبعد علمنا به منا أنه إله لنا ، علمنا أنه يتنوع ويتصور بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها فإنها هو لا غيره ، وقوله : إنه إله لنا بدل من الضمير في به ، أي بعد العلم بأنه إله لنا .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم تأتي الكشف الآخر فتظهر لك صورنا فيه ، فيظهر بعضنا لبعض في الحق ،فيعرف بعضنا بعضا ويتميز بعضنا عن بعض).
الكشف الأول : هو الفناء في الحق ، لأن الشاهد والمشهود في ذلك الكشف ليس إلا الحق وحده ويسمى الجمع .
والكشف الثاني : هو البقاء بعد الفناء ، فيظهر في هذا المقام صور الخلق ، ويظهر بعض الخلق للبعض في الحق ، فيكون الحق مرآة للخلق ، على أن الوجود الواحد قد تكثر بهذه الصور الكثيرة .
فالحقيقة حق والصور خلق ، فيعرف بعض الخلق بعضا ويتميز البعض عن بعض في هذا الشهود.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمنا من يعرف أن في الحق وقعت هذه المعرفة لنا بنا ، ومنا من يجهل الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة بنا ، أعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين ).
أي فمنا المكاشف بالكشف الثاني ، من لا يحتجب بالخلق عن الحق فيعرف الكثرة الخلقية في عين الحقيقة الأحدية الحقية وهو أهل الكمال . لا يحجبهم الجلال عن الجمال والجمال عن الجلال
فإن الكشف الأول جمالى محض ، لا يشهد فيه صاحبه إلا الجمال وحده ، والصور العينية وأحوالها وتعيناتها أسماؤه وصفاته ، فهو محجوب بالجمال عن الجلال .
ومنهم أي ومن أهل الكشف الثاني ، من يحتجب بالجلال عن الجمال فيخيل الحضرة بحسب الخلق غيره فيحتجب بالخلق عن الحق ، أعوذ باللَّه من الضلال بعد الهدى .
ولا تظن أن الوجود العيني في الظاهر عين الوجود الغيبي في الباطن حقيقة ، فتحسب أن الأعيان قد انتقلت من العلم إلى العين أو بقيت هناك .
والوجود الحق ينسحب عليها فيظهر بآثارها ورسومها ، أو هي مظاهر موجودة ظهر الحق فيها ، بل الأعيان بواطن الظواهر ثابتة على معلوميتها ، وبطونها أبدا قد تظهر وتختفى .
فظهورها باسم النور ووجودها العيني الظاهر وبقاؤها على الصورة العلمية الأزلية الأبدية ووجودها الغيبي ، فهي في حالة واحدة ظاهرة وباطنة بوجود واحد حقي .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وبالكشفين معا ما يحكم علينا إلا بنا ، لا بل نحن نحكم علينا بنا ، ولكن فيه ) الحق أن لا يحكم علينا إلا بما فينا من أحوال أعياننا ، بل الحاكم والمحكوم عليه واحد كما مر.
فنحن نحكم على أعياننا الظاهرة بما فيها من حيث هي باطنة ثابتة بالتعين العلمي ، في الوجود الحق المطلق
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي :  (وبالكشفين معا ) يحصل لنا العلم ، بأنه ( ما يحكم علينا إلا بنا ) بسبب طلبنا ذلك الحكم منه لكن يظهر ذلك الحكم فينا هذا ناظر إلى الكشف الأول ( لا ) أي لا يحكم الحق بحكم من الأحكام علينا بنا (بل نحن نحكم علينا بنا ) أي الحاكم علينا بنا نحن ( ولكن ) ذلك الحكم يظهر ( فيه ) أي في مرآة الحق هذا ناظر إلى الكشف الثاني ، فمن جمع بينهما بحيث لا يحجب أحدهما عن الآخر فهو الواصل إلى درجة الكمال في رتب العلم باللَّه .أهـ بالى.""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلذلك قال : "فَلِلَّه الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ " يعنى على المحجوبين . إذا قالوا للحق : لم فعلت بنا كذا وكذا مما لا يوافق أغراضهم )
فيقول على لسان المالك: " لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ " أي بالذي هو مقتضى أعيانكم والذي سألتموه بلسان استعدادكم ، كقوله :" وما ظَلَمْناهُمْ ولكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ".
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي :  ( ولذلك ) أي ولأجل أن كون الحكم علينا منا لا من الله ، وأن ما فعل الله بنا إلا ما نحن نفعل بأنفسنا ( قال تعالى :" فَلِلَّه الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ " ) فأمكن عند العقل هداية كل ممكن ، لأن العقل قاصر عن إدراك الشيء على ما هو عليه ، فجاز أن يكون الشيء الواحد ممتنعا في نفسه ، وممكنا عند العقل وأي الحكمين المعقولين من الهداية وعدمها .
وقع ذلك  الحكم المعقول هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته  فلا يمكن الهداية في استعداد كل أحد فلا يشاء إيمانه ولما حقق الآية على التفسير : شرح تأويلها وتطبيقها على حاصل الكشفين .أهـ بالى ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكشف بهم عن ساق ) وفي نسخة : فيكشف لهم الحق عن ساق ( وهو ) شدة الأمر الذي اقتضاء أعيانهم على خلاف ما توهموه.
وهو ( الأمر الذي كشفه العارفون هنا ، فيرون ) هناك بالحقيقة رأى العين.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( أن الحق ما فعل بهم ما ادعوه أنه فعله ) بل فعلوه بأعيانهم وأنفسهم ( و ) يتحققون ( أن ذلك منهم فإنه ما علمهم إلا على ما هم عليه ) في حال ثبوت أعيانهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فتندحض حجتهم وتبقى الحجة لله البالغة فإن قلت : فما فائدة قوله : " فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ " قلنا لو شاء ، لو حرف امتناع لامتناع ، فما شاء إلا ما هو الأمر عليه ).
معنى السؤال : أن المشيئة الأولى الذاتية التي اقتضت الأعيان اقتضت ضلال الضال وهداية المهتدى ، فكان قولهم : " لَوْ شاءَ الله ما أَشْرَكْنا ولا آباؤُنا "  قولا حقا .
وقوله تعالى :" فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ . مقرر له .
فكيف يقوم جوابا لهم ومعنى الجواب أن لو حرف وضع للملازمة مع امتناع التالي الذي هو وجود الهداية ، فيستلزم عدم مشيئته الذاتية الأقدسية الموجبة لتنوع الاستعدادات ، فما شاء إلا هداية البعض وضلال البعض على ما هو الأمر عليه .
وأما قولهم : "لَوْ شاءَ الله ما أَشْرَكْنا " .
فهو كقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، حين سمع قول الخوارج : لا حكم إلا لله : كلمة حق يراد بها باطل ، فإن المشركين لما سمعوا قول المؤمنين ما شاء الله ، كأن قالوا ذلك تعنتا وإلزاما لا عن عقيدة وعلم وإلا كانوا موحدين .
ولذلك قال تعالى في جوابهم : " قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ من عِلْمٍ فَتُخْرِجُوه لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ".
وقال تعالى : " ولَوْ شاءَ الله ما أَشْرَكُوا ".
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي  ( ولو يشاء ) هداية الكل في الماضي والمستقبل ( وكذلك ) أي مثل لو شاء ( أن يشاء ) أي في الاستقبال ولو شاء في السؤال والجواب غايته أن لو شاء ما لم يكن . اهـ بالى
ومعنى( لهداكم ) : لبين لكم  أجمعين ما هو الأمر عليه كما بين لبعضكم لاقتضاء استعداده ذلك اهـ بالى .""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولكن عين الممكن قابل للشيء ونقيضه في حكم دليل العقل ، وأي الحكمين المعقولين وقع ذلك هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته )
أي لكن عين الممكن من حيث هو فرد من نوع قابل للنقيضين ، كالهداية والضلالة بالنسبة إلى كل فرد من أفراد الإنسان قابل لهما بحسب النظر العقلي .
وأي النقيضين الذي وقع من كل فرد فهو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته.
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي : (في حال ثبوته ) فلا يمكن الهداية في استعداد كل أحد فلا يشاء إيمانه ولما حقق الآية على التفسير : شرح تأويلها وتطبيقها على حاصل الكشفين .أهـ بالى ""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومعنى لهداكم لبين لكم الحق ) على ما هو عليه الأمر الإلهي في نفسه .
"" ( ومعنى لهداكم لبين لكم ) أجمعين ما هو الأمر عليه كما بين لبعضكم لاقتضاء استعداده ذلك اهـ بالى  ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما كل ممكن من العالم ) أي من الأفراد الإنسانية ( فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمر في نفسه على ما هو عليه ، فمنهم العالم والجاهل فما شاء الله فما هداهم أجمعين ) لأن الحكمة اقتضت تنوع الاستعدادات لتنوع الشؤون المختلفة.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولا يشاء وكذلك إن يشاء ) حال وجودهم في المستقبل
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي : ( ولا يشاء ) هداية الكل في الماضي والمستقبل .
( وكذلك ) أي مثل لو شاء
( أن يشاء ) أي في الاستقبال ولو شاء في السؤال والجواب غايته أن لو شاء ما لم يكن. أهـ بالى ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهل يشاء هذا ما لا يكون ) لما قلنا أنهم حال وجودهم لا يمكن أن يكونوا إلا على ما هم عليه ، أعيانهم الثابتة في العدم ، فلا يقع الممتنع فلا يشاؤه
( فمشيئته أحدية التعلق ) أي لا تتغير عما اقتضاه ذاته " لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ الله "
( وهي نسبة تابعة للعلم ، والعلم نسبة تابعة للمعلوم ، والمعلوم أنت وأحوالك ) أي في حال عينك الثابتة في الأزل
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فليس للعلم أثر في المعلوم ) فإن حال المعلوم أعطى العلم ، فلا يؤثر العلم فيه
قال الشيخ رضي الله عنه : ( بل للمعلوم أثر في العلم ، فيعطيه من نفسه ما هو عليه في عينه ، وإنما ورد الخطاب الإلهي بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون ، وما أعطاه النظر العقلي ) أي إنما خاطب الله تعالى عباده على قدر فهومهم ، وما توافق عليه العموم مما هو مبلغ عقولهم وعلومهم بالنظر العقلي من كمال قدرته وإرادته ، وإنه لو شاء لهدى الجميع لكونه فعالا لما يريد.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ما ورد الخطاب على ما يعطيه الكشف ) فإن الحكمة الإلهية اقتضت التدبير على النظام المعلوم ، فلا بد من احتجاب البعض بل الأكثر بحجب الجلال ، ليختاروا من الأمور ما يناسب استعدادهم ، ويتحملوا المشاق والمتاعب في تدابير المعاش ومصالح نظام العالم ، فيتسبب صلاح الجمهور ، والتدبير إنما يكون ويتيسر عند الاحتجاب عن سر القدر.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولذلك كثر المؤمنون وقل العارفون أصحاب الكشوف ) فإنهم المطلعون على سر القدر وأحوال العالم ، فلا يباشرون التدبير بعد العثور على التقدير
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما منا إلا له مقام معلوم ) فمن كان مقامه الوقوف مع العقل والمعقول في حال عينه فله التدبير لا يتعداه ، ومن أعطاه عينه الوقوف على سر القدر بالكشف فلا يعترض على الله بالجهل ، ولا يتعرض لتدبير تغيير القدر
( وهو ) أي اختصاص كل واحد منا بمقام معلوم لا يتخطاه ، هو هذا المعنى
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك ) كقوله تعالى : "مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي من تَحْتِهَا الأَنْهارُ ". أي هذا الكلام
( هذا إن تثبت أن لك وجودا ) أي باعتبار تعينك ، فإن التعين هو الذي سوغ نسبة الوجود الخاص الإضافي إليك .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن ثبت أن الوجود للحق ) كما هو على الحقيقة
( لا لك ، فالحكم لك بلا شك في وجود الحق)  باعتبار عينك وما هي عليه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإن ثبت أنك الموجود ) بالحقيقة بوجود إفاضة الحق عليك وأوجدك به في الخارج وأنت موجود في عالم الغيب بوجود علمي هو وجود عينك الأزلي.
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي :  ( فالحكم لك بلا شك ) أي فإن كنت معدوما باقيا في حال عدمك والظاهر الحق في مرآة وجودك ، فأنت تحكم على الله بما في عينك .
( في وجود الحق ، وإن ثبت أنك الموجود ) هذا هو القسم الأول أورده لبيان أحكامه فالحكم لك بلا شك اهـ بالى. ""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالحكم لك بلا شك ، وإن كان الحاكم الحق ) الذي أوجدك على الصفة التي أنت عليها في الوجود الخارجي فإن حكم الله هو الذي أعطاه عينك .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين يوليو 22, 2019 3:42 am

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص الإبراهيمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية  الجزء الثاني 

فقوله : وإن كان الحاكم الحق ، شرط محذوف الجزاء ، لدلالة قوله : فالحكم لك بلا شك عليه.
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي : (والحكم لك عليك ) على كلا التقديرين غير إفاضة الوجود ، وذلك أيضا من طلبك من الله ولولا طلبك لما أفاض اهـ بالى ""
وقوله رضي الله عنه : ( فليس إلا إفاضة الوجود عليك ) كلام كالنتيجة لازم الشرطية المذكورة ، أي لزم أنه ليس للحق إلا إفاضة الوجود عليك لا الحكم ، والحكم لك عليك ، ويجوز أن يكون جواب الشرط قوله : فليس له إلا إفاضة الوجود عليك ، أي وإن كان الحاكم في إيجادك الحق بقوله كن ، فليس له إلا إفاضة الوجود عليك ، والحكم بكيفيته لك عليك .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلا تحمد إلا نفسك ) أي إن اقتضت عينك الكمال والكشف والمعرفة بحقيقة الأمر على ما هو عليه ، فإنها صورة شأن من الشؤون الإلهية الأزلية.
( ولا تذم إلا نفسك ) إن اقتضت النقص والحجاب .
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي : ( فلا تحمد ) عنه ورود الحكم الملائم لطبعك ( إلا نفسك ولا تذم ) عند ورود الحكم الغير الملائم لطبعك ( إلا نفسك ) اهـ بالى . ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما بقي للحق إلا حمد إفاضة الوجود لأن ذلك له لا لك ) فإن الوجود ليس إلا له في الحقيقة أزلا وأبدا ، والحكم ما هو فيك أزلا من حيث إنك حقيقة من حقائق الجمع الإلهي ، وصورة من معلوماته وشئونه.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فأنت غذاؤه بالأحكام ) لأن الوجود الحق إنما يظهر بصور أحكام عينك وهي تخفى فيه ، فقد تغذى بصورة عينك الثابتة وجوده الذي ظهر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهو غذاؤك بالوجود ) لأنك تظهر بوجوده ، ووجوده يخفى في صورة عينك الظاهرة ، فقد تغذيت بوجوده الذي ظهرت به .
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي : ( حمد إفاضة الوجود ) وبذلك تفرق الرب من العبد
( لأن ذلك له لا لك ) بل هو أيضا يحصل لك من الله بطلب عينك
( فأنت غذاؤه بالأحكام ) هذا ناظر إلى أن الوجود للحق ظهر في مرآة العبد اه بالى
( وهو غذاؤك بالوجود ) هذا ناظر إلى أن الموجود للخلق ، لكنه ظهر في مرآة الحق. اهـ بالى ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فتعين عليه ) حكم عينك في الأزل وهو الحكم .
( ما تعين عليك ) من حكمه عليك في هذا الوجود الظاهر .
( فالأمر منه إليك ) أي هنا ( ومنك إليه ) أي في الأزل ابتداء ، وفي بعض
النسخ : وهو حكمك بالأمر منه إليك ومنك إليه ، فالضمير لما تعين ، أي قولك أوجدنى على هذه الصفة بقل كن كذلك ، فأمرك بما أمرت به ، وهو حكمك عليه بحكمه عليك .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( غير أنك تسمى مكلفا اسم مفعول ، وما كلفك إلا بما قلت له كلفني بحالك وبما أنت عليه ، ولا يسمى مكلفا اسم مفعول إذ لا كلفة عليه ،كما لا تسمى مكلفا)
اسم فاعل ، لأن الفعل والحكم والتأثير له بالأصالة ، فإنها من أحكام الوجوب الذاتي ، والانفعال والتأثر والقبول لك بالافتقار الذاتي الأصلي ، فحكمك بما هو من حيث أنك حقيقته لا غيره :
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فيحمدني وأحمده   .... ويعبدني وأعبده )
أي يحمدني بإظهار كمالاتى وإيجادى على صورته ، وأحمده بإظهار كمالاته وحسن طاعتي إياه ، ويعبدني بتهيئة أسباب بقائى ونمائى ، وإجابتى لما سألته بلسان حالي .
كما قال عليه الصلاة والسلام حين قال له أبو طالب :" ما أطوع لك ربك يا محمد " وأنت يا عم "ما أطعته إن أطعته أطاعك " والطاعة من جملة العبادة ، وأعبده بامتثال أوامره وقبول ما كلفه من التخلق بأخلاقه ، والاتصاف بأوصافه .
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي :  (فيحمدني ) لأن أحكامه تربى بي ، هذا ناظر إلى كون العبد باطنا والحق ظاهرا
( وأحمده ) لأن وجودي وأحكامى تربى به هذا ، ناظر إلى العبد ظاهر ، والحق باطن ، وكذلك ( فيعبدنى ) فإني سرب ؟
أحكامه ، فكان مربوبى من حيث ظهور أحكامه بي ، ناظر إلى أن العبد باطن والحق ظاهر 
( فاعبده ) فإني مربوب له من حيث الوجود والأحكام ، ناظر إلى أن العبد ظاهر والحق باطن ، فلا يمكن أداء هذه المعاني إلا بهذه العبارات لضيق المقام ، ولا يلزم منها ترك الأدب ، وقد أشار إليه بقوله ( العبد رب والرب عبد ) هذا إذا كان العبد باطنا والحق ظاهرا وبالعكس ، يا ليت شعري من المكلف .أهـ بالى ""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ففي حال أقر به  ... وفي الأعيان أجحده )
أي بالوجود والقول والفعل أقرّ به بلسان الحال والمقال ، فإن الموجودات كلها بوجودها شاهدة بوجوده ، وبتعينها بوحدته وبخواصها بصفاته ، وكل إنسان يقرّبه ، فإذا تجلى في صورة عين من الأعيان يجحده .
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي :  ( ففي حال ) أي في حال طهور الحق وبطونى ( أقر به وفي الأعيان ) أي في حال ظهورى وبطونه عنى ( أجحده) في الأعيان .أهـ ""
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فيعرفني وأنكره    .... وأعرفه فأشهده )
أي يعرفني في كل الأحوال وأنكره في صور الأكوان الحادثة ، وأعرفه فأشهده جمعا وتفصيلا ، فإن المعرفة والشهود من مقتضى عيني منه ، وذلك من فضله وعطائه.
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي :  (فيعرفني ) في الأعيان ( وأنكره ) فيها لعدم علمي به في الأعيان لظهور الأعيان في مرآة الحق ، فكان هو مختفيا بالأكوان ، فقوله : أنكره ، ناظر إلى قوله أجحده ( وأعرفه ) في حال ظهوره وبطونى ( وأشهده ) أي أقر به في الحال لأن المعرفة تقتضي إلا قرار ، كما أن عدمه يقتضي الإنكار. اهـ بالى .""  
قال الشيخ رضي الله عنه : (فأنى بالغنى وأنا   ... أساعده وأسعده )
أي كيف غناه بجميع الأسماء والصفات عنا ، فإن النسب الأسمائية والألوهية والربوبية والموجدية ، تتوقف على المألوهية والمربوبية وقبول الإيجاد كما مر .
وذلك التوقف هو المساعدة والإسعاد وحسن تأتي القابل الإيجاد ، والمظهرية إسعاد للموجد والظاهر في المظهر ، قال تعالى:" إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ "   والنصر هو المساعدة والإسعاد في تحقق الربوبية .
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي :  ( فأنى بالغنى ) عنى من جميع الوجوه ( و ) الحال
( أنا أساعده ) بإظهار كمالاته على حسب استعدادي هذا ، ناظر إلا كون العبد باطنا والحق ظاهرا
( وأسعده ) بإظهار وجودي وكمالاتى فيه فيساعدنى ، نظرا إلى أن العبد ظاهر والحق باطن. أهـ بالى. ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لذاك الحق وأجدني  .... فأعلمه فأوجده )
أي أوجدنى بالظهور بإيجاده ، وجعله إياي موجودا أو واجدا له ، فأعلمه بمعرفتي إياه ، فأوجده في العلم صورة مطابقة لما هو عليه في العين .
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي  ( لذاك ) أي لأجل إسعادى إياه
( الحق أوجدني ) أثبت الوجود لي نظر إلى أن العبد ظاهر والحق باطن
( فأعلمه ) بهذا الوجود . ( فأوجده ) أثبت هذا الوجود له كما أثبت لي ، نظر إلى أن العبد باطن والحق ظاهر.أهـ. ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( بذا جاء الحديث لنا  .... وحقق في مقصده )
جاء في الحديث المروي عنه عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله تعالى:"قد مثلونى بين أعينهم". أي أوجدوا مثالي ، رأى أعينهم علما وشهودا ، فمن صح علمه باللَّه وشهوده لله فقد أوجده في علمه ، ومعنى حقق في مقصده تحقق في ذاتي طلبه ، أي مطلبه بوجود مطلوبه .
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي  ( بذا جاء الحديث لنا ) قوله « فخلقت الخلق لأعرف » ( وحقق في مقصده ) حقق على بناء المفعول ، والمقصد المقصود إلخ .أهـ. بالى ""
في ( ولما كان للخليل عليه السلام هذه المرتبة التي بها سمى خليلا ) أي لما تخلل إبراهيم عليه السلام ، بسعة استعداده وقابليته جميع الاستعدادات الإلهية ، حتى ظهر به الحق أي بجميع أسمائه ، وخفى إبراهيم عليه السلام فيه ، كالرزق في المرزوق وصار غذاء للحق ، وكذلك تخلل الحق أنية إبراهيم وسرى في جميع حقائقه وقواه ومراتب وجوده ، حتى ظهر إبراهيم به وخفى الحق فيه ، وصار غذاء لإبراهيم.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لذلك سن القرى ) أي ظهر من تلك الحال عليه وغلبت حتى أثرت فيه في الخارج ، فانتشر سر حقيقته ومقامه على ظاهر حاله فسن القرى وغذى الخلائق من كل باد وحاضر ووارد وصادر ، بحكم حاله ومقامه.
( وجعله ابن مسرة ) الجيلي ( مع ميكائيل ) ملك ( للأرزاق ) .
وقال : إن الله آخى بينه وبين ميكائيل ، وقد اختلف الباقون في مرافقة الأنبياء الذين مع حمله العرش يوم القيامة ، فإنهم يومئذ ثمانية ، منهم الملائكة الأربعة : جبرائيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل.
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي : ولأجل هذه المرتبة ( جعله ابن مسرة ) بتشديد الراء المهملة من كبار أهل الطريقة ، قال : ميكائيل وإبراهيم للأرزاق .اهـ بالى .""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وبالأرزاق يكون تغذى المرزوقين ، فإذا تخلل الرزق ذات المرزوق بحيث لا يبقى فيه شيء إلا تخلله ،فإن الغذاء يسرى في جميع أجزاء المتغذى كلها).
هذا التشبيه للخلة بالتغذي كما ذكر ، فإن المتخللين يتخلل كل منهما بجمعية وجوده وأحدية جمعه حقيقة بالآخر ، كالغذاء الساري بحقيقته في جميع أجزاء المتغذى .
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي: ( أجزاء المتغذى كلها ) فوجب للخليل بهذه المرتبة أن يسرى الحق.أهـ بالى""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما هنالك أجزاء ، فلا بد أن يتخلل جميع المقامات الإلهية المعبر عنها بالأسماء ، فتظهر بها ذاته جل وعلا ) .
إشارة إلى الفرق بين المشبه والمشبه به ، فإن الحق الذي تخلله إبراهيم ليس بذى أجزاء ، فجعل الأسماء الإلهية في العقود بمثابة الأجزاء في المتغذى ، فلا بد أن يظهر الحق في صورة إبراهيم بجميع أسمائه وصفاته. فيختفى إبراهيم عليه السلام فيه :
"" من حاشية تعليقات بالى أفندي: ( وما هنالك ) أي في الحق ( أجزاء ) إذ هي محال عليه بل فيه أسماء وصفات .
( فلا بد أن يتخلل جميع المقامات الإلهية ) ومجوز أن يكون فإذن الشرط وجوابه فلا بد ، فإذا كان الأمر كما قلنا فنحن له كما ثبتت اهـ. بالى. ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فنحن له كما ثبتت  أدلتنا ونحن لنا )
لما ثبتت أدلتنا العقلية لأنا ملكه ، وأدلتنا الكشفية أن صور أعياننا صفاته ، وصفاتنا أسماؤه ، ونسبة الذاتية وشئونه ووجوداتنا الظاهرة وأنياتنا وجوده ، ونحن من حيث أعياننا لنا فإنا من هذه الحيثية حقائق موجودة في الغيب ، و أشخاص قائمة بأنفسها لا حكم علينا إلا منا :.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وليس له سوى كونى  .... فنحن له كنحن بنا )
أي ليس له كون يظهر به إلا الإنسان الجامع الكامل والإنسان المفصل وهو العالم .
فنحن له في ظهوره بنا ومظهر يتناله ، كنحن بنا بأعياننا أو وحقائقنا .
أو نحن له بوجوداتنا وأنياتنا كنحن بنا بأعياننا وخصوصياتنا وأحكامنا ، ودخول الكاف على الضمير المرفوع المنفصل لأن المراد به الكلام أي نحن له كلام مثل هذا الكلام .
وهو نحن بنا أي نحن من وجه قائمون به عباد له ومظاهر ، ومن وجه قائمون بأنفسنا حاكمون علينا .
وفسر هذا المعنى بقوله :
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلي وجهان هو وأنا   .... وليس له أنا بأنا )


يعنى أن الإنسان الكامل ذو وجهين :
وجه إلى الحق وهو هويته الباطنة التي هو بها حتى .
ووجه إلى العالم وهو أنانيته الظاهرة التي هو بها خلق .
فللانسان به الهوية والأنانية ، وليس للحق بالإنسان الأنانية ، إذ ليس له من حيث الهذية الخلقية أنا بالحقيقة .
والمرد بأنا : لفظة أنا ، أي لا يطلق عليه هذه اللفظة من هذه الحيثية ، فلهذا دخلت الفاء عليه مع كونه الضمير المرفوع المنفصل .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولكن في مظهره   ...... فنحن له كمثل أنا )
أي في الإنسان الكامل مظهره فنحن له كالإناء لما فيه ، ولفظة في للتجريد.
يعنى أنا مظهره .  كقوله تعالى: " لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ".
( والله يقول الحق وهو يهدى السبيل ) .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الأول .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين يوليو 22, 2019 3:49 am

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الأول .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص الإسحاقي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية   الجزء الأول
إنما خصت الكلمة الإسحاقية بالحكمة الحقية لتحقق رؤيا أبيه في حقه ، فإن المعنى العلمي الكلى ينزل من أم الكتاب إلى عالم اللوح المحفوظ ، وهو بمثابة القلب للعالم ، ومنه إلى عالم المثال فيتجسد فيه ، ثم إلى عالم الحس فيتحقق في الشاهد وهو المرتبة الرابعة من الوجود النازل من العالم العلوي إلى العالم السفلى ، ومن الباطن إلى الظاهر ، ومن العلم إلى الكون .
والخيال من الإنسان هو عالم المثال المقيد ، كما أن عالم المثال هو الخيال المطلق أي خيال العالم ، فللخيال الإنسانى وجه إلى عالم المثال لأنه منه فهو متصل به ، ووجه إلى النفس والبدن ، فكلما انطبع فيه نقش من هذه الجهة السفلية وتمثلت فيه صورة كان ذلك محاكاة لهيئة نفسانية أو هيئة مزاجية ، أو البخار يرتفع إلى مصعد الدماغ كما للمحرورين وأصحاب الماليخوليا فلا حقيقة له ويسمى أضغاث أحلام ، وكلما انطبعت فيه صورة من الجهة العلوية.
أي من عالم المثال أو من القلب النوراني الإنسانى فيتجسد فيه كان حقا سواء كان في النوم أو في اليقظة ، فكان رؤيا صادقة أو وحيا غير محتاج إلى تعبير أو تأويل ، لأن ما ينطبع من عالم المثال لا يكون إلا حقا لأنه من خزانة علم الحق بتوسط الملكوت السماوية فلا يمكن الخطأ فيه ، وكذا ما ينعكس من القلب المنور بنور القدس ، إلا أن تتصرف فيه القوة المتصرفة الإنسانية بالانتقال إلى صورة التشبيه والمناسب ، فتحتاج الرؤيا إلى التعبير والوحي إلى التأويل.
ولما رشح الله تعالى إبراهيم عليه السلام لمقام النبوة ، فكان جميع ما رآه في المنام من قبيل ما لا يحتاج إلى التعبير فلذلك جزم بذبح الولد وعزم عليه ، فجعله الله تعالى حقا بالتأويل.
كما جعل رؤيا يوسف حقا بتحقيق تأويله في الواقع ، كما قال تعالى حاكيا عنه " هذا تَأْوِيلُ رُؤيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " ولما كان القربان واجبا على إبراهيم عن ولده لإسلام النفس لله ، أو عن نفسه لإسلامه إياها لله ، والولد صورة سر إسلامه ، لقوله عليه الصلاة والسلام « الولد سر أبيه » صورت القوة المتصرفة بصورته:
قال الشيخ رضي الله عنه :  
(فداء نبي ذبح ذبح لقربان   ..... وأين ثؤاج الكبش من نوس إنسان)
الثواج : صوت الغنم ، والنوس : صوت سوق الإبل .
يقال : نست الإبل ، أي سقته ، والنوس أيضا : التذبذب وأناسه ذبذبه ، ولعل المراد هنا الأول لانتظام المعنى به ، والذبح : بكسر الذال ، ما تهيأ للذبح من الغنم فعل من المفعول .
استبعد قدس الله روحه ، أن يكون نبي ذبح كبش للقربان ، أي لأن يتقرب به إلى الله ، والمراد الاستفهام بمعنى التعجب ، واكتفى عن حرف الاستفهام بما في المصراع الثاني من قوله : وأين ، لأنه تقرير له .
"" إضفة بالي زادة :  ( فداء نبي ) استفهام التعجب حذف همزته العلم بها ( ذبح ) بفتح الذال مصدر ( ذبح ) بالكسر ما يذبح من الحيوانات ( وأين ثؤاج الكبش ) صوت الغنم وحركته ( من قوس ؟ إنسان ) أي من صوت الإنسان وحركته حين يذبح والفداء ينبغي أن يساوى المفدى عنه اهـ بالى زاده . ""
وقيل : معناه نفسي فداء نبي جعل ذلك الفداء ذبح ذبح ، على أن الذبح بدل من فداء ولا يخلو من تعسف :
( وعظمه الله العظيم عناية  .... به أو بنا لم أدر من أي ميزان )
حذف الياء من لم أدر تسامحا ، أي عظمه الله ، أي وصف الكبش بالعظمة في قوله : " وفَدَيْناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ".
في قوله : أدر إشارة إلى أن كلا الوجهين جائز في ميزان الكشف ، أن يكون تعظيم الكبش للعناية به حيث جعل فداء لأشرف خلق الله قائما مقامه وهو إبراهيم أو إسحاق عليهما السلام أو بهما ، لأن الإنسان الكامل على صورة الله ، فعنى به تشريفا وإكراما عن أن يقع عليها الذبح بوقوعه على ذلك الكبش فلذلك عظم ، أو لما يذكر بعد من أن الحيوان أعلى قدرا من الإنسان وأعرف باللَّه .
""إضفة بالي زادة : "عناية به" أي بالذبح تعظيما به بجعله فداء عن النبي العظيم القدر "أو بنا" أي تعظيما لشأن نبهنا ، بجعل الذبح العظيم عند الله فداء عنه "لم أدر من أي ميزان" وقع ، أمن ميزان عناية الله بنا ، أو من ميزان عنايته بالكبش ؟ .اهـ بالى زاده.""
فجعله فداء لهما مع عظمة قدره لفرط العناية بهما :
( ولا شك أن البدن أعظم قيمة   .... وقد نزلت عن ذبح كبش لقربان )
عظيم القيمة مستحب في القربان ، تعظيما لوجه الله وزيادة في التجريد ، وتغليبا لمحبة الله على حب المال ورعاية لجانب الفقراء ، ولا شك أن البدن أعظم قيمة ، ولذلك تجزى بدنة في الضحايا عن سبعة ، وفد نزلت هاهنا عن الغنم لشدة المناسبة بينه وبين النفس المسلمة الفانية في الله الباذلة بروحها لوجه الله ، لسلامة نفسه واستسلامه للذبح والفناء في الإنسان ، فإنه خلق مستسلما للذبح فحسب ، بخلاف البدن فإن المقصود الأعظم منها الركوب وحمل الأثقال .
"" إضفة بالي زادة : ( البدن ) جمع بدنة بفتحتين : وهي ناقة أو بقرة تنحر بمكة ، وقد نزلت عن الكبش لأنه جعل فداء عن نبي دون البدن أهـ . بالى زاده""
وأما الحلب فتابع لكونهما مأكولين والنظم إلى المقصود الأعظم :
( فيا ليت شعري كيف ناب بذاته    ..... شخيص كبيش عن خليقة رحمن )
تحريض على معرفة سر مناسبته للإنسان الفاني في الله،
"" إضفة بالي زادة : "كيف ناب " أي لا ينوب "بذاته عن خليفة رحمن " بل لمعنى زائد على ذاته جليل القدر عند الله ، كالذي كان في خليفة رحمن ، فيه كان نائبا عنه عليه السلام ، وهو إسحاق في كشف الشيخ قدس سره اهـ. بالى زاده ""
( ألم تدر أن الأمر فيه مرتب   .... وفاء لإرباح ونقص لخسران )
يعنى أن الأمر في الفداء مرتب ، فإن الفداء صورة الفناء في الله ، وأعظم الفداء فداء النفس في سبيل الله ، كما قال عليه الصلاة والسلام ، حين تحقق بالفناء الكلى في الله « وددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل ، ثم أحيا ثم أقاتل فأقتل ، ثم أحيا ثم أقاتل فأقتل ، ثلاث مرات.
" وقال تعالى: إِنَّ الله اشْتَرى من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ".
"" إضفة بالي زادة :  "مرتب" متناسب في الوصف لا في الذات والصورة، فلا ناب بذاته بل مع الوصف الشريف، لأنه أعظم انقيادا وتسليما للذبح عن غيره بل هذا الوصف أصل في الكبش، ففدى الشريف عن الشريف أهـ.
"لإرباح" بكسر الهمزة، أي لتجارة رابحة، فكانت تجارة إبراهيم وإسحاق الانقياد والتسليم رابحة مربحة، وربح التجارة الفداء عنهما وكانت تجارة الكبش، وهي انقياده وتسليمه للذبح رابحة ، وهي فداؤه عن خليفة رحمن "ونقص لخسران" أي ولو نقصا في الانقياد ما ربحت تجارتهما ، والإرباح مرتب على الوفاء والخسران على النقص أهـ. ""
فإن الفداء بالنفس صورة الفناء المطلق ، وهو وفاء بعهد التوحيد لإرباح هي الحق بالذات والصفات والأفعال ، كما قال في قرب الفرائض « من طلبنى فقد وجدني ، ومن وجدني فقد عرفني ، ومن عرفني فقد أحبني ومن أحبني فأنا قتلته ومن قتلته فعلى ديته ، ومن على ديته فأنا ديته » .
أو نقص كالفداء بالمال والصفات ، فإنه خسران بما بقي منه ، وقوله . وفاء خبر مبتدإ محذوف أي هو وفاء والضمير للأمر أو الفداء ، فذبح الكبش هو الوفاء لمناسبته للنفس المسلمة حق الإسلام ، المستسلمة للفناء كما ذكر ، فهو أنسب وأعلى من البدن ومن الحيوان الإنسان ، لقوة استسلامه للفناء وعدم تأبيه كما يأتي بعده ، أو الأمر في الحق مرتب وفاء بالفناء فيه بالذات لإرباح من البقاء به بالذات والصفات والأفعال ، ونقص بالظهور بالأنانية للخسران بالاحتجاب عن الحق.
فإن كل ما انقاد لأمر الله مطلقا ولم يظهر بالأنانية أصلا كالجماد كان أعلى رتبة من الموجودات لوجوده باللَّه وانقياده لأمره مطلقا وعدم ظهوره بنفسه وأنانيته، ثم النبات ثم الحيوان الأعجم من الآدمي ، ومن الحيوان كل ما هو أشد انقيادا لأمر الله كان أعلى.
فالكبش أعلى من البدن لزيادة انقياده واستسلامه، وأما تفدية عبد المطلب بالبدن، فللنظر إلى القيمة وشرف الصورة الإلهية، لقوله : " خلق آدم على صورته " وإلا فالباقي على فطرته من غير تصرف فكره ، وظهوره بنفسه وأنانيته كان أقرب إلى الحق ، لقوله :
قال الشيخ رضي الله عنه :  
( فلا خلق أعلى من جماد وبعده    ...... نبات على قدر يكون وأوزان)
"" "فلا خلق أعلى من جماد " لقلة أجزائه فكان أقرب من المبدإ لقلة الوسائط ، وما كان أقرب فهو الأفضل من الأبعد ، "وإيضاح"  البرهان قوله تعالى : "سَبَّحَ لِلَّه ما في السَّماواتِ وما في الأَرْضِ " إلخ فظهر من هذا أن كلهم أعلى من آدم من هذا الوجه ، وقد كان علمك أن آدم أفضل الخلق كيف ظهر خلاف علمك ، فاترك علمك واطلب علما نافعا يحصل عن كشف إلهي لا خلاف فيه ، وهو مقام الحيوانات والنباتات والجمادات اهـ.  ""
(وذو الحس بعد النبت والكل عارف  ..... بخلاقه كشفا وإيضاح برهان)
"" إضفة بالي زادة :  " والكل عارف بخلاقه " لعدم احتجابهم عن ربهم بسبب قلة الأجزاء والإمكانات في تركيب وجودهم " كشفا وإيضاح برهان " إذ الكشف عبارة عن رفع الحجاب ، فلا حجاب ولا رفع ، ولأن أنفسهم بقلة الأجزاء براهين واضحة على ربهم دون نفس الإنسان فيتعلق الكشف والبرهان إلى عرفانهم اهـ بالى . ""
(وأما المسمى آدما فمقيد      ...... بعقل وفكر أو قلادة إيمان )
"" إضفة بالي زادة : ( فمقيد بعقل وفكر ) مشوب بالوهم إن كان من أهل النظر ( أو قلادة إيمان ) إن كان من أهل التقليد الإيماني ، فتنقص معرفته عن سائر الحيوانات لزيادة الآثار النفسية ، فظهر من هذا أن الكبش إن كان أدنى وأخس من النبات والجماد ، لكنه أعلى وأشرف من الأناسى الحيوانيين ، فبهذا العلو والشرف يستأهل أن يكون فداء لإنسان شريف اهـ جامى.""
قال الشيخ القاشاني : يريد أن الكشف والشهود المراد بإيضاح البرهان يحكمان أن الحق متجل في كل شيء وسار بأحديته في كل موجود ، وهو عين صورته وعلمه بل كل اسم من أسمائه موصوف بجميع الأسماء الأحدية الذات الشاملة لجميع الأسماء المشتركة بينهما ، وحيث وجد الأصل وجد جميع لوازمه ، فحيث كان الوجود كان العلم والعقل ، لكن المحل إذا لم يبلغ التسوية الإنسانية أعنى الاعتدال الموجب لظهور العقل والإدراك خفى الحياة والإدراك في الباطن ولم يظهر على المحل ، فلا حس له ولا شعور كالمسكور والمغمى عليه.
فالجماد والنبات ذو حياة وإدراك في الباطن لا في الظاهر ، أي في جسده ، وكل من له حس فله نفس فله حكم ووهم ، يدرك نفسه بقوة جسدانية فتحتجب بالأنانية ويخطئ بالحكم ، بخلاف من لا حس له ولا نفس فإنه باق على فطرته لا تصرف له بنفسه .
فالجماد عارف بربه كشفا وحقيقة منقاد مطيع طبعا وطوعا .
وبعده النبات لما فيه من تصرف ما كالنمو بالغذاء وجذبه وإحالته وتوليد المثل .
فلذلك التصرف والحركة ينقص عن الجماد ، فإن الجماد يشهد بذاته وفطرته أن لا متصرف إلا الله ، وبعده الحيوان الحساس لاحتجابه بأنانيته وظهوره بإرادته وتأبيه لما يراد منه .
ثم الإنسان الناقص فإنه جاهل بربه مشرك مخطئ في رأيه ، وخصوصا في معرفة الله تعالى ، فلذلك قال تعالى: " إِنَّه كانَ ظَلُوماً جَهُولًا " فإنه غير فطرته واتخذ إلهه هواه وشاب عقله بالوهم ، فظهر بالنفس واحتجب بالأنانية وتقيد بعقله وفكره أو تقليده ، كقوله تعالى : " بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْه آباءَنا " فثبت أن الكبش أعلى مرتبة منه " أُولئِكَ كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ " – " ولكِنَّه أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَواه فَمَثَلُه كَمَثَلِ الْكَلْبِ " - بل تبين أن الجماد أعلى مرتبة من الجميع .
" وإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ من خَشْيَةِ الله " كذلك أقل درجات وأدونها لقوله " وإِنَّ من الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْه الأَنْهارُ ".
وأما الإنسان الكامل فإنما كان أشرف الجميع ، لظهور الكمالات الإلهية عليه وفنائه فيه بصفاته وذواته ، لا من حيث إنه حيوان مستوى القامة عارى البشرة ، ولو لم يغير فطرته ولم يحتجب بأنانيته ولم يشب عقله بهواه ولم يتبع الشيطان وخطاه لم يكن أحسن منه ، كما قال عليه الصلاة والسلام: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ويمجسانه وينصرانه" .
(بذا قال سهل والمحقق مثلنا   ..... لأنا وإياهم بمنزل إحسان )
أي بهذا القول ، وهو أن الجماد أعرف باللَّه وأطوع له من المخلوقات سيما الإنسان الناقص .
قال سهل بن عبد الله الصوفي:  " وكل محقق مثلنا لأنا وإياهم في مقام الإنسان وهو مقام المشاهدة والكشف وراء مقام الإيمان ، كما قال تعالى: " ثُمَّ اتَّقَوْا وآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وأَحْسَنُوا ".
""  إضفة بالي زادة :   ( بذا ) أي بما قلت ( قال سهل ) فإن علم المحققين يحصل عن كشف إلهي ، فلا يقبل الاختلاف فإنه لا يكون إلا في العلم الاجتهادى ( ولا تبذر السمراء ) أي المحنطة ( في أرض عميان ) أي لا تقل قولي لمن كان عمى قلبه ، فإنها لا تنبت المعارف الإلهية في أرضهم اهـ بالى . ""
وقال عليه الصلاة والسلام « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه » فمن لم يذق الشهود فليؤمن بقول الصحابي عن بدن النبي عليه الصلاة والسلام حين أمر بتقريبها لله قرابين أنها جاءت يزدلفن إليه عليه الصلاة والسلام بأيتهن يبدأ في قربانه :
قال الشيخ رضي الله عنه :  
( فمن شهد الأمر الذي قد شهدته     ..... يقول بقولي في خفاء وإعلان )
(ولا تلتفت قولا يخالف قولنا        ...... ولا تبذر السمراء في أرض عميان)
(هم الصم والبكم الذي أتى بهم     ...... لأسماعنا المعصوم في نص قرآن )
أي من شهد ما شهدته عرف أن شهادة الأعيان الموجودة كلها بلسان الحال الحق ، هي ذاتية فطرية .
وقال : ما أقول به كأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ، حيث قال :يشهد له أعلام الوجود
على إقرار قلب ذي الجحود ولا تبذر السمراء في أرض عميان مثل لمن يلقن المعرفة من لا يستعد لقبولها ولا يهتدى إلى الحق .
ويبصر من لا بصيرة له وهم الذين سماهم الله في القرآن الذي جاء به المعصوم أي النبي عليه الصلاة والسلام " صما وبكما " مع أنهم يسمعون وينطقون عرفا .
لعدم فهم الحق وانتفاعهم بحاسة السمع ونطقهم بالحق ، كما سماهم " عُمْياً " مع سلامة حاسة بصرهم ، لاحتجابهم عن الحق وعدم اهتدائهم ،
كقوله تعالى: " لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، ولَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها " الآية .
(اعلم أيدنا الله وإياك أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام قال لابنه : " إِنِّي أَرى في الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ " . والمنام حضرة الخيال فلم يعبرها ، وكان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام ، فصدق إبراهيم الرؤيا ) . أي لم يعبرها لما تعود به من الأخذ عن عالم المثال .
"" ضفة بالي زادة :  (فلم يعبرها ) فحمل ما رآه على ظاهره كما هو عادة الأنبياء ، فظن أن الحق أمر بذبح ابنه فباشر لذبح إطاعة لأمر ربه اهـ . بالى زاده.  ""
فلما رقاه الله تعالى عن عالم المثال ليجعل قلبه محل الاستواء الرحماني أخذ خياله المعنى من قلبه المجرد ، وتصرفت القوة المتصرفة في تصويره فصورت معنى الكبش بصورة إسحاق عليه السلام لما ذكر من كونه الأصل ، فلم يعبرها وصدقها في أن ذلك إسحاق ، وكان ذلك عند الله الذبح العظيم.
فلم يعط إبراهيم الحضرة حقها بالتعبير
( ففداه ربه من وهم إبراهيم بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند الله وهو لا يشعر ، فالتجلى الصوري في حضرة الخيال محتاج إلى علم آخر ، يدرك به ما أراد الله بتلك الصورة ) وهو علم التعبير .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقال الله تعالى - لإبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ناداه :" أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا " وما قال له : قد صدقت في لرؤيا إنه ابنك ، لأنه ما عبرها ) .
فلو صدق في رؤيا ما رأى لما كان عند الله إلا إسحاق ولذبحه ، فلم يصدق فيها بالتعبير كما هو عند الله.
قال الشيخ رضي الله عنه :  (بل أخذ بظاهر ما رأى والرؤيا تطلب التعبير ، ولذلك قال العزيز: " إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ ". ومعنى التعبير الجواز من صورة ما رآه إلى أمر آخر ، فكانت البقر سنين في المحل والخصب ، فلو صدق في الرؤيا لذبح ابنه ) ولكان عند الله كذلك .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما صدق الرؤيا في أن ذلك عين ولده ، وما كان عند الله إلا الذبح العظيم في صورة ولده ، ففداه لما وقع في ذهن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما هو فداء في نفس الأمر عند الله ) ما نفى ، أي لم يكن المذبح فداء لابنه في نفس الأمر عند الله ، بل في ذهن إبراهيم .
"" إضفة بالي زادة :  ( قد صدقت الرؤيا ) أي قد جعلت رؤياك صادقة في الحس باعتقادك ومباشرتك بحسب اعتقادك ، وليس المراد برؤياك ما أخذته بل المراد غير ذلك ، ولم تطلع على ما هو المرد ، دع نفسك عن ذبح ولدك فإنك قد ذهبت إلى غير سبيل رؤياك بتصديقك الرؤيا ، وما كان في علمي أن تذبح ولدك ، فإني قد حرمت ذبح الإنسان ، وليس لك في علمي إلا الكبش الذي رأيته في صورة ولدك ، ولو صبر إبراهيم وطلب علم ما رآه من الله لنزل الكبش إليه البتة إذ هو المعجزة المقدرة في العلم الأزلي ، ولو كان المراد ابنه لقال حين ناداه - أَنْ يا إِبْراهِيمُ  :  " قد صدقت " بالتخفيف في الرؤيا أنه ابنك ( وما قال له قد صدقت ) إلخ.
فكان الفداء فداء عن ذهن إبراهيم ، فإذا كانت رؤياه تطلب التعبير لم يصدق إبراهيم في الرؤيا ، ولو لم تطلب الرؤيا التعبير لصدق ، فكما أن ما كان عند الله إلا الذبح العظيم ، كذلك ما كان عند الله إلا تصديق الرؤيا عن إبراهيم ، وما فعل الأنبياء إلا ما عند الله اهـ. ""   

""إضفة بالي زادة :   ( ما هو فداء في نفس الأمر عند الله ) بل في ذهن إبراهيم ، فللرؤيا صورتان صورة الذبح وهو الفعل الحسي ، وصورة ولد إبراهيم وهي صورة المعاني ( فصورة الحس صورة الذبح ) وهو بعينه الذبح الذي وقع في الحس في الكبش ، فكان المراد عين تلك الصورة لا غير ، إذ الحس لا يصور إلا عين الصورة فلا يطلب ما في الحس التعبير بخلاف الخيال .أهـ  "" 

( فصور الحس الذبح وصور الخيال ابن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ) وكان شيئا واحدا فأجراه إبراهيم على عادته في المنام والوحي ، وكان ابتلاء من الله ولابنه فصدقه ، فتحقق بذلك التصديق إسلامه وإسلام ابنه تصديقهما الرؤيا فأظهر الله جلية الأمر .
""إضفة بالي زادة :  ( فصور الخيال ابن إبراهيم ) . لذلك دخل التعبير فظهرت المعنى الكبشية في خيال إبراهيم في صورة ولده فحكم وهم إبراهيم أن المراد هو نفس الصورة فعمل بما حكم عليه وهمه ، فجاز ظهور المعاني في الخيال بما تطابق بصورها الحسية أو بغيرها ، فإذا لم يظهر معنى الكبشية في خياله بصورته الكبشية فلم ير صورة الكبش . أهـ. ""
فعلم إبراهيم أن الذي رآه في صورة ابنه كان كبشا ، وأن مقتضى موطن الرؤيا هو التعبير ( فلو رأى الكبش في الخيال لعبر بابنه أو بأمر آخر ) أي على ما علمه الله لفداء من أن حق موطن الرؤيا هو التعبير ، كما لو رأى إسلامه لنفسه في صورة الذبح لعبره بالإسلام ، ثم قال :  ( إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) . أي الاختبار الظاهر ، يعنى الاختبار في العلم .
""إضفة بالي زادة :  قوله ( المبين أي الاختيار ) لعلمه عند ذبح الكبش ما كان لمراد في ذلك ، فكان قوله - إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ " - مثل قول يوسف - هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ من قَبْلُ " - فكانت هذه الآية مقدما في الذكر مؤخرا في الوقوع عن آية الفداء اهـ بالى . ""
قال الشيخ رضي الله عنه :  (هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا لأنه يعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير فغفل ، فما وفي الموطن حقه ، وصدق الرؤيا لهذا السبب ) .
لما كان الاختبار سبب العلم وكانت الرؤيا المحتاجة إلى التعبير سببا لعلمه لطف عليه ، وكلما ابتلى أنبياءه وأولياءه كان سببا لظهور كمال وعلم مكنون في أعيانهم .
فلما أراد الله أن يطلعه على علم التعبير أراه الذبح في صورة إسحاق ، وخالف عادته في إراءته الصور في منامه على ما هي عليه من ظواهرها ، فظهر بذلك كمال إيمانهما وإسلامهما لأنفسهما لله ، وعلم إبراهيم بذلك حق موطن الرؤيا من التعبير ، لأنه كان في عينه الثابتة ولم يظفر عليه بعد ، فغفل عن ذلك لأنه كان يعلم باطنا ولا يعلم ظاهرا ، فما وفي الباطن حقه وصدق الرؤيا بسبب الغفلة عما في عينه ، فكان التصديق سببا لظهور كمال وعلم جديد وهو علم التعبير ، وفي ضمنه أن الذبح والتقرب به هو صورة إسلامه الحقيقي بالفناء في الله ، فإنه من جملة علم التعبير ، وكان حاله في التصديق ( كما فعل تقى ابن مخلد ) الإمام ( صاحب المسند ، سمع في الخبر الذي ثبت عنده أنه صلى الله عليه وسلم قال « من رآني في النوم فقد رآني في اليقظة ، فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي » فرآه تقى بن مخلد وسقاه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرؤيا لبنا ، فصدق تقى بن مخلد رؤياه فاستقاء فقاء لبنا ، ولو عبر رؤياه لكان ذلك اللبن علما ، فحرمه الله علما كثيرا على قدر ما شرب .
""في الرسالة القشيرية : جاءت امرأة إلى تقيِّ بن مخلد، فقالت: إن ابني قد أسره الروم، ولا أقدر على مال أكثر من دويرة، ولا أقدر علي بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء فإنه ليس لي ليل ولا نهار، ولا نوم ولا قرار!! فقال لها: نعم، أنصرفي حتى أنظر في أمره إن شاء الله تعالى.
قال: فأطرق الشيخ وحرك شفتيه.
قال: فلبثنا مدة، فجاءت المرأة ومعها ابنها، وأخذت تدعو له وتقول: قد رجع سالماً، وله حديث يحدثك به. فقال الشاب: كنت في يدي بعض ملوك الروم مع جماعة من الأسارى، وكان له إنسان يستخدمنا كل يوم. فكان يخرجنا إلى الصحراء للخدمة، ثم يردنا علينا قيودنا. فبينا نحن نجيء من العمل بعد المغرب مع صاحبه الذي كان يحفظنا انفتح القيد من رجلي ووقع على الأرض، وصف اليوم والساعة، فوافق الوقت الذي جاءت فيه المرأة، ودعا الشيخ، قال: فنهض إلى الذي كان يحفظني وصاح عليّ وقال لي: كسرتً القيد!! 
قلت: لا، إنه سقط من رجلي قال: فتحير .. وأحضر أصحابه، وأحضروا الحداد، وقيدوني .. فملا مشيت خطوات سقط القيد من رجلي، فتحيروا في أمري!!
فدعوا رهبانهم، فقالوا لي: ألك والدة؟
قلت: نعم فقالوا: وافق دعاؤها الإجابة. وقد أطلقك الله عز وجل، فلا يمكننا تقييدك.
فزودوني، وأصحبوني بمن أوصلني إلى ناحية المسلمين." أهـ. ""
ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى في المنام بقدح لبن قال « فشربته حتى خرج الري من أظافيرى ، ثم أعطيت فضلى عمر ، قيل : ما أولته يا رسول الله ؟
قال : العلم "وما تركه لبنا على صورة ما رآه لعلمه بموطن الرؤيا وما يقتضي من التعبير ".
إنما أول اللبن بالعلم ، لأن اللبن غذاء لأبدان الأطفال الناقصين الباقين على الفطرة ، فهو صورة العلم النافع الذي هو غذاء لأرواح الناقصين الصادقين ، كالماء الذي هو سبب الحياة ، والعسل الذي هو صورة العلم الذوقية العرفانية ، والخمر الذي هو صورة الجليات والعشقيات الشهودية قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقد علم أن صورة النبي عليه الصلاة والسلام التي شاهدها الحس أنها في المدينة مدفونة ، وأن صورة روحه ولطيفته ما شاهدها أحد من أحد ولا من نفسه ، وكل روح بهذه المثابة ،
فتجسد له روح النبي عليه الصلاة والسلام في المنام بصورة جسده كما مات عليه ، ولا يخرم منه شيء ، فهو محمد عليه الصلاة والسلام المرئي من حيث روحه في صورة جسدية تشبه المدفونة ، لا يمكن للشيطان أن يتصور بصورة جسده صلى الله عليه وسلم عصمة من الله في حق الرائي ، ولهذا من رآه بهذه الصورة يأخذ عنه جميع ما يأمره به أو ينهاه أو يخبره ، كما كان يأخذه عنه في الحياة الدنيا من الأحكام ، على حسب ما يكون منه اللفظ الدال عليه من نص أو ظاهر أو مجمل أو ما كان ، فإن أعطاه شيئا فإن ذلك الشيء هو الذي يدخله التعبير ، فإن خرج في الحس كما كان في الخيال ، فتلك الرؤيا لا تعبير لها ، وبهذا القدر وعليه اعتمد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، وتقى بن مخلد ) .
ولما كان إبراهيم معصوما عصمه الله من ذبح ولده ، وما حفظ تقى بن مخلد بمنعه عن القيء فحرمه العلم .
( ولما كان للرؤيا هذان الوجهان ) أي الإبقاء على حاله والتعبير ( وعلمنا الله فيما فعل بإبراهيم وما قال له الأدب ) أي علمناه الأدب ، فيما فعل بإبراهيم من إراءته الكبش في صورة ابنه وتفديته به ، وفيما قال له في قوله : "قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ".
""إضفة بالي زادة :  اعلم أن علم التعبير علم يدرك به ما أراد الله تعالى بتلك الصورة الظاهرة في حضرة الخيال بآرائه ، وهي معرفة المناسبات التي بين الصور ومعانيها ، ومعرفة مراتب النفوس التي تظهر تلك الصور في خيالاتهم ، ومعرفة الأزمنة والأمكنة وغيرها مما له مدخل في التعبير ، فإنه قد يختلف حكم الصورة الواحدة بالنسبة إلى أشخاص مختلفة المراتب .
بل بالنسبة إلى شخص واحد في زمانين أو مكانين ، وبكمال هذه المعرفة ونقصانها تتفاوت حال المعبرين في الإصابة والخطأ في التعبير ( فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي ) فإن قلت : لا يلزم من عدم تمكن الشيطان من التمثل بصورته أن تكون صورته المثالية عينه عليه الصلاة والسلام لا غيره ، لجواز أن يتمثل بصورته ملك أو روح لإنسان أو معنى من المعافى كشرعه وسنته ، وغير ذلك مما له نسبة إليه في معنى الهداية وغيرها .
قلت : يمكن أن تكون سنة الله تعالى جارية بأن لا يتمثل بصورته وجبلته شيء أصلا تعظيما لشأنه ، ويكون تخصيص الشيطان بالذكر للاهتمام بنفي تمكنه من التمثل بصورته لما لا يخفى وجهه اهـ جامى . ""
( لما يعطيه مقام النبوة ) من الابتلاء وتعليم التعبير والتنبيه على تصديقه الرؤيا ، وأن ذلك جزاء إحسانه فإن المحسنين محبوبون لقوله تعالى: " إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ "  والمحبوب معصوم ومعنى به فلذلك علمه وأدبه ، وقوله ( علمنا في رؤيتنا الحق تعالى في صورة يردها الدليل العقلي أن نعبر تلك الصورة بالحق المشروع إما في حق حال الرائي أو المكان الذي رآه فيه ، أو هما معا ) جواب لما ، وحق العبارة أن يقول أو في حقهما معا ، فعدل إلى الضمير المرفوع على تأويل هذه الجملة أو المعبر بالحق المشروع هما معا .
""إضفة بالي زادة :  ( لما يعطيه ) الأدب ( مقام النبوة ) فالأدب في مقام النبوة طلب علم كل شيء من الله بلا حكم رأى اه ( بالحق المشروع ) وهو ما ثبت بالشرع أن الحق يتجلى بصور الاعتقادات ، وهو الذي أثبت له الشرع الأحكام المختلفة بحسب ما يناسب حال الرائي ، وهو اعتبار الحق مع الأسماء والصفات ، وفي الحقيقة ما ظهرت بهذه الصور إلا الأسماء والصفات ، وذات الحق منزهة عن هذه الظهورات ، وأما الحق الذي ثبت بالدليل العقلي وهو الحق من حيث غناؤه عن العالمين فحال عند العقل أن يثبت له غير الصفات الكمالية ، فالتعبير بالحق المشروع ( إما ) واقع ( في حال الرائي أو في ) حق ( المكان ) إذ الأمكنة مختلفة بالشرف ، فللمكان مدخل في الرؤية بالشرف والخساسة أو هما أي أو واقع في حقهما معا ، يعنى إذا رأينا الحق في المنام بتلك الصورة نعبر بالشرع ونقول إن الحق يظهر لنا بصور أحوالنا فتلك الصورة لنا لا له إبقاء لحكم الدليلين العقلي والشرعي . ""
والمعنى : أنا إذا رأينا الحق في صورة يمنع الدليل حملها على الظاهر ، عبرناها بالحق المشروع في العرف الشرعي ، لما روى : أن بعض الصالحين في بلاد الغرب
رأى الحق تعالى في المنام في دهليز بيته فلم يلتفت إليه فلطمه في وجهه ، فلما استيقظ قلق قلقا شديدا .
فأخبر الشيخ قدس سره بما رأى وفعل ، فلما رأى الشيخ ما به من القلق العظيم ، قال له : أين رأيته ؟
قال : في بيت لي اشتريته ،
قال الشيخ : ذلك الموضع مغصوب ، وهو حق للحق المشروع اشتريته ولم تراع حاله ولم تف لحق الشرع فيه فاستدركه .
ففحص الرجل عن ذلك فإذا هو من وقف المسجد وقد بيع بغصب ، ولم يعلم الرجل ولم يلتفت إلى أمره ، فلما تحقق رده إلى وقف المسجد واستغفر الله .
فمثل هذا إذا رؤي وجب تأويله ، ولعل الشيخ علمه من شدة قلقه أنه ليس بحال الرائي.
فسأل عن المكان الذي رأى فيه (وإن لم يردها الدليل العقلي أبقيناها على ما رأيناها ، كما يرى الحق في الآخرة سواء ) كما يرى في صورة نورية عقلية أو خيالية كالبدر والشمس ، أو كما يتجلى لأهل المحشر في صورة يعرف ويسجد له ، أو في صورة تنكر ويتعوذ منه سواء بلا فرق في الحكم .
""إضفة بالي زادة :  فتلك الرؤيا بتلك الصورة في الحق يدخل فيها التعبير وكذلك المكان كما قال عليه الصلاة والسلام « رأيت ربى في أحسن صورة شاب » يرده الدليل العقلي ، فصورة الشبابة في حق الرسول ظهور الحق له بهذه الصورة ، عبارة عن ربوبية تامة كاملة ( فإن لم يردها الدليل العقلي ) بأن كان ظاهرا بالصفة الكمالية ( أبقيناها ) إبقاء لحكم الدليلين لاجتماعهما في ظهور الحق بالصفات الكمالية ، كما ترى الحق في الآخرة . ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فللواحد الرحمن في كل موطن   .... من الصور ما يخفى وما هو ظاهر )
أي للواحد الذي لا يتكثر بكثرة التعينات ، الرحمن الشامل للكل ، المتجلى لكل شيء بلا نهاية في كل مجلى من الصور ، ما يخفى من الروحانيات وما هو ظاهر من الجسمانيات .
""إضفة بالي زادة :  (فللواحد الرحمن في كل موطنمن الصور ) بيان لما ( يخفى كظهوره بصور الأكوان ) فيحتاج إلى التعبير بالحق المشروع ( وما هو ظاهر ) كظهوره بالصورة الكمالية التي أثبتها العقل ( فإن قلت هذا ) أي الذي ظهر بالصور هو ( الحق قد تك صادقا ) كرؤيتنا في الآخرة ، وقد للتحقيق أو للتقليل ، أي قد تك صادقا عند الشرع ولم تك عند العقل اهـ بالى . ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن قلت هذا الحق قد تك صادقا   ..... وإن قلت أمرا آخرا أنت عابر )
قد تك صادقا لأنه هو المتعين بصورته لا شيء غيره ، وإن عبرته بغيره صدقت لأنه لا ينحصر في شيء ، فالمنحصر بالتعين غيره:
قال الشيخ رضي الله عنه :   ( وما حكمه في موطن دون موطن     ..... ولكنه بالحق للخلق سافر )
أي ليس حكمه في موطن أولى به من موطن آخر ، فإن المواطن كلها بالنسبة إلى الحق سواء ، ففي أي موطن تجلى كان حكم تجليه في سائر المواطن كذلك ، ولكنه تعالى بحقيقته يسفر عن وجه الحق للخلق .
""إضفة بالي زادة :   ( وإن قلت أمرا آخرا ) باحتجابك بالصور عن الحق ( أنت عابر ) أي مجاوز من الصورة إلى أمر آخر فأنت صادق أيضا على هذا الوجه ( فما حكمة في موطن دون موطن ) كما جعل العقل منحصر لظهوره في الصفة الكمالية ( للخلق ) أي لإيجاد الخلق ( سافر ) أي يصير نزولا من مقام أحديته إلى مقام تفصيله ، فلا يكون موطن إلا والحق ظاهر فيه بالأحكام اللائقة اهـ  ""
وفيه إيماء إلى أنه يظهر بحقيقته للخلق في صورة الخلق وإلا لم
يعرفوه فلم يظهر ، لأنه إنما يبرز في صورة العين الثابتة لكل واحد من الخلائق ، فيعرفونه ويشهدونه بقدر ما تجلى لهم فيهم :
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذا ما تجلى للعيون ترده      ..... عقول ببرهان عليه تثابر )
يعنى إذا تجلى في صورة محسوسة ترده العقول بالبرهان العقلي وإن كان حقا في طور عالم الحس وفي نفس الأمر ، لأن العقل ينزهه من أن يكون محسوسا ، فيكون في حيز وجهة ويجله عن ذلك ، وهو كما يتعالى عما ينزهه عنه تعالى يتعالى عن ذلك التنزيه أيضا .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين يوليو 22, 2019 3:50 am

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص الإسحاقي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية   الجزء الثاني
فإنه تشبيه بالأرواح وتقييد للمطلق فيكون محدودا ، والحق أنه متعال عن الجهة واللاجهة ، والتحيز واللاتحيز ، وعن تقييد الحس والعقل والخيال والوهم والفكر ، ولا يحيطون به علما وهو المحيط بالكل ، ولا يحوم حول عرفانه المقيدون ولا المشبهون ولا المنزهون ، لا باطن يحصره ويخفيه ولا ظاهر يظهره ويبديه ، تعالى عما يصفون وعما يقول الظالمون علوا كبيرا .

""إضفة بالي زادة :   وقابل الحق ( في مجلى العقول ) العقول المجردة ، وفي مجلى الخيال القلب والنفوس المجردة ، حصر ظهور الحق كل منهما في مرتبتهما ، وليس ذلك الحصر بصحيح ( والصحيح ) في قبول الحق ( النواظر ) وهي جمع ناظرة ، فتشاهد الناظرة الحق في جميع المراتب الإلهية والكونية ، فيعرفون الحق في كل موطن فيعبدونه ، فهم يستغفرون الحق بجميع كمالاته فلا يحتجبون بصور الأكوان عن الحق ، فقلوبهم يسعون فيفوتهم غير الحق اهـ بالى زاده. ""
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويقبل في مجلى العقول وفي الذي  .....   يسمى خيالا والصحيح النواظر )
أي يقبله العقلاء إذا تجلى في صورة عقلية غير محسوسة ، ولا مكيفة بكيف ولا مقدرة بمقدار يطابقها البرهان العقلي ، وكذلك تقبله الناس إذا تجلى في صورة خيالية في المنام ، ولا يقبلونه في صورة محسوسة ، والصحيح كشف شهود العيون النواظر ، وهي العيون الناظرة بالحق الغير الحاصرة له فيما تجلى لهم ظاهرا.
كقوله تعالى : "وُجُوه يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ " .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( يقول أبو يزيد رضي الله عنه في هذا المقام : لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بها وهذا وسع أبى يزيد في عالم الأجسام ، بل أقول : لو أن ما لا يتناهى وجوده يقدر انتهاء وجوده من العين الموجدة له ، في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحسن بذلك في علمه )
قلب العارف :  هو الذي وسع الحق بفنائه فيه وبقائه به مطلقا بلا تعين ، وكل ما فرض وجوده من الأمور المعينة مع العين الواحدة التي تعينت بالتعين الأول ويتعين بها كل متعين ، فهو متعين منحصر في تعينه غير مطلق ، وكل متعين فهو فان في المطلق الواجب ، وقلب العارف مع الحق المطلق بإطلاقه فيفنى فيه الكل فلا يحس به .
""إضفة بالي زادة :   ( يقول أبو يزيد في هذا المقام ) أي في مقام سعة القلب اهـ بالى زاده.
(وهذا وسع أبى يزيد ) إذ قيد وسعة القلب في الأجسام ولم يعم عالم الأرواح (من العين الموجدة له) هي العقل الأول إذ به يخلق الله جميع المخلوقات اهـ . بالى زاده.
قوله ( ما أحس بذلك في علمه ) وذلك لأن الحق تجلى له باسمه الواسع والعليم المحيط بكل شيء فيسع الممكنات كلها ، وأما كونه لا يحس بها فذلك لاشتغال القلب عنها بخالقها اهـ""

وقوله : هذا وسع أبى يزيد ، ليس بطعن فيه ، بل أراد أن أبا يزيد مع تعينه الكلى نظر إلى عالم الأجسام بالفناء ، فلو نظر بعين الله لقال مثل ذلك .
ولكنه عين عالم الأجسام بالنسبة إلى المحجوبين بالأكوان .
وعلل الشيخ ما قال بقوله ( فإنه قد ثبت أن القلب وسع الحق ومع ذلك ما اتصف بالري ، فلو امتلأ ارتوى ، وقد قال ذلك أبو يزيد ) .
إشارة إلى قول أبى يزيد : بل الرجل من يتحسى بحار السماوات والأرض ولسانه خارج يلهث عطشا . قول أبو اليزيد  :
شربت الحب كأسا بعد كأس ....   فما نفد الشراب وما رويت
والمراد أن تجليات الحق في الظاهر والباطن لا يرتوى بها العارف ، لأنه لا يحس بها من حيث التعين ، بل يشاهد الجمال المطلق الغير المتناهي تجلياته .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولقد نبهنا على هذا المقام بقولنا :
يا خالق الأشياء في نفسه  .....   أنت لما تخلقه جامع
""إضفة بالي زادة :   ( يا خالق الأشياء في نفسه ) أي في ذاته تعالى ، لأن مجموع العالم أعراض عندهم قائم بذاته لا كقيام العرض بالجوهر بل كقيام الظل بصاحبه ، فلا يخلو شيء عن الحق بل موجود به وفيه ومعنى وجود الأشياء فيه عبارة عن إحاطته الأشياء بقدرته ( أنت لما تخلقه جامع ) بوجودك المحيط بكل شيء ( تخلق ما لا ينتهى ) أي لا يتناهى ( كونه ) أي وجوده ( فيك ) ظرف الخلق أو الكون ( فأنت الضيق ) لأنه لا يسع معك غيرك شيء في قلب العارف ( الواسع ) لأنك تسع الأمور الغير المتناهية التي خلقت فيك اهـ بالى . ""
تخلق ما لا ينتهى كونه     .....  فيك فأنت الضيق الواسع )
لما كان كل ما وجد وجد بوجوده كان الكل فيه ، وهو الجامع لما يتناهى من خلقه في ذاته ، فلا وجود لغيره وهو بأحديته موجود في كل واحد جامع للكل ، فهو الضيق في كل واحد الواسع لكل ما وجد وما يوجد إلى ما لا يتناهى بأحديته الجامع لجميع الجميع .
( لو أن ما قد خلق الله ما     ......  لاح بقلبي فجره الساطع
""إضفة بالي زادة :   ( لو أن ما قد خلق الله في قلبي ) حذف لدلالة قوله ( ما لاح بقلبي ) أي ما ظهر بقلبي فحينئذ يتعلق بقلبي إلى ما لاح ( فجره ) الضمير يرجع إلى ما : أي نوره ( الساطع ) أي المرتفع ، فلو كانت الشمس في قلبي مع نورها الواضح الذي لا يخفى لأحد ما لاح بقلبي نورها فإن الحق يضيق قلبي بدخول الغير معه لاختفاء نور الحق عند ظهور نور الحق ( من وسع الحق فما ضاق عن خلق ) استفهام على سبيل التعجب ( فكيف الأمر ) أي من وسع الحق الواسع جميع الأمور الغير المتناهية ، أيضيق عن الحق الذي في الحق أم لا ؟ كيف الأمر في ذلك ؟""
 
(من وسع الحق فما ضاق عن   .....    خلق فكيف الأمر يا سامع )
في البيت الأول تقديم وتأخير ، أي لو أن ما خلق الله بقلبي ما لاح فجره ، أي ما ظهر نوره الساطع ، أي المرتفع الذي وسع المخلوقات كلها بفنائه مع الكل في الله ، والأولى أن يكون الضمير في فجره عائدا إلى ما خلق الله ، أي ما يفنى من وجوده أثر لقيامه من وسع
الحق ، إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه « ما وسعني أرضى ولا سمائي  ووسعني قلب عبدي المؤمن» : أي ما وسع الحق الذي وسعت رحمته كل شيء لم يضق عن شيء ، وكيف يضيق عن خلق ما وسعه الواسع المطلق ، أي الله تعالى
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (بالوهم يخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها وهذا هو الأمر العام ، والعارف يخلق بالهمة ما يكون له وجود من خارج في محل الهمة ، ولكن لا تزال الهمة تحفظه ولا يئوده حفظه أي حفظ ما خلقه ، فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق ، إلا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات ، وهو لا يغفل مطلقا بل لا بد من حضرة يشهدها ) .
خلق العارف إنما هو باستجماع وهمه وهمته وفكره وجميع قواه ، وفي الجملة بتسليط نفسه على إيجاد أمر في الخارج ، فإن الهمة ممن كان موصوفا بصفات الله خلاقة ولكن لما كان موجبه جمع همة وجب أن تكون الهمة متوجهة نحوه حافظة إياه ، فإن غفلت عنه بتوزع همة أو نوم أو تعلق خاطر بشيء آخر ، زال الموجب فينعدم ذلك الأمر .
بخلاف خلق الله تعالى فإنه يشهد كل شيء ولا يعزب عنه شيء أصلا ، ولا بد في خلقه أيضا من توجهات أسمائه نحو المخلوق ، إلا أنه لا يشغله شأن عن شأن ، بخلاف العارف إلا أن يكون العارف قد توغل بتجرده في الحضرات ، فيغفل عن مخلوقه من وجه ويشهده من وجه .
كمن ضبط الصورة المخلوقة في الحس والخيال والمثال والحضرة الأسمائية الإلهية فيغفل عن الحس والخيال ويحفظه في المثال أو في أعلى منه ، ولا بد من شهوده إياه في حضرة ما.
""إضفة بالي زادة :   أجبنا ( بالوهم ) لا بغيره من القوى ( يخلق ) يخترع ( كل إنسان ) وهذا هو الأمر العام يعنى أن غير العارف يوجد شيئا ولا يكون ذلك الشيء موجودا في خارج قوة خيالية ( والعارف يخلق ) والخلق هنا قصد الإظهار من الغيب إلى الحضور ، ومعطى الوجود على حسب قصدهم هو الله لا غير .
قوله ( عدم ذلك المخلوق ) لانعدام الإمداد بالغفلة لزوال الهمة بالغفلة فزال المعلوم خارج عنك
 اهـ بالى"" .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا خلق العارف بهمته ما خلق وله هذه الإحاطة، ظهر ذلك الخلق بصورته في كل حضرة وصارت الصورة تحفظ بعضها بعضا ، فإذا غفل العارف عن حضرة ما أو عن حضرات وهو شاهد حضرة ما من الحضرات حافظ لما فيها من صورة خلقه انحفظت جميع الصور بحفظه تلك الصورة الواحدة في الحضرة التي ما غفل عنها ، لأن الغفلة ما تعم قط لا في العموم ولا في الخصوص ) .
قد علمت أن الصورة الحسية الخارجية آخر مراتب الوجود ، والصورة
التي قبلها صورها فهي كالروح لها فإذا كان للعارف الإحاطة بالحضرات كلها يكفيه حضورها في واحدة من تلك الحضرات .
فإن تلك الصور حافظة بعضها بعضا أي العالية تحفظ ما تحتها ، فإذا شهدها في حضرة واحدة منها انحفظت الجميع ، لأن الغفلة ما تعم قط بحيث يغفل عن كل شيء لا يحضر صاحبها شيئا ما ولو نفسه لا في عموم الناس ولا في خصوصهم ففي أي حضرة حضر العارف حفظ صورة فيها فانحفظت الخارجية بها .
أو لأن غفلة العارف لا تعم في العموم ، أي في عموم الصور لشهوده واحدة منها ، ولا في الخصوص لحفظه كل واحدة منها بواسطة حفظ البعض.
""إضفة بالي زادة :    ( بصورة في كل حضرة ) لأن هذا العارف يخلق ذلك الخلق من مقام الجمع ، فيكون موجودا على صورته في كل حضرة بقدر نصيبه وصارت الصور تحفظ بعضها بعضا ، لأنه إذا كان الخلق بصورته موجودا في كل حضرة فقد تحفظ الهمة الصورة التي لا يغفل العارف عن حضرتها ، وتحفظ باقي الصور بالصورة المحفوظة بالهمة لوجوب التطابق بين الصور ، وهو معنى قوله : فإذا غفل العارف إلخ .
الهمة إذا تعلقت بما ليس بحاصل في الوقت فإنها تطلب النفوذ إلى مشاهدة من تعلقت به وتحصيله ، وإذا رأى صاحب الهمة مطلوبه في نفسه زالت همته وانكسرت عن طلب النفوذ ، وهو قوله :قد يرحل المرء لمطلوبه والسبب المطلوب في الراحلفإذا انكشف لك أن مطلوبك ليس غير عينك وعينك ما فارقك ، فما يبقى لهمتك متعلق . ""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وقد أوضحت هنا سرا لم تزل أهل الله يغارون على مثل هذا أن ينظر لما فيه من رد دعواهم أنهم الحق ، فإن الحق لا يغفل والعبد لا بد له أن يغفل عن شيء دون شيء فمن حيث الحفظ لما خلق له أن يقول له : أنا الحق ،ولكن ما حفظه لها حفظ الحق) .
إنما يغارون على ظهور مثل هذا السر ، لئلا يعلم الفرق بين الخلقين والحفظين غيرهم ، فيرد دعواهم أنهم الحق ، فإن الحق لا يغفل.
""إضفة بالي زادة :   لانعدام الإمداد بالغفلة لزوال الهمة بالغفلة فزال المعلوم خارج جمالية ، والسر الموضح : هو عروض الغفلة للعارف عن بعض الحضرات.أهـ   ""
""إضفة بالي زادة :   (دعواهم أنهم الحق ) من حيث إيجادهم شيئا ما ( له أن يقول أنا الحق ) كما قال المنصور ، ولم يزل عن هذا القول لعدم ظهور هذا الفرق له بغلبة نور الحق له اه فإذا شهدت تلك الحضرة التي يبقى لك الحضور فيها مع الصورة ، فقد شاهدت جميع ما في باقي الحضرات من الصور ، فإنها كتاب جامع لجميع ما في الحضرات .إهـ بالى زاده ""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وقد بينا الفرق ، ومن حيث ما غفل عن صورة ما وحضرتها فقد تميز العبد من الحق )
ما : في « ما غفل » مصدرية ، أي من حيث غفلته عن صورة ما .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولا بد أن يتميز مع بقاء الحفظ لجميع الصور بحفظه صورة واحدة منها في الحضرة التي ما غفل عنها ، فهذا حفظ بالتضمن ، وحفظ الحق ما خلق ليس كذلك بل حفظه لكل صورة على التعيين ، وهذه مسألة أخبرت أنه ما سطرها أحد في كتاب لا أنا ولا غيرى إلا في هذا الكتاب ، فهي يتيمة الوقت ) وفريدته ظاهر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإياك أن تغفل عنها ، فإن الحضرة التي تبقى لك الحضور فيها مع الصورة مثلها مثل الكتاب ، قال الله فيه: " ما فَرَّطْنا في الْكِتابِ من شَيْءٍ ".فهو الجامع للواقع وغير الواقع فلا يعرف ما قلناه إلا من كان قرآنا في نفسه ) .
أي الإنسان الكامل الجامع للحضرات كلها إذا غاب عن مخلوقه في حضرة الحس شهده في حضرة المثال أو في أعلى منها ، فمثل الحضرة التي حفظه فيها مثل الكتاب الجامع لكل ما وقع وما يقع ، فلا بد وأن يكون ذلك الإنسان قرآنا جامعا للحضرات كلها وله مرتبة في القرآنية ، أي الجمعية الأحدية ، وإلا لم يعرف ذلك ولم يمكنه
""إضفة بالي زادة : ( فهو ) أي الكتاب المذكور الجامع وهذه الحضرة ( مثل ) ذلك ( الكتاب ولا يعرف ) ذوقا وحالا وتحققا ( ما قلناه إلا من كان قرآنا ) جامعا جميع الحضرات بارتفاع حجب أنيته بالفناء في الله ، فمن كان قرآنا ( في نفسه ) يصل هذه المسألة ذوقا وحالا ، وأما من لم يصل إلى مقام الجمع فهو يصل إلى مجهوله علما بسماع هذه المسألة منه ، ثم يطلب الذوق والشهود بالفناء في الله ، وإنما لا يعرفه إلا هذا الشخص ( فإن المتقى باللَّه يجعل له فرقانا ) نورا في قلبه يميز بين العبد والحق ، ويصل إلى مقام القرآنية .اهـ  بالى زاده. ""
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن المتقى باللَّه يجعل له فرقانا ، وهو مثل ما ذكرناه في هذه المسألة فيما يتميز به العبد من الرب ، وهذا الفرقان أرفع فرقان ) .
أي المتقى بالتقوى العرفي يجعل له فرقانا : أي فارقا بين الحق والباطل ونصرا عزيزا على حسب تقواه ، فيتميز به الحق من الخلق في الصفات والأفعال ، وهذا الفرقان هو الفرق بعد الجمع ، وهو درجة المقربين الكمل الذين تقواهم أعظم تقوى وفرقانهم أرفع فرقان .
( فوقتا يكون العبد ربا بلا شك   .... ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك )
هذا البيت له معنيان محمولان على الفرقانين :
أحدهما : أن المراد بالربوبية ، الربوبية العرضية من كونه رب المال ورب الملك ، وهي التي عرضت للعبد فحالت بينه وبين تحققه بالعبودية المحضة التي ما شابها ربوبية ولا شأنها تصرف وألوهية ، فكانت عبودية بالإفك ليست بخالصة فليس في هذا الوقت بمتق ، والوقت الذي خلصت فيه عبوديته ولم يتصف بربوبية أصلا ولم يضف إلى نفسه فعلا ولا تأثيرا ، وأمسك عن التصرفات النفسية وقام بالأوامر الشرعية قضاء لحق الربوبية ووفاء لحق العبودية ، كان متقيا يجعل الله له فرقانا .
والمعنى الثاني : أن العبد الجامع بين العبودية العظمى والربوبية الكبرى في وقت خلافته عن الله عند استخلافه تعالى له ، كان عبدا لله ربا للعالمين ، فإن الخليفة على صورة المستخلف فوقتا يكون ربا للعالمين باستخلاف الحق له ، ووقتا يكون عبدا بلا إفك باستخلافه لله وتفويض أمره إليه بعد استخلاف الحق إياه تحققا بالعبودية العامة والمعرفة التامة ، لقوله عليه الصلاة والسلام في هذا المقام « اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل » فخلف الله على أهله وهو صاحبه في السفر ، فصار كل منهما مستخلفا للآخر ومستخلفا وهو مقام الخلة العظمى المذكورة قبل: .

""إضفة بالي زادة :  ( فوقتا يكون العبد ربا بلا شك ) بظهور تجلى الربوبية له واختفاء عبوديته ، وهو قوله : والعارف يخلق بهمته ( ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك ) عن عبوديته عند ظهور عجزه وقصوره بزوال الصفة الربوبية اهـ . بالى زاده . ""
( فإن كان عبدا كان بالحق واسعا    ..... وإن كان ربا كان في عيشة ضنك )
فإن كان عبدا بالتفويض المذكور ، واستخلافه الحق مع كماله باستخلاف الحق إياه ، ثبت على مستقره ومركزية فلك العبودية العظمى ، وكان واسعا بالحق على الحقيقة ، لأنه في كفالته ووكالته بالربوبية الحقيقية الذاتية التي له يعبده ، فوسعه الحق بكل ما احتاج إليه فكان كل منهما في مقامه أصيلا .
وإن كان ربا لزمه القيام بربوبية كل من ظهر بعبوديته ، وحينئذ لم يمكنه القيام بذلك حق القيام إلا بالحق ، فإن الخليفة وإن كان فيه جميع ما نطلبه الرعايا ، لكنه يجعل المستخلف فربوبته للعالم عرضية . وإن كان قبول ذلك باستعداد غير مجعول.
""إضفة بالي زادة :  ( فإن كان عبدا كان باللَّه واسعا ) لأنه قال ما وسعني أرضى ولا سمائي ( وإن كان ربا كان في عيشة ضنك ) ""

لكن الوجود الغنى والفعل والتأثير والإفاضة للحق ذاتية ، والعدم والانفعال
والتأثر والافتقار والقبول للعبد ذاتية ، فيعجز بالذات وإن كان قادرا بالعرض ، فصح كونه في ضيق وضنك :
قال الشيخ رضي الله عنه :  
( فمن كونه عبدا يرى عين نفسه .....  وتتسع الآمال منه بلا شك)
(ومن كونه ربا يرى الخلق كله .......   يطالبه من حضرة الملك والملك )
(ويعجز عما طالبوه بذاته      ....... لذا تر بعض العارفين به يبكى )

الأبيات الثلاثة ، تعليل لما في البيت الثاني وتقرير وترجيح ، بل تحقيق الثاني معنى البيت الأول والمعنى : فمن جهة كونه عبدا يرى عين نفسه بصفة العدم والافتقار والعبودية الذاتية ، وتتسع آماله في الله حقيقة ، فإن للآملين في ظل ربوبيته وفضاء ألوهيته مجالا واسعا ، فإن كل ما يسأل عين العبد بلسان استعداد القبول مبذول له من وجوه في وقته ، كما قال:  " وآتاكُمْ من كُلِّ ما سَأَلْتُمُوه " .
ومن جهة كونه ربا توجه إليه الملك والملكوت والجبروت بأسرهم يطالبونه بحقوقهم وهو يعجز عما طالبوه بذاته ، فلذا تراهم يبكون في بعض الأوقات مع كمالهم لمطالبة الكل إياه ، بما لا يحضره بالفعل بل بما ليس له بالحقيقة وحذف الياء من ترى تخفيفا ، وفي بعض النسخ : لذا كان بعض العارفين .

""إضفة بالي زادة :   ( فمن كان عبدا يرى عين نفسه ) عاجزة وقاصرة عن إتيان الأمور وتتسع الآمال منه إلى موجده بلا شك :( ومن كونه ربا يرى الحق كله  يطالبه من حضرة الملك )بالضم الشهادة ( والملك ) بالفتح عالم الملكوت ( ويعجز عما طالبوه بذاته ) بل يرجع في ذلك إلى ربه بخلاف ربوبية الحق فإنه بذاته قادر على ذلك ، فظهر الفرق من حيث كونه ربا ( لذا ) أي لأجل عجز العبد عما طالبوه منه ( به ) أي بهذا المعنى ( يبكى ) اهـ بالى . ""

( فكن عبد رب لا تكن رب عبده .....    فتذهب بالتعليق في النار والسبك )
أي التعذيب والإحراق بنار العشق والمطالبة والسبك ، لإفناء بقية الأنية المستلزمة للفقر ، فإن بقية الأنانية حجاب للغني الذاتي ، والباء في بالتعليق مثلها في قوله : "تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ " أي فتذهب ملتبسا بالتعليق .

""إضفة بالي زادة :  فاذا كانت سلامتك في العبودية و آفتك في الربوبية (فكن عبد رب لا تكن رب عبده فتذهب بالتعليق في النار و السبك) أي ضيق ومشقة لعجزه عند المطالبة بالأشياء عن إتيانها أهـ . بالى زاده. ""
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين يوليو 22, 2019 7:22 am

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية الجزء الأول .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص الإسماعيلي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية  الجزء الأول

إنما خصت الكلمة الإسماعيلية بالحكمة العلية ، لأن العلو صفة الأحدية والتكثير وهي ما يتكثر بالجمعية الأسمائية لم تكن مصدرا للعالم ولا للإنسان ، فلا بد لتكثير صفة الأحدية الذي هو الاقتدار المحض من القبول ، كما ذكر من تكثر الأحدية بالنسب الأسمائية بسبب
أعيان العالم التي لها القابلية المحضة ، وقد وصف الله تعالى إسماعيل في كلامه بالصفتين الدالتين على كماله بهما ، أي العلو وكونه مرضيا ، فإن الرضاء عنه قابليته بصفة الاقتدار المستلزم للعلو .
""إضفة بالي زادة :  أرسل الله إسماعيل إلى قبائل اليمن والعماليق ، ثم مات بمكة وعمره مائة وسبع وثلاثون سنة ، ودفن عند أمه هاجر بعد وفاة أبيه إبراهيم بثمان وأربعين سنة ، وكان له اثنا عشر لذا أهـ""

ولما كان ممد هذا الفص هاتين الصفتين ، بنى الكلام على بيان مسمى الله الواحد بالذات المتكثر بالأسماء فقال : ( اعلم أن مسمى الله أحدىّ بالذات كلّ بالأسماء ) أي أنه تعالى من حيث ذاته أحد لا كثرة فيه باعتبار ما ، لكن له باعتبار الألوهية المقتضية للمألوه نسب كثيرة غير متناهية ، كنسبة الواحد إلى الأعداد بالنصفية والثلثية وغيرهما مما لا يتناهى فهو واحد بهذه النسب ، كل في الوجود بالأسماء أي النسب والكل فيه واحد فله واحد فله أحدية جميع الجميع بقهر أحديته بالوجود الوحداني كثرة الجميع .
"" إضافة بالي زادة : (كل بالأسماء ) أي كل مجموعى يجمع الأسماء والصفات ، فكان لمسمى الله أحديتان الذاتية والأسمائية ، تسمى الأول بمقام جميع الأسماء ، والثانية بالأحدية الإلهية اهـ بالى زادة . ""

وهو كامل بالذات غنى عن الغير إذ لا غير ( وكل موجود فما له من الله إلا ربه خاصة يستحيل أن يكون له الكل ) أي كل موجود نوعي أو شخصي ، وإن كان تحت المطلقة الربوبية الإلهية ، فله ربوبية خاصة تختص به من الله رب العالمين .
ولله فيه وجه خاص هو ظهوره تعالى بالاسم الذي يربه به والحق من حيث ذلك الوجه ربه ، ولذلك كان كل شيء سواء كونه علويا أو سفليا مختصا بخاصية لا يشارك فيه غيره ، فله رب خاص هو الذات باعتبار الاسم المخصوص بذلك الشيء .
وهو مظهر لذلك الاسم كأنه تمثال له : أي حجابية ذلك الاسم وصورته الظاهرة ، ويستحيل أن يكون الكل من حيث هو كل لكل واحد ، فينحصر جميع ما للربوبية الجمعية الإلهية فيه.
"" إضافة بالي زادة :  ( فكل موجود فما له ) أي فما لكل واحد من أفراد الإنسان من مسمى الله باعتبار كونه كلا بالأسماء ( إلا ربه خاصة يستحيل أن يكون له الكل ) لذلك قال عليه الصلاة والسلام « رأيت ربى » ما قال رب العالمين وإن كان روحه مربوبا للكل ، فبوجوده الحسي له رب خاص. أهـ بالي زادة ""

( وأما الأحدية الإلهية فما لواحد فيها قدم ، لأنه لا يقال لواحد منها شيء ولآخر منها شيء ، لأنها لا تقبل التبعيض ، فأحديته مجموع كله بالقوة ) أي لا يمكن أن يكون لأحد من الموجودات في الأحدية الإلهية الجمعية قدم ، لأنها لا نتجزأ ولا تتبعض فيكون لكل واحد منها شيء فلكل اسم ربوبية خاصة .
"" إضافة بالي زادة : ( وأما الأحدية الإلهية ) الذاتية التي يشير إليه إحدى بالذات ( فما لواحد ) من الأسماء ( فيها قدم ) أي وجود فليس لها الربوبية لأحد فكانت خارجة عن قوله « من عرف نفسه عرف ربه » فلا تعرف بمعرفة النفس بل تعرف بمعرفة النفس ما له لربوبية ، وبعد ذلك تعرف هذه الأحدية الإلهية عن كشف إلهي ، وإنما لم يكن لواحد من الأسماء فيها قدم ( لأنه يقال لواحد منها ) أي من الذات الأحدية ( شيء ولآخر منها شيء ) حتى تعين الأسماء فيها بالوجود المتعين الذي يتميز به كل منها عن الآخر اهـ ( فأحديته مجموع كله بالقوة ) الضمير عائد إلى مسمى الله فمعنا أحدية مسمى الله كون المجموع بالفعل في مسمى الله مجموعا فيه بالقوة فباعتبار جمعية الأسماء في مسمى الله بالقوة يسمى أحديا بالذات ، وجمعيتها فيه بالفعل يسمى كل بالأسماء اه . والمراد من هذا الكلام إظهار عموم معنى السعادة المستورة عن إدراك أهل الحجاب ، لا السعادة النافعة المعتبرة عنه الله اهـ بالى زادة . ""

وجميع الربوبيات المتعينة في جميع المربوبين من جميع الحضرات الإلهية الأسمائية في الأحدية الذاتية بالقوة والإجمال ، وقد تفصلت فيهم وبهم بالفعل كقوله :
كل الجمال غذاء وجهك مجملا
لكنه في العالمين مفصل( والسعيد من كان عنده مرضيا ، وما ثم إلا من هو مرضى عند ربه لأنه الذي تبقى عليه ربوبيته ، فهو عنده مرضى فهو سعيد ) أي السعيد من اتصف بكمال من كمالات ربه ولا يتصف بكمال ما إلا من هو قابل له ، وكل قابل مرضى عند ربه المخصوص به إذ لو لم يرضه لم يربه ، فما في الحضرة الربوبية إلا من هو مرضى عند ربه ، لأنه الذي تبقى عليه ربوبيته ، لأن الربوبية موقوفة على قابلية المربوب لامتناعها بدون المربوب ، والمربوب لا يكون إلا قابلا فكل قابل سعيد .
( ولهذا قال سهل : إن للربوبية سرا ، وهو أنت تخاطب كل عين لو ظهر لبطلت الربوبية ، فأدخل لو وهو حرف امتناع لامتناع وهو ) يعنى ذلك السر ( لا يظهر ، فلا تبطل الربوبية لأنه لا وجود لعين إلا بربه ، والعين موجودة دائما فالربوبية لا تبطل دائما ) سر الربوبية ما يتوقف عليه من المربوبين لأنها من الأمور الإضافية ، والمربوب كل عين والعين باقية على حالها في غيب الله أبدا ، فلا يظهر ذلك السر أبدا فلا تبطل الربوبية ، فمعنى قوله والعين موجودة دائما في الغيب .
"" إضافة بالي زادة : ( ولهذا ) أي ولأجل بقاء الربوبية على العبد ( قال سهل ) وسر الشيء روحانية وسبب بقائه.
( والعين موجود دائما ) بحسب النشأة بدوام وجود علته ( فالربوبية موجودة دائما ) بدوام وجود علتها فهي العين فالرب سبب لوجود العين ، والعين سبب لوجود ربوبية ربه ، فإذا بقيت ربوبية الرب بوجود عبده كان العبد مرضيا عنده اهـ بالى زادة .""

( وكل مرضى محبوب ، وكل ما يفعل المحبوب محبوب فكله مرضى لأنه لا فعل للعين بل الفعل لربها فيها ، فاطمأنت العين أن يضاف إليها فعل ، فكانت راضية بما يظاهر فيها وعنها من أفعال ربها مرضية تلك الأفعال ، لأن كل فاعل وصانع راض عن فعله وصنعته ، فإنه وفي فعله وصنعته حق ما هي عليه – " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدى "- أي بين أنه أعطى كل شيء خلقه ) مطلوب الرب من المربوب أن يكون مظهرا له يظهر فيه أفعاله وآثاره على وفق إرادته ، والمربوب مطيع له فيما أراد بقابليته مظهر لربوبيته ، وهو مرضى عنه بإظهاره له الربوبية وإبقائها عليه ، ولا فعل له إلا قابليته وتحصيل مراده فكل مرضى محبوب ذاته وصفته وفعله ، إذ ليس إليه إلا تمكين الرب من فعله وهو عين مراده .
والفعل إنما كان للرب ، فقامت عين المربوب مطواعة بما أراد منها من إظهاره وإظهار صفاته وأفعاله ، راضية بما أراد منها مرضية وكل فاعل راض بفعله محب له فإنه أتى به على وفق إرادته ولم ير من المربوب إلا مساعدته في ذلك وفي حق صنعته.
فكل من العبد وربه راض مرضى ، أعطى الرب المطلق خلق كل شيء بربوبيته التي تخص ذلك الشيء ،على وفق إرادة الرب الخاص به ، أعنى به الاسم الذي يربه به وطاعته المربوب ، فوفى حقه بمقتضى عينه " ثُمَّ هَدى ".
أي بين للمربوب بفعل ربه فيه أنه الذي فعل فيه وظهر عليه بهذا الفعل والخلق الذي سأله بلسان عينه ( فلا يقبل النقص ) ولا الزيادة لتطابق إرادة الرب وسؤال المربوب ، وهما مقتضى المشيئة الذاتية ( فكان إسماعيل عليه السلام بعثوره على ما ذكرناه عند ربه مرضيا ، وكذا كل موجود عند ربه مرضى ) على ما ذكرناه من أن ربه ما أراد منه إلا ما ظهر عليه ، وأن عينه لقابليتها ما طلبت من الرب إلا ما أظهره عليها من صفاته وأفعاله ، ولهذا لما سئل جنيد قدس سره : ما مراد الحق من الخلق ؟
قال : ما هم عليه .
(ولا يلزم إذا كان كل موجود عند ربه مرضيا على ما بيناه أن يكون مرضيا عند رب عبد آخر ، لأنه ما أخذ الربوبية إلا من كل لا من واحد ، فما تعين له من الكل إلا ما يناسبه فهو ربه ) أي كل واحد من الأعيان أخذت من الربوبية المطلقة أي من الربوبية بجميع الأسماء ما يناسبها ويليق بها من ربوبية مختصة ، أي باسم خاص بها لا من واحد : أي ما أخذ الجميع من واحد معين حتى يلزم أنه إذا كان كل واحد مرضيا عند ربه كان مرضيا عند رب عبد آخر لأن الرب المطلق هو رب الأرباب ولكل رب خاص .
"" إضافة بالي زادة : فتفرد إسماعيل عليه السلام بهذه المرضية عن غيره ، لورود النص في حقه دون غيره ، لأن هذا العلم مودوع في روحه عليه الصلاة والسلام ، ويأخذ كل من علم هذا العلم من روحه ، وكذا أي كإسمعيل مرضى إلخ فإن عبد المضل ليس مرضيا عند الهادي وبالعكس لعدم ظهور ربوبية كل منهما في عبد الآخر ، فلا تكون الأشقياء مرضيين عند رب السعداء حتى يدخلوا دار السعداء معهم ، وإنما كان كذلك ( لأنه ما أخذ الربوبية إلا من كل ) بالأسماء ( لا من واحد ) أي لا من أحدى بالذات اهـ بالي زادة. ""

( ولا يأخذه أحد من حيث أحديته ، ولهذا منع أهل الله التجلي في الأحدية ) لأن الأحدية الذاتية هي بعينها كل بالأسماء فلا يسعها إلا الكل ، ولا تتجلى بذاتها إلا لذاتها ( فإنك إن نظرته به فهو الناظر نفسه ، فما زال ناظرا نفسه بنفسه ، وإن نظرته بك فزالت الأحدية بك ، وإن نظرته به وبك فزالت الأحدية أيضا .)
لأن ضمير التاء في نظرته ما هو عين المنظور فيه ، فلا بد من وجود نسبة ما اقتضت أمرين ناظرا ومنظورا فزالت الأحدية وإن كان لم ير إلا نفسه بنفسه ومعلوم أنه في هذا الوقف ناظر ومنظور ، فالمرضى لا يصح أن يكون مرضيا مطلقا إلا إذا كان جميع ما يظهر به من فعل الراضي فيه ) هذا دليل على أن التجلي يقتضي الكثرة لاقتضائه وجود المتجلى والمتجلى له لكونه أمرا نسبيا .
"" إضافة بالي زادة :  ( فإنك إن نظرته به ) أي نظرت الحق بالحق ، وهو النظر مع انتفاء التعين اهـ .
وأما إذا لم يظهر جميع أفعال الراضي في المرضى ، بل بعضه يظهر فيه وبعضه .
لم يظهر لظهوره في عبد رب آخر لم يكن المرضى مرضيا عند عدم ظهور ذلك البعض فلم يكن مرضيا مطلقا عند ربه ، فقد ثبت بالنص والكشف أنه عليه الصلاة والسلام مرضى مطلقا لظهور جميع فعل الراضي فيه ، فلما استوى كل موجود مع إسماعيل في كونه مرضيا عند ربه ، أراد أن يبين جهة امتيازه بقوله ففضل إسماعيل اهـ بالي زادة. ""

فكل واحد مرضى عند ربه الخاص لا مطلقا إلا الإنسان الكامل الذي له جميع صفات الراضي المطلق وأفعاله التي يظهر بها الرب المطلق فيكون الحق ناظرا ومنظورا في هذا الوصف راضيا مرضيا لا غير ، فيكون بهذا الإنسانهو الرب المطلق ، كقول الكامل " رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه " – " رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ والأَرْضِ " .
( ففضل إسماعيل غيره من الأعيان بما نعته الحق به من كونه عند ربه مرضيا )، وكذلك كل نفس مطمئنة ، قيل لها " ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ " - فما أمرها أن ترجع إلا إلى ربها الذي دعاها فعرفته من الكل " راضِيَةً مَرْضِيَّةً " ،  " فَادْخُلِي في عِبادِي " - من حيث ما لهم هذا المقام ، فالعباد المذكورون هنا كل عبد عرف ربه تعالى واقتصر عليه ولم ينظر إلى رب غيره مع أحدية العين لا بد من ذلك ) ظاهر .
"" إضافة بالي زادة : ( ولم ينظر إلى رب غيره ) كما لم ينظر ربه إلى عبد رب آخر ، فإن النظر إلى رب غيره من الجهل بربه ( مع أحدية العين ) أي مع أن ربه عين رب غيره في مقام أحدية الذات ، ومع ذلك ( لا بد من ذلك ) أي من عدم النظر إلى رب الغير ، فإن الأمر في نفسه على ذلك اهـ بالي زادة . ""

فإن الاطمئنان لا يكون إلا إذا أطاعت النفس ربها في جميع أوامره ونواهيه التي دعاها إليها فأجابته بها ، فتكون راضية مرضية عند ربها فتدخل في عباده من حيث أن لهم مقام الرضا ، فلم تنظر إلى رب غيرها من النفوس مع أحدية رب الكل بحسب الذات ، فإن عين جميع الأسماء ليست إلا ذاتا واحدة : " وادْخُلِي جَنَّتِي " - التي هي سترى ، (وليست جنتي سواك فأنت تسترني بذاتك ) الجنة : المردة من الجن وهو الستر .
ولما كان العبد مظهرا لربه كان سترا له بكونه ، وكان ملائما ربه في مظهريته له وكون أفعاله أفعاله ، فيحبه ويحب أفعاله وهو جنة ربه ( فلا أعرف إلا بك ، كما أنك لا تكون إلا بي ) فكما لا يوجد العبد إلا بربه لأنه موجود بوجوده ، فكذلك لا يعرف الرب إلا بالعبد لأنه مظهره ومظهره كما قال تعالى :" سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّه الْحَقُّ " .
وقال عليه الصلاة والسلام « من عرف نفسه فقد عرف ربه » ( فمن عرفك عرفني وأنا لا أعرف فأنت لا تعرف ) وقد ثبت أن الله لا يعرف بالحقيقة ، إذ لا يعرفه إلا هو ، فعبده الأكمل الذي هو مظهر الحق الأعظم لا يعرفه فكيف غيره.
"" إضافة بالي زادة : فتوقفت معرفة كل منهما إلى الآخر ، الأول مشاهدة المؤثر من الأثر والثاني مشاهدة الأثر من المؤثر ، وهو أتم من الأول معرفة ، ومعناه : لا يعرفني عبد إلا أنت ولا يعرفك رب إلا أنا ، ويجوز أن يكون معناه ( وأنا لا أعرف ) على البناء المعلوم إلا أنت ( فأنت لا تعرف ) إلا أنا إذ كل رب لا يعرف إلا ما كان مظهرا لربوبيته ، كما أن كل عبد لا يعرف إلا ربه الخاص ، وقد انحصر الأمر من الطرفين اهـ . بالي زادة ""


( فإذا دخلت جنة دخلت نفسك فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها ) .
أي إذا أمرك بدخول جنته برضاه عنك دخلت نفسك فعرفتها معرفة غير المعرفة الأولى ، لأن المعرفة التي عرفته بها من معرفتك نفسك أفادتك معرفة أن النقائص والمذامّ من نفسك ، والكمالات والمحامد من ربك ، فجعلت نفسك جنة وسترا من إضافة النقائص والمذام إليه.
وجعلت ربك جنة وسترا لك من إضافة الكمالات والمحامد إلى نفسك وهذه المعرفة هي معرفة نفسك من ربك ، فعرفت بها أنك مظهره ومستواه وعرشه ومجلاه ولا فعل فيك وبك إلا له ، فتضيف في هذه المعرفة الشهودية جميع الكمالات التي أضفتها إلى ربك في تلك المعرفة الغيبية إلى نفسك من حيث أنها أفعال الله فيك وبك .
وكذا المظهريات ، ولا تضيف إلى المظهر فعلا ( فتكون صاحب معرفتين
(معرفة به من حيث أنت ) أي من حيث نفسك وأحكام الإمكان التي تلزمها وهي المعرفة الأولى الاستدلالية .
( ومعرفة به بك من حيث هو لا من حيث أنت ) أي ومعرفتك بذاتك بسببه من حيث هو ، وأحكام الوجوب التي هي له وهي المعرفة الثانية .
فالباء في به في المعرفة الأولى صلة المعرفة أي معرفتك به من حيث أنت غيره وفي المعرفة الثانية ليست الباء في به صلة لها بل في بك وفي به باء السببية .
"" إضافة بالي زادة : (صاحب معرفتين معرفة به ) أي بالحق بك ( من حيث ) أنك ( أنت ، ومعرفة به بك من حيث ) أنك ( هو لا من حيث ) أنك ( أنت ) ولم تكن هاتين المعرفتين إلا لمن دخل جنة ربه الخاص اهـ بالى  زادة . ""
أي معرفتك نفسك بسبب معرفتك ربك من حيث هو لا من حيث أنت أو الاستعانة كما في قولك : كتب بالقلم وفي الحقيقة هذه الثانية معرفته إياه بنفسه في صورتك فلا لك معرفة إذ الفعل له ، فيجوز أن تكون الباء الثانية أيضا صلة المعرفة وبك بدل من الضمير بتكرير العامل .
كقوله تعالى : "لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ " فتكون معرفتك بك معرفة به من حيث هو فيرجع المعنى إلى الوجه الأول في التحقيق .
"" إضافة بالي زادة :  ( فأنت عبد ) من حيث التعين ( وأنت رب ) من حيث الهوية ( لمن له فيه أنت عبد ) أي الذي أنت في حقه عبد ، فالعبد رب لربه الخاص لا لغيره كما أنه عبد له لا لغيره ، فتعلق ربوبية العبد لمن تعلق عبوديته ، ومعنى ربوبية العبد ربه بقبول أحكامه وإظهار كمالاته فيه ، وهذه مجازات بين العبد وربه الخاص ، وأما بين العبد ورب الأرباب ، وهو قوله : وأنت رب أهـ بالي زادة . ""


ويشهد به قوله :( فأنت عبد وأنت رب  لمن له فيه أنت عبد ) أنت عبد ، باعتبار المعرفة الأولى لظهور سلطانه عليك ، ومعرفته له بصفاته الفعلية من انفعالات نفسك ، كمعرفة غضبه ورضاه من خوفك ورجائك ، وأنت رب باعتبار المعرفة الثانية مطلقا للرب الخاص الذي أنت فيه عبد له ، لظهور سلطانك به عليه من حيث إجابته لسؤالك .
وعلى من دونك من الأرباب المعينة والعبيد :(وأنت رب وأنت عبد  لمن له في الخطاب عهد) وأنت رب لما ذكر باعتبار الفناء فيه والبقاء به بالمعرفة الثانية ، وأنت عبد لمن خاطبك بخطاب " أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ " .
"" إضافة بالي زادة :  ( وأنت رب وأنت عبد  لمن له في الخطاب عهد )وهو خطاب " أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ " والعهد قول المخاطبين بل فإن هذا الخطاب عن مقام الجمع ، فكان الكل عبيدا للكل بسبب  ربهم الخاص بهم ، فكان الخطاب عاما والعهد عاما ، فيتنوع العهد الكلى بحسب القوابل إلى المعهود ، وهو العهد الجزئي الذي بين العبد وربه الخاص ، وأما بينه وبين الرب المطلق وهو عهد كلى ، فإذن يتنوع العهد .أهـ بالي زادة ""

"" إضافة بالي زادة :  ( فكل عقد ) أي فكل واحد من العبد ( عليه شخص ) من المخاطبين ( يحله ) أي العقد ( من سواه عقد ) أي من له عقد سوى ذلك العقد ، فإن من له العهد بينه وبين الاسم الهادي يحل العقد الذي بين الاسم المضل وبين عبيده ، فكان كل واحد من العبيد يحفظ عقده ويحل عقد غيره ( فرضى الله ) أي كل بالأسماء ( عن عبيده ) فهم مرضيون ، لأن عبيد الأرباب عبيده ، ومرضى الأرباب مرضيه ( ورضوا عنه فهو مرضى ) فكان الأمر الذي بين العبد وربه الخاص بعينه .
ثابتا بينه وبين الرب المطلق ، فكل عبد مرضى عند الله بالأمر الإرادى ، وأما بالأمر التكليفي ، فبعضهم مرضى وبعضهم ليس بمرضى ، فالنجاة من النار جمع الأمرين في الرضا ، ولا ينفع الرضا بالأمرين الإرادى مجردا عن الرضا بالأمر التكليفي ( فقابلت الحضرتان ) هذا ارتفع الأضداد والأمثال بظهور وحدة الوجود فلم يبين إلا الحق اهـ بالي زادة ""

فقلت بلى :
( فكل عقد عليه شخص يحله من سواه عقد )  أي فكل ما يعتقده شخص يحله اعتقاد شخص آخر ، فإن عبد اللطيف على عقد يحله عبد القهار ، وعبد الظاهر على اعتقاد يحله عبد الباطن ، وهكذا كل واحد ( فرضى الله عن عبيده ) لأنه بكل اسم من أسمائه رب لعبد رضي الله عنه ربه ، ورضى هو عن ربه ( فهم مرضيون ورضوا عنه ) كلهم ( فهو مرضى ، فتقابلت الحضرتان تقابلى الأمثال والأمثال أضداد لأن المثلين حقيقة لا يجتمعان إذ لا يتميزان ) أي تقابلت حضرات الأرباب وحضرات العبيد تقابل الأمثال ، لأن كل واحدة منهما راضية مرضية بالنسبة إلى الأخرى ، والأمثال من حيث هي ممتنع اجتماعهما أضداد ، لأن المثلين لا يجتمعان قط إذ لو اجتمعا لم يتميزا ( وما ثم إلا متميز فما ثم مثل فما في الوجود مثل فما في الوجود ضد ) أي وما في الحضرة الإلهية إلا متميز به مع كون الجميع في الوجود الذي هو حقيقة واحدة فلا مثلية في الوجود فلا ضدية ، إذ لو كانت لكانت ضدية المثل ، إذ لا تضاد في الحقيقة الواحدة .
( فإن الوجود حقيقة واحدة والشيء لا يضاد نفسه ) فتلك الحقيقة تعينت في مراتب متميزة عقلا ، فالمظهر عين الظاهر وبالعكس ، لأن التعينات صفاتها وشئونها والعين واحدة :
( فلم يبق إلا الحق لم يبق كائن   ... فما ثم موصول وما ثم باين
بذا جاء برهان العيان فما أرى   ..... بعيني إلا عينه إذ أعاين
ذلك " خَشِيَ رَبَّه " - أن يكون لعلمه بالتمييز ) أي ذلك الرضا من الجانبين ، لمن خشي أن يكون الرب لعلمه بامتياز مرتبة العبد عن مرتبة الرب ، فوقف على مرتبة عبد أنيته مرضيا عند ربه راضيا بربوبيته لرضا ربه بعبوديته قضاء الحق التمييز مع كون الحقيقة واحدة .
لما ( دلنا على ذلك ) أي على التمييز ( جهل أعيان في الوجود بما أتى به عالم) ، فقد وقع التمييز بين العبيد ) أي بين العارف وبين غير العارف ( وقد وقع التمييز بين الأرباب ) لأن العبد لا يظهر إلا ما أعطاه الرب ، والرب ما يعطى إلا ما سأله العبد بلسان استعداد عينه ( ولو لم يقع التمييز ) أي بين الأرباب .

"" إضافة بالي زادة :  ( ذلك ) أي  (" رَضِيَ الله عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْه " ، فهو "لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه "  أن يكون ) هو ، وقوله ( في الوجود ) وكذا قوله ( بما أتى به عالم ) يتعلق بجهل ، والمراد بما أتى به عالم ما ذكره من وحدة الوجود في الأبيات ، فعالم باللَّه يثبت التميز في مقام وعدمه في مقام ، وأما غير العالم فلا يثبت إلا التميز ، فدلنا على التميز عدم علمهم لعدم التمييز (فقد وقع التميز بين العبيد) ضرورة وجوب وجود العلة عند وجود المعلول ، لأن التميز بين العبيد أثر حاصل من التميز بين الأرباب . ولما كان في الدليل نوع جفاء أورد عليه قوله ولو لم يقع التميز اهـ بالي زادة  ""

( يفسر الاسم الواحد الإلهي من جميع وجوهه بما يفسر الآخر ) أي به ، فحذف للعلم به (والمعز لا يفسر بتفسير المذل إلى مثل ذلك ) من عدم تفسير كل اسم بتفسير مقابله كالنافع والضار والجليل والجميل .
ونحو ذلك ( لكنه هو من وجه الأحدية كما نقول في كل اسم إنه دليل على الذات وعلى حقيقته من حيث هو ، فالمسمى واحد ، فالمعز هو المذل من حيث المسمى ليس المذل من حيث نفسه وحقيقته ، فإن المفهوم يختلف في الفهم في كل واحد منهما ) ظاهر ، ومعلوم مما مر .
( فلا تنظر إلى الحق .... وتعريه عن الخلق )
أي الحقيقة تستلزم الخلقية استلزام الرب للمربوب والخالق للخلوق والإله للمألوه لما بينهما من التضايف ، فلا يلاحظ أحدهما بدون الآخر .
( ولا تنظر إلى الخلق ....   وتكسوه سوى الحق )
وكذا عكسه لأن الاستلزام في التضايف من الجانبين ، ولأن الخلق إذا نظرته من غير خلقه الحق بقي على عدمه الأصلي . لأنه لم يوجد إلا بوجوده :
( ونزهه وشبهه  ... وقم في مقعد الصدق )
ونزهه عن أن يكون متعينا بتعين فيشبه متعينا آخر فيلزم الشرك ، وشبهه بالخلق من حيث الحقيقة فيكون عين كل متعين إذ لا موجود سواه فهو هو ، أي فاجمع بين التنزيه والتشبيه بنفي ما سواه مطلقا ، فتقوم في مقعد الصدق ، في مقام التوحيد الذاتي ، والجمع بين المطلق والمقيد .
""  إضافة بالي زادة ولما بين في الأسماء جهة الاتحاد وجهة الاختلاف ، أراد أن يبين هذا المعنى بين الحق والخلق فقال :( فلا تنظر إلى الحق وتعريه عن الخلق ) أي مع قعرى الحق من الخلق ، بل اجعله معرى مستغنيا من حيث الذات عن الخلق ، واجعله متعلقا من حيث الصفات إلى الأكوان :( ولا تنظر إلى الخلق  تكسوه سوى الحق )من كل الوجوه بل تكسوه بالغيرية في مقام الكثرة وتكسوه بالحق في مقام الجمع ، وهو مقام تحققه بصفات الحق .
( ونزهه وشبهه ) أي نزه الحق في مقام التنزيه وهو مقام استغناء ذاته عن العالمين ، وشبهه في مقام الصفات باثباتك بالصفات الكاملة كالحياة والعلم وغير ذلك ( وقم في مقعد الصدق ) يعنى إذا علمت ذوقا ما ذكرنا لك وعلمت به فقد أقمت في مقام الكاملين وهو مقام الجمع بين الكمالين التنزيه والتشبيه ، فإذا كنت كذلك فلا يبالي لك بعد ذلك اهـ بالى زادة .  ""


( وكن في الجمع إن شئت   .... وإن شئت ففي الفرق)
وكن في الجمع ، فانظر إلى الحق بدون الخلق ، فإن الوجود ليس الإله بل هو هو ، وان شئت لاحظت الخلق بالحق ، بتعدد الواحد بالذات الكثير بالأسماء والتعينات ، فكنت في فرق باعتبار التعينات الخلقية واندراج هوية الحق في هذية الخلقية :( تحز بالكل إن كل
تبدى قصب السبق )تحز جواب الشرط : أي إن كنت في الجمع وفي الفرق بعد الجمع بحسب المشيئة تجز قصب السبق بالكل منها ، إن كل منها تبدى لك بحيث لا تحتجب بأحدهما عن الآخر ، فتشهد الحق خلقا والخلق حقا والخلق خلقا ، فلا يحجبك أحد الشهودين عن الآخر ولم يفتك شهود. لأن الكل ليس إلا هو ولا يختلف إلا بالاعتبار :
( فلا تفنى ولا تبقى  ... ولا تفنى ولا تبقى )
فلا تفنى عند كونك حقا عن الخلقية ولا تبقى حقا بلا خلق ، فإن الحقيقة واحدة ، فلك أن تكون حقا بلا خلق أو خلقا بلا حق أو حقا وخلقا معا ، ولا تفتي الخلق عند تجلى الحق فإنه فان حقيقة في الأزل ، فكيف تفنيه ولا تبقى الحق فإنه باق لم يزل ، ولك أن تثبتهما واحدا في وجود واحد لا معا :
( ولا يلقى عليك الوحي   ... في غير ولا تلقى )
وإذا كان الوجود واحدا لا غير ، فإن كنت عبدا يلقى عليك الوحي منك فيك لا من غيرك ولا في غيرك ، وإن كنت ربا فلا تلقى .
""  إضافة بالي زادة :  ( وكن في الجمع إن شئت ... وإن شئت ففي الفرق )
لأنك حينئذ نلت درجة المحققين ، فلا يضرك في أي مقام كنت من الفرق والجمع ، فإذا تحققت بما قلناه لك ( تخر ) أي تقابل وتساو ( بالكل ) أي بكل الناس في هذا الكمال ( إن كل تبدى ) أي إن قصد كل من الناس ( قصب السبق ) فلا يسبق عليك شيء منهم وأنت لا تسبق عليهم ، لأنه ليس وراء هذا المقام مقام آخر ( فلا تفنى ) من حيث حقيقتك من فنى يفنى ( ولا تبقى ) من حيث خلقيتك وتعينك لتبدل أحكام الخلقية عليك ( ولا تفنى ) الأشياء من جهة الحقية من أفنى يفنى ( ولا تبقى ) من حيث التعينات ( ولا يلقى ) مجهول ( عليك الوحي في غير ) أي لا يلقى الله الوحي عليك في حق غير بل يلقيه على نفسه ، فإنك هو من حيث هويتك وحقيقتك ، وأنت مرتبة من مراتب تفصيله ، هذا إذا كان الحق باطنا والعبد ظاهرا ( ولا تلقى ) الوحي في حق غيرك بل تلقيه على نفسك ، فإن الحق أنت من حيث الحقيقة ، هذا إذا كان الحق ظاهرا والعبد باطنا ، والوحي من جانب الحق كونه سببا لوجود العبد ولكل ما يحتاج العبد إليه ، والوحي من طرف العبد كونه سببا لظهور كمالات الحق وأحكامه . أهـ بالي زادة  ""

( الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات) لما كان الكمال المطلق للحضرة الإلهية الموصوفة بالجلال والعظمة والجمال والألوهية ذاتيا ، والثناء إنما يكون بذكر تلك النعوت فهي طالبة للثناء والحمد بالذات ، وللثناء لا يتوجه بصدق الوعيد أصلا بل بصدق الوعد ، لزم أن يكون صادق الوعد ( فيثنى عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد بل بالتجاوز – " فَلا تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِه رُسُلَه " .
لم يقل ووعيده ، بل قال " ونَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ " فوعد التجاوز (مع أنه توعد على ذلك ، فأثنى على إسماعيل بأنه صادق الوعد) ، وقد زال الإمكان في حق الحق ( يعنى لما أثنى الله تعالى على إسماعيل بصدق الوعد توجه الثناء والحضرة الإلهية طالبة للثناء ، فلزم أن يكون الله صادق الوعد على سبيل الوجوب لا الإمكان ( لما فيه من طلب المرجح ) أي لما في الإمكان من طلب المرجح ، ولا يتوقف صفة ما من صفات الله على شيء فتحقق وجوب صدق وعده ، وقد وعد التجاوز لكونه من جملة وعده.
"" إضافة بالي زادة :  ولما بين أسرار الرضا شرع في بيان أسرار الثناء فإنهما مودع في كلمة إسماعيل .  قوله ( تطلب الثناء ) من كل عبد سعيدا أو شقيا فلا بد من وقوع مطلوب الحق من كل عبد ، فلا بد من صدق الوعد والنجا وزمن الحق في حق كل عبد على حسب ما يليق بذواتهم حتى يحصل له الثناء المحمود من كل عبد على حسب مراتبهم اهـ
( فيثنى عليها بصدق الوعد ) أي لما طلب الذات الإلهية بذاته الثناء المحمود لا يثنى عليها إلا بصدق وعده وهو ( بالتجاوز ) عن سيئاتهم يدل على ذلك قوله تعالى - فَلا تَحْسَبَنَّ الله "  اهـ بالي زادة . ( ولم يقل ووعيده ) لعدم الثناء المحمود بذلك مع أنه اهـ بالى .زادة
( مع أنه توعد ذلك ) أي على الشيء ، فدلت هذه الآية على أن الله يطلب بذاته من عباده الثناء المحمود ، وأن ذلك لا يحصل إلا بصدق وعده عباده وبالتجاوز عن سيئاتهم ، فعم التجاوز للخالدين في النار أبدا بحصول النعيم الممتزج بالعذاب لهم فيثنون على الله بذلك ، فعم الثناء المطلوب ( فأثنى على إسماعيل ) فالثناء المحمود سواء كان من العبد على الحق أو من الحق إلى العبد لا يكون إلا بصدق الوعد ( وقد زال الإمكان ) أي زال بدلالة النص إمكان وقوع الوعيد على الأبد ( في حق الحق لما فيه ) أي في وقوع الإمكان ( من طلب مرجح ) وطلب المرجح لوقوع الوعيد هو الذنب ، وذلك يرتفع بوعده تعالى بالتجاوز ، فإن وعده واجب الوقوع في كل فزال وقوع الوعيد وقت وقوع التجاوز ، والتجاوز في حق الكفار حصول الرحمة الممتزجة بألم النار بحيث لا ينقص عن الألم الأول ، فإذا زال صدق الوعيد. أهـ بالي زادة ""

(فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ... و ما لوعيد الحق عين تعاين)
( فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ) أي لا صادق الوعيد لوجوب صدق وعده بالتجاوز ، وعدم تنفيذ الوعيد لقوله – " وما نُرْسِلُ بِالآياتِ " - أي آيات الوعيد " إِلَّا تَخْوِيفاً " .
ولعلهم يتقون ولأن الثناء لا يتوجه بالوعيد والحضرة الإلهية طالبة للثناء كما ذكر ، فثبت أن الإيعاد إنما يكون للتخويف لإيقاع الوعيد الزائل إمكان تحقيقه بتحقق تحقيق الوعد بالتجاوز والمنافاة ، وتحقيق الوعد للثناء
و إن دخلوا دار الشقاء فإنهم ... على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد ... و بينهما عند التجلي تباين
يسمى عذابا من عذوبة طعمه ... و ذاك له كالقشر و القشر صاين 
( مع أنه توعد ذلك ) أي على الشيء ، فدلت هذه الآية على أن الله يطلب بذاته من عباده الثناء المحمود ، وأن ذلك لا يحصل إلا بصدق وعده عباده وبالتجاوز عن سيئاتهم ، فعم التجاوز للخالدين في النار أبدا بحصول النعيم الممتزج بالعذاب لهم فيثنون على الله بذلك ، فعم الثناء المطلوب ( فأثنى على إسماعيل ) فالثناء المحمود سواء كان من العبد على الحق أو من الحق إلى العبد لا يكون إلا بصدق الوعد ( وقد زال الإمكان ) أي زال بدلالة النص إمكان وقوع الوعيد على الأبد ( في حق الحق لما فيه ) أي في وقوع الإمكان ( من طلب مرجح ) وطلب المرجح لوقوع الوعيد هو الذنب ، وذلك يرتفع بوعده تعالى بالتجاوز ، فإن وعده واجب الوقوع في كل فزال وقوع الوعيد وقت وقوع التجاوز ، والتجاوز في حق الكفار حصول الرحمة الممتزجة بألم النار بحيث لا ينقص عن الألم الأول ، فإذا زال صدق الوعيد .
( فلم يبق إلا صادق الوعد وحده عين تعاين ) على البناء للمفعول أي شخص تعاين العذاب الخالص عن الرحمة على الأبد ( نعيم مباين ) خبر مبتدإ محذوف ( نعيم ) منصوب بمباين ( جنان الخلد فالأمر ) أي نعيم جنان الخلد ونعيم دار الشقاء واحد ( وبينهما ) بين النعيمين ( عند التجلي ) عند الظهور ( تباين ) لأن نعيم الجنان رحمة خالصة عن العذاب ، ونعيم دار الشقاء رحمة ممتزجة لا تخلو عن العذاب أصلا ، فكانا عند التحقيق واحدا داخلا في حد النعمة ومتباينان عند التجلي ( يسمى ) نعيم دار الشقاء ( عذابا من عذوبة طعمه ) لأهله ، يعنى كما أن العذاب الاصطلاحي متحقق في الكفار في دار جهنم كذلك العذاب اللغوي وهو اللذة ، فكانوا جامعين بينهما ( وذاك ) أي عذابهم .
""  إضافة بالي زادة  :   الوعد والنجا وزمن الحق في حق كل عبد على حسب ما يليق بذواتهم حتى يحصل له الثناء المحمود من كل عبد على حسب مراتبهم. اهـ 
( فيثنى عليها بصدق الوعد ) أي لما طلب الذات الإلهية بذاته الثناء المحمود لا يثنى عليها إلا بصدق وعده وهو ( بالتجاوز ) عن سيئاتهم يدل على ذلك قوله تعالى - فَلا تَحْسَبَنَّ الله "  اهـ بالي زادة .  ( ولم يقل ووعيده ) لعدم الثناء المحمود بذلك مع أنه .اهـ بالى زادة  ""

( له ) أي لنعيمهم ( كالقشر والقشر صاين ) أي حافظ اليه ، فلا يزال العذاب صاينا للبه وهو لما تقرر أن المواعيد لا بد من تحققها والإيعاد قد يجاوز عنه ولا يوجد بما أوعد عليه ، قال بعض التراجم فيه :وإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادى ومنجز موعدي قال : وإن دخلوا دار الشقاء وهي جهنم لاستحقاق العقاب فلا بد أن يؤول أمرهم إلى الرحمة ، لقوله « سبقت رحمتي غضبى » فينقلب العذاب في العاقبة عذبا ، وذلك أن أهل النار إذا دخلوها وتسلط عليهم العذاب بظواهرهم وبواطنهم هلكهم الجزع والاضطرار ،فيكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا متخاصمين متقاولين.
كما نطق به كلام الله في مواضع :
وقد  "أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها "  فطلبوا أن يخفف عنهم العذاب أو أن يقضى عليهم ، كما حكى الله عنهم بقوله ليقض علينا ربك أو أن يرجعوا إلى الدنيا فلم يجابوا إلى طلباتهم .
.
يتبع


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الإثنين يوليو 22, 2019 7:23 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين يوليو 22, 2019 7:22 am

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص الإسماعيلي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية   الجزء الثاني 

هل أخبروا بقوله : " لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ ولا هُمْ يُنْظَرُونَ " ؟
وخوطبوا بمثل قوله : " إِنَّكُمْ ماكِثُونَ " ، " اخْسَؤُا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ "  فلما يئسوا وظنوا أنفسهم على العذاب والمكث على ممر السنين والأحقاب ، وتغللوا بالأغلال ومالوا إلى الاضطراب. وقالوا : " سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا من مَحِيصٍ "  .
فعند ذلك دفع الله العذاب عن بواطنهم وخبت نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ، ثم إذا تعودوا بالعذاب بعد مضى الأحقاب ألفوه ولم يتعذبوا بشدته بعد طول مدته ولم يتألموا به وإن عظم .

فعند ذلك دفع الله العذاب عن بواطنهم وخبت نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ، ثم إذا تعودوا بالعذاب بعد مضى الأحقاب ألفوه ولم يتعذبوا بشدته بعد طول مدته ولم يتألموا به وإن عظم .
ثم آل أمرهم إلى أن يتلذذوا به ويستعذبوه حتى لو هب عليهم نسيم من الجنة استكرهوا وتعذبوا به كالجعل وتأذيه برائحة الورد لتألفه بنتن الأرواث ، والتناسب الحادث بين طباعه والقاذورات.
فذلك نعيمهم الذي تباين نعيم أهل الجنان والأمر واحد ، أي أمر الالتذاذ والتنعم بينهم وبين أهل الجنان واحد ، واشمئزازهم عن نعيم الجنان كاشمئزاز أهل الجنة عن عذاب النيران ، وبينهما أي بين نعيم أهل الجنة ونعيم أهل النار عند تجلى الحق في صورة الرحمن بون بعيد .


ولهذا ورد في الحديث « سينبت في قعر جهنم الجرجير ولا ينبت الورد والفرفير » .
فإن نعيم أهل النار من رحمة أرحم الراحمين لحدوثه بعد الغضب والعذاب ، ونعيم أهل الجنة من حضرة الرحمن الرحيم ، والامتنان الجسيم ، فإذا آل العذاب إلى نعيم يسمى عذابا من عذوبة طعمه ، فيكون الأمر بينهم نعيمهم ، فلا يزال العذاب الاصطلاحي عنهم أبدا كما هو مذهب أهل السنة ، فإن الشيخ قسم الرحمة إلى رحمة ممتزجة بالعذاب ، وإلى رحمة خالصة من العذاب اهـ.
اعلم أن الشيخ قدس سره قسم الرحمة إلى رحمة ممتزجة بالعذاب ، وإلى رحمة خالصة من العذاب .


ثم قال : ( لا تكون هذه الرحمة في الدار الآخرة إلا لأهل الجنان ثم أثبت النعيم المباين لأهل الشقاء ، فالنعيم هو عين الرحمة عنده وعند سائر أهل الله ، فالنعيم منه نعيم خالص مختص بأهل الجنان ، ومنه نعيم ممتزج بالعذاب مختص بأهل جهنم ، وبعض الشارحين حمل كلامه على خلاف مراده ).
وقال في شرح هذه المسألة : إن العذاب منقطع مطلقا عن الكفار ، ومن ذلك ظن بعض الناس السوء على الشيخ رضي الله عنه وعلى أهل الله ، وستطلع حقيقة هذا المقام في آخر الفص الهودى إن شاء الله تعالى اهـ.
 يعقوب عليه السلام تزوج ليا بنت لايان بن تنويل ابن باخور أخي إبراهيم عليه السلام ، فولدت له روبيل وشمعون ولاوى ويهوذا ، ثم تزوج عليها أختها راحيل  وبين أهل الجنة في العذوبة واللذة واحدا .
وذلك أي نعيم أهل النار كنعيم أهل الجنة كالقشر لكثافة ذلك ولطافة هذا ، كالتبن والنخالة للحمار والبقر ، ولباب البر للإنسان والبشر ، والقشر صاين أي حافظ اللب .
فكذا أهل النار محامل يتحملون المشاق لعمارة العالم ، وأهل الجنة مظاهر يتحققون المعارف والحقائق لعمارة الآخرة ، فيحفظونهم عن الشدائد ويفرغونهم لملازمة المعابد .

انتهي الفص الإسماعيلي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين يوليو 22, 2019 7:34 am

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص اليعقوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية    

إنما خصت الكلمة اليعقوبية بالحكمة الروحية لغلبة الروحانية عليه ، ولذلك بنى الكلام في هذا الفص على الدين .
"" إضافة بالي زادة فولدت له يوسف وبنيامين ، وعمره إحدى وتسعون سنة ، وتوفى وعمره مائة وسبع وأربعون سنة ، أوصى إلى يوسف أن يدفنه مع أبيه إسحاق فسار به إلى الشام ودفنه عند أبيه ، ثم عاد إلى مصر وتوفى بها في ملكه ودفن فيها ، إلى أن نبشه موسى وحمله معه حين سار ببني إسرائيل إلى التيه ، ولما مات موسى حمله يوشع إلى الشام مع بني إسرائيل ودفنه عند الخليل ، وقيل بالقرب من نابلس اهـ . ""

فإن الدين الأصل القيم هو ما غلب الروح الإنسانى بحسب الفطرة من التوحيد وإسلام الوجه لله ، كما قال : "فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ " ولهذا وصى بها يعقوب بنيه بقوله  : "إِنَّ الله اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " وذلك هو الدين المعروف بين الأنبياء المتفق عليه المعهود المذكور في قوله : " شَرَعَ لَكُمْ من الدِّينِ ما وَصَّى به نُوحاً والَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وما وَصَّيْنا به إِبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيه".
ولأن الروح إذا بقي على فطرته ولم يتدنس بأحكام النشأة والعادة دبر البدن وقواه الطبيعية تدبيرا يؤدى إلى صلاح الدارين ، وهو الانقياد لأمر الله مع بقاء الروح الفائض من عند الله ، والمراد النازل مع الأنفاس عليه للاتصال الأزلي بينه وبين الحق تعالى ، ألا ترى إلى قوله : " لا تَيْأَسُوا من رَوْحِ الله إِنَّه لا يَيْأَسُ من رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ".

ومن خاصية الروح ذوق الأنفاس وعلمها وقوة المحبة والعشق وسلطان التجلي الإلهي في الشم ، من قوله عليه الصلاة والسلام « الأرواح تشامّ كما تشام الخيل ، ومن ثم وجد ريح يوسف في كنعان من مصر قال " إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ " الآية » وقال صلى الله عليه وسلم :" إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن " .
(الدين ، دينان : دين عند الله وعند من عرفه الحق تعالى ، ومن عرفه من عرفه الحق . ودين عند الخلق وقد اعتبره الله تعالى ) الدين في اللفظ يطلق بمعنى الانقياد وبمعنى الشرع الموضوع من عند الله وبمعنى الجزاء ، والمراد هاهنا الانقياد كما يأتي ، والدين الذي عند الخلق طريقة محمودة مصطلح عليها بين طائفة من أهل الصلاح ، استحسانا منهم يؤدى إلى سعادة المعاد والمعاش ، وإنما اعتبره الله لأن الغرض منه موافق لما أراد الله من الشرع الموضوع من عنده.
( فالدين الذي عند الله هو الذي اصطفاه الله وأعطاه الرتبة العلية على دين الخلق ، فقال الله تعالى : " ووَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيه ويَعْقُوبُ ، يا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " أي منقادون إليه ) ظاهرا بإتيان ما أمر به طوعا وباطنا ، لترك الاعتراض وحسن قبول الأحكام بطيب النفس ونقائها من الجرح .
كما قال تعالى : " فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا " .

( وجاء الدين بالألف واللام للتعريف والعهد فهو دين معروف وهو قوله تعالى : " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ " وهو الانقياد ، فالدين عبارة عن انقيادك ) غنى عن الشرح.
"" إضافة بالي زادة فقوله تعالى: " ِإنَّ الله اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ " يدل على أن الذين عند الله هو الشرع المصطفوى ، والإسلام هو الانقياد إليه ، وقوله : " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ " يدل على أن الدين عند الله هو انقياد العبد إلى الشرع ، فصح إطلاق الدين على المعنيين فبنى كلامه على الفرق فقال فالدين الانقياد اهـ .""

قال رضي الله عنه : ( والذي من عند الله هو الشرع الذي انقدت أنت إليه ، فالدين الانقياد ، والناموس هو الشرع الذي شرعه الله تعالى ) فرق بين الدين والشرع الذي هو المسمى بالناموس ، بأن الدين منك لأنه انقيادك لأمر الله ، والشرع من الله لأنه حكم الله تعالى .
قال رضي الله عنه : ( فمن اتصف بالانقياد لما شرع الله له فذلك الذي قام بالدين وأقامه أي أنشأه كما تقيم الصلاة ، فالعبد هو المنشئ للدين ، والحق هو الواضع للأحكام .فالانقياد عين فعلك فالدين من فعلك ، فما سعدت إلا بما كان منك ) لما كان الدين هو الانقياد والانقياد فعلك كنت فاعل الدين ومنشئه ولأن السعادة صفة لك والصفة الحاصلة لك لا تكون إلا من فعلك ، فسعادتك من فعلك ، لأن كل فعل اختيارى لا بد أن يخلق أثرا في نفس الفاعل ، فإذا انقدت لأوامره فقد أطعته ، وإذا أطعته فقد أطاعك وأفاد كمالك .
"" إضافة بالي زادة ( هو الواضع للأحكام ) وهي النواميس الإلهية ، فإذا كان العبد هو المنشئ للدين ( فالانقياد عين فعلك ) وهو الإنشاء ( فالدين ) حينئذ حاصل ( من فعلك ) وهو الانقياد ، وهو معنى ثالث الدين مغاير للأولين ( فما سعدت إلا بما كان منك ) أي بما حصل من انقيادك وهو الدين فما سعدت إلا بآثارك ( فما أثبت السعادة لك ما كان فعلك ) أي ما كان حاصلا من فعلك إذ نفس الفعل ، وهو الانقياد معنى مصدري معدوم في الخارج لا تثبت به السعادة ، بل بأثره الموجود في الخارج ( فبآثاره ) أي آثار الحق وهي المألوهات ، يسمى الحق إلها ، وبآثارك وهي إقامتك الدين سميت سعيدا ( فأنزلك الله تعالى ) في التسمية وظهور كمالاتك منزلته في التسمية وظهور كمالاته ( فالدين كله ) أي سواء كان عند الحق أو الخلق مختص ( لله ) لا يكون لغيره ( لا منه ) أي من الله ( إلا بحكم الأصالة ) فإن الأشياء كلها بحكم الأصالة لله وباللَّه ، ومن الله وإلى الله . أهـ بالي زادة  ""

كما قال « أنا جليس من ذكرني ، وأنيس من شكرني ، ومطيع من أطاعنى » ( فكما أثبت السعادة لك ما كان فعلك ، كذلك ما أثبت الأسماء الإلهية إلا أفعاله ، وهي أنت وهي المحدثان ، فبآثاره سمى إلها (وبآثارك سميت سعيدا ) أي ما أسعدك إلا فعلك .
كما أن الأسماء الإلهية لم يثبتها إليه إلا أفعاله وهي المحدثات ، فإن الخالق والرزاق والإله والرب ، لم يثبتها له إلا المخلوق والمرزوق والمألوه والمربوب التي هي آثار الخلق والرزق والألوهية والربوبية .
فكما أن الأصل بآثاره مسمى بالأسماء فكذلك سميت بآثارك سعيدا
قال رضي الله عنه : ( فأنزلك الله تعالى منزلته إذا أقمت الدين وانقدت إلى ما شرعه لك ) فجعلك مطاعا كاملا بفعلك كما هو ، لأن السعادة هي كمالك المخصوص بك .
قال رضي الله عنه : ( وسأبسط في ذلك إن شاء الله تعالى ما تقع به الفائدة ، بعد أن نبين الدين الذي عند الخلق الذي اعتبره الله ، فالدين كله لله ) لأن الانقياد ليس إلا له سواء انقدت إلى ما شرعه الله ، أو إلى ما وضعه الخلق من النواميس الحكمية لأنه لا رب غيره .
( وكله منك لا منه ) لأن الانقياد إنما هو منك لا منه ( إلا بحكم الأصالة ) لما ذكر أن أصل الفعل منه لا من المظاهر والمنقاد إليه ، سواء كان مأمورا به من عند الله أو من عند الخلق ، مأمور به في الأصل من الله ولله .
قال رضي الله عنه : ( قال الله تعالى : " ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها " وهي النواميس الحكمية التي لم يجيء الرسول المعلوم بها في العامة ، من عند الله بالطريقة الخاصة ، المعلومة في العرف ) .
الباء في قوله : بالطريقة متعلقة بابتدعوها : أي رهبانية اخترعوها بوضع تلك الطريقة الخاصة المعلومة في عرف خاص ، كطريقة التصوف في زماننا ، فإنها نواميس حكمية لم يجيء الرسول المعلوم في زمان اختراعها ، كمحمد صلى الله عليه وسلم في زماننا بها في عموم الناس من عند الله .
فإنها طريقة أهل الخصوص من أهل الرياضة السالكين طريق الحق لا تحتملها العامة ولا تجب عليهم
قال رضي الله عنه : ( فلما وافقت الحكمة والمصلحة الظاهرة فيها ) أي في تلك النواميس ( الحكم الإلهي في المقصود بالوضع المشروع الإلهي ) وهو الكمال الإنسانى .
"" إضافة بالي زادة ولما وعد بيان الدين الذي عند الخلق شرع بقوله ( قال تعالى: "ورَهْبانِيَّةً " وهو ما يفعله الراهب العالم في الدين العيسوى من العزلة والرياضة وغير ذلك - ابْتَدَعُوها " أي اخترعوا تلك الرهبانية من عند أنفسهم وكلفوا بذلك أنفسهم من غير تكليف من ربهم ، طلبا بذلك من الله الأجر ( وهي النواميس الحكمية ) أي تحصل منها الحكمة والمعرفة الإلهية لذلك اعتبره الله تعالى .  ( والطريقة الخاصة المعلومة في العرف ) هو ظهور إنسان بدعوى النبوة إظهار المعجزة ، وبهذا يعلم النبي في عرف الناس ( بالوضع المشروع الإلهي ) وهو تكميل النفوس بالعلم والعمل ( اعتبره ) أي الحق ما وضعه الراهب العالم في دين المسيحي من النواميس الحكمية ( اعتبار ما شرعه من عنده ) فكان دين الخلق دينا عند الله في التعظم واستحقاق الأجر بالعمل إهـ. بالي زادة .""

( اعتبرها الله اعتبار ما شرعه من عنده تعالى ) أي كما اعتبر الذي شرعه الله تعالى من عنده ( وما كتبها الله عليهم ) فإن للخصوص من أهل الله حكما خاصا بهم ، لاستعداد خاص وهبه الله لهم في العناية الأولى .
"" إضافة بالي زادة :  ( ولما فتح الله ) بسبب تحملهم بهذه الأعمال الشاقة ( باب العناية والرحمة ) وهو معنى قوله : "وجَعَلْنا في قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوه رَأْفَةً ورَحْمَةً " اهـ بالى زادة ""
( ولما فتح الله بينه وبين قلوبهم باب العناية والرحمة من حيث لا يشعرون ، وجعل في قلوبهم تعظيم ما شرعوه يطلبون بذلك رضوان الله ، زيادة على الطريقة النبوية المعروفة بالتعريف الإلهي ) أي ولما خصوا بمزيد عناية ورحمة رحيمية من غير شعور منهم بها ، صدقت إرادتهم وازداد شوقهم فوقع في قلوبهم من الله تعظيم ما شرعوه من النواميس ، التي وضعها حكماؤهم وعظماؤهم ، بزيادة على الطريقة النبوية طالبين بذلك رضا الله.

وفي بعض النسخ : على غير الطريقة النبوية ، فإن صحت الرواية فمعناها تعظيم ما شرعوه على وضع غير الذي شرع الله لهم ، من زيادة عليه غير مشروعة لا على وضع ينافيه فإن ذلك غير مقبول ، ومما نبه الله عليه علم أن العبادة الزائدة على المشروع من مستحسنات المتصوفة ، كحلق الرأس ولبس الخلق والرياضة بقلة الطعام والمنام ، والمواظبة على الذكر الجهرية وسائر آدابهم مما لا ينافي الشرع ، ليس ببدعة منكرة ، وإنما المنكرة هي البدعة التي تخالف السنة.
"" إضافة بالي زادة أي ، ضعهم أمورا زائدة على الفرائض التي أتى به النبي في حق العامة ، وهذه الزوائد من جنس تلك الفرائض ومن فروعاتها ، لا أن المراد إتيان ما يباينه ، فإن تقليل الطعام وكثرة الصوم وقلة النوم وغير ذلك لا يخالف الشرع بل من دقيقته ، فمن عمل بطريق التصفية فقد عمل بأصله ، فله أجران : أجر الفرائض ، وأجر الطريق الذي اعتبره الله. اهـ بالي زادة "".

( فقال : " فَما رَعَوْها "  هؤلاء الذين شرعوها وشرع لهم " حَقَّ رِعايَتِها " " إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ الله " وكذلك اعتقدوها ) إنما فسرها على المعنى لأن الاستثناء منقطع .
معناه : ما كتبنا عليهم لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، فما رعوها حق رعايتها إلا لذلك ، وإن كان المراد النفي حتى يكون فما رعوها حكم الفساق منهم فتفسيره صحيح ، لأن الذين ابتدعوها فقد رعوها حق رعايتها ابتغاء رضوان الله ، وكان اعتقادهم ذلك " فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ " وهم المراعون إياها حق رعايتها ، لأن إيمانهم ميراث عملهم الصالح " وكَثِيرٌ مِنْهُمْ " أي من هؤلاء الذين شرع فيهم هذه العبادة " فاسِقُونَ " أي خارجون عن الانقياد إليها والقيام بحقها ، ومن لم ينقد إليها لم ينقد إليه مشرعه بما يرضيه ) أي مشرعه بالأصالة الذي هو الحق ، فإن الذين وضعوها وضعوها لله فالانقياد لها هو الانقياد لله فيؤجره ، فيلزم أن من لم ينقد إليها ولم يطع الله برعايتها كما ينبغي لم يطعه الله بما يرضيه ( لكن الأمر يقتضي الانقياد ) لأنه وضع لذلك


"" إضافة بالي زادة ( آمنوا ) بها بالإيمان الصحيح وهو الإيمان بمحمد . اهـ
( لم ينقد إليه مشرعه ) وهو الحق ، فإنه لما اعتبره فقد أضاف إليه تعالى فكان أجره على الله ( بما يرضيه ) من إعطاء الجنة ، فإن الرضوان والثواب أجر الانقياد ، فمن لم ينقد إلى الشرع لم ينقد إليه واضع الشرع بإعطاء الجنات ، فالمراد بقوله :" وكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ " .
الرهبان الذين لم يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام لكن الأمر ) الإرادى ( يقتضي الانقياد ) من الطرفين وإن كان الأمر التكليفي يقتضي عدم انقياد المشرع إلى من لم ينقد إلى شريعة المشرع اهـ بالى زادة . ""

قال رضي الله عنه : ( وبيانه أن المكلف إما منقاد بالموافقة وإما مخالف ، فالموافق المطيع لا كلام فيه لبيانه ) أي لما بين .( وأما المخالف فإنه يطلب بخلافه الحاكم عليه من الله أحد أمرين ) أي يطلب من الله بمخالفته الحاكم عليه بأحد أمرين ( إما التجاوز والعفو وإما الأخذ عن ذلك ولا بد من أحدهما ، لأن الأمر حق في نفسه ، فعلى كل حال قد صح انقياد الحق إلى عبده لأفعاله وما هو عليه من الحال ، فالحال هو المؤثر ) أي لا بد من العفو أو الأخذ إذ لا واسطة بينهما لأن أمر الله مرتب على استحقاق العبد .
فلا يجرى من الله عليه إلا ما هو حق له بحسب ما يقتضيه حاله فهو حق في نفسه ، فعلى كل حال سواء كان العبد موافقا أو مخالفا كان الحق منقادا إليه لأفعاله بحسب اقتضاء حاله ، فما أثر فيه إلا حاله .
( فمن هنا كان الدين جزاء أي معاوضة بما يسر وبما لا يسر " رَضِيَ الله عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْه " جزاء ما يسر " ومن يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْه عَذاباً " هذا جزاء بما لا يسر ويتجاوز عن سيئاتهم هذا جزاؤهم ، فصح أن الدين هو الجزاء ، وكما أن الدين هو الإسلام والإسلام عين الانقياد فقد انقاد إلى ما يسر وإلى ما لا يسر فهو الجزاء ، هذا لسان أهل الظاهر في هذا الباب ) وهو الظاهر .
"" إضافة بالي زادة ( وعلى كل حال ) أي انقياد العبد وعدم انقياده وما هو عليه من الحال ، فإن العبد وإن كان مخالفا بالأمر التكليفي لكنه منقاد لربه من حيث الأمر الإرادى ، فيعطى الحق ما طلبه منه بخلاف ( فالحال ) أي فحال العهد التي تقتضي انقياد الحق بإعطاء ما طلبه منه ( هو المؤثر ) في انقياد الحق إلى عبده ( فمن هنا ) أي من حصول الانقياد من الطرفين ( كان الدين جزاء أي معاوضة بما يسر ) وهو الرضا من الطرفين ( أو بما لا يسر ) وهو عدم الرضا من الطرفين فيما يسر كقوله تعالى : "رَضِيَ الله عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْه ".
قوله ( هذا جزاؤهم ) بما رضوا عنه لا جزاء بما رضى الله بل جزاء بما لا يرضى الله عنهم ، فعلى أي حال صح أن الدين هو الجزاء اهـ.
( فتختلف صورهم ) باختلاف أحوالهم كالصباوة والشبابة والشيخوخة ، تختلف في شخص واحد لاختلاف الأزمان والأحوال اهـ بالى زادة.""

قال رضي الله عنه : ( وأما سره وباطنه فإنه تجلى في مرآة وجود الحق ، فلا يعود على الممكنات من الحق إلا ما يعطيه ذواتهم في أحوالها ، فإن لهم في كل حال صورة فتختلف صورهم لاختلاف أحوالهم ، فيختلف التجلي لاختلاف الحال فيقع الأثر في العبد بحسب ما يكون ) أي فإن انقياد الحق للعبد وهو الدين بما يسر وبما لا يسر ، تجلى للحق باسم الديان في مرآة وجود الحق المتعين بصورة العبد لا الحق المطلق ، الذي يستدعيه حال العبد الدين وغير الدين ، لأن الله تعالى شرع له من حضرة اسمه الهادي ، والمكلف ما يصلح فيوجد عليه القيام بما شرع وهو إقامة الدين بالانقياد إليه ، فإن انقاد استدعى الحالة التي هي موافقة له من الجزاء بما يسر ، والتجلي بما يوافقه وهو المسمى بالثواب ، وإن لم ينقد إليه استدعى حاله من المخالفة الجزاء بما لا يسر ، والتجلي بما يخالفه المسمى بالعقاب فلا يعود على العباد من الحق إلا مقتضى أحوالهم ، فإن اختلاف أحوالهم بالموافقة والمخالفة يقتضي اختلاف صورهم ، فتختلف تجليات الحق فيهم باختلاف صورهم ، فتختلف آثار تلك التجليات فيهم بالثواب والعقاب.
قال رضي الله عنه : ( فما أعطاه الخير سواه ولا أعطاه ضد الخير غيره ، بل هو منعم ذاته ومعذبها ، فلا يذمن إلا نفسه ولا يحمدن إلا نفسه " فَلِلَّه الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ "  في علمه بهم إذ العلم يتبع المعلوم ) أي علم الله أنهم يوافقون أو يخالفون الأمر من أحوال أعيانهم الثابتة فعلمه تابع لما في أعيانهم ، فإذا وقع بعد الوجود ما علم من أحوالهم تجلى لهم في صور مقتضيات أحوالهم من الموافقة والمخالفة ، وكان الجزاء الوفاق ، فما الحجة إلا لله عليهم .
"" إضافة بالي زادة ( فما أعطاه ) العبد ( الخير ) وهو ما يسر ( سواه ) أي سوى ما أعطاه العبد للحق أو سوى العبد وكذلك قوله ( وما أعطاه ضد الخير ) وهو ما لا يسر ( غيره بل هو منعم ذاته ) فما أعطاهم إلا بما علمهم وما علمهم إلا بحسب أحوالهم فكان الدين كله للعبد من العبد على هذا الوجه فهو جزاؤه حاصل له من نفسه خيرا أو شرا .اهـ  بالي زادة . ""

قال رضي الله عنه : (ثم السر الذي فوق هذا في مثل هذه المسألة أن الممكنات على أصلها من العدم ، وليس إلا وجود الحق بصور أحوال ما هي عليه الممكنات في أنفسها وأعيانها ).
تحقق من السر الأول أن التجلي بما يسر وبما لا يسر من مقتضيات أحوال العبد ، ومن هذا السر أن الممكنات على عدمها الأصلي ، فإن الوجود ليس إلا وجود الحق ، فوجود العبد هو وجود الحق المتعين بصورة عينه التي هي صورة من صور معلوماته المنقلب في صور أحوال عينه وهي الأحوال التي عليها الممكنات في أعيانها ، فهي ضمير راجع إلى الممكنات المذكورة قبله والممكنات بدل منه أو ضمير مبهم ، والممكنات تفسيره : أي بصور الأحوال التي عليها الممكنات من الأمر .
قال رضي الله عنه : ( فقد علمت من يلتذ ومن يتألم ) أي علمت أنه لا يلتذ بالثواب ولا يتألم بالعقاب إلا الحق المتعين بصورة هذه العين الثابتة التي هي شأن من شؤون الحق ( وما يعقب كل حال من الأحوال ) وأن الذي يعقب كل حال من أحوال العبد تجلّ إلهي في صورة تقتضيها تلك الحال.
قال رضي الله عنه : ( وبه سمى عقوبة وعقابا ، وهو سائغ في الخير والشر ، غير أن العرف سماه في الخير ثوابا وفي الشر عقابا ) أي ويكون ذلك عقيب الحال سمى عقوبة وعقابا ، فالخير والشر في هذا المعنى أي في تعقبه الحال سواء ، إلا أن العرف خصصه في الخير بالثواب .
"" إضافة بالي زادة :  (وليس إلا وجود الحق ) وهو الحق الخلق وهو غير الوجود الواجبي ( فقد علمت من يلتذ ومن يتألم ) وهو حقيقة الوجود من حيث تعينه بأحوال الممكنات فهو وجوده بمقام العبودية ، وأما الوجود الواجبي فهو منزه عن التلذذ والتألم وعلى هذا السر الدين كله لله من الله ، فالمتلذذ والمتألم في هذا السر هو العبد بعينه كما في الوجهين الأولين ، لكن تلذذ العبد وتألمه في هذه الصورة كله من الحق في علم العبد ( وعلمت ما يعقب ) قوله : كل مفعول يعقب : أي يتعاقب كل حال من الأحوال للأخرى فكان كل منها جزاء للأخرى اهـ  بالى زادة .""

قال رضي الله عنه : ( ولهذا سمى أو شرح الدين بالعادة لأنه عاد عليه ما يقتضيه ويطلبه حاله ) أي شرح الدين الذي هو الجزاء بالعادة لأنه عاد عليه من صورة أحواله ومقتضاها.
""  إضافة بالي زادة فما فاعل عاد وضمير يقتضيه راجع إلى ما ، ويطلبه تفسير يقتضيه ، وحاله فاعل يقتضيه ، والضمير المجرور راجع إلى الدين ( ليس ثم ) أي في الجزاء أوليس في الوجود ، فإن العادة تكرار ولا تكرار في التجليات الإلهية اهـ بالي زادة . ""

قال رضي الله عنه :  ( فالدين العادة ، قال الشاعركدينك من أم الحويرث قبلهاأي كعادتك ، ومعقول العادة أن يعود الأمر بعينه إلى حاله وهذا ) أي الفوز بعينه ( ليس ثم ) أي ليس في الدين ( فإن العادة تكرار ) وليس الدين في الحقيقة تكرارا ، لأن الحال المقتضية لهذا التجلي الذي هو الدين لم تعد أصلا ، بل تعين التجلي بصورتها لا غير.
ولا تكرار في التجلي ولا في الحالة ، ولكن التجلي تجدد بحسبها فكان مثلها لا عينها فلا عادة أصلا ، ولكن لما أشبهت حالة العينية أي التجلي حالتها العينية أي الحالة التي للعين الثابتة سميت عادة .
ولهذا بين أنها ليست عادة في الحقيقة بقوله ( لكن العادة معقولة واحدة والتشابه في الصور موجود ) أي في أشخاص تلك الحقيقة فتوهموا العادة وليست بها .
( فنحن نعلم أن زيدا عين عمرو في الإنسانية وما عادت الإنسانية ، إذ لو عادت لتكثرت وهي حقيقة واحدة ، والواحد لا يتكثر في نفسه ، ونعلم أن زيدا ليس عمرا في الشخصية وشخص زيد ليس شخص عمرو ، ومع تحقيق وجود الشخصية بما هي شخصية في الاثنين ، فنقول في الحس : عادت لهذا الشبه ، ونقول في الحكم :
الصحيح لم يعد ، فما ثم عادة في الجزاء بوجه ) أي من جهة الحقيقة ( وثم عادة بوجه ) أي من حيث أشخاص المماثلة ( كما أن ثم جزاء بوجه ، وما ثم جزاء بوجه ) فهو من حيث أن التجلي المذكور أشبه الحالة المستتبعة إياه.
"" إضافة بالي زادة فلما توجه أن يقال فإذا لم يكن ثم تكرار فكيف سمى الدين بالعادة استدرك بقوله لكن العادة لا تعدد فيه والتشابه : أي التعدد في الصور الحسية موجود اه ( بما هي شخصية ) أي مع وجود سبب الشخصية وهو الإنسانية ( في الاثنين ) زيد وعمرو ( فنقول في الحس : عادت ) الإنسانية لهذا الشبه وهو المثلية بالعود في وجود الإنسانية في الاثنين ( فما ثم عادة بوجه ) لعدم التكرر والمغايرة في نفس الأمر ( وثم عادة بوجه ) أي من حيث أن الحال الثاني مثل الحال الأول في الحس ( حال في الممكن ) من أحوال الممكن فجاز فيه الوجهان ، فمن حيث أنه يوجب الحال الأول الثاني ثبت فيه الجزاء والعوض ، ومن حيث أنه حال آخر لعين الممكن ما ثم فيه جزاء اهـ بالى زادة . ""

( فإن الجزاء أيضا حال في الممكن ) وأحوال الممكن معاقبة في الظهور فمن حيث استتباع الأولى الثانية جزاء ، ومن حيث أنها حال للممكن كسائر الأحوال ليس بجزاء ( وهذه مسألة أغفلها علماء هذا الشأن ) أي أغفلوا إيضاحها على ما ينبغي لأنهم جهلوها ( فإنها من سر القدر المتحكم على الخلائق ) فلا يظهر في الوجود إلا ما ثبت في الأعيان الممكنة ولا يتجلى الحق إلا بصورة حال المتجلى فيه ، ولهذا قيل : كل يوم هو في شأن يبديه ، لا في شأن يبتديه .
( واعلم أنه كما يقال في الطبيب إنه خادم الطبيعة كذلك يقال في الرسل والورثة إنهم خادمو الأمر الإلهي في العموم ، وهم في نفس الأمر خادمو أحوال الممكنات وخدمتهم من جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم ، فانظر ما أعجب هذا ) إن الرسل والعلماء الذين هم ورثتهم أطباء الأرواح والنفوس ، يحفظون صحتها ويردون أمراضها إلى الصحة ، وقد يقال إنهم خادمو الأمر الإلهي مطلقا في جميع الأحوال.
""  إضافة بالي زادة ( فإنها من سر القدر المتحكم ) في الخلائق جاء لبيان عذرهم في غفلتهم .  ولما بين أن الدين هو حال الممكن شرع في بيان أحوال خادم الدين وهو الرسل وورثته.
فقال : ( واعلم ) قوله ( خادمو أحوال الممكنات ) لأن الله لا يأمر العبد إلا ما طلبه العبد منه من أحوال عينه الثابتة .  قوله ( فانظر ما أعجب هذا ) أي كيف يكون الأشرف وهو الرسل وورثتهم ، خادما للأخس وهو من دونهم اهـ بالي زادة .""

كما يقال في أطباء الأبدان : إن الطبيب خادم الطبيعة مطلقا : أي في عموم الأحوال ، وقد اعترض بعد حكاية قول الناس لبيان حقيقة قولهم ، بقوله : وهم في نفس الأمر خادمو أحوال الممكنات ، أي أطباء النفوس وأطباء الأبدان لا يسعون إلا في إظهار ما يقتضيه أحوال أعيان الممكنات الثابتة في نفس الأمر .
والعجب أن خدمتهم لتلك الأحوال أيضا من جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم ، ثم استثنى عن العموم استثناء منقطعا بقوله ( إلا أن الخادم المطلوب هنا إنما هو واقف عند مرسوم مخدومه ، إما بالحال أو بالقول ) أي لكن الخادم المراد هاهنا إنما يقوم بما رسمه مخدومه فهو واقف عند رسمه إما بالحال أو باسمه لقول والمخدوم حال الممكن ، فإن حاله إذا اقتضت المعالجة أو المرض ، فكما ازداد أطباء الأرواح هداية ازدادوا عنادا.
لقوله : " وأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ".
وقوله  " فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا من بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً " هذا بالحال ، وأما بالقول ، فلقوله :" لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا من بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ".
"" إضافة بالي زادة ( إلا أن الخادم المطلوب هنا ) سواء كان خادم الطبيعة أو خادم الأمر الإلهي إهـ. بالي زادة
( إما بالحال ) متعلق بمرسوم والمراد من الطبيعة ملكوت الجسم ( فإذن ) أي فعل تقدير عدم مساعدة الطبيب الطبيعة في الجسم المريض ( ليس الطبيب بخادم ) لعدم وقوفه عند مرسوم مخدومة فليس بخادم لها مطلقا بل خادما من وجه وغير خادم من وجه اهـ . بالي زادة.""

وكذلك أطباء الأبدان إذا عالجوا المرضى الذين مآلهم إلى الهلاك ، كلما ازدادوا في المداواة ازدادوا مرضا وضعفا بالحال ، وأما بالقول فكما أخطئوا في العلاج وأمروا المريض بما فيه الهلاك ( فإن الطبيب إنما يصح أن يقال فيه خادم الطبيعة لو مشى بحكم المساعدة لها .
فإن الطبيعة قد أعطت في جسم المريض مزاجا خاصا به سمى مريضا ، فلو ساعدها الطبيب خدمة لزاد في كمية المرض بها أيضا ، وإنما يردعها طلبا للصحة ، والصحة من الطبيعة أيضا بإنشاء مزاج آخر يخالف هذا المزاج .
فإذن ليس الطبيب بخادم الطبيعة وإنما خادم لها من حيث أنه لا يصح جسم المريض ولا يغير ذلك المزاج إلا بالطبيعة أيضا ، ففي حقها يسعى من وجه خاص غير عام لأن العموم لا يصح في مثل هذه المسألة ) .
هذا تعليل للاستثناء من عموم خدمة الطبيب للطبيعة في جميع الأحوال ، فإن الطبيعة إذا أحدثت مزاجا مرضيا كالدق ، أو حالا مخالفا للصحة كالإسهال ، فإن الطبيب لا يساعدها في ذلك ولا يخدمها وإلا لزاد في المرض ، وإنما يمنع الطبيعة عن فعلها المخالف للصحة ويردعها طلبا للصحة ، لكن الصحة لما كانت أيضا من فعلها بإنشاء مزاج مخالف لمزاج المرضى أو حال موافق للصحة كالقبض في مثالنا .
وفي الجملة ما به الصحة يسمى خادما لها لأن الصحة أيضا إنما هي بالطبيعة ، فإذن ليس الطبيب بخادم الطبيعة مطلقا ، بل إنما هو خادم لها من جهة ما يصلح جسم المريض ، ويغير المزاج العرضي المرضى إلى المزاج الطبيعي الصحيح.
وذلك لا يكون إلا بالطبيعة أيضا فهو يخدمها ويسعى في حقها من وجه خاص ، أي من جهة ما يصلح جسم المريض ويصححه ( فالطبيب خادم ) أي من جهة الإصلاح ( لا خادم أعنى للطبيعة ) أعنى من جهة الإفساد والإعداد لهلاك ( كذلك الرسل والورثة في خدمة الحق ) أي يخدمون الأمر الإلهي لا من جميع الوجوه بل من جهة الإصلاح والإسعاد.
"" إضافة بالي زادة : ( فالطبيب خادم ) للطبيعة من جهة الإصلاح ، لا خادم بحكم عدم المساعدة اهـ . بالي زادة ""

( والحق على وجهين في الحكم في أحوال المكلفين فيجري الأمر من العبد بحسب ما تقتضيه إرادة الحق ، وتتعلق إرادة الحق به بحسب ما يقتضي به علم الحق ، ويتعلق علم الحق به على حسب ما أعطاه المعلوم من ذاته ، فما ظهر : أي المعلوم إلا بصورته ، فالرسول والوارث خادم الأمر الإلهي بالإرادة ) أي بإرادة الحق ( لا خادم الإرادة ) أي لا خادم إرادته تعالى ، فإنه أراد من الرسول ووارثه أن يطلبا سعادة العبد لا مراده تعالى منه ( فهو يرد عليه طلبا لسعادة المكلف ) أي يرد على الأمر الإلهي بالأمر الإلهي إذا تعلقت الإرادة بشقاوته ، ولهذا خوطب بقوله : " إِنَّكَ لا تَهْدِي من أَحْبَبْتَ "  وهو بقوله : " فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ " وعوتب بقوله : " فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ " وأمثالها.
"" إضافة بالي زادة قوله ( في الحكم ) يتعلق بالحق ، وقوله ( في أحوال المكلفين ) يتعلق بالحكم ( فيجري الأمر ) أي فيصدر ما أمره الحق بالعبد ( من العبد ) فإذا وافق الأمر الإرادة وقع المأمور به ، فيكون مطيعا أو لم يوافق فيكون عاصيا ( خادم الأمر الإلهي بالإرادة ) متعلق بالأمر : أي تعلق إرادته في الأزل بأن الرسول خادم ، أي مبلغ الأمر إلى المكلف سواء وقع المأمور به أولا ( لا خادم الإرادة ) وإلا لساعد الفاسق في فسقه ( فهو يرد ) ما صدر من العبد المخالف للأمر ( عليه به ) أي بالأمر الإلهي ولم يقبله مع أنه بالإرادة ولو خدم الإرادة لم يرده اهـ.بالي زادة .""

( فلو خدم الإرادة الإلهية ما نصح ) لأن الإرادة إنما تعلقت بما يفعله العبد المنصوح ( وما نصح إلا بها أعنى الإرادة ) فتبين أن الرسول والوارث ليس بخادم للأمر الإلهي مطلقا بل من جهة الإصلاح وإحراز السعادة كالطبيب ( فالرسول والوارث طبيب أخروى للنفوس منقاد لأمر الله حين أمره ، فينظر في أمره تعالى وينظر في إرادته تعالى ، فيراه قد أمره بما يخالف إرادته ولا يكون إلا ما يريد ، ولهذا كان الأمر ) أي ولأن أمر الرسول للأمة مراد للحق كان الأمر أي وقع إذ لا يكون إلا ما يريده ( فأراد الأمر فوقع ، وما أراد وقوع ما أمر به بالمأمور فلا يقع من المأمور ، فسمى مخالفة ومعصية ) بالنسبة إلى الأمر لا الإرادة .
""  إضافة بالي زادة ( أعنى الإرادة ) أي الإرادة المتعلقة بالنصيحة مطلقا سواء طابقت الإرادة أولا ، لذلك كانت الدعوة عامة في السعيد والشقي ، ولم يزل النبي عن دعوة أحد وإن علم منه عدم القبول ، ما لم يأت البرهان من عند الله القاطع عن الدعوة في حقه ، لأنه ما عليه إلا التبليغ ( فينظر في أمره ) أي في أمر الحق إلى الرسول ليبلغه إلى عباده ويعلم حكمة أمره ( وينظر في إرادته ) ويعلم حكمة إرادته ( فيراه ) الحق بسبب علمه هذين الأمرين ( قد أمره ) أي المكلف ( بما يخالف إرادته ولهذا كان الأمر ) لأنه المراد وقوعه من الله ( فأراد الأمر ) أي وقوع الأمر ، وهي التكاليف الشرعية ( فوقع فما أراد وقوع ما أمر به ) أي المأمور به ( بالمأمور ) متعلق بما أمر به وهو الرسول ، إذ بواسطته يأمر المكلف ( فلم يقع ) المأمور به بالأمر ( من المأمور ) وهو المكلف فأراد الحق وقوع الأمر من الرسول ، وهو التبليغ إلى المأمور فوقع الأمر منه ، ولم يرد وقوع المأمور به من المأمور فلم يقع ، كما في أبى جهل فإن مراد الله وقوع الأمر في حقه وكونه مخاطبا بالأحكام الشرعية بلسانه عليه الصلاة والسلام فوقع لأن مراد الله لا بد من وقوعه ، ولم يقع المأمور به وهو قبوله حكم الله لأنه ما أراد الله وقوعه منه فوقوع الأمر له ، وعدم وقوع المأمور به منه من جملة عينه الثابتة اهـ بالى زادة. ""

( فالرسول مبلغ ) لا غير ، وإنما لم تتعلق الإرادة بوقوع  المأمور به للعلم بأنه لا يقع ، والعلم تابع لما في عين المأمور من حاله قبل وجوده ، وإنما وقع الأمر بما علم أنه لا يؤخذ ليظهر ما في عين المأمور من المخالفة والعصيان ، فيلزمه الحجة لله عليهم فيتوجه العقاب بمقتضى العدل (ولهذا قال « شيبتني سورة هود وأخواتها » ).
لما تجرى عليه من قوله : " فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ "  فشيبه « كما أمرت » أي شيبه هذا القيد لأنه أمر بدعوة الكل ، ومن جملتهم من تعلقت الإرادة بأن لا يقع منه المأمور به ، فإن توقع وقوع المأمور به تعب ( فإنه لا يدرى حل أمر بما يوافق الإرادة فيقع ، أو بما لا يوافق الإرادة فلا يقع ، ولا يعرف أحد حكم الإرادة إلا بعد وقوع المراد ، إلا من كشف الله عين بصيرته فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها على ما هي عليه فيحكم عند ذلك بما يراه ، وهذا قد يكون لآحاد الناس في أوقات لا يكون مستصحبا .
قال : " ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ " فصرح بالحجاب ، وليس المقصود إلا أن يطلع في أمر خاص لا غير ) وليس المقصود من النبي أن يطلع على كل شيء مما في الغيب إلا في أمر خاص به ، وهو ما يدعو إليه من المعرفة باللَّه والتوحيد وأمر الآخرة من أحوال القيامة والبعث والجزاء لا غير .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الأول .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين يوليو 22, 2019 8:55 am

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الأول .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص اليوسيفي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية    الجزء الأول

إنما خصت الكلمة اليوسفية بالحكمة النورية ، لأن النور هو الذي يدرك ويدرك به ، أي الظاهر لذاته المظهر لغيره ، وقد كشف الله على يوسف عليه السلام وأعطى النور التام العلمي الذي كان يكشف به حقية الصور المتخيلة في المنام ، أي ما تحقق في عالم المثال ويصير مشاهدا في عالم الحس ، وتغيرت صورته في الخيال بتصرف القوة المتصرفة ، فيعلم ما أراد الله تعالى بالصور الخيالية وهو علم التعبير ، كما أشار إليه قدس سره في نقش الفصوص ، وقال : لأن الصورة الواحدة تظهر لمعان كثيرة يراد منها في حق صاحب الصورة معنى واحد : أي تظهر تلك الصورة الواحدة في خيال أشخاص كثيرة لمعان كثيرة مختلفة يراد من تلك الصورة في حق صاحبها معنى واحد من تلك المعاني فيمن كشفه بذلك النور فهو صاحب النور ، فإن الواحد يؤذن فيحج ، والآخر يؤذن فيسرق ، وصورة الأذان واحدة ، وآخر يؤذن فيدعو إلى الله على بصيرة ، والآخر يؤذن فيدعو إلى الضلالة ، هذا كلامه بشرحه ، والمراد بحقية الصورة الخيالية ما يتحقق منها في الخارج ، كقوله : " قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " وما كان عند الله ، وما تمثل في العالم المثالي إلا ذلك ( هذه الحكمة النورية انبساط نورها على حضرة الخيال ، وهو أول مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية )
"" إضافة بالي زادة : (هذه الحكمة النورية ) مبتدأ و ( انبساط نورها ) مبتدأ ثان ، وضميره يرجع إلى الحكمة ( على حضرة الخيال ) خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول ، أي هذه الحكمة النورية ينبسط نورها على حضرة المنام ، فيرى بسببه رؤيا صادقة اهـ بالي زادة .
(أهل العناية الكبرى ) هم الأنبياء لأن ما يراه الأنبياء أولا إنما هو في الصورة المثالية المرئية في النوم ، ثم يرقون إلى أن يروا الملك في المثال المطلق أو المقيد في غير حال النوم ، لكن مع فتور ما في الحس. اهـ جامى ""

وفي نسخة : انبساطها على عالم الخيال ، ولا فرق في المعنى ، لأن هذه الحكمة نورية تنبسط على حضرة الخيال ، فيتسع بابها إلى عالم المثال ، فيطلع صاحبه على ما في الحضرة المثالية من المعنى الذي هذه الصورة الخيالية مثاله ، وذلك المعنى هو مراد الله من صورة الرؤيا ، وهذا الانبساط أول مبادئ الوحي إلى الأنبياء الذين هم أهل العناية الإلهية ، ولهذا كانت المنامات والوحي من مشكاة واحدة .
( تقول عائشة رضي الله عنها : أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، تقول لا خفاء بها .
وإلى هذا بلغ علمها لا غير، وكانت المدة له في ذلك ستة أشهر ثم جاءه الملك ، وما علمت أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد قال « إن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » وكل ما يرى في حال يقظته فهو من ذلك القبيل ، وإن اختلفت الأحوال )
أي كان مبلغ علم عائشة رضي الله عنها أن مبدأ كشف النبي الرؤيا الصادقة ، ومنتهاه ظهور الملك له ، وما علمت أنه عليه الصلاة والسلام كان عالما بأن كل أمر ظهر من عالم الغيب إلى الشهادة ، سواء كان ظهوره في الحس أو في الخيال أو في المثال ، فهو وحى وتعريف وإعلام له من الله بما أراد أن يكوّنه ، وأنه مثال وصورة لمعنى وحقيقة تعلق الإرادة الإلهية بتعريفه وتعليمه إياه .
""إضافة بالي زادة : وقول عائشة ( لا خفاء بها ) تفسير لقولها مثل فلق الصبح اهـ""

وذلك أن العوالم عند أهل التحقيق خمسة ، كلها حضرات للحق في بروزه :
1- حضرة الذات .
2 -  وحضرة الصفات والأسماء وهي حضرة الألوهية.
3 -  وحضرة الأفعال وهي حضرة الربوبية .
4 - ثم حضرة المثال والخيال .
5 - ثم حضرة الحس والمشاهدة .
وإلا نزل منها مثال وصورة للأعلى فالأعلى عالم الغيب المطلق ، أي غيب الغيوب وإلا نزل عالم الشهادة فهو آخر الحضرات .
فكل ما فيه مثال لما في عالم المثال ، وكل ما في عالم المثال صورة شأن من شؤون الربوبية ، وكل ما في الحضرة الربوبية من الشؤون فهو مقتضى اسم من أسماء الله وصورة صفة من صفات الله ، وكل صفة وجه للذات تبرز بها في كون من الأكون فكل ما يظهر في الحس صورة لمعنى غيبى ، ووجه من وجوه الحق برزه .
والعلم بذلك هو الكشف المعنوي ، فمن أوتى ذلك في كل ما يرى ويسمع ويعقل فقد أوتى خيرا كثيرا ، وقد أشار إليه عليه الصلاة والسلام في قوله : « الناس نيام ».
فكل ما يجرى عليهم فهو صورة لمعنى مما عند الله ومثال لحقيقة من الحقائق الغيبية .
وكان عليه الصلاة والسلام يشهد الحق في كل ما يرى ويدرك بل لا يغيب عن شهوده ، كما قال عليه الصلاة والسلام « اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم » فصرح بشهود وجهه تعالى ، وأنه فان في شهوده فلا لذة له لفنائه وحيرته فيه ، فسأل لذة الشهود بالبقاء بعد الفناء ، والفرق بعد الجمع لوجدان لذة الشهود .
وهي مرتبة أعلى من الشهود ، والفناء بالشهود هو الموت الحقيقي المشار إليه بالهلاك في قوله : " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه "  .
والبقاء بعد الفناء هو الانتباه الحقيقي ، فكل ما يرى إلى الرسول في حال يقظته فهو من قبيل ما يرى في النوم وإن اختلفت الأحوال ، فإن هذا في الحس وذلك في الخيال ، ولكنها من حيث إن كلا منهما مثال وصورة لمعنى حقيقي سواه .
وفي بعض النسخ : وكل ما يرى في حال النوم .
"" إضافة الجامي : ( وكل ما يرى في حال النوم ) وهو اليقظة في العرف العام التي عبر عنها بقوله : « الناس نيام » ( فهو من ذلك القبيل ) أي من قبيل ما رآه النبي في ستة أشهر من الرؤيا الصادقة حيث يحتاج إلى التعبير اه فإنه عليه الصلاة والسلام عد الناس في حال اليقظة أيضا نياما ، وجعل ما يظهر لهم في الحس مثل ما يظهر لهم في الخيال عند النوم ، فكما أن الصور المرئية في النوم محتاجة إلى العبور منها إلى حقائقها الباطنة.
كذلك الصور المحسوسة أيضا فإنها أمثلة للصور المثالية، وهي للأرواح المجردة وآثارها وهي للأسماء الإلهية وهي للشؤون الذاتية، فكما يعرف العالم بالتعبير المراد بالصورة المرئية في النوم، كذلك يعرف العارف بالحقائق المراد بالصورة الظاهرة في كل مرتبة ، فعلم من قوله عليه الصلاة والسلام أن يقظة الناس نوم. اهـ جامى
وإن اختلفت الأحوال ، أي أحوال النوم ، بأن كان حال النوم المزاجي الحقيقي أو حال النوم الحكمي اهـ بالي زادة  .""
والمراد به إن صحت الرواية النوم المشار إليه بقوله « نيام » والمرئي في الحس فيه كالمرئى بالخيال ( فمضى قولها ستة أشهر ، بل عمره كله في الدنيا بتلك المثابة إنما هو منام في منام ) قولها بمعنى مقولها أي المدة التي هي ستة أشهر بدليل عطف قوله : بل عمره كله في الدنيا عليه ، وهو كالحلف بمعنى المحلوف عليه في قوله عليه الصلاة والسلام « إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك » .
أي فمضى زمان الرؤيا وهو ستة أشهر بل عمره كله في الدنيا بتلك المثابة ، أي بالعبور عما رأى في الخيال أو الحس من الصور إلى معانيها ، أي الحق المتجلى في تلك الصور المعرف له حقائق أسمائه إنما هو .
أي ما قالت من المدة ، منام في منام ، أي الناس في الدنيا في ضرب مثال وكشف صوري ، يجعل الله تعريفا لهم بأفعالهم وأحوالهم وأقوالهم تجلياته في كل ما يجرى عليهم وهم عنها غافلون ، كقوله تعالى : "وكَأَيِّنْ من آيَةٍ في السَّماواتِ والأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ".
""إضافة بالى زادة : ( فمضى ) عمره عليه الصلاة والسلام في الوحي .
( قولها ) أي في قول عائشة : ومضى بعد ذلك عمره في الوحي بمجيء الملك ( بل ) مضى ( عمره كله في الدنيا ) في الوحي ( بهذه المثابة ) أي بمثابة ستة أشهر في كون الوحي في المنام ، فإذا فوحيه كله ( إنما هو منام في منام ) أو فعمره كله في الوحي كله منام في منام
الأول هو حضرة الخيال
والثاني قوله عليه الصلاة والسلام « الناس نيام » وهو اليقظة اهـ بالى زادة.""

قال رضي الله عنه :  ( وكل ما ورد من هذا القبيل فهو المسمى عالم الخيال ، ولهذا يعبر : أي الأمر الذي هو في نفسه على صورة كذا ظهر في صورة غيرها ) أي تفسير لهذا القبيل .
والمعنى كل ما ورد من الأمر الذي له صورة معينه في نفسه فظهر صورة أخرى غيرها من عالم الخيال.
"" إضافة بالي زادة :  ( وكل ما ورد من هذا القبيل ) أي من قبيل المنام في المنام فهو المسمى عالم الخيال ، فكان الوحي كلها سواء كان بالرؤيا أو بالملك ، وسواء سمى نائما أو لم يسم من عالم الخيال اهـ
( هذا ) أي إدراك هذه الأشياء . (من جهة يوسف ) فقط لا من جهة المرئي ، وإلا لكان لهم علم بما رآه يوسف ولم يكن لهم علم اهـ ""
فيجوز العابر من هذه الصور التي أبصرها النائم إلى صورة ما هو الأمر عليه إن أصاب ، كظهور العلم في صورة اللبن فعبر في التأويل من صورة اللبن إلى صورة العلم فتأول.
أي قال : مآل هذه الصورة اللبنية إلى صورة العلم ) وذلك أن اللبن أول غذاء البدن ، فتمثل أول غذاء الروح وهو العلم النافع الفطري بصورته ، كما ذكر للمناسبة بينهما .
قال رضي الله عنه : (ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى إليه أخذ عن المحسوسات المعتادة فسجى وغاب عن الحاضرين عنه ، فإذا سرى عنه رد ، فما أدركه إلا في حضرة الخيال إلا أنه لا يسمى نائما ، وكذلك إذا تمثل له الملك رجلا فذلك من حضرة الخيال ، فإنه ليس برجل وإنما هو ملك ، فدخل في صورة إنسان فعبره الناظر العارف حتى وصل إلى صورته بالحقيقة ، فقال: " هذا جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم "وقد قال لهم " ردوا علىّ الرجل » فسماه رجلا من أجل الصورة التي ظهر لهم فيها ، ثم قال: « هذا جبريل » فاعتبر الصورة التي مآل هذا الرجل المتخيل إليها ، فهو صادق في المقالتين صدق العين )
أي عين الرجل ( في العين الحسية وصدق في أن هذا جبريل ، فإنه جبريل بلا شك ) كله ظاهر.
( وقال يوسف عليه والسلام : " إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ والْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ " فرأى إخوته في صورة الكواكب ، ورأى أباه وخالته في صورة الشمس والقمر ، هذا من جهة يوسف ، ولو كان من جهة المرئي لكان ظهور إخوته في صورة الكواكب ، وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس ، والقمر مرادا لهم .
فلما لم يكن لهم علم بما رآه كان الإدراك من يوسف في خزانة خياله ، وعلم ذلك يعقوب حين قصها عليه فقال : "يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً "  ثم برأ أبناءه عن ذلك الكيد وألحقه بالشيطان .
وليس إلا عين الكيد فقال : " إِنَّ الشَّيْطانَ لِلإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ " أي ظاهر العداوة ) وعلم يعقوب أن ذلك اختصاص من عند الله ليوسف واجتباء له من بين إخوته ، وأن اقتصاصها عليهم يوجب حسدهم عليه وقصدهم إياه بالسوء فنهاه عن ذلك.
"" إضافة بالي زادة : ( من يوسف في خزانة خياله ) لا من المرئي ، فإن إدراك ما في خزانة الخيال قد يكون من الرائي والمرئي معا كظهور جبرئيل للنبي ، فإن الإدراك واقع منهما ، بخلاف يوسف مع إخوته ( وعلم ذلك يعقوب ) أي عدم علمهم بما رآه يوسف ( حين قص ) الرؤيا على يعقوب اهـ بالى .
( ثم برأ وألحقه بالشيطان ) أي بعد إسناد ذلك الكيد لبغيه أسنده إلى الشيطان ( وليس إلا عين الكيد ) من يعقوب مع يوسف لئلا تبقى عداوة إخوته في قلبه مع بقاء الاحتراز اهـ. بالي زادة ""

وإنما نسب الكيد إلى الشيطان وبرأ أبناءه عنه مكرا ليوسف وكيدا له في تزكيته عن سوء الظن بهم ، وتربيته وترشيحه للنبوة التي يغرسها فيه .
فإن النبوة لا بد لها من سلامة الصدر وصفاء القلب ونقاء الباطن ، وتذكر ما ذكره في فص نوح : أن الدعوة مكر بالمدعو ، وقد علم أن الكيد من أحوال أعيانهم الثابتة وكذا طاعة الشيطان ، والفعل في الأصل إنما هو من الله .
ثم قال يوسف بعد ذلك في آخر الأمر :" هذا تَأْوِيلُ رُؤيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ".
أي أظهر في عالم الحس بعد ما كانت في صورة الخيال ) ومعنى كون الصورة الخيالية حقا أن يظهر في الشاهد عند الحس مطابقة للصورة العقلية الحقيقية والصورة الشخصية المثالية ، فإن الأخذ قد يكون من عالم القدس وقد يكون من عالم المثال ، والصورة المثالية لا تكون إلا حقا : أي مطابقة للمعنى العقلي .
"" إضافة بالي زادة :   فلم يعلم تأويل رؤياه إلا بعد وجودها في الحس ، ففرق يوسف بين الصورة الخيالية والحسية ، ولم يجعل أحدهما من الآخر ، وليس كذلك بل كلها خيالية حسية ( فقال له ) أي للحس الذي لم يجعله يوسف من الخيال ( الناس نيام ) فجعلها من الخيال فكان قول يوسف في إدراك محمد بمنزلة من رأى اهـ بالى . ""

وكذلك الخارجية للمثالية أبدا ( فقال له ) أي لهذا الأمر ( النبي محمد صلى الله عليه وسلم " الناس نيام " وكان قول يوسف : " قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " بمنزلة من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤيا رآها ثم عبرها ولم يعلم أنه في النوم عينه ما برح ، فإذا استيقظ يقول : رأيت كذا ورأيت كذا ، كأني استيقظت وأولتها بكذا ، هذا مثل ذلك ، فانظر كم بين إدراك محمد صلى الله عليه وسلم ، وبين إدراك يوسف عليه السلام في آخر أمره حين قال : " هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " .
معناه حسا : أي محسوسا وما كان إلا محسوسا ، فإن الخيال لا يعطى أبدا إلا المحسوسات ، ليس له غير ذلك ) عينه تأكيد النوم ، والفرق بين إدراك محمد وإدراك يوسف ، أن يوسف جعل الصورة الخارجية الحسية حقا وما كانت الصورة في الخيال إلا محسوسة ، لأن الخيال خزانة المحسوسات ليست فيه إلا الصورة المحسوسة مع غيبتها عن الحس .
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جعل الصورة الخارجية الحسية أيضا خيالية بل خيال في خيال ، حيث جعل الحياة الدنيوية نوما والحق المتجلى بحقيقته وهويته فيها : أي في الصورة الحسية التي تجلى فيها عند الانتباه عن هذه الحياة ، التي هي نوم الغفلة بعد الموت عنها بالفناء في الله حقا .
(فانظر ما أشرف علم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم ، وسأبسط القول في هذه الحضرة بلسان يوسف المحمدي ، ما تقف عليه إن شاء الله تعالى ) « ما » في تقف يجوز أن يكون بدلا من القول ، وأن يكون موصوفا بمعنى بسطا في محل النصب على المصدر ، أي بسطا تقف به
على علم ورثة محمد.

"" إضافة بالي زادة :  لما كان حضرة الخيال في روحانية يوسف قال ( بلسان يوسف ) ولما كان نفسه قدس سره وارثا للولاية الخاصة المحمدية قال ( المحمدي ) لأنه إذا كان قائما بالولاية المحمدية كان جامعا لجميع ولاية الأنبياء ، فكان قائلا بلسان موسى المحمدي وبلسان عيسى المحمدي فالمراد نفسه اهـ .بالي زادة ""

وفي بعض النسخ : من القول ، فيكون ما في محل النصب بالمفعولية ( فنقول : اعلم أن المقول عليه سوى الحق أو مسمى العالم ، هو بالنسبة إلى الحق كالظل للشخص ، فهو ظل الله ).
أي ما يقال عليه سوى الحق في العرف العام ، وأما في العرف الخاص عند أهل التحقيق ليس سوى الحق وجود ، ولو اعتبر السوي بالاعتبار العقلي الذي هو الصفات والتعينات التي هي حقائق الأسماء عند نسبها إلى الذات لقيل فيه صور أسماء الحق ، إذ ليس في الوجود إلا هو وأسماؤه باعتبار معاني الصفات فيه لا غير ، فإذا اعتبرت الوجود الإضافي المتعدد بتعينات الأعيان التي هي صور معلومات الحق سميته سوى الحق والعالم ، وهو بالنسبة إلى الحق أي الوجود المطلق كالظل للشخص فالوجود الإضافي أي المقيد بقيود التعينات ظل الله.
"" إضافة بالي زادة :  فكما أن الظل معدوم في نفسه موجود بالشخص  كذلك العالم مع الحق : فهو ، أي العالم ظل الله اه ( فهو ) أي ظل الله ( عين نسبة الوجود ) الإضافي ( إلى العالم ) فإذا كان ظل الله هو العالم فلا بد في ظهور العالم كل ما لا بد في ظهور ظل العالم بحسب ما يناسب الظهور ، وإنما كان ظل الله عين نسبة ظل العالم إلى العالم ( لأن الظل موجود بلا شك ) اهـ بالى زادة ""

قال رضي الله عنه :  ( فهو عين نسبة الوجود إلى العالم لأن الظل موجود بلا شك في الحس ) فهو أي الظل عين نسبة الوجود إلى العالم وتقيده بصورها ، فإن الوجود من حيث إضافته إلى العالم يسمى سوى الحق ، وإلا فالوجود حقيقة واحدة هي عين الحق ، فهو من حيث الحقيقة عين الحق ومن حيث نسبته إلى العالم غيره ، ولهذه النسبة ولأجلها قيل : الظل موجود بلا شك في الحس.
قال رضي الله عنه : ( ولكن إذا كان ثمة من يظهر فيه ذلك الظل ، حتى لو قدرت عدم من يظهر فيه ذلك الظل كان الظل معقولا غير موجود في الحس ، بل يكون بالقوة في ذات الشخص المنسوب إليه الظل ).
لا بد للظل من الشخص المرتفع المتصل به الظل ، ومن المحل الذي يقع عليه ومن النور الذي يمتاز به الظل ، فالشخص هو الوجود الحق أي المطلق ، والمحل الذي يظهر فيه هو أعيان الممكنات .
إذ لو قدر عدمها لم يكن الظل محسوسا بل معقولا في الذات كالشجرة في النواة ، فيكون بالقوة في ذات الظل ، والنور هو اسم الله الظاهر ، ولو لم يتصل العالم بوجود الحق لم يكن الظل موجودا وبقي العالم في العدم الأصلي الذي للممكن مع قطع النظر عن موجده ، إذ لا بد للظل من المحل ومن اتصاله بذات ذي الظل ، وكان الله ولم يكن معه شيء غنيا بذاته عن العالمين.
قال رضي الله عنه : ( فمحل ظهور هذا الظل الإلهي المسمى بالعالم إنما هو أعيان الممكنات ) أي المسمى بوجود العالم ، فإن العالم من حيث حقائق أجزائه هو مجموع الأعيان الممكنة ( عليها امتد هذا الظل ) أي الوجود الإضافي ( فيدرك من هذا الظل بحسب ما امتد عليه من وجود هذه الذات ) أي بقدر ما انبسط على المحل من الوجود المطلق بالإضافة .
( ولكن باسمه النور وقع الإدراك ) أي لا يدرك الوجود الحقيقي على إطلاقه ، بل إنما يدرك باسمه النور : أي الوجود الخارجي المقيد بقيد الإضافة إلى المحل.
( وامتد هذا الظل ) أي الوجود الإضافي ( على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول ) وهو اسمه الباطن .
قال رضي الله عنه : (ألا ترى الظلال تضرب إلى السواد ، يشير إلى ما فيها من الخفاء لبعد المناسبة بينها وبين أشخاص من هي ظل له ) .
أي الأعيان لبعدها عن نور الوجود مظلمة ، فإذا امتد عليها النور المباين لظلمتها أثرت ظلمتها العدمية في نورية الوجود فمالت النورية إلى الظلمة فصار نور الوجود ضاربا إلى الخفاء كالظلال بالنسبة إلى الأشخاص التي هي ظلالها .
فكذلك نسبة الوجود الإضافي إلى الوجود الحق ، فلو لا تقيده بالأعيان الممكنات العدمية لكانت في غاية النورية فلم تدرك لشدتها ، فمن احتجب بالتعين الظلماني شهد العالم ولم يشهد الحق .
"" إضافة بالي زادة : 
( من وجود الذات ) التي يمتد الوجود عليها فأعيان الممكنات ليست من العالم بل محل ظهور العالم ، فالأعيان لا تظهر أبدا من هذا الوجه ، فلا تمتد ظلال إلا بحسب اقتضاء لمحل إلا ( وقع الإدراك ) أي وبانبساط نور الشمس على العالم يدرك العالم وهو الظل الإلهي ( الغيب المجهول ) وهو الذي يعلم لنا بالمجهولية فصار معلوما من وجه ومجهولا من وجه ، كشبح نراه من بعيد وهو معلوم لنا بالصورة الشبحية ومجهول لنا بالكيفية .
كذلك العالم معلوم لنا من حيث أنه ظل الله ومجهول من حيث الحقيقة ، فإنها راجعة إلى حقيقة الحق ، وامتداد الظل عليها ، ظهوره فيها على حسب ما هي عليه من الأحوال ، فكانت صورة الظل صورة الغيب المجهول ، فإن الأعيان معدومة في الخارج فكانت مختفية عنا بالظلمة العدمية ، واستدل على ما في الغيب بما في الشهادة بقوله ( ألا ترى الظلال ) فمن عبارة عن الحق والأشخاص العالم ، فإذا ثبت في ظلالنا الخفاء لبعد المناسبة بيننا وبين ظلالنا ثبت في العالم الخفاء لبعد المناسبة بينه وبين من هو ظل له ، فإن من اتصف بالعهودية بعيد عن من اتصف بالربوبية ، فإذا كان العالم في صورة الغيب المجهول فلا يعلم العالم من كل الوجوه ، فلا يعلم الحق من كل الوجوه واستدل على أن البعد سبب للخفاء في الخارج بقوله ( ألا ترى الجبال ) اهـ بالى . ""

وهم " في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ "  ومن برز عن حجبات التعينات شهد الحق وخرق حجب الظلمات واحتجب بالنور عن الظلمات وبالذات عن الظل ، ومن لم يحتجب بأحدهما عن الآخر شاهد نور الحق في سواد الخلق وظلمته ( وإن كان الشخص أبيض فظله بهذه المثابة ) أي ضارب إلى السواد لبعده من الذات في الظهور والخفاء .
(ألا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر سوادا ، وقد تكون في أعيانها على غير ما يدركها الحس من اللونية وليس ثم علة إلا البعد ، وكزرقة السماء ، فهذا ما أنتجه البعد في الحس في الأجسام غير النيرة ) .
ضرب الجبال مثلا لذات ذي الظل فإنها على أي لون كانت ترى من بعيد سوداء ، فالوجود وإن كان في ذاته حقيقة نورية ، فإنه بحسب المظهر العدمي في أصله وتجليه فيه صار غير نير.
قال رضي الله عنه : (وكذلك أعيان الممكنات ليست نيرة لأنها معدومة وإن اتصفت بالثبوت لكن لم يتصف بالوجود إذ الوجود نور ) .
فهذا بيان وضرب مثال لخفاء الوجود الإضافي، لثبوت العدم بها عند التقييد مع نوريتها بالحقيقة.
"" إضافة بالي زادة :  ( لأنها معدومة ) فوقع الخفاء في صورتها وهي ظل الله وهو العالم اهـ
( إذ الوجود نور ) لا يجتمع مع الظلمة بخلاف الشهوة ، فإنه ليس بنور فإنه يجتمع مع الظلمة ، فظهر الفرق بين الثبوت الوجود أهـ . ""
قال رضي الله عنه : ( غير أن  الأجسام النيرة يعطى فيها البعد في الحس صغرا ، فهذا تأثير آخر للبعد فلا يدركها الحس إلا صغيرة الحجم وهي في أعيانها كبيرة عن ذلك القدر وأكثر كميات ، كما يعلم بالدليل أن الشمس مثل الأرض في الجرم مائة وستة وستين وربع وثمن مرة ، وهي في الحس على قدر جرم الترس مثلا فهو أثر البعد أيضا ) .
وهذا بيان ومثال ، لأن المعلوم من الحق تعالى سبب علمنا بوجود العالم على قدر المعلوم من الشخص عند العلم بظله ، فإن وجود العالم لامتداده على الأعيان الثابتة التي هي في غاية البعد لانعدامها وتقيده بها وقع في حد البعد من الوجود المطلق كغاية بعد المقيد من المطلق . فصار صغيرا في الرؤية كما صار مظلما

"" إضافة بالي زادة :  فلما كان البعد علة للخفاء لزم أن يمتد الظل على الأعيان في صورة الغيب المجهول ، فإذا امتد في صورة الغيب المجهول ( فما يعلم من العالم ) وهو ظل الله ( إلا قدر ما يعلم من الظلال ) أي من ظلال العالم ، وما يجهل من العالم إلا قدر ما يجهل من الظلال ، وما يعلم من الحق إلا قدر ما يعلم من العالم ( ويجهل من الحق على قدر ما يجهل من الشخص الذي عنه ) أي عن ذلك الشخص كان ذلك الظل ، وهو ظل العالم ، وإذا كان الأمر كذلك فمن حيث اهـ بالى . ""

قال رضي الله عنه :  ( فما يعلم من العالم إلا قدر ما يعلم من الظلال ، ويجهل من الحق على قدر ما يجهل من الشخص الذي عنه كان ذلك الظل ) أي فما يعلم الحق من وجود العالم إلا قدر ما يعلم الذوات من الظلال ، أو فما يعلم من حقيقة العالم وغيوب أعيانه من حقائق الماهيات ، إلا قدر ما ظهر عنها في نور الوجود من آثارها وأشكالها وصورها وهيئاتها وخصوصياتها الظاهرة بالوجود .
وما هي إلا ضلالها لا أعيانها وحقائقها الثابتة في عالم الغيب ، وإذا لم تعلم من وجود الظل حقيقته فبالحري أن لا يعلم منه حقيقة ذات ذي الظل ، ونجهل من الحق عند علمنا بوجود العالم الذي هو ظله على قدر ما نجهل من الشخص الذي عنه ذلك الظل المعلوم لنا .
قال رضي الله عنه : ( فمن حيث هو ظل له يعلم ، ومن حيث ما يجهل ما في ذات الظل من صورة شخص من امتد عنه يجهل من الحق ).
أي فمن حيث أنه ذات لذي الظل يعلم ، وهو كونه إله العالم وربه ، ومن حيث صورته الحقيقية المطلقة الذاتية اللاتعينية لا يعلم ، إذ لو علمت صورته المطلقة لكانت محاطا بها وتعينت وانحصرت فلم تكن مطلقة بل مقيدة ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
قال رضي الله عنه : ( فلذلك نقول : إن الحق معلوم لنا من وجه ومجهول لنا من وجه ) أي نعلمه مجملا من جهة الظهور في المقيدات ، لا من جهة الإطلاق واللا تناهي في التجليات " أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ")  أي عين باسم النور في صورة العالم وأعيانه .
(" ولَوْ شاءَ لَجَعَلَه ساكِناً "  أي يكون فيه بالقوة يقول ) أي الله
"" إضافة بالي زادة :  ويدل على أن العالم ظل إلهي ممتد على الأعيان قوله تعالى : " أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ".
أي كيف بسط الوجود الخارجي وهو العالم " ولَوْ شاءَ " عدم مده " لَجَعَلَه " أي ذلك الظل "ساكِناً "  أي يكون فيه ) أي في وجود الحق ( بالقوة ) كظل الشخص في وجوده إذا لم يكن ثمة من يظهر فيه ( يقول الله ما كان الحق ليتجلى الممكنات ) على طريقة " ما كانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وأَنْتَ فِيهِمْ ".
( حتى يظهر الظل ) يعنى إنما يتجلى الله للممكنات كي يظهر الظل فلو لا التجلي لما يظهر ( فيكون ) الظل ( كما بقي ) الآن ( من الممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود ) الخارجي ويدل على وقوع الإدراك باسمه النور قوله تعالى:"ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْه دَلِيلًا "اهـ بالي زادة.""

قال رضي الله عنه : (ما كان الحق ليتجلى للممكنات حتى يظهر الظل ،فيكون كما بقي من الممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود).
أي ولو شاء الله أن يتجلى للممكنات لأبقاها في كتم العدم المطلق لا العدم المطلق ، فإنه لا شيء محض بل في الغيب .
وهو معنى قوله تكون فيه بالقوة : أي يكون وجودها الإضافي المقيد في الوجود الحق المطلق كامنا ، له أن يظهره فيكون كسائر الممكنات التي لم تظهر أعيانها في الوجود باقيا في الغيب ساكنا لم يتحرك إلى الظهور كالظل الساكن في ذات الشخص قبل امتداده وبعد الفيء .
فإن الأمر غيب وشهادة والغيب على حاله أبدا ، فما لم يظهر إلى عالم الشهادة ساكن ، وما ظهر متحرك إلى الشهادة ساكن بالحقيقة.
قال رضي الله عنه : (" ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْه دَلِيلًا "  وهو اسمه النور الذي قلناه)
أي الدليل الذي هو الشمس اسم النور المذكور : أي الوجود الخارجي الحسي
قال رضي الله عنه : (ويشهد له الحس ، فإن الظلال لا يكون لها عين بعدم النور ) أي الحس يشهد أن الدليل على الظل ليس إلا النور ، فإن الظلال لا توجد إلا بالنور .
قال رضي الله عنه : (" ثُمَّ قَبَضْناه إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ") أي قبضنا الظل فنبقى ما عليه الظل في الغيب غير بارز ووصفه باليسير ، لأن التجلي يدوم فيكون المقبوض بالنسبة إلى الممدود يسيرا.
"" إضافة بالي زادة :  ( ويشهد له ) أي لكون النور دليلا ( الحس ، فإن الظلال لا يكون لها عين ) أي وجود في الخارج ( بعدم النور ) كما في الليلة المظلمة " ثُمَّ قَبَضْناه " أي ذلك الظل بقبض النور الذي دل عليه " إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً " أي لا يعسر علينا قبضه كما لا يعسر مده اهـ بالى .""
( وإليه يرجع الأمر كله ) عند القيامة الكبرى ، لأن جميع الأمور ظلاله والظل لا يرجع إذا رجع إلا إلى صاحبه .
ولما حقق أن العالم كله ظل الحق ، أراد أن يبين أن العالم من أي جهة امتاز عن الحق ، ومن أي جهة اتحد معه فقال ( فهو ) أي العالم ( هو ) أي الحق ، من وجه ( لا غيره فكل ما تدركه ) من العالم ( فهو وجود الحق ) المنبسط ( في أعيان الممكنات ) فهذا الاتحاد اتحاد العبد مع الحق في جهة خاصة ، كاتحاده معه في حقيقة العلم والحياة وغير ذلك .بالي زادة  ""

قال رضي الله عنه : ( وإنما قبضه إليه لأنه ظله فمنه ظهر ) إذ الذات منبع الظلال : (" وإِلَيْه يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه " فهو هو لا غيره ) لأن المنبعث من منبع النور نور ، والمطلق منبع المقيد دائما ولا مقيد إلا كان المطلق فيه ، فلا مقيد إلا بالمطلق ولا يتجلى المطلق إلا في المقيد مع عدم انحصاره فيه وغناه عنه ، فهو هو بالحقيقة لا غيره.
قال رضي الله عنه : ( فكل ما تدركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات ، فمن حيث هوية الحق هو وجوده ، ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات ) أي فهو وجود الحق متجليا في أعيان الممكنات ، لأنه مرآة آثارها وخصوصياتها .
فله وجهان : وجه الإطلاق وهو الهوية من حيث هو هو وجود الحق : أي الحق عينه ، ووجه التقييد : وهو اختلاف الصور فيه ، وهو خصوصيات الأعيان الظاهرة فيه.
"" إضافة بالي زادة :  وأشار إلى جهة الاتحاد بقوله ( فمن حيث أن هوية الحق ) ظاهرة فيه ( هو ) أي ما تدركه ( وجوده ) أي عين وجود الحق ، فإن عكس الشيء عين ذلك الشيء من وجه ( ومن حيث أن اختلاف الصور ) واقع ( فيه ) أي في كل ما تدركه ( هو ) أي ما تدركه ( أعيان الممكنات ) .
قوله ( أو اسم سوى الحق ) فيمتاز بهذا الوجه عن الحق لتنزه الحق عن الحدوث والإمكان وغير ذلك من النقائص اهـ.يالي زادة. ""

قال رضي الله عنه :  ( فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل ، كذلك لا يزول عنه باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق ) أي لما ثبت للوجود المدرك وجه الأحدية ووجه التعدد باختلاف الصور ولم يزل عنه اسم الظل واسم العالم واسم سوى الحق
قال رضي الله عنه : ( فمن حيث أحدية كونه ظلا هو الحق لأنه الواحد الأحد ، ومن حيث كثرة الصور هو العالم ، فتفطن وتحقق ما أوضحته لك ) أحدية الظل هو الوجه الذي لم يتقيد به ولم ينضف إلى شيء سوى الذات المنسوب إليه ، وهو الوجود من حيث هو وجود .
بلا اعتبار الكثرة فيه ولا الإضافة ، وإلا لم تكن الأحدية أحدية فهو عين الحق ، لأنك علمت أن الحق وجوده عينه لا عين له سوى الوجود ، ومن حيث التعدد العارض له بالإضافة واختلاف الصور فيه بالإضافة المعنوية عارضة له وتكثر النقوش هو العالم ، لأن كل واحد من الصور غير الآخر فيصدق عليه اسم السوي والغير .
قال رضي الله عنه : (وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ماله وجود حقيقي وهذا معنى الخيال ، أي خيل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق ، وليس كذلك في نفس الأمر ) إنما كان خيالا لأنه ليس له من الوجود الحقيقي إلا النسبة الاتصالية لا الوجود .
قال رضي الله عنه : ( ألا تراه في الحسن متصلا بالشخص الذي امتد عنه يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال ، لأنه يستحيل على الشيء الانفكاك عن ذاته ) .
أي ألا ترى الظل في الحس متصلا بذات ذي الظل ، فكذلك النور الوجودي الممتد على العالم يستحيل عليه الانفكاك عن الحق ، كما يستحيل على الظل الانفكاك عن ذلك الاتصال في الحس ، إلا أن بين الاتصالين فرقا .
فإن اتصال الظل بالذات في الحس يحكم باثنينية ، والاتصال النور الوجودي الذي هو وجود العالم بالحق يحكم بالأحدية ، فإن اتصال المقيد بالمطلق والمقيد عين المطلق مضافا إلى خصوصية ما تقيد به ، فلذلك قال الشيخ لأنه يستحيل على الشيء الانفكاك عن ذاته .

"" إضافة بالي زادة :  ( فالعالم متوهم ما له وجود حقيقي ) مغاير بالذات من كل الوجوه لوجود الحق ، بل الوجود الحقيقي الحق والوجود الإضافي للعالم ، وليس إلا هو ظل الوجود الحقيقي ،  فلم يقم بنفسه لكونه ظلا بل قائم بمن هو ظل له ( وهذا ) أي كون العالم متوهما لا موجودا ( معنى الخيال : أي خيل لك ) كما أخذ أهل الحجاب هذا التخيل تحقيقا واختاروا مذهبا حقا لأنفسهم اه لأن الظل عين ذلك الشخص وذاته ، لا أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الشخص ، فما ثمة إلا أمر واحد يظهر بالصورتين الشخصية الظلية ، وبه يتوهم المغايرة وتخيل أن الظل موجود متحقق اهـ بالى . ""

قال رضي الله عنه : ( فاعرف عينك ومن أنت وما هويتك وما نسبتك إلى الحق وبما أنت حق وبما أنت عالم وسوى وغيره وما شاكل هذه الألفاظ ، وفي هذا يتفاضل العلماء فعالم وأعلم )

" ما " في ما أنت : استفهامية ، والأكثر في الاستعمال حذف الألف عند دخول حرف الجر عليها ، كقولهم : بم ومم ، وقد يقع إثباتها في كلامهم أي اعرف عينك الثابتة في الغيب ، فإنها شأن من الشؤون الذاتية للحق وصورة من صور معلوماته ، وما أنت إلا الوجود الحق الظاهر في خصوصية عينك الثابتة وما نسبتك إلى الحق إلا نسبة المقيد إلى المطلق ، وأنت من حيث هويتك وحقيقتك حق .
ومن حيث تعينك واختلاف هيئاتك عالم وغير .
ثم إن مشاهد العرفاء في ذلك مختلفة ، فباختلاف المشاهد يتفاضلون :
فمن شهد التعين والتكثر شهد الخلق .
ومن شهد الوجود الأحدى المتجلى في هذه الصور شهد الحق .
ومن شهد الوجهين شهد الخلق والحق باعتبارين ، مع أن الحقيقة واحدة ذات وجهين .
ومن شهد الكل حقيقة واحدة متكثرة بالنسب والإضافات أحدا بالذات كلا بالأسماء ، فهو من أهل الله العارفين باللَّه حق المعرفة .
ومن شهد الحق وحده بلا خلق فهو صاحب حال في مقام الفناء والجمع .
ومن شهد الحق في الخلق والخلق في الحق فهو كامل الشهود في مقام البقاء بعد الفناء والفرق بعد الجمع وهو مقام الاستقامة وذلك أعلم.
"" إضافة بالي زادة :  إذا تفطنت ما أوضحته لك فتوجه إلى نفسك ( فاعرف عينك ) أي وجودك الخارجي ( و )اعرف ( من أنت ) أموجود حقيقي أو متوهم ( و ) اعرف ( ما هويتك ) هو الحق أم غيره ( و ) اعرف ( ما نسبتك إلى الحق ) واعرف ( بما ) أي بأي سبب ( أنت ) حق واعرف ( بما ) أي بأي سبب أنت ( عالم وسوى وغير وما شاكل هذه الألفاظ ) وهذا الكلام إخبار في صورة الإنشاء ، يعنى إذا تفطنت ما أوضحته لك فقد عرفت في نفسك هذه الأمور فظفرت المطلب الأعلى اهـ. ""

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين يوليو 22, 2019 8:56 am

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص اليوسيفي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية    الجزء الثاني

قال رضي الله عنه : ( فالحق بالنسبة إلى ظل خاص صغير وكبير صاف وأصفى ، كالنور بالنسبة إلى حجابه عن الناظر في الزجاج يتلون بلونه وفي نفس الأمر لا لون له ، ولكن هكذا تراه ضرب مثال لحقيقتك بربك ) .
ضرب مثال نصب على المصدر : أي ضرب ضرب مثال أو حال ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا أي تعلمه ضرب المثال لحقيقتك ، والباء في بربك بمعنى مع أي ضرب مثال لحقيقتك مع ربك والمعنى أن الحق في المظاهر يختلف باختلافها كالنور بالنسبة إلى ما يحجبه من الزجاجات المختلفة الجوهر واللون عن الناظر فإن شعاع اللون يتلون بألوان له الزجاجات وراءها مع أن النور لا لون له ، وإن كانت الزجاجة صافية شفافة بقي النور على صفائه من ورائها ، وإن تكدرت تكدر النور .
كما قيل : لون الماء لون إنائه ، فالحق يتجلى في الأعيان بصور أحوالها ، فهو كالنور وحقيقتك كالزجاجة ( فإن قلت : إن النور أخضر لخضرة الزجاج صدقت وشاهدك الحس.
وإن قلت : إنه ليس بأخضر ولا ذي لون كما أعطاه لك الدليل صدقت وشاهدك النظر العقلي الصحيح ) ظاهر .
"" إضافة بالي زادة :  ولما بين حكم نسبة الظل إلى الحق أراد أن يبين نسبة الحق إلى الظل بقوله ( فالحق بالنسبة إلى ظل ) في حكم الحس لا في نفس الأمر ، فإن الظل قد يكون مساويا للشخص وقد يكون صغيرا أو كبيرا بحسب اختلاف الأوقات .
فمن نظر إلى الظل مع عينه عن الشخص وقد حكم على الشخص حكم الظل بحسب الصور المختلفة والشخص باق على حاله لا يختلف باختلاف الصور الظلية ، فكذلك الحق باق على حاله منزه عن هذه الأمور في نفسه ، لكن الحس يحكم عليه بهذه الأحكام المختلفة من أحكام الظل بحسب المحل ، ومثال كون الحق محكوما عليه بهذه الأمور المختلفة اهـ بالى  ( كالنور ) أي ضياء الشمس ( بالنسبة إلى حجابه ) أي إلى ما يحجبه ( عن الناظر في الزجاج ) متعلق بحجابه ، أي حجابه الحاصل في الزجاج ، أو متعلق بالنور : أي كالنور الحاصل في الزجاج ، أو بالناظر ( يتلون ) هذا النور اهـ. بالى زادة.. ""
 
قال رضي الله عنه : ( فهذا نور ممتد عن ظل وهو عين الزجاج فهو ظل نوري لصفائه ) هذا إشارة إلى النور بالنسبة إلى حجابه الصافي وأصفى ، فإنه نور ممتد عن ظل هو عين الزجاج الصافي الشفاف ، كظهور الحق في عالم الأمر لصور الأرواح من العقول والنفوس المجردة ظهورا نوريا فإنه إذا ظهر بصورة روحانية عقلية فهو ظل نوري لصفائه لا ظلمة فيه ، والممتد عن الزجاج الملون كظهور الحق في صورة نفس منصبغة بصبغ الهيئات الجسمانية ، فإن النفس الناطقة وإن كانت غير جسمانية لكنها تتكدر وتتلون بالهيئات البدنية.

قال رضي الله عنه : ( كذلك المتحقق منا بالحق تظهر صورة الحق فيه أكثر مما تظهر في غيره ، فمنا من يكون الحق سمعه وبصره وجميع قواه وجوارحه بعلامات قد أعطاها الشرع الذي يخبر عن الحق ومع هذا عين الظل موجود ، فإن الضمير من سمعه يعود عليه ، وغيره من العبيد ليس كذلك ، فنسبة هذا العبد أقرب إلى وجود الحق من نسبة غيره من العبيد.)
(المتحقق بالحق هو الذي فنى في صفات الحق عن صفاته فقام الحق مقام صفاته ، أو في ذات الحق عن ذاته فقام الحق مقام ذاته ، فالأول هو المشار إليه بقولنا : فمنا من يكون الحق سمعه وبصره ، بعلامات أي آيات تدل على ذلك أخبر عنها الشارع في الحديث المشهور المذكور قبل.
فهذا العبد أقرب إلى الحق من سائر العبيد الفاعلين بصفاتهم الواقفين مع حجبها ، وهذا يسمى قرب النوافل وعين الظل ، أي الوجود الإضافي الذي هو أنيته موجود فيه ، وظهور الحق فيه بحسب الصفات فيه مشهود .
لأن الضمير في سمعه وسائر قواه وجوارحه يعود إلى الوجود الخاص الذي هو الظل ، وأقرب من هذا القرب قرب الفرائض ، وهو القسم الثاني الذي هو الفاني بالذات الباقي بالحق ، وهو الذي يسمع به الحق ويبصر به فهو سمع الحق وبصره بل صورة الحق .
كالذي قال فيه : " وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى. "
قال رضي الله عنه : (وإذا كان الأمر على ما قررناه ، فاعلم أنك خيال وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس أنا خيال ، فالوجود كله خيال في خيال ) .
أي ما قررناه من أن الوجود الإضافي المسمى بالظل ليس إلا نسبة الوجود الحق إلى العين المتجلى هو فيها ، فإنك على ما تخيلت وتوهمت من نفسك أنك موجود قائم بنفسه خيال باطل ، وكذا جميع ما تدركه مما سواك مما هو غير الحق ، فالوجود الإضافي الذي تدركه وتتصور أنه وجود مستقل خيال في خيال ، لأنك خيال ، والذي توهمته وتخيلته فيك مما سوى الحق خيال في خيال.
قال رضي الله عنه : ( والوجود الحق إنما هو الله الحق خاصة ) أي وما هو إلا الله وحده لا غير .
"" إضافة بالي زادة :  ( فهو ) أي النور المتلون ( ظل نوري لصفائه ) أي الزجاج فبقي أصل النور على حاله منزها عن التلون ، فكما أن النور تختلف عليه الأحكام بحسب ظروفه ( كذلك المتحقق منا ) اه ( ومع هذا ) أي مع كون الحق جميع قرى هذا العبد ( عين الظل ) وهو العبد ( موجود ) لا فان في الحق اه بالى .
( على ما قررناه ) من أن العالم ما له وجود حقيقي والموجود الحقيقي هو الحق ( فاعلم أنك ) اه ( كله خيال في خيال ) الخيال الثاني المخاطب أي أنت وقوى مدركك خيال ، وجميع ما تدركه من العالم كله خيال فيك وقواك ، فليس للعالم إلا الوجود المتخيل ( والوجود الحق ) الثابت لذاته ( إنما هو الله خاصة ) اهـ""
 
قال رضي الله عنه : ( من حيث ذاته وعينه لا من حيث أسماؤه ، لأن الأسماء لها مدلولان ، المدلول الواحد عينه وهو عين المسمى ، والمدلول الآخر ما يدل عليه مما ينفصل الاسم به عن هذا الاسم الآخر ويتميز ) وهو معنى الصفة ، وقد علمت أن الصفات إما سلبية وإما نسب وإضافات وإما اعتبارات محضة إضافية وإما تعينات فالوجود الحق مرآة ومجلى لصور الأعيان والظاهر في المرآة خيال ، إذ لا حقيقة له خارج المرآة ولا وجود له في نفسه ، وهو مثال مخيل.
( فأين الغفور من الظاهر والباطن ، وأين الأول من الآخر ) أمثلة لما تتفصل به الأسماء بعضها من بعض ، وتتميز به من معاني الصفات .
قال رضي الله عنه : ( فقد بان لك بما هو كل اسم عين الاسم الآخر ، وبما هو غير الاسم الآخر ، فبما به هو عينه هو الحق ، وبما هو غيره هو الحق المتخيل الذي كنا بصدده ) الحق المتخيل هو المسمى سوى الحق وظله والوجود الإضافي ، فإن أصله حقيقة الحق مع نسبة وإضافة أو تعين وتقيد ، وليس معنى الخيال المتخيل لأنه لا حقيقة له بوجه من الوجوه كما توهم بعض العوام .
بل معناه أنه لا وجود له في عينه كما تقول في الأعيان الثابتة ، ولكن من حيث أنه متمثل في خيال وحس مشترك له تحقق ووجود خيالي ، كما المعلومات في العلم والعقل .
وأما خارج الخيال فلا ، فهو من الظلال كما في المعقولات والأعيان المعلومة ، فمن حيث أن له وجود الحق ، ومن حيث أنه معدوم في الخارج متخيل ، وكذا المعلومات والمعقولات وكلها تحت اسمه الباطن .
ومن هنا قيل : الحق المتخيل المسمى بالسوى ، ما هي إلا نقوش وعلامات دالة على من هي فيه ومنه وبه وله ، لقوله : " إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ الله بِها من سُلْطانٍ ".
 
"" إضافة بالي زادة :  ( وأين الأول من الآخر ) فبهذا الاعتبار جميع الأسماء مع مظاهرها كلها ظلال الذات الإلهية اهـ بالى .
( بما هو كل اسم عين الاسم الآخر ) وهو باعتبار اشتمال كل واحد منها على ذات الحق ، وبهذا الاعتبار ليست الأسماء ظلالا لذات الحق ( وبما هو غير الاسم الآخر ) وهو باعتبار اشتمال كل واحد منها على الصفة المتميزة بها عن الاسم الآخر ( فيما ) أي فبسبب الذي ( هو ) أي الاسم ( عينه ) أي عين الاسم الآخر ( هو ) أي الاسم ( الحق ، وبما هو غيره ) أي غير الاسم الآخر ( هو ) أي الاسم ( الحق المتخيل الذي كنا بصدده ) وهو ظل الله اهـ بالي زادة ""
 
قال رضي الله عنه : ( فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه ولا يثبت كونه إلا بعينه ) لأن غير الوجود الحق الظاهر ( والباطن عدم محض .
( فما في الكون إلا ما دلت عليه الأحدية ، وما في الخيال إلا ما دلت عليه الكثرة  فمن وقف مع الكثرة كان مع العالم ومع الأسماء الإلهية وأسماء العالم ) أي مع النفوس المتعددة في الوجود الواحد الحقيقي الذي لا كثرة فيه على الحقيقة بل بالحيثيات والاعتبارات العقلية فيسميها أسماء الحق ، وباعتبار الظل الممدود والمتخيل المذكور العالم .
"" إضافة بالي زادة :  ( فسبحان من ) لأن العالم كله بحسب الأحدية نفسه اه فكان الحق مدلول الأحدية وهي عين الحق ، إذ ما يدل على الواحد إلا الواحد ولا واحد إلا هو ، فلا دليل على نفسه إلا هو ( وما في الخيال إلا ) إذ الخيال متوهم وكذا الكثرة ، فما دل على الخيال إلا الخيال كما دل على الحق إلا الحق اهـ بالي زادة
( ومن وقف مع الحق ) فكان محجوبا عن صفاته وأسمائه تعالى ، ومن وقف معهما نال درجة الكمال اهـ بالى  زادة . ""
 
وباعتبار تجليات الواحد الحقيقي في صورة أسمائه كالتجلى باسم الظاهر بعد الباطن أسماء العالم كالحادث والمحدث والمتغير ، وينتقل منها إلى أسماء أخر يضعها الله كالمحدث والمغير والمدبر ، وهكذا إلى غير النهاية ، وكلها من قبيل الحق المتخيل.
( ومن وقف مع الأحدية كان مع الحق من حيث ذاته الغنية عن العالمين ، لا من حيث ألوهيته وصورته ) لأنه لا يلتفت إلى الكثرة المتعللة لأنه يراها شؤون الذات ( وإذا كانت غنية عن العالمين فهو ) أي فغناه عن العالمين .
قال رضي الله عنه : ( عين غنائها عن نسبة الأسماء إليها لأن الأسماء لها ، كما تدل عليها تدل على مسميات أخر يحقق ذلك أثرها ) لأن كل اسم من أسمائه مقتض لنسبة أو مصدر لفعل وأثر فلا غناء له عن الغير في العقل أو في الخارج.
وقد بين ذلك في قوله : " قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ"  من حيث عينه " الله الصَّمَدُ " من حيث استنادنا إليه " لَمْ يَلِدْ " من حيث هويته ونحن " ولَمْ يُولَدْ " كذلك "ولَمْ يَكُنْ لَه كُفُواً أَحَدٌ " كذلك ) لأنه الكل من حيث الإحاطة فلا غير ولا سوى له فما له كفوا أحد.
"" إضافة بالي زادة :  قوله ( يحقق ذلك المسمى أثرها ) أي أثر الذات أو أثر الأسماء الذي هو العالم وهو عين الأسماء من وجه ، فإذا استغنى من حيث أحديته عن العالم فقد استغنى عن نسبة الأسماء إليه من تلك الحيثية ، وقوله ، ذلك فاعل يحقق ، وأثرها : مفعوله ، فكانت الذات الإلهية من حيث الأحدية الذاتية غنية عن الأسماء ، وغير غنية من حيث تحقق أثرها إذ لا يتحقق أثر الذات إلا بالأسماء ، فكانت الأسماء من وجه عينه ومن وجه غيره ، فأحديته تعالى من حيث عينه لا من حيث أسماؤه وصفاته ، يدل على ذلك قوله تعالى : " قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ " اهـ
إذ الصمد هو المحتاج إليه لا يتحقق بدون المحتاج " لَمْ يَلِدْ " من حيث هويته ونحن ) أي ومن حيث نحن ولا يجوز أن يكون معناه ونحن نلد للزوم التكرار ، بقوله : فنحن نلد ، مع أن المراد بيان صفاته تعالى ، فلا يناسب ذكر صفاته متماثلا لذلك بدل عينه قوله فهذا نعته اهـ
( بنعوته المعلومة عندنا ) كالعلم والحياة والقدرة اهـ
" ولَمْ يَكُنْ لَه كُفُواً أَحَدٌ ) " كذلك ، أي من حيث هويته ، والمراد بيان تنزيه الحق من هذه الصفات الثلاثة وهو من حيث الهوية الأزلية الدائمة فيوجب دوام ما بها فذاته تعالى دائمة ، وما تقتضيه من الصفات السلبية دائمة ، فلا يتوهم من قوله كذلك أنه إذا اعتبر خلاف ذلك جاز إثبات تلك الصفة له ويدل عليه قوله في النتيجة فنحن نلد ولم يقل فهو يلد ، فعلم أن المراد سلب هذه الصفات عن الحق من جميع الوجوه ، فما كان السبب لهذا السلب الكلى إلا كون الحق كذلك ، فلم يزل عنه كونه كذلك ، فيمتنع إثباتها بوجه من الوجوه اهـ. بالي زادة""
 
قال رضي الله عنه : ( وهذا نعته ، فأفرد ذاته بقوله "الله أَحَدٌ " فظهرت الكثرة بنعوته المعلومة عندنا ، فنحن نلد ونولد ونحن نستند إليه ونحن أكفاء بعضنا لبعض ، وهذا الواحد منزه عن هذه النعوت ، فهو غنى عنها كما هو غنى عنا ).
أي الأحدية نعته بحسب ذاته وسائر النعوت مقتضية الكثرة ، والواحد بالذات تعالى وتنزه عن الكثرة ، فهو منزه عن هذه النعوت فسلبت عنه لغناه عن الكثرة وما يتعلق به .
قال رضي الله عنه : ( وما للحق نسب إلا هذه السورة سورة الإخلاص ، وفي ذلك نزلت ) لأنها مختصة بسلب الكثرة وأحكامها ونعوتها عن ذاته فإن الأحدية نفى الكثرة وذلك معنى الإخلاص ، قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه : وكمال الإخلاص له نفى الصفات عنه .
 
قال رضي الله عنه : ( فأحدية الله من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا أحدية الكثرة ، وأحدية الله من حيث الغنى عنا وعن الأسماء أحدية العين وكلاهما يطلق عليه اسم الأحد ) أحدية الكثرة وأحدية الجمع هي تعقل الكثرة في الذات الواحدة بحسب النسب ، فإن مسمى جميع الأسماء الإلهية ذات واحدة يتكثر بحسب النسب والتعينات الاعتبارية ، والذات باعتبار كل نسبة وتعين يقتضي أفراد نوع من أنواع الموجودات ، وأحدية العين هي أحدية الذات من غير اعتبار الكثرة ، فتقتضى الغناء عن الأسماء ومقتضياتها من الأكوان .
 
(فاعلم ذلك ، فما أوجد الحق الظلال وجعلها ساجدة متفيئة عن الشمال واليمين إلا دلائل لك عليك وعليه ، لتعرف من أنت وما نسبتك إليه وما نسبته إليك).
 فما أوجد الظلال في الخارج للأشخاص الممتدة هي منها ساجدة لله في تذللها بوقوعها على الأرض منقادة له فيما سخرها له راجعة عن اليمين عند ارتفاع الشمس إلى الشمال ، وعن الشمال عند الغروب إلى اليمين بالطلوع إلا لتدل بها عليك .
أي على كل ممكن ، فإن الأعيان الموجودة وجوداتها كالظلال عليه تعالى ، فإنه بمثابة الشخص الذي يتظلل الظل به لتعرف أن الموجودات المتعينة التي أنت من جملتها ظل خيالي كما مر ، ونسبتك إليه نسبة الظل إلى الشخص الممتد عنه الظل .
"" إضافة بالي زادة :  (التي تطلبنا ) لأن آثاره فينا يقال لها أحدية الكثرة اهـ
( وجعلها ) ساجدة أي منبسطة في الأرض ( متفيئة ) أي مائلة عن الشمال واليمين اه ( لتعرف من أنت وما نسبتك إليه وما نسبته إليك ) أنت ظل إلهي من ظلال الذات الأحدية ( حتى تعلم من أين ) فإذا عرفت أن ظلك لكونه ظلك يفتقر إليك بالفقر الكلى ، فقد عرفت منه اتصاف العالم بالفقر الكلى إلى الله لكون العالم ظله ، وقد عرفت منه أيضا اتصاف العالم بالفقر النسبي إلى الله بافتقار بعضنا إلى بعض وذلك يرجع إلى افتقارنا إلى الحق ، لأن افتقار العالم إلى العالم ليس من جهة ظليته بل من جهة ربوبيته ، وهو من هذه الحيثية عين الحق لا ظله ، فما كان الافتقار إلا إلى الله خاصة اهـ. بالي زادة""
 
فإن الوجود المتعين ممتد عن الوجود المطلق ويتقوم به ونسبته إليك بأنه يقومك ويسخرك منقادا لأمره متذللا متسخرا فيما يريد منك ، لا استقلال لك ولا وجود (حتى تعلم من أين ومن أي حقيقة إلهية اتصف ما سوى الله بالفقر الكلى إلى الله ، وبالفقر النسبي بافتقار بعضه إلى بعض) أي حتى تعلم من افتقار الظلال إلى الشخص القائم المنور بنور الشمس وإلى المحل الواقع عليه أن ما سوى الحق من الموجودات المتعينة هي ظلال الحق مفتقرة إلى الله الموجد المقوم القيوم الرب النور لمألوهيتها وعدمها ، ولا استقلال لها ومربوبيتها ، وظلمة أعيانها التي هي محالها في العدم وهو الفقر الكلى .
 
وأما الفقر النسبي فكافتقارها إلى ما به متعين من الأعيان افتقار الظل إلى المحل وكافتقار الكل إلى الأجزاء والمسببات إلى الأسباب ، افتقار الظل إلى جميع أسبابه من أحوال المحل وهيئات ذي الظل وأشكاله ومقاديره من الطول والعرض وغيرها .
قال رضي الله عنه : ( وحتى تعلم من أين ومن أي حقيقة اتصف الحق بالغنى عن الناس والغنى عن العالمين ) أي تعلم أن الحق بذاته غنى عن العالمين لا بأسمائه ، فإنها تقتضي النسب إلى الخلق.
قال رضي الله عنه : ( واتصف العالم بالغنى : أي بغنى بعضه عن بعض من وجه ما هو عين ما افتقر إلى بعضه به ، فإن العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شك افتقارا ذاتيا ) أي ومن أي حقيقة اتصف العالم بغنى بعضه عن بعض ، كغنى العناصر عن المواليد ، وغنى السمويات عن الأرضيات من حيث أنها لا تتأثر منها وما هو ، أي وليس وجه الغنى عين وجه افتقاره أي افتقار بعضه إلى بعض.
كافتقار العالم من حيث أنه كلى مجموعى إلى كل واحد من أجزائه ، وافتقار المسببات من أجزاء المواليد إلى أسبابها افتقارا ذاتيا لإمكانها بل بغنى بعضه عن بعض من وجه ، وافتقاره إلى ذلك البعض من وجه ،كاستغناء الماء في تبرده وجموده عن الشمس وافتقاره في حرارته وسيلانه إليها.

وفي الجملة إن العالم وإن عرض له الغنى بهذا الاعتبار فلا بد من الافتقار إلى أسبابه بالذات كالظل ، فإن الممكن في ذاته مفتقر إلى أسبابه ( وأعظم الأسباب له سببية الحق ولا سببية للحق يفتقر العالم إليها سوى الأسماء الإلهية ) فإنه يفتقر إلى الإيجاد والربوبية والخالقية وأمثالها ، وهي لا تكون إلا بالأسماء لا في أعيانه ، فإن الأعيان غنية في كونها أعيانا عن السبب.
قال رضي الله عنه : (والأسماء الإلهية كل اسم يفتقر العالم إليه من عالم مثله ، أو عين الحق فهو الله لا غيره) .
أي الأسماء الإلهية ما يفتقر إليه العالم سواء كان ذلك الاسم المحتاج إليه من عالم مثله كاحتياج الابن إلى الأب في وجوده ورزقه وحفظه فإنها صور أسماء الحق ومظاهرها .
أو من عين الحق كاحتياج الابن في صورته وشكله وخلقته إلى الحق المصور الخالق وهو ليس من عالم مثله ، فذلك الاسم المحتاج إليه هو الله لا غيره .
أما الأول فلأن سببية الأب ليست من حيث عينه الثابتة ، فإنها معدومة بل من حيث وجوده وفعله وقوته وقدرته ، والوجود عين الحق الظاهر في مظهره ، والفعل والصورة والقدرة والقوة والرزق والحفظ توابع الوجود وصفات الحق وأفعاله .
"" إضافة بالي زادة :  (واتصف العالم بالغنى ) يعنى كما أنك اتصفت بالغنى عن ظلك من حيث ذاتك ، كذلك اتصف الحق بالغنى بحسب الذات عن العالم ، فإذا كان ظلك مفتقرا إليك ومستغنيا عنك فقد عرفت منه أن اتصاف بعض بالغنى عن بعض ليس عين افتقاره إلى بعض ، فالولد بالنسبة إلى والده مفتقر من حيث ربوبيته ومستغن من حيث أنه عبد محتاج مثله فاحتياجه من هذه الحيثية إلى الله لا إليه ، فما كان وجه استغنائه وجه افتقاره فاستغناؤه لعدم سببيته فمن وجه في وجوده وافتقاره لوجود سببية هذا البعض ، فكان افتقاره إلى البعض عين افتقاره إلى الحق ، فإن ذلك البعض من حيث الربوبية عين الحق .
وهو معنى قوله ( وبالفقر النسبي ) عرفت أيضا اتصاف الحق بالغنى عن الناس من أي جهة ، وبالافتقار إليه من أي جهة ، فغناؤه بحسب ذاته وافتقاره بحسب ظهور أحكامه ، وإنما افتقر العالم إلى الله كليا كان أو نسبيا ( فإن العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شك ) اهـ بالى زادة .
( ولا سببية للحق ) إذ ما دبر الحق العالم إلا بأيدي أسمائه ، فسبحان من دبر العالم بالعالم اهـ.
( من عالم مثله ) أي مثل المفتقر كالوالد بالنسبة إلى الولد ، فإنه اسم إلهي يفتقر إليه الولد في وجوده الخارجي ، مع أنه من العالم مثل الولد فلا يطلق الاسم على شيء إلا بسبب كونه محتاجا إليه العالم ( أو ) تجلى من ( عين الحق ) فكيف كان ( فهو ) أي الاسم المفتقر إليه ( الله ) أي عين الحق باعتبار الربوبية ( لا غيره ) وإن كان غيره باعتبار الظلية إذ لا يحتاج إليه ولا يطلق عليه الاسم بهذا الاعتبار ، فكان العالم كله من الأسماء والأعيان وغيرها يفتقر إلى الله خاصة اهـ .بالي زادة""
 
ليس للأب إلا القابلية والمظهرية لما علمت أن القابل لا فعل له بل الفعل للظاهر في مظهره وأما الثاني فظاهر ، فظهر أن المحتاج إليه ليس إلا الله وحده ، فقوله : كل اسم خبر المبتدأ ، يفتقر إليه العالم صفته ، ومن عالم مثله صفة بعد صفة ، أي ثابت كائن من عالم مثله أو عين الحق عطف على عالم مجرور ، أي أو اسم كائن ناشئ من عين الحق.
قال رضي الله عنه : ( ولذلك قال : " يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ".)
أي ولأنا من مكمن الإمكان ، والممكن بالنظر إلى ذاته دون موجده معدوم وقابل بالذات فكيف بالصفات والأفعال ، فالفقر لنا إلى الله من جميع الوجوه ذاتي ، والله وحده هو الغنى بالذات الحميد بالكمالات والصفات .
قال رضي الله عنه : ( ومعلوم أن لنا افتقارا من بعضنا لبعضنا ، فأسماؤنا أسماء الله تعالى ) أي لما ثبت أن الافتقار العام لازم لنا لزم افتقار بعضنا إلى بعض على ما نشاهد افتقارا إلى أسماء الله فينا بتجليه لنا بها ، فأسماؤنا أسماؤه ونحن له مظاهرها فحسب ، ليس لنا شيء مفتقر إليه.
قال رضي الله عنه :  ( فهو هويتنا ) بظهور وجه الأحدية ( لا هويتنا ) باعتبار التعين والإضافة التي هو بها ظل (وقد مهدنا لك السبيل فانظر) في هذا الفص ليتضح لك .
"" إضافة بالي زادة :  ( ولذلك ) أي ولأجل أن العالم كله محتاج إلى الله لا إلى غيره ( قال تعالى: " يا أَيُّهَا النَّاسُ ") فالغنى لا يكون إلا لله ، والفقر لا يكون إلا للعالم اهـ بالى .
( فأسماؤنا ) من جنسنا التي نحتاج إليها أسماء الله تعالى ، وأسماء الله عين ذاته من حيث الربوبية إذ إليه الافتقار بلا شك اهـ. بالي زادة
( إذ إليه الافتقار بلا شك لا إلى غيره ) لأن الغير ظل الله والظل لا يقال فيه يفتقر إليه غيره ( وأعياننا في نفس الأمر ظله لا غيره ) أي لا غير ظله أو لا غير الحق إذ ظل الشيء عينه ( فهو هويتنا ) باعتبار ظهور الحق فينا ، فلا امتياز بهذا الوجه وهو وجه الأحدية ( لا هويتنا ) باعتبار ظهور الاختلاف فينا اهـ. بالي زادة ""
 
قال رضي الله عنه : ( إذ إليه الافتقار بلا شك ) خاصة لا إلى غيره ( وأعياننا في نفس الأمر ظله ) باعتبار اسمه الباطن لأنها معلومات عينية ( لا غيره ) لأن اسم الباطن عينه باعتبار نسبة البطون ، وظله ووجوده مع قيد الإضافة .
فإن الوجود المتعين ممتد عن الوجود المطلق ويتقوم به ونسبته إليك بأنه يقومك ويسخرك منقادا لأمره متذللا متسخرا فيما يريد منك ، لا استقلال لك ولا وجود (حتى تعلم من أين ومن أي حقيقة إلهية اتصف ما سوى الله بالفقر الكلى إلى الله ، وبالفقر النسبي بافتقار بعضه إلى بعض) أي حتى تعلم من افتقار الظلال إلى الشخص القائم المنور بنور الشمس وإلى المحل الواقع عليه أن ما سوى الحق من الموجودات المتعينة هي ظلال الحق مفتقرة إلى الله الموجد المقوم القيوم الرب النور لمألوهيتها وعدمها ، ولا استقلال لها ومربوبيتها ، وظلمة أعيانها التي هي محالها في العدم وهو الفقر الكلى .

وأما الفقر النسبي فكافتقارها إلى ما به متعين من الأعيان افتقار الظل إلى المحل وكافتقار الكل إلى الأجزاء والمسببات إلى الأسباب ، افتقار الظل إلى جميع أسبابه من أحوال المحل وهيئات ذي الظل وأشكاله ومقاديره من الطول والعرض وغيرها .
قال رضي الله عنه : ( وحتى تعلم من أين ومن أي حقيقة اتصف الحق بالغنى عن الناس والغنى عن العالمين ) أي تعلم أن الحق بذاته غنى عن العالمين لا بأسمائه ، فإنها تقتضي النسب إلى الخلق.

قال رضي الله عنه : ( واتصف العالم بالغنى : أي بغنى بعضه عن بعض من وجه ما هو عين ما افتقر إلى بعضه به ، فإن العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شك افتقارا ذاتيا ) أي ومن أي حقيقة اتصف العالم بغنى بعضه عن بعض ، كغنى العناصر عن المواليد ، وغنى السمويات عن الأرضيات من حيث أنها لا تتأثر منها وما هو ، أي وليس وجه الغنى عين وجه افتقاره أي افتقار بعضه إلى بعض.
كافتقار العالم من حيث أنه كلى مجموعى إلى كل واحد من أجزائه ، وافتقار المسببات من أجزاء المواليد إلى أسبابها افتقارا ذاتيا لإمكانها بل بغنى بعضه عن بعض من وجه ، وافتقاره إلى ذلك البعض من وجه ،كاستغناء الماء في تبرده وجموده عن الشمس وافتقاره في حرارته وسيلانه إليها.


وفي الجملة إن العالم وإن عرض له الغنى بهذا الاعتبار فلا بد من الافتقار إلى أسبابه بالذات كالظل ، فإن الممكن في ذاته مفتقر إلى أسبابه ( وأعظم الأسباب له سببية الحق ولا سببية للحق يفتقر العالم إليها سوى الأسماء الإلهية ) فإنه يفتقر إلى الإيجاد والربوبية والخالقية وأمثالها ، وهي لا تكون إلا بالأسماء لا في أعيانه ، فإن الأعيان غنية في كونها أعيانا عن السبب.
قال رضي الله عنه : (والأسماء الإلهية كل اسم يفتقر العالم إليه من عالم مثله ، أو عين الحق فهو الله لا غيره) .
أي الأسماء الإلهية ما يفتقر إليه العالم سواء كان ذلك الاسم المحتاج إليه من عالم مثله كاحتياج الابن إلى الأب في وجوده ورزقه وحفظه فإنها صور أسماء الحق ومظاهرها .
أو من عين الحق كاحتياج الابن في صورته وشكله وخلقته إلى الحق المصور الخالق وهو ليس من عالم مثله ، فذلك الاسم المحتاج إليه هو الله لا غيره .
أما الأول فلأن سببية الأب ليست من حيث عينه الثابتة ، فإنها معدومة بل من حيث وجوده وفعله وقوته وقدرته ، والوجود عين الحق الظاهر في مظهره ، والفعل والصورة والقدرة والقوة والرزق والحفظ توابع الوجود وصفات الحق وأفعاله .
"" إضافة بالي زادة :  (واتصف العالم بالغنى ) يعنى كما أنك اتصفت بالغنى عن ظلك من حيث ذاتك ، كذلك اتصف الحق بالغنى بحسب الذات عن العالم ، فإذا كان ظلك مفتقرا إليك ومستغنيا عنك فقد عرفت منه أن اتصاف بعض بالغنى عن بعض ليس عين افتقاره إلى بعض ، فالولد بالنسبة إلى والده مفتقر من حيث ربوبيته ومستغن من حيث أنه عبد محتاج مثله فاحتياجه من هذه الحيثية إلى الله لا إليه ، فما كان وجه استغنائه وجه افتقاره فاستغناؤه لعدم سببيته فمن وجه في وجوده وافتقاره لوجود سببية هذا البعض ، فكان افتقاره إلى البعض عين افتقاره إلى الحق ، فإن ذلك البعض من حيث الربوبية عين الحق .
وهو معنى قوله ( وبالفقر النسبي ) عرفت أيضا اتصاف الحق بالغنى عن الناس من أي جهة ، وبالافتقار إليه من أي جهة ، فغناؤه بحسب ذاته وافتقاره بحسب ظهور أحكامه ، وإنما افتقر العالم إلى الله كليا كان أو نسبيا ( فإن العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شك ) اهـ بالى زادة .
( ولا سببية للحق ) إذ ما دبر الحق العالم إلا بأيدي أسمائه ، فسبحان من دبر العالم بالعالم اهـ.
( من عالم مثله ) أي مثل المفتقر كالوالد بالنسبة إلى الولد ، فإنه اسم إلهي يفتقر إليه الولد في وجوده الخارجي ، مع أنه من العالم مثل الولد فلا يطلق الاسم على شيء إلا بسبب كونه محتاجا إليه العالم ( أو ) تجلى من ( عين الحق ) فكيف كان ( فهو ) أي الاسم المفتقر إليه ( الله ) أي عين الحق باعتبار الربوبية ( لا غيره ) وإن كان غيره باعتبار الظلية إذ لا يحتاج إليه ولا يطلق عليه الاسم بهذا الاعتبار ، فكان العالم كله من الأسماء والأعيان وغيرها يفتقر إلى الله خاصة اهـ .بالي زادة""

ليس للأب إلا القابلية والمظهرية لما علمت أن القابل لا فعل له بل الفعل للظاهر في مظهره وأما الثاني فظاهر ، فظهر أن المحتاج إليه ليس إلا الله وحده ، فقوله : كل اسم خبر المبتدأ ، يفتقر إليه العالم صفته ، ومن عالم مثله صفة بعد صفة ، أي ثابت كائن من عالم مثله أو عين الحق عطف على عالم مجرور ، أي أو اسم كائن ناشئ من عين الحق.
قال رضي الله عنه : ( ولذلك قال : " يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ".)
أي ولأنا من مكمن الإمكان ، والممكن بالنظر إلى ذاته دون موجده معدوم وقابل بالذات فكيف بالصفات والأفعال ، فالفقر لنا إلى الله من جميع الوجوه ذاتي ، والله وحده هو الغنى بالذات الحميد بالكمالات والصفات .
قال رضي الله عنه : ( ومعلوم أن لنا افتقارا من بعضنا لبعضنا ، فأسماؤنا أسماء الله تعالى ) أي لما ثبت أن الافتقار العام لازم لنا لزم افتقار بعضنا إلى بعض على ما نشاهد افتقارا إلى أسماء الله فينا بتجليه لنا بها ، فأسماؤنا أسماؤه ونحن له مظاهرها فحسب ، ليس لنا شيء مفتقر إليه.
قال رضي الله عنه :  ( فهو هويتنا ) بظهور وجه الأحدية ( لا هويتنا ) باعتبار التعين والإضافة التي هو بها ظل (وقد مهدنا لك السبيل فانظر) في هذا الفص ليتضح لك .
"" إضافة بالي زادة :  ( ولذلك ) أي ولأجل أن العالم كله محتاج إلى الله لا إلى غيره ( قال تعالى: " يا أَيُّهَا النَّاسُ ") فالغنى لا يكون إلا لله ، والفقر لا يكون إلا للعالم اهـ بالى .
( فأسماؤنا ) من جنسنا التي نحتاج إليها أسماء الله تعالى ، وأسماء الله عين ذاته من حيث الربوبية إذ إليه الافتقار بلا شك اهـ. بالي زادة
( إذ إليه الافتقار بلا شك لا إلى غيره ) لأن الغير ظل الله والظل لا يقال فيه يفتقر إليه غيره ( وأعياننا في نفس الأمر ظله لا غيره ) أي لا غير ظله أو لا غير الحق إذ ظل الشيء عينه ( فهو هويتنا ) باعتبار ظهور الحق فينا ، فلا امتياز بهذا الوجه وهو وجه الأحدية ( لا هويتنا ) باعتبار ظهور الاختلاف فينا اهـ. بالي زادة ""

قال رضي الله عنه : ( إذ إليه الافتقار بلا شك ) خاصة لا إلى غيره ( وأعياننا في نفس الأمر ظله ) باعتبار اسمه الباطن لأنها معلومات عينية ( لا غيره ) لأن اسم الباطن عينه باعتبار نسبة البطون ، وظله ووجوده مع قيد الإضافة .

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 1:33 am

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية  الجزء الأول
إنما اختصت الكلمة الهودية بالحكمة الأحدية ، لأن كشف هود عليه السلام شهود أحدية كثرة الأفعال الإلهية المنسوبة إلى الأحدية الإلهية ، وهي في الحقيقة أحدية الربوبية بعد أحدية الإلهية وهي أحدية جميع الأسماء وأحدية اسم الله الشامل للأسماء كلها ، فإن كل الأسماء بالذات واحد . والوحدة ثلاث مراتب : وحدة الذات بلا اعتبار كثرة ما وهي الأحدية الذاتية المطلقة . ووحدة الأسماء مع كثرة الصفات وهي أحدية الألوهية ، والله بهذا الاعتبار واحد وبالاعتبار الأول أحد ، والثالثة أحدية الربوبية المذكورة المختصة بهود عليه السلام ،
لقوله تعالى حكاية عنه : " ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ " فإن هذه الأحدية موقوفة على الآخذ والمأخوذ وكون الرب على الطريق الذي يمشى فيه ، فهي أحدية كثرة الأفعال والآثار التي نسبتهما إلى الهوية الذاتية وحدها:
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إن لله الصراط المستقيم ….  ظاهر غير خفى في العموم )
الصراط المستقيم : طريق الوحدة التي هي أقرب الطرق إلى الله الواحد الأحد ، وذلك أن لكل اسم من الأسماء الإلهية عبدا هو ربه وذلك العبد عبده فكل عين من الأعيان الوجودية مستند إلى اسم مرتبط به جار على مقتضاه سالك سبيله فهو على طريقه المستقيم المنسوب إليه .
"" إضافة بالي زادة : ولما كان لكل اسم أحدية الصراط ، وكانت أحدية صراط اسم الله جامعا لجميع أحدية صراط الأسماء ، شرع في بيان الأحدية الجامعة أولا بقوله ( إن لله الصراط المستقيم ظاهر ) خبر لمبتدأ محذوف : أي هو ( غير خفى ) تأكيد ( في العموم ) أي جاء هذا الصراط المستقيم من عند الله في حق عموم الناس ، وهو صراط الأنبياء كلهم المشار إليه بقوله "اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ "أو تعلق في العموم ، بقوله : غير خفى ، أي هذا الصراط المستقيم معروف بين الخلائق كلها وهو طريق الهدى اهـ بالى . ""
ثم لما كانت الأسماء على اختلاف مقتضياتها أحدية المسمى كانت موصلة إلى المسمى ، فهو الله الذي له أحدية جميع الأسماء ، فكل يصل إلى الله مع اختلاف الجهات دائما فلله الصراط المستقيم الذي عليه الكل ، فصح قولهم الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق وبعدد الأنفاس الإلهية ، فإن الشؤون المتجددة لله في كل آن على كل مظهر أنفاس إلهية .
وذلك ظاهر في كل حضرة من حضرات الأسماء على العموم ، سواء كانت الأسماء كلية أو جزئية غير خفى ، فكل اسم مدبر لمظهر روح له والمظهر صورته والجميع متصل باللَّه :
قال الشيخ رضي الله عنه : ( في كبير وصغير عينه  ..... وجهول بأمور وعليم )
هذا تفسير العموم :
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولهذا وسعت رحمته   ..... كل شيء من حقير وعظيم )
أي رحمته الرحمانية ، فإن الرحمن اسم شامل لجميع الأسماء ، فهو المرصاد لكل سالك وإليه ينتهى كل طريق ويرجع كل غائب .

قال الشيخ رضي الله عنه : (ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فكل ماش فعلى صراط الرب المستقيم ، فهو "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " من هذا الوجه "ولا الضَّالِّينَ " فكما كان الضلال عارضا كذلك الغضب الإلهي عارض ، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شيء وهي السابقة ) « ما من دَابَّةٍ » أي شيء ، فإن الكل ذو روح إلا هوية الأحدية الذاتية بحكم الصمدية والقيومية مالكة له آخذة بناصيته جاذبة إياه على صراط سبقت رحمته إليه قبل إيجاده .
فإذا وجدت الحقائق بنسبتها الذاتية على ما اقتضت أعيانها ، وسلكت بها على طرق أربابها فلا غضب ولا ضلال ثمة ، فإن عرض أحدهما فالمآل إلى الرحمن على ما سيأتي ، والرحمة السابقة هي الغالبة .
"" إضافة بالي زادة :  ( في صغير وكبير ) خبر ( عينه ) مبتدأ ( وجهول بأمور وعليم ) معطوف على الخبر معناه أن ذاته تعالى من حيث أسماؤه وصفاته موجودة في كبير وصغير ، أي في كلى وجزئي بالنسبة إلى الأسماء وبالنسبة إلى الأجسام في كبر الحجم وصغره ، أي لا ذرة في الوجود إلا وهي نور من ذات الحق لكون كل ما في الوجود مخلوقا من نوره ، فالذات من حيث هي غنية عن الوجود الكوني ( ولهذا ) أي ولأجل كون الذات مع جميع صفاته محيطا بالكل ( وسعت رحمته كل شيء من حقير وعظيم ) فإذا كان كل شيء تحت قدرته كان "ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ " يتصرف فيها كيف يشاء على حسب علمه الأولى التابع لعين المعلومات فلا جبر من الله ( فهو "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ) من حيث أنه ماشي على صراط ربه المستقيم ، لأن ربه راض عن فعله فلا غضب ( والمآل ) أي مآل الغضب ( إلى الرحمة ) الرحمة عند أهل الله على نوعين : رحمة خالصة ، ورحمة ممتزجة بالعذاب ، ففي حق عصاة المؤمنين من أهل النار مآل الغضب إلى الرحمة خالصة من شوب العذاب ، وذلك لا يكون إلا بإدخالهم الجنة ، وفي حق المشركين ما آله إلى الرحمة الممتزجة بالعذاب ، وهذا لا يكون إلا بخلودهم في النار فاعلم ذلك ، وفيه كلام ستسمع في آخر الفص ( فإنه ذو روح ) لأنه مسبح بالنص وكل مسبح ذو روح ، وكله ماش على صراط ربه المستقيم ( فإنه لا يكون صراطا إلا بالمشي عليه ) إذ الصراط عبارة عن المشي والمسافة هذا إذا كان الخلق ظاهرا والحق باطنا ، فحينئذ الحكم للحق في وجود الخلق ، والخلق تابع للحق في حكمه ، وأما إذا كان الخلق باطنا والحق ظاهرا فالحكم للخلق والحق تابع للخلق فيما يطلبه منه ، ففي هذا الوجه ما طلب العبد من الحق شيئا إلا ويعطيه ، وفي الوجه الأول ما حكم الحق على العبد يحكم إلا وهو تابع لحكمه فيما أمره به. اهـ بالى .""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكل ما سوى الحق دابة ، فإنه ذو روح ، وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره ، فهو يدب بحكم التبعية للذي هو على صراط مستقيم ، فإنه لا يكون صراطا إلا بالمشي عليه ) .
إنما كان ما سوى الحق ذا روح ، لأن الرحمة امتدت أوّلا إلى رقائق الأشياء وروحانياتها ، وألزمها أشباحها حتى وجدت حقائقها الكونية بها ، فدبت بالأسماء التي يربها الله بها على اختلاف مراتبها ، وكل اسم منها هو الذات الأحدية مع النسبة الخاصة التي هي حقيقة الاسم ، أعنى الصفة المخصوصة ، فكل يدب بحكم التبعية على صراط الذات الأحدية بذاته في ذاته ، فإن الحق المتعين في قابليته يحركه ويسيرة إلى غايته وكماله الخاص به ، فهو يدب بحركة ضعيفة عرضية غير ذاتية ، فإنها بحكم التبعية ، وتلك الحركة هي المشي على الصراط المستقيم ، فإن الصراط هو الذي يمشى عليه .
ولما كانت تلك الحركة بالحق في الحق كان الصراط والماشي عليه هو الحق :
قال الشيخ رضي الله عنه :
( إذا دان لك الخلق     .... فقد دان لك الحق
وإن دان لك الحق     ..... فقد لا يتبع الخلق )
أي إذا دان وانقاد لك المسمى بالخلق فقد دان لك الحق الظاهر في مظهر ذلك الخلق ، أعنى الهوية الحقيقية المستترة به ، وإن انقاد لك الحق المتجلى في مظهرك بحكم التعين الخاص فلا يلزم أن ينقاد لك الخلق ، لأن الحق المذعن لك حق بلا خلق ، فلا ينحصر في الوجه الذي تجلى به لك فلا تنقاد تلك الخلائق ، لأن تجلياته فيهم بحكم مجاليهم فقد تخالف الوجوه التي بها تجلى لهم وجهه الذي به تجلى لك ، فالظاهر في مظاهرهم يسلكهم في طرق كمالاتهم المخالفة لكمالك وإن كان سلوكهم بالحق للحق لاختلاف الأسماء ومظاهرها :
"" إضافة بالي زادة وهذا نتيجة قرب النوافل ، يعنى يقول الله تعالى إذا تقرب عبدي إلى بقرب النوافل تجليت له باسمي السميع فيسمع كل ما يسمع بالسمع المضاف إلى لا يسمع نفسه ، فكان كل مسموعاته دليلا له على ، وتجليت له بالبصر فما رأى شيئا إلا رآني فيه ، وتجليت له بالقدرة فيقدر بقدرتي على تصرفات نفسه بأخذ ناصيتها « كتصرف الحق في الأشياء بأخذ نواصيها " وما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ".
 وكذلك هذا العبد المتجلى له بالقدرة ما من دابة من قوى نفسه إلا هو آخذ بناصيتها ، وتجليت له بأفعالى إذ الرجل في حق الحق عبارة عن كونه " كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ ".
كما أن اليد عبارة عن القدرة التامة ثم هديته الصراط المستقيم ، فلا يمشى إلا على الصراط المستقيم : يعنى ما يفعل هذا العبد فعلا إلا وقد رضى الله عن ذلك الفعل.أهـ بالي زادة. ""
قال الشيخ رضي الله عنه :
(فحقق قولنا فيه       ...... فقولي كله حق
فما في الكون موجود   ...... تراه ما له نطق )
أي إذا كان القائل هو الحق فقوله حق ، وإذا كان الحق هو المتجلى في كل موجود فلا موجود إلا هو ناطق بالحق ، لأنه لا يتجلى في مظهر إلا في صورة اسم من أسمائه ، وكل اسم موصوف جميع الأسماء لأنه لا يتجزأ لكن المظاهر متفاوتة الاعتدال والتسوية ، فإذا كانت التسوية في غاية الاعتدال تجلى جميع الأسماء .
وإذا لم يكن ولم يخرج عن حد الاعتدال الإنسانى ظهر النطق والصفات السبع وبطن سائر الأسماء والكمالات ، وإذا انحط عن طور الإنسان بقي النطق في الباطن في الجميع حتى الجماد ، فإن التي لم تظهر عليه من الأسماء الإلهية والصفات كانت باطنة فيه لعدم قابلية المجلى ، فلا موجود إلا وله نطق ظاهرا وباطنا فمن كوشف ببواطن الوجود سمع كلام الكل حتى الحجر والمدر ، فإن العلم باطن هذا الوجود ،ولهذا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء:
قال الشيخ رضي الله عنه :
( وما خلق تراه العين   ..... إلا عينه حق
ولكن مودع فيه        ..... لهذا صوره حق )
أي كل خلق تراه العين فهو عين الحق كما ذكر ، ولكن خيال المحجوب سماه خلقا لكونه مستورا بصورة خلقية محتجبا بها وإن كان متجليا لم يعرفه ، ولاستتاره عن أعين الناظرين قال : ولكن مودع فيه ، أي مختف في الخلق فصوره ، أي صور الخلق جمع صورة سكنت واوه تخفيفا ، والحق جمع الحقة شبه استتاره بالصور الخلقية بالإيداع في الظروف .
قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم أن العلوم الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة ، فإن الله تعالى يقول: " كنت سمعه الذي به يسمع ، وبصره الذي به يبصر ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها ") .
العلوم الذوقية تختلف باختلاف الاستعدادات ، فإن أهل الله ليسوا في طبقة واحدة فلهذا تختلف أذواقهم وعلومهم ، ولهذا اختلف حكم هذا الكتاب باختلاف الكلم كاختلافها في الإنسان الواحد باختلاف القوى الحاصلة هي منها ، مع كون تلك العلوم ترجع إلى عين واحدة هي هوية الحق كما فصلها ، والحاصلة
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فذكر أن هويته هي عين الجوارح ) من وجه وهو وجه الأحدية مع أنه غيره من حيث الكثرة ، فقد نبه عليه بإرجاع الضمير إلى العبد ، فكان هذا الكلام جامعا بين التنزيه والتشبيه.
( التي هي عين العبد) من وجه وهو وجه الأحدية ، لأن العبد هو مجموع الأجزاء الاجتماعي ، والجزء لا يقال فيه غير الكل ، وأما بحسب التعين فيمتاز كل واحد منها عن الآخر وعن الكل.
( فالهوية ) أي هوية الحق ( واحدة والجوارح ) أي جوارح العبد ( مختلفة ، ولكل جارحه علم من علوم الأذواق )
 في المعنى صفة جارية على غير ما هي له ، فكان حق الضمير الذي هو فيها أن يفصل لأنه ضمير العلوم لكنه تسامح فيها .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فذكر أن هويته هي عين الجوارح التي هي عين العبد ، فالهوية واحدة والجوارح مختلفة ، ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها من عين واحدة تختلف باختلاف الجوارح )
يعنى : أن الهوية الواحدة هي عين الجوارح المختلفة لاختلاف المحال في عين العبد الواحد ، والعلم الفائض من الهوية الواحدة حقيقة واحدة ظهرت في تلك الجوارح بسبب اختلاف قابليتها علوما مختلفة يختص كل جارحة منها علم من علوم الأذواق مخالف لعلوم الباقي بحكم اختلاف المحال ، ولهذا قيل : من فقد حسا فقد فقد علما .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كالماء حقيقة واحدة يختلف في الطعم باختلاف البقاع ، فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج وهو ماء في جميع الأحوال لا يتغير عن حقيقته ، وإن اختلفت طعومه ) .
شبه العلم الحاصل لأهل الله من الهوية الإلهية بالماء ، فإن العلم حياة الأرواح كما أن الماء حياة الحيوان فاختلاف العلم مع كونه حقيقة واحدة باختلاف الجوارح كاختلاف الماء في الطعوم باختلاف البقاع مع كونه حقيقة واحدة ، فمن الماء عذب فرات كعلم الموحد العارف باللَّه ، ومنه ملح أجاج كعلم الجاهل المحجوب بالسوى والغير ، ونظيره قوله تعالى " يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ونُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ في الأُكُلِ".
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهذه الحكمة من علم الأرجل ، وهو قوله تعالى في الآكل لمن أقام كتبه ومن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ   فإن الطريق الذي هو الصراط المستقيم هو السلوك عليه والمشي فيه ، والسعي لا يكون إلا بالأرجل ، فلا ينتج هذا الشهود في أخذ النواصي بيد من هو على صراط مستقيم ، إلا هذا الفن الخاص من علوم الأذواق )
قال تعالى : " ولَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ والإِنْجِيلَ وما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ لأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ ومن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ".
 إقامة الكتب الإلهية : القيام بحقها بتدبر معانيها وفهمها وكشف حقائقها ودركها والعمل بها وتوفية حقوق ظهرها وبطنها ومطلعاتها لرزقوا العلوم الإلهية الذوقية والمعارف القدسية من فوقهم ، والأسرار الطبيعية التي أودعت القوابل السفلية من تحت أرجلهم ، فهذه الحكمة من علم الأرجل : أي من أسرار القوابل ، فإن الله مع القوابل كما هو مع الأسماء الفواعل ، ولهذا قال : لو دلى أحدكم دلوه لهبط على الله ، فالصراط الممدود عليها إذا سلك عليه بالأرجل وسعى السالكون عليه بالأقدام  في العمل بمقتضى العلم المستفاد من الكتب.
ورثوا هذا الفن الخاص من العلوم الذوقية ، أي علم أحكام القوابل فأنتج لهم شهود من أخذ النواصي بيده "وهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ " - يوصل من أخذ نواصيهم إلى غايتهم.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( " ونَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ " - وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكهم عن نفوسهم بها فهو يأخذ بنواصيهم والريح تسوقهم ، وهو عين الأهواء التي كانوا عليها إلى جهنم ، وهي البعد الذي كانوا يتوهمونه )
فيسوق المجرمين الجرمانيين أهل الإجرام والآثام بحكم قائدهم الآخذ بنواصيهم ، فهو القائد والسائق إلى المقام الذي استحقوه بسعيهم على أرجلهم ، ريح الدبور المأمورة بسوقهم ، وهي أهواؤهم التي تسوقهم من أدبارهم ، أي من جهة خلفهم ولهذا سميت دبورا ، وهي جهة العالم الهيولاني إلى هوة جهنم البعد الذي يتوهمونه وهم يهوون بها ، بأهوائهم الناشئة من استعدادات أعياناتهم ، حتى أهلكهم السائق والقائد عن نفوسهم.
"" إضافة بالي زادة (ساقهم إليه ) أي إلى ذلك المقام وهو المسمى بجهنم الذي استحقوه بسلوكهم في الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى هذا المقام الذي يحصل لهم فيه هذا الشهود ( بريح الدبور ) وهي الأهواء التي فعلوا من مقتضيات أنفسهم ، وسمى بها لأنه يأتي من جهة الخلفية جهة الخلف . وإهلاكهم تعذيبهم بهذه الريح في صورة النار فهلكوا عن أنفسهم ، فشاهدوا أن الحق هو الآخذ بنواصيهم والسائق إلى أن وصلوا إلى هذا النوع من العلوم الذوقية ، فإنهم وإن عذبوا إلى الأبد لكنهم يتحققون بهذا الذوق اهـ بالى . ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب فزال البعد فزال مسمى جهنم في حقهم ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق ، لأنهم مجرمون ) 
إنما حصلوا في عين القرب على الحقيقة لأن الحق الذي هو قائدهم معهم ، وإنما توهموا لبعد لأنهم كانوا يسعون إلى كمالات وهمية فانية تخيلوها فما وصلوا إلا إليها ، فزال البعد في حقهم فزال مسمى جهنم ، لأنهم بلغوا الغايات التي كانوا يطلبونها باستعداداتهم ، وذلك نعيمهم من جهة استحقاقهم لأن إجرامهم هو الذي اقتضى وصولهم إلى أسفل مراتب الوجود من عالم الأجرام.
"" إضافة بالي زادة ( فزال البعد ) المتوهم لعلمهم أن الله معهم في كل موطن ( فزال مسمى جهنم في حقهم ) من حيث أنه بعد لا من حيث أنه عذاب لذلك قال ( ففازوا بنعيم القرب ) في جهنم ولم يقل بنعيم مطلقا ، فإن الفوز بنعيم القرب وهو مشاهدة الحق لا يوجب رفع العذاب في حق المخلدين ، كما تألم بعض المقربين في الدنيا ( لأنهم مجرمون ) أي الكاسبون الصفات الظلمانية الحاجبة لشهود الحق ، فهذا الشهود أجر المجرمين فاستحقوا بسبب جرمهم هذا المقام اهـ بالى . ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها ، وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم ، لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة فما مشوا بنفوسهم ، وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب "ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه مِنْكُمْ ولكِنْ لا تُبْصِرُونَ").
أي إنما وجدوه بما اقتضاه أعيانهم من أعمالهم التي كانوا يسعون فيها وبمقتضى استعداداتهم الذاتية تعلقت المشيئة الإلهية بما كانوا يعملون في أعمالهم على صراط الرب المستقيم ، لأن نواصيهم بيد من هو على الصراط المستقيم ، فهو يسلك بهم عليه جبرا إلى أن وصلوا إلى عين القرب.
"" إضافة بالي زادة فدل ذلك على أن نعيم القرب عام في حق كل أحد سعيدا كان أو شقيا ، وكذلك يدل على عموم نعيم القرب قوله تعالى: " ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه "  أي إلى الإنسان - من حَبْلِ الْوَرِيدِ " اهـ بالي. ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإنما هو يبصر فإنه مكشوف الغطاء فبصره حديد ) أي إنما الجهنمي يبصر مع أن الله تعالى أخبر أن أهل الحجاب لا يبصرون في الدنيا لأنه هناك مكشوف الغطاء حديد البصر.
وأما قوله: "من كانَ في هذِه أَعْمى فَهُوَ في الآخِرَةِ أَعْمى وأَضَلُّ سَبِيلًا " فهو في حق من يدعوه الهادي إلى مسمى الله الرب المطلق رب العالمين ، وهذا في حق كل أحد بالنسبة إلى الرب المتجلى له في صورة عينه الآخذ بناصيته إلى ما يهواه ، فذاك في البصيرة وهذا في البصر " فَإِنَّها لا تَعْمَى الأَبْصارُ ولكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ " .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما خص ميتا من ميت : أي ما خص سعيدا في العرف من شقي "  ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه من حَبْلِ الْوَرِيدِ ". وما خص إنسانا من إنسان فالقرب الإلهي من العبد لا خفاء به في الإخبار الإلهي ، فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عين أعضاء العبد وقواه ، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى ، فهو حق مشهود في خلق متوهم )
أي الظل الخيالي المذكور .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالخلق معقول والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود ) أي الشهود الذوقي .
( وما عدا هذين الصنفين فالحق عندهم معقول والخلق مشهود ، فهم بمنزلة الماء الملح الأجاج ) .
هذين الصنفين ما عدا المؤمنين وأهل الكشف والشهود ، فالحق عندهم ما نصوروه واعتقدوا أنه غير معلوم للبشر إلا وجوده لا حقيقته ، وبعضهم تخيلوه وكلاهما يعتقدان أنه متعين ولا يشهدون إلا الخلق فهم أهل الحجاب بمنزلة الماء الأجاج ، وأما المؤمنون وأهل الكشف فبالعكس ، لأنهم يشهدون الحق والخلق عندهم ظل خيالي ليس إلا نسبة الوجود إلى الأعيان ، والنسبة معقولة ، ولهذا :
"" إضافة بالي زادة ( بمنزلة الماء الملح الأجاج ) كلما ازدادوا علما ازدادوا شبهة بحيث لا يروى ولا يقنع علمهم كالملح الأجاج لا يروى شاربه ، وقد أشار إلى افتراق المؤمنين من أهل الكشف أولا وإلى اتحادهما ثانيا بقوله ( والطائفة الأولى ) بمنزلة الماء العذاب.اهـ بالى ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والطائفة الأولى بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ شرابه فالناس على قسمين : من الناس من يمشى على طريقة يعرفها ويعرف غايتها ، فهي في حقه صراط مستقيم .
ومن الناس من يمشى على طريقة يجهلها ولا يعرف غايتها ، وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر . فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة ، وغير العارف يدعو إلى الله على التقييد والجهالة )
يعنى أن الطريق والغاية كلاهما واحدة في الحقيقة وهو الحق ، فالعارف يدعو على بصيرة من اسم إلى اسم ، والجاهل يدعو على جهالة من السوي إلى السوي ، لأنه لا يعرف الحق .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهذا علم خاص يأتي من أسفل سافلين ، لأن الأرجل هي السفل من الشخص ، وأسفل منها ما تحتها وليس إلا الطريق ، فمن عرف الحق عين الطريق عرف الأمر على ما هو عليه ).
يعنى أن الطريق الذي يسلك عليه أسفل من سفل ، فمن عرف علم الطريق وأنه ليس إلا الحق إذ لا شيء غيره عليه عرف أن أسفل سافلين لا يخلو عن الحق ، فعلم أن الجهنميين في القرب وإن توهموا البعد.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن فيه جل وعلا يسلك ويسافر إذ لا معلوم إلا هو ، وهو عين السالك والمسافر فلا عالم إلا هو ، فمن أنت ؟ فاعرف حقيقتك وطريقتك ، فقد بان لك الأمر على لسان الترجمان إن فهمت ) .
والترجمان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قال « كنت سمعه الذي يسمع به » الحديث ( وهو لسان حق ) فإن من قال الحق بالحق كان لسان الحق .
"" إضافة بالي زادة (فمن أنت ) استفهام إنكاري : أي أنت معدوم في نفسك ( فاعرف ) اليوم ( حقيقتك وطريقتك ) ولا تفوت وقتك حتى تدخل لعرفان حقيقتك وطريقتك في حكم قوله :" ونَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ " فإنك إذا عرفت ما نقلناه عرفت حقيقتك وطريقتك ( فقد بان لك الأمر ) من الله على ما هو عليه ، وهو كون الطريق السالك والعلم والمعلوم عين الحق أحدية الجمع ( على لسان الترجمان ) وهو نفسه لقوله « حتى أكون مترجما لا متحكما » أو الحق مترجما لنا عن نبيه هود مقالته ، أو نبينا عليه الصلاة والسلام مترجما عن الحق قوله " كنت سمعه " اهـ بالي.
( إلا من فهمه حق ) حتى يفهم بفهم الحق مطلقات كلام الحق ، فإن الشهود بأحدية الأشياء من مطلقات كلام رب العزة ومن مفهوماته الثانية ولا يفهمه إلا العلماء باللَّه .
قوله ( فظنوا ) هذا القهر ( خيرا ) أي لطفا فحسن ظنهم باللَّه فعاملهم الله بإعطائه لهم جزاء حسن ظنهم باللَّه من الجهة التي غير ما تخيلوها اهـ بالى . ""
( فلا يفهمه إلا من فهمه حق ) لأن الحق إذا كان جميع قوى العبد وجوارحه كان فهمه حقا لأنه من جملة قواه ( فإن للحق نسبا كثيرة ووجوها مختلفة ) فإن له إلى كل شيء نسبة هي نسبة الوجود التي بها صار ظلا ، وفي كل عين وجها هو ظهوره بصورتها .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ألا ترى عادا قوم هود كيف قالوا " هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا " - فظنوا خيرا باللَّه وهو عند ظن عبده به فاضرب لهم الحق ) أي بقوله : " بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُمْ به " ( عن هذا القول ) الذي قالوه وهو "هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ".
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب ، فإنه إذا أمطرهم فذلك حظ الأرض وسقى الحبة فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد ) فإنه إذا أمطرهم أنبت به النبات من الأرض وسقى الحبة فنبتت ونمت وأدركت وأحصدت بعد المطر بزمان ، وكذا نماء النبات والشجر ورعاها الدواب والأنعام فأكلوا منها وشربوا لبنها بعد مدة ، ولا يصل نفع المطر وفائدته إليهم إلا عن بعد بخلاف الإراحة عن الهياكل البدنية .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقال لهم " بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُمْ به " ) وفسره بقوله : (" رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ " )فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة لهم ، فإن بهذه الريح يريح أرواحهم من الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة والسدف المدلهمة ).
 المسالك الوعرة الجثة التي يسلك الحق فيها على وعرة طوقها الغلبة الخشونة الحجابية ، والسدف : أي الحجب جمع سدفة : وهي الحجاب ، والمدلهمة : المسودة في غاية الظلمة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وفي هذه الريح عذاب : أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه إلا أنه يوجعهم لفرقة المألوفات فباشرهم العذاب ، فكان الأمر إليهم أقرب مما تخيلوه ) .
من الإمطار والنفع ، يعنى أنهم  لما ظنوا باللَّه خيرا والله عند ظن عبده ، فأثابهم خيرا مما ظنوا من حيث لا يشعرون .
فإن الوصول إلى ما ظنوه من الانتفاع بالمطر قد لا يقع وقد يقع من بعد والذي وقع خير وأقرب ، فإنهم وصلوا بذلك إلى الحق وحصلوا في عينه من حيث لم يحتسبوا .
فإن للحق وجوها كثيرة ونسبا مختلفة من جملتها أحوالهم وظنونهم وأقوالهم ، فإن هذه الحالة خير لهم مما ظنوا وإن أوجعتم بقطع الحياة وفرقة المألوفات ، لأن ذلك أرواحهم مما هم فيه أكثر مما أوجعتهم ، ونجاهم من التوغل والتمادي في التكذيب والعصيان الموجب للرين على القلوب ، وخفف عنهم بعض عذاب الآخرة فجازاهم على حسن ظنهم باللَّه خيرا على وجه أتم.
 قال الشيخ رضي الله عنه : ( فدمرت " كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ " - وهي جثتهم التي عمرتها أرواحهم الحقية فزالت عنهم حقية هذه النسبة الخاصة ، وبقيت على هياكلهم الحياة الخاصة بهم من الحق التي تبطل بها الجلود والأيدى والأرجل وعذبات الأسواط والأفخاذ وقد ورد النص الإلهي بهذا كله ) .
أي فدمرت الريح بالتدبير الإلهي كل شيء مما كان قابلا للتدمير منهم ، فأراحت أرواحهم التي هي حقائقهم عن جثتهم التي هي مساكنهم بعد ما كانت عامرة لها مدبرة إياها ، وهي حقية : أي متحققة ثابتة في وجودها ثابتة للنسبة إلى أبدانها فزالت حقية نسبها إلى أبدانها .
أي تحققت نسبتها الخاصة وبقيت الهياكل حية بحياتها الطبيعية المخصوصة بها من الحق لما ذكرنا أن كل شيء وإن كان جمادا فهو ذو روح مخصوص به من الحق ، وهي الحياة التي تنطق بها الجلود والأيدى والأرجل كما ورد في القرآن وعذبات الأسواط والأفخاذ كما ورد في الحديث .
وقد أشار أبو مدين رضي الله عنه إلى هذه الحياة بقوله : سر الحياة سرى في الموجودات كلها ، فإن الحي بالذات القيوم للكل متجلي في الجمع وإلا لم يوجد ، فمن حضرة الاسم الحي يحيى كل شيء بحياة ظاهرة أو باطنه على ما مر.

"" إضافة بالي زادة فإذا باشرهم الحق العذاب ( فدمرت كل شيء بأمر ربها ) أي قطعت الريح تعلق أرواحهم بظواهر أبدانهم .
قوله ( حقيقة هذه النسبة ) وحقيتها كونهم على صورة الحق من العلم والحياة والقدرة بسبب تعلق الأرواح الحقية بهم ، فإذا زال تعلق الروح زالت عنهم هذه الكمالات الحقية ( وبقيت على هياكلهم الحياة الخاصة ) وهي الحياة التي نصيب منها لكل شيء من الله بدون نفخ منه بخلاف الحياة الحقية ، فإنها لا تحصل إلا لمن يقبل الاستواء اه ( وعذابات الأسواط ) أي يذوق بها الميت عذبات الأسواط والأفخاذ في القبر ، فهذه نسب جثمانية لا نسب حقانية .
ولما بين الأمر على ما هو عليه شرع في بيان سبب عدم ظهور هذه المعاني لبعض الناس بقوله ( إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة ) اهـ بالى""  .
قال الشيخ رضي الله عنه : (إلا أنه تعالى قد وصف نفسه بالغيرة ، ومن غيرته حرم الفواحش وليس الفحش إلا ما ظهر) مما يجب ستره ومن جملة سر الربوبية فقد قيل إفشاؤه كفر .
( وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له ) .
وهو الحق ومن أظهره الله عليه ، وذلك أن الحق هو الظاهر والباطن.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما حرم الفواحش : أي منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه ، وهي أنه عين الأشياء فسرها بالغيرة ) أي ستر هذه الحقيقة بالتعينات المختلفة التي يطلق عليها اسم الغير ، فحدث السوي والغير حيث يقال أنت غيرى وأنا غيرك ، فاعتبرها وأوجب الغيرة من الغير .
فلهذا قال ( وهو أنت ) أي إلى الغيرة أنت ، يعنى أنا نيتك إذا اعتبرتها ، إذ لو لم تعتبرها ونظرت إليها بعين الفناء كما هي عليه في نفس الأمر كنت من أهل الحمى فلا غيرة ثم فلا تحريم .
"" إضافة بالي زادة (فلما حرم الفواحش أي منع أن تعرف ) خطاب عام ( أي منع ) أن يعرف كل إنسان ( حقيقة ما ذكرناه ) وهي أنه عين الأشياء فكانت تلك الحقيقة ما بطن من الفواحش ( فسترها ) أي ستر الحق تلك الحقيقة عن الغير لئلا يطلع عليها أحد إلا بالمجاهدات والرياضات بالسلوك بطريق التصفية ، وجواب لما محذوف : أي لما حرم الفواحش أي جنس الفواحش حرم أن تعرف ، فقوله : فسترها ، جواب شرط محذوف اهـ بالى . ""
لأنها (من الغير ، فالغير يقول السمع سمع زيد ، والعارف يقول السمع عين الحق ، وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء فما كل أحد عرف الحق ، فتفاضل الناس وتميزت المراتب وبان الفاضل والمفضول ) بالمعرفة والجهالة .
(واعلم أنه لما أطلعنى الحق وأشهدنى أعيان رسله عليهم الصلاة والسلام وأنبيائه كلهم البشريين) .
قيد الأنبياء بالبشريين للتخصيص ، لأن كل ظاهر ينبئ عن باطن فهو نبي بالنسبة إلى ما أخبر عنه ، وذلك الباطن ولى بالنسبة إلى ذلك الظاهر في اصطلاح العرفاء.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ، في مشهد أقمت فيه بقرطبة ) وهي مدينة بالمغرب كان مقيما بها.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( سنة ست وثمانين وخمسمائة ، ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلا هود عليه السلام فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم ) إنما أخبره هود دون غيره منهم لمناسبة مشربه وذوقه عليه السلام لمشرب الشيخ قدس سره في توحيد الكثرة وسعة مقام كشفه وشهود الحق في صورة أفعاله وآثاره ، وأما سبب اجتماعهم عند محمد صلى الله عليه وسلم ، فقيل :
إنه تهنئته قدس سره بأنه خاتم الأولياء ووارث خاتم الرسل والأنبياء .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ورأيته رجلا ضخما في الرجال حسن الصورة لطيف المحاورة عارفا بالأمور كاشفا لها ، ودليلى على كشفه لها قوله تعالى : " ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ " وأي بشارة للخلق أعظم من هذه ، ثم من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن ، ثم تممها الجامع للكل محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبر به عن الحق بأنه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان : أي هي عين الحواس والقوى الروحانية أقرب من الحواس ، فاكتفى بالأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحد )
يعنى أن القوى الروحانية أقرب إلى الله في الشرف والتجرد عن المادة ، والنورية والتنزه من الحواس ، إذ هي حالة في المحال الجسمانية مقدرة بمقاديرها محدودة بحدودها .
فاكتفى بها عن الأقرب المجهول الحد ، يعنى الروحانية ، فإنه تعالى إذا كان عين الأخس إلا بعد المحدود ، فبأن كان عين الأشرف الأقرب الغير المحدود ، أو المجهول في التحديد أولى .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فترجم الحق لنا عن نبيه هود مقالته لقومه بشرى لنا ، وترجم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله مقالته بشرى لنا فكمل العلم في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا القوم الكافرون ) .
أي المحجوبون الساترون ، فإنهم توهموا أنه تعالى إذا كان عين المحدودات كان محدودا ، ولم يعرفوا أنه إذا أحاط الكل من الأرواح والأجسام ، ولم ينحصر في واحد منهما ولا في الكل لم يكن محدودا . ( فإنهم يسترونها ) أي الآيات التي هي صفاته وتجلياته .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإن عرفوها حسدا منهم ونفاسة وظلما ) كأكثر علماء أهل الكتاب فإنهم عرفوها من كتبهم ، فإنه ما جاء في جميع الكتب إلا كذلك بشهادة الذين آمنوا من علمائهم ، كعبد الله بن سلام وأحزابه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما رأينا قط من عند الله في حقه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أوصله إلينا فيما يرجع إليه تعالى إلا بالتحديد ، تنزيها كان أو غير تنزيه ، أو له العماء الذي ما فوقه هواء وما تحته هواء ، فكان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق ، ثم ذكر أنه استوى على العرش فهذا أيضا تحديد ، ثم ذكر أنه ينزل إلى السماء الدنيا فهذا تحديد ، ثم ذكر أنه في السماء وأنه في الأرض وأنه معنا أينما كنا إلى أن أخبرنا أنه عيننا ) حيث أخبر أنه جميع قوانا وجوارحنا وهي عيننا.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ونحن محدودون فما وصف نفسه إلا بالحد ، وقوله : " لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ " حد أيضا إن أخذنا الكاف زائدة لغير الصفة ) أي لغير معنى المثلية يعنى لا بمعنى مثل مثله .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود ) هذا كلام أورده لدفع توهم المنزه ، فإن الأمر في وصفه أعظم مما توهم من تنزيهه الوهمي وأوسع من التقييد الفكري ، فإنه في التنزيه لم يتميز من شيء حتى يحتاج إلى تميزه ، وفي التحديد لم يتقيد بحد مخصوص حتى ينحصر فيتحدد ، تعالى الله عما يقول المنزه والمحدد ، وإن أخذنا الكاف في الآية المذكورة الدالة على التنزيه زائد دلت على نفى المثلية ، فتميز عن الأشياء بحدنا في حدودنا فكان محدودا ، ولو بكونه ليس عين هذا المحدود لاشتراكه بجميع ما عداه في معنى التشبيه .
"" إضافة بالي زادة :  فحينئذ قد تميز عن المحدود ( ومن تميز عن المحدود فهو محدود ) والمراد بالمحدود الأشياء ، فإذا لم يكن الحق عين الأشياء كان محدودا بهذا الحد ، فإذا كان الخلق محدودا ( بكونه ليس عين المحدود ) فالإطلاق عن التقييد تقييد اهـ بالى . ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالإطلاق عن التقييد تقييد ، والمطلق مقيد بالإطلاق لمن فهم ) يعنى أن الإطلاق عين التقييد مقابل له فهو تقييد بقيد الإطلاق والمطلق مقيد بقيد اللاتقيد ، أي بمعنى لا شيء معه والحق هو الحقيقة من حيث هي هي ، أي لا بشرط شيء فلا ينافي التقييد واللاتقيد .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 1:34 am

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية  الجزء الثاني
(وإن جعلنا الكاف الصفة ) أي بمعنى المثلية ( فقد حددناه ) أي أثبتنا مثله ونفينا عن مثله أن يكون له مثل وهو عين التشبيه والتشبيه تحديد.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإن أخذنا " لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ "  على نفى المثل ) أي على معنى نفى مثل من هو على صفته ، فإن مثل الشيء يطلق ويراد به من هو على صفته من غير قصد إلى نظير له كقولهم : مثلك لا يبخل أي من هو ذو فضيلة مثلك لا يأتي منه البخل والمراد نفسه والمبالغة في نفى البخل عنه بالبرهان أي أنت لا تبخل لأن فيك ما ينافي البخل فعلى هذا يكون معنى " لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ " نفى المثل بطريق المبالغة أي ليس مثل من هو على صفة من الصمدية وقيومية الكل شيء.

"" إضافة بالي زادة :  ( على نفى المثل ) على أن الكاف زائدة لغير الصفة .
(تحققنا بالمفهوم ) أعنى اطلعنا بالمعنى المراد من الآية وهو أنه عين الأشياء بخلاف ما إذا أخذ الكاف للصفة ، فإنه وإن دل على التحديد لكنه لا يدل على أنه عين الأشياء ، فإن مفهومه إثبات الوجود لغيره ومفهوم الثاني نفى المثل فيلزمه نفى الوجود عن غيره ، فتبين بهذا الوجه أنه عين الأشياء كما كان في الإخبار الصحيح ، لذلك أوردهما في إثبات هذا المعنى دون الوجه الأول ( و ) تحققنا ( بالإخبار الصحيح أنه ) أي الحق ( عين الأشياء ) وأشار إلى فرق الآية والحديث في الدلالة على أنه عين الأشياء بقوله في الآية بالمفهوم ، وفي الحديث بقوله وبالاعتبار ولم يقل بعموم الإخبار ، فدلالة الحديث على العينية أتم وأعم من دلالة الآية اهـ بالى . ""
قال الشيخ رضي الله عنه : (تحققنا بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنه عين الأشياء والأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها) المفهوم على ما ذكر ليس مثله شيء لأنه لا شيء إلا وهو به موجود : أي بوجوده ، فبهذا المفهوم وبالخبر الصحيح تحقق أنه عين الأشياء المحدودة بالحدود المختلفة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهو محدود بحد كل ذي حد فما يحد شيء إلا وهو حد للحق ) لأنه هو المتجلى في صورته فحد كل شيء حد الحق تعالى والضمير لمصدر يحد.
( فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات ) أي هو الظاهر بصورها وحقائقها .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولو لم يكن الأمر كذلك لما صح الوجود فهو عين الوجود ) لأن الممكن ليس له بذاته وجود فلا وجود له إلا به ( فهو على كل شيء حفيظ بذاته ) وإلا لانعدم على أصله ( فلا يؤوده حفظ شيء ) لأن عينه قائم بذاته فكيف يثقله وليس غيره.
( فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشيء غير صورته ) من أن يكون شيء غيره لأنه لو لم صورته يحفظ لكان له مثل في الشيئية والوجود ولزم الشرك .
ولهذا قال ( ولا يصح إلا هذا ) فإن الممكن لا يمكن أن يوجد بذاته ، وإلا لم يكن ممكنا فيكون في الوجود واجبا .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود ، فالعالم صورته وهو روح العالم المدبر له ، فهو الإنسان الكبير ).

أي فالعالم ظاهر الحق وهو باطنه ، والحق روح العالم والعالم صورته فهو الإنسان الكبير ، لأن الإنسان الكبير خلق على صورته والعالم كذلك - وهو الظاهر والباطن - لا أن العالم صورة وهو باطنها فحسب ، بل بمعنى أنه ظاهر العالم وباطنه ولهذا قال :

قال الشيخ رضي الله عنه :

( فهو الكون كله    ...... وهو الواحد الذي

قام كونى بكونه     ...... ولذا قلت يغتذي

فوجودى غذاؤه    ....... وبه نحن نحتذى )

أي الواحد الحي القيوم الذي قام الوجود المضاف إلى كل ممكن بوجوده لأنه هو مع قيد الإضافة ، وإذا قلت بالاغتذاء فهو المغتذى بالغذاء المختفى فيه الظاهر بصورة المغتذى ، وبه نحن نحتذى حذوه أي نغتذي به في الظهور بصورته والتكون بوجوده محتذين على مثاله في الوجود ، أي على صورته كالغذاء .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فيه منه إن نظرت   ...... بوجه تعوذى )

وإذا كان الأمر على ما قلناه ، فمنه عند إفنائه إيانا بتجليه نتعوذ به في إبقائه إيانا على صورته محتذين حذوه احتذاء الغذاء حذو المغتذى بوجه ، أي من جهة الذات والوجود فنقول : أعوذ بك منك ، أما من جهة الأسماء فنقول : أعوذ برضاك من سخطك ، وذلك لظهوره في المظاهر المختلفة بالصفات المختلفة كظهوره في بعضها باسم الرضى فيه ، فنعوذ به من سخطه عند إرادته قهرنا في مظهر المنكر الذي ظهر فيه بصورة القهر والسخط ، وكذلك في الأفعال نقول : نعوذ بعفوك من عقابك.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولهذا الكرب تنفس فنسب النفس إلى الرحمن ، لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صور العالم التي قلنا هي ظاهر الحق إذ هو الظاهر ، وهو باطنها إذ هو الباطن ، وهو الأول إذ كان ولا هي وهو الآخر إذ كان عينها عند ظهورها فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول" وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "  لأنه بنفسه عليم )

أي ولأن أعيان الأشياء وحقائقها التي هي صور معلوماته في الأزل معدومة العين ، موجودة في الغيب بالوجود العلمي طالبة للوجود العيني ، كانت كرب الرحمن لإرادة إيجادها بقوله « كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف » فتنفس في إيجادها ، وإنما نسب النفس للرحمن لأنه رحمها به بالنفس وهو الفيض الوجودي وهو الذي كانت النسب الإلهية تطلبه.

فإن الأسماء الإلهية التي سماها نسبا تقتضي ظهورها التي هي صور العالم وظاهر الحق باعتبار أنه الظاهر ، وهي بعينها في الغيب باطن الحق باعتبار اسمه الباطن ، إذ هي عند كونها ظاهرة لم تزل عن صورتها الغيبية .

وهو الأول باعتبار كونها في غيب الغيب ، أعنى في عين الذات معلومة بالقوة على الإجمال ، كوجود الشجرة في النواة ، وكونها في الغيب مفصلة بالعلم التفصيلي عند التعين الأول بسبب علمه بذاته لأنه كان ولم تكن هي وهو الآخر باعتبار ظهورها بوجوده لأنه عينها عند ظهورها والظاهر عين الآخر والباطن عين الأول وهو بذاته عين الأول في آخريته وعين الباطن في ظاهريته وعلمه بنفسه عين علمه بكل شيء لأنه عين كل شيء ظاهرا وباطنا .

"" إضافة بالي زادة :  (قلت له يغتذي ) من حيث ظهور أحكامه فينا وإخفاؤنا في وجوده ( فوجودى غذاؤه ) لقيام أحكامه بنا ( وبه نحن نحتذى ) لقيام وجودي بوجوده اهـ .

 قوله ( فوجودى غذاؤه ) هذا إذا كان الحق ظاهرا والعبد باطنا ( وبه نحن نحتذى ) هذا إذا كان العبد ظاهرا والحق باطنا اهـ بالى .

( ولهذا الكرب ) أي ولئلا يلزم هذا الكرب المحال ( تنفس ) أي أخرج ما في باطنه إلى الظاهر بكلمة " كُنْ فَيَكُونُ " هو في الظاهر بعد كونه في الباطن فما كان في نفس الأمر إلا هذا ، ولا بد أن ينسب هذا النفس إلى يد من أيدي الأسماء اه قال عليه الصلاة والسلام « إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن » فكانت الموجودات حاصلة من نفس الرحمن ، بل هما عين نفس الرحمن ، فالأسماء قبل وجودها في الخارج مكنونة في ذات الحق طالبة كلها الخروج إلى الأعيان كالنفس الإنسانى ، فبحبس الطالب للخروج يحصل الكرب للإنسان فإذا تنفس يزول كربه ، فجاز نسبة الكرب إلى المتنفس وإلى النفس قبل الخروج من الجوف ، فشبه ذلك نسبة الأسماء إلى الحق ، فلو لم يتنفس الإنسان لزم الكرب ، ولو لم يعط الحق ما طلبته الأسماء منه من إيجاد العالم للزم الكرب ، تعالى عن ذلك ، ومن جملة ما تقتضي ذاته أنه يعطى كل ذي حق حقه ، وكذا لو لم يحصل ما طلبته الأسماء من الله من صور العالم لحصل للأسماء من الله كرب وهو ظلم منه ، تعالى عن ذلك اهـ بالى . ""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما أوجد الصور في النفس وظهر سلطان النسب المعبر عنها بالأسماء صح النسب الإلهي للعالم ، فانتسبوا إليه تعالى فقال « اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبى » أي إني آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم وأردكم إلى انتسابكم إلىّ )

أي فلما ظهرت الأعيان التي هي أجزاء العالم وصورها في الفيض الوجودي وظهرت النسب التي هي الأسماء الإلهية في صورها التي هي مظاهرها وأظهرت سلطنتها بأفعالها وأحكامها في الآثار المتصلة بها انتسب العالم إلى موجده فصح النسب الإلهي الحقيقي باستناد المألوه إلى الإله والرب إلى المربوب والخالق إلى المخلوق فانتسب الكل من حيث افتقاره الذاتي إليه على التعيين لا إلى غيره ولم يبق لانتساب أحد إلى غيره وجه فأخذ منهم انتسابهم إلى أنفسهم وردهم إلى انتسابهم إلى ذاته فعرف كل عبد نسبه إلى ربه وعرف كل عبد بربه فقيل : هذا عبد الرحمن وهذا عبد الرحيم وهذا عبد المنعم وهذا عبد الله.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( أين المتقون أي الذين اتخذوا الله وقاية فكان الحق ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة وهو أعظم الناس وأحقهم وأقواهم عند الجميع ) .

وهم الذين عرفوا فناءهم الأصلي به ، فكان الحق وجوداتهم الظاهرة وأعيانهم الباطنة ، لفناء أنياتهم وحقائقهم ، فكيف بصفاتهم وأفعالهم ، فهم الشاهدون له بذاته المشهودون بجماله بعينه ، فهم أعظم الناس قدرا وأحقهم وجودا وقربا وأقواهم صفة وفعلا ، وإفراد الضمير في قوله : وهو أعظم الناس ، محمول على المعنى أي والمتقى بهذا المعنى .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وقد يكون المتقى من جعل نفسه وقاية للحق بصورته ، إذ هوية الحق قوى العبد ، فجعل مسمى العبد وقاية لمسمى الحق على الشهود حتى يتميز العالم من غير العالم " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ  وهم الناظرون في لب الشيء الذي هو المطلوب من الشيء ) .

وقد يكون المتقى من له قرب النوافل فشهد الحق مستترا بصورته فجعل لعينه ، وما يسمى به وقاية للحق وهو صورته ، لأن هوية الحق قوى العبد فكان شاهدا للحق باسمه الباطن ، عالما متميزا عن الجاهل الغائب الذي لا يعرف الحق ، وهو ذو لب متذكر للمعارف والحقائق المعنوية لغلبة التنزيه عليه ، أو هو ناظر بلبه في لب الشيء الذي المطلوب منه هو تجلى الحق من إضافة صفات العبد وأفعاله إليه ، موف حقوق العبودية لربه مجدّ في خدمة سيده .

"" إضافة بالي زادة :  ( اتخذوا الله وقاية ) لأنفسهم بإسناد ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم كلها إلى الحق ، فتحقق بقوله : « اليوم أضع نسبكم » بغنائهم في الله وبقائهم به ( وأقواه عند الجميع ) أي عند جميع أهل الله لوصولهم نهاية الأمر ، فكان قولهم : إن الحق عين الصورة الظاهرة صادقا لشهودهم أن انتساب العالم كله إلى الحق اهـ بالى

(وإذا كان الحق وقاية للعبد بوجه ) أي من حيث كون الحق ظاهر للعبد ، نظرا إلى قوله : فأين المتقون ( والعبد وقاية للحق بوجه ) أي من حيث كون العبد ظاهر الحق ، فقد حصل في تلك المسألة خمسة أوجه كلها صحيحة ( فقل في الكون ) اهـ بالى . ""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما سبق مقصر مجدا ، كذلك لا يماثل أجير عبدا )

أي أن هذا العبد المتقى من حيث أنه عالم بربه مجد في القيام بحقه في مقام عبدانيته ، فلا يسبقه المقصر الذي لا يشهد ربه الجاهل به الطالب أجره بعمله ولا يساويه كما ذكر في الآية ، لأنه عبد أجرة عابد لنفسه عائب عن ربه ، بخلاف الأول العالم المخلص ، فإنه عبد ربه على الشهود فلا يماثله الأول.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإذا كان الحق وقاية للعبد بوجه ، والعبد وقاية للحق بوجه ، فقل في الكون ما شئت ) أي وإذا كان المتقى يعرف أنه بأي وجه حق وبأي وجه عبد ، ويعرف بأن المذام والنقائص وفي الجملة الأمور العدمية من صفات العبد ولوازم الإمكان ، والممكن الذي أصله العدم والمحامد والكمالات ، وفي الجملة الأمور الوجودية كالجود بالنسبة إلى البخل من صفات الحق وأحكام الوجوب ونعوت الواجب ، وكان الحق عنده وقاية للعبد في الكمالات والمحامد ، والعبد وقاية للحق في النقائص والمذام.

 فقل ما شئت في الوجهين ( إن شئت قلت : هو الخلق ) أي بصفات النقص

( وإن شئت قلت : هو الحق ) في صفات الكمال

( وإن شئت قلت : هو الحق والخلق ) في الأمرين

( وإن شئت قلت : لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه ) لما ذكر .

( وإن شئت قلت : بالحيرة في ذلك ) لغلبة الحال بنسبة ما لكل واحد منها إلى الآخر.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقد بانت المطالب بتعيينك المراتب ، ولولا التجديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور ، ولا وصفه بخلع الصور عن نفسه )

أي ولولا جواز التحديد على الحق بظهوره في صور المحدودات وتقيده بها وعدم منافاة ذلك للإطلاق ، ما أخبرت الرسل بتحولة في الصور ولا بخلع الصور عن نفسه ، فإن الظهور في كل ما شاء من الصور وخلع ما شاء عن نفسه عين اللاتقيد واللاإطلاق .

( فلا تنظر العين إلا إليه  .... ولا يقع الحكم إلا عليه )

لامتناع وجود غيره ، لأن ما عداه العدم المحض ، فلا يصح كون العدم وجودا

( فنحن له وبه في يديه ) أي ونحن له عباد مملوكون ، وبه موجودون ، وفي يده مأسورون

مجبورون ( وفي كل حال فإنا لديه ) لأنا معه بإضافة وجوده إلينا وكوننا بوجوده ، كما قال علي رضي الله عنه : مع كل شيء لا بمقارنه .

( ولهذا ينكر ويعرف وينزه ويوصف ) لاختلاف صور مجاليه ومظاهره .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن رأى الحق منه فيه بعينه ، فذلك العارف ) أي من الحق في الحق لأن الحق لا يرى إلا بعينه ، وعين الحق لا يخطئ في الرؤية .

( ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه ، فذلك غير العارف ) ومن رأى بعين نفسه فقد أخطأ ولم يره لأن الحق لا يرى بعين الغير بل يراه غيره.

( ومن لم ير الحق منه ولا فيه ، وانتظر أن يراه بعين نفسه فهو الجاهل المحجوب ) الذي لم يهتد إلى معنى اللقاء فينظر في الآخرة

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وبالجملة فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه يرجع بها إليه ويطلبه فيها ، فإذا تجلى له الحق فيها عرفه وأقرّ به ، وإن تجلى له في غيرها أنكره وتعوذ منه وأساء الأدب عليه في نفس الأمر ، وهو عند نفسه أنه قد تأدب معه ) يعنى لا بد لكل شخص من أهل الحجاب المحجوبين بالتقييد أن يعتقدوا إلها معينا لا يقرون إلا به ، فلذلك ينكرون ما عداه ويسيئون معه الأدب .

"" إضافة بالي زادة :  ولهذا ، أي لأجل ظهور الحق في كل صورة ( ينكر ويعرف ) على حسب مراتب الناس ، فإذا لم تنظر للعين إلا إليه صار النظر مختلفا في رؤية الحق ، بأن كان بعضه فوق بعض ( فمن رأى الحق منه ) أي من الحق ( فيه ) أي في الحق ( بعينه ) أي بعين الحق ( فذلك العارف ) لكون الناظر والنظر والمنظور منه والمنظور فيه والمنظور إليه كلها حتى في نظره ( ومن رأى الحق ) فذلك غير العارف لعدم علمه أن الحق لا يرى بعين غيره اهـ بالى .

( الموجب لذلك ) أي لكون مراتب العلم عين مراتب الرؤية ، وذلك السبب المعلم به هو رجوع كل واجد إلى صورة معتقده ، فمن كان صورة معتقده مقيدة لا يرى الحق إلا فيها ، ومن لم يكن صورة معتقده   . أهـ بالي زادة ""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلا يعتقد معتقدا لها إلا بما جعل في نفسه ، فالإله في الاعتقادات بالجعل ، فما رأوا إلا نفوسهم وما جعلوا فيها )

أي معتقدات أهل الحجاب ألوهية إله غير الذي تصوره في نفسه فالإله عند أهل الاعتقادات إنما هو الذي جعلوه في أنفسهم ويحبونه بأوهامهم وجزموا بحقيته وبطلان ما هو على خلافه ، واعتادوا بهواهم على عبادته فهو مجعول لهم ، فما رأوا إلا نفوسهم للمناسبة لما اخترعوه وما جعلوه فيها من صورة معتقدهم .

قال الشيخ رضي الله عنه : (فانظر مراتب الناس في العلم باللَّه هو عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة ، وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك ) .

لا شك أن العلم باللَّه يختلف بحسب استعدادات الخلق أولا ، ثم بحسب التربية والصحبة والعادة ، فكل أحد علمه باللَّه هو ما أبلغه من كماله المخصوص به فلا يتصوره إلا على صورة الكمال الذي وسعه ، فلا جرم كانت مرتبته يوم القيامة في الرؤية بحسب ما علمه واعتقده من الموصوف بالكمال الذي تصوره على الصورة التي اعتقدها ، وهي الصورة المقيدة بالقيد المعين الذي جعله كمالا في حقه تعالى ، واعتقد أنه يستحيل أن لا يكون على تلك الصورة وتلك الصفة المعينة التي يرجع بها في عقيدته إلى ربه فهو عبد ذلك المعتقد .

قال الشيخ رضي الله عنه : (فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر ما سواه فيفوتك خير كثير ، بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه ) .

فإن الحق المتجلى في صورة المعتقدات يسع الكل ويقبلها جميعا ، فإذا تقيدت بصورة مخصوصة فقد كفرت بما سواه وهو الحق المتجلى بتلك الصورة إذ لا شيء غيره ، فإذا أنكرته فقد جهلته وأسأت الأدب معه وأنت لا تدري ، فيفوتك الحق المتجلى في جميع الصور التي هي غير الصورة التي تقيدت بها في اعتقادك وهو خير كثير ، بل يفوتك العلم بالحق على ما هو عليه وهو الخير الكثير.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها ، فإن الإله تبارك وتعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد ، فإنه يقول " فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه الله "  وما ذكر أينا من أين ، وذكر أن ثمة وجه الله ) .
إذا علمت أنه غير محصور في قيد ولا صورة يوجد بدونه في عقل ولا خارج ، فانطلق عن أمر القيود والعقود ، وأطلق الأمر في كل الموجود تحظ بالعلم الأتم في الشهود .
فإن الله تعالى يقول " فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه الله " (وما ذكر أينا من أين.  وذكر أن ثم وجه الله)
ما خص جهة دون جهة لوجهه ، فلا أين إلا وقد تجلى فيه وجهه وتولى إلى وجهه فيه من تولى إليه .

 

"" إضافة عبد الرحمن الجامي :  مقيدة بل مطلقة يراه في كل صورة ( فإياك أن تتقيد ) فإنه غير محصور فيما قيدته به وكفرت بما سواه ، بل هو شامل الكل ظاهر في الجميع من غير تقييد ( فكن في نفسك هيولى ) واقبل كل صورة ترد عليك واعتقد أنها بعض مجاليه وهو غير منحصر فيها ، فإن الإله أوسع وأعظم. اهـ جامى .""


قال الشيخ رضي الله عنه : ( ووجه الشيء حقيقته ، فنبه بهذا قلوب العارفين لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا ، فإنه لا يدرى العبد في أي نفس يقبض فقد يقبض في وقت غفلة ، فلا يستوي مع من قبض على حضور ) .
حرّض على الحضور مع الله والمراقبة في شهوده ، وحذر عن التقيد والالتفات إلى الغير والاشتغال بما يشوش الوقت ، حتى يعم شهود وجه الله جميع أحواله فيقبض في حال الشهود فيحشر مع الله ، لا من غفل فيقبض على حال الغفلة فيحشر مع من تولاه ، اللهم لا تحجبنا عن نور حمالك ولا تكلنا إلى أنفسنا بفضلك ، وتولنا بولايتك عن مطالعة نوالك .

قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم إن العبد الكامل مع علمه بهذا يلزمه في الصورة الظاهرة والحال المقيد بوجه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ، ويعتقد أن الله في قبلته حال صلاته ، وهي بعض مراتب الحق من " فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه الله "  فشطر المسجد الحرام منها ففيه وجه الله ، ولكن لا تقل هو هاهنا فقط ، بل قف عندما أدركت ، والزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام ، والزم الأدب في عدم حصر الوجه في تلك الأينية الخاصة بل هي من جملة أينيات ما تولى متول إليها ، فقد بان لك عن الله أنه في أينية كل وجه ).

يعنى أن الكامل مع علمه بلا تقيد الحق بجهة مخصوصة يلزمه بحكم حال التقيد بالتعلق البدني التوجه بالصلاة إلى جهة الكعبة ، فإنه لا يمكنه التوجه حال التقيد إلى جميع الجهات ، بل يختص توجهه بجهة واحدة ، وتلك الجهة هي المأمور بالتوجه إليها من عند الله فتعينت وإلا ثبت العصيان ، والباقي ظاهر

(وما ثم إلا الاعتقادات ) أي وما في أينية كل جهة إلا الاعتقادات ، لأنها هي الجهات المعنوية تتوجه فيها قلوب المعتقدين إلى الحق.

( فالكل مصيب ) لأن للحق في كل معتقد وجها ( وكل مصيب مأجور ) لأن له من الحق المطلق حظا ونصيبا.

قال الشيخ رضي الله عنه : (وكل مأجور سعيد وكل سعيد مرضى عنه وإن شقي زمان في دار الآخرة ، فقد مرض وتألم أهل العناية مع علمنا بأنهم سعداء أهل حق في الحياة الدنيا فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى جهنم ، ومع هذا لا يقع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاص بهم) .

قوله في الحياة الدنيا متعلق بقوله مرض وتألم ، ثم إن أهل العلم الكشفي يطلعون من طريق الكشف على أن أهل جهنم قد يكون لهم نعيم مختص بهم ولذة تناسب حالهم ، مع كونهم في دار الهوان والبعد المتوهم وبعض الشر أهون من بعض ، ومع ذلك لا يخلد مؤمن في عذاب جهنم وإن كان فاسقا .

"" إضافة بالي زادة :  ( فالكل مصيب ) في اعتقاده الحق في نفس الأمر سواء طابق ذلك الاعتقاد بالشرع أو لم يطابق ، لكنه إذا لم يطابق الشرع لا ينفع ( وكل مصيب مأجور ) بحسب اعتقاده ، فكان أجر من اعتقد بما يخالف الشرع من الكفار ، والتلذذات الروحانية بمشاهدة ربه مخلدا في النار ( وكل مأجور سعيد ) وإن شقي ، أي وإن عذب ذلك السعيد بالعذاب الخالص زمانا طويلا في الدار الآخرة ، فكان المؤمن سعيدا خالصا من الشقاء لذلك أدخلوا الجنة ، والكافر سعيدا ممتزجا من الشقاء لذلك أبقوا في النار ، وكذلك في الرضا اهـ بالى .

( في دار تسمى جهنم ) فكما لا ينافي الألم السعادة في الحياة الدنيا كذلك لا ينافي في الحياة الأخرى ، فكما أن أهل الحق إذ تألموا في الدنيا فهم على لذة في ذلك الألم بمشاهدة ربهم فلا يشغلهم الألم عن ربهم ، فإن الألم أين من الأينيات والأين لا يشغل العارفين عن استحضار الحق ، كذلك أهل النار في الأخرى وإن كانوا يتألمون فهم على لذة روحانية بمشاهدة ربهم ، لأنهم عارفون فيها فلا يحتجبون بالألم عن الحق فلا ينافي المهم راحتهم ، وقد أورد دليلا على ذلك بقوله ( ومع هذا لا يقطع ) اهـ بالى . ""

ثم فصل النعيم المختص بأهل النار بقوله ( إما بفقد ألم كانوا يجحدونه فارتفع عنهم فيكون نعيمهم راحتهم من وجدان ذلك الألم أو يكون نعيم مستقل زائد كنعيم أهل الجنان في الجنان ، والله أعلم ).

ولكن بالنسبة إليهم فإن اللذة إدراك الملائم ، فقد يكون نعيم ملائم لهم يلتذون به مع أنه بالنسبة إلى أهل اللطف عذاب أليم للطف إدراكهم ، وقد يكون مماثلا لنعيم أهل الجنة في بعض الصور ، ولكن أهل الجنة يختصون بأنواع النعيم المقيم ، مما ليس لأولئك فيه نصيب . 
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:38 pm

11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص الصالحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية   الجزء الأول
إنما اختصت الكلمة الصالحية بالحكمة الفتوحية لأن مبادئ الإيجاد هي الأسماء الإلهية الذاتية الأولية ، ثم الثالثية ، ومن الثالثية الفاتح والفتاح والموجد ونظائرها والأسماء كلها مفاتيح الغيب ، وقد خص الله تعالى صالحا بفتح باب الغيب عن آيته بفتق الجبل عن الناقة ، وهي كخلق آدم من التراب وفتحه على إيمان من آمن به بسبب هذه المعجزة ، واحترامهم لها على وفق ما أمروا به ، وبإهلاك من كفر لهذه النعمة منهم وعقروا الناقة ، فهذه ثلاثة فتوحات وفي بعض النسخ فاتحية ، أي حكمة منسوبة إلى اسم الله الفاتح .

واعلم أن معجزة كل نبي هي من الاسم الغالب عليه وإن كان له أسماء ، فإن الغالب على كل مركب هو الذي ظهر ذلك المركب بصورته وحكم عليه .
كما يقال : إن القرع بارد رطب ، والثوم حار يابس ، وإن كان في كل منهما الكيفيات الأربع ، فالغالب على صالح عليه السلام الفاتح فلذلك له فتوحات من ذلك الاسم ، واشتملت حكمته على الإيجاد اللازم لفتح أبواب الغير ، وسيره على ذلك الاسم ، وعلمه من خزانة دعوته إليه ، وسيأتي سر الناقة ، وسر تخصيص كل نبي لمركب كعيسى بالحمار ، وموسى بالعصا ، ومحمد عليه الصلاة والسلام بالبراق إن شاء الله .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( من الآيات آيات الركائب ... وذلك لاختلاف في المذاهب )
من آيات الله التي خص بها كل نبي بل كل واحد من بني آدم آيات الركائب وهي المركوبات ، وذلك أن كل عين من الأعيان الإنسانية لها روح هو أول مظهر للاسم الذي يرب الله ذلك الشخص به .
"" إضافة بالي زادة وهو صالح بن عبيد بن أسف بن ماسح بن عبيد بن ساذر بن ثمود ، وصالح سار بعد هلاك قومه إلى فلسطين ، ثم انتقل إلى الحجاز وعبد الله ، حتى مات وعمره ثمان وخمسون سنة اهـ.
من الآيات خبر آيات الركائب مبتدأ ، وإضافة الآيات إلى الركائب إضافة عام إلى خاص ، من وجه الركائب جمع ركيبة ، أي ومن جملة المعجزات الدالة على صدق الأنبياء معجزات الركائب كالبراق لمحمد والناقة لصالح ، فكل آيات ليست بركائب ولا كل الركائب ليست بآيات ، وإن كان المراد بالركائب هنا نفس الآيات وهي البراق والناقة ، لكنه صحت الإضافة من حيث مغايرتهما بحسب المفهوم بالعموم والخصوص من وجه اهـ بالي زاده
وذلك أي كون الركائب من الآيات لاختلاف في المذاهب أي بأن كان بعضها ذاهبا إلى الحق وبعضها إلى برارى عالم الظلمات ، والركائب قابلة للذهاب إلى كلى منها موصلة للراكب إلى مقصوده من حق أو غيره اهـ بالى زاده .""

ولكل روح في العالم الجسماني صورة جسدانية هي مظهر ذلك الروح ، وله مزاج خاص يناسب حاله في حضرة عينه الثابتة فلا بد لصورة بدنه من ذلك المزاج ، وعند تعلقه بمادة البدن يكون رابطة في تعلق ذلك المزاج ثم إن له في عالم النبات صورة تناسب ذلك المزاج وكذا في عالم الحيوان .
ولا شك أن الحيوان مركب هذا الروح في استكماله ، وهذه الأمور كلها من أحوال عينه الثابتة ونسبة الحق أي الذات الإلهية إليه وهو الاسم الغالب الذي هو رب الشخص وخزانة علمه وحكمته ، وسير هذا الشخص وترقيه إنما يكون لإخراج ما في خزانته من القوة إلى الفعل حتى يكون على كماله الذي خلق له بمركبه المخصوص به .
وذلك السير والترقي هو عبوديته الخاصة به وشريعته إن كان نبيا ، فمن المركب ما هو على صورة الناقة وصفاتها ، فإن النفس الحيوانية لا بد لها من عين أثر هي من أحوال عينها وخواص ربها ، ومنها ما هو على صورة الفرس ، وعلى صورة الأسد ، وعلى صورة
الثعبان ، وفي اطمئنانه في طاعة الروح وأمانته لها عن خواصها الحيوانية كالعصا وكذلك على صورة كل واحد من الحيوانات أو على التركيب كالبراق ، فسيره على طريقة تلك الحيوان بمقتضى حكمة الاسم الذي هو ربه .
وهو معنى قوله : وذلك الاختلاف في المذاهب ، وهذا سر إعجازه بإخراج الناقة من الجبل ، ومنه يعرف أحوال معاد الأشقياء على الصورة المختلفة ، كقوله يحشر بعض الناس على صورة يخس عندها القردة والخنازير .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمنهم قائمون بها بحق .... ومنهم قاطعون بها السباسب )
أي من أصحاب الركائب أو أهل المذاهب وكلاهما واحد قائمون بتلك الركائب بحق ، أي بأمر الحق في السير والسلوك إليه وفيه حتى الكمال وبلوغ الغاية ، أي السالكون أو الواصلون أهل الشهود الذين فنوا عن ذواتهم فقاموا بها بالحق عند الشهود والاستقامة ، فكان الحق عين ذواتهم وقوامهم ومراكبهم وصورهم.
"" إضافة بالي زادة : )فمنهم أي إذا كانت المذاهب مختلفة من عباد الله قائمون بها أي أقاموا مراكبها وهي صورة النفوس الحيوانية في طريق الحق وطاعته بحق أي بأمر حق لا بأنفسهم ومنهم قاطعون بها السباسب أي صحارى عالم الأجسام التي تاهوا فيها ولم يخرجوا عنها اه فأما القائمون فأهل عين وشهود ، وهم الواصلون حقيقة العلم والمختصون عن ظلمات الجهل ، وهم أهل الكشف واليقين وأما القاطعون هم الجنائب أي البعداء عن معرفة الحق ، وإن استدلوا بفكرهم النظري من الأثر إلى المؤثر ، لكنهم محجوبون عن حقيقة العلم وهم أهل النظر والاستدلال ، حذف الفاء من فهم لضرورة الشعر اهـ بالى زادة ""

ومذهبهم الدين الخالص لله في قوله : " أَلا لِلَّه الدِّينُ الْخالِصُ وسيرهم سير الله ، ومنهم قاطعون بها سر عالم الملكوت في الاستدلال بآيات الآفاق ، أو تدابير عالم الشهادة والملك عالم الحجاب في بوادي الاسم الظاهر :
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فأما القائمون فأهل عين .... وأما القاطعون هم الجنائب )
يعنى أن القائمين هم أهل العيان والشهود يدعون إلى الله على بصيرة ، وفي الجملة الأنبياء والأولياء حال السلوك والوصول ، فإن السالكين الصادقين المشارفين إلى الوصول هم أهل عين باعتبار عشياتهم ، والقاطعون هم الجنائب أي الأمم والأتباع الذين يدعون إلى الحق ، ويستعملون في الجهاد والمصالح الدينية والدنيوية ، المشوشون المحكومون بالطبع ، المحجوبون كالحيوانات إلى ما فيه صلاحهم وصلاح العالم المخلوقون للتبعية والصحيح فهم جنائب ، لكن الشيخ قدس سره راعى جانب المعنى فلم يجيء بالفاء بعد إما تخفيفا .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكل منهم يأتيه منه ... فتوح غيوبه من كل جانب )
أي وكل واحد من الداعين القائمين بالحق ، ومن المدعوين المجنوبين القاطعين ، تأتيه فتوح غيوبه من الله التي هي في غيب الذات وغيب ربه ، أي الاسم الذي هو إلهه ، وهذا العبد عبده وغيب علمه تعالى به وغيب عينه الثابتة ومن فوقه ومن تحت أرجله ، وذلك معنى قوله من كل جانب ، وتلك الفتوح إما ملائمة أو غير ملائمة بمقتضى عينه .
وذلك أن الداعي في الحياة الدنيا وفي الآخرة تأتيه فتوحه بما لاءم ، لأنه في مقام الرضا لا يريد إلا ما يريد الله به ، وإن كان في مقام السلوك شكر على النعماء وصبر على البلاء فيكون ملائما من وجه .
لأن الابتلاء يظهر فضيلته وفي الآخرة يكون مجازاته حسن الثواب وأما المدعو فإن أجاب الداعي بما يلائم وأطاعه وسلك طريقه وسار على سبيله وسيرته فتح له باب المجازاة بما يلائم ، وإن أجابه بما الا يلائم وخالفه بالكفر والعصيان فتح له باب المجازاة بما لا يلائم .
وقد تظهر أمور من الغيب هاهنا لكلا الفريقين ملائمة وغير ملائمة ، لا يعرف بليتها والاطلاع على سر الغيب إنما هو للحق ، وقد يطلع على بعضه من شاء من عباده .

قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم وفقك الله أن الأمر مبنى في نفسه على الفردية ، ولها التثليث فهو من الثلاثة فصاعدا ، فالثلاثة أول الأفراد ) يعنى أن الأمر الإيجادى في نفسه مبنى على الفردية ، والفردية من خواص العدد وما لم يتعدد الواحد الذي هو منشأ العدد ومبدؤه بالتثنية لم تحصل الفردية .
والواحد ليس بعدد إذ ليس فيه كثرة فليس بفرد ولا زوج ، لأن الفردية باعتبار الانقسام ولكن لا بمتساويين والواحد غير منقسم ، ولو فسرنا الفردية بعدم الانقسام بمتساويين كان الفرد أعم من العدد ، لأنه يشمل الواحد بهذا المعنى فلم يكن من خواصه .
ولكن الفردية معناها الانفراد عن الغير فلا بد فيها من اعتبار معنى الغير في مفهومها بخلاف الواحد ، إذ لا يتوقف معناه على تصور الغير فلا بد للتعدد من الشفعية ولا بد في الإيجاد من الفردية ، لبقاء معنى التأثير الذي للواحد الأصل فيه أولا وآخرا .
"" إضافة بالي زادة : ( مبنى في نفسه على الفردية وهي عدم الانقسام بالمتساويين عما من شأنه الانقسام فلا يشمل الواحد .
و بين أن المنقسم إما أن ينقسم بالمتساويين فله الشفعية والتثنية من العدد ، أو لا ينقسم إلى ذلك بل بالمتخالفين في الزيادة والنقصان ، فله الفردية والتثليث ضرورة اشتمال القسم الزائد على الناقص اهـ جامى .""

وإنما كان التثليث هو الأصل في الإيجاد ، لأن الإيجاد مبنى على العلم ولا بد للعلم من عالم ومعلوم فثبت التثليث الذي للفردية .
فالثلاثة أول الإفراد كما قال وإنما قلنا إنها مسبوقة بالشفعية لأن الفاعل ما لم يكن له قابل لم يؤثر ، فإن التأثير يقتضي منتسبين فالعالم هو ذات الفاعل والفاعل ظله من حيث الفاعلية ، والقابل ظل المعلوم والتأثير ظل العلم ، فظهر من هذا الاعتبار التعين الأول.
قال الشيخ رضي الله عنه وعن هذه الحضرة الإلهية وجد العالم ) بعد تعددها بالعلم ، فإن حضرة الذات ما لم يتعدد باعتبار العالمية لم يسم الحضرة الإلهية.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقال تعالى : " إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناه أَنْ نَقُولَ لَه كُنْ فَيَكُونُفهذه ذات ذات إرادة وقول ، فلولا هذه الذات وإرادتها وهي نسبة التوجه بالتخصيص لتكوين أمر ما ، ثم قوله عند ذلك التوجه كن لذلك الشيء ما كان ذلك الشيء ).
لا شك أن الإرادة والقول إنما يكونان بعد العلم ، فإن الشيء الذي تتعلق بوجوده الإرادة يخاطب بالقول هو المعلوم ، فالإرادة والقول من الحضرة الإلهية بعد تعينها بالعلم ، ثم المبادي المقتضية بوجود الشيء من الحضرة الإلهية هي هذه الثلاثة ذات الحق وإرادته ، وقوله : " كُنْ فَيَكُونُ " .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم ظهرت الفردية الثلاثية أيضا في ذلك الشيء وبها من جهته صح تكوينه واتصافه بالوجود ، وهي شيئيته وسماعه وامتثاله لأمر مكونه بالإيجاد.
فقابل ثلاثة بثلاثة ، ذاته الثابتة في حال عدمها في موازنة ذات موجدها ، وسماعه في موازنة إرادة موجده ، وقبوله للامتثال لما أمر به من التكوين في موازنة قوله كن فكان هو ، فنسب التكوين إليه ، فلولا أنه في قوته التكوين من نفسه عند هذا ما تكون ، فما أوجد هذا الشيء بعد أن لم يكن عند الأمر بالتكوين إلا نفسه ) .
يعنى أن الفردية الثلاثية التي في الموجد لا بد أن تقابل من جهة القابل بفردية ثلاثية ، وإلا لم تتأثر من المؤثر فإنها نسب والنسبة لا بد لها من الطرفين ليحصل بكل ما في الفاعل من وجوه التأثير أثر في القابل وإلا لم يكن مستعدا لما يراد به منه فلم تقبل التأثير فلم يوجد وهي شيئيته ، أي ذاته الثابتة في العدم في مقابلة ذات موجدها ، وسماعه في مقابلة إرادة موجده ، وقبوله بامتثال أمر موجده بالتكوين في مقابلة قوله كن ، والتكوين في قوله لما أمره بالتكوين بمعنى المبالغة في التكوين لا بمعنى الصيرورة كالتقتيل للمبالغة .
في القتل بدليل قوله ما تكون فلم يكن من جهة الموجد إلا الأمر بالتكوين ، وأما التكون الذي هو امتثال الأمر فلم يكن إلا من نفس ذلك الشيء ، لأنه كان في قوته أي كان فيه بالقوة كامنا ولهذا نسب إليه في قوله فيكون ، أي فلم يلبث أن يمتثل الأمر فكان عقيب الأمر ، وإنما كان في قوته ذلك لأنه موجود في الغيب ، فإن الثبوت ليس إلا وجودا باطنا خفيا وكل ما بطن ففي قوته الظهور ، لأن ذات الاسم الباطن بعينه ذات الاسم الظاهر والقابل بعينه هو الفاعل ، ألا ترى إلى قوله : "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِه ".
"" إضافة بالي زادة : (فكان هو أي فوجد ذلك الشيء بهاتين الفرديتين الثلاثيتين فلولا أنه في قوته أي فلو لا لم يكن التكوين حاصلا بالفيض الأقدس في قوة نفس ذلك الشيء عند هذا القول وهو قول كُنْ ) * - ( ما تكون فما أوجد الشيء أي فلا ينسب الإيجاد إلا إلى نفس ذلك الشيء ، نعم ينسب إلى الحق لكونه أمرا بالتكوين فكان إسناد الإيجاد في الحق مجازا وفي العبد حقيقة اهـ بالى زادة.
وهذا أي انحصار أمر الله في القول وانتساب التكوين إلى الشيء نفسه ، كما أنه هو المفهوم من قول المنقول كذلك هو المعقول في نفس الأمر فإن الأمر إنما يطلب من المأمور بصيغة الأمر مبدأ الاشتقاق الذي هو من جملة أفعاله الصادرة عنه ، فالأمر يكون الفعل المأمور للآمر ، والفعل المأمور به المأمور كما يقول الأمر الذي يخاف فلا يعصى لعبده قم ، فيقوم العبد اهـ جامى .""

فالعين الغير المجعولة عينه تعالى ، والفعل والقبول له بك كما ذكر في الفص الأول فهو الفاعل بإحدى يديه والقابل بالأخرى والذات واحدة والكثرة نقوش وشئون ، فصح أنه ما أوجد الشيء إلا نفسه وليس إلا ظهوره .
قال رضي الله عنه : ( فأثبت الحق تعالى أن التكوين للشيء نفسه لا للحق والذي للحق فيه أمره خاصة ، وكذا أخبر عن نفسه في قوله :" إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناه أَنْ نَقُولَ لَه كُنْ فَيَكُونُ فنسب التكوين لنفس الشيء عن أمر الله ). أي إلى نفس الشيء ، يقال نسب إليه وله بمعنى واحد
قال رضي الله عنه وهو الصادق في قوله فهذا هو المعقول في نفس الأمر كما في هذا المثال.
قال رضي الله عنه : ( كما يقول الآمر الذي يخاف ولا يعصى لعبده قم ، فيقوم العبد امتثالا لأمر السيد فليس للسيد في قيام هذا العبد سوى أمره له بالقيام ، والقيام من فعل العبد لا من فعل السيد.) ظاهر غنى عن الشرح .
قال رضي الله عنه (فقام أصل التكوين على التثليث ، أي من ثلاثة من الجانبين ، من جانب الحق ومن جانب الخلق ) ظاهر غنى عن الشرح .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم سرى ذلك في إيجاد المعاني بالأدلة فلا بد في الدليل أن يكون مركبا من ثلاثة على نظام مخصوص وشرط مخصوص ، وحينئذ ينتج لا بد من ذلك ).
أي ثم لما كان التثليث سببا لفتح باب النتائج في التكوين والإيجاد سرى ذلك التثليث في جميع مراتب الإيجاد حتى إيجاد المعاني بالأدلة ، وكما أن التثليث الأول مرتب ترتيبا متقنا بكون الذات فيه مقدما والإرادة متوسطة بينه وبين القول لا يكون إلا كذلك ، فلذلك يكون الدليل مرتبا على نظام مخصوص حتى ينتج.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهو أن يركب الناظر دليله من مقدمتين ، كل مقدمة تحتوى على مفردين ، فتكون أربعة واحد من هذه الأربعة يتكرر في المقدمتين ليربط أحدهما بالآخر كالنكاح فيكون ثلاثة لا غير لتكرار الواحد فيهما فيكون أي يوجد المطلوب إذا وقع هذا الترتيب على هذا الوجه المخصوص ، وهو ربط إحدى المقدمتين بالأخرى بتكرار ذلك الواحد المفرد الذي صح به التثليث ، والشرط المخصوص أن يكون الحكم أعم بالعلة أو مساويا لها ، وحينئذ يصدق ) .
أي الحكم ، ومعنى كون الحكم أعم من العلة أو مساويا لها الكلية الكبرى ، فإن العلة هي الوسط ، وهي إذا كان بأكثر على الأصغر أعم منها لثبوته لغير هذه العلة ، كانت الكبرى كلية ، كقولك هذا إنسان وكل إنسان حيوان ، فهذا حيوان وهذا الحكم قد يثبت لغير هذه العلة كقولك هذا فرس وكل فرس حيوان ، وكذلك إذا كان الحكم مساويا كقولك :
هذا إنسان وكل إنسان ناطق ، فهذا الحكم لا يثبت إلا بهذه العلة فيرجع إلى عموم المحكوم به أو مساواته للمحكوم عليه في الكبرى ، وهو معنى كليتها.
"" إضافة بالي زادة فإن النكاح قائم على ثلاثة أركان زوج وزوجة وولى عاقد اهـ بالي
المفرد أي الواحد الذي يجعل الدليل بتكراره فردا اه وحينئذ يصدق أي ينتج القياس نتيجة صادقة اهـ بالي
وهذا أي صدق النتيجة عند حكم التثليث وعدم صدقها عند عدمه موجود في العالم مثل إضافة الأفعال إلى العبد معراة عن نسبته إليه تعالى فإن من أضافها إلى العبد فقط لم يتفطن بأنه لا بد في تحقيق الأثر من فاعل وقابل ورابطة بينهما ، وبأن القابل لا أثر له بدون الفاعل فأضافها إلى القابل فقط ، وهذه الإضافة كاذبة لعدم ملاحظة التثليث فيها أو إضافة التكوين إليه مطلقا من غير أن يكون العبد فيه مدخل ، وهذا أيضا كاذب والحق تعالى ما أضافه إلا إلى الشيء القابل الذي قيل له كن من أن الفاعل المؤثر أيضا فيه مدخلا ، لكنه تعالى لاحظ جانب تقييد الوجود الظاهر في حقيقة القابل ، وهو من القابل لا جانب التجلي الوجودي ، فإنه من الحق تعالى ، والنتيجة الصادقة هي الإضافة الواقعة إلى كلا الجانبين والنسبة الرابطة بينهما ، كما هو الحق بحسب الواقع اهـ جامى .""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإن لم يكن كذلك فإنه ينتج نتيجة غير صادقة ) كقولك كل إنسان حيوان وبعض الحيوان فرس ، فلا يصدق كل إنسان فرس ولا بعضه وهذا موجود في العالم مثل إضافة الأفعال إلى العبد معراة عن نسبتها إلى الله ، أو إضافة التكوين الذي نحن بصدده إلى الله مطلقا والحق ما أضافه إلا إلى الشيء الذي قيل له كن ) .
أما الأول فلأن العبد إن لم يوجد بوجود الحق فلا فعل له ، فهناك أمور ثلاثة الحق الذي هو
الفاعل بالحقيقة ، والعبد الذي هو القابل ، وظهور الحق في صورة العبد ، أعنى وجود العبد به تعالى فاضافته إلى القابل دون الفاعل كذب محض ، وكذلك الثاني لأن الأمر بالتكون إنما هو من الحق لا نفس التكون الذي هو الامتثال كما ذكر
قال الشيخ رضي الله عنه ومثاله ) أي مثال الدليل المركب من الثلاثة على النظام والشرط المخصوصين الذي لا بد من إنتاجه إذا أردنا أن ندل على أن وجود العالم عن سبب ، فنقول كل حادث فله سبب وهذه المقدمة كبرى القياس وهي كلية فمعنا الحادث والسبب ، ثم نقول في المقدمة الأخرى والعالم حادث وهي الصغرى فتكرر الحادث في المقدمتين ، والثالث ) أي المفرد الثالث وهو الحد الأصغر .
قولنا العالم فأنتج أن العالم له سبب فظهر في النتيجة ما ذكر في المقدمة الواحدة ) يعنى الكبرى وهو السبب ) وفي لفظه تسامح فإن الأكبر قولنا له سبب لا نفس السبب ، لكن مثل هذا مما يسامح فيه .
قال الشيخ رضي الله عنه فالوجه الخاص هو تكرار الحادث والشرط الخاص عموم العلة ) أي في الخارج لا في الذهن لأن الوسط في برهان إني هو المعلوم المساوى ، وهو علة في الذهن لثبوت الأكبر للأصغر كما ذكر ، والمراد بقوله عموم العلة ، عموم الأكبر الذي هو علة في نفس الأمر في الأوسط لا في البرهان ، لأن المراد بالعلة في البرهان علة الحكم وهو الأوسط ، ومراده العلة في الوجود أي الأكبر .
ألا ترى إلى قوله لأن العلة في وجود الحادث السبب ) أي وجوده في الخارج وهو عام في حدوث العالم عن الله ) يعنى أن السبب بمعنى ثبوت السبب أعم من حدوث العالم عن الله.
أعنى الحكم ) أي الحكم بثبوت السبب للعالم الموصوف بالحدوث فيكون الحكم أعم من علة الحكم الذي هو الحدوث فتكون الكبرى كلية كما ذكر أعنى الحكم فنحكم على كل حادث أن له سببا يعنى في الكبرى سواء كان ذلك السبب ) يعنى سبب الحكم في البرهان أي العلة المذكورة التي هي الوسط وهو الحادث في مثالنا مساويا للحكم ) كما إذا أردنا بالحادث في هذا المثال الحادث بالحدوث الذاتي فإنه مساو لما له سبب .
قال الشيخ رضي الله عنه أو يكون الحكم أعم منه ) كما إذا أردنا بالحادث الحادث الزماني فيدخل تحت حكمه ) أي فيدخل العالم تحت حكم السبب في الحالتين فتصدق النتيجة فهذا أيضا قد ظهر حكم التثليث في إيجاد المعاني التي تقتنص بالأدلة ) فهذا مبتدأ قد ظهر خبره وحكم التثليث بدله أو بيانه كائن قال فهذا الذي حكم التثليث .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:39 pm

11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الفص الصالحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية   الجزء الثاني
قال الشيخ رضي الله عنه فأصل الكون التثليث ، ولهذا كانت حكمة صالح عليه السلام التي أظهرها الله في تأخير أخذ قومه ثلاثة أيام وعدا غير مكذوب ) وفي بعض النسخ وعد كما هو لفظ المصحف على الحكاية أو على خبر المبتدأ كما في القرآن أي ذلك وعد غير مكذوب فأنتج صدقا وهو الصيحة التي أهلكهم الله بها فَأَصْبَحُوا في دارِهِمْ جاثِمِينَ ") أي هلكوا فلم يستطيعوا القيام .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فأول يوم من الثلاثة اصفرت وجوه القوم ، وفي الثاني احمرت ، وفي الثالث اسودت ، فلما كملت الثلاثة صح الاستعداد فظهر كون الفساد فيهم فسمى ذلك الظهور هلاكا ، فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة إسفار وجوه السعداء ، في قوله تعالى : " وُجُوه يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ من السفور وهو الظهور ، كما كان الاصفرار في أول يوم ظهور علامة الشقاء في قوم صالح ، ثم جاء في موازنة الاحمرار القائم بهم قوله تعالى في السعداء : " ضاحِكَةٌ فإن الضحك من الأسباب المولدة لاحمرار الوجوه فهي في السعداء احمرار الوجنات ، ثم جعل في موازنة تغيير بشرة الأشقياء بالسواد قوله تعالى : " مُسْتَبْشِرَةٌ وهو ما أثره السرور في بشرتهم كما أثر السواد في بشرة الأشقياء ، ولهذا قال في الفريقين بِالْبُشْرى أي يقول لهم قولا يؤثر في بشرتهم فيعدل بها إلى لون لم تكن البشرة تتصف به قبل هذا ، فقال في حق السعداء يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْه ورِضْوانٍ ") .

قال الشيخ رضي الله عنه (وقال في حق الأشقياء : " فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فأثر في بشرة كل طائفة ما حصل في نفوسهم من أثر هذا الكلام ، فما ظهر عليهم في ظواهرهم إلا حكم ما استقر في بواطنهم من المفهوم ، فما أثر فيهم سواهم ، كما لم يكن التكوين إلا منهم فَلِلَّه الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ".
فمن فهم هذه الحكمة وقررها في نفسه وجعلها مشهودة له أراح نفسه من التعلق بغيره ، وعلم أنه لا يؤتى عليه بخير ولا بشر إلا منه ، وأعنى بالخير ما يوافق غرضه ويلائم طبعه ومزاجه ، وأعنى بالشر ما لا يوافق غرضه ولا يلائم طبعه ولا مزاجه ، ويقيم صاحب هذا الشهود معاذير الموجودات كلها عنهم ، وإن لم يعتذروا ويعلم أنه منه كان كل ما هو فيه كما ذكرناه أولا في أن العلم تابع للمعلوم ، فيقول لنفسه إذا جاءه ما لا يوافق غرضه يداك أوكتا وفوك نفخ ، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل ) كله ظاهر غنى عن الشرح .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:40 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الجزء الأول

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

إنما خصت هذه الكلمة الشعيبية بالحكمة القلبية لأن الغالب على شعيب عليه الصلاة والسلام الصفات القلبية ، من الأمر بعدل وإيفاء الكيل والوزن بالقسط ، والقلب هو مظهر العدل وصورة أحدية الجمع بين الظاهر والباطن واعتدال البدن وعدالة النفس ، ومنه يصل الحياة والفيض إلى جميع الأعضاء على السوية بمقتضى العدل ، وله أحدية جميع القوى الروحانية والنفسانية ، ومنه تنشعب هذه القوى بالقسطاس المستقيم ويتوزع على عضو عضو بمقتضى استعداده وقوة قبوله ، ويأتيه المدد إليها دائما على نسبة محفوظة القدر بالعدل ، وله إيفاء كل ذي حق ، وقد استفاد موسى عليه السلام علم الصحبة والسياسة والخلوة والجلوة ومقام الجمع والفرق منه عليه الصلاة والسلام ، وكلها من القلب القائم بالعدل ومراعاة أحكام الوحدة في الكثرة ، ولا يقوم بأحكام العالمين في الوجود إلا القلب ، ولهذا كان محل المعرفة دون غيره .
قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم أن القلب : أعنى قلب العارف باللَّه هو من رحمة الله وهو أوسع منها ، فإنه وسع الحق جل جلاله ورحمته لا تسعه ، هذا اللسان عموم من باب الإشارة ، فإن الحق راحم ليس بمرحوم فلا حكم للرحمة فيه )
إنما قال : إن القلب من رحمة الله ، لقوله تعالى : "رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" والقلب شيء ، وإنما كان أوسع منها لقوله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : « ما وسعني أرضى ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن » .
والحق محيط بالكل والرحمة تنزل من مستوى الرحمن الذي هو العرش المحيط إلى كل العالم بما فيه ، وقد قال أبو يزيد : لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به ، لأنه لا يبقى مع الحق وتجليه وجود لشيء فكيف يحس بالعدم ، وإنما قال هذا لسان العموم ، لأن عامة العلماء قائلون بهذا الحديث المذكور ، وبأن الله تعالى راحم غير مرحوم ، ولأن الرحمة صفة من صفات الله تعالى قائمة به فلا تسعه والقلب يسعه .
وإنما قال : من باب الإشارة ، لأن في لسانهم رمزا إليه من قبيل المفهوم لا المنطوق ، فإنهم لا يصرحون به ولكن يلزمهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما الإشارة من لسان الخصوص ، فإن الله تعالى وصف نفسه بالنفس وهو من التنفيس ، وأن الأسماء الإلهية عين المسمى وليس إلا هو ، وإنها طالبة ما تعطيه من الحقائق وليست الحقائق التي تطلبها الأسماء إلا العالم ، فالألوهية تطلب المألوه والربوبية تطلب المربوب ، وإلا فلا عين لها إلا به وجودا وتقديرا ، والحق من حيث ذاته غنى عن العالمين ، والربوبية ما لها هذا الحكم ، فبقي الأمر بين ما تطلبه الربوبية وبين ما تستحقه الذات من الغنى عن العالم ، وليست الربوبية على الحقيقة والاتصاف إلا عين هذه الذات)
 والدليل عليه ترتيب قوله : "الْحَمْدُ لِلَّه رَبِّ الْعالَمِينَ " وما قال للرب إله العالمين ، وقد مر أن الأشياء في ذات الباري تعالى بالقوة كالشجرة في النواة ليست لها فيه عين ، وهي كرب الرحمن فوصف نفسه بالنفس وهو الإيجاد إذ به نفس عن كربه بالوصف له والذات مع أي وصف اعتبر معه اسم والأسماء الإلهية عين المسمى ، فليس النفس إلا هو لأن الصفة نسبة والنسب أمور عقلية ، وليست الأسماء في الحقيقة إلا عين الذات مع اعتبار فقط ، والأسماء تطلب مقتضياتها كما ذكر غير مرة ، ومقتضياتها ليست إلا الحقائق التي هي أجزاء العالم ومجموعها العالم ، وهو المألوه والمربوب فالألوهية التي هي الحضرة الأسمائية ، والربوبية التي هي حضرة الأفعال الصادرة عن الأسماء تطلب العالم بما فيه ولم تثبت إلا به لأنها من الإضافيات فلا عين لها بدون المضاف وجودا وتقديرا ، يعنى عينا وذهنا ، فالربوبية ما لها غنى عن العالمين بل الغنى عن الكل ليس إلا الذات وحدها ، فالأمر ذو وجهين :
غنى من وجه ولا غنى من وجه ، وليست الربوبية في الحقيقة غير الذات لأنها نسب اعتبرت في الذات لا عين لها ، فالرب ليس إلا الذات مع نسب اعتبارية لا عين لها ، وإلا لكان الله تعالى محتاجا في ربوبيته إلى تلك العين ، وكان محتاجا إلى الغير
( فلما تعارض الأمر بحكم النسب ) لاقتضائه من حيث الذات الغنى .
"" أضاف بالي زادة : - أي حكم الغنى عن العالمين وكذلك الألوهية وإن كانت غيرها من وجه ، فكانت الذات مستحقة بالغنى عن العالم من حيث الأحدية ، ومستحقة بالافتقار إليه من حيث الربوبية اهـ  ""
 
ومن حيث النسب اللاغنى "ورد في الخبر ما وصف الحق به نفسه من الشفقة على عباده "
 لأن الحق هو الذي يتحقق به كل شيء وهو الاسم الذي يتجلى به في القيامة ليحكم بين الناس بالحق أي بالعدل ، فيكون هو الرب المطلق رب العالمين ، فيقتضى الشفقة والرحمة على عباده لتوقف الربوبية عليهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فأول ما نفس عن الربوبية بنفسه المنسوب إلى الرحمن بإيجاده العالم الذي تطلبه الربوبية بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهية ، فيثبت من هذا الوجه أن - رحمته "وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ " - فوسعت الحق ، فهي أوسع من القلب أو مساوية له في السعة ).
ما في ما نفس مصدرية ، أي أول تنفيسه عن الربوبية بنفسه المنسوب إلى الرحمن الشامل بجميع الأسماء ، وهو التنفيس بإيجاده العالم الذي تطلبه الحضرة الربوبية وجميع الأسماء الإلهية فيثبت ، وفي نسخة : فثبت من هذا الوجه ، أي باعتبار الحضرة الأسمائية من حيث الإله والرحمن والرب أن - رحمته " وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ " - حتى الحق .
فيكون الحق من حيث الأسماء مرحوما بالرحمة الذاتية ، إذ لو لم يكن العالم واعتباراته لم يكن للنسب الأسمائية وجود ، والغنى مصروف إلى الذات وحدها ، والرحمة أوسع من القلب من حيث أنه شيء من الأشياء أو مساوية له من حيث أنه وسع الحق بجميع أسمائه ، وجميع الأسماء مرحومة من حيث أنها أسماء لا من حيث أنها عين ذات الحق ، وكذا القلب حينئذ ، يعنى إذا وسع الحق ليس إلا الذات وأسماؤه إذ لا شيء عند تجلى الحق غيره ، ولا للقلب ولا للعالم وجود
"" أضاف بالي زادة : ( بحكم النسب ) أي بحكم الأسماء باقتضاء بعضها لطفا وبعضها قهرا ( ورد في الخبر ) وهو قوله تعالى : "والله رَؤُفٌ بِالْعِبادِ " - إذ ربوبيته تتحقق بهم ، فكانت الربوبية أول صفة تطلب من الله وجود العالم ، ثم الأسماء الإلهية اهـ
( فأول ما نفس ) عنه الحق ( عن الربوبية ) لأنها أول شيء طلب وجود العالم فتنفس عنها أولا دفعا للكرب ، فشبه بتنفس الإنسان لأنه ما تنفس إلا لإزالة الكرب ، فكان المتنفس مرحوما لوجدانه الراحة بالنفس ، فكان الحق مرحوما ( بنفسه ) وهو إيجاد العالم تشبيها لا تحقيقا ( فأول ) مبتدأ وخبره ( عن الربوبية ) بنفسه يتعلق بنفس أي نفس بسبب نفسه اهـ ""


قال الشيخ رضي الله عنه : ( هذا مضى ، ثم لتعلم أن الحق تعالى كما ثبت في الصحيح يتحول في الصور عند التجلي ، وأن الحق تعالى إذا وسعه القلب لا يسع معه غيره من المخلوقات فكأنه يملأه ، ومعنى هذا أنه إذا نظر إلى الحق عند تجليه له لا يمكن أن ينظر إلى غيره معه ).
 يعنى أن الحق المتجلى المتحول في الصور إذا تجلى للقلب بصورة الأحدية لا يبقى معه شيء ، إذ الأحدية الذاتية تقتضي أن لا يكون معه شيء فلا ينظر القلب حينئذ إلا به ولا يرى إلا إياه فلا يحس بنفسه ولا بغيره
"" أضاف بالي زادة :  ( فيثبت من هذا الوجه ) وهو اعتباره من حيث الأسماء والصفات ( إن رحمته وسعت كل شيء ) اسما كان أو عينا ( فوسعت الحق ) لأنه عين الأسماء من وجه ، فكان الحق مرحوما من حيث الأسماء ، وليس مرحوما بحسب الذات ، فثبت بلسان الخصوص كونه راحما ومرحوما بهذا الوجه اهـ بالى .
( هذا مضى ) أي تم الكلام في القلب والرحمة فوسعتهما اهـ
 ( لا يمكن أن ينظر إلى غيره ) لغيبوبة الغير عن نظره بسبب نظره إلى الحق عند التجلي ، فلا يمنع ذلك التجلي وجود الغير مع الحق في القلب ، وإنما يمنع  نظره إلى الغير وكانت الغيرية مسلوبة في نظره لظهور الحق له في كل شيء ، فما نظر إلى الشيء إلا والحق يظهر له فيه ، وفي الحقيقة لا يسمع نظر القلب إذا نظر إلى الحق مع الحق غير الحق اهـ.
 لأن القلب يسع تجليات غير متناهية ، والعرش وما حواه يكون متناهيا ، فكيف يحس المتناهي الموجود في زاويته أهـ بالي زادة  ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وقلب العارف من السعة كما قال أبو يزيد البسطامي : لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به . وقال الجنيد في هذا المعنى : إن المحدث إذا قرن بالقديم لم يبق له أثر ، والقلب يسع القديم كيف يحس بالمحدث موجودا ).
 هذا معلوم مما مر ، فإن الحق إذا تجلى تحقق قوله – " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه " - فلا شيء معه .
"" أضاف بالي زادة :  (إن المحدث إذا قرن ) أي إذا تجلى القديم الحادث لم يبق له أثر لفناء وجود الحادث عند القديم اهـ
( فإنه لا يفضل ) حتى يسع في القلب غيرها معها فيسعها ويضيق غيرها اهـ بالى .
فحينئذ يتبع التجلي المتجلى له فهذا بالنسبة إلى الفيض المقدس فالمراد بقوله ( وهذا عكس ما تشير ) إعلام منه باختصاص إظهار هذا المعنى بنفسه بالتفرد فيه اهـ. ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإذا كان الحق يتنوع تجليه في الصور ، فبالضرورة يتسع القلب ويضيق بحسب الصورة التي يقع فيها التجلي الإلهي ، فإنه لا يفضل من القلب شيء عن صورة ما يقع فيها التجلي ) .
قلب العارف يدور مع الحق ليس له حيثية ولا كيفية معينة ، ولا قابلية مخصوصة بشيء دون شيء ، ولا يكون له تقيد بشيء دون شيء بخلاف سائر القلوب فيكون بحسب تجلى الرب إذا تجرد عما سواه فلم يكن فيه سوى الحق ، فعلى أي صورة يتجلى الحق من صغيرة أو كبيرة كان على صورته ، فيتسع ويضيق بحسب الصورة التي يقع التجلي الإلهي فيها ، ولا يفضل عنه شيء عن صورة المتجلى وأما سائر الصور الجزئية فبالعكس .
فإن لكل منها حيثية معينة وكيفية مقيدة وخصوصية مميزة له عن غيره واستعدادا خاصا يقع التجلي بحسبه ، فلا يكون التجلي إلا بحسب قابليته فيتكيف الحق بكيفية التجلي ويتصور بصورته ، وهذا حقيقة تحول الحق في الصور يوم القيامة لأهل المحشر على العموم ، ولذلك يعرفه العارف في أي صورة تجل ويسجد له ويعبده ، وأما غير العارف المحجوب بمعتقده فلا يعرفه إلا إذا تجلى في صورة معتقده . وإذا تجلى في غير تلك الصورة المعينة أنكره وتعوذ منه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محل فص الخاتم من الخاتم لا يفضل بل يكون على قدره وشكله من الاستدارة ، إن كان الفص مستديرا أو من التربيع والتسديس والتثمين وغير ذلك من الأشكال ، إن كان الفص مربعا أو مسدسا أو مثمنا أو ما كان من الأشكال ، فإن محله من الخاتم يكون مثله لا غير ، وهذا عكس ما تشير إليه الطائفة من أن الحق يتجلى على قدر استعداد العبد وهذا ليس كذلك ، فإن العبد يظهر للحق على قدر الصورة التي يتجلى له فيها الحق ) .
هذا مثال لقلب العارف وإشارة إلى أن العارف هيولانى القلب دائم التوجه إلى الحق المطلق بإطلاق قابليته الغلبة الأحدية الجمعية على قلبه ، ففي أي صورة يتجلى له الحق كان على صورته كما في التمثيل بمحل الخاتم ، وأما ما تشير إليه الطائفة من تجلى الحق على قدر استعداد القلب فهو حال من غلبت على قلبه أحكام الكثرة وتقيد القلب بالهيئات المخصوصة ، فيكون التجلي الأحدى فيه متشكلا بأشكال الأقدار والصور والهيئات الغالبة عليه فالعارف يظهر للحق على قدر صورته ، وغير العارف يظهر له الحق على قدر صورته .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (وتحرير هذه المسألة أن لله تجليين : تجلى غيب ، وتجلى شهادة فمن تجلى الغيب يعطى الاستعداد الذي يكون عليه القلب ، وهو التجلي الذاتي الذي الغيب حقيقته ، وهو الهوية التي يستحقها بقوله عن نفسه هو ، فلا يزال هو له دائما أبدا ، فإذا حصل له : أعنى للقلب هذا الاستعداد تجلى له التجلي الشهودي في الشهادة فرآه فظهر بصورة ما تجلى له كما ذكرناه ، فهو تعالى أعطاه الاستعداد بقوله – " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدى " - ثم رفع الحجاب بينه وبين عبده فرآه في صورة معتقده في الحق فهو عين اعتقاده ، فلا يشهد القلب ولا العين أبدا إلا صورة معتقده في الحق )
هذا التحرير تحقيق القولين وإثبات أن كلا منهما صواب باعتبار التجليين ، فإن التجلي الذاتي الغيبي يعطى الاستعداد الأزلي بظهور الذات في عالم الغيب بصور الأعيان وما عليه كل واحد من الأعيان من أحوالها .
"" أضاف بالي زادة :  حاصل هذا الكلام : أن التجلي الأول من الاسم الباطن والفيض الأقدس الذي يكون المتجلى له على حسب التجلي .
والتجلي الثاني من الاسم الظاهر والفيض المقدس الذي يكون التجلي على حسب المتجلى له ، وهو ما أشارت إليه الطائفة ، فقوله : "َعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه " أي استعداده " ثُمَّ هَدى " تجلى له بالتجلي الشهودي ( ثم رفع الحجاب ) بسبب التجلي الشهودي ( بينه وبين عبده فرآه في صورة معتقده ، فهو ) أي الحق المرئي له ( عين اعتقاده ) إذ هو المتجلى له بصورة اعتقاده ، فما رآه إلا بها ( فلا يشهد إلا صورة معتقده في ) مرآة ( الحق ) فلا يشهد الحق بل يشهد الحق الاعتقادي وهو صورة نفسه في الحقيقة اهـ بالى . ""
 
وهو الذي يكون عليه القلب حال الظهور في عالم الشهادة والغيب المطلق والحقيقة المطلقة والهوية المطلقة التي يعبر بها الحق عن نفسه هو هذه الذات المتجلى في صور الأعيان ، ولكل عين هوية مخصوصة هو بها هو ولا يزال الحق بهذا الاعتبار هو أبدا ، فإذا ظهرت الأعيان في عالم الشهادة وحصل للقلب هذا الاستعداد الفطري الذي فطر عليه ، تجلى له في عالم الشهادة التجلي الشهودي فرآه بصورة استعداده ،وهو قول طائفة من الصوفية:
إن الحق يتجلى على قدر استعداد العبد وهو الظهور بصورة المتجلى له ، وهذا الاستعداد هو المراد بالخلق في قوله : " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه "  وأما الهداية في قوله : " ثُمَّ هَدى " فهو رفع الحجاب بينه وبين عبده حتى رآه في صورة معتقده فالحق عنده عين اعتقاده إذ لا يرى القلب ولا العين إلا صورة معتقده في الحق .
فما رأى إلا نفسه في مرآة الحق ، فمن هذه الأعيان من هو على الاستعداد الكامل ، فاستعداده يقتضي أن يرى الحق في جميع
صور أسمائه الغير المتناهية ، لأن استعداده لم يتقيد بصورة اسم ما ، بل توجه بإطلاقه إطلاقا من كل قيد ، ولم يحصره في حضرة بعض الأسماء بل يقابل كل حضرة من حضرات الأسماء التي تجلى فيها وبها بما في نفسه مما يناسبه من تلك الحضرة إلى إطلاق الحق عن كل قيد ، فذلك هو العارف المذكور الذي يكون قلبه أبدا بصورة من تجلى له على أي صورة وفي أي وجه تجلى .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته ، وهو الذي يتجلى له فيعرفه فلا ترى العين إلا الحق الاعتقادي ، ولا خفاء في تنوع الاعتقادات فمن قيده أنكره في غير ما قيده به وأقر به فيما قيده به إذا تجلى له ، ومن أطلقه عن التقييد لم ينكره وأقر له في كل صورة يتحول فيها ، ويعطيه من نفسه قدر صورة ما تجلى له فيها إلى ما لا يتناهى فإن صور التجلي ما لها نهاية يقف عندها ، وكذلك العلم باللَّه ليس له غاية في العارف يقف عندها ، بل هو العارف في كل زمان يطلب الزيادة من العلم به - رب زدني علما ، رب زدني علما ، رب زدني علما - فالأمر لا يتناهى من الطرفين ) .
أي الحق في أصحاب الاعتقادات ، هو الذي يسع كل قلب منهم صورته . والاعتقادات متنوعة فالحق عند كل واحد منهم هو المتجلى في صورة معتقده ، فإذا تجلى في صورة أخرى أنكره فينكر بعضهم إله بعض أبدا فبينهم التخالف والتناكر ، وأما الموحد الذي أطلق الحق عن كل قيد فيقرّ به في كل صورة يتحول فيها ، ويتحول قلبه مع صورته فيكون أبدا يقول دائما بلسان الحال أو القال - رب زدني علما - فلا تتناهى التجليات من طرف الحق ، فلا تتناهى الصور المطابقة لها والعلوم من طرف العبد.
"" أضاف بالي زادة :  (فلا خفاء في تنوع الاعتقادات ) بحسب الأشخاص ولا خفاء في تنوع التجليات بحسب الاعتقادات فمنهم من قيد الحق ومنهم من أطلقه ( فمن قيده ) إلخ .
( إذا تجلى له ) فيما قيد به ، فهو منكر في صورة غير صورة اعتقاده ، ومقر في صورة هي عين صورة اعتقاده ( ومن أطلقه قدر صورة ما تجلى له إلى ما لا يتناهى ) فيعظم الحق في صورة غير متناهية ، ولا يحصر التعظيم في صورة غير صورة ويعرفه في كل صورة ويعهده فيها اهـ بالى .
( فقلت الأمر ) أي الموجود ( حق كله ) هذا إن كان الوجود الحق والعبد مرآة له ( أو خلق كله ) هذا إن كان الوجود العبد والحق مرآة له ، فلما ذكر هذا التفصيل أشار إلى المقام الأعلى مقام الكل ( فهو حق بنسبة ) أي بوجه ( وخلق بنسبة ) فلا يحجب العارف بالنظر إلى أحدهما عن الآخر بل جمع بينهما بنظر واحد .
(والعين) القابلة لهذه الاعتبارات (واحدة) في ذاتها لا تتعدد بقبول الاعتبارات اهـ. بالي زادة""
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( هذا إذا قلت حق وخلق ، فإذا نظرت في قوله « كنت رجله الذي يسعى بها ، ويده التي يبطش بها ، ولسانه الذي يتكلم به » إلى غير ذلك من القوى ومحالها التي هي الأعضاء لم تفرق فقلت الأمر حق كله أو خلق كله ، فهو خلق بنسبة وحق بنسبة والعين واحدة ، فعين صورة ما تجلى عين صورة ما قبل ذلك التجلي ، فهو المتجلى والمتجلى له ، فانظر ما أعجب أمر الله من حيث هويته ومن حيث نسبته إلى العالم في حقائق أسمائه الحسنى ) .
يعنى أن الحقيقة والعين الأحدية واحدة لا تتكثر أصلا إلا بالاعتبار ، فإذا نظرت إلى الحقيقة المتعينة بأي صورة كانت قلت حق باعتبار الحقيقة وخلق باعتبار
 
التعين هذا إذا نظرت إلى الحقيقة الأحدية قلت الذات أو الحقيقة فحسب ، وإذا نظرت إلى تحققها الذاتي قلت حق وإذا نظرت في مفهوم الحديث ورأيت أن جميع القوى والأعضاء ليست إلا عين العبد ، قلت خلق كله أو حق كله بإحدى النسبتين نسبة الوحدة أو الكثرة ، فإن اعتبرت نسبة الوحدة إلى الكثرة قلت إله ، وإن اعتبرت ظهور الواحد الحق في صورة الكثرة قلت المتجلى هو المتجلى له ، وإن اعتبرت أحدية الجميع نفيت الغير وقلت العين واحدة فإن أحدية جميع الوجود يحكم بنفي السوي ويشهد قوله – " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه " فانظر عجائب أمر الله من حيث هويته ، فإنه أحد لا كثرة فيه بحسب ذاته وحقيقته ، وإله واحد من حيث نسبته إلى العالم بالمعاني المختلفة التي هي حقائق الأسماء ، فأعجب ولا تغب عنه في التجليات الغير المتناهية فإنه أمر واحد لا موجود غيره :
( فمن ثمة وما ثمة    .... وعين ثمة هو ثمة )
استفهم بمن وما عن الحقيقة الأحدية على بصيرة ، لأن الحق عين كل شيء عاقل وغير عاقل ومعنى ثم في الواقع المشهود وعين ثم هو ثمة : أي وعين موجود في الواقع هو نفس الواقع ، إذ الواقع عينه ليس غيره .
( فمن قد عمه خصه   .... ومن قد خصه عمه )
فمن قال بأنه يعم الكل من حيث كل خصه بأنه عين كل واحد ، ومن قال بأنه خصوصية كل واحد عمه بأنه شمل الكل من حيث هو كل .
"" أضاف بالي زادة :  (فمن ثم ) أي في الوجود استفهام لأولى العقل ( ومما ثم ) استفهام لغير ذوى العقل ( وعين ثم ) أي في ذوى العقول ( هو ) أي العين الذي في ذوى العقول ( ثمة ) أي في غير ذوى العقول معناه أخبروني عن العقلاء وغير العقلاء أي شيء هما في الوجود ، والحال أن العين الذي في العقلاء هو العين الذي في غير العقلاء .
فليس في الوجود إلا هو لا غير ، والذي ظهر في صورة العقلاء في مرتبة هو الذي ظهر في صورة غير العقلاء في مرتبة أخرى .
فإذا كان كذلك ( فمن قد عمه ) أي الذي عم العين إلى الأفراد المخصوصة ( خصه ) أي خص ذلك العين لا غير إذ العام يقتضي خاصا ليشمله ( ومن قد خصه ) أي جعله خاصا تحت عام ( عمه ) أي عم ذلك العين الذي جعله خاصا إذ الخاص يقتضي العام أيضا لكونهما من الأمور المتضايفة ، فالعين واحدة ظهرت في مرتبة بصورة العموم ، وأخرى بصورة الخصوص ، فالضمائر عائدة إلى العين باعتبار الوجود أو الحق اهـ بالى .""
 
( فما عين سوى عين   ... فنور عينه ظلمه )
يعنى أنه إذا كان عين كل شيء فكل عين عين العبد الأخرى ليس غيرها ، فالنور عين الظلمة ، والظلمة عين النور ، وكذا جميع المتضادات لأنها حقيقة واحدة :
( فمن يغفل عن هذا   .... يجد في نفسه غمه )
لاحتجابه وجهله فهو مغموم أبدا :
( ولا يعرف ما قلنا     .... سوى عبد له همه )
أي همة عظيمة : أي همة لا تقنع من الشيء إلا باللب الذي هو الحقيقة ، فلا يقف مع الصور والظواهر والتعينات .


قال الشيخ رضي الله عنه: ( قال – " إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَه قَلْبٌ " - لتقلبه في أنواع الصور والصفات ، ولم يقل لمن كان له عقل ، فإن العقل قيد فيحصر الأمر في نعت واحد ، والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر فما هو ذكرى لمن كان له عقل ، وهم أصحاب الاعتقادات الذين يكفر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، وما لهم من ناصرين ) .

إنما خص التذكر بالقلب لأنه يتقلب في الصور من عالم الشهادة والصفات والمعاني من عالم الغيب ويتشكل بكل شكل ، وفي موضع آخر باللب لأن لب كل شيء حقه من الحق ، ولم يقل لمن كان له عقل لأن العقل قيد لا يحكم إلا بالتقييد فيحصر الأمر في نعت واحد والعقلاء أصحاب الاعتقادات المقيدون. وما في الكتاب ظاهر .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:41 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الجزء الثاني

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن إله المعتقد ما له حكم في إله المعتقد الآخر ، فصاحب الاعتقاد يذب عنه : أي عن الأمر الذي اعتقده في إلهه وينصره ، وذلك الذي في اعتقاده لا ينصره ، ولهذا لا يكون له أثر في اعتقاد المنازع له ، وكذلك المنازع ما له نصرة من إلهه الذي في اعتقاده فما لهم من ناصرين )
 إله كل معتقد مقيد مجهول فكيف يكون له حكم في إله المعتقد الآخر فلا قوة ولا نصرة له ، فصاحب كل اعتقاد يذب عن معتقده وينصره ويسعى في بطلان إله المعتقد الآخر ، ومعتقده الذي في اعتقاده لا ينصره فإله كل معتقد باطل عند الآخر ، فلا يكون له قوة ولا أثر في المنازع له لأن إلهه الذي في اعتقاده محتاج إلى نصرة فكيف ينصره ، وكذلك المنازع ما له نصرة من معتقده الذي في اعتقاده ، فما لهم من ناصرين ، فلا تنقطع خصوماتهم ، إذ ليس لكل واحد منهم أنصار يغلبونه على البواقي .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فنفى الحق النصرة عن آلهة الاعتقادات على انفراد كل معتقد على حدته ، فالمنصور المجموع والناصر المجموع ) .
فالمنصور مجموع المعتقدات كل من معتقده ، والناصر مجموع المعتقدين كل معتقده ، فالكل واحد منهم من ناصرين  ( فالحق عند العارف هو المعروف الذي ينكر فأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ) يعنى أن الحق عند العارف في أي صورة تجلى من صور تجلياته الاعتقادية والوجودية هو المعروف الذي لا ينكره ، فأهل الله الذين يعرفونه في الدنيا هم أهل الله الذين يعرفونه في الآخرة في جميع المشاهد .

"" أضاف بالي زادة :  قوله ( والمنصور ) الثابت بالنص الإلهي وهو " إِنْ تَنْصُرُوا الله  "( المجموع ) أي الحضرة الجمعية الأسمائية لا المنفرد ( والناصر ) الثابت بالنص وهو - يَنْصُرْكُمُ الله ) * - ( المجموع ) أي تلك الحضرة ، يعنى إن تنصروا الله في مظهر ينصركم الله في مظهر ، فهذه الحضرة الجامعة ناصر ومنصور في المظاهر ، وهو رب الأرباب رب أصحاب القلوب ، فنفى الحق النصرة عن الأرباب المتفرقة التي في اعتقادات أصحاب العقول ، وأثبت النصرة للاسم الجامع الذي في قلوب العارفين اهـ بالى .

( فمن نفسه عرف نفسه ) أي فمن علم تقليب نفسه في الصور ( عرف تقليب ) ذات ( الحق في الصور ) فلما أتم الكلام في هذا المقام في مراتب الكثرة شرع في الوحدة بقوله ( وليست نفسه بغير ) اهـ بالى . ""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلهذا قال : لمن كان له قلب ، فعلم تقليب الحق في الصور بتقليبه في الأشكال ، فمن نفسه عرف نفسه وليست نفسه بغير لهوية الحق ، ولا شيء من الكون مما هو كائن ويكون بغير الهوية الحق بل هو عين الهوية )

قد علمت أن القلب دائما يتقلب في تقاليب صور العالمين وحقائقها ، فمن تقلبه في الأشكال علم تقليب الحق في الصور ولهذا لا يكون محل المعرفة الإلهية في الوجود إلا القلب ، لأن ما عداه من الروح وغيره له مقام معلوم ، فمن نفسه عرف نفسه لأن نفسه ليست غير الحق والباقي ظاهر.


قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهو العارف والعالم والمقر في هذه الصورة ، وهو الذي لا عارف ولا عالم وهو المنكر في هذه الصورة الأخرى ) أي في الصورة التي يعرف عليها وتجليه من معتقده ، فإنه يحصر الحق في صورة معتقده وينكر ما سواه ، وليس العارف والمنكر غيره .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهذا حظ من عرف الحق من التجلي والشهود في عين الجمع ) أي علم القلب الذي عرف الحق بالحق من نفسه التي هي عين هوية الحق ، حظ من عرف الحق بطريق التجلي والشهود في عين الجمع لا بالفكر والبرهان ، كما هو طريق العقلاء من أصحاب الاعتقادات ، فإن البرهان لا يعطى كون الحق عين كل شيء من الأشياء المتضادة.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهو قوله :" لِمَنْ كانَ لَه قَلْبٌ " يتنوع في تقليبه ) أي فذلك العالم والحظ لمن كان له قلب يتنوع بتنوع التجليات ، ويتقلب في قوالبها كما ذكر .

قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما أهل الإيمان فهم المقلدة الذين قلدوا الأنبياء والرسل فيما أخبروا به عن الحق ، لا من قلد أصحاب الأفكار والمتأولين الأخبار الواردة بحملها على أدلتها العقلية ، فهؤلاء الذين قلدوا الرسل صلى الله عليهم وسلَّم هم المرادون بقوله "أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ" لما وردت به الأخبار الإلهية على سنة الأنبياء ، وهو يعنى هذا الذي ألقى السمع شهيد ينبه على حضرة الخيال واستعمالها ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام في الإحسان « أن تعبد الله كأنك تراه » والله في قبلة المصلى فلذلك هو شهيد ) .
أي أهل الإيمان الذين قلدوا الرسل عليهم الصلاة والسلام لا الذين قلدوا العقلاء ، هم المرادون بقوله – " أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ " - لما ورد من القرآن والخبر وهو شهيد ، أي حاضر بقلبه على حضرة الخيال ، فإن الشهود قد يكون بمعنى الحضور وقد يكون بمعنى الرؤية والبصر بالمبصرات ، وقد يكون بالتجلي الخيالي والتمثل في الحس من حضرة الخيال ، وقد يكون بالبصائر للحقائق ، وقد يكون بأحدية جمع البصائر والأبصار ، وقد يكون بعين الحق للحضرة الإلهية من قوله « كنت سمعه وبصره » .

"" أضاف بالي زادة :   فإن إلقاء السمع يدل على استعمال حضرة الخيال والنهى عن استعمال القوة المفكرة ، وهو أي معنى قوله : " أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ " معنى قوله « الإحسان أن تعبد الله » اهـ بالى""  .

وقد يكون بمعنى شهود الحق ذاته بذاته وهو شهود أهل الولاية ، والمراد هنا الشهود في الحضرة الخيالية للتمثل الحسي ، كما مثلت الجنة لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم في عرض الحائط ، ومثل جبريل في صورة دحية وفي صورة البشر السوىّ لمريم .
يعنى وهو عند إلقاء السمع حاضرة ما تمثل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم باستعمال القوة الخيالية في حضرتها .
أو شاهد ما تمثل فيها إن قدر ، وهو أي شهوده أو استعمال القوة الخيالية قوله عليه الصلاة والسلام ، أي مثل قوله « أن تعبد الله

كأنك تراه « في صورة المعتقد الذي عندك ، وقوله : والله في قبلة المصلى كذلك ، فذلك الحضور الخيالي هو شهيد ، فإذا قوى الاستحضار الخيالي وغلب الحال صار الشهود الخيالي مشهودا بالبصيرة ، فإذا صار أقوى وأكمل كان مشهودا بأحدية جمع البصر والبصيرة ، والنهاية مقام الولاية وهو شهود الحق ذاته بذاته فيكون الشاهد عين المشهود.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومن قلد صاحب نظر فكرى وتقيد به فليس هو الذي ألقى السمع ، فإن هذا الذي ألقى السمع لا بد أن يكون شهيدا لما ذكرناه ، ومتى لم يكن شهيدا لما ذكرناه فما هو المراد بهذه الآية - فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم – " إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا من الَّذِينَ اتَّبَعُوا " - والرسل لا يتبرؤن عن أتباعهم الذين اتبعوهم )

أي المقلد لصاحب النظر العقلي ليس الذي ألقى السمع ، لأن النظر العقلي يؤدى إلى تقييد حاصر للأمن فيما هو على خلاف الواقع ، وصاحبه مقيد للحق فيما ليس بمشهود ، فإذا قلده مقلد وألقى السمع إليه لم يبلغ من التقليد وإلقاء السمع إلى غايته من الشهود ، لأن المشهود الموجود غير منحصر بل مطلق هو عين كل معين فلم يك شهيدا لحضرة شهود نبيه .
ولا يعتقد الشهود لأن الفكر لا يقتضيه ، ولهذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الفكر في الله فليس هذا المقلد بمراد في الآية ، وأما المؤمن المعتقد للشهود فإنه يطلب الشهود أولا من طريق التخيل والتمثل ، ثم بالرؤية والتحقيق حتى يبلغ مقام الولاية في التوحيد ، ولهذا لا يتبرأ من أتباعهم لأنه دعاهم إلى الحق على بصيرة ، ويتبرأ المقيد عن أتباعهم لأنه دعاهم إلى خلاف الواقع من التقيد .
"" أضاف بالي زادة :  (وتقيد به ) أي بالنظر الفكري في تحصيل المجهولات ، وقد أدرج في هذا القسم المعتزلي ومن قلده ، فإنهم ممن قلدوا الفلاسفة في التمسك في تأويلات بعض الإخبارات الإلهية اهـ بالى"" .
 

قال الشيخ رضي الله عنه : (فحقق يا ولى ما ذكرته لك في هذه الحكمة القلبية ، وأما اختصاصها بشعيب ، أي شعبها لا تنحصر لأن كل اعتقاد شعبة فهي شعب كلها ، أعنى الاعتقادات ).
 هذا وجه للاختصاص يناسب شعيبا باعتبار اسمه ، والمذكور في أول الفص يناسب باعتبار طريقته .


"" أضاف بالي زادة :  يعنى أن المتبوعين إما الرسل وإما أصحاب النظر ، أما الرسل فهم لا يتبرؤن عن أتباعهم بل يشفعون في عصاتهم فلا يصح هذا السر في حقهم ، فتعينت الآية لأصحاب النظر كالفلاسفة وأمثالهم ، لظهور صورها لهم في الآخرة تبرؤا عن مقلديهم ، ولما كانت هذه المسألة من أعظم مسائل العلوم الإلهية وأركانها ، أوصى الطالب بتحقيقه ، فقال : فحقق يا ولى ، أي يا صاحبي اهـ بالى. ""
 

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا انكشف الغطاء انكشف لكل أحد بحسب معتقده ، وقد ينكشف بخلاف معتقده في الحكم ، وهو قوله : " وبَدا لَهُمْ من الله ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " فأكثرها في الحكم كالمعتزلي يعتقد في الله نفوذ الوعيد في العاصي إذا مات على غير توبة ، فإذا مات وكان مرحوما عند الله قد سبقت له عناية بأنه لا يعاقب وجد الله غفورا رحيما ، فبدا له من الله ما لم يكن يحتسب ) .
هذا ظاهر مما مر من التجلي في صورة المعتقدات ، وأما التجلي في صور غير المعتقدات ،

فقد يكون من تجلى الاسم الرحماني لفائدة تعود إلى العبد ، إما من باب الرحمة الامتنانية لعناية سبقت في حقه فيريح ويرزق الترقي ، وإما من اسمه العدل من باب المجازاة فجوزى بعمله والمآل إلى الرحمة ، هذا فيما يعتقد المعتقدون في الحكم من الله عليهم.


"" أضاف بالي زادة :  ( فأكثرها ) أي فأكثر اختلافات الاعتقاد حاصلة ( في الحكم ) وأما الاختلافات في الهوية فلا ينكشف الغطاء إلا بحسب الاعتقاد ( فإن بعض العباد إلى قوله انحلت العقدة ) وهي عقدة الاعتقاد ، وهي الحجاب على القلب المانع من الانكشاف ( فزال الاعتقاد ) لزوال العقد ( وعاد ) علم الاعتقاد ( علما بالمشاهدة ) فلم يهد لهم من الله ما لم يكونوا ، بل كل ما بدا لهم من الله من هوية الحق في الصورة ، فهو مما يحتسبونه منه فيعتقدونه قبل كشف الغطاء . ""


قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما في الهوية فإن بعض العباد يجزم في اعتقاده أن الله كذا وكذا ، فإذا انكشف الغطاء رأى صورة معتقده وهي حق فاعتقدها وانحلت العقدة فزال الاعتقاد وعاد علما بالمشاهدة ، وبعد احتداد البصر لا يرجع كليل النظر فيبدو لبعض العبيد باختلاف التجلي في الصور عند الرؤية ، لأنه لا يتكرر فيصدق عليه في الهوية – " وبَدا لَهُمْ من الله " - في هويته – " ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " - فيها قبل كشف الغطاء )
هذا من باب الاعتقاد في هويته ، والأول من باب الاعتقاد في حكمه ، فإذا تجلى الحق للعبد في صورة معتقده فكانت حقا فاعتقدها في الدنيا وانحلت العقدة ، أي عقيدته في التعين والتقيد عند كشف الغطاء في الآخر ، فزال الاعتقاد وصار علما بالمشاهدة وهذا باب الترقي بعد الموت لمن كان صحيح الاعتقاد ذا بصيرة ، فلا يرجع كليل النظر عند احتداد البصر .


"" أضاف بالي زادة :  فما هو المراد بقوله: " وبَدا لَهُمْ من الله " الآية ( وبعد احتداد البصر ) أي وبعد ظهور الحق للعباد بظهور تام ( لا يرجع كليل النظر ) أي لا يحصل الخفاء التام ، ردا لقول أهل التناسخ إن للعبد بعد الموت يأتي إلى الدنيا مرارا ، فيكل نظره عن الحق بعد احتداده لوقوع الحق في الجفاء التام .
فهم قسمان : قسم قالوا بالتناسخ في حق الكمل لزعمهم أنهم يأتون التكميل الناقصين ، وقسم في جميع الأفراد الإنسانية ، وكلاهما مردود .
وقد يفهم من هذا المقام أن هذه الآية لا تصدق على أهل السنة ، فإنهم وإن أثبتوا للحق الصفات الثبوتية والسلبية في اعتقادهم ، لكنهم لم يحصروه بهذا الاعتقاد ، بل قالوا بعد تقييد الحق بهذا الاعتقاد : الحق منزه عن تصورات أذهاننا وتصديقات قلوبنا ، فهذا صورة للتعليم فيعم اعتقادهم في الدنيا جميع صور التجليات وإن لم يشعروا بذلك.

 (فلا يصدق عليهم في الهوية " وبَدا لَهُمْ من الله ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ") بخلاف المعتزلة وغيرهم ، فإنهم لحصرهم الهوية في اعتقادهم يصدق عليهم في الهوية ( وبَدا لَهُمْ من الله ) فظهر من هذا الكلام ترقى العباد بالموت مؤمنا كان أو غير مؤمن ، لكنه لا ينفع ترقى من لا يقلد الأنبياء ، ويدل على دلالته كلامه السابق على الترقي قوله : وقد ذكرنا صورة الترقي اهـ بالى""

وقد يبدو للبعض بعد التجلي في صورة معتقده تجلى آخر لا من صورة معتقده بسبب اختلاف التجلي في الصور ، لأن التجلي لا يتكرر فيعرفه لرؤيته أولا فيصدق عليه في الهوية أيضا كما صدق في الحكم – " وبَدا لَهُمْ من الله ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " - في الهوية قبل كشف الغطاء ، وهذا أيضا من الترقي بعد الموت ، وأما قوله – " ومن كانَ في هذِه أَعْمى فَهُوَ في الآخِرَةِ أَعْمى وأَضَلُّ سَبِيلًا ".
وقوله عليه الصلاة والسلام « إذا مات ابن آدم انقطع عمله » مما يدل على عدم الترقي بعد الموت ، فهو للمحجوبين الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله من أهل الكفر والشرك ، وأما أهل.


الإيمان الموحدون من المحققين والمقلدين الذين ألقوا السمع مع الحضور ، فلهم ترقيات بسبب ارتفاع حجبهم فيما بعد الموت ، وزوال موانعهم بالعفو والمغفرة ، واجتماعاتهم بأهل الحق ممن كانوا يقلدونهم ويعتقدون فيهم ويحبونهم ، وإمدادهم إياهم من أرواحهم في برازخهم ، كما حكى هذا الولي عن نفسه حالة اجتماعه بمن سلف من العرفاء المحققين ، وإفادته إياهم من الحقائق والمعارف التوحيدية ما ليس عندهم ، وحل عقدهم وإمدادهم بما ترقوا به في الدرجات .

قول الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد ذكرنا صورة الترقي بعد الموت في المعارف الإلهية في كتاب التجليات لنا ، عند ذكرنا من اجتمعنا به من الطائفة في الكشف ، وما أفدناهم في هذه المسألة مما لم يكن عندهم ، ومن أعجب الأمر أنه في الترقي دائما ، ولا يشعر بذلك للطافة الحجاب ورقته وتشابه الصور مثل قوله – " وأُتُوا به مُتَشابِهاً " - ) .
 أي من أعجب أحوال الإنسان أنه في الترقي دائما من أحوال استعداد عينه ، فإن أحوال الأعيان أمور معلومة عند الله ثابتة في القوة يخرجها الله إلى الفعل دائما ، فيجعل من الاستعدادات الأزلية الغير المجعولة استعدادات مجعولة غير متناهية بحسب الأطوار في الدنيا والآخرة والبرزخ والحشر ودار الثواب وكثيب الرؤية وسائر المواطن من حيث لا يشعر ومن حيث يشعر ، ولما ثبت أن الوجود من حيث هو وجود واجب بذاته ، وكل ما وجد وجد به فلا يقبل العدم أبدا فهو مع الآنات يتجدد ويترقى ، فكل شيء في الترقي مع الآن لأنه دائم القبول للتجليات الإلهية الوجودية أبد الآباد ، وبكل تجل يزداد قبوله لتجل آخر .
"" أضاف بالي زادة :  (ومن أعجب الأمور أنه ) أي الإنسان ثابت ( في الترقي دائما ) من ابتداء سيره إلى انتهائه بحسب العوالم باعتبار - كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ "   فيترقى الإنسان من شأن إلى شأن ( ولا يشعر بذلك للطافة الحجاب ) فإن الترقي حجاب لطيف لا يشعر به صاحبه في كل زمان فرد ( وتشابه الصور مثل قوله - "وأُتُوا به مُتَشابِهاً " ) في حق أهل الجنة فإن عدم تميزهم بين الأثمار لإتيانها متشابهة في الصور ، فلذلك قالوا عند الإتيان –" هذَا الَّذِي رُزِقْنا من قَبْلُ "  اهـ بالى . ""

 

ولكنه قد لا يشعر بذلك لاحتجابه أو للطافة حجابه ورقته ، وقد يشعر لكونها تجليات علمية أو ذوقية خيالية أو مقامية أو وجدانية أو شهودية جمعا وجمع جمع أو أحدية جمع وفرق ، وقد تتشابه صور التجليات فلا تتميز ولا تنضبط كما في الأرزاق في قوله : " كُلَّما رُزِقُوا مِنْها من ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا من قَبْلُ وأُتُوا به مُتَشابِهاً " .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( وليس هو الواحد عين الآخر ، فإن الشبيهين عند العارف أنهما شبيهان غيران ، وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد ، كما يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية وإن اختلفت حقائقها وكثرت أنها عين واحدة ، فهذه كثرة معقولة في عين الواحد ، فتكون في التجلي كثرة مشهودة في عين واحدة كما أن الهيولى تؤخذ في حد كل صورة ، وهو مع كثرة الصور واختلافها ترجع في الحقيقة إلى جوهر واحد وهو هيولاها ، فمن عرف نفسه بهذه المعرفة فقد عرف ربه ، فإنه على صورته خلقه بل هو عين هويته وحقيقته )
 الضمير في ليس وعين الآخر خبر بعد خبر ، أي وليس الرزق في الأزمنة رزقا واحدا حتى يكون هذا عين الآخر لأن الشبيهين غيران عند أهل التحقيق متشابهان فكذلك التجليات المتعاقبات ، وأن بالفتح في أنهما مع اسمها وخبرها مبتدأ وخبره الظرف المقدم أو فاعل الظرف ، والجملة الظرفية خبر إن بالكسر وغيران بدل من شبيهان أو صفة بمعنى متغايران .
"" أضاف بالي زادة :  ( وليس هو ) ضمير شأن اسم ليس ( الواحد ) مفسر له ( عين الآخر ) خبره أي وليس ذلك المشابه الواحد غير المشابه الآخر ( وغيران وشبيهان ) خبران في إنهما ( فهذه ) أي مدلول الأسماء ( كثرة معقولة ) أي تكون بالقوة ( في عين ) أي حقيقة ( الواحد ) الواجب الوجود المشهود ( فتكون ) هذه الكثرة المعقولة ( في التجلي ) أي في الظهور اهـ بالى زادة "".

 
ويجوز أن يكون أنهما في محل النصب على أنه مفعول العارف ، والألف واللام بمعنى الموصول وغير ان خبر إن بالكسر ، والمعنى فإن الشبيهين عند الذي يعرف أنها شبيهان غيران فتكون عند ظرفا للمغايرة التي دل عليها غيران ، وفي بعض النسخ عند العارف فمن حيث إنهما شبيهان فعلى هذا فالوجه هو الأول .
فالحقيقة واحدة والتعينات متعددة ، فيرى صاحب التحقيق كثرة التعينات في العين الواحدة المتظاهرة في صورة متشابهة غير متناهية ، كما أن مدلول القادر والعالم والخالق والرازق واحد بالحقيقة مع اختلاف معانيها وهو الله تعالى فاختلاف معاني الأسماء كثرة معقولة اعتبارية في مسمى واحد العين .

أي واحد عينه لا كثرة في حقيقته ، فالتجلى في صورة كل اسم كثرة مشهودة في عين واحدة ، وكذا في التارات تكون التجليات المتعاقبة المتشابهة واحدة بالحقيقة كثيرة بالتعينات على ما مثله في الهيولى ، فإنك تأخذها في حد كل صورة من الصور الجوهرية .
فتقول : إن الجسم جوهر ذو مقدار ، والنبات جسم نام ، والحجر جسم جامد ثقيل صامت ، والحيوان جسم نام حساس متحرك بالإرادة ، والإنسان حيوان ناطق ، فقد أخذت الجوهر حد الجسم ، والجسم الذي هو الجوهر في حد سائرها ، فيرجع الجميع إلى الحقيقة الواحدة التي هي الجوهر .
فمن عرف نفسه بهذه المعرفة أي بأنها حقيقة الحق الظاهرة في هذه الصورة وجميع صور الأشياء إلى ما لا يتناهى فقد عرف ربه ، خصوصا الإنسان الكامل ، فإنه مع كونه غير حقيقة خلقه على صورة الحضرة الإلهية بجميع أسمائها .


قال الشيخ رضي الله عنه : (ولهذا ما عثر أحد من العلماء على معرفة النفس وحقيقتها إلا الإلهيون من الرسل ، والأكابر من الصوفية ، وأصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلمين في كلامهم في النفس وماهيتها ، فما منهم من عثر على حقيقتها ولا يعطيها النظر الفكري أبدا ) لكون الفكر محجوبا بالتقييد كما ذكر ( فمن طلب العلم بها من طريق النظر الفكري فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم ، لا جرم أنهم من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، فمن طلب الأمر من غير طريقه فما ظفر بتحقيقه ) هذا ظاهر .
"" أضاف بالي زادة :  ( ولهذا ) أي ولأجل أن حقيقة النفس عين هوية الحق اهـ. ""


قال الشيخ رضي الله عنه : ( ما أحسن ما قال الله تعالى في حق العالم وتبدله مع الأنفاس في خلق جديد في عين واحدة ، فقال في حق طائفة بل أكثر العالم – " بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ " - فلا يعرفون تجديد الأمر على الأنفاس )

الطائفة المقول في حقهم هذا هم أهل النظر وتبدل العالم مع الأنفاس وكونه على الأنفاس في خلق جديد ، مع أن العين الواحدة التي هي حقيقة الحق بحالها هو أن العالم بمجموعه متغير أبدا ، وكل متغير يتبدل بعينه مع الآنات فيكون في كل آن متعينا غير المتعين الذي هو في الآن الآخر مع أن العين الواحدة التي يطرأ عليها هذه التغيرات بحالها ، فالعين الواحدة هي حقيقة الحق المتعينة بالتعين الأول ، ومجموع الصور أعراض طارئة مبتدأة متبدلة في كل آن وهم لا يعرفون حقيقة ذلك ، فهم في لبس من هذا التجدد الدائم في الكل ، فالحق مشهود دائما في هذه التجليات المتعاقبة ، والعالم مفقود أبدا لفنائه في كل طرفة وحدوثه في صورة أخرى .
"" أضاف بالي زادة :  ولما فرغ من بيان تقلبات القلب وأحواله شرع في تبدلات معالم لكونه نوعا من التقلب فقال ( وما أحسن ما قال الله ) اهـ بالى زادة.  ""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( لكن عثرت عليه الأشاعرة في بعض الموجودات وهي الأعراض وعثرت عليه الحسبانية في العالم كله وجهلهم أهل النظر بأجمعهم ولكن أخطأ الفريقان أما خطأ الحسبانية فبكونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدل في العالم بأسره على أحدية عين الجوهر المعقول الذي قبل هذه الصورة ولا يوجد إلا بها كما لا تعقل إلا به ، فلو قالوا بذلك فازوا بدرجة التحقيق في الأمر ، وأما الأشاعرة فما علموا أن العالم كله مجموع أعراض فهو يتبدل في كل زمان ، إذ العرض لا يبقى زمانين )

.

يتبع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:42 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 

الجزء الثالث

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

الحسبانية : السوفسطائية ، ومذهبهم أن العالم يتبدل مع الآنات ، لكنهم ما أثبتوا الحقيقة الأحدية التي هي وجه الحق بالحقيقة وهي التي تتبدل عليها صور العالم ، فغابوا عن الحق وتجلياته الغير المتناهية ، والحقيقة مع التعين الأول اللازم للعلم بذاته .
هي عين الجوهر المعقول الذي قبل هذه الصورة المسماة عالما ، وهو المسمى بالعقل الأول وأم الكتاب ، وهو روح العالم فلا يوجد العالم إلا به ، وتأنيث الضمير وتذكيره في بها وبه باعتبار العين والجوهر .

"" أضاف بالي زادة :  أي على تجديد الخلق وتبدل العالم الأشاعرة ، فإنهم قالوا : العرض لا يبقى زمانين ، وجهلهم أهل النظر من التجهيل : أي الحسبانية مع أنهم علموا الأمر في ذلك على ما هو عليه اهـ بالى . فخطأ الحسبانية في أمر واحد والأشاعرة في أمرين اهـ بالى زادة . ""


وبالحقيقة هي المرآة الأولى التي ظهر وجه الحق فيها ، ولولا ذات الحق لما وجدت ، ولكن لما كان هذا الجوهر معقولا غير مشهود إلا لمن غيبه شهادة ، كان الحق مشهودا في العالم وهو كالمرآة الثانية في التحقيق والمرآة الأولى بالنسبة إلى أهل البصر .
 كما أن روحه هي المرآة الأولى لأهل البصيرة ، وكما لا توجد صور العالم إلا بذلك الجوهر فكذلك لا يعقل إلا به لأنه العاقل والمعقول .

فلو عرفت الحسبانية تلك الحقيقة لفازوا بدرجة التحقيق في معرفته وأما الأشاعرة فلم يعرفوا حقيقة العالم ، وأن العالم ليس إلا مجموع هذه الصور التي يسمونها أعراضا ، وأثبتوا جواهر ليست  بشيء ولا وجود لها ، وغفلوا عن العين الواحدة الظاهرة في هذه الصور وحقيقتها التي هي هوية الحق ، فذهبوا إلى تبدل الأعراض في الآنات ، فظهر خطأ الفريقين من أهل هذا الشأن .


قال الشيخ رضي الله عنه : (ويظهر ذلك في الحدود للأشياء ، فإنهم إذا حدوا الشيء تبين في حدهم كونه ) أي كون ذلك الشيء .
"" أضاف بالي زادة :  ( ويظهر ذلك ) أن العالم كله أعراض ، أو خطأ الأشاعرة في الحدود للأشياء اهـ بالى .
فإن قلت : لا نسلم أن الكون والوجود عرض ، بل هو جوهر قائم بالذات موجود في الخارج . قلت :  قد ثبت عند أهل النظر أن الوجود والجوهر والذات من المعقولات الثانية ، فكيف يكون موجودا خارجيا .
لا يقال : إن المذكورات التي هي من المعقولات الثانية مطلقاتها ، فلا كلام فيها بل البحث في المقيدات فلا نسلم أنها أعراض .
قلنا : إن حقائق وجود الممكنات لولا التوجه الإلهي الذي هو إقران الوجود للماهية تقتضي العدم والإقران نسبة عدمية ، والموجودية بمعنى هذا الانتساب نسبة غير محققة في الخارج ، فليس الوجود إلا نسبة وإضافة ، حتى إذا أدركتها حق الإدراك وجدتها أحوال ذات الأمر وأوصافه شرح . ""

قال الشيخ رضي الله عنه : ( الأعراض وأن هذه الأعراض المذكورة في حده عين هذا الجوهر وحقيقته القائم بنفسه ، ومن حيث هو عرض لا يقوم بنفسه ، فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه من يقوم بنفسه ) أي عند الأشاعرة ، فإن من حد الإنسان قال إنه حيوان ناطق ، ومعنى الناطق أنه ذو نطق ، ولا شك أن مفهوم ذو نسبة والنسبة عرض والنطق الثابت له بواسطة هذه النسبة عرض زائد على حقيقة الحيوان خارج عنه .

فإن الإنسان حيوان مع عرضين ، ثم حد الحيوان يقال إنه جسم نام حساس متحرك بالإرادة ، فمعناه جسم ذو نموّ وحس وحركة إرادية والكلام في النسبة وما يلحق الجسم بواسطتها كما في حد الإنسان ، فثبت أنها عوارض للجسم وأعراض عرضت له ، والجسم عندهم جوهر متحيز قابل للأبعاد الثلاثة.

كما أورده الشيخ رضي الله عنه بقوله ( كالتحيز في حد الجوهر القائم بنفسه الذاتي ، وقبوله للأعراض حد له ذاتي ، ولا شك أن القبول عرض إذ لا يكون إلا في قابل لأنه لا يقوم بنفسه ، وهو ذاتي للجوهر ) أي عرض ذاتي عندهم .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( والتحيز عرض ولا يكون إلا في متحيز فلا يقوم بنفسه ، أوليس التحيز والقبول بأمر زائد على عين الجوهر المحدود لأن الحدود الذاتية هي عين المحدود وهويته )
 يعنى حد الجسر جوهر ذو تحيز وذو قبول ، والتحيز والقبول عرضان كما ذكر ذاتيان ، ولهذا قيد التحيز بقوله الذاتي .

فتبين أن الذاتيات المذكورة عندهم في الحدود كلها أعراض ، ومعنى قوله :
وليس التحيز والقبول بأمر زائد على عين الجوهر المحدود أن الجوهر المحدود عندهم هو الجسر وهما ذاتيان له والذاتي جزء الماهية فالمتحيز القابل ليس إلا نفس الجوهر مع هذين الاعتبارين أعنى التحيز والقبول ، وهما نسبتان لا وجود لهما في الخارج إذ لا عين لهما فيه.
فهما عين الجوهر في الخارج وهويته لا أمر زائد عليه فيه بل في العقل.
فالذاتيات التي هي أجزاء المحدود عندهم ليس إلا اعتبارات وعوارض ، والمأخوذ في تعريف الجوهر ليس بحد لأن الموجود لا في موضوع معناه شيء ذو وجود قائم بنفسه غير محتاج إلى محل وهو الحق نفسه ، فما توهموه أنه جوهر غير الحق مجموع أعراض ، والأعراض لا تبقى زمانين .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقد صار ما لا يبقى زمانين ) وهو مجموع الأعراض ( يبقى زمانين وأزمنة ) على زعمهم ( وعاد ما لا يقوم بنفسه ) من مجموع الأعراض ( يقوم بنفسه عندهم ولا يشعرون لما هم عليه ) من التناقض بالخلف .

"" أضاف بالي زادة :  قوله ( ولا يشعرون لما هم عليه ) من الخطأ وهو المناقضة والمخالفة لما ذهبوا إليه ، فإنهم قالوا العالم إما قائم بنفسه أو غير قائم بنفسه ، الأول الجوهر والثاني العرض ثم قالوا بتبدل العرض لا الجوهر ، وعرفوا الجوهر بالعرض فكان الجوهر عين العرض لاتحاد الحد والمحدود ، فقد لزمهم بمقتضى حدودهم بأن العالم كله عرض قائم بذاته تعالى يتبدل في كل آن ، لكنهم لا يشعرون لما لزمهم من المحذور بمقتضى حدودهم ( وهؤلاء ) أي طائفة المحجوبين ( هم في لبس من خلق جديد ) ولا يتكرر التجلي لحصول الفناء والبقاء في كل آن فينافي التكرار اهـ. بالي زادة""


قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهؤلاء هم في لبس من خلق جديد ، وأما أهل الكشف فإنهم يرون الله تعالى يتجلى في كل نفس ، ولا تكرر للتجلى ) 
فإن الحقيقة من حيث هي هي لها تجلّ واحد أزلا وأبدا فلا تكرار فيه ، وأما بحسب التعينات الغير المتناهية فمحال أن المتعين الزائد والمتعين الفاني عين المتعين الحادث والمتعين الموجود في الآن الآتي ، فهو خلق جديد ليس بتكرار أيضا .

وهو معنى قوله: ( ويرون أيضا شهودا أن كل تجل يعطى خلقا جديدا ويذهب بخلق فذهابه هو الفناء عند التجلي والبقاء لما يعطيه التجلي الآخر فافهم ) .
فإن ألفاظ الكتاب ظاهرة ، ومن معرفة الخلق الجديد وكون الجوهر المختلف مجموع أعراض عرضت للعين الواحد يعرف سر البعث والحشر ، وأن الصور في النسبة الآخرة تتغير وتتبدل كما قال عليه الصلاة والسلام : « يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القردة والخنازير » .

"" أضاف بالي زادة :  ( فذهابه ) أي فذهاب الخلق السابق ( هو الفناء عند التجلي ) اللاحق ، لكن لما كان التجلي من جنس الأول التبس الأمر على المحجوبين ولا يشعرون . التجدد ( والبقاء لما يعطيه التجلي الآخر ) وهو التجلي الموجب للبقاء بالخلق الجديد ( فافهم ) فإن الأمر ما نقول دون غيره اهـ بالى . ""



فعليك بالتقوى والله الهادي .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:44 pm

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية

إنما اختصت الكلمة اللوطية بالحكمة الملكية ، لأن الملك هو القوة والشدة ، والغالب على لوط وقومه هو الشدة والقوة ، ألا ترى إلى قوله " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ " فالتجأ من الشدة التي كان يقاصيها من قومه إلى الركن الشديد الذي هو الله تعالى ، فاستأصلهم بشدة العذاب جزاء وفاقا .
"" أضافة بالي زادة : الملك بفتح الميم وسكون اللام : الشدة ( يصف طعنته ) بشدة ضربه العدو بالرمح ( فأنهرت فتقها ) أي فأوسعت فتق الطعنة حتى ( يرى قائم من دونها ما وراءها ) أي يرى القائم ما وراء الطعنة من جانب آخر اهـ  بالي زادة "".
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( الملك : القوة والشدة ، والمليك : الشديد ، يقال : ملكت العجين إذا شددت عجنه ، قال قيس بن الخطيم يصف طعنته ، نظم :
ملكت بها كفى فأنهرت فتقها ....  يرى قائم من دونها ما وراءها
أي شددت بها كفى يعنى الطعنة ، فهو قول الله تعالى عن لوط عليه السلام : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ "  .
فقال صلى الله عليه وسلم: « يرحم الله أخي لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد » فنبه صلى الله عليه وسلم أنه كان مع الله من كونه شديدا ، والذي قصد لوط عليه السلام القبيلة بالركن الشديد والمقاومة بقوله : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " وهي الهمة هنا من البشر خاصة )
فهو أي الشدة والقوة الهمة القوية الشديدة ، أي لو أن لي بكم قوة من الهمة القوية أقاومكم بها وأقاويكم ، أو آوى إلى جانب قوى هو القبيلة ظاهرا والله تعالى حقيقة وباطنا ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام « لقد كان يأوى إلى ركن شديد » من اسمه القوى الشديد .
ولو لم يتأيد بالقوى الشديد لما قهر الأعداء ، فكان هذا القول يقينا من قوى شديد باللَّه ، أي بقوة همته المتأيدة بالقوى الشديد فيهم فأهلكهم ولما كان نظر لوط إلى مظاهر القوة والشدة من حيث أنه أضاف القوة إلى نفسه وقصد بالركن القبيلة .
قيد الشيخ قدس سره الهمة هنا بقوله من البشر خاصة .
وقال رضي الله عنه  : ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « فمن ذلك الوقت » يعنى من الزمان الذي قال فيه لوط عليه السلام : " أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ " ما بعث نبي بعد ذلك إلا في منعة من قومه فكان يحميه قبيلته كأبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  )
يعنى من قوة همته وتأثير باطنه
"" أضافة بالي زادة : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً "  بمقاومتكم أَوْ " آوِي " أي ألتجئ - إِلى " رُكْنٍ شَدِيدٍ " إلى قبيلة غالبة على الأعداء اهـ بالي زادة
( إنه كان مع الله من كونه شديدا ) فكان غالبا على أعدائه مع نصرة الله " من ركن شديد " فكان له أبو طالب ركنا شديدا اهـ .
وألهمه القوة الروحانية المؤثرة في النفوس لا القوة الجسمانية ، فإنها أقوى تأثيرا من الجسمانية اه بالى زادة . ""
( فقوله " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " - لكونه  أي لكون لوط عليه السلام .
سمع الله تعالى يقول : " الله الَّذِي خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ " بالأصالة  " ثُمَّ جَعَلَ من بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً " - فعرضت القوة بالجعل فهي قوة عرضية ، " ثُمَّ جَعَلَ من بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وشَيْبَةً " ، فالجعل تعلق بالشيبة ، وأما الضعف فهو رجوع إلى أصل خلقه .
وهو قوله : " خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ "  فرده لما خلقه منه ، كما قال : " ومِنْكُمْ من يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ من بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً " .
فذكر أنه رد إلى الضعف الأول ، فحكم الشيخ حكم الطفل في الضعف )
أي سمع لوط عليه السلام سمع روحه من الله تعالى قوله : " الَّذِي خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ " فتحقق أن الممكن لا وجود له بالأصالة فلا قوة له ، فأصله الضعف حين خلق من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم يخرجكم طفلا ، فالضعف له ذاتي بمقتضى طبيعة الإمكان ، وبمقتضى أصل خلقته الجمادية ، والقوة عارضية بالجعل .
"" أضافة بالي زادة :  فالضعف منشأ ومبدأ للخلق .  ( فالجعل تعلق بالشيبة ) لكونها أمرا وجوديا عرضيا كالقوة وأوجدها الحق تعالى بالخلق الجديد ( وأما الضعف فهو رجوع ) وهو عدم القوة فلا يتعلق الجعل به . فإن قيل : إن تعلق الجعل بهما ظاهر في الآية .
قلنا : لما كان الشيب صفة عارضة للإنسان اعتبر الشيخ تعلقه إليه بمعنى الإيجاد ، ولما كان الضعف وصفا أصليا له اعتبر تعلقه إليه بمعنى الرد إلى أصله لذلك قال ( فرده لما خلقه منه ) وهو الضعف والشيبة سبب موجب لرد الشيء إلى أصله وهو الضعف ، وأورد دليلا على أن الضعف بعد القوة رد على أصله لا يتعلق به الجعل .
قوله تعالى كما قال : "  ومِنْكُمْ من يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ "  اهـ بالى . ""
 
والجعل الثاني هو القدر المشترك بين الرد إلى الضعف الأصلي وإحداث الشيبة ، فإن كليهما جعل والجعل بمعنى الفعل ، كما في قوله تعالى : " إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً " أورد الجعل للقدر المشترك بين الخلق والإبداع ، إنما قال فالجعل تعلق بالشيبة لأن الضعف يتبعه طبعا ، ولهذا وصفه بالرجوع إلى أصل خلقه .
ثم لما تبين أن الرجوع إنما هو بتبعية الشيب المجعول مجعول فسره بالرد إلى ما خلقه منه لإشراك الرد والإحداث في معنى الجعل والباقي ظاهر ، والمقصود أن القوة للخلق عارضى ، ولهذا أورد لو الامتناعية إشارة منه إلى محض التوحيد ، وأن لا جعل ولا قوة إلا باللَّه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما بعث نبي إلا بعد تمام الأربعين وهو زمان أخذه في النقص والضعف ، فلهذا قال : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " مع كون ذلك يطلب همة مؤثرة )
إنما بعث بعد تمام الأربعين لأن القوة النورية قبله مغمورة في مقتضيات الخلقة ، وأحكام الفطرة مغلوبة بأوصاف النشأة فانصبغ النور بالظلمة ، ولهذا غلب السواد على الشعر.
"" أضافة بالي زادة :  (ولهذا ) أي ولأجل إدراك لوط معنى قول الله تعالى - بالنور الإلهي - قالَ "لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ " - فظهر أن ما طلبها لوط ليست بقوة جسمانية اهـ بالى . ""
 
فلما ذهبت القوى الطبيعية وظهر ضعف القوى الجسمانية لكونها متناهية ، اشتد سلطنة القوة الفطرية وظهر سلطان النور الإلهي ، فغلب البياض بحكم العكس على سواد الشعر وحان وقت تأثير الهمة بالقوة الإلهية برجوع حجابيات الخلقية إلى الضعف الأصلي .
وبروز الحقيقة الإلهية والقوى الروحانية من الحجاب ورجوعا إلى التأثير الأصلي ، فتمنى بلو الامتناعية بالتشبيه إليه لأن القوى لله لا له .
فإن أصل وضعها للامتناع واستعيرت للتمني الدال على طلب الهمة المؤثرة ، فالقوة ليست له من حيث أنه خلق سيما عند ضعف الخلقة ونقصانها عند الأربعين ، وهي له من حيث أنه حق .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن قلت : وما يمنعه من الهمة المؤثرة وهي موجودة في السالكين من الأتباع ، فالرسل أولى بها ، قلت : صدقت ولكن نقصك علم آخر ، وذلك أن المعرفة لا تترك للهمة تصرفا ، فكلما علمت معرفته نقص تصرفه بالهمة ، وذلك لوجهين:
 الوجه الواحد لتحققه بمقام العبودية ونظره إلى أصل خلقه الطبيعي (فإن أصله الضعف ، وللعبد قبول أمر السيد وامتثاله ، وإنما الفعل للسيد وحده 
والوجه الآخر أحدية المتصرف والمتصرف فيه ، فلا يرى على من يرسل همته فيمنعه ذلك )
قلت : الرؤية من أفعال القلوب علقت بمن الجملة لما في من من الاستفهام ، فلا يرى على من يرسل همته إذ ليس ثمة أحد غيره ، ويجوز أن يكون من رؤية البصر ، والمفعول محذوف لدلالة أحدية المتصرف والمتصرف فيه عليه ، أي فلا يرى أحدا والجملة بيان لعلة امتناع التصرف ولاقتضاء رؤية وجود المتصرف فيه ، أي على أيّ شيء أو على أي أحد يرسل همته إذ ليس ثمة غيره ، ثم قال : فيمنعه ذلك ، والوجه الثاني ، وهو شهود أحدية المتصرف والمتصرف فيه كما يمنع من التصرف ، فقد يقتضي التصرف لأنه واقع في نفس الأمر .
إذ ليس في الوجود إلا الحق وحده والتصرف واقع ، فلو تصرف العارف بالأحدية المذكورة ما كان ذلك التصرف إلا للحق ولا سيما العبد الكامل .
فإنه هو الذي له جميع ما لله من حقائق الأسماء الإلهية ، وما للعبد من الصفات العبدانية بأحدية العين وإلا لم يكن كاملا ، لكن لا يكون ذلك بإرسال الهمة وتسليطها لئلا يضره ويخل بمقام العبودية بل بإظهار الحق ذلك منه .
وظهوره تعالى على مظهره بالتصرف من غير تعبد منه بذلك ، ولا إرسال همة ولا تسليط نفس ولا ظهورية ، فالمانع بالحقيقة هو الوقوف في مقام العبودية الذاتية ورد أمانة الربوبية العرضية إلى الله تأدبا بآداب أهل القرب فلا يتعدى للتصرف والتسخير ، ويتوجه بالكلية إلى الله الواحد الأحد المتفرد بالتدبير والتقدير .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وفي هذا المشهد يرى أن المنازع له ما عدل عن حقيقته التي هو عليها في حال ثبوت عينه وحال عدمه ، فما ظهر في الوجود إلا ما كان له في حال العدم في الثبوت ، فما تعدى حقيقته ولا أخل بطريقته ، فتسمية ذلك نزاعا إنما هو أمر عرضى أظهره الحجاب الذي على أعين الناس .
كما قال الله تعالى : " ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ - يَعْلَمُونَ ظاهِراً من الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ").
 يعنى أن العارف في هذه الشهود وهو شهود أحدية العين مطلع على سر القدر يرى أن المنازع على صراط ربه ما عدل على علم الله منه وعما اقتضاه علمه في حال ثبوتها ، فليس هو نزاع في الحقيقة بل هو فيما يفعله كهذا العارف فيما يفعله ، والحجاب الحاجب للناس عن اطلاعهم على حقيقة الأمر اقتضى أن يسمى ذلك نزاعا لما بينهما من الخلاف .
"" أضافة بالي زادة :  (فتسمية ذلك نزاعا ) مطلقا ، وإنما قلنا مطلقا لأن أهل الله سموه نزاعا بحسب الأمر التكليفي ، ولا يسمى نزاعا بحسب الأمر الإرادى ، وأما أهل الحجاب فيسمون نزاعا مطلقا اهـ بالي زادة. ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهو من المقلوب ، فإنه من قولهم : " قُلُوبُنا غُلْفٌ "  أي في غلاف وهو الكنّ الذي يستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه ، فهذا وأمثاله يمنع العارف من التصرف في العالم ) .
وهو أي كونه نزاعا من باب المقلوب الذي قلبه أصحاب الحجاب من حقيقته لأنه وفاق لما كان عليه عينه في حال الثبوت ، ولكن لما كانت قلوبهم في أكنة عما عليه الأمر في نفسه حسبوا أن الحق الثابت في نفس الأمر خلافه فسموه بالنسبة إليه نزاعا وليس به في نفس الأمر .
فلما كان العارف يرى ذلك وفاقا لما في علم الله ولما في عينه منعه من التصرف في العالم بدفعه وقهره وإهلاكه .
 
"" أضافة بالي زادة :  ( أظهره الحجاب ) المانع للاطلاع على سر القدر ويزعمون أن الناس كلهم قابل الهداية واتباع الرسل ، وما علموا أن كلا موافق لطريقه في الأزل باقتضاء أعيانهم الثابتة في العلم ، لذلك يسمون عدم الطاعة في الظاهر نزاعا ومخالفة مطلقا ، ولو علموا الأمر لسموا نزاعا من وجه واتباعا من وجه فقلب اللام والفاء بالقلب المكان ، فكان أصل غافلون غالفون أي غالفون قلوبهم في غلاف الحجاب ، وهو الكن الذي يستره أي يستر القلب ، لقوله تعالى : "وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً " - ( فهذا ) أي التحقق بمقام العبودية والنظر إلى أصل الخلقة والاطلاع على أحدية المتصرف والمتصرف فيه وأمثاله ( يمنع العارف من التصرف ) بالهمة ( في العالم ) اهـ بالى . ""
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  (قال الشيخ أبو عبد الله بن القائد للشيخ أبى السعود بن الشبلي : لم لا تتصرف ؟
فقال أبو السعود : تركت الحق يتصرف لي كما يشاء .
يريد قوله تعالى آمرا : " فَاتَّخِذْه وَكِيلًا " - فالوكيل هو المتصرف ولا سيما وقد سمع أن الله يقول : "وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه".
فعلم أبو السعود والعارفون أن الأمر الذي بيده ليس له وأنه مستخلف فيه .
ثم قال له الحق : هذا الأمر الذي استخلفتك فيه وملكتك إياه اجعلني واتخذني وكيلا فيه ، امتثل أبو السعود أمر الله فاتخذه وكيلا ، فكيف يبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر همة يتصرف بها ، والهمة لا تفعل إلا بالجمعية التي لا متسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه السلام .
وهذه المعرفة تفرقه عن هذه الجمعية فيظهر العارف التام المعرفة بغاية العجز والضعف .
قال بعض الأبدال للشيخ عبد الرزاق : قل للشيخ أبى مدين بعد السلام عليه : يا أبا مدين ، لم لا يعتاص علينا شيء وأنت تعتاص عليك الأشياء ؟
ونحن نرغب في مقامك وأنت لا ترغب في مقامنا ) هذا كله غنى عن الشرح .
"" أضافة بالي زادة :  (لم لا يعتاص علينا شيء ) إذا أردنا حصوله يحصل بتصرفنا ويلين لنا ولا ينازعنا ( وأنت تعتاص عليك الأشياء ؟ ) أي لا تتبع على مرادك ، يعنى نحن نتصرف وأنت لا تتصرف ( وهذا ) أي الذي منع أبا مدين من التصرف ( من ذلك القبيل ) أي من قبيل ما يمنع أبا السعود وأمثاله من التصرف وهو المعرفة التامة ( أيضا ) كأبي السعود وغيره اهـ .
فظهر أن البدل الذي قال لأبى مدين نقص من المعرفة ، ولو علم ما قاله له لعلم أن العارف لا يتصرف بالاختيار بل بالجبر والأمر من الله اهـ بالى . ""
 
ومن هاهنا كلام الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك كان ) أي كان تعتاص عليه الأمور .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( مع كون أبى مدين كان عنده ذلك المقام وغيره ، ونحن أتم في مقام الضعف والعجز منه ومع هذا قال له هذا البدل ما قال ، وهذا من ذلك القبيل أيضا ) أي وما نحن فيه من العجز من كمال المعرفة أيضا .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( قال صلى الله عليه وسلم في هذا المقام عن أمر الله له بذلك : " ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ " فالرسول بحكم ما يوحى إليه به ما عنده غير ذلك .
فإن أوحى إليه بالتصرف بجزم تصرف ، وإن منع امتنع ، وإن خير اختار ترك التصرف ) تأدبا بآداب العبودية في مقام الاستقامة وملازمة لما له ذاتي ، وتفويضا للتصرف إلى من له تصرف ذاتي
( إلا أن يكون ناقص المعرفة ) أي أن يكون المخير ناقص المعرفة فاختاره ، وذلك:
إما لعدم علمه بأن التصرف والتأثير مخصوص بالحضرة الإلهية ، وأنه ذاتي للحق عارضى للعهد ، وأن الوقوف مع معبودية للعبد أولى ، لأن الوقوف مع الذاتيات والظهور بها أعلى وأشرف من الظهور بالأمور العرضية .
وإما لعدم التأدب والمعرفة بأن مراعاة الآداب مع الحضور الإلهية أولى بالعبد ، وأن اتخاذ الله وكيلا فيما استخلفه فيه أعلى مقاما للعبد .
ولهذا كان الرسل خصوصا أكملهم وخاتمهم محمدا صلى الله عليه وسلم بحكم ما يوحى إليه في التصرف وتركه ، فإن الأدب يقتضي الطاعة .
وإن أوحى إليه بالتخيير علموا أن الأولى به لو كان خلاف التخيير لما خيروا وأمروا بما هو خير ،فرأوا التخيير ابتلاء وعلموا أن الخيرة في الأدب والوقوف مع مقتضى الحقائق والذاتيات.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (قال أبو السعود لأصحابه المؤمنين به : إن الله أعطانا التصرف منذ خمس عشرة سنة وتركناه تظرفا ، هذا لسان إدلال . وأما نحن فما تركناه تظرفا وهو تركه إيثار ، وإنما تركناه لكمال المعرفة ، فإن المعرفة لا تقتضيه بحكم الاختيار .
فمتى تصرف العارف بالهمة في العالم فعن أمر إلهي وجبر لا باختيار .
ولا شك أن مقام الرسالة يطلب التصرف لقبول الرسالة التي جاء بها فيظهر عليه ما يصدق عند أمته وقومه ليظهر دين الله والولي ليس كذلك .
ومع هذا فلا يطلبه الرسول في الظاهر لأن للرسول الشفقة على قومه فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجة عليهم ، لأن في ذلك هلاكهم فيبقى عليهم .
وقد علم الرسول أيضا أن الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة فمنهم من يؤمن عند ذلك ومنهم من يعرفه ويجحده ، ولا يظهر التصديق به ظلما وعلوا وحسدا ، ومنهم من يلحق ذلك بالسحر والإيهام .
فلما رأت الرسل ذلك وأنه لا يؤمن إلا من أنار الله قلبه بنور الإيمان ، ومتى لم ينظر الشخص بذلك النور المسمى إيمانا فلا ينفع في حقه الأمر المعجز ، فقصرت الهمم عن طلب الأمور المعجزة لما لم يعم أثرها للناظرين ولا في قلوبهم .
كما قال في حق أكمل الرسل وأعلم الخلق وأصدقهم في الحال « إِنَّكَ لا تَهْدِي من أَحْبَبْتَ ولكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ » .
ولو كان للهمة أثر ولا بد لم يكن أحد أكمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلى ولا أقوى همة منه .
وما أثرت همته في إسلام أبى طالب عمه وفيه نزلت الآية التي ذكرناها .
وكذلك قال في الرسول ما عليه إلا البلاغ ، وقال: " لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ولكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ " ، وزاد في سورة القصص : " وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " .
 أي بالذين أعطوه العلم بهدايتهم في حال عدمهم بأعيانهم الثابتة فأثبت أن العلم تابع للمعلوم ، فمن كان مؤمنا في ثبوت عينه وحال عدمه ظهر بتلك الصورة في حال وجوده ، وقد علم الله ذلك منه أنه هكذا يكون .
فلذلك قال  : " وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ "  فلما قال مثل هذا ، قال أيضا : " ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ " لأن قولي على حد علمي في خلقي : " وما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ " أي ما قدرت عليهم الكفر الذي يشقيهم ، ثم طلبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به بل ما عاملناهم إلا بحسب ما علمناهم ، وما علمناهم إلا بما أعطونا من نفوسهم مما هم عليه ، فإن كان ظلم فهم الظالمون .
"" أضافة بالي زادة :  ولما كان إيضاح هذه المسألة موقوفا على بيان سر القدر بينه بقوله : ( وزاد ) الحق تعالى نفى ؟ أثر الهمة ( في صورة القصص ) اهـ بالى.
( ثم طلبتهم بما ليس في وسعهم ) حتى أكون ظالما ، فكان أمر الحق بهم بما ليس في وسعهم من أحوال عينهم الثابتة ، وهذا هو الكلام الذي قطع عرق الجبر عن كليته ، فلا ظلم أصلا فلا جبر
قطعا لا صرفا ولا متوسطا إذ مآل الجبر الظلم اهـ .
( كذلك ما قلنا لهم ) المراد من القول التكاليف الشرعية ، فلما أعطى الحق لهم ما طلبت ذواتهم من الكفر والإيمان ، كذلك أعطى الحق لذاته تعالى ما اقتضت ذاته من القول كذا وعدم القول كذا اهـ بالى . ""

لذلك قال : " ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ "  فما ظلمهم الله ، كذلك ما قلنا لهم إلا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم .
وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ولا نقول كذا ، فما قلنا إلا بما علمنا أن نقول ، قلنا القول منا ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السماع منهم ) هذا كلام ظاهر اللفظ ، والمعنى.
 
حاصلة أن كمال المعرفة والعلم بحقائق الأمور يقتضي حفظ الأدب مع الله تعالى وعدم الظهور بالتصرف وإرسال الهمة على شيء ، فإن العارف المحقق يعلم أنه لا يظهر في الوجود إلا ما كان في العلم الأزلي .
وما كان في العلم أن يقع لا بد أن يقع ، وما كان فيه أن لا يقع فمحال أن يقع .
فالأمر بين فاعل عالم بما في قوة القابل .
والقابل لا يقبل إلا ما في استعداده الذاتي الغير المجعول ، فعلى أي شيء يرسل الهمة .
وأي فائدة في إرسالها ؟
فإن المعلوم وقوعه أو لا وقوعه لا يتغير بهمته ، ولا يتأخر عن وقته المقدر فيه ولا يتقدم عليه ، والقابل لا يقبل إلا ما علم الفاعل أن يقبله ، والفاعل لا يفعل إلا ما يقتضي قبوله .
فإن الأعيان مقتضية بما تجرى عليها حالة الوجود من الأزل إلى الأبد والفاعل العالم لا يعلم منها إلا ذلك. والنسب الأسمائية مؤثرة فيها بمقتضى العلم والقبول .
فلذلك قال : ما قلنا لهم إلا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم ، فإن الأعيان عين الذات الأحدية المتجلية بصورها وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ولا نقول كذا .
لأن علمه بذاته علمه بالأعيان كلها .
فقوله للأعيان بالكون على ما هي عليه مقتضى علمه ، والامتثال وعدم الامتثال مع سماع القول منهم مبنى على ما فيها وعلم منها أزلا :
( فالكل منا ومنهم  ... والأخذ عنا وعنهم )
منا من حيث حضرتنا الأسمائية ، ومنهم من حيث الأعيان الظاهرة بالوجود الحق المظهرة لحقائق الأسماء على قابلياتها واستعداداتها الذاتية ، وأخذ العلم الحقيقي عنا ، فإنا نعطى من فضلنا ما نشاء من نشاء ، كما قال : " ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيه من يَشاءُ " .
وعنهم : أي العلم مأخوذ من الأعيان المعلومة وهي نحن ، فإن العلم منه أولا بذاته ثم بالأعيان التي هي مظهر حقائق ذاته .

"" أضافة بالي زادة :  ( والكل منا ومنهم ) أي القول والامتثال وعدم الامتثال من الحق من وجه ، ومن العبد من وجه ( والأخذ ) أي التعذيب لمن لم يمتثل الأمر التكليفي عن الحق وعن العبيد ، فهم كانوا منا اهـ بالي زادة ""

والعلم بالأعيان ليس إلا علمه بذاته إذ لا معلوم إلا هو:

( وإن لم يكونوا منا  ... فنحن لا شك منهم )
كان مع اسمها مقدرة بعد إن ، كما في قولهم : إن خيرا فخير ، والاسم ضمير الشأن أو ضمير الأعيان : أي إن كان الأمر والشأن لا تكون الأعيان منا سر الأسماء بأن ظهرت منا ولمقتضانا فنحن لا شك منهم ومن حقائقهم ، فإن الأسماء بسبب الذات أي حقائق الأعيان فلا يتحقق إلا بها ، وإن كان الأعيان لا يكونون في الوجود منا وعلى صورنا وبحسبنا ، فنحن لا شك منهم ومن حقائقهم وبحسبهم ، فإن الأعيان يسمون بأسماء الحق كان مع اسمها مقدرة بعد إن ، كما في قولهم : إن خيرا فخير

"" أضافة بالي زادة :  ( إن لم يكونوا منا فنحن لا شك منهم ) تحقيقا للعبودية والربوبية ، فإنه إذا لم يكن الحق منهم على تقدير عدم كونهم من الحق لم تتحقق الربوبية والعبودية ، فكون الحق منهم محال بالضرورة فكانوا من الحق والحق ليس منهم أو معناه فالكل أي إعطاء الكلّ منا ومنهم : والأخذ أي أخذ الكل عنا وعنهم ، فكان الحق معطيا وآخذا والعبد كذلك ، فهذه هي المعاملة بين الرب والعبد إن لم يكونوا يأخذون منا ما لم يعطونا قبله فنحن لا شك نأخذ عنهم ما أعطاه لهم قبله وهو العلم ، فإن علمه بهم يأخذ عنهم ولم يعط قبل ذلك العلم لهم ، لأن علمه تعالى تابع لمعلومه ، بخلاف العبد فإنه لا يمكن له أن يأخذ عن الحق ما لم يعطه الحق قبله إلا الوجود ، بل الوجود عليهم من الحق على حسب طلبهم اهـ  بالى زادة . ""

والاسم ضمير الشأن أو ضمير الأعيان : أي إن كان الأمر والشأن لا تكون الأعيان منا سر الأسماء بأن ظهرت منا ولمقتضانا فنحن لا شك منهم ومن حقائقهم .
فإن الأسماء بسبب الذات أي حقائق الأعيان فلا يتحقق إلا بها .
وإن كان الأعيان لا يكونون في الوجود منا وعلى صورنا وبحسبنا .
فنحن لا شك منهم ومن حقائقهم وبحسبهم ، فإن الأعيان يسمون بأسماء الحق .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فتحقق يا وليي هذه الحكمة الملكية من الكلمة اللوطية فإنها لباب المعرفة ).
 أي خلاصة المعرفة والعلم الحقيقي بسر القدر الموجب لإقامة أعذار الخلائق كلهم
( فقد بان لك السر ، وقد اتضح الأمر
وقد أدرج في الشفع الذي قيل هو الوتر )
أي ظهر لك سر القدر واتضح الأمر لوجود الحق أنه بحسب ذلك السر .
وأن الداخل الحق الذي هو الوجود المطلق الوتر بذاته مندرج في الشفع الذي هو الخلق القابل .
وإنما كان شفعا لظهوره في ثاني مرتبة الوتر.
وإنما كان وترا لعدم الثاني الشافع .
فالوتر بتحقق الثاني به شفع وبلا هو وتر ، والله أعلم .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 9:44 am

14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية
إنما اختصت الكلمة العزيرية بالحكمة القدرية لانبعاثه على طلب معرفة سر القدر ، وتعلق القدرة بما يقتضيه العلم من صورة القدر المقدور ، فإن القدرة لا تتعلق إلا بمعلومات ممكنة هي الأعيان وأحوالها المعلومة عند الله ، والقدر هو العلم المفصل بالأعيان وأحوالها الثابتة في الأزل الخارجة عليها عند وجودها إلى الأبد .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أن القضاء حكم الله في الأشياء ، وحكم الله في الأشياء على حد علمه بها وفيها ، وعلم الله في الأشياء على ما أعطته المعلومات مما هي عليه في نفسها ، والقدر توقيت ما هي عليه الأشياء في عينها من غير مزيد فما حكم القضاء على الأشياء إلا بها ، وهذا هو عين سر القدر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " فَلِلَّه الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ " ) .


هي في ما هي عليه الأشياء ضمير منهم تفسيره الأشياء .
"" أضاف بالي زادة : (فَلِلَّه الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ )   يعنى إذا كان تقدير الحق أحوال العباد وأفعالهم بحسب اقتضاء عينهم الثابتة كان لله الحجة التامة على خلقه لا للخلق عليه ، إذ قيل لم قدر لفلان الإيمان وعلى هذا الكفر أو لم قدر بعض الأشياء على الصورة القبيحة وبعضها على الصورة الحسنة ، وإذا كانت الحجة لله على خلقه لا للخلق على الله ( فالحاكم ) وهو الحق ( في التحقيق ) تابع في حكمه ( لعين المسألة ) وهي الأعيان الثابتة عبارة عن المحكوم عليه وبه والحكم. اهـ بالى .  "" 
 
القضاء : حكم الله تعالى في الأشياء بمقتضى علمه بأحوال القوابل في الغيب ، فإنه مطلع بذاته على أحوال كل عين من الأعيان مما يقتضيها ويقبلها إلى الأبد ، وهي الأحوال التي عليها الأعيان حال ثبوتها .
والقدر : توقيت تلك الأحوال بحسب الأوقات وتعليق كل واحد منها بزمان معين ووقت مقدر بسبب معين فالقضاء لا توقيت فيه والقدر تعيين كل حال في وقت معين لا يتقدمه ولا يتأخر عنه ، وتعليقه بسبب معين لا يتخطاه ، ولهذا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حذر عن جدار مائل في ممره ، فقيل : أتفر من قضاء الله ؟
قال « أفر من قضائه إلى قدره »
فالقدر : تفصيل القضاء وتقدير ما قضى بحسب الأزمان من غير زيادة ولا نقصان ،
والقضاء : هو الحكم على الأشياء بما عليه أعيانها في أنفسها حال ثبوتها ، فما حكم عليها إلا بها ، فما حكم الله على أحد من خارج ،
والمجازاة : هو ترتيب مقتضيات أعمال الناس عليها وهو أيضا أحوال أعيانهم ، وأما الأعيان ، فإنها تتعين بما لها من الأحوال وتتميز بها في التجلي الذاتي ، فلا يمكن كونها على خلاف ما هي عليه في ذلك التجلي فإنها صور تعيناتها الذاتية " فَلِلَّه الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ " ولو صدق عليهم إبليس في قوله  " فَلا تَلُومُونِي ولُومُوا أَنْفُسَكُمْ " – "وما ظَلَمَهُمُ الله ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ".
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالحاكم في التحقيق تابع لعين المسألة التي يحكم فيها بما تقتضيه ذاتها .
فالمحكوم عليه بما هو فيه حاكم على الحاكم أن يحكم عليه بذلك ، فكل حاكم محكوم عليه بما حكم به وفيه كان الحاكم من كان فتحقق هذه المسألة .
فإن القدر ما جهل إلا لشدة ظهوره فلم يعرف وكثر فيه الطلب والإلحاح ) .
أي الحاكم بحكم القضاء السابق تابع في حكمه لسؤال استعداد المحكوم عليه بقابليته ، فإن القابل يسأل بمقتضى ذاته ما يحكم الحاكم عليه ، فلا يحكم الحاكم عليه إلا بمقتضى ذاته القابلة .
فالمحكوم عليه حاكم على الحاكم أن يحكم عليه بما في ذاته أن يقبله ، فكل حاكم أيّ حاكم كان محكوم عليه بما حكم به على القابل السائل إياه ما هو فيه ، ولم تخف هذه المسألة أي مسألة القدر إلا لشدة ظهوره.
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم أن الرسل صلى الله عليهم وسلم من حيث هم رسل لا من حيث هم أولياء وعارفون على مراتب ما هي عليه أممهم فما عندهم من العلم الذي أرسلوا به إلا قدر ما تحتاج إليه أمة ذلك الرسول لا زائد ولا ناقص ، والأمم متفاضلة يزيد بعضها على بعض ، فتفاضل الرسل في علم الإرسال بتفاضل أممها ، وهو قوله : " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ "  كما هم أيضا فيما يرجع إلى ذواتهم عليهم السلام من العلوم والأحكام متفاضلون بحسب استعداداتهم ، وهو قوله : " ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ ") هي فيما هي عليه أممهم ضمير مبهم تفسيره أممهم .
وللرسل صلى الله عليهم وسلم جهات ثلاثة :
جهة الرسالة : وهي تحمل الأحكام الإلهية المتعلقة بأفعال الأمم الموجبة لصلاح معادهم ومعاشهم ، وهم في ذلك أمناء لا يبلغون إلا ما حملوا .
وجهة الولاية : وهي الفناء
في الله بقدر ما قدر لهم من كمالات صفاته وأسمائه .
وجهة النبوة : وهي الإخبار عن الله بقدر ما رزقوا من معرفته ، فعلوم كل واحد منهم من جهة الرسالة ليست إلا بقدر ما تحتاج إليه أمته المرسل إليهم لا أزيد ولا أنقص ، لأنه إنما أرسل بسؤال استعدادهم ومقتضاه فلا يكلفهم إلا ما يسعه استعدادهم ، فبقدر ما تتفاضل الأمم في الاستعدادات تتفاضل الرسل في علوم الرسالة .
"" أضاف بالي زادة أي مقتضى خلقه دفعة واحدة في الأزل من الرزق الروحاني والجسماني .أهـ بالي زادة ""
 
ولهذا قال تعالى : " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا " الآية ، أي في علوم الرسالة لدلالة الرسل عليه ، وترتيب الحكم على الوصف وضمير هو يرجع إلى التفاضل المقدر بتفاضل الأمم .
وربما يطوى الله عنهم بعض العلوم الذي لا يحتاجون إليه في الرسالة وينافيها ظاهرا كالعلم بسر القدر ، فإنه يوجب فتور الهمة في الدعوة عن طلب ما هو غير مقدور.
ومقتضى الرسالة الجد والقوة والعزم فيها ، وكذلك في مراتب النبوة بحسب ذواتهم وأعيانهم متفاضلون في العلوم والمعارف والأحكام على مقتضى استعداداتهم الأصلية .
كما قال:  "ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ "  ولما كانت النبوة ظاهر الولاية والولاية باطنها كان تفاضلهم في النبوة بقدر تفاضلهم في الولاية ، فإن نبأهم الصادق إنما يكون عما هم فيه من الألوهية والربوبية
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وقال الله تعالى في حق الخلق " والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ في الرِّزْقِ " .
والرزق : منه ما هو روحاني كالعلوم ، وحسى كالأغذية ، وما ينزله الحق إلا بقدر معلوم وهو الاستحقاق الذي يطلبه الخلق ، فإن الله أعطى كل شيء خلقه فينزل بقدر ما يشاء ، وما يشاء إلا ما علم فحكم به وما علم كما قلناه إلا بما أعطاه المعلوم )
الخلق أعم من الأنبياء والأمم ، فإن جميع الناس يتفاضلون بذواتهم ومقتضى أعيانهم واستعداداتهم الأصلي في الرزق المعنوي والصوري ، وما ينزل عليهم ذلك الرزق إلا بقدر ما يطلبه كل أحد باستعداده الأصلي ، وفسر القدر المعلوم بالاستحقاق الذي يقتضيه خلقه أي عينه الثابتة عند خلقه ودخوله في الوجود ، والباقي معلوم مما مر .
( فالتوقيت في الأصلي للمعلوم ) أي التعيين بالوقت والسبب في نفس الأمر لما علم الله من أحوال كل عين ، وهو القدر المقدور ( والقضاء والعلم والإرادة والمشيئة تبع للقدر ) أي العين الثابتة ، فإن العلم الإلهي ليس إلا منها والحكم تبع للعلم ، وكذلك الإرادة والمشيئة والتوقيت هو القدر فكلها تبع القدر الذي هو نفس للعين.
""  أضاف بالي زادة :  ( فالتوقيت ) أي توقيت ما هي عليه الأشياء ( في الأصل المعلوم ) أي من اقتضاء ذات المعلوم ، فإنه طالب من الله ذلك التوقيت باستعداده. اهـ بالى زاده
( يعطى الراحة ) لعلمه أن كل الرزق الذي اقتضته ذاته لا بد أن يصل إليه فيستريح عن الطلب (والعذاب الأليم ) لعلمه أن ما لا يلائم غرضه من مقتضى ذاته كالفقر والمرض لا يزول البتة فلا يرى سببا للخلاص فيتألم به ، وهذا حكم سر القدر في الخلق ، وأما حكمه في الحق قوله ( وبه وصف نفسه ) اهـ بالى  . ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فسر القدر من أجل العلوم ، وما يفهمه الله تعالى إلا لمن اختصه بالمعرفة التامة ، فالعلم به يعطى الراحة الكلية للعالم به أيضا ، ويعطى العذاب الأليم للعالم به أيضا فهو يعطى النقيضين ، وبه وصف الحق نفسه بالغضب والرضا وبه تقابلت الأسماء الإلهية )
أما إعطاء العلم بالقدر صاحبه الراحة الكلية فظاهر ، لأنه إذا علم يقينا أنه لا يحصل له إلا ما قدر له مما ثبت في عينه الثابتة أزلا .
ولا يمكن فيه الزيادة والتغير والتبدل استراح من تعب الطلب ، وإن قدر له الطلب أجمل في الطلب ولم يتعب ، كما قال عليه الصلاة والسلام « إن روح القدس نفث في روعي : إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ، ألا فأجملوا في الطلب » .
لأنه يعلم أن جعل الطلب سببا للوصول لم يتخلف وصول المطلوب عنه ، وإن لم يجعل لم يصل إليه إن لم يكن من نصيبه ، فرضى بما رزق وأراح نفسه سيما إن رزق الحظ الأوفر :
قال الإمام علي رضي الله عنه في نهج البلاغة : " اعلموا علما يقينا أن الله لم يجعل للعبد وإن عظمت حيلته وقويت مكيدته ؟ واشتدت طلبته أكثر مما سمى له في الذكر الحكيم ، ولم يجعل بين العبد عند ضعفه وعدم حيلته دون ما سمى له في الذكر الحكيم ".
والعارف لهذا العامل به أعظم الناس راحة ، والتارك لهذا الشاك فيه أعظم الناس شغلا بما يضره .  ورب منعم عليه مستدرج بالنعمى، ورب مبتلى مصنوع له بالبلوى.
فزد إيها المستمع في شكرك، وقصر من عجلتك، وقف عند منتهى رزقك."أهـ
 
وأما عطاؤه العذاب الأليم فلأنه قد يؤمر بما يعلم أنه ليس في استعداده الإتيان به كما سيأتي في الرزق المحمدي ، وقد يرى أعيانا على أكمل استعداد لكل كمال وأوفر حظ في الدنيا والآخرة ، وقد تحقق أنه ليس في استعداده ذلك ولا يمكنه البلوغ إليه فيتألم ويتحسر لنقصان استعداده ، وعلى كل حال يكون أحسن حالا من المحجوب عن سر القدر وأقرب إلى الرضى .
وأما ترتب الرضى والغضب الإلهيين على حكم القدر فلأن الرضى يتبع الاستعداد الكامل المقتضى لقبول الرحمة والرأفة الموفق صاحبه للأعمال الجميلة والأخلاق الفاضلة والكمالات العلمية والعملية والأحوال الموجبة سعادة الدارين ، كما قيل : عنايته الأزلية كفايته الأبدية .
وأما الغضب فقد ترتب على نقصان الاستعداد وعدم القابلية للخير ، ولكمال السعادة والصلاحية لإتيان ما فيه نجاته ، وأهلية العلم والعمل النافع كما قيل في حق إبليس:
فلا سبيل إلى مرضاة ذي غضب  .... من غير جرم ولا يدرى له سببا
وأما تقابل الأسماء الإلهية بحكم القدر فظاهر مما ذكر في الرضى والغضب ، فإن أعيانا مخصوصة مظاهر الاسم اللطيف والجميل والمنعم ونظائرها ، وأعيانا أخر مظاهر للقاهر والجليل والمنتقم وأمثالها ، وليس ذلك إلا مقتضى استعداد ذاتها الذاتية وحقائقها العينية.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فحقيقة تحكم في الموجود المطلق والموجود المقيد لا يمكن أن يكون شيء أتم منها ولا أقوى ولا أعظم لعموم حكمها المتعدي وغير المتعدي ) .
المراد بالحقيقة سر القدر وحكمها في الموجود المطلق .
وفي بعض النسخ : في الوجود المطلق ، وهو الحق تعالى اقتضاؤها منه وسؤالها بلسان استعدادها أن يحكم على كل عين عين عند إيجادها بما في استعدادها وقابليتها أن يكون عليه وأن يحكم على كل أحد بما في وسعه .
""  أضاف بالي زادة : 
(لعموم حكمها) باللطف والقهر (المتعدي) أي الحق (و) لعموم حكمها بالسعادة والشقاوة ( غير المتعدي ) أي الخلق .
قال بعض الشراح : المراد بالحكم المتعدي الأحكام والتأثيرات التي تقع من الأعيان ، وغير المتعدي ما يقع في مظاهرها فيحتاج إلى حذف الموصوف بتقديره الحكم المتعدي.اهـ بالى
(لا ينال إلا بالذوق) فيختص بما تسعه العبارة، والذوقيات لا تقبل التعبير فلم تبق. اهـ بالي""
 
 كما قال تعالى : " لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَها " وحكمها في الموجود المقيد أن تكون الخلائق كلها على مقتضيات أعيانها لا يمكن لعين من الأعيان الخلقية أن تظهر في الوجود ذاتا وصفة ونعتا واسما وخلقا وفعلا إلا على حالها الثابتة في العدم .
وأما سر هذا السر أن هذه الحقائق والأعيان صور معلوماته الحق ليست زائدة على ذاته بل هي من تجلى ذاته في علمه بذاته بصور صفاته وشئونه الذاتية المقتضية للنسب الأسمائية .
فإن اعتبرت من حيث تعيناتها كانت صفات وشئونا ، وإن اعتبرت الذات المعينة بها كانت أسماء لأن الذات باعتبار كل تعين ونسبة اسم وهي من حروف الكلمات التي لا تتغير ولا تتبدل .
فإنه حقائق ذاتية للحق والذاتيات من صفات الحق لا تقبل الجعل والتغير والتبدل والزيادة والنقصان .
وإذا علمت أنها من تجليه الذاتي فلا وجود لها إلا في العلم ، وحكمها المتعدي تأثيراتها عند الوجود والظهور في الغيب ، ونسب بعضها إلى بعض بالفعل والانفعال والتعليم والتعلم والمحبة والعداوة وغير ذلك .
وغير المتعدي ما اختص بها من كمالاتها وخواصها وأخلاقها وصفاتها المختصة بها من الهيئة والشكل والعلم والجهل ، وكل ما لا يتعين بالغير .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما كانت الأنبياء صلى الله عليهم وسلم لا تأخذ علومها إلا من الوحي الخاص الإلهي ، فقلوبهم ساذجة من النظر العقلي لعلمهم بقصور العقل من حيث نظره الفكري عن إدراك الأمور على ما هي عليه ، والإخبار أيضا يقصر عن إدراك ما لا ينال إلا بالذوق ، فلم يبق العلم الكامل إلا في التجلي الإلهي ، وما يكشف الحق عن أعين البصائر والأبصار من الأغطية ، فتدرك الأمور قديمها وحديثها وعدمها ووجودها ومحالها وواجبها وجائزها على ما هي عليه في حقائقها وأعيانها ) .
النظر الفكري لا يبلغ إلا إلى أفق الوادي المقدس وهو الأفق المبين ، فكأنه باب الغيب ليقتنص منه المطلوب عليه فلا ينكشف المطلوب على صاحبه عيانا ، وكذلك الإخبار الإلهي بواسطة الملك ، ألا ترى إلى قوله:  "ولَقَدْ رَآه بِالأُفُقِ الْمُبِينِ . وما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ " ".
وأما أعيان العيان فلا يكون إلا بالكشف لذوي اللب الذين هم عرجوا إلى الأفق وجازوا إلى مقام " أَوْ أَدْنى " حيث " ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى "  .
وهناك تنكشف عليهم الحقيقة بالتجلي فيروا الأعيان والحقائق على ما هي عليه ، و « ما » في ما يكشف الحق مصدرية أي في التجلي الإلهي ، وكشف الحق عن أعين البصائر والأبصار بعض الأغطية التي عليها ، أو موصولة أي في التجلي الإلهي وفي الذي يكشفه الحق عن أعين
البصائر والأبصار من الأغطية فيكون من بيانا لما هو أقوى.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما كان مطلب العزيز عليه السلام على الطريقة الخاصة لذلك وقع العتب عليه كما ورد في الخبر ، فلو طلب الكشف الذي ذكرناه ربما ما كان يقع عليه عتب في ذلك ، والدليل على سذاجة قلبه قوله في بعض الوجوه " أَنَّى يُحْيِي هذِه الله بَعْدَ مَوْتِها ) .
 الطريقة الخاصة طريقة الوحي الإلهي المختصة بالأنبياء ، ولذلك وقع العتب أي ورد الجواب على طريقة العتاب ، لما ورد في الخبر : "لئن لم تنته لأمحون اسمك من ديوان النبوة "
لأن السؤال منه كان على خلاف مقتضى مقام الرسالة من الأمر والنهى لوقوعه على صيغة الاستبعاد والاستعظام لقدرة الله ، وكان حق مقامه أن يستصغر في جنب قدرة الله كل عظيم ، لأن كل مستبعد ومستعظم عقلا وعرفا فإنه في جنب قدرة الله سهل يسير وأمر حقير ، فإن كان مطلبه في قوله : " أَنَّى يُحْيِي هذِه الله بَعْدَ مَوْتِها " الاطلاع على سر القدر وكيفية تعلق القدرة بالمقدور من طريقة الوحي والإخبار المعهود عند الرسل .
 
""  أضاف بالي زادة :  (فلما كان مطلب العزيز ) وهو قوله "أَنَّى يُحْيِي هذِه الله بَعْدَ مَوْتِها " - ( على الطريقة الخاصة ) لله تعالى ، يدل عليه قوله بعده فطلب أن يكون له قدرة تتعلق بالمقدور ، وقوله فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق ذوقا ، فلا يجوز أن يكون المراد بها طريق الوحي كما جوزه البعض .
( لذلك ) أي لكون مطلبه على الطريقة الخاصة لله تعالى ( وقع العتب عليه كما ورد في الخبر ) وهو « لئن لم تنته لأمحون اسمك من ديوان النبوة » ( ولو طلب ) بهذا المطلب ( الكشف الذي ذكرناه ) الذي طريق الأنبياء والأولياء .
( ربما كان لا يقع عليه عتب ) في ذلك الطلب كما كان إبراهيم عليه السلام فإن مطلبه أمر ممكن حصوله للإنسان لذلك لم يقع عليه عتب ، فلما عتب الحق على العزيز علم أن مطلبه من الخصائص الإلهية .اهـ بالى"" .
 
فقد طلبه على الوجه الذي لا ينبغي فلا يعطى ، فلا جرم ورد الجواب على صورة العتاب لأن السؤال سؤال من لا تحقق له بحقائق المخاطبات الإلهية ، فلو طلب الكشف الذي هو طريق علمه فربما لم يقع عليه عتب في ذلك ، والدليل على سذاجة قلبه قوله في بعض الوجوه " أَنَّى يُحْيِي هذِه الله " أي من حيث أنه طلب الاطلاع من طريق الوحي على وجه الاستبعاد والاستعظام ، فإما أن يكون مطلبه من طريق الكشف والتجلي على وجه الشهود للطمأنينة فلا دليل فيه على سذاجة قلبه وعدمها ولا عتب .
وكان أنى  للتعجب كقول زكريا لمريم " أَنَّى لَكِ هذا " وإن كان من طريق العقل والنظر فلا سذاجة في استحقاق العتب .
هذا إذا كان المراد من الطريق الخاصة طريقة النبوة الخاصة به ، ويجوز أن يكون المراد بها الطريقة الخاصة باللَّه ، أي الاطلاع على القدر ذوقا ، المشار إليه في قوله : فسأل عن القدر ، إلى قوله : فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق ذوقا ، وحينئذ يكون المراد من بعض طلب شهود تعلق القدرة بالمقدور ذوقا كما ذكر الشيخ واستدل عليه بالعتب .
لكنه لا يليق ذلك بمنصب النبوة ، فإن جهل ذلك لا يليق بعلماء الأمم فضلا عن الأنبياء.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما عندنا فصورته عليه الصلاة والسلام في قوله هذا كصورة إبراهيم في قوله تعالى : "أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى " . ويقتضي ذلك الجواب بالفعل الذي أظهره الحق فيه في قوله: " فَأَماتَه الله مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَه " فقال له : " وانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً".
 فعاين كيف تنبت الأجسام معاينة تحقيق فأراه الكيفية ، فسأل عن القدر الذي لا يدرك إلا بالكشف للأشياء في حال ثبوتها في عدمها ، فما أعطى ذلك من خصائص الاطلاع الإلهي فمن المحال أن يعلمه إلا هو .
فإنها المفاتيح الأول أعنى مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو ، وقد يطلع الله من يشاء من عباده على بعض الأمور من ذلك )
يعنى أن قوله :  " أَنَّى يُحْيِي هذِه " عند أهل الحق طلب المعاينة للطمأنينة كسؤال إبراهيم ، فكان حق الجواب أن يريه عيانا وهو الإجابة بالفعل .
ولما كان الاطلاع على سر القدر والشهود لحقائق الأعيان وأحوالها كلها حال ثبوتها مما ليس لعين معين فيه قدم لأن ذلك من حقائق الحضرة الإلهية إذ لا يسع العين المقيد الاطلاع المطلق أراه في عينه بإماتته مائة عام ثم بعثه .
وقوله : "وانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ " حتى عاين كيفية الإحياء وتعلق القدرة بالمقدور معاينة تحقيق ولم يعطه ما دل عليه سؤاله من الاطلاع على تعلق القدرة بإحياء أهل القرية كلها ذوقا .


""  أضاف الجامي و بالي زادة : 
(فأراه الكيفية ) كما أراها إبراهيم فلا فرق في المطلب بالنظر إلى الآية ، وإنما كانت التفرقة في المطلب بين إبراهيم وعزيز من أمر خارج وهو العتب ، بل طلب عليه الصلاة والسلام أن يريه الحق كيفية إحياء الموتى ، ليكون في ذلك صاحب شهود لا صاحب نظر واستدلال ، ولا أهل خبر واستخبار.اهـ جامى .
( فما أعطى ذلك ) بل رده وأعطى ما يمكن في حقه وأنفع في نفسه ، فأراه الكيفية كما أجاب لمن سأل عن الأهلة فقال : " قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِّ " فأعطى الاطلاع على غير الطريقة الخاصة المطلوبة فلا يذوق كيفية الإحياء بل يشاهدها اهـ بالي.
( على بعض الأمور من ذلك ) الغيب كما قال تعالى :" عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِه أَحَداً إِلَّا من ارْتَضى من رَسُولٍ "  كمحمد عليه الصلاة والسلام في انشقاق القمر ، وعيسى في إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص اهـ بالى .""
 
 
فإن ذلك إنما يكون بالاطلاع على أعيانهم وأحوالها وهو القدر الذي استأثر الله بعلمه ، فإن حقائق الأعيان مفاتيح الغيب الأول لأنها حقائق الأسماء الذاتية ، إذ الذات مع كل عين اسم إلهي هو مفتاح خزانة الغيب الذي فيها ، وتلك المفاتيح إنما هي بيد الله إذا اطلع عين واحدة على الأعيان الأخرى وإلا لم تكن مقيدة ، لكن قد يطلع من يشاء من عباده على بعض ذلك إلا عين الكامل الخاتم ، فإنه مطلق عن القيود أو أحدى الشاهد والمشهود .
فالأعيان كلها في عينه والأسماء جميعا مندرجة في اسمه الذي هو الاسم الأعظم ، وقوله فسأل ليس عطفا على فأراه عطف الفعل على الفعل .
فإن السؤال ليس بمرتب على الإرادة ولم يعقبها بل هو من باب عطف قصة على قصة بعد تمام القصة الأولى باستثناف هو كالتعليل لما قبله كما في قصة البقرة وعطف أولها على آخرها بقوله  : " وإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً "  فكأنه لما بين كيف إجابة الفعل .
قال : فكان سؤاله عن القدر فلم يعطه ما سأل لكونه محالا بالنسبة إليه ، لامتناع إحاطة المقيد بالمطلق فأراه في عينه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فاعلم أنه لا تسمى مفاتيح إلا في حال الفتح وحال الفتح هو حال تعلق التكوين بالأشياء أو قل إن شئت حال تعلق القدرة بالمقدور ، ولا ذوق لغير الله في ذلك فلا يقع فيها تجل ولا كشف ، إذ لا قدرة ولا فعل إلا لله خاصة إذ له الوجود المطلق الذي لا يتقيد ) .
حال الفتح إذ هو حال ظهور ما في الخزانة الغيبية التي هي العين المذكورة ، ولا يكون الظهور إلا حالة تكون الأعيان ، وهي بعينها حال تعلق القدرة بالمقدور ولا شهود لذلك ذوقا لغير الحق تعالى ، فلا يقع فيها تجل ؟
ولا كشف لأحد غيره تعالى ، إذ له الوجود المطلق فله القدرة المطلقة على الكل ، لأن ما عداه مقيد وكل مقيد قابل فلا فعل له ولا تأثير فالقادر المطلق الشاهد قدرته في الكل ليس إلا الله وحده قال الشيخ رضي الله عنه :  (  فلما رأينا عتب الحق له عليه السلام في سؤاله في القدر علمنا أنه طلب هذا الاطلاع ) .
أي شهود تعلق القدرة بالمقدور ذوقا ( فطلب أن تكون له قدرة تتعلق بالمقدور ) أي الشهود الذوقي لتعلق القدر بالمقدور ، ولا يكون القادر بالذات الذي يشهد أحديته بالمقدور لظهور القادر في صورة المقدور بحيث لا تزول أحدية الذات بالنسبة الوصفية في القادر والمقدور.
 
""  أضاف بالي زادة : 
قيل إن كثيرا من الأسرار يعلم ولا يتكلم به كسر القدر ، فإن إبليس أحال أمره إلى سر القدر فلعن بذلك ، وإن آدم أضاف عصيانه إلى نفسه فأفلح ورحم .
وفي الخبر : ناجى بعض العارفين : إلهي أنت قدرت ، وأنت أردت وأنت خلقت المعصية في نفسي ، فهتف هاتف : يا عبدي هذا شرط التوحيد ، فما شرط العبودية ؟
فعاد وقال : أنا أخطأت ، وأنا أذنبت ، وأنا ظلمت نفسي فعاد الهاتف : أنا غفرت ، وأنا عفوت ، وأنا رحمت. أهـ بالي زادة .

فلا يقدر من له الوجود المقيد على الإيجاد والإعدام إلا لمن ارتضى من رسول ، فإنه عناية إلهية سبقت له في حقه ( مما أوحى الله به إليه ) يريد أن الانتهاء عن مثل هذا السؤال واجب عليك ، إما بنهي إلهي وإما بنهي عن نفسك ، والفرق بينهما أن النهى الإلهي يتعلق بوجود المنهي عنه بمعنى وجد في المحل ثم نهاه الله عنه ، والنهى عن النفس يتعلق بعدمه بمعنى لم يوجد في المحل أصلا فلما سأل نهى الله عن السؤال الذي لا يناسب حاله في عالمه فانتهى عن السؤال مع الندامة فقال لا أسأل لظنه أن عدم صدوره خير من أن يصدر عنه ، فبين الله أن وجود السؤال منه ثم النهى عناية له في حقه بقوله ( لئن لم تنته ) بنهي إلهي عن السؤال عن الاطلاع الخاص لله تعالى ( لأمحون اسمك من ديوان النبوة ) كي يحصل الانتهاء منك بنفسك إذ لا بد من الانتهاء عن السؤال الذي ليس في استعدادك ( أي ارفع ) جواب أما ، حذف الفاء فأقيم أي مقام ( عنك طريق الخير ) .أهـ بالى زادة. ""
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 9:45 am

14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية
الجزء الثاني
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما يقتضي ذلك إلا من له الوجود المطلق فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق ذوقا ) أي لا يكون شهود أحدية القادر والمقدور ، ولا يمكن إلا لمن له الوجود المطلق الذي لا يتقيد بشيء ، لا بقادر ولا مقدور ولا أمر آخر بوجه من الوجوه فلذلك حصل العتب .
وفي كلام الشيخ إشارة إلى أن طلب ذلك من طريق الكشف والتجلي غير ممنوع ولا مدفوع لمن شاء الله أن يطلعه على بعض ذلك بالتقييد .
وأما الاطلاع المطلق فيكون للخلق من حيث هو خلق أبدا ، ولكن لمن فنى عن اسمه ورسمه ولم يبق من إنيته ولعينه شيء ، فإذا استهلك فيه فقد يطلع على الحق بالحق من حيث هو حق ، وذلك إنما يكون لصاحب الاستعداد الأكمل ، كما قال عليه الصلاة والسلام « أوتيت البارحة مفاتيح خزائن الأرض والسماء » .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن الكيفيات لا تدرك إلا بالأذواق ، وأما ما رويناه مما أوحى الله به إليه « لئن لم تنته لأمحون اسمك من ديوان النبوة ، أي أرفع عنك طريق الخبر وأعطيك
الأمور على التجلي ، والتجلي لا يكون إلا بما أنت عليه من الاستعداد الذي به يقع الإدراك الذوقي ، فتعلم أنك ما أدركت إلا بحسب استعدادك فتنظر في هذا الأمر الذي طلبت ، فإذا لم تره تعلم أنه ليس عندك الاستعداد الذي تطلبه وأن ذلك من خصائص الذات الإلهية ، وقد علمت أن الله أعطى كل شيء خلقه ، فإذا لم يعطك هذا الاستعداد الخاص فما هو خلقك ولو كان خلقك لأعطاكه ؟
الحق الذي أخبر أنه " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه "  فتكون أنت الذي تنتهي عن مثل هذا السؤال من نفسك ، لا تحتاج فيه إلى نهى آخر) .

إنما تدرك الكيفيات بالذوق لأنها وجدانية مدركة بقوى نفسانية ومزاج خاص للروح المدرك كما في الطعوم المذوقة أو الروائح المشمومة ، فإن لم يكن له قوة الذوق والشم لا يجد الطعوم والروائح ولا يميزها في المذوق والمشموم ، وإن علمها وتميز بالعقل بعضها عن بعض ، وأما الحديث المروي في عتبه فإنه يفيد أن الكشف سر القدر يقتضي الأدب الحقيقي في السؤال وتركه ، لأنه إذا رفع عنه لإخبار وكشف له عن عينه اطلع على ما في عينه ، فإن رأى فيه الأمر الذي طلبه علم أنه أعطى ذلك باستعداده ، وإن لم يره علم أنه ليس فيه استعداد ذلك الأمر الذي يطلبه وأنه من خصائص الذات الإلهية ، وقد أعطى كل شيء خلقه يعطيه هذا الاستعداد الخاص وإلا كان في عينه الثابتة الغير المجعولة ، فلما لم يكن فيها انتهى عن مثل هذا السؤال من نفسه من غير احتياج فيه إلى نهى إلهي.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا عناية من الله بعزير عليه السلام ، علم ذلك من علمه وجهل من جهله )
 فإنه تأديب إلهي كما قال عليه الصلاة والسلام « أدبنى ربى فأحسن تأديبى.

""  أضاف بالي زادة : 
(علم ذلك) العناية (من علمه) وحمل هذا الكلام على العناية والمراد به نفسه قدس سره (وجهل من جهل) وحمل القول على العتب فلا يصح حمل الكلام على العتب. أهـ بالى . ""
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  (واعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العالم ولهذا لم تنقطع ولها الإنباء العام ، وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة ، وفي محمد عليه الصلاة والسلام قد انقطعت فلا نبي بعده ، يعنى مشرعا أو مشرعا له ولا رسول وهو المشرع ، وهذا الحديث قصم ظهور أولياء الله لأنه يتضمن انقطاع ذوق العبودية الكاملة التامة فلا ينطلق عليها اسمها الخاص بها ، فإن العبد يريد أن لا يشارك سيده وهو الله في اسم والله لم يتسم بنبي ولا رسول ، وتسمى بالولي واتصف بهذا الاسم فقال: " الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا " ، وقال " وهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ " )

الولاية هو الفناء في الله والله هو المحيط بالكل و " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه " يقتضي إحاطته بالكل وعدم انقطاع الولاية لأن الكل به موجود بنفسه فاني هالك ، ولهذه الولاية الإنباء العام أي التعريض الإلهي .
وإخبار كل مستعد طالب بخصائص التوحيد الذاتي والأسمائى لكل عارف باللَّه ، والباقي ظاهر إلى قوله:  وهذا الحديث قصم ، لأن الرجال الكمل يتحققون أن أسماء الرب لهم عارضة ، إنما أطلقت عليهم من حيث فناؤهم في الله تعالى ، وإن ما يختص بهم إنما هو صفات العبودية وأسماؤها ، والهمم العالية سموا إلى الذاتيات الخاصة الكاملة ، ولا أتم في خصائص العبودية ولا أكمل من النبي والرسول .
فإنهما من أشرف خواص العبودية وأفضلها ، إذ الرب لا يسمى بها ويسمى بالولي .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا الاسم ) أي الولي ( باقي جاري على عباد الله دنيا وآخرة ، فلم يبق اسم يختص به العبد دون الحق بانقطاع النبوة والرسالة إلا أن الله لطيف بعباده فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها ).
أي الإنباء عن الله تعالى بصفاته وأسمائه وأفعاله وكل ما يقرب به العبد إليه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأبقى لهم التشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام وأبقى لهم الوراثة في الشرائع ، فقال عليه الصلاة والسلام « العلماء ورثة الأنبياء » وما ثم ميراث في ذلك إلا فيما اجتهدوا فيه من الأحكام فشرعوه ، فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع ).

 كبيان التخلق بأخلاق الله ، وبيان قرب النوافل وقرب الفرائض ومقام التوكل والرضا والتسليم والتوحيد والتفريد والفناء والجمع والفرق وأمثال ذلك:

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن حيث هو ولى وعارف ، ولهذا مقامه من حيث هو عالم وولى أتم وأكمل من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع ، فإذا سمعت أحدا من أهل الله يقول أو ينقل إليك عنه أنه قال : الولاية أعلى من النبوة ، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه ) .
أي من أن النبي له مقام الولاية ومقام النبوة فمقام الولاية هي الجهة الحقانية الأبدية التي لا تنقطع ، ومقام النبوة هي الجهة التي بالنسبة إلى الخلق لأنه ينبئهم عن الله وآياته وهي منقطعة ، فالجهة الحقانية الأبدية التي لا تنقطع أبدا أعلى من الجهة الخلقية المنقطعة .

( أو يقول : إن الولي فوق النبي والرسول ، فإنه يعنى بذلك في شخص واحد ، وهو أن الرسول من حيث هو ولى أتم من حيث هو نبي ورسول ، لا أن الولي التابع له أعلى منه .
فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه ، إذ لو أدركه لم يكن تابعا له فافهم .
فمرجع الرسول أو النبي المشرع إلى الولاية والعلم ألا ترى الله قد أمره بطلب الزيادة من العلم لا من غيره فقال له آمرا " قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ".
وذلك أنك تعلم أن الشرع تكلف بأعمال مخصوصة ، أو نهى عن أفعال مخصوصة ، ومحلها هذه الدار فهي منقطعة ، والولاية ليست كذلك إذ لو انقطعت من حيث هي كما انقطعت الرسالة من حيث هي وإذا انقطعت من حيث هي لم يبق لها اسم ، والولي اسم باق لله ) .

لقوله تعالى عن يوسف " أَنْتَ وَلِيِّي في الدُّنْيا والآخِرَةِ "  ( فهو لعبيده تخلقا ) بأخلاقه ومكتسبا لها في السلوك ( وتحققا ) بألوهيته والفناء في أوصافه وذاته حتى يتحقق العبد بوجود الحق وصفاته من غير أن يبقى فيه شيء من السوي ( وتعلقا ) بالبقاء بعد الفناء في مقام التدلي حتى يكون متعلقا في صورته الخلقية به من جهة الاختصاص ، كولى الله وعبده المخلص.

 

"" أضاف بالي زادة : 
(فلم يبق مختص ) ظهر ( به العبد ) بالولاية وهي واجبة الظهور لمصالح العباد في الدين والدنيا إلى انقراض الزمان ، فأظهرها الله تعالى لطفا وعناية بعباده بإبقائه لهم النبوة العامة ، فظهر بها الولاية كما ظهر بالنبوة والرسالة ، وإليه أشار ( إلا أن الله لطيف بعباده ) اهـ بالى زادة.
(لعبيده تحققا) في إفناء ذاته في ذات الحق (وتخلقا) في إفناء صفاته في صفات الحق (وتعلقا) في إفناء أفعاله في أفعال الحق ، فظهر لك من هذا أن الولاية مع الرسالة أعلى مرتبة منها بدون الرسالة ، فإذا كان الأمر كذا .أهـ بالي زادة . ""


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقوله العزيز « لئن لم تنته » عن السؤال عن ماهية القدر « لأمحون اسمك من ديوان النبوة » فيأتيك الأمر على الكشف بالتجلي ويزول عنك اسم النبي والرسول وتبقى له ) أي لله .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولايته إلا أنه لما دلت قرينة الحال أن هذا الخطاب جرى مجرى الوعيد علم من اقترنت عنده هذه الحالة مع الخطاب أنه وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية في هذه الدار ، إذ النبوة والرسالة خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تحتوى عليه الولاية من المراتب ، فيعلم أنه أعلى من الولي الذي لا نبوة تشريع عنده ولا رسالة ).

الولاية أعم من النبوة والرسالة لأن كل رسول نبي وكل نبي ولىّ ، وليس كل ولى رسولا ولا نبيا ، فإذن النبوة والرسالة رتبتان خاصتان في الولاية .
وعند كشف سر القدر بالتجلي يقوى مقام الولاية ويضمحل حالتئذ مقام النبوة والرسالة ، ولا بأس بذلك إن كان لقوة بالاختصاص والتوغل في الثاني ، فإن مقام النبوة والرسالة تزولان في الآخرة وينقطعان ، وفي الدنيا يعودان عند القضاء حال التجلي.

كما قال عليه الصلاة والسلام « لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل » أو عند استمراره بالاستقامة إلا إذا دلت قرينة الحال أن هذا الخطاب وعيد علم من مدت عنده اقتران الوعيد بالخطاب أنه إنذار بانقطاع رتبة خاصة في الولاية في الدنيا وإذا انقطعت الرسالة انقطعت النبوة .
لأن نسبة الرسالة إلى النبوة نسبة النبوة إلى الولاية وارتفاع العام يستلزم ارتفاع الخاص ، فيفقد له بعض مراتب خاص في الولاية هي أخص أنواعها وأشرفها ، لأنه معلوم أن الولي النبي الرسول أعلى شأنا وأرفع قدرا من الولي الذي ليس بنبي مشرع ولا رسول.
وقوله على بعض ما تحتوى ، متعلق بمحذوف صفة لرتبة أي تحويه على بعض ما تحوى على الولاية من المراتب .


"" أضاف بالي زادة : 
( فقوله العزيز ) قوله ، فقوله مبتدأ خبره على الوجهين حذف لدلالة الكلام الآتي عليه ، فلما بين أن الخطاب عنده عناية له شرع في اختلاف القوم فيه بقوله ( إلا أنه لما دلت قرينة الحال اهـ بالى .
( ومن اقترنت عنده حالة أخرى ) وهو أن النبي لكونه وليا عارفا لا يمكن أن يسأل من الله ما لا يمكن حصوله. اهـ بالي
( هذا الاختصاص ) وهو كونه عارفا بربه وأسمائه. أهـ بالي ""


قال الشيخ رضي الله عنه:  ( ومن اقترنت عنده حالة أخرى تقتضيها أيضا مرتبة النبوة ثبت عنده أن هذا وعد لا وعيد ،فإن سؤاله عليه الصلاة والسلام مقبول إذ النبي هو الولي الخاص).
فإن الخاص ملزوم العام أي مدت عنده قرينة أخرى من مقتضيات مرتبة النبوة أيضا ، وهي أن النبي الذي هو ولى خاص لا يقدم على ما يكرهه الله تعالى منه ، ولا على سؤال ما يعلم أن حصوله محال علم أن هذا وعد لا وعيد .
لأن الذي له هذا الاختصاص لا يكون سؤاله إلا مقبولا ، فيكون معنى محو اسمه من ديوان النبوة كشف سر القدر المطلوب بالتجلي له ، ونيل المسؤول المرغوب بموهبة رتبة في الولاية بقي أعلى مراتبها باقية عليه أبدا.


 قال الشيخ رضي الله عنه :  (ويعرف بقرينة الحال أن النبي من حيث له في الولاية هذا الاختصاص محال أن يقدم على ما يعلم أن الله يكرهه منه ، أو يقدم على ما يعلم أن حصوله محال )
"" أضاف بالي زادة : 
(بعد الدخول فيهما ) فعلى هذا التقدير كان معناه يا عزير انته عن السؤال عن ماهية القدر التي ممكن الحصول لك ، لكن ليس هذا وقته ، لئن لم تنته في حصوله بغير أوانه ، لأمحون اسمك من ديوان النبوة ، وهي أدنى من مرتبتك ، وأبقيتك على ولايتك وهي أعلى مرتبة لك من نبوتك فحينئذ يحصل مرادك ، فما كان في شأنك في هذا الوقت إلا حصول لكيفية سر القدر لا ذوقه ، فأراه الكيفية الآن ، ووعد ذوقه في الآخرة فكان هذا الخطاب وعد الحصول مطلب العزيز وهو الذوق بسر القدر وخبرا يدل على بقاء مرتبة العزيز وهي المرتبة الباقية على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اهـ بالى . ""


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإذا اقترنت هذه الأحوال عندما اقترنت عنده وتقررت أخرج هذا الخطاب الإلهي عنده في قوله « لأمحون اسمك من ديوان النبوة » مخرج الوعد ، فصار خبرا يدل على مرتبة باقية ، وهي المرتبة الباقية على الأنبياء والرسل في الدار الآخرة التي ليست بمحل لشرع يكون عليه أحد من خلق الله في جنة ولا نار بعد الدخول فيهما ) ..
إنما لا يبقى في الدار الآخرة إلا الولاية لأنها دار الجزاء لا دار التكليف والتشريع.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما قيدناه بالدخول في الدارين الجنة والنار لما يشرع يوم القيامة لأصحاب الفترات والأطفال الصغار والمجانين فيحشر هؤلاء في صعيد واحد لإقامة العدل والمؤاخذة بالجريمة والثواب العملي في أصحاب الجنة ، فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل عن الناس بعث فيهم نبي من أفضلهم ، وتمثل لهم نار يأتي بها هذا النبي المبعوث في ذلك القوم ، فيقول لهم : أنا رسول الله إليكم ، فيقع عندهم التصديق به ويقع التكذيب عند بعضهم ويقول لهم : اقتحموا هذه النار بأنفسكم ، فمن أطاعني نجا ودخل الجنة ، ومن عصاني وخالف أمرى هلك وكان من أهل النار ، فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها سعد ونال الثواب ووجد تلك النار بردا وسلاما ، ومن عصاه استحق العقوبة ودخل النار ونزل فيها بعمله المخالف ، ليقوم العدل من الله في عباده ) .

أصحاب الفترات هم الذين نشئوا في زمان الفترة بين رسولين ، فلم يعلموا بشريعة الرسول المقدم لأنه لم يدركها ولم يشرع بعد شرع النبي الآنى ، ولعل الصعيد الذي يحشرون فيه من أرض الساهرة ، فمن أراد أن يطلع بحقيقته فليطلبه من التأويلات التي كتبناها في القرآن ، والنار التي تمثلت لهم هي صورة تكليف النبي المبعوث في ذلك اليوم والباقي ظاهر .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك قوله تعالى : " يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ "  أي أمر عظيم من أمور الآخرة ويدعون إلى السجود فهذا تكليف وتشريع ، فمنهم من يستطيع ومنهم من لا يستطيع ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم " ويُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ "  كما لا يستطيع في الدنيا امتثال أمر الله بعض العباد كأبي جهل وغيره ، فهذا قدر ما يبقى من الشرع في الآخرة يوم القيامة قبل دخول الجنة والنار ، فلهذا قيدناه والحمد لله الولي ) .
وإنما يبقى هذا القدر من الشرع إلى يوم القيامة لأن الدار الآخرة دار الجزاء ، والمذكورون من الطوائف هم الذين لم يعملوا عملا يترتب عليه الثواب والعقاب ، فإن استحقاقهما وإن كان أصلا من رضى الله وسخطه فلا بد من عمل يكون سبب ظهورهما وليس لهم عمل.
 فأبقى الله تعالى من حضرته اسم العدل والحكم ، هذا القدر من الشرع أخره إلى ذلك اليوم ليظهر استحقاقهم لنيل الثواب والعقاب بحسب الطاعة والمعصية .
وأما الذين يدعون إلى السجود مع عدم الطاعة فذلك تصوير وتذكير بحالهم في دار التكليف لهم إلزاما للحجة عليهم .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:41 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
إنما اختصت الكلمة العيسوية بالحكمة النبوية ، وإن كان جميع هذه الحكم نبوية لأن نبوته فطرية غالبة على حاله ، وقد أنبأ عن الله في بطن أمه بقوله "أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ  رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا" وفي المهد بقوله " آتانِيَ الْكِتابَ وجَعَلَنِي نَبِيًّا " إلى بعثته وهو الأربعون لقوله عليه الصلاة والسلام « ما بعث نبي إلا بعد تمام الأربعين » .
وقيل إنها ليست مهموزة من النبأ ، بل ناقصة من نبا ينبو نبوا بمعنى ارتفع لارتفاع مقامه كما يأتي ، ولقوله : " بَلْ رَفَعَه الله إِلَيْه " ولختم الولاية عليه ، والله أعلم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  
( عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين  .... في صورة البشر الموجود من طين )
( تكون الروح في ذات مطهرة  ..... من الطبيعة تدعوها بسجين )
لما كانت النبوة مدرجة في الكلمة الإلهية التي هي حقيقة عيسى الملقب بروح الله في ذات مطهرة من عالم الطبيعة في حالة كونك تدعو تلك الطبيعة أو يدعوها الظاهرة في صورة بشرية طبيعية احتمل تكونه من ماء مريم لنشأته الطبيعية ، فإنها نفس طاهرة منبأة من عند الله بما يكون عنها في قوله تعالى : " إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْه اسْمُه الْمَسِيحُ ".
"" أضاف بالي زادة : ( عن ماء مريم ) استفهام تقرير حذفت همزته ( أو ) بمعنى الواو ( عن نفخ جبرين ) أي جبريل ( في ) يتعلق بجبرين ( صورة البشر الموجود ) أي المخلوق ( من طين ) وعن متعلق بقوله : ( تكون الروح ) العيسوى ( في ذات مطهرة ) ذات مريم ( من الطبيعة ) أي من أدناسها وأرجاسها ومقتضياتها من اللذات الشهوانية ( تدعوها ) أي الطبيعة التي تدعو مريم أي شأن هذه الطبيعة أن تدعو مريم ( بسجين ) أي جحيم .اهـ بالى  زادة.""
 
ومن نفخ جبريل فإنه الروح الأمين على أنباء الله التي أنبأ بها جميع الأنبياء عن الحق ومنهما جميعا بحسب روحانيته وجسمانيته فاستفهم عن وجود نشأته ، أنه من أيهما تكون لاحتمال الجميع في النظر العقلي .
 فقال : أعن ماء مريم بل أعن نفخ جبرين تكون هذا الروح ، وهذا الاستفهام مبنى على النظر العقلي .
وأما بحسب الكشف فهو الكلمة الإلهية التي أنبأ الله أمه وجبريل هو الواسطة الذي وقع على لسانه إلى أمه وأداه إلى قلبها كسائر الأنباء التي ألقاها إلى الأنبياء ، ولا بد من توسط الروح الذي هو جبريل ليتعين هذا الروح والكلمة الإلهية ويصل إلى مريم عليها السلام :
 
(لأجل ذلك قد طالت إقامته  .... فيها وزاد على ألف بتعيين )
أي من أجل تكون هذا الروح في ذات مطهرة من الطبيعة الفاسدة وهي الصورة المثالية ، أو ذات كائنة من عالم الطبيعة طهرت من الخبائث وهو صورة عيسى أو أمه .
"" أضاف بالي زادة : (لأجل ذلك ) أي لأجل تكون الروح العيسوى في الذات المطهرة ( قد طالت إقامته فيها ) أي في السماوات ، فإن طهارة المحل تبعد الحال عن الكون والفساد ( فزاد على ألف بتعيين ) مبين؟؟؟ في علم التواريخ إلى حين اهـ بالى . ""
 
طالت إقامتها في صورة البشر وزاد طول إقامتها على ألف على التعيين ، فإن مولد عيسى كان قبل مولد النبي عليه الصلاة والسلام بخمسمائة وخمس وخمسين سنة .
وقد بقي بعد ، وسينزل ويدعو الناس إلى دين محمد عليه الصلاة والسلام فزاد على ألف بالتعين فعلى هذا طال إقامته في صورة البشر إما معللا بطهارته ونزاهته من الطبيعة وإما بطهارة أمه ، وكونه في صورة البشر إنما هو لأجل المحل القابل وهو الطبيعة :
( روح من الله لا من غيره فلذا   .... أحيا الموات وأنشأ الطير من طين )
أي هو روح كامل مظهر لاسم الله ، والله هو النافخ له من حيث الصورة الجبريليه لا غيره ، فهو من اسم ذاتي لا من اسم من الأسماء الفرعية ، فيكون بينه وبين الله وسائط كثيرة كسائر أرواح الأنبياء .
فإنها وإن كانت من حضرة اسم الله لكن بتوسط تجليات كثيرة من سائر الحضرات الأسمائية وعيسى تعين من باطن أحدية جمع الحضرة الإلهية ، ولهذا سماه روحه وكلمته وكانت دعوته إلى الباطن والعالم القدسي .
"" أضاف بالي زادة : ( روح ) خبر مبتدإ محذوف ( من الله لا من غيره ) أي خلقه الله بذاته لا بواسطة روح من الأرواح ( فلذا ) أي فلكون روحه من الله لا من غيره ( أحيا الموات وأنشأ الطير من طين ) بسبب تقربه إلى الله وتحققه بصفاته أحيا الموات وأنشأ الطير اهـ بالى . ""
 
 فإن الكلمة إنما هي من باطن الله وهويته الغيبية من الله واسمه الجبريلى ولهذا هو عبد الله ومظهره ، وظهر عليه صفاته من إحياء الموتى والخلق وأنشأ الطير من الطين وأبرأ الأكمه وغيرها :
( حتى يصح له من ربه نسب  .... به يؤثر في العالي وفي الدون )
أي لما صدر من الله بلا وسائط لا من غيره صح له نسب بظهور صفاته تعالى منه وصدور أفعاله الخاصة به عنه من إحياء الموتى وخلق الطير ، وبتأثيره في الجنس العالي من الصور الإنسانية بإحيائها ، وفي الجنس الدون كخلق الخلق الخفاش من الطين وهما من خصائص الله.
"" أضاف بالي زادة : ( حتى يصح ) أي كي يصح ( له من ربه نسب ) بفتح النون مصدر ، أو بالكسر جمع نسبة وكلاهما صحيح ( به ) أي بسبب هذا النسب ( يؤثر في العالي ) وهو إحياء الموتى من الإنسان ( وفي الدون ) خلق الطير المعروف من الطين اه ( الله طهره جسما ) من أرجاس الطبيعة ( ونزهه روحا ) عما يوجب النقائص وزينه بالصفات الإلهية ( وصيره ) جعله ( مثلا ) أي مماثلا له تعالى ( بتكوين ) أي بسبب تكوين الطير اهـ بالى . ""
 
 كما قال تعالى : " قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ " - :
( الله طهره جسما ونزهه   ..... روحا وصيره مثلا بتكوين )
 
وفي نسخة : لتكوين ، أي الله خاصة طهر جسمه عن الأقذار الطبيعية ، فإنه روح متجسد في بدن مثالي روحاني ولذلك بقي مدة مديدة زائدة على ألف في زماننا هذا ، ومن الهجرة سبعمائة وثلاثون بثلاثمائة وستة وثلاثين ، فإن من ميلاد النبي إلى زماننا هذا سبعمائة وإحدى وثمانين سنة ، وذلك إما من صفاء جوهر طينته ولطافتها وصفاء طينة أمه وطهارتها ، ونزه روحه وقدسه من التأثر بالهيئات الطبيعية والصفات البدنية لتأيده بروح القدس الذي هو على صورته ، ولهذا ما قتل وما صلب كما أخبر الله عنه لتجرده عن الملابس الهيولانية ، وصيره مثلا له بتكوين الطير من الطين وتكوين الأعراض من الحياة والصحة في الموتى والمرضى في نشأته الأولى ، وبكونه خليفة الله وخاتم الولاية في نشأته الثانية أي مثله في الصفات ، أو صيره مثل الخلق في الصورة بتكوينه تعالى إياه من الطبيعة الجسمانية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أن من خصائص الأرواح أنها لا تطأ شيئا إلا حيى ذلك الشيء وسرت الحياة فيه ولهذا قبض السامري قبضة من أثر الرسول الذي هو جبريل وهو الروح وكان السامري عالما بهذا الأمر فلما عرف أنه جبريل عرف أن الحياة قد سرت فيما وطئ عليه فقبض قبضة من أثر الرسول بالضاد أو بالصاد أي بملء يده أو بأطراف أصابعه فنبذها في العجل فخار العجل ، إذ صوت البقر إنما هو خوار ، ولو أقامه صورة أخرى لنسب إليه اسم الصوت الذي لتلك الصورة كالرغاء للإبل ، والثؤاج للكباش ، واليعار للشياه ، والصوت للإنسان أو النطق أو الكلام )
 لما كانت الحياة للروح ذاتية لأن الروح من نفس الرحمن لم يؤثر في جسم إذ لم يباشره بالصورة المثالية إلا ظهر فيه خاصية الحياة وأثر من آثارها بحسب صورة ذلك الجسم ، فإن كان ذا مزاج معتدل قابل للحياة ظهر فيه الحس والحركة وجميع خواص الحياة بحسب المزاج المخصوص ، وإن لم يكن ظهر فيه أثر من الحياة بحسب صورته كالخوار لصوت البقر ، وكلما كان الروح أقوى كان تأثيره أقوى وأشد وخاصيته أظهر .
"" أضاف بالي زادة : ( وسرت الحياة فيه ) لأن الحياة أول صفة تعرض الروح فيؤثر بها الروح فيما يطأ عليه . ""
 
وجبريل عند أهل العرفان هو الروح الكلى المسلط على السماوات السبع وما تحتها من العناصر والمواليد ومحل سلطنته السدرة المنتهى وهي صورة نفس الفلك السابع .
وكل ما في المرتبة العالية من الأرواح فهو مؤثر في جميع ما في المراتب السافلة التي تحتها فأرواح سائر الأفلاك التي تحت السابع كأعوانه وقواه .
وأما روح فلك القمر الذي سماه الفلاسفة العقل الفعال ، فالعرفاء يسمونه إسماعيل ، وهو ليس بإسماعيل النبي عليه السلام بل ملك مسلط على عالم الكون والفساد من أعوان جبريل وأتباعه ، وليس له حكم فيما فوق فلك القمر .
كما لا حكم لجبريل فيما فوق السدرة فظهر جبريل في الصورة المثالية على الحيزوم الذي هو أيضا صورة متمثلة من الروح الحيواني سرى في التراب الذي وطئ عليه فسرت فيه قوة الحياة المتعدية وكان السامري عالما بذلك فقبض قبضة من ذلك التراب فنبذها في الصورة المفرغة على صوره العجل فظهر فيه ما ناسب صورته من الحياة وهو الخوار .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء يسمى لاهوتا ، والناسوت هو المحل القائم به ذلك الروح فيسمى الناسوت روحا بما قام به )
لما كانت الحياة من خواص الحضرة الإلهية بل هي عين الذات الإلهية سميت الحياة السارية في الأشياء لاهوتا ، والمحل القائم به ذلك الروح الحي الذي يحيا به المحل ناسوتا وقد سمى المحل الذي يقوم به الروح روحا مجازا تسمية المحل باسم الحال كالرؤية .
وإذا كان المحل الذي يقوم به صورة إنسانية سميت ناسوتا بالحقيقة ، وإذا كان غير الصورة الإنسانية سميت ناسوتا مجازا باعتبار كونه محلا للاهوت
"" أضاف عبد الرحمن جامي : (هو المحل القائم به ذلك الروح ) بل صفاته السارية منه فيه ، فإن الروح ليس قائما بالمحل بل القائم بها هو الصفات السارية من الروح إليه ، والناسوت وإن كان مأخوذا من الناس ليس مخصوصا به بل يطلق عليه وعلى غيره باعتبار محليته لصفات الروح وقيامها به . ولما كان اسم الروح يطلق على الصورة وعلى الصورة المثالية الجبريلية أراد أن ينبه على أنه على سبيل التجوز فقال ( فتسمى الناسوت روحا ) اهـ جامى . ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما تمثل الروح الأمين الذي هو جبريل لمريم عليها السلام  " بَشَراً سَوِيًّا " تخيلت أنه بشر يريد مواقعتها فاستعاذت باللَّه منه استعاذة بجمعية منها أي بكلية وجودها ) وجوامع هممها بحيث صارت منخلعة من جميع الجهات إلى الله
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ليخلصها الله منه لما تعلم أن ذلك مما لا يجوز ، فحصل لها حضور تام مع الله وهو الروح المعنوي )
لأن حضورها مع الله نفس عنها الحرج الذي بها ، فحصل لها روح معنوي لا يكون إلا بتجل نفسي رحماني .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلو نفخ فيها في ذلك الوقت على هذه الحالة لخرج عيسى لا يطيقه أحد لشكاسة خلقه لحال أمه )
لأن الروح في كل محل يظهر بحسب حال المحل ، فلو كان نفخ الروح فيها في حال الاستعاذة ، وهي حال التحرج والضجر من تخيلها وقوع الفاحشة من البشر الذي تمثل لها ، وكان في صورة التقى النجار لجاء عيسى منقبضا شكس الخلق على صور حال أمه لأنها لما رأته وكانت مقبلة إلى الله زاهدة في الدنيا حصورة عن النكاح تضجرت وحرجت نفسها مما رأت ، فعلم الروح الأمين منها ذلك فآنسها بقوله – " إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ " .


قال الشيخ رضي الله عنه :   ( فلما قال لها – "إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ " - جئت – " لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا " - انبسطت عن ذلك القبض وانشرح صدرها فنفخ فيها ذلك الحين عيسى ، فكان جبريل ناقلا كلمة الله لمريم كما ينقل الرسول كلام الله لأمته وهو قوله – " وكَلِمَتُه أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنْه " - فسرت الشهوة في مريم ، فخلق جسم عيسى من ماء محقق من مريم ، ومن ماء متوهم من جبريل سرى في رطوبة ذلك النفخ ، لأن النفخ من الجسم الحاوانى رطب لما فيه من ركن الماء ، فتكون جسم عيسى من ماء متوهم ومن ماء محقق ، وخرج على صورة البشر من أجل أمه ومن أجل تمثل جبريل في صورة البشر ، حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنسانى إلا على الحكم المعتاد )


إنما سرت الشهوة في مريم حين قال لها ما قال ، لأنها آنست حين كانت في محرابها بقول الملائكة في قوله تعالى –"إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْه اسْمُه الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ . وَجِيهاً في الدُّنْيا والآخِرَةِ ومن الْمُقَرَّبِينَ " –
فكانت منتظرة من الله إنجاز وعده . فلما سمعت قول جبريل تذكرت وعلمت أنه حان وقت ذلك وانبسطت ودنا منها جبريل في صورة البشر عند النفخ فتحركت شهوتها بحكم البشرية لأن أكثر هيجان الشهوة في النساء وقت النقاء من الحيض ، وكان انتباذها من فوتها للاغتسال وقت انقطاع الدم ، وكان الوقت وقت غلبة الشهوة ودنو جبرائيل منها في صورة الشاب الحسن ، وتصورت أنه وقت إنجاز وعد ربها – " لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا " .
فاجتمعت الموافقة لما قدر الله من غلبة الشهوة وتمنى ما بشر الله بها وفرح بمداناة الشاب المليح ، فتحركت الشهوة كما في الاحتلام بعينه ، فاحتلمت وجرى ماؤها مع النفخ إلى الرحم النقي الطاهر فعلقت وخلق من ماء محقق من مريم ومن ماء متوهم متخيل من نفخ جبريل .
 
"" أضاف بالي زادة : ( من ماء متوهم ومن ماء محقق ) فكان لكل واحد منهما خواص تظهر من عيسى اهـ . بالى
فإن حفظ هذه الصورة الشريفة واجب على أنه لو لم يكن على هذه الصورة لما كان نبيا مبعوثا إليهم لعدم بقاء المناسبة بينه وبينهم هذه الصورة صورة الآيات أو صورة عيسى .اهـ بالى . ""
 
 لأن النفخ من الحيوان رطب فيه أجزاء لطيفة مائية بالفعل مع أجزاء هوائية سريعة المصير إلى الماء ، واجتمع الماءان المحقق والمتكون لتوهمها من مادة النفخ فتكون جسم عيسى روح الله منهما في وقت غلب على أمه البسط والروح بتحقق ما بشرت به في تصورها .
فخرج منشرح الصدر طليق الوجه متبشرا بساطا حسن الصورة غالبا عليه البسط والماء المتوهم ، جاز أن يكون من توهمها أن الولد لا يكون إلا من ماء الرجل فخلق الماء من النفخ بقوة وهمها.
وأن يكون من جهة جبريل لأنه سلطان العناصر يقدر أن يجرى من نفسه الرحماني روح الماء في النفخ فيجعله ماء ، وأما كون عيسى على صورة البشر فلانتسابه إلى أمه ولتمثل جبريل في صورة البشر السوي فكان تكونه على السنة المعتادة والحكمة المتعارفة .
ولأن أشرف الصور هي الصورة الإنسانية المخلوقة على صورة الله تعالى المكرمة عند الله ، ولأن الله لا يتجلى في الحضرات الإيجادية إلا في صورة النوع الذي يوجده أي نوع كان .
ولهذا لما خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا كان متجليا في صورة إنسانية .
ولهذا قال الشيخ رضي الله عنه : حتى لا يقع التكوين الإنسانى إلا على الحكم المعتاد في هذا النوع ، فإن تكوين عيسى كان في هذا النوع .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فخرج عيسى يحيى الموتى لأنه روح إلهي ، وكان الإحياء لله والنفخ لعيسى كما كان النفخ لجبريل والكلمة لله )
كل موجود كلمة من الله : إما كونية كالأجساد وإما إبداعية كالأرواح ، وإما أحدية جمعية من الظاهر والباطن ، واللاهوت والناسوت كالإنسان الكامل .
والغلبة في كل كامل إنما تكون لمرتبة من المراتب ، وكان الغالب على عيسى حكم اللاهوت فلذلك كان يحيى الموتى وكان الغالب على جسمانيته حكم الروح ، فلذلك رفع إلى الله وبقي عنده في الصورة الروحانية المثالية ، وقد مر أن الفعل والتأثير لا يكون إلا لله ، فلهذا كان الإحياء لله عند نفخ عيسى والكلمة لله عند نفخ جبريل .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان إحياء عيسى للأموات إحياء محققا من حيث ما ظهر من نفخه ) .
أي من حيث حصول الإحياء عند نفخه ظاهرا رأى عين فتصح إضافة الإحياء إليه بشاهد الحق عرفا وعادة وتحقيقا أيضا ، لأن هويته هو الله وهو أحدية جمع اللاهوت والناسوت والروحية والصورية ، فيضاف حقيقة من حيث حقيقته اللاهويته .
( كما ظهر هو عن صورة أمه ) أي في المعتادة من ولادة الأولاد ، بهذا الوجه أضيف إلى أمه ونسب إليها فقيل فيه إنه عيسى بن مريم ، وهكذا إضافة الإحياء إلى الصورة العيسوية النافخة للأحياء ( وكان إحياؤه أيضا متوهما أنه منه وإنما كان لله )
وفي نسخة : وإنما كان من الله وهو أصح ( فجمع ) أي الإحياء المحقق والمتوهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بحقيقته التي خلق عليها كما قلناه إنه مخلوق من ماء متوهم وماء محقق ، ينسب إليه الإحياء بطريق التحقيق من وجه ، وبطريق التوهم من وجه فقيل فيه من طريق التحقيق – فـ " تُحْيِ الْمَوْتى " - وقيل فيه من طريق التوهم – " فَأَنْفُخُ فِيه فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله " - فالعامل في المجرور يكون لا تنفخ ، ويحتمل أن يكون العامل فيه تنفخ فيكون طائرا من حيث صورته الجسمية )
أي لما كان أصل خلقته من ماء محقق وماء متوهم ظهر ذلك في فعله فنسب إليه الإحياء من الوجهين بطريق التحقيق وطريق التوهم .
لأن الفعل فرع على أصل تكوينه فقيل في حقه في الكلام المعجز ما يدل على الوجهين : أما من طريق التحقيق فقوله - فتحى الموتى - وأما من طريق التوهم – " فَأَنْفُخُ فِيه فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله " - على أن العامل في بإذن الله يكون لا تنفخ فيه فيكون الموجب لكونه طيرا إذن الله .
وأمره لا نفخ عيسى ، وإن جعلنا العامل تنفخ كان الموجب لكونه طيرا هو نفخ عسى بإذن الله ، وكان طيرا من حيث أن صورته الجسمية الحسية صورة طير لا طير بالحقيقة .
 
واعلم أن الإذن هو تمكين الله للعبد من ذلك وأمره به ، فيكون عين العبد المأذون له في إيجاد المأمور والخارق العادة التي لا تنسب إلا إلى الله في العادة .
فحشا معينا بها في الأزل مختصة بذلك الاستعداد علم الله تعالى أن يفعل ذلك عند وجوده وحكم به فيكون حكمه بذلك هو الإذن ، وتمكين عينه الثابتة في الأزل باستعدادها الذاتي هو عناية الله في حقه ، والله أعلم.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك تبرئ الأكمه والأبرص وجميع ما ينسب إليه وإلى إذن الله وإذن الكناية في مثل قوله بإذني وإذن الله ، فإذا تعلق المجرور بتنفخ فيكون النافخ مأذونا له في النفخ ويكون الطائر عن النفخ بإذن الله ، وإذا كان النافخ نافخا لا عن الإذن فيكون التكوين للطائر طائرا بإذن الله فيكون العامل عند ذلك يكون ، فلو لا أن في الأمر توهما وتحققا ما قبلت هذه الصور هذين الوجهين ، بل لها هذان الوجهان ، لأن النشأة العيسوية تعطى ذلك ) .
هذا غنى عن الشرح ومعلوم مما مر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وخرج عيسى من التواضع إلى أن شرع لأمته أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وأن أحدهم إذا لطم في خده وضع الخد الآخر لمن يلطمه ولا يرتفع عليه ولا يطلب القصاص منه ، هذا له من جهة أمه إذ المرأة لها السفل فلها التواضع لأنها تحت الرجل حكما وحسا ) لما كان ماء المرأة محققا كان الغالب على أحواله الجسمانية الخصال الانفعالية واللين لما في الإناث من السفل حكما لقوله – " الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ " - وقوله – " لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ " - و – " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ " - وشهادة امرأتين بشهادة رجل واحد وحسا ظاهر.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما كان فيه من قوة الإحياء والإبراء فمن جهة نفخ جبريل في صورة البشر فكان عيسى يحيى الموتى بصورة البشر ، ولو لم يأت جبريل في صورة البشر وأتى في صورة غيرها من صور الأكوان العنصرية من حيوان أو نبات أو جماد كان عيسى لا يحيى الموتى إلا حين يتلبس بتلك الصورة ويظهر فيها ، ولو أتى جبريل بالصور النورية الخارجة عن العناصر والأركان إذ لا يخرج عن طبيعته لكان عيسى لا يحيى الموتى إلا حين يظهر في تلك الصورة النورية لا العنصرية مع الصورة البشرية من جهة أمه فكان يقال فيه عند إحيائه الموتى هو لا هو ، وتقع الحيرة في النظر إليه ) .
لما كان الإحياء والإبراء من خصائص الأرواح ، لأن الحياة لها ذاتية كانت له خاصية الإحياء من جهة جبريل ، فكان عيسى ينتسب إليه في تلك الخاصية على الصورة التي تمثل بها عند النفخ وإلقاء الكلمة إلى مريم ، لأنه عليه السلام نتيجة تلك الصورة ولهذا يغلب على الولد ما يغلب على الوالد من الأخلاق والهيئات النفسانية حين ينفصل عنه مادة الولد ، ولو أتى بصورة غير الصورة البشرية لما قدر عيسى على الإحياء إلا في تلك الصورة سواء كانت عنصرية عارضية مما له عليها حكم وسلطنة أو نورية طبيعية له .
"" أضاف بالي زادة : ( فكان يقال فيه ) حين تلبسه بالصورتين عند إحيائه الموتى ( هو ) من حيث تلبسه بالصورة البشرية ( لا هو ) من حيث تلبسه بالصورة النورية اهـ بالى . ""
 
ومعنى قوله : إذ لا يخرج عن طبيعته أنه لا يتجاوز عن صورته النورية الطبيعية إلى ما فوقه ، لأن التمثل بصورة ما تحت قهره وسلطنته في قوته ومنعته كما في صورة العنصريات ، وفيه إشارة إلى أن جبريل سلطان العناصر .
وعلى الأصل الذي قررناه فله أن يتمثل بصورة ما في حيز الفلك السابع وجميع ما تحته ، وليس في قوته أن يتمثل في صورة ما فوق السدرة .
هذا على ما ذكره الشيخ قدس سره : وعندي أن جبريل لو لم يتمثل بصورة البشر لم يتولد عيسى من ماء مريم ونفخه لعدم الجنسية بينه وبين مريم ، ولم تسر الشهوة فيها فضلا عن عدم قدرته على الإحياء في تلك الصورة ويعضد ما قلناه قوله : على تقدير تمثل جبريل عن إلقاء الكلمة إليها في الصورة النورية لكان عيسى لا يحيى الموتى إلا حين يظهر في تلك الصورة الطبيعية النورية مع الصورة البشرية من جهة أمه .
وذلك لأن النسبتين يجب كونهما محفوظين فيه عند فعله فكذا يجب حفظ النسبة بين أصليهما في تكونه ، ولو كان عيسى عند الإحياء متمثلا في الصورة النورية الجبريلية مع الصورة البشرية لما في سنخه لكان متحولا عن الطينة البشرية إلى الجوهر النوري ، ولكان يقال فيه إنه عيسى بحسب الهيئة البشرية ليس بعيسى بحسب الجوهر النوري ، فتقع فيه الحيرة من الناظرين ولم تتحقق فائدة الإعجاز
 
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:42 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما وقعت في العاقل عند النظر الفكري إذا رأى شخصا بشريا يحيى الموتى ، وهو من الخصائص الإلهية إحياء النطق لا إحياء الحيوان ، بقي الناظر حائرا إذ يرى الصورة بشرا للأثر الإلهي ).
أي لكانت الحيرة واقعة في أنه عيسى أوليس عيسى كما وقعت ، مع كونه غير متحرك لا في صورته ولا في طينته من العقلاء بحسب النظر الفكري ، حين رأوا شخصا بشريا لا شك فيه صدر عنه خاصية إلهية هي إحياء الموتى إحياء النطق والدعاء ، يعنى إحياء بالنطق والدعاء ، فكان يقول : قم حيا بإذن الله أو باسم الله أو باللَّه ، فيحيا ويجيبه فيما كلمه به ويقول لبيك إذا دعاه ، لا إحياء الحيوان الذي يمشى ويأكل ويبقى حيا مدة على ما روى في قصته أنه أحيا بنطقه سام بن نوح فشهد بنبوته ثم رجع إلى حالته ، فبقوا حائرين فيه كيف تصدر الآثار الإلهية من البشر

"" أضاف بالي زادة :  قوله ( وهو ) أي إحياء الموتى ( من الخصائص الإلهية إحياء النطق ) أي يحيى الإنسان الميت ناطقا كعيسى مجيبا لدعوته فكان الإحياء إحياء مع النطق ( لا إحياء الحيوان ) أي لا الإحياء الذي يتحرك ويقوم بدون النطق ، إذ لو كان كذلك لم يكن معجزة ، فلما أحيا سام فقام وشهد بنبوته عليه السلام ثم رجع إلى أول حاله تحيروا فيه فاختلفوا على حسب نظرهم بقي الناظر حائرا اهـ بالى""  .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأدى بعضهم فيه إلى القول بالحلول وأنه هو الله بما أحيا به من الموتى ، ولذلك نسبوا إلى الكفر وهو الستر ، لأنهم ستروا الله الذي أحيا الموتى بصورة بشرية عيسى ،
فقال تعالى : ( " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " - فجمعوا بين الخطأ والكفر في تمام الكلام كله لا بقولهم هو الله ولا بقولهم ابن مريم ) .

أي فأدى النظر الفكري إلى بقاء الناظر حائرا فأدى بعضهم في حق عيسى إلى القول بالحلول ، وأنه هو الله في صورة المسيح من حيث أحيا المسيح به الموتى ، فنسبوا في ذلك إلى الكفر لأنهم ستروا الله بصورة بشرة عيسى ، حيث توهموا أنه فيها فكفرهم الله تعالى بقوله – " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " لأنهم بين الخطأ والكفر في تمام الكلام لا في أجزائه لأنهم لم يكفروا بحمل هو على الله لأن الله هو.

"" أضاف بالي زادة :  يعنى قال بعضهم من النصارى : إن الله حل في عيسى فأحيا الموتى ، وبعضهم قال : إنه هو الله بما أحيا اهـ . بالى

قوله ( بصورة بشرية ) تنازع فيه ستروا وأحيا فأيهما عمل حذف المفعول الآخر اه ( فجمعوا بين الخطأ ) وهو حصر الحق في الصورة العيسوية . ( والكفر ) وهو ستر الحق فيها ( في تمام الكلام كله ) فكفروا بقولهم هذا بالكفر الشرعي ( لا بقولهم هو الله ) لأنه هو الله من حيث تعينه بالصورة العيسوية وإحياؤه الموتى ، وليس الله هو من حيث تعينه بصورة أخرى ( ولا بقولهم ابن مريم ) اهـ بالى .""

ولا بحمل الله عليه فيقولوا هو الله لأنه الله ، ولا بقولهم ابن مريم لأنه ابن مريم بل بحصر الحق في هوية المسيح ابن مريم وتوهمهم حلوله فيه ، والله ليس بمحصور في شيء بل هو المسيح وهو العالم كله ، فجمعوا بين الخطأ بالحصر وبين ستر الحق بصورة بشرة عيسى .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعدلوا بالتضمين من الله من حيث أنه أحيا الموتى إلى الصورة الناسوتية البشرية بقولهم ابن مريم وهو ابن مريم بلا شك ، فتخيل السامع أنهم نسبوا الألوهية للصورة وجعلوها عين الصورة ، وما فعلوا بل جعلوا الهوية ابتداء في صورة بشرية هي ابن مريم ، ففصلوا بين الصورة والحكم لأنهم جعلوا الصورة عين الحكم )

أي فعدلوا إلى الصورة الناسوتية البشرية من الله من جهة أنه أحيا الموتى بالتضمين : أي بأن جعلوه تعالى في ضمن الصورة الناسوتية وذلك عين الحلول بقولهم :
أي فعدلوا بقولهم ابن مريم وهو كما قالوا ابن مريم ، لكن السامع تخيل أنهم نسبوا الألوهية إلى الصورة وجعلوها عين الصورة ، وهم لم يفعلوا ذلك بل حصروا الهوية الإلهية ابتداء في صورة بشرية هي ابن مريم ، ففصلوا بين الصورة المسيحية والحكم عليها بالإلهية بهو الذي الفصل ، فأفاد كلامهم الحصر لا أنهم جعلوا صورة المسيح عين الحكم عليها بالإلهية ، والظاهر أن الشيخ استعمل الحكم بمعنى المحكوم عليه ليطابق تفسيره الآية .

فإن الله في الآية محكوم عليه والمسيح هو المحكوم به . وقد يستعمل الحكم كثيرا بمعنى المحكوم به فلا حرج أن يستعمل بمعنى المحكوم عليه للملابسة ، وأراد أنهم أرادوا حلول الحق في صورة عيسى فأخطئوا في العبارة المتوهمة للحصر فهم السامع أنهم يقولون إن الله هو صورة عيسى ، وهم يقولون بالفصل أي بالفرق ، وهو أن الله في صورة عيسى ، فمعناه حل الحق في عيسى ابن مريم فالحكم على هذا حلول الله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما كان جبريل في صورة البشر ولا نفخ ، ثم نفخ ففصل بين الصورة والنفخ ، وكان النفخ من الصورة فكانت ولا نفخ فما هو النفخ من حدها الذاتي ).

أي جعلوا الهوية الإلهية في صورة بشرية ففصلوا بينهما كما فصل بين الصورة والنفخ بأن جبريل كان في الصورة البشرية ولا نفخ وكان النفخ ، فليس النفخ من ذاتيات الصورة ، فكذلك كانت الهوية قبل النفخ فليس النفخ من ذاتيات الصورة ، فكذلك كانت الهوية الإلهية متحققة بدون الصورة العيسوية قبلها .

"" أضاف بالي زادة :  (ففصلوا بين الصورة والحكم ) أي الهوية الإلهية فكفروا بالكفر اللغوي وهو الستر ، إذ كل صورة هي إستار طلعته لا بالكفر الشرعي ، وهو معنى قولهم بالحلول أي الله حال في صورة عيسى فأحيا الموتى ، فلما قالوا بالحلول حكموا أن الله هو عيسى ، وهو معنى قوله لا بقولهم هو الله وحصروا الله في المسيح .

فما جمع الكفر والخطأ إلا في قولهم هذا ( لا أنهم جعلوا الصورة عين الحكم ) ابتداء ، وإنما نسبهم الحق إلى الكفر لا إلى الخطأ .
فإن خطأهم وهو الحصر في قولهم – "إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " ظاهر بين ، وأما كفرهم فلا يدل ظاهر قولهم عليه لأن ظاهر قولهم إن الله هو المسيح لا يدل إلا على العينية .
والكفر للستر والستر يقتضي المغايرة ، فلما نسبهم الحق في قولهم هذا إلى الكفر ارتفع تخيل السامع ، فظهر أن الحق ما قلناه من أنهم فصلوا بين الصورة والحكم ابتداء ، ولو لم يفعلوا لم ينسبوا إلى الكفر فكانت الهوية ولا عيسى ثم وجد لتحقيقها بدونه اهـ بالى . ""

وكذلك كانت الصورة العيسوية متحققة قبل إحياء الموتى المنسوب إلى الإلهية ، فليست إحداهما ذاتية للأخرى ، لا الصورة العيسوية للهوية الإلهية ولا الإحياء المنسوب إلى الإلهية للصورة العيسوية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فوقع الخلاف لذلك بين أهل الملل في عيسى ما هو ؟
فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانية البشرية ، فيقول هو ابن مريم .
ومن ناظر فيه من حيث الصورة الممثلة البشرية فينسبه إلى جبريل .
ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى فينسبه إلى الله بالروحية فيقول روح الله .  أي به ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه )


أي لما اختلفت فيه الحيثيات الثلاث نسبه كل واحد من الناظرين إلى ما غلب عليه في ظنه بحسب نظره ، فمن نظر فيه من حيث ما رأى منه من إحياء الموتى المختص باللَّه نسبه إلى الله بالروحية فقال إنه روح الله وكلمة الله .
وقد اختلف في هذه الجهة دون الأولين لقصور النظر في الجهة الأولى ، فمنهم من قال هو الله ومنهم من قال هو ابن الله على الخلاف المشهور بين المسيحيين.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فتارة يكون الحق فيه متوهما اسم مفعول ، وتارة يكون الملك فيه متوهما ، وتارة تكون البشرية الإنسانية فيه متوهمة فيكون عند كل ناظر بحسب ما يغلب عليه ، فهو كلمة الله وهو روح الله وهو عبد الله ، وليس ذلك في الصورة الحسية لغيره )
أي ليس ذلك الخلاف في الصورة الحسية بسبب التوهمات لغير عيسى ، لأنه تكون بنفخ الروح الأمين من غير أب وصدر منه الفعل الإلهي ، وكان أحد جزأى طينته ماء متوهما ، وغيره لم يكن كذلك .

"" أضاف بالي زادة :  (فهو كلمة الله ) لكونه حاصلا عن نفخ جبريل ( وهو روح الله ) لظهور الحياة به فيمن نفخ ( وهو عبد الله ) لكونه على الصورة البشرية ( وليس ذلك ) الاجتماع ( لغيره ) اهـ بالى . ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بل كل شخص منسوب إلى أبيه الصوري لا إلى النافخ روحه في الصورة البشرية ، فإن الله إذا سوى الجسم الإنسانى كما قال – " فَإِذا سَوَّيْتُه " - نفخ فيه هو تعالى من روحه فنسب الروح في كونه وعينه إليه تعالى ، وعيسى ليس كذلك فإنه أدرجت تسوية جسمه وصورته البشرية بالنفخ الروحي وغيره كما ذكرنا لم يكن مثله ) .

هذا تقرير لما ذكر من أن صورة عيسى روحانية غلبت عليها الصورة الممثلة المثالية المنتسبة إلى النفخ بخلاف سائر البشر ، لأن كل شخص إذا سوى الله جسمه الصوري نفخ فيه روحه بعد تسوية جسده فنسب الروح في كونه وعينه إلى الله ، بخلاف عيسى فإنه نفخ في أمه مادة جسده فسوى جسده وصورته البشرية بعد النفخ فصارت الروحانية جزء جسده .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالموجودات كلها كلمات الله التي لا تنفد فإنها عن كن ، وكن كلمة الله فهل تنسب الكلمة إليه بحسب ما هو عليه فلا يعلم ماهيتها ، أو ينزل هو تعالى إلى صورة من يقول كن فيكون قول كن حقيقة لتلك الصورة التي نزل إليها وظهر فيها فبعض العارفين يذهب إلى الطرف الواحد ، وبعضهم إلى الطرف الآخر ، وبعضهم يحار في الأمر ولا يدرى )

أي الموجودات كلها تعينات الوجود المطلق الحق وصور التجليات الإلهية فهي كلماته الكائنة بقول كن وكن عين كلمة الله فإما أن يكون الوجود الحق من حيث حقيقته المطلقة ظهر في صورة الكلمة فلا يعرف حقيقة الكلمة كما تعرف حقيقة الحق .
وإما أن ينزل الحق عن حقيقته المطلقة إلى صورة من يتعين بذلك التعين أي من يقول كن فيكون المتعين عين الكلمة التي هي صورة ما نزل إليه وظهر فيه وهو نفس التعين وعين كن .
 فبعض العارفين وجد الأول ذوقا فذهب إليه ، وبعضهم إلى الثاني .
 وبعضهم وقع في الحيرة فلم يدر حقيقة الأمر وهي الحيرة الكبرى التي للأكابر ..
وأما الأكامل من المحمديين فلم يحاروا بل قالوا بتحقيق الأمرين معا ، فإن كل عين هي نفس المتعين وكل متعين متقيد هو عين المطلق .
فإن المطلق ليس هو المقيد بالإطلاق الذي يقابل المقيد ، بل الحقيقة المطلقة من حيث هو هو فيكون مع كل تعين وتقيد هو هو على إطلاقه ، وعين المقيد الذي نزل إلى صورته ، وعين التعين الذي ظهر في صورته فلا حيرة أصلا .

"" أضاف بالي زادة :  ( وكن كلمة الله ) فتنسب كلمة كن إلى الله إما بحسب مرتبة الألوهية وإما بحسب نزوله إلى صورة من يقول كن لإحياء الموتى ، وإليه أشار بقوله ( فهل تنسب الكلمة إليه تعالى ) اهـ

( للطرف الواحد ) هو أن الله متكلم بكلمة كن في مقام ألوهيته ( والطرف الآخر ) أن الله متنزل في صورة من يتكلم بكن ، فالخالق للعبد بإذن الله والحيرة في أنه هل هو من الحق أم من العبد ، ومعلوم أنه من الخصائص الإلهية لأن هذا العارف يعلم أن الإحياء من الخصائص الإلهية ، فشاهد صدوره من العبد ، فيحار في نسبته إلى الله وإلى العبد لعدم ذوق هذا العارف من تلك المسألة اهـ بالى . ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذه مسألة لا يمكن أن تعرف إلا ذوقا : كأبي يزيد حين نفخ في النملة التي قتلها فحييت فعلم عند ذلك بمن ينفخ فنفخ ، وكان عيسوى المشهد )

يعنى معرفة الإحياء وكيفية نسبة الحق في صورة عبده إلى النافخ باللَّه ، لا يحصل إلا بالذوق فمن لم يحيى لم يحي كما فعل أبو يزيد لم يشهده سهوا محققا ولم يعرفه إلا ذوقا ، فإن الإحياء من الكيفيات والكيفيات لا تعرف بالتعريفات ، ولا يتجلى بالوجودات كما ذكر قبل .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما الإحياء المعنوي بالعلم فتلك الحياة الإلهية الذاتية الدائمة العلية النورية التي قال الله فيها – " أَومن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناه وجَعَلْنا لَه نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ " - فكل من أحيا نفسا ميتة بحياة علمية في مسألة خاصة متعلقة بالعلم باللَّه فقد أحياه بها ، وكانت له نورا يمشى به في الناس ، أي بين أشكاله في الصورة ) .

يعنى أن الإحياء الحقيقي هو الإحياء المعنوي بالعلم للنفس الميتة بالجهل ، فإن العلم هو الحياة الحقيقية الدائمة السرمدية العلية النورية لنفوس العارفين العالمين باللَّه .

"" أضاف بالي زادة :  فعلم منه أن كل ما صدر من الأولياء مثل هذا كان ذلك بواسطة روحانية عيسى عليه السلام ، هذا هو الإحياء الصوري ( وأما الإحياء المعنوي ) اهـ بالى .

( بين أشكاله في الصورة ) فظهر أن الإحياء الحسي والمعنوي ، إما من الله بواسطة الإنسان الكامل ، وإما من الإنسان الكامل بإذن الله فكان لكل واحد من الحق والعبد مدخل في وجود حادث ، فيستند الوجود إلى الحق وإلى العبد اهـ بالى . ""

ولكن لا كل علم بل العلم باللَّه وصفاته وأسمائه وآياته وكلماته وأفعاله وقد أعطاه الله أولياءه الكمل الأصفياء يحيون بنفائس أنفاسهم نفوس المستعدين ، ويفيضون عليهم أنوار الحياة النورية العلية العلمية فيحيون بها عن موت الجهل ويمشون في الناس بنورهم ، كما قال تعالى :  " أَومن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناه " - والمتحقق بهذا الإحياء هو المتحقق باسم الله المحيي بالحقيقة وبالحي والإحياء بهذا المعنى أعز وأشرف من الإحياء بالصورة ، فإنه إحياء الأرواح والنفوس وهي أشرف من الأجساد والصور ، ولا شك أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان أفضل من عيسى وليس له الإحياء بالصورة بل بالعلم ، لكن الأول أندر وأقل وجودا ، واستشراف النفوس إليه أكثر ، ولذلك عظم وقعه في النفوس :

( فلولاه ولولانا    .... لما كان الذي كانا )
أي لا بد في الأكوان والتجليات الفعلية من الحق الذي هو منبع الفيض والتأثير، ومن الأعيان القابلة التي تقبل التأثير وتتأثر فتظهر التجليات الأسمائية والأفعالية ، ووجه الارتباط بما قبله أن الإحياءين وجميع الأفعال والأكوان لا بد لها من الألوهية والعبدانية ليتحقق الفعل والقبول والتجلي والمجلى

"" أضاف بالي زادة :  (فلولاه ولولانا ) أي فلو لم يكن الحق وأعياننا ( لما كان الذي كانا ) أي لما ظهر في الكون ما ظهر وهو بيان لاتحاد الإنسان مع الحق في الربوبية : ( فأنا أعبد حقا  وإن الله مولانا )

وهو بيان للفرق ( وأنا عينه فاعلم إذا ما قلت إنسانا ) أي إذا سميت عينك بإنسان لا ينافي عينيتنا مع الحق إنسانيتنا اهـ بالى . ""

يقول الشيخ رضي الله عنه  :
( فأنا أعبد حقا      ..... وإن الله مولانا )
(وأنا عينه فاعلم   ...... إذ ما قلت إنسانا )

أي أنا أعبد الحقيقة لأنا نعبده بالعبادة الذاتية أي الأحدية الجمعية ، وإن الله بجميع الأسماء متولينا وولينا ومدبر أمورنا بخلاف سائر الموجودات ، فإنهم عبيده ببعض الوجوه والله مولاهم ببعض الأسماء . وأما الإنسان الكامل فإنه عين الحق لظهوره في صورته بالأحدية الجمعية ، بخلاف سائر الأشياء ، فإنها وإن كان الحق عين كل واحد منها فليست عينه لأنها مظاهر بعض أسمائه فلا يتجلى الحق فيها على صورته الذاتية ، وأما إذا قلت إنسانا أي إنسانا كاملا في الإنسانية فهو الذي يتجلى الحق على صورته الذاتية فهو عينه

( فلا تحتجب بإنسان ....   فقد أعطاك برهانا )
أي فلا تحتجب بالإنسان عن الحق من حيث أن الإنسان اسم من أسماء الأكوان من حيث شخصه ، فإنه من حيث الحقيقة اسم من أسماء الحق من حيث كونه تعالى عين الأعيان بل هو الاسم الأعظم المحيط بجميع الأسماء .

"" أضاف بالي زادة :  ( فلا تحتجب ) بصيغة المجهول ( بإنسان ) أي بأن تسمى بالإنسانية عينيتك مع الحق ( فقد أعطاك ) على عينيتك أو عينيتنا مع الحق ( برهانا ) وهو قوله « كنت سمعه وبصره » اهـ بالى . "

إلا أن الله تعالى إله رب دائما ، وما يطلق عليه اسم السوي مألوه مربوب دائما ، والإنسان برزخ بين مجرى الإلهية والمألوهية ، والربوبية والمربوبية عين البحرين ، فلا تكن محجوبا بمألوهيته عن إلهيته فقد أعطاك برهانا على إلهيته وربوبيته :

( فكن حقا وكن خلقا  .... تكن باللَّه رحمانا )
هذا تمام المدعى : أي كن بنور حبك حقا بحسب الحقيقة ، وكن خلقا بحسب الصورة البشرية ، فتقوم بك من حيث حقيقتك جميع الأسماء الإلهية
وتعم بخليقتك جميع الحقائق والأعيان فتعم الحق بحقيقتك الجامعة للذات الإلهية والأسماء كلها .
وتعم الخلق من رحمة الله وفيضه الواصل إلى العالم كله من حيث أنك خليفته على العالم ورابطة وجوده .
وتقوم بجميع ما يحتاج إليه العالم فوسع الحق والخلق بعين ما وسع الحق بك ذلك فتكون رحمانا لعموم وجودك وسعة رحمتك وجودك .

"" أضاف بالي زادة :  (فكن حقا ) بحقيقتك وروحك ( وكن خلقا ) بنشأتك العنصرية ( تكن باللَّه رحمانا ) أي عام الرحمة بإفاضتك الكمالات الإلهية على عباده اه ( وغذ خلقه منه ) أي من الله ( تكن روحا ) أي غذاء روحانيا لخلقه يغتذي بك ويتلذذ بك ( وريحانا ) حتى تشم من نفحات أنسك مع الحق .
( فأعطيناه ما يبدو . به ) أي أعطينا الحق ما يظهر به من صور استعدادنا ( فينا ) من الأسماء والصفات كالحياة والعلم والقدرة فيظهر فينا بهذه الصفات بحسب استعدادنا ، وفاعل ما يبدو ضمير عائد إلى الحق ، وبه عائد إلى الموصول ( وأعطانا ) ما ظهرنا به من وجودنا وأحوالنا اهـ بالى زادة ""

قال الشيخ رضي الله عنه:
( وغذ خلقه منه   .... تكون روحا وريحانا )
إشارة إلى ما سبق من أن الحق بالوجود غذاء الخلق ، إذ به قوامه وبقاؤه وحياته كالغذاء الذي به قوام المتغذى وبقاؤه وحياته ، فغذ أنت بالوجود الحق لأنك النائب في ذلك عن الله ، وقد تغذى الحق بأحكام الكون وصور الخلق كما تقرر من قبل .

فظهر له بذلك أسماء وصفات ونعوت وأحكام ونسب وإضافات ، فيكون هذا روحا للحقائق الكونية العدمية تريحها بالوجود عن العدم وتروحها عن ظلمتها بنور القدم ، وتكون ريحانا للوجود الحق بالروائح الحقيقية الكائنة والنشأة الصورية الإمكانية :

( فأعطيناه ما يبدو   .... به فينا وأعطانا)
(فصار الأمر مقسوما  ..... بإياه وإيانا )
أي أعطينا الحق من قابلياتنا ما يظهر به فينا بنا ، وأعطانا الوجود الذي به ظهرنا ، فصار الأمر الوجودي ذا وجهين : نسبة إلينا ، ونسبة إليه تعالى .

"" أضاف بالي زادة :  ( فصار الأمر مقسوما بإياه ) أي بما أعطيناه إياه ( وإيانا ) أي بما أعطاه إيانا .اهـ بالى""

 منقسما باعتبار العقل لا في العين إلى قسمين :
 قسم له منا ، وقسم لنا منه
 وقد وضع الضمير المنصوب المنفصل موضع المجرور المتصل ، لأن المراد اللفظ أي بهذين اللفظين .
كأنه قال : بأن أعطينا الظهور بنا إياه وأعطى الوجود به إيانا .

( فأحياه الذي يدرى   .... بقلبي حين أحيانا)
أي حين أحيانا وأوجدنا بوجوده أحياه وأظهره الذي يعلمه في قلبي من حياته بحياتنا وظهوره بصورنا وسمعنا وبصرنا كما ذكرنا في قرب الفرائض ، ومنه قوله : سبحان من أودع ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب ، ثم بدا في خلقه ظاهرا في صورة الآكل والشارب .

"" أضاف بالي زادة :  ( فأحياه ) الضمير القلب المؤخر لفظا المقدم معنى : أي أحيا قلبي بالحياة العلمية ( الذي يدرى . بقلبي ) أي يعلم قلبي واستعداده الأزلي ( حين أحيانا )  بالحياة الحسية . اهـ بالى

( وكنا فيه ) أي وكنا في غيب الحق قبل الحياة ( أكواناوأعيانا وأزمانا) لا حياة لنا بالحياة الحسية والعلمية اهـ ( وليس ) هذا المذكور أو هذا التقريب مع الله ( بدائم فيناولكن ذاك أحيانا) أي وقتا دون وقت كما قال « لي مع الله وقت لا يسعني » الحديث اهـ بالى . ""

( فكنا فيه أكوانا   .... وأعيانا وأزمانا )
وكنا في الأزل قبل أن يوجدنا أكوانا في ذاته : أي كانت حقائقنا أعيان شؤونه الذاتية الإلهية ، والوجود الحق مظهرا لنا ومجلى لتلك الأعيان ، فكنا فيه أكوانه الأزلية التي كان بنا ، ولم نكن معه لكوننا عين كونه الذي كان ، ولم نكن في غيب العالم الأزلي وكذلك في الوجود العيني أحيانا ، وكوننا بأن كان سمعنا وبصرنا وقوانا وجوارحنا ، وفي الجملة أعياننا في قرب النوافل فكنا سمعه وبصره ولسانه وأعيان أسمائه وأكوانه في قرب الفرائض .

وأما كوننا أزمانا فيه فلتقدم الدهر بتقدم بعضنا على بعض وتأخر بعضنا عن بعض في الوجود والمرتبة ، فإن كل متنوع منا وملزوم من أحوالنا يتقدم في الوجود والمرتبة والشرف تابعة ولازمة ، فكنا في الحق أزمانا بالتقدم والتأخر في المظهرية ، وصار امتداد النفس الرحماني بنا أنفاسا وأوقاتا وامتداد الدهر أزمانا .

( وليس بدائم فينا   ..... ولكن ذلك أحيانا )
أي وليس ذلك القرب أي قرب الفرائض والنوافل دائما فينا ولكن أحيانا ، لقوله عليه الصلاة والسلام « لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل »
وقول زين العابدين : لنا وقت يكوننا فيه الحق ولا يكوننا ، وهو زمان على حقيقة الإنسان الكامل على خلقه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ومما يدل على ما ذكرناه في أمر النفخ الروحاني مع صورة البشر العنصري هو أن الحق وصف نفسه بالنفس الروحاني ، ولا بد لكل موصوف بصفة أن يتبع الصفة جميع ما تستلزمه تلك الصفة ، وقد عرفت أن النفس في المتنفس ما يستلزمه فلذلك قبل النفس الإلهي صور العالم فهو لها كالجوهر الهيولاني وليس إلا عين الطبيعة )

النفس الرحماني : هو فيضان وجود الممكنات التي إذا بقيت في العدم على حال ثبوت أعيانها بالقوة كانت كرب الرحمن إذا وصف نفسه بالنفس وجب أن ينسب إليه جميع ما يستلزمه النفس من التنفيس وقبول صور الحروف والكلمات ، وهي هاهنا الكلمات الكونية والأسمائية ، فإن الوجود إنما يفيض بمقتضيات الأسماء الإلهية ومقتضيات قوابلها .

فللنفس أحدية جمع الفواعل الأسمائية والقوابل الكونية والتقابل الذي بين الأسماء وبين القوابل وبين الفعل والانفعال ، فكذلك وجود الإنسان الذي هو من النفس يستلزم الفاعل الذي هو النافخ ، والقابل الذي هو صورة البشر العنصري ، والفعل والانفعال الذي هو النفخ وحياة الصورة .
فلذلك قبل النفخ صور العالم أي وجودات الأكوان ، كما يقبل نفس المتنفس صور الحروف والكلمات ، وبظهورها يحصل النفس عن كرب الرحمن .

فالنفس لها أي لصورة العالم كالجوهر الهيولاني للصور المختلفة ، وليس ما يستلزمه النفس الرحماني إلا عين الطبيعة يعنى الطبيعة الكلية ، وهي اسم الله القوى .
وهي التي لا تكون أفعالها إلا على وتيرة واحدة سواء كانت مع الشعور أو لا معه ، فإن التي لا شعور له معه له شعور في الباطن عند أهل الكشف .
فلا حركة عندهم إلا من الشعور ظاهرا وباطنا حتى إن الجماد له شعور في الباطن ، فالطبيعة الكلية بهذا المعنى تشمل الأرواح المجردة الملكوتية والقوى المنطبعة في الأجرام ، ويسميها الإشراقيون النور القاهر .

"" أضاف بالي زادة :  ( ومما يدل ) يعنى أن النفخ في الصورة العيسوية بلا تقدم الاستواء على النفخ لا كغيره من الإنسان ، فإن استواء صورهم مقدم على نفخ الروح .
والدليل على ذلك قوله ( هو أن الحق وصف ) .اهـ بالى
( في المتنفس ما يستلزمه ) ما : استفهام أو موصول ، أي الذي يستلزمه من صور الحروف والكلمات وإزالة الكرب وغير ذلك ، فاتبع المتنفس بالنفس جميع ما يستلزمه من إزالة الكرب وصور الحروف والكلمات النطقية ( فلذلك ) أي فلأجل اتباع الموصوف جميع ما تستلزمه تلك الصفة ( قبل النفس الإلهي صورة العالم ) اهـ بالى
( وليس إلا عين الطبيعة ) التي هي تقبل الصور ، ، فقبل نفخ جبريل الصورة العيسوية بحيث لا تنفك عن الروح النفخى فالعرش والكرسي مع أرواحهما وملائكتهما طبيعيون ، فما من صورة من الصور مما سوى الله إلا وهي صورة من صور الطبيعة ، وما من صورة من صور الطبيعة إلا وهي إما عنصرية وإما طبيعية . اهـ بالى . ""
.

يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثالث .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:43 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثالث .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
ثم قسموا الأنوار القاهرة أي القوية في التأثير إلى قسمين :
المفارقات ، وأصحاب الأصنام . والمفارقات : هم الملأ الأعلى ، لأن كل واحد من أهل الجبروت والملكوت لا يفعل ما يفعله إلا على وتيرة واحدة ، ولا يفعل بعضهم أفعال بعض كما حكى الله عنهم – " وما مِنَّا إِلَّا لَه مَقامٌ مَعْلُومٌ " - وأصحاب الأصنام هم القوى المنطبعة في الجوهر الهيولاني وخصصها أي الأنوار القاهرة باسم الطبائع .
فإن الطبيعة عند الفلاسفة قوة سارية في جميع الأجسام تحركها إلى الكمال وتحفظها ما دامت تحمل الحفظ ، فوافق وجدان الشيخ وذوقه مذهب الإشراقيين ، فمن الطبيعة الكلية القوى المنطبعة في الأجسام الهيولانية القابلة للصور .
ومن لوازم النفس الرحماني الطبيعة الكلية ، وهيولى العالم القابلة على ما ذكرنا أن النفس يستلزم الفواعل والقوابل وله أحديتهما ، فإن الوجود الإضافي صورة أحدية الفواعل والقوابل حتى تصير الجملة به موجودا واحدا وكلمة هي حروفها كالحيوان والنبات وسائر الأكوان.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالعناصر صورة من صور الطبيعة ، وما فوق العناصر وما تولد عنها فهو أيضا من صور الطبيعة ، وهي الأرواح العلوية إلى فوق السماوات السبع . وأما أرواح السماوات السبع وأعيانها فهي عنصرية ، فإنها من دخان العناصر المتولدة عنها ) .
هكذا ذهب بعض الصوفية وأهل الشرع وكثير من الحكماء الإسلاميين والقدماء الإشراقيين في كون السماوات السبع وعلى هذا المذهب الأرواح العلوية ، إشارة إلى ما فوق العناصر وأرواح السماوات وأعيانها إلى ما تولد عنها :
أي العناصر ( وما تكون عن كل سماء من الملائكة ) أي نفوسها المنطبعة ( فهو منها ) أي من العناصر .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهم عنصريون وما من فوقهم طبيعيون ، ولهذا وصفهم الله بالاختصام أعنى الملأ الأعلى لأن الطبيعة متقابلة )
هذا معلوم مما ذكرناه آنفا ، والاختصام بين الملإ الأعلى إنما هو لاختلاف نشأتهم ، لأن الغالب على بعضهم صفة القهر وعلى بعضهم قوة المحبة وصفتها فتختلف مقتضيات نشأتهم فيختصمون.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والتقابل الذي في الأسماء الإلهية التي هي النسب إنما أعطاه النفس الرحماني ، ألا ترى الذات الخارجة عن هذا الحكم كيف جاء فيها الغنى عن العالمين ، فلهذا خرج العالم على صورة من أوجدهم )
إنما التقابل الذي في الأسماء أعطاه النفس أي الوجود لأن التقابل لا يكون بين الأشياء العدمية والمعاني العلمية ، فإن عين الحرارة والبرودة والسواد والبياض في العقل والعلم معا أي منها يجتمع في ذهن الناس ولا تقابل ، والأسماء لا تتقابل إلا في صورها التي يتحقق بها حقائق تلك النسب الأسمائية ، ولولا وجوداتها بظهورها في الصور لم تتقابل وذلك الظهور هو النفس الرحماني ، فلهذا ما كانت الإلهية بالأسماء غنية عن العالمين .
إنما الغنى هو الذات الخارجة عن حكم النفس ، فلهذا خرج العالم على صورة من أوجده من الإله أي الحضرة الواحدية الأسمائية .
"" أضاف بالي زادة :  قوله ( لأن الطبيعة متقابلة ) وهي مظهر ولاية الأسماء المتقابلة فأجسام الأرواح والملائكة العلوية المسماة بالملإ الأعلى والملائكة المهيمة المخلوقة من جلال الله أجسام نورية طبيعية ، وهي أول ما خلق الله تعالى من الأجسام اهـ بالى
قوله ( والتقابل الذي في الأسماء إنما أعطاه النفس الرحماني ) وهو عين الطبيعة فكان التقابل الطبيعة للذات أو للأسماء بسبب كون الطبيعة محلا لولايتها ؟؟؟ ، فكان التقابل في الأسماء والطبيعة لا في الذات من حيث هي .
قوله ( فلهذا ) أي فلأجل كون التقابل حاصلا في الحضرة الأسمائية ( خرج العالم على صورة من أوجدهم وليس إلا النفس الإلهي ) فخرج العالم يتقابل بعضهم بعضا ، فالطبيعة والعالم والنفس الإلهي يقتضي كل واحد منها التقابل اهـ بالى""
 
( وليس ) من أوجد أعيان العالم ( إلا النفس الإلهي ) والضمير المنصوب في أوجدهم للعالم باعتبار أعيانه على التغليب ( فيما فيه من الحرارة علا ) في الصور الأسمائية الربانية ( وبما فيه من الرطوبة والبرودة سفل ) في الصورة الكائنة من آخر العالم
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل فالرسوب للبرودة والرطوبة ألا ترى الطبيب إذا أراد سقى دواء لأحد ينظر في قارورة مائه ، فإذا رآه رسب علم أن النضج قد كمل فيسقيه الدواء ليسرع في النجح ، وإنما يرسب لرطوبته وبرودته الطبيعية )
النضج عند الأطباء تهيؤ المادة للاندفاع ، ولا يسهل الاندفاع إلا بالسيلان الذي هو بالرطوبة ، والتسفل والنزول الذي هو بالبرودة ، فإذا رسب في القارورة علم أن الخلط سهل الاندفاع .
"" أضاف بالي زادة :  ( فيما فيه ) أي في النفس الإلهي ( من الحرارة على ) ما علا من العالم كالنار والهواء ( وبما فيه من البرودة والرطوبة سفل ) من العالم ما سفل كالتراب والماء فتقابل بعض العالم بعضا بالعلو والسفل لتقابل الطبيعة ، فخرج العالم على صورة النفس الإلهي من التقابل اهـ بالى .
فظهر أن الرسوب الرطوبة والبرودة ، والإسراع للدواء ، فاختلف العالم بالكيفيات المختلفة في الطبيعة من كل الوجوه فافهم اهـ . بالى زادة ""
 
ولهذا قالت الأطباء :
إن القوة الدافعة لا يتمكن على فعلها إلا بمعونة البرودة ، والمقصود أن النفس الذي هو الوجود الواحد يقتضي التقابل بما يستلزمه من الجهتين المختلفتين في الأمر الواحد ، وهو الطبيعة المقتضية للأمور المتضادة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم إن هذا الشخص الإنسانى عجن طينته بيده وهما متقابلتان ، وإن كانت كلتا يديه يمينا فلا خفاء بما بينهما من الفرقان ، ولم يكن إلا كونهما اثنتين أعنى يدين ، لأنه لا يؤثر في الطبيعة إلا ما يناسبها وهي متقابلة فجاء باليدين ) .
ولما كانت الطبيعة مقتضية للتقابل كانت الأسماء الإلهية متقابلة لأنه لا يؤثر في الطبيعة إلا ما يناسبها ، فأخبر أن الله تعالى عجن طينة آدم أي الشخص الإنسانى بيديه وهما المتقابلان من أسمائه ، وهو وإن كانتا كلتاهما يمينا أي متساويتين في القوة فالفرق بينهما ظاهر ، فإن الجلال والجمال والقهر واللطف لا خفاء في تقابلهما ، وكذا الفعل والانفعال والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة في الطبيعة ، ولو لم يكن في تقابلهما إلا كونهما اثنين اكتفى في تقابلهما ، فعبر عن كل متضادين باليدين .
"" أضاف بالي زادة :  ( باليدين ) المناسبتين للطبيعة في التقابل ، فعلم منه أنه لا تؤثر العلة في المعلول إلا بشرط وجود المناسبة بينهما فأوجد آدم باليدين لهذا اهـ بالى . ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما أوجده باليدين سماه بشرا للمباشرة اللائقة بذلك الجناب باليدين المضافتين إليه ، وجعل ذلك من عنايته لهذا النوع الإنسانى ، فقال لمن أبى عن السجود له – " ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ " - على من هو مثلك يعنى عنصريا – " أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ " - عن العنصر ولست كذلك )
المباشرة اللائقة بالجناب الإلهي باليدين هو التوجه نحوه بإيجاده الأسماء المتقابلة وذلك من كمال عنايته ، ولهذا وبخ إبليس بالامتناع عن سجود من خلقه باليدين ، أي بالجمع بين الصفات المتقابلة ، فيه إشارة منه تعالى إلى فضل من توجه إليه في إيجاده باليدين على من ليس كذلك.
"" أضاف بالي زادة :  ( العالين ) هم الملائكة المهيمون والملائكة المقربون ، كجبريل وغيره من ملائكة العرش والكرسي اهـ
قال المحققون : رسل الملائكة أفضل من عامة البشر ، فكل واحد من الإنسان والملائكة العالين فاضل ومفضول .
فالإنسان من حيث حقيقته الجامعة لجميع المراتب أفضل من الموجودات العنصرية والطبيعية فكان الإنسان أفضل من الملائكة العالين عن ذلك الوجه .
والعالون أفضل من الإنسان من حيث أنه لم تكن نشأتهم النورية عنصرية وإليه أشار بقوله
( ويعنى بالعالين ) فالمراد بالخيرية بالنص الإلهي هي هذه الخيرية لا الخيرية  وإنما توقف معرفة النفس الإلهي إلى معرفة العالم ( فإنه ) أي لأنه ( من عرف نفسه ) وهو جزء من العالم ( عرف ربه ) فإن نفسه تفصيل وتعريف لربه ، فمن عرفها عرفه اهـ بالى"" .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويعنى بالعالين من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النورية عنصريا وإن كان طبيعيا ، فما فضل الإنسان غيره من الأنواع العنصرية إلا بكونه بشرا من طين ، فهو أفضل نوع من كل ما خلق من العناصر من غير مباشرة باليدين )
العالون : هم الملائكة المهيمون في سبحات جمال وجه الحق لفناء خليقتهم ، لغلبة أحكام الوجوب في نشأتهم عن أحكام الإمكان لنشأتهم النورية وفنائهم عن أنفسهم ، فما فضل الإنسان غيره من الكائنات العنصرية بكونه نوريا بل بكونه بشرا من طين باشر الله خلقه باليدين ، فهو أفضل من كل ما خلقه لا بالمباشرة : أي باليد الواحدة بأن لا يجمع فيه بين المتقابلات بل بالصفات المتماثلة فحسب
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالإنسان في الرتبة فوق الملائكة الأرضية والسماوية والملائكة العالون خير من هذا النوع الإنسانى بالنص الإلهي )
أي الإنسان الذي هو الحيوان لاستهلاك الحقيقة في هذا النوع الخلقية والنورية في الظلمة والظهور بأنفسهم بخلاف العالين ، والنص قوله : "أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ " .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أراد أن يعرف النفس الإلهي فليعرف العالم ، فإنه من عرف نفسه عرف ربه الذي ظهر فيه ، أي العالم ظهر في نفس الرحمن الذي نفس الله تعالى به عن الأسماء الإلهية ما تجده من عدم ظهور آثارها بظهور آثارها ، فامتن على نفسه بما أوجده في نفسه ، فأول أثر كان للنفس إنما كان في ذلك الجناب ، ثم لم يزل الأمر يتنزل بتنفيس العموم إلى آخر ما وجد )
إنما علق معرفة النفس الإلهي بمعرفة العالم ، لأن العالم ليس إلا ظهور صور الأعيان ، وذلك الظهور هو النفس ، وعلل التعليق بالحديث المذكور لأن الإنسان هو العالم الصغير ، والعالم هو الإنسان الكبير .
فلما بان من عرف نفسه عرف أن ربه هو الذي ظهر فيه ، فكذلك عرف أن الذي ظهر في نفس الرحمن من العالم هو الأسماء الإلهية التي نفس الله تعالى بنفسه عنها كربها الذي تجده من عدم ظهور آثارها بظهور آثارها في صور العالم في النفس ، فامتن على نفسه أولا بما أوجده في نفسه من صور أسمائه فإن الأسماء عين ذاته .
فالامتنان عليها بظهور آثارها امتنان منه على نفسه بنفسه ، فأول أثر كان للنفس إنما كان في الجناب الإلهي بإظهار أسمائه وآثارها لم يزل ينزل الأمر من ظهور الأسماء ثم الآثار بل الأسماء بالآثار إلى آخر ما وجد ، ولا آخر لظهور الأسماء بالآثار والآثار بالأسماء إلى ما لا يتناهى و « ما » في ما تجده موصولة منصوبة المحل بنفس :
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (
( فالكل في عين النفس   .... كالضوء في ذات الغلس )
الغلس : ظلمة آخر الليل : أي صور الأسماء الإلهية والأكوان والآثار والأعيان الظاهرة في عماد النفس كالضوء الفاشي في ظلمة آخر الليل ، فإن الضوء يظهر دون الغلس فكذلك يظهر الأسماء وآثارها أي صورها دون النفس ، فإن النفس ما هو إلا هو ظهور هذه الأشياء :
 
( والعلم بالبرهان في   .... سلخ النهار لمن نعس )
(فيرى الذي قد قلته      ..... رؤيا تدل على النفس )
يعنى أن العلم بالنفس وما ذكر من لوازمه لا ينال إلا بالكشف ، وأما العلم به من طريق البرهان بتركيب المقدمات واستنتاج النتائج فهو من نعس في وقت سلخ ضوء نهار الكشف عن ظلمة ليل الغفلة ، فيرى رؤيا يعبرها ما قبله من النفس ، ولوازمه عند أهل الكشف يشبه العلم الفكري من وراء حجاب بالرؤيا التي تدل على التعبير على المعنى المكشوف بالتجلي :
( فيريحه عن كل كرب  .... في تلاوته عبس )
أي فيريحه العلم الحاصل بالبرهان عن كل كرب وضيق وعبوس يجده في حال حجابه وتفكره فيه أرواحه ، يظهر بها على وجهه سر قوله – " وُجُوه يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ - ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ " - بعد عبوسه في تلاوته – " عَبَسَ وتَوَلَّى " - عند احتجابه :
( ولقد تجلى للذي     ..... قد جاء في طلب القبس )
يعنى أن العلم البرهاني قد يفيد سرور الوجدان من وراء حجاب ، وأما طالب الكشف فقد يتجلى له جلية الحق دائما ، كمن جاء في طلب القبس مجدا في طلبه فتجلى له حقيقة هذا السر الخفي عيانا يعنى موسى بن عمران :
( فرآه نارا وهو نور  ..... في الملوك وفي العسس )
أي تجلى له نور وجهه في مثل النار على شجرة نفسه ، وكان نور الأنوار نور الحق المتجلى في إكمال الواصلين السابقين الذين هم ملوك أهل الجنة .
والعمال في الأعمال الحجابية من السعداء والأبرار ، فإن ظهور نوره وتجليه في الشريف الرفيع العلوي .
كظهوره في الدنىء الوضيع السفلى ، والتفاوت في المراتب بالكمال والنقصان إنما يكون بحسب القوابل وإلا فهو في الأوائل والأواخر والحقيقة واحدة :
( فإذا فهمت مقالتي   .... فاعلم بأنك مبتئس )
وفي بعض النسخ : يعلم بحمل إذا على إن كان فإن فهمت ،
وفي نسخة : عرفت ، أي إن فهمت ما قلت لك فاعلم بأنك في وقوفك خلف الحجاب أو طالب أمر سواه فقير مفلس .
 
( لو كان يطلب غير ذا  .... لرآه فيه وما نكس )
أي لو طلب موسى غير النار لرأى الله في صورته ، يعنى لما بلغ غاية جهده وطاقته في الطلب تجلى له الحق في صورة مطلوبه الجسماني الضروري .
وأنت أيضا لو لم تتعلق همتك بغير الحق وغلبت محبتك إياه على محبة الكل عليك لرأيته في صورة ما أهمك .
ولو طلبت غيره وأجلته فأنت محجوب عن الحق بمطلوبك ، فطوبى لمن لم يتعلق بقلبه غير حب مولاه ، ولا يطلب في قصد طول عمره إلا إياه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما هذه الكلمة العيسوية لما قام لها الحق في مقام حتى نعلم ويعلم ، استفهمها عما نسب إليها هل هو حق أم لا ، مع علمه الأول بهل وقع ذلك الأمر أم لا ، فقال له : "أأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّي إِلهَيْنِ من دُونِ الله " - فلا بد في الأدب من الجواب للمستفهم ، لأنه لما تجلى له في هذا المقام وفي هذه الصورة اقتضت الحكمة الجواب في التفرقة بعين الجمع ، فقال وقدم التنزيه  " سُبْحانَكَ " فحدد بالكاف التي تقتضي المواجهة والخطاب ) .
أي لما تجلى للكلمة العيسوية بتحقق العلم المطلق في المتعين المقيد مع أن الحقيقة تقتضي وحدة المطلق والمقيد والمستفهم ، قام لعيسى في مقام الاثنينية المتكلم والخاطب ، وأفرد كل منهما بتعينه ابتلاء له بظهور علمه المطلق في المظهر العيسوى مقيدا بالإضافة وهو مقام حتى نعلم ويعلم ، أي حتى يظهر علمنا فيه ويعلم هو من حيث هو هو ، لا من حيث هو نحن مستفهما إياه عما هو أعلم به منه مما نسب إليه هل هو حق أم لا ؟
 
"" أضاف بالي زادة :  (لما قام لها ) أي للكلمة العيسوية في اليوم الآخر ( الحق في مقام حتى نعلم ) بالتكلم ( ويعلم ) بالغائب ( استفهمها ) أي استفهم الحق كلمة عيسى  (عما نسب إليها ) أي كلمة عيسى اهـ. بالى زادة
( فقال له ) أي لعيسى ، وإنما لم يستفهم عن أمه مريم إذ لا تقع دعوى الألوهية عن المرأة ( أأنت قلت ) يعنى أأنت نسبت الألوهية إليكما أم الناس نسبوا ( في هذا المقام ) وهو مقام التفرقة وهو ضمير الخطاب ( وفي هذه الصورة ) أي صورة الاستفهام الإنكارى ( فقال ) أي فميز بين العبودية والربوبية وهو التفرقة ، فخاطب في الجواب كما خاطبه في السؤال. اهـ بالى زادة ""
 
ليظهر علمه تعالى في الصورة العيسوية عند إجابته إياه بعين الجمع صورة التفرقة ، فيكون تعين عيسى عينه بعينه تعالى في الصورة العيسوية وعلمها المضاف إليه علمه ، وهذه حكمة الاستفهام مع علمه بأن المستفهم عنه وقع أم لا ؟ لأنه إذا قال له : " أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّي إِلهَيْنِ من دُونِ الله " - لم يكن لعيسى أن يقدم التنزيه المطلق الدال على نفى التعدد عن الإلهية .
ودعوى الإلهية والغيرية مع رعاية الأدب في التجلي مع الخطاب ، والغيرية بإضافة سبحان إلى الكاف فأفرده بالتنزيه وحدده بالإضافة بحكم تجلى الخطاب في أنت قلت في مقام التجلي في جوابه ، وحدد الحق مجيبا في التفرقة بعين أحدية الجمع .
(" ما يَكُونُ لِي " - من حيث أنا لنفسي دونك – " أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي ")  من حيث أنا متعين  .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ("بِحَقٍّ " أي ما يقتضيه هويتى ولا ذاتي " إِنْ كُنْتُ قُلْتُه فَقَدْ عَلِمْتَه " لأنك أنت القائل ومن قال أمرا فقد علم ما قال ، وأنت اللسان الذي أتكلم به كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الإلهي فقال: « كنت لسانه الذي يتكلم به » فجعل هويته عين لسان المتكلم ونسب الكلام إلى عبده ، ثم تمم العبد الصالح الجواب بقوله " تَعْلَمُ ما في نَفْسِي "  والمتكلم الحق - " ولا أَعْلَمُ ما " – فيها) من كونها أنت
( ففي العلم عن هوية عيسى من حيث هويته لا من حيث أنه قائل وذو أثر ) أي القائل والمتكلم هو الحق
( إنك أنت ، فجاء بالفصل والعماد تأكيدا للبيان واعتمادا عليه إذ لا يعلم الغيب إلا الله )
يعنى أدى الخطاب بالتفرقة في عين الجمع بالفصل والعماد تحقيقا لإفراد الحق من حيث تعينه في إطلاقه وفصله عن تعينه الشخصي ، ليكون العلم كله منسوبا إليه في الإطلاق والتقييد والجمع والفرق ، فإنه هو  "عَلَّامُ الْغُيُوبِ " .
( ففرق وجمع ووحد وكثر ووسع وضيق ) أي فرق بإفراد المخالطب وتمييزه عن المخاطب ، وجمع بجعل الحق متعينة في الصورة العيسوية وفي كل شيء من العالم وفي ذاته مطلقا ، ووحد بهذا الجمع من حيث أحديته المطلقة وكثر من حيث هذا الفرقان في المتعينات وضيق بجعله كل واحد من التعين ، ووسع من حيث شموله للكل من حيث هو كل .
 
"" أضاف بالي زادة :  ( ما يكون لي من حيث أنا لنفسي ) أي من حيث عبوديتى وإنيتى ( دونك ) من دون ربوبيتك وهويتك ( أن أقول ما ليس لي بحق أي ما تقتضيه هويتى ولا ذاتي ) فإن مقتضى ذاتي العبودية لا الألوهية .اهـ بالى زادة
( وأنت اللسان الذي أتكلم به ) والوجود واللسان والقول كله لك ومالي إلا العدم ، وهذا هو جهة الجمع إلى قوله ( ونسب الكلام إلى عبده ) بقوله الذي يتكلم به ، فالمتكلم هو العبد لكنه بالحق يتكلم ، وهو نتيجة قرب النوافل ، فجمع التنزيه والتشبيه في كلام واحد ( ثم تمم العبد الصالح الجواب "تَعْلَمُ ما في نَفْسِي " - ) من الكمالات والنقائص المستترة بهويتي لأن نفسي بحسب الحقيقة عين نفسك وهو إشارة إلى قرب الفرائض اهـ بالى زادة. ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم قال متمما للجواب " ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به " - فنفى أولا مشيرا إلى أنه ما هو ثمة ثم أوجب القول أدبا مع المستفهم ، ولو لم يفعل كذلك لا تصف بعدم العلم بالحقائق وحاشاه من ذلك ، فقال – " إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به " وأنت المتكلم على لساني وأنت لساني ، فانظر إلى هذه التنبئة الروحية الإلهية ما ألطفها وأدقها )
في قوله « ما أَمَرْتَنِي به » مع أنه عينه فأفرد الحق بتاء الكناية عن المخاطب ، وحدد نفسه وميزه من حيث مأموريته بتاء كناية المتكلم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  (" أَنِ اعْبُدُوا الله " - فجاء باسم الله لاختلاف العباد في العبادات واختلاف الشرائع ولم يعين اسما خاصا دون اسم بل بالاسم الجامع للكل ، ثم قال – " رَبِّي ورَبَّكُمْ " - ومعلوم أن نسبته إلى موجود ما بالربوبية ليست عين نسبته إلى موجود آخر فلذلك فصل بقوله – " رَبِّي ورَبَّكُمْ " - بالكنايتين كناية المتكلم وكناية المخاطب – " إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به "- فأثبت نفسه مأمورا وليست) أي المأمورية
"" أضاف بالي زادة :  (ما هو ثمة ) إشارة إلى أن عيسى ليس هو موجودا في هذا المقام حتى يقول قولا بل الوجود كلمة الله ( وحاشاه من ذلك ) فلو لم يثبت الهوية الإلهية بعد ففي الهوية العيسوية لكان نفيا مطلقا وليس الأمر كذلك ، بل الأمر الإثبات بعد النفي أو النفي بعد الإثبات اهـ بالى .
فإن عبد الرحيم ليس بعبد القهار ( فلذلك ) أي فلكون نسبة الربوبية باختلاف المظاهر ( فصل بقوله  "رَبِّي ورَبَّكُمْ " ) اهـ بالى . ""
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( سوى عبوديته ، إذ لا يؤمر إلا من يتصور منه الامتثال وإن لم يفعل .
ولما كان الأمر ينزل بحكم المراتب لذلك ينصبغ كل من ظهر في مرتبة ما بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة فمرتبة المأمور لها حكم يظهر في كل مأمور ، ومرتبة الآمر لها حكم يبدو في كل أمر فيقول الحق " أَقِيمُوا الصَّلاةَ " فهو الآمر والمكلف المأمور ، ويقول العبد  " رَبِّ اغْفِرْ لِي " فهو الآمر والحق المأمور ، فما يطلب الحق من العبد بأمره ، هو بعينه يطلب العبد من الحق بأمره ) يعنى بالإجابة .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا كان كل دعاء مجابا ، ولا بد إن تأخر كما يتأخر عن بعض المكلفين فمن أقيم مخاطبا بإقامة الصلاة فلا يصلى في وقت فيؤخر الامتثال ويصلى في وقت آخر ،إن كان متمكنا من ذلك فلا بد من الإجابة ولو بالقصد.
ثم قال : " وكُنْتُ عَلَيْهِمْ "  ولم يقل على نفسي معهم ، كما قال – " رَبِّي ورَبَّكُمْ " ، "شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ " لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم  " فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي " .
أي رفعتني إليك وحجبتهم عنى وحجبتني عنهم " كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " في غير مادتي بل في موادهم إذ كنت بصرهم الذي يقتضي المراقبة فشهود الإنسان نفسه شهود الحق إياه ، وجعله باسم الرقيب لأنه جعل الشهود له )
أي لنفسه فعظم الله ونزهه عن أن يشاركه في الاسم أدبا بعين شهودهم أنفسهم بالحق
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأراد أن يفصل بينه وبين ربه حتى يعلم أنه هو لكونه عبدا ، وأن الحق هو الحق لكونه ربا له ، فجاء لنفسه بأنه شهيد وفي الحق بأنه رقيب ، وقدمهم في حق نفسه فقال : "عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ" ( إيثارا لهم في التقدم وأدبا )
لأن الحق في أنفسهم شهيدا عليهم أيضا ومع الحق فإن التقدم يفيد الاختصاص : أي كنت عليهم خاصة شهيدا دون غيرهم ، لأنه ليس في وسعي الشهادة على جميع الأمم ، فما كنت شهيدا إلا على ما أشهدتنى عليه ، وأما أنت فكنت أنت الرقيب عليهم ، وعلىّ وعلى كل شيء .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأخرهم في جانب الحق عن الحق في قوله : " أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " لما يستحقه الرب من التقدم بالرتبة ) ومن الرقبة على كل أحد كما ذكر .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثم اعلم أن للحق الرقيب الذي جعله عيسى لنفسه وهو الشهيد في قوله : " عَلَيْهِمْ شَهِيداً " . فقال : " وأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " فجاء بكل العموم وبشيء لكونه أنكر النكرات ، وجاء بالاسم الشهيد فهو الشهيد على كل مشهود بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود )
ففرق بين الشهادة وأيضا بينه وبين ربه بأن خصص شهادته بأنها عليهم خاصة دون غيرهم ، وعمم شهادة الحق كل شيء.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنبه على أنه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى حين قال – " وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ "  فهي شهادة الحق في مادة عيسوية ، كما ثبت أنه لسانه وسمعه وبصره ، ثم قال : كلمة عيسوية ومحمدية أما كونها عيسوية فإنه قول عيسى بإخبار الله عنه في كتابه ، وأما كونها محمدية فلوقوعها من محمد صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي وقعت منه ) أي لعلو شأنها ورفعة مكانها عنده .
"" أضاف بالي زادة :  " وأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " يعنى أنا شهيد على قوم مخصوصين ما دمت فيهم وأنت عليهم وعلى كل شيء شهيد أزلا وأبدا ، وهي شهادة الحق في مقام الجمع والإطلاق ، فأثبت الشهادة أولا بنفسه بقوله : "وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ".
 ونفى ثانيا بإثباتها وحصرها للحق بقوله " وأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " - اهـ بالى .
( ثم قال كلمة عيسوية ومحمدية ) وهي " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ " - الآية أي ألحقه بالكلام السابق المحرر اه والمراد ( بالمشهود الحاضر ) عالم الشهادة وبما يراد به هو الحق تعالى ، أي يشاهد الحق بالمشهود الحاضر ويستدل به فكان الحق نفسه مشهودا بالعالم الشهادة ، وهم لا يشاهدون الحق بالمشهود ، ولا يستدلون به لكون الغيب سترا وحجابا لهم فكانوا محجوبين عن الحق اهـ بالى .  ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقام بها ليلة كاملة يرددها لم يعدل إلى غيرها حتى طلع الفجر – " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " - وهم ضمير الغائب ، كما أن هو : ضمير الغائب .
كما قال :  " هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا " بضمير الغائب فكان الغيب سترا لهم عما يراد بالمشهود الحاضر فقال : " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ " – بضميرالغائب وهو عين الحجاب الذي هم فيه عن الحق ) .
 
أي حجاب بعين عيسى وحجابيتهم ، فإنهم إنما حجبوا بالصورة الشخصية المتعينة ، وحصروا الحق فيه بقولهم " إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " فكفروا - أي ستروا وغابوا عن الحق المتعين فيهم وفي الكل من غير حصر ، وذلك الحجاب والستر كان غيبا.
( فذكرهم الله النبي قبل حضورهم ) الحق المتجلى في الفرقان يوم الجمع والفصل ( حتى إذا حضروا تكون الخميرة قد تحكمت في العجين ) أي من حيث أحدية جمع العين .
"" أضاف بالي زادة :  ( حتى إذا حضروا ) بين يدي الله ، وشاهدوا ما كانوا عليه قبل ذلك من الحجاب ( تكون الخميرة ) هي ما أودع في طينة أبدانهم من استعداد الوصول إلى حضرة الحق ، والعجين طينة أبدانهم فمقتضى العجين الستر والحجاب والخميرة الكشف عن الحق ، فقد تحكم خميرتهم على عجينتهم في الدنيا فتصيرها مثله في الستر ، فإذا قامت قيامتهم انتهى حكم العجين فتحكمت فيه كما تحكم فيها اهـ بالى .
( أي المنيع الحمى ) يعنى أن ذاتك بحسب الاسم العزيز والغفور ويقتضي مظهرا يظهر بهما كمال الظهور ولا أكمل مظهرا ممن جعل لك شريكا ، فإن لم تسترهم من العذاب فائت هذه الحكمة التي يراد وقوعها ، وهو ظهور الحق بكمال الغفارية أي منيع الحمى ، وما حماه إلا عين عبده ( يريد به المنتقم ، والمعذب من الانتقام والعذاب )
فمقتضى هذا الاسم منع العذاب عن العبد المذنب لذلك التجأ في دعائه إليه فأجاب الله دعاءه حفظا
عن إضاعة مجاهدته في ليلة كاملة ( تقديم الحق وإيثار جنابه ) من أن الحق يريد القهر والانتقام منهم ( فدعا عليهم لما لهم ) لأن الأنبياء لا يريدون إلا ما يريده الحق ، فلو لم يلاحظ العفو ما بالغ في دعائه ليلة كاملة ، فما نزلت الآية عليه إلا أن يشفع لهم ، ولا يشفع إلا لمن يقبل الشفاعة اهـ  بالى زادة. ""
 
( فصيرته مثلها فإنهم عبادك فأفرد الخطاب للتوحيد الذي كانوا عليه ) في الحقيقة وإن كانوا لا يعلمون ذلك ، فإنهم كانوا مشركين في زعمهم ومعتقدهم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا ذلة أعظم من ذلة العبيد لأنهم لا تصرف لهم في أنفسهم فهم بحكم ما يريد بهم سيدهم ولا شريك له فيهم .
فإنه قال : " عِبادُكَ "  فأفرد والمراد بالعذاب إذلالهم ولا أذل منهم لكونهم عبادا ، فذواتهم تقتضي أنهم أذلاء فلا تذلهم فإنك لا تذلهم بأدون مما هم فيه من كونهم عبيدا "وإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ "
أي تسترهم عن إيقاع العذاب الذي يستحقونه بمخالفتهم أي تجعل لهم غفرا تسترهم عن ذلك وتمنعهم منه " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ " أي المنيع الحمى ، وهذا الاسم إذا أعطاه الحق لمن أعطاه من عباده يسمى الحق بالمعز ، والمعطى له هذا الاسم بالعزيز ، فيكون منبع الحمى عما يريد به المنتقم ، والمعذب من الانتقام والعذاب ، وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ، ولتكون الآية على مساق واحد في قوله " إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ " وقوله " كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ " فجاء أيضا " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " ، فكان سؤالا من النبي صلى الله عليه وسلم وإلحاحا منه على ربه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر يرددها طلبا للإجابة ، فلو سمع الإجابة في أول السؤال ما كرر ، فكان الحق يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب عرضا مفصلا فيقول له في كل عرض عرض وعين عين " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " - فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه لدعا عليهم لا لهم، فما عرض عليه إلا ما استحقوا به ما تعطيه هذه الآية من التسليم لله والتعريض لعفوه)
« ما » في ما تعطيه بدل ما استحقوا به العفو مما تعطيه هذه الآية من التسليم لله وتفويض أمرهم إليه ، وحذف مفعول استحقوا لدلالة قوله والتعريض لعفوه عليه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد ورد أن الحق إذا أحب صوت عبده في دعائه إياه أخر الإجابة عنه حتى يتكرر ذلك منه حبا فيه لا إعراضا عنه ، ولذلك جاء باسم الحكيم ، والحكيم : هو الذي يضع الأشياء في مواضعها ، ولا يعدل بها عما يقتضيه ويطلبه حقائقها بصفاتها فالحكيم هو العليم بالترتيب )  أي فالحكيم هو العليم بترتيب الأشياء
( فكان صلى الله عليه وسلم بترداد هذه الآية على علم عظيم من الله فمن تلا فهكذا يتلو )
أي بالعلم البكاء والتعريض ومحافظة الأدب .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإلا فالسكوت أولى به ، وإذا وفق الله العبد إلى نطق بأمر ما فما وفقه إليه إلا وقد أراد إجابته فيه وقضاء حاجته ، فلا يستبطئ أحد ما يتضمنه ما وفق له وليثابر مثابرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الآية في جميع أحواله حتى يسمع بأذنه أو سمعه كيف شئت أو كيف أسمعك الله الإجابة ، فإن جازاك بسؤال اللسان أسمعك بأذنك ، وإن جازاك بالمعنى أسمعك بسمعك ) المعنى واضح.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:08 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر  

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول 
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
إنما اختصت الكلمة السليمانية بالحكمة الرحمانية لاختصاصه عليه السلام من عند الله جميع أنواع الرحمة العامة والخاصة ، فإن الرحمة إما ذاتية أو صفاتية ، وكل واحدة منهما إما عامة أو خاصة .
وقد خصه الله تعالى بالوجود التام على أكمل الوجوه ، والاستعداد الكامل للولاية والنبوة من الرحمة الذاتية الخاصة والعامة ، وبالمواهب الظاهرة والباطنة ، وأسبغ عليه نعمه الصورية والمعنوية .
وسخر له العالم السفلى بما فيه من العناصر والمعادن والنبات والحيوان ، والعالم العلوي بالإمدادات النورية والقهرية واللطفية من الرحمة الصفاتية الخاصة والعامة مما يطول تفصيلها كالسلطنة الكاملة والملك العام بالتصرفات الشاملة في الأرض والتبوء منها ما شاء .
والماء بالغوص والريح بالجري بأمره حيث شاء ، والنار بتسخير الشياطين النارية كما ذكر الله تعالى في مواضع من القرآن
وحكى عنه قوله  " يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وأُوتِينا من كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ وحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُه من الْجِنِّ والإِنْسِ " - الآية ،
ولو لم يسخر الله العالم العلوي حتى يؤيده لما أطاعه الكون والشيطان ، ولا دان له الإنس والجان  ( إِنَّه ) يعنى الكتاب  ( من سُلَيْمانَ وإِنَّه )  أي مضمونه   ( بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )  .
 
فأخذ بعض الناس في تقديم اسم سليمان على اسم الله ، ولم يكن كذلك ، وتكلموا في ذلك بما لا ينبغي مما لا يليق بمعرفة سليمان عليه السلام بربه ، وكيف يليق ما قالوه وبلقيس تقول فيه   (" إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ " أي يكرم عليها ) ذهب الشيخ رضي الله عنه إلى قوله تعالى " إِنَّه من سُلَيْمانَ " حكاية قول بلقيس لا حكاية المكتوب في الكتاب .
 
وذلك أن بلقيس لما ألقى إليها الكتاب قالت لقومها وأرتهم الكتاب ( إِنَّه من سُلَيْمانَ )   فذلك قولها لا ما في طي الكتاب من المكتوب ، وكذلك قوله ( إِنَّه من )   
قولها : أي وإن مضمونه  ( بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وأْتُونِي مُسْلِمِينَ )   فما في الكتاب إلا ( بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )   إلى قوله : ( مُسْلِمِينَ )  
وقد تأدب مع الحق الذي في أعيان الطاعنين في سليمان حيث لم يسمهم ولم يصرح بتخطئتهم ، بل قال بعض الناس وتكلموا ما لا يليق .
ومعنى قوله : ولم يكن كذلك  لم يقدم سليمان اسمه على اسم الله كما زعموا ثم أنكر ما قالوا بقوله وكيف يليق ما قالوه
وبلقيس تقول : ( إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ )  فهي التي تقول ( إِنَّه من سُلَيْمانَ ) الضمير في إنه يرجع إلى الكتاب وهذا واضح التفسير ، وعلى ما قالوه ليس الضمير المذكور يعود إليه وفيه تعريض بهم .
كأنه يقول كيف يليق ما قالوه في حق سليمان من الطعن في كتابه وهم مسلمون ، وبلقيس وصفت كتابه بالكرم وأنه يكرم عليها وهي كافرة ، فقولها : ( إِنَّه من سُلَيْمانَ )  بعد ذكر الكتاب بيان للمرسل
وقولها : ( وإِنَّه )  بيان لمضمون الكتاب وهو ( بِسْمِ الله ) إلى آخره .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما حملهم على ذلك تمزيق كسرى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما مزقه حتى قرأه كله وعرف مضمونه ، فكذلك كانت تفعل بلقيس لو لم توفق لما وفقت ، فلم تكن تحمى الكتاب عن الإخراق بحرمة صاحبه تقديم اسمه عليه السلام على اسم الله تعالى ولا تأخيره عنه )
 هذا إقامة لعذرهم : أي ربما حملهم على ما قالوه تمزيق كسرى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله : وما مزقه ، بيان لضعف عذرهم ، فإن كسرى إنما مزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما قرأه وعرف أن مضمونه دعوته إلى خلاف دينه ومعتقده ، وقد قدم فيه اسم الله واسم رسول الله على اسمه فغاظه ذلك فمزقه . وأما بلقيس فوفقها الله تعالى لما قرأت الكتاب فآمنت باطنا وقالت لقومها : إنه كتاب كريم من سلطان عظيم ، فلو لم توفق لما وفقت له لمزقته سواء تقدم فيه اسم سليمان على اسم الله أو أخر عنه ، فلم يكن تقديم اسمه حاميا للكتاب عن الإخراق بسبب حرمة صاحبه .
 ولا تأخيره فلم يكن كما قالوه ( فأتى سليمان بالرحمتين رحمة الامتنان ورحمة الوجوب اللتين هما الرحمن الرحيم ) أي فصل ما في اسم الله من أحدية جمع الأسماء بالرحمن
الدال على رحمة الامتنان لعموم الرحمة الرحمانية الكل من حيث أن الرحمن هو الحق باعتبار كونه عين الوجود العام للعالمين ، فعم بهذه الرحمة الذاتية جميع الأسماء والحقائق ، فهي رحمة الامتنان التي لا يخلو عنها شيء كما قال : " رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ "   حتى وسعت أسماءه ، فإنها عين ذاته كعلمه كما قال على لسان الملائكة  " رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْماً "  .
"" أضاف بالي زادة : (رحمة الامتنان ) ما يحصل من الله للعبد بدون مقابلة عمل من أعماله بل عناية سابقة في حق عبده كإعطاء الوجود القدرة للعمل والصحة منه وعطاء ( ورحمة الوجوب ) التي تحصل بمقابلة عمل كإعطاء الثواب للأعمال في الجنة اهـ بالى.
(أعنى رحمة الوجوب ) يعنى أن العبد من حيث أنه عبد يجب عليه إتيان أوامر مولاه ، فلا تجب الرحمة على المولى في مقابلة شيء ، فإذا قدر المولى وأوجب على نفسه لعبده شيئا في مقابلة عمله يستحق العبد بذلك الشيء بسبب عمله ، فوصول ذلك الشيء للعبد من المولى في مقابلة عمله امتنان وعطاء محض ، ولذا قالوا الجنة فضل إلهي فلا يستحقها العبد إلا بفضل الله ، فكان وجوب الرحمة من وجوب الامتنان. اهـ بالى .""
 
ولهذا قال الإمام المحقق جعفر بن محمد الصادق :
الرحمن اسم خاص : أي باللَّه تعالى بصفة عامة أي صفة له شاملة للكل لأنه لا يمكن غيره أن يسع الكل وبالرحيم الدال على رحمة الوجوب لخصوص الرحمة الرحيمية بما يقتضي الاستعداد بعد الوجود ، فالأعيان مرحومة بالرحمة الرحمانية : أي التجلي الذاتي من الفيض الأقدس دون الرحيمية ، فإنها بعد الاستعداد ، ولهذا قال الإمام عليه السلام : الرحيم اسم عام ، أي مشترك لفظا بين الحق والخلق بصفة خاصة بمن يستعد .
فإن الكمال الذي هو مقتضى الاستعداد بعد الوجود لا بد من وقوعه إما بواسطة الهادي والمرشد والعالم من الأسماء أو الملك أو الإنسان اللذان هما صورتان للأسماء أيضا .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فامتن بالرحمن وأوجب بالرحيم ، وهذا الوجوب من الامتنان فدخل الرحيم في الرحمن دخول تضمن ، فإنه كتب على نفسه الرحمة سبحانه ليكون ذلك للعبيد بما ذكره الحق من الأعمال التي يأتي بها هذا العبد حقا على الله أوجبه له على نفسه يستحق بها هذه الرحمة أعنى رحمة الوجوب )
فامتن على الكل بالرحمن أي بتعميم الرحمة في قوله : ( رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ )
وأوجبها في قوله :  ( فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ).
وقوله « سبقت رحمتي غضبى » امتنان أيضا على الكل بإيجاب الرحمة لهم على نفسه ، وهو معنى قوله : فدخل الرحيم في الرحمن دخول تضمن ، يعنى دخول الخاص تحت العام ، لأنه إنما أوجب الرحمة السابقة على الغضب في قوله -   ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِه الرَّحْمَةَ ) - ليكون للعبد ما ذكره من الأعمال التي أوجدها الله على يده وأجراها عليه تلك الرحمة وذلك الثواب الذي وعده على تلك الأعمال حقا له على الله أوجبه على نفسه له بسبب الكتابة عليها امتنانا يستحق ذلك العبد بها هذه الرحمة ،
فذلك وجوب في تضمن الامتنان إذ الكتابة على نفسه امتنان ( ومن كان من العبيد بهذه المثابة فإنه يعلم من هو العامل منه ) وفي نسخة العامل به أي ومن كان من العبيد مستحقا لرحمة الوجوب بالتقوى والعمل الصالح يعلم أن الله هو العامل بهذا العبد أو من هذا العبد هذه الأعمال التي تستدعى هذه الرحمة على سبيل المجازاة بما يناسبها ، فإن هذا العلم من أعلى مراتب التقوى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والعمل منقسم على ثمانية أعضاء من الإنسان ، وقد أخبر الحق تعالى أنه هوية كل عضو منها ، فلم يكن العامل غير الحق والصورة للعبد والهوية مندرجة فيه أي في اسمه لا غير )
أي هوية العبد هو حقيقة الله أدرجت في اسمه ، فالعبد اسم الله وهويته المسماة هو الله ( لأنه تعالى عين ما ظهر وسمى خلقا وبه كان الاسم الظاهر والآخر للعبد وبكونه لم يكن ثم كان ) أي وبسبب إن هذا العبد لم يكن ثم كان ، تحقق بالآخرية من هذه الحيثية فهو الآخر ، وفي مادته فسمى الله بالآخر .
"" أضاف بالى زادة : (مندرجة فيه أي في اسمه ) أي في اسم الله أو في اسم العبد إذ لكل عبد اسم يظهر فيه أحكام ذلك الاسم ( لا غير ) وإنما فسر بقوله أي في اسمه ليعلم أن اندراج الهوية ليس في نفس العبد بل في اسمه الظاهر في العبد كما قال ( ولكن في مظهره ) ولم يقل أنا مظهره لكنهم تسامحوا وقالوا الهوية الإلهية مندرجة في العبد ، والمراد ما ظهر في العبد وبربه من أسماء الله ، فإن اندراج الهوية لا يكون إلا في الأسماء ، ومعنى اندراج الهوية في الموجودات كاندراج الهوية الشخصية في صورها الحاصلة في المرايا المختلفة ، وبه اندفع توهم الحلول لأهل الحجاب فإن الحلول محال عند أهل الله. اهـ بالى زادة . ""
 
( وبتوقف ظهوره عليه ، وصدور العمل منه كان الاسم الباطن والأول ) أي بتوقف وجود العبد على الله الموجد له ومن حيث أن الأعمال الصادرة من العبد ظاهرة صادرة عن الحق باطنا وفي الحقيقة تحقق للحق الاسم الأول والباطن من غيب هوية العبد ، فإن الحق هو العامل به وفيه
( فإذا رأيت الخلق رأيت الأول والآخر والظاهر والباطن ، وهذه معرفة لا يغيب عنها سليمان عليه السلام ، بل هي من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده يعنى الظهور به في عالم الشهادة ) يعنى أن سليمان كان عارفا بأن الله هو العامل بسليمان وغيره ما يصدر عنه من الأعمال والتصرفات والتسخيرات ،
 
ولو لم يشهد أن الله عينه وجميع قواه وجوارحه لما تأتي له هذا السلطان والحكم الكلى ( فقد أوتى محمد عليه الصلاة والسلام ما أوتيه سليمان وما ظهر ، فمكنه الله تمكين قهر من العفريت الذي جاءه بالليل ليفتك به ) وفي نسخة : ليضل به
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهم بأخذه وربطه بسارية من سواري المسجد حتى يصبح فيلعب ولدان المدينة به فذكر دعوة سليمان عليه السلام فرده الله خاسئا فلم يظهر عليه الصلاة والسلام بما أقدر عليه وظهر بذلك سليمان ، ثم قوله -   ( مُلْكاً ) .
فلم يعم فعلمنا أنه يريد ملكا ما ورأيناه قد شورك في كل جزء وجزء من الملك الذي أعطاه الله فعلمنا أنه ما اختص إلا بالمجموع من ذلك وبحديث العفريت إنه ما اختص إلا بالظهور ، وقد يختص سليمان بالمجموع والظهور ولو لم يقل صلى الله عليه وسلم في حديث العفريت « فأمكنني الله منه » لقلنا إنه لما هم بأخذه ذكره الله دعوة سليمان ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يقدره الله على أخذه فرده الله خاسئا ، فلما قال « فأمكنني الله منه » علمنا أن الله تعالى قد وهبه التصرف فيه ، ثم إن الله ذكره فتذكر دعوة سليمان فتأدب معه فعلمنا من هذا أن الذي لا ينبغي لأحد من الخلق بعد سليمان الظهور بذلك في العموم ) وهذا كله ظاهر .
 
قال رضي الله عنه:  (وليس غرضنا من هذه المسألة إلا الكلام والتنبيه على الرحمتين اللتين ذكرهما سليمان في الاسمين اللذين تفسيرهما بلسان العرب الرحمن الرحيم فقيد رحمة الوجوب )
في قوله : " فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ "   .
قال رضي الله عنه :  ( وأطلق رحمة الامتنان في قوله -   "ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ " حتى الأسماء الإلهية أعنى حقائق النسب ) أي التي يمتاز بها كل اسم بخصوصية من الآخر ، فإن للأسماء مدلولين : أحدهما الخصوصية ، والثاني الذات من حيث هي ، فإن كل اسم هو الذات عينها والذات عينه فلا يطلق بهذا الاعتبار أنه مرحوم ، ويطلق على خصوصيته أي الحقيقة المميزة أنها مرحومة ، فالمرحومة هي حقائق النسب الداخلة تحت عموم كل شيء .
وهي على وجهين :
أحدهما المعاني التي هي أمور اعتبارية وتعينات لا تحقق لها في الأعيان إلا بالعلم والرحمة الذاتية ، فإنها نسب للذات كالحياة والعلم والقدرة وسائر معاني الصفات المنسوبة إليه .
والثاني : هذه النسب إلى الحق الواحد الأحد كالحيية والعالمية والقادرية وأمثالها ، فهي التي وسعتها رحمة الامتنان مع العالمين.
"" أضاف بالى زادة : (والتنبيه على المرحمتين ) الرحمة العامة وهو صورة اشتراك سليمان في أجزاء الملك ، والرحمة الخاصة وهي اختصاصه بالمجموع والظهور فجمع سليمان كلتيهما ، قوله ( فقيد رحمة الوجوب ) بقوله - وكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً )   - وقوله - فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) - ( وأطلق رحمة الامتنان ) في قوله - ورَحْمَتِي وَسِعَتْ ) . اهـ بالى بالى .
( ثم ) أي بعد إعطاء وجودنا بالرحمة الامتنانية ( أوجبها ) أي أوجب تلك الرحمة الامتنانية ( على نفسه بظهورنا ) أي بسبب ظهورنا بالرحمة الامتنانية ( لنا ) متعلق بأوجب أي ليرحمنا بها. اهـ بالى زاده . ""
 
( فامتن عليها بنا ، فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء الإلهية والنسب الربانية ) أي فامتن على الأسماء بوجودنا يعنى الكمل من نوع الإنسان ، فإن الله أكرم آدم بتعليم الأسماء ، وجعله وبنيه مظاهرها ومظاهر النسب أي حقائق الأسماء من الصفات ، فنحن أي الكمل من هذا النوع نتيجة الرحمة الذاتية الرحمانية التي هي رحمة الامتنان ، وبنا رحم الأسماء فأوجدها .
 
( ثم أوجبها على نفسه بظهورنا لنا ) أي لمعرفتنا أنفسنا فإنها رحمة رحيمية وجوبية ( وأعلمنا أنه هويتنا لنعلم أنه ما أوجبها على نفسه إلا لنفسه فما خرجت الرحمة عنه ) فهو الراحم والمرحوم (فعلى من امتن وما ثم إلا هو ؟ )
( إلا أنه لا بد من حكم لبيان التفضيل لما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم ،
حتى يقال : إن هذا أعلم من هذا مع أحدية العين ) فالتفاضل بالظهور والخفاء بحسب تفاضل الاستعدادات في المظاهر ، لأن العين الواحدة في كل مظهر هي أصفى وأتم استعدادا وجلاء كان أظهر كمالا وجمالا .
(ومعناه معنى نقض تعلق الإرادة عن تعلق العلم ) فإن العلم والتعلق بالشيء متحكم على الإرادة ، والإرادة متحكمة على القدرة دون العكس ، ألا ترى أن العلم ما لم يعين الإرادة لم تتعلق بالشيء ، والإرادة ما لم تخصص القدرة وتحكم عليها بالتعيين لم تتعلق ، ولا حكم للقدرة والإرادة على العلم ، ويستتبع العلم للإرادة والإرادة للقدرة دون العكس ( فهذه مفاضلة في الصفات الإلهية ) فإن العلم أكمل من الإرادة ، فمن تجلى الله له بصفة العلم حتى انكشف له العلم اللدني كان أكمل ممن تحقق بإرادة الله لفناء إرادته في إرادة الحق ، فحصل له مقام الرضا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكمال تعلق الإرادة وفضلها وزيادتها على تعلق القدرة ، وكذلك السمع الإلهي والبصر وجميع الأسماء الإلهية على درجات في تفاضل بعضها على بعض ، كذلك تفاضل ما ظهر في الخلق من أن يقال هذا أعلم من هذا مع أحدية العين وكما أن كل اسم إلهي إذا قدمته سميته بجميع الأسماء ونعته بها )
لأنك ما قدمته إلا لعمومه وشرفه فيتلوه تابعه كالرحمن بالنسبة إلى الرحيم
( كذلك فيما ظهر من الخلق فيه أهلية كل ما فوضل به ) أي قوة قبوله ( فكل جزء من العالم مجموع العالم : أي هو قابل لحقائق منفردات ) وفي نسخة متفرقات
"" أضاف بالى زادة : (أهلية كل ما فوضل به ) أي حصل في المفضول عليه أهلية كل مفضول به لاندراج الهوية الإلهية في المفضول عليه التي يستند جميع الكمالات الصادرة من المظاهر الخلقية إليها ، فزيد من حيث تضمنه هوية الإنسانية فيه أهلية لجميع الكمالات الموجودة في إفراد تلك الحقيقة لأن الكمالات الظاهرة في إفراد كل نوع مودعة في شأن ذلك النوع ، وباعتبار ذلك كل فرد منه فيه أهلية كل ما كان في جمع أفراده من الكمال. اهـ بالى  زادة . ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( العالم كله ، فلا يقدح قولنا : إن زيدا دون عمرو في العلم أن تكون هوية الحق عين زيد وعمرو ، وتكون في عمرو أكمل منه في زيد وأعلم ، كما تفاضلت الأسماء الإلهية وليست غير الحق ، فهو تعالى من حيث هو عالم أعم في التعلق من حيث هو مريد قادر ، وهو هو ليس غيره ، فلا تعلمه يا وليي هنا وتجهله هنا وتنفيه هنا وتثبته هنا إلا أن أثبته بالوجه الذي أثبت نفسه ، ونفيته عن كذا بالوجه الذي نفى نفسه كالآية الجامعة للنفي والإثبات في حقه حين قال " لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ " فنفى " وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " فأثبت بصفة تعم كل سامع بصير من حيوان وما ثم إلا حيوان إلا أنه بطن في الدنيا عن إدراك بعض الناس ، وظهر في الآخرة لكل الناس ، فإنها الدار الحيوان )
 
لما تحقق أن الحق تعالى هو عين الوجود المطلق ، وأن حياته وعلمه وسائر صفاته هي عين ذاته ، فحيث كان الوجود كانت الحياة وسائر الصفات ، إلا أن المظاهر كما ذكر متفاوتة في الصفاء والكدورة والجلاء وعدمه :
أي الاعتدال وعدمه ، فما كان أصفى وأجلى وأعدل ظهر فيها الحياة والإدراك فسمى حيوانا ، وما كان أكدر وأصدأ وأبعد عن الاعتدال ظهر فيه الوجود الذي هو أعم أنواع الرحمة الذاتية ، وبطن الحياة والعلم لعدم قبول المحل لظهور ذلك فلم يسم حيوانا عرفا بل جمادا أو نباتا ، وذلك لاحتجاب أهل الحجاب عن الحقائق وعدم نفوذ بصائرهم في البواطن .
وأما المحققون من أهل الكشف فهم الذين أطلعهم الله على الحقائق فلم يحتجبوا عن البواطن للطف بصائرهم فهم يعرفون أن الكل حيوان .
وكذلك في الآخرة عند كشف الغطاء عن أعين المحجوبين ورفع الستر عن أبصارهم عمت المعرفة ، وعرف الكل أن الكل حيوان لأنها دار الحيوان.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك الدنيا إلا أن حياتها مستورة عن بعض العباد ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد الله بما يدركونه من حقائق العالم ، فمن عم إدراكه كان الحق فيه أظهر في الحكم ممن ليس له ذلك العموم ، فلا تحتجب بالتفاضل وتقول : لا يصح كلام من يقول إن الخلق هوية الحق ، بعد ما أريتك التفاضل في الأسماء الإلهية التي لا تشك أنت أنها هي الحق ومدلولها المسمى بها وليس إلا الله ) تعالى
فلا تحتجب : نهى ، وتقول : حال على أنها جملة اسمية ، أي وأنت تقول  
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم إنه كيف يقدم سليمان اسمه على اسم الله كما زعموا ، وهو من جملة من أوجدته الرحمة الرحمانية فلا بد أن يتقدم الرحمن الرحيم ليصح استناد المرحوم ، هذا عكس الحقائق ، تقديم من يستحق التأخير وتأخير من يستحق التقديم في الموضع الذي يستحقه )
أي لما تحقق التفاضل بين الأسماء امتنع عادة أن يقدم سليمان اسمه على اسم الله ، مع أن سليمان اسم إلهي أوجدته الرحمة الرحمانية مقيدة بالمادة السليمانية من جملة مظاهر اسم الرحمن المطلق عارف بذلك ، فلا يقدم المقيد على المطلق كما لا يتقدم الرحيم على الرحمن ، لأن الرحمن الذي أوجد سليمان وأظهر عموم حكم سلطته على العالم ، يستحق التقدم بالذات على من أوجدهم ممن سليمان من جملتهم ، فلا يليق بكمال علم سليمان ومعرفته تأخيره ، سيما في موضع الاستحقاق الذي هو أول الكلام وصدر الكتاب ومفتتح الدعوة إلى الحق .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ومن حكمة بلقيس وعلو علمها كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب ، وما عملت ذلك إلا لتعلم أصحابها أن لها اتصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها ، وهذا من التدبير الإلهي في الملك ، لأنه إذا جهل طريق الإخبار الواصل للملك خاف أهل الدولة على أنفسهم في تصرفاتهم ، فلا يتصرفون إلا في أمر إذا وصل إلى سلطانهم عنهم يأمنون غائلة ذلك التصرف فلو تعين لهم على يدي ؟ من تصل الأخبار إلى ملكهم لصانعوه وأعظموا له الرشا حتى يفعلوا ما يريدون ولا يصل ذلك إلى ملكهم فكان قولها -   ( أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ) - ولم تسمّ من ألقاه سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواص مدبريها ، وبهذا استحقت التقدم عليهم ) هذا غنى عن الشرح .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما فضل العالم من الصنف الإنسانى على العالم من الجن بأسرار التصريف وخواص الأشياء فمعلوم بالقدر الزماني ، فإن رجوع الطرف إلى الناظر به أسرع من قيام القائم من مجلسه ، لأن حركة البصر في الإدراك إلى ما يدركه أسرع من حركة الجسم فيما يتحرك منه ، فإن الزمان الذي يتحرك فيه البصر عين الزمان الذي يتعلق بمبصره مع بعد المسافة بين الناظر والمنظور ، فإن زمان فتح البصر زمان تعلقه بفلك الكواكب الثابتة ، وزمان رجوع طرفه إليه عين زمان عدم إدراكه ، والقيام من مقام الإنسان ليس كذلك أي ليس له هذه السرعة فكان آصف بن برخيا أتم في العمل من الجن ، وكان عين قول آصف بن برخيا عين الفعل في الزمان الواحد ، فرأى في ذلك الزمان بعينه سليمان عليه السلام عرش بلقيس مستقرا عنده لئلا يتخيل أنه أدركه وهو في مكانه من غير انتقال ) عالم الإنس .
"" أضاف بالى زادة : ( بالقدر الزماني ) فمن كان زمان إتيانه بالعرش أقل فهو أفضل ، فالعالم الإنسانى أفضل. اهـ عبد الرحمن جامى .
وأتمية العمل توجب أتمية العلم ، فكان العالم من الإنس بأسرار التصرف أفضل من العالم من الجن.  اهـ ""
 
هو آصف بن برخيا ، وهو مع فنون علمه كان مؤيدا من عند الله معانا من عالم القدرة بإذن الله وتأييده ، أعطاه الله التصرف في عالم الكون والفساد بالهمة والقوة الملكوتية فتصرف في عرش بلقيس بخلع صورته عن مادته في سبإ ، وإيجاده عند سليمان ، فإن النقل بالحركة أسرع من ارتداد طرف الناظر إليه محال ، إذ النقل زماني ، وحركة البصر نحو المبصر آنية لوقوع الإبصار في فتح البصر في وقت واحد ، فإذن ليس حصول عرش بلقيس عند سليمان بالنقل من مكان إلى مكان ولا بانكشاف صورته على سليمان في مكانه .
 
لقوله :  "فَلَمَّا رَآه مُسْتَقِرًّا عِنْدَه "   - فلم يبق إلا أنه كان بالتصرف الإلهي من عالم الأيدي والقدرة فكان وقت قول آصف : "َأنَا آتِيكَ به قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ "   .
عين وقت انعدام العرش في سبإ وإيجاده عند سليمان ، وهذا التصرف أعلى مراتب التصرف الذي خص الله به من شاء من عباده وأقدره عليه .
وما كان ذلك إلا كرامة لسليمان حيث وهب الله تعالى لبعض أصحابه وأحد خاصته هذا التصرف العظيم وهو من كمال العلم بالخلق الجديد ، فإن الفيض الوجودي والنفس الرحماني دائم السريان والجريان في الأكوان كالماء الجاري في النهر ، فإنه على الاتصال يتجدد على الدوام ، فكذلك تعينات الوجود الحق في صورة الأعيان الثابتة في العلم القديم لا يزال يتجدد على الاتصال .
فقد يخلع التعيين الأول الوجودي عن بعض الأعيان في بعض المواضع ، ويتصل به الذي يعقبه في موضع آخر ، وما ذلك إلا ظهور العين العلمي في هذا الموضع واختفاؤه في الموضع الأول مع كون العين بحاله في العلم وعالم الغيب .
 
ولما كان آصف عارفا بهذا المعنى معتنى به من عند الله مخصوصا منه بالتصرف في الوجود الكوني ، وقد آثر الله تعالى سليمان بصحته وآزره وقواه بمعونته إكراما له وإتماما لنعمته عليه في تسخير الجن والإنس والطير والوحوش ، وإعلاء القدرة وإعظاما لملكه سلط الغيرة على آصف فغار على سليمان وملكه الذي آتاه من أن يتوهم الجن أن تصرفهم الذي أعطاهم الله أعلى وأتم من تصرف سليمان وذويه .
فأعلمهم أن الملك والتصرف الذي أعطى على بعض أصحاب سليمان من خوارق العادات أعلى وأتم من الذي خص الجن به من الأعمال الشاقة الخارجة عن قوة البشر ، والخارق للعادة بحسب الفكر والنظر .
واعلم أن الجن أرواح قوية متجسدة في أجرام لطيفة يغلب عليها الجوهر الناري والهوائى
"" أضاف بالى زادة : (وكان عين قول آصف ) أي قول أهل التصرف جميع قواه عين الحق من وجه خاص يتصرفون فيما يريدون بإذن الله ، فكان قوله بمنزلة قول الله - كُنْ فَيَكُونُ )   - في آن قول الحق عين فعله في الزمان الواحد وبذلك كان وزير سليمان . أهـ. بالى ""
 
كما غلب علينا الجوهر الأرضي والمائى ، وللطافة جواهر أجسامهم وقوة أرواحهم أقدرهم الله على التشكل بالأشكال المختلفة ، والتمكن من حركات سريعة وأعمال عن وسع البشر متجاوزة ، كالملائكة إلا أنها سفلية والملائكة علوية ، والله أعلم .
 
والزمان في قول الشيخ قدس سره فإن الزمان الذي يتحرك فيه البصر عين الزمان الذي يتعلق بمبصره .
وفي قوله : فإن زمان فتح البصر زمان تعلقه بفلك الكواكب الثابتة ، وكل زمان استعمله في الفص المتقدم بمعنى الآن الذي أوردناه في الشرح ، وهو الزمان الذي لا يقبل الانقسام في الخارج لصغره ويقبله في الوهم المسمى بالزمان الحاضر لا الذي هو نهاية الماضي وبداية المستقبل ، فإن ذلك عدمي وهذا وجودي ولفظ الآن يطلق عليها بالاشتراك اللفظي.
 
قال رضي الله عنه :  ( ولم يكن عندنا باتحاد الزمان انتقال ) أي لم يكن أن يكون مع اتحاد زمان قول آصف ورؤية سليمان عرش بلقيس مستقرا عنده وعدمه في سبأ انتقال ، إذ لا بد للانتقال من زمان يتخلل وجوده في سبأ وكونه عند سليمان .
قال رضي الله عنه :  ( وإنما كان إعدام وإيجاد من حيث لا يشعر بذلك أحدا إلا من عرفه ، وهو قوله تعالى -:" بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ "  )   وهو أي عدم الشعور بإعدامه وإيجاده معنى قوله تعالى : " بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ "   - " ولا يمضى عليهم وقت لا يرون فيه ما هم راؤن له " بيان لبس أي يتخلل زمان بين عدمه ووجوده حتى يروا فيه عدمه بل كان وجوده متصلا لم يحسوا بعدمه وقتا ما .
 
"" أضاف بالى زادة : قوله : ( ولم يكن عندنا باتحاد الزمان انتقال ) يعنى أن قوله - أَنَا آتِيكَ به )   - عين فعله في زمان واحد فاتحد قوله وفعله باتحاد الزمان ، وليس ذلك قوله مع الانتقال فإن الانتقال حركة والحركة لا بد لها من زمان ، كما أن القول لا بد له من زمان فلا يمكن أن يكون زمان القول عين زمان الانتقال ، فلم يكن فعله بالعرش انتقالا ( وإنما كان إعدام وإيجاد ) فعلى هذا كان معنى قوله - مُسْتَقِرًّا عِنْدَه )   - أي أعدم في مكانه وأوجد عند سليمان من غير انتقال ، فمن لم يعرف الخلق الجديد لم يشعر بذلك اهـ بالى . ""
.
يتبع 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:08 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر  

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني 
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
وكذلك في كل شيء من العالم لا يحسون وقتا بعدم بين الخلقين المتعاقبين بل يرون وجودا واحدا كما ترى ( وإذا كان هذا كما ذكرناه فكان زمان عدمه أعنى عدم العرش من مكانه عين وجوده عند سليمان ) أي عين زمان وجوده ( من تجديد الخلق مع الأنفاس ، ولا علم لأحد بهذا القدر بل الإنسان لا يشعر به من نفسه أنه في كل نفس لا يكون ثم يكون ) لاقتضاء إمكانه مع قطع النظر عن موجده عدمه كل وقت على الدوام .

واقتضاء التجلي الدائم الذاتي وجوده بل اقتضاء التجليات الفعالية الأسمائية على الاتصال دائما تكوينه بعد العدم في زمان واحد من غير قبلية ولا بعدية زمانية يحس بهما بل عقلية معنوية ، لأن هناك عدما دائما مستمرا باقتضاء العين الممكنة ، ووجودا دائما مستمرا بتجلى الذات الأحدية ، وشؤونات وتعينات متعاقبة مع الأنفاس باقتضاء التجلي الأسمائى ، فإن التشخصات المعينة لهذا الوجود المعين تتجدد مع الآنات ( ولا تقل ثم تقتضي المهلة ) أي ولا تقل إن لفظة ثم تقتضي الزمان. المتراخي

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فليس ذلك بصحيح ، وإنما هي تقتضي تقدم الرتبة العلية عند العرب في مواضع مخصوصة ، كقول الشاعر كهز الرديني ثم اضطراب . وزمان الهز عين زمان اضطراب المهزوز بلا شك ، وقد جاء بثم ولا مهلة ، كذلك تجديد الخلق مع الأنفاس زمان العدم عين زمان وجود المثل ، كتجديد الأعراض في دليل الأشاعرة ، فإن مسألة حصول عرش بلقيس من أشكل المسائل إلا عند من عرف ما ذكرناه آنفا في قصته ، فلم يكن لآصف من الفضل في ذلك إلا حصول التجديد في مجلس سليمان عليه السلام )

 يعنى أن حصول التعينات المتعاقبة وظهور الوجود في صورة عرش بلقيس ، أو ظهور صورة العرش في وجود الحق ، أو تعاقب الوجودات بتعاقب التجليات كلها للحق ، وليس لآصف إلا حصول التجديد في مجلس سليمان ، وذلك أيضا إن كان يقصد منه فهو للحق في مادة آصف ، ولكن لسان الإرشاد والتعليم يقتضي بما رسمه الشيخ قدس سره

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما قطع العرش مسافة ولا زويت له أرض ولا خرقها لمن فهم ما ذكرناه ، وكان ذلك على يدي بعض أصحاب سليمان ليكون أعظم لسليمان عليه السلام في نفوس الحاضرين من بلقيس وأصحابها ، وسبب ذلك كون سليمان هبة الله لداود من قوله تعالى -   ( ووَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ ) - والهبة : عطاء الواهب بطريق الإنعام لا بطريق الجزاء الوفاق والاستحقاق ، فهو النعمة السابغة والحجة البالغة والضربة الدامغة )

فهو أي سليمان لداود هو النعمة ، فإن الخلافة الظاهرة الإلهية قد كملت لداود ، وظهرت أكمليتها في سليمان.  

"" أضاف بالى زادة : فلا يستعمل ثم مطلقا للمهلة بل قد يكون المرتبة العلية وهنا كذلك ، لأن إعدامه في آن علة لإيجاده في آن آخر ، فكان زمان عدمه عين زمان وجوده ، لأن أقل أجزاء الزمان آفات ، فكما أن زمان الهز عين زمان اضطراب المهزوز كذلك تجديد الخلق مع الأنفاس اهـ بالى .
( الجزاء الوفاق ) أي الجزاء الموافق للأعمال وجزاء الاستحقاق بحسب العمل ، يعنى أن وجود سليمان هبة الله تعالى لداود والفعل الذي حصل على يد بعض أصحابه في بلقيس سليمان هبة الله لسليمان لذلك لم يظهر على يدي نفسه ، إذ لو ظهر لتوهم أن ذلك مقابلة عمله لا بطريق الإنعام ( فهو ) أي ما فعل آصف بالعرش في مجلس سليمان ( النعمة السابقة ) لسليمان ( والحجة البالغة ) على أعيان أمته يوم القيامة ( والضربة الدامغة ) في حق الكفار اهـ بالى . ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  (أما علمه فقوله " فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ " مع نقيض الحكم ) أي حكم داود .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكلا آتاه الله حكما وعلما ، فكان علم داود علما مؤتى آتاه الله ، وعلم سليمان علم الله في المسألة إذ كان هو الحاكم بلا واسطة فكان سليمان ترجمان حق في مقعد صدق ، كما أن المجتهد المصيب لحكم الله الذي يحكم به الله في المسألة لو تولاها بنفسه أو بما يوحى به لرسوله له أجران ، والمخطئ لهذا الحكم المعين له أجر واحد مع كونه علما وحكما فأعطيت هذه الأمة المحمدية رتبة سليمان عليه السلام في الحكم ) أي بالقرآن والحديث.
 ( ورتبة داود في الحكمة ) بالاجتهاد .

( فما أفضلها من أمة ، ولما رأت بلقيس عرشها مع علمها ببعد المسافة واستحالة انتقاله في تلك المدة عندها قالت -   ( كَأَنَّه هُوَ ) - وصدقت بما ذكرناه من تجديد الخلق بالأمثال وهو هو ) أي بالحقيقة السريرية والعين المعينة العلمية لا بحسب الوجود المشخص .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وصدق الأمر ، كما أنك في زمان التجديد عين ما أنت في الزمن الماضي ، ثم إنه من كمال علم سليمان التنبيه الذي ذكره في الصرح - فقيل لها  " ادْخُلِي الصَّرْحَ " وكان صرحا أملس لا أمت فيه من زجاج " فَلَمَّا رَأَتْه حَسِبَتْه لُجَّةً " أي ماء "وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها " - حتى لا يصيب الماء ثوبها فنبهها بذلك على أن عرشها الذي رأته من هذا القبيل ،وهذا غاية الإنصاف) .

يعنى إن تقيد الوجود في الصورة العرشية عند سليمان لم يكن إعادة العين ، ولا نقل الوجود المشهود في سبأ إلى مجلس سليمان فإن ذلك محال ، بل إعدام لذلك الشكل في سبإ وإيجاد لمثله عند سليمان من علم الخلق الجديد فهو إيجاد المثل لا إيجاد العين .

وذلك إيهام وتنبيه لها بإظهار المثل ، فإن الصرح موهم للرائي أنه ماء صاف ، كما أن المثل من الصورة العرشية موهم أنه عين العرش الذي كان في سبأ ، فنبهها سليمان بقوله " إِنَّه صَرْحٌ مُمَرَّدٌ من قَوارِيرَ " على أن قولها   " كَأَنَّه هُوَ " صادق إذ ليس هو هو بل كأنه هو ، وكذا سؤال سليمان عنها " أَهكَذا عَرْشُكِ " ولم يقل : أهذا عرشك ، لعلمه بالأمر في نفس الأمر .

"" أضاف بالى زادة : فإنه كما كان الصرح مماثلا للماء كذلك كان وجود العرش عند سليمان مماثلا لوجوده في سبأ ، وهذا تنبيه فعلى كالتنبيه القولي في سؤاله بقوله - أَهكَذا عَرْشُكِ )   - ولم يقل أهذا عرشك ، فنبهت بهذين التنبيهين لتجديد الخلق مع الأنفاس وهو آية كاملة على قدرته باعثة على الإيمان به اهـ جامى .
( من وجه ) وهو من حيث أن ربها رب العالمين ( لكن لا يقوى قوته ) أي لا يساوى انقيادها تقييد فرعون برب خاص اهـ بالى .
فكان إيمان بلقيس لإطلاقه فوق إيمان السحرة وإيمان فرعون في القوة ، فكان إيمان فرعون كإيمان السحرة في القوة لكنه لم يقبل منه لعدم وقوعه في وقته. اهـ بالى  . ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه أعلمها بذلك إصابتها في قولها " كَأَنَّه هُوَ "
فقالت عند ذلك " رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي"
أي اعترفت بظلم نفسي بتأخير الإيمان إلى الآن " وأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ "   أي إسلام سليمان "لِلَّه رَبِّ الْعالَمِينَ " فما انقادت لسليمان وإنما انقادت لرب العالمين ، وسليمان من العالمين فما تقيدت في انقيادها ، كما لا تتقيد الرسل في اعتقادها في الله بخلاف فرعون فإنه قال " رَبِّ مُوسى وهارُونَ " وإن كان يلحق بهذا الانقياد البلقيسي من وجه ، ولكن لا يقوى قوته )


يعنى قيد فرعون إيمانه بقوله "آمَنْتُ أَنَّه لا إِله إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ " وإنما نسب إليه الشيخ الإيمان برب موسى وهارون لأن إيمان بني إسرائيل إنما كان برب موسى وهارون فأسند إليه مجازا ، وإلا لم يقل فرعون " رَبِّ مُوسى وهارُونَ " وقيد إيمانه بإيمان بني إسرائيل ،
وأطلقت بلقيس بقولها " رَبِّ الْعالَمِينَ " وإن كان يلحق تقييده إطلاقها من وجه ، لأن رب موسى وهارون رب العالمين ، لأن كلا منهما اتبع إسلامه إسلام نبيه .
ولكن لا يقوى إسلامه قوة إسلامها لدلالة إسلامها على كمال اليقين حين قرنت إسلامها بإسلام سليمان دون إسلامه "الفرعون" ، فإن إسلامه كان في حال الخوف ورجا النجاة من الغرق بإسلامه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكانت أفقه من فرعون في الانقياد لله ، وكان فرعون تحت حكم الوقت حيث قال " آمَنْتُ أَنَّه لا إِله إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ " فخصص ، وإنما خصص لما رأى السحرة قالوا في إيمانهم " رَبِّ مُوسى وهارُونَ " .
فكان إسلام بلقيس إسلام سليمان إذ قالت " مَعَ سُلَيْمانَ " فتبعته ، فما يمر بشيء من العقائد إلا مرت به معتقدة ذلك ، كما كنا نحن على الصراط المستقيم الذي الرب تعالى عليه لكون نواصينا في يده ويستحيل مفارقتنا إياه ، فنحن معه بالتضمين وهو معنا بالتصريح )

إنما كان فرعون تحت حكم الوقت حيث كان الوقت وقت غلبة بني إسرائيل ونجاتهم وغرقه ، فخصص إيمانه بإيمانهم تقليدا ورجاء للخلاص كخلاصهم لا يقينا ، فكأنه لما رأى الدولة معهم مال إليهم ، وقايس التخصيص على تخصيص السحرة وأخطأ في القياس كإبليس ، فإن إيمان السحرة يتقيد بإيمان النبيين ، والنابع يجب أن يتقيد إيمانه بإيمان نبيه ،
وإنه قيد إيمانه بإيمان بني إسرائيل فكم بين الإيمانين ؟
وأيضا كان تخصيص السحرة بعد التعميم في قولهم " آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ " واستشعارهم أن القبط لغاية تعمقهم في الضلال يحسبون رب العالمين فرعون.

وبين إسلامه وإسلام بلقيس بون بعيد لأن المعية في قولها دالة على أنها تعتقد اعتقاد سليمان مطلقا في جميع الأشياء ، كما نحن بالتبعية مع الرب تعالى على الصراط المستقيم لكون نواصينا بيده فهو على الصراط المستقيم.
فامتنع انفكاكنا عنه فنحن على صراط ربنا بالتبعية ، وهو معنى قوله بالتضمين :
أي على الصراط المستقيم في ضمن كونه عليه لأنه الكل ونحن كالجزء من الكل ، وهو آخذ نواصينا معنا بالتصريح .
 

"" أضاف بالى زادة : فلما اتجه أن يقال إذا كان الحق معنا لزم أن يكون تابعا لنا ، كما إذا كنا معه اعتبارا بمعنى مع ، وكون الحق تابعا محال .
فكيف يصح معيته بنا دفع ذلك بقوله ( فهو تعالى مع نفسه حيث ما مشى بنا ) فهو عيننا من حيث الوجود والحقيقة وإن كان غيرنا باعتبار تعيناتنا الشخصية ، فكونه معنا من حيث الوجود والوحدة معناه مشيئته معنا عين مشيئته مع نفسه ، فكما علمنا أنا كنا مع الحق بالتبعية .
( وكذا علمت بلقيس من سليمان ) أنه مع الله بالتبعية ، فتبعته في الإسلام لتكون مع الله بالتبعية كما كان سليمان. اهـ بالى
( فما هو ) أي فما كان اختصاص سليمان بذلك التسخير ( من كونه تسخيرا ) وإلا لما عمم الله التسخير في حقنا ( فإن الله يقول ). اهـ  بالى زادة. "" .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه قال تعالى " وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ " ونحن معه بكونه آخذا بنواصينا فهو تعالى مع نفسه حيث ما مشى بنا من صراطه ، فما أحد من العالم إلا على صراط مستقيم وهو صراط الرب تبارك وتعالى ، وكذا علمت بلقيس من سليمان فقالت " لِلَّه رَبِّ الْعالَمِينَ " وما خصصت عالما من عالم )
لأنها علمت أن سليمان مع الرب والرب مع الكل بأسمائه ، فيكون سليمان مع الكل لكونه مع الله بجميع أسمائه ، ولهذا سخر الكل بأسماء الله .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما التسخير الذي اختص به سليمان عليه السلام وفضل به غيره وجعله الله له من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده فهو كونه عن أمره فقال " فَسَخَّرْنا لَه الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِه "  فما هو من كونه تسخيرا فإن الله يقول في حقنا كلنا من غير تخصيص " وسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ "  وما في الأَرْضِ جَمِيعاً .
وقد ذكر تسخير الرياح والنجوم وغير ذلك ، ولكن لا عن أمرنا بل عن أمر الله فما اختص سليمان إن عقلت إلا بالأمر من غير جمعية ولا همة بل بمجرد الأمر .
وإنما قلنا ذلك لأنا نعرف أن أجرام العالم تنفعل لهمم النفوس إذا أقيمت في مقام الجمعية ، وقد عاينا ذلك في هذا الطريق ، فكان من سليمان مجرد التلفظ بالأمر لمن أراد تسخيره من غير همة ولا جمعية ) .

يعنى أن التسخير المختص بسليمان هو التسخير بمجرد أمره لا بالهمة والجمعية وتسليط الوهم ، ولا بالأقسام العظام وأسماء الله الكرام .
والظاهر أنه كان له أولا بأسماء الله والكلمات التامات والأقسام ، ثم تمرن حتى بلغ الغاية وانقادت له الخلائق وأطاعه الجن والإنس والطير والوحش وغيرها بمجرد الأمر والتلفظ بما يريد بها من غير جمعية ولا تسليط وهم وهمة عطاء من الله تعالى وهبة .
وكان أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ،
ويحتمل أن يكون ذلك اختصاصا له من الله بذلك ابتلاء .


"" أضاف بالى زادة :  قوله ( وقد عاينا ) أي وقد ظهر لنا ( ذلك ) أي انفعال الأجرام بهمم النفوس حين أقامهم في مقام الجمعية ، فكان الريح والنجوم مسخرا لنا بأمر الله بجمعيتنا وهمتنا ( في هذا الطريق ) أي طريق أهل الله أو طريق الجمع اهـ بالى .
قوله ( طلبه من ربه ) لكن عن أمر ربه ، فكيف ينقص درجته ويحسب عليه في الآخرة ، تعريض لمن زعم أنه اختار الدنيا وطلب ما طلب فينقص من ملك آخرته ويحسب عليه ، فيقتضى ذوق الطريق أي طريق سوق الآية الكريمة في حق سليمان ، أو طريق الكشف ، أو طريق التصوف ، أو طريق الحق ، وهي صراط مستقيم وهذه أحسن الوجوه. اهـ بالى""  

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( واعلم أيدنا الله وإياك بروح منه أن مثل هذا العطاء إذا حصل للعبد أي عبد كان فإنه لا ينقصه ذلك من ملك آخرته ولا يحسب عليه مع كون سليمان عليه السلام طلبه من ربه تعالى فيقتضى ذوق الطريق ) . وفي نسخة (ذوق التحقيق )  

قال رضي الله عنه :  (أن يكون قد عجل له ما ادخر لغيره ويحاسب به إذا أراده في الآخرة ، فقال الله له " هذا عَطاؤُنا "  ولم يقل لك ولا لغيرك " فَامْنُنْ " أي أعط " أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ").

قال رضي الله عنه :  ( فعلمنا من ذوق الطريق أن سؤاله عليه السلام ذلك كان عن أمر ربه ، والطلب إذا كان عن الأمر الإلهي كان الطالب له الأجر التام على طلبه ) لكونه مطيعا لربه في ذلك ممتثلا لأمره

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والباري تعالى إن شاء قضى حاجته فيما طلب منه وإن شاء أمسك ، فإن العبد قد وفى ما أوجب الله عليه من امتثال أمره فيما سأل ربه فيه ، فلو سأل ذلك من نفسه عن غير أمر ربه له بذلك لحاسبه به وهذا سار في جميع ما يسأل فيه الله تعالى كما قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " فامتثل أمر ربه فكان يطلب الزيادة من العلم حتى كان إذا سيق له لبن يتأوله علما ، كما تأول رؤياه لما رأى في النوم أنه أتى بقدح لبن فشربه وأعطى فضله عمر بن الخطاب ، قالوا فما أولته ؟ قال العلم ، وكذلك لما أسرى به أتاه الملك بإناء فيه لبن وإناء فيه خمر فشرب اللبن فقال له الملك أصبت الفطرة أصاب الله بك أمتك ، فاللبن متى ظهر فهو صورة العلم فهو العلم تمثل في صورة اللبن ، كجبريل تمثل في صورة بشر سوىّ لمريم )

إنما أورد هذه المسألة التمثيلية هاهنا لأن الحكمة التي كان في بيانها عن تجديد المثل مع الإلباس في الخلق الجديد هي تمثل المعاني والحقائق في صورة ما كان من الوجود الظاهر بها أو بالعكس على الذوقين من مشربى قرب الفرائض والنوافل فكانت من تتمة ذلك البحث وذنابته

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما قال عليه الصلاة والسلام « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » نبه على أنه كل ما يراه الإنسان في حياته الدنيا إنما هو بمنزلة الرؤيا للنائم فلا بد من تأويله )

مضمون الحديث أن الحياة نوم ، وفحواه أن كل ما يرى من المحسوسات المشهورة كالرؤيا للنائم خيال ، فكما أن للرؤيا معاني متمثلة في الخيال وحقائق متجسدة تحتاج إلى تأويل ، فكذلك كل ما يتجسد ويتمثل لنا في هذا العالم معان وحقائق تمثلت في عالم المثال ثم في عالم الحس ، فعلى أهل الذوق والشهود تأويله إما بالعبور على تلك الحقائق التي تنزلت حتى تمثلت في الصورة المحسوسة التي وصلت إليها ، وإما إلى لوازم هذه الصورة ولوازم لوازمها ، فإن الوجود الساري في الأكوان سرى من كل صورة إلى ما يناسبها ويلازمها ثم إلى عوارضها ولواحقها وتوابعها وتوابع توابعها .
واعلم أن هذه الصور والأشكال والهيئات والأحوال التي نشاهدها بما في العالم ، آيات نصبها الله لنا وأعلام أظهرها أمثلة لحقائق وصور ومعان معقولة أزلية هي شؤونه تعالى وتعيناتها الذاتية -   ( وما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) - باللَّه الذين يعرفون تأويلها ويعبرون عن صورها إلى حقائقها وهو الموفق.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إنما الكون خيال وهو حق في الحقيقة ، والذي يفهم هذا حاز أسرار الطريقة ) أي الكون من حيث الصور والهيئات والأشكال فظاهر في وجود الحق ، وهو من حيث أنه هو الوجود الحق الظاهر في هذه الصور حق بلا شك ، فمن لم يحتجب عن الحق بهذه الصور ورأى الحق المتجلى فيها المتحول في الصور فهو المحقق الواقف على أسرار الطريقة .
"" أضاف بالى زادة :  إنما الكون خيال لأنه ظل إلهي ، وظل الشيء من حيث هو ظل له غير ذلك ، وهو أي الكون حق أي غير الحق في الحقيقة باعتبار الوجود . والذي يفهم هذا أي كون العالم خيالا من وجه وحقا من وجه حاز أسرار الطريقة اهـ بالى . ""

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان صلى الله عليه وسلم إذا قدم له لبن قال « اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه » لأنه كان يراه صورة العلم وقد أمر بطلب الزيادة من العلم ، وإذا قدم إليه غير اللبن قال « اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه » فمن أعطاه الله ما أعطاه بسؤال عن أمر إلهي فإن الله لا يحاسبه به في الدار الآخرة ، ومن أعطاه الله ما أعطاه بسؤال عن غير أمر إلهي فالأمر فيه إلى الله إن شاء حاسبه وإن شاء لم يحاسبه ، وأرجو من الله في العلم خاصة أن لا يحاسب به ، فإن أمره لنبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الزيادة من العلم عين أمره لأمته ، فإن الله يقول "لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ " وأي أسوة أعظم من هذا التأسي لمن عقل عن الله ، ولو نبهنا على المقام السليماني على تمامه لرأيت أمرا يهولك الاطلاع عليه ، فإن أكثر علماء هذه الطريقة جهلوا حالة سليمان ومكانته ، وليس الأمر كما زعموا )

أي حسبوا أنه عليه السلام اختار ملك الدنيا وأنه ينقصه ذلك عن ملك الآخرة ، وهو أعظم مما اعتقدوا في حقه وما قدروا حق قدره ، فإنه عليه السلام كان في أكملية رتبة الخلافة .
وإن الوجود الحق المتعين به وفيه ظهر في أكمل صوره الإلهية والرحمانية ، فهو أكمل مجلى لله مع قيامه بحق العبدانية وكمال إيقانه بذلك فإنه عليه السلام في عين شهود ربه على هذا الكمال وظهوره بأسمائه العظمى كان يعمل بيديه ويأكل بكسبه ويجالس الفقراء والمساكين ، ويفتخر بذلك ويقول : مسكين جالس مسكينا ، 
والله الموفق .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:20 am

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

الجزء الأول
17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية
إنما خصت الكلمة الداودية بالحكمة الوجودية ، لأن الوجود إنما تم بالخلافة الإلهية في الصورة الإنسانية ، وأول من ظهر فيه الخلافة في هذا النوع كان آدم ، وأول من كمل فيه الخلافة بالتسخير داود حيث سخر الله له الجبال والطير في ترجيع التسبيح معه كما قال : ( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَه يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ والإِشْراقِ والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَه أَوَّابٌ )
وجمع الله به فيه بين الملك والخطاب والنبوة في قوله :
( وشَدَدْنا مُلْكَه وآتَيْناه الْحِكْمَةَ وفَصْلَ الْخِطابِ )   - وخاطبه بالاستخلاف ظاهرا صريحا هو داود عليه السلام . 
ولما كان التصرف في الملك بالتسخير أمرا عظيما لم يتم عليه بانفراده ، وهبه سليمان وشركه في ذلك لقوله :
 ( ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وسُلَيْمانَ عِلْماً وقالا الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي فَضَّلَنا )- الآية ، 
وقال : ( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وعِلْماً )   - فكان تتمة لكماله في الخلافة بما خصصه الله به من كمال التصرف في العموم فبلغ الوجود بوجود كماله في الظهور ، وهذا هو السر في اقتران الحكمة الداودية بالحكمة السليمانية ، وتقديم السليمانية على الداودية للمزية الظاهرة له بخصوصية ، فكأنها حكمة واحدة فيما يرجع إلى ظهور كمال الوجود ،

 وحكمتان في ظهور الرحمانية في الفرع ، إذ كل فرع فيه ما في الأصل وزيادة تخصه ، فقدم للزيادة وللتنبيه على أنهما حكمتان متميزتان بتقديم الآخر على الأول كما فعل الله بقصة البقرة.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أنه لما كانت النبوة والرسالة اختصاصا إلهيا ليس فيها شيء من الاكتساب أعنى نبوة التشريع كانت عطاياه تعالى لهم عليهم الصلاة والسلام من هذا القبيل مواهب ليست جزاء ولا يطلب عليها منهم جزاء ، فإعطاؤه إياهم على طريق الإنعام والإفضال فقال : " ووَهَبْنا لَه إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ " يعنى لإبراهيم الخليل ، وقال في أيوب : " ووَهَبْنا لَه أَهْلَه ومِثْلَهُمْ مَعَهُمْ " .
وقال في حق موسى :" ووَهَبْنا لَه من رَحْمَتِنا أَخاه هارُونَ نَبِيًّا " إلى مثل ذلك ،
فالذي تولاهم أولا هو الذي تولاهم آخرا في عموم أحوالهم أو أكثرها ، وليس إلا اسمه الوهاب ، وقال في حق داود: "ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا " فلم يقرن به جزاء يطلب منه ولا أخبر أنه أعطاه هذا الذي ذكره جزاء ، ولما طلب الشكر على ذلك بالعمل طلبه من آل داود ، ولم يتعرض لذكر داود ليشكره الآل على ما أنعم به على داود ) .
اعلم أنه لما كان أصل الوجود الفائض على الأشياء من محض الجود كان كماله الذي هو الخلافة الإلهية أيضا من محض الجود ،
فكانت للنبوة والرسالة التي لا بد للخلافة الإلهية منهما مع التصرف في الملك بالتسخير اختصاصا إلهيا من حضرة اسم الجواد الوهاب ، ليس للكسب والعمل فيه مدخل لا أولا بأن يكون جزاء لعمل منهم ولا آخرا بأن يطلب منهم شكرا وثناء ، ويكون قضاء لحق النعمة عليهم ،
كما ذكر في الآيات المذكورة ، وإنما خصص النبوة بالتشريع احترازا عن نبوة الإنباء العام من البحث في معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله وآثاره ،
وعن علم الوراثة في قوله : « العلماء ورثة الأنبياء » وقوله: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " .

فإن تحصيل علوم النبوة بالكسب وبالعمل الذي يثمره في قوله عليه الصلاة والسلام:  « من عمل بما علم علمه الله ما لم يعلم » نوع النبوة الكسبية ،
فالذي تولاهم أولا بأن أعطاهم تفضلا من غير عمل منهم تولاهم آخرا بأن يحفظ عليهم تلك النعمة في جميع الأحوال أو أكثرها ويزيدها ولا يطلب منهم شكرها مع أنهم لا يخلون بالقيام عن شكرها ، لأن نشأتهم النبوية تعطيهم القيام بحقوق العبدانية على أكمل الوجوه ،
كما قال عليه الصلاة والسلام « أفلا أكون عبدا شكورا » .
ولهذا ذكر أنه أتى داود شكرا فضلا ولم يذكر أنه أعطاه ما أعطاه جزاء لعمله ولم يطلب منه جزاء على ذلك الفضل ، وإنما طلب الشكر بالعمل من آل داود على النعمة التي أنعم بها عليهم وعلى آل داود ، ولأن النعمة على الأسلاف نعمة على الأخلاف .


"" أضاف بالى زادة : فالعبد الشكور هو الذي شكر الله على ما أنعم من غير طلب من الله الشكر ، وأما الذي شكر عن طلب ربه فليس بعبد شكور ، فما كان الشكور من العباد إلا الأنبياء خاصة لورود النص في حقهم ، وأما غيرهم من المؤمنين وإن كانوا شاكرين لكنهم لا يكونون عبدا شكورا لعدم النص في حقهم ، نعم قد أنعم الله على بعض المؤمنين ببعض نعمة من غير طلب الشكر فتبرعوا بالشكر من عند أنفسهم ، فكانوا حينئذ عبدا شكورا ولم يأت النص به اهـ بالى.""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو في حق داود عطاء نعمة وإفضال وفي حق آله على غير ذلك لطب المعاوضة ، فقال الله تعالى :" اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وقَلِيلٌ من عِبادِيَ الشَّكُورُ " وإن كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد شكروا الله تعالى على ما أنعم به عليهم ووهبهم فلم يكن ذلك عن طلب من الله بل تبرعوا بذلك من نفوسهم . كما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه شكرا لما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فلما قيل له في ذلك قال « أفلا أكون عبدا شكورا ».
وقال في نوح :" إِنَّه كانَ عَبْداً شَكُوراً " فالشكور من عباد الله قليل فأول نعمة أنعم الله بها على داود أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتصال ، فقطعه عن العالم بذلك إخبارا لنا عنه بمجرد هذا الاسم ، وهي الدال والألف والواو ) .

أي أخبره كشفا أنه قطعه عن العالم من حيث كونه غيرا وسوى ، وأخبرنا إيماء ورمزا بهذا الاسم بظهور معنى القطع فيه ، فإن الألقاب تنزل من السماء

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسمى محمدا صلى الله عليه وسلم بحروف الاتصال والانفصال فوصله به وفصله عن العالم ، فجمع له بين الحالتين في اسمه كما جمع لداود بين الحالين من طريق المعنى ) وهو اختصاصه بالجمع بين النبوة والرسالة والخلافة والملك والعلم والحكمة والفصل بلا واسطة غيره .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولم يجعل ذلك في اسمه فكان ذلك اختصاصا لمحمد على داود عليهم الصلاة والسلام : أعنى التنبيه عليه باسمه ، فتم له الأمر عليه السلام من جميع جهاته ، وكذلك في اسمه أحمد فهذا من حكمة الله ) أي اختصاصهما بالاسمين الدالين بحروفهما على ما ذكر من المعنيين فيهما من حكمة الله التي في تسميتهما لمن عقل عن الله ولم يعقل شيئا من الأشياء إلا شاهد حكمة الله المودعة فيه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم قال في حق داود فيما أعطاه على طريق الإنعام عليه ترجيع الجبال والطير معه التسبيح فتسبح بتسبيحه ليكون له عملها وكذلك الطير ) في الإنعام عليه بترجيع الجبال والطير معه والتسبيح إيماء إلى حكمة ترجيعهما بكون عملهما له ،
وهي أن الجبال تحكي بصورها رسوب الأعضاء والتمكن والثبات التي هي مخصوصة بالكمل في ظواهرهم ، والطير تحكي بطيرانها حركة القوى الروحانية فيه وفي كل عبد كامل إلى تحصيل مطالبها عند تسبيح الكامل بما يخصه من تنزيه الله عن النقص وبراءته عن صفات الإمكان وحكامه والاتصاف بصفات الوجود وأحكامه ،

ولما كان داود من كمال توجهه وتجرده وانقطاعه إلى الله بالمحبة الذاتية ، والهيمان والعشق وإيثار جنابه على نفسه وما يتعلق به تبعته ظواهره وبواطنه وجوارحه وقواه كلها.
أظهر الله تعالى سر انخراط أعضائه وقواه الروحانية في التنزيه والتقديس في صور الجبال والطير متمثلة له فرجعت معه التسبيح ، لأن الغالب في زمانه تجلى الاسم الظاهر على الباطن لما بقي من حكم الدعوة الموسوية إلى الاسم الظاهر ،
فكانت الحقائق والمعاني مظهر صور قائمة لهم لما أهله وخصه به من كمال ظهور الوجود ( وأعطاه القوة ونعته بها ) .
في قوله : ( واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الأَيْدِ )   أي القوة ( وأعطاه الحكمة ) أي سياسة الخلق وتدبير الملك بوضع الأشياء مواضعها ، وتوجيه الأكوان إلى غاياتها بالتأييد الإلهي والأمر الشرعي.
 (وفَصْلَ الْخِطابِ ) أي الإفصاح عن حقائق الأمور على ما هي عليه ، وفصل الأحكام وقطع القضايا باليقين من غير شك وارتياب ولا توقف فيها .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم المنة الكبرى والمكانة الزلفى التي خصه الله بها التنصيص على خلافته ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه ) وفي نسخة بأحد ، وهو أفصح من اتحادهما في المعنى ( وإن كان فيهم خلفاء فقال (
 
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوى )  .
أي ما يخطر لك في حكمك من غير وحى منى ( فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله )  أي عن الطريق الذي أوحى به إلى رسلي ، ثم تأدب سبحانه معه فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ )  .
 ولم يقل له : فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فإن قلت : فآدم قد نص على خلافته ، قلنا : ما نص مثل التنصيص على داود ،
وإنما قال للملائكة : ( إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً )  ولم يقل إني جاعل آدم خليفة ،
ولو قال أيضا ، لم يكن مثل قوله : ( إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً )   في حق داود ، فإن هذا محقق وذلك ليس كذلك .
وما يدل ذكر آدم في القصة بعد ذلك على أنه عين ذلك الخليفة الذي نص الله عليه ، فاجعل بالك لإخبارات الحق عن عباده إذا أخبر ، )
وكذلك في حق إبراهيم الخليل عليه السلام : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً )  ولم يقل خليفة
وإن كنا نعلم أن الإمامة هاهنا خلافة ،
ولكن ما هي مثلها لأنه ما ذكرها بأخص أسمائها وهي الخلافة ،
ثم في داود عليه السلام من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم ، وليس ذلك إلا عن الله ).
 
"" أضاف بالى زادة : فلا تكون نفس الخلافة لداود المنة الكبرى ، بل التنصيص على خلافته لعموم الخلافة وخصوص تنصيصه ، وإنما كان تنصيصه منه دون تنصيص سائر النعم ، لأن الخلافة مرتبة الألوهية ، ومرتبة الألوهية أعلى المراتب كلها فتنصيصه كذلك اهـ بالى .
فالإمامة تعم الخلافة وغيرها ، وهذه المرتبة والمساواة برسول الله لمن سبقت له العناية من كبار الأولياء ، واتحاد الولي مع النبي في درجة واحدة لا ينافي أفضلية الأنبياء على الأولياء اهـ بالى . ""

أي لا تسند الحكم إلا إلى حضرة الاسم الشامل كلها وهو الله - فإن الحكم لله ، والإمامة بالنسبة إلى الخلافة كالولاية بالنسبة إلى النبوة ، فكما أن الولي قد لا يكون نبيا كذلك الإمام قد لا يكون خليفة والخليفة بمعنى من يخلف ، فلا يكون خليفة حتى يحكم الله على خلافته ، وداود كان كذلك قد أمره الله بالحكم .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال له " فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ " وخلافة آدم قد لا تكون من هذه المرتبة فتكون خلافته أن يخلف من كان فيها قبل ذلك ، لا أنه نائب عن الله في خلقه بالحكم الإلهي وإن كان الأمر كذلك وقع ، ولكن ليس كلامنا إلا في التنصيص عليه والتصريح به ، ولله في الأرض خلائف عن الله وهم الرسل . وأما الخلافة اليوم فعن الرسل لا عن الله ، فإنهم ما يحكمون إلا بما شرع لهم الرسول لا يخرجون عن ذلك ، غير أن هاهنا دقيقة لا يعلمها إلا أمثالنا ، وذلك في أخذ ما يحكمون به مما هو شرع للرسول عليه السلام ) .
 
يعنى خلفاء الرسول لهم الخلافة الظاهرة لا يخرجون عما شرع لهم ، ومنهم من يأخذ الحكم الذي شرع للرسول عن الله ، فهو خليفة الله باطنا يأخذ الحكم عنه ، وخليفة الرسول ظاهرا بأن يكون حكمه المأخوذ من الله مطابقا للحكم المشروع الذي ورثه من الرسول ، فهو مأمور من قبل الله أن يحكم بحكمه الذي جاء به الرسول في خلقه .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالخليفة عن الرسول من يأخذ الحكم بالنقل عنه صلى الله عليه وسلم أو بالاجتهاد الذي أصله أيضا منقول عنه عليه الصلاة والسلام ، وفينا من يأخذه عن الله فيكون خليفة عن الله بعين ذلك الحكم فتكون المادة له من حيث كانت المادة لرسوله عليه الصلاة والسلام : أي مأخذ حكمه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو في الظاهر متبع لعدم مخالفته في الحكم كعيسى عليه السلام إذا نزل فحكم ، كالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في قوله « أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِه » وهو في حق ما يعرفه من صورة الأخذ مختص موافق هو فيه بمنزلة ما قرره النبي عليه الصلاة والسلام من شرع من تقدم من الرسل بكونه قرره فاتبعناه من حيث تقريره لا من حيث أنه شرع لغيره قبله ، وكذلك أخذ الخليفة عن الله عين ما أخذه من الرسول عليه الصلاة والسلام ) .
 
أي الخليفة من الوالي الآخذ الحكم عن الله متبع في الظاهر لعدم مخالفته في الحكم كعيسى حين ينزل فيحكم بما حكم محمد صلى الله عليه وسلم فيما أمر باقتداء هدى الله الذي هدى به من قبله من الأنبياء ، فإنه مختص بالحكم من الله باعتبار أخذه منه موافق لما كان قبله في صورة الحكم صورته صورة الاقتداء ، وهو مأمور به على وجه الاختصاص من عند الله ،
فهذا الخليفة مختص لأنه أخذ الحكم عن الله لا عما أخذه علماء الرسوم بالنقل ، ومشارك لهم في ذلك الأخذ أيضا فهو معهم مثل ما قالوا فيه :
لي سكرتان وللندمان واحدة  .... شيء خصصت به من بينهم وحدي
لأنه أخذ خلاف الأول كرفع القصاص مثلا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنقول فيه بلسان الكشف خليفة الله وبلسان الظاهر خليفة رسول الله ، ولهذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نص بخلافته عنه إلى أحد ولا عينه ، لعلمه أن في عباد الله من يأخذ الخلافة عن ربه فيكون خليفة عن الله مع الموافقة في الحكم المشروع ، فلما علم ذلك عليه الصلاة والسلام لم يحجر الأمر ، فلله خلفاء يأخذون من معدن الرسول والرسل ما أخذته الرسل عليهم السلام ، ويعرفون فضل المتقدم هناك ، لأن الرسول قابل للزيادة ، وهذا الخليفة ليس بقابل للزيادة التي لو كان الرسول قبلها فلا يعطى من العلم والحكم فيما شرح إلا ما شرع للرسول خاصة ، فهو في الظاهر متبع غير مخالف بخلاف الرسول ، ألا ترى عيسى عليه السلام لما تخيلت اليهود أنه لا يزيد على موسى مثل ما قلنا في الخلافة اليوم مع الرسول آمنوا به وأقروه ، فلما زاد حكما ونسخ حكما قد قرره موسى عليه السلام لكون عيسى رسولا لم يحتملوا ذلك لأنه خالف اعتقادهم فيه ، وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه فطلبت قتله ، وكان من قصته ما أخبرنا الله في كتابه العزيز عنه وعنهم ، فلما كان
رسولا قبل الزيادة ، إما بنقص حكم قد تقرر أو زيادة حكم ، على أن النقص زيادة حكم بلا شك )
"" أضاف عبد الرحمن جامي : ( التي لو كان الرسول قبلها ) الرسول مرفوع وكان تامة وقبلها جواب لو : أي الزيادة لو وجد الرسول في زمان ذلك الخليفة كان قابلا لتلك الزيادة أو ناقصة والخبر محذوف : أي لو كان الرسول كائنا في زمان ذلك الخليفة لقبل تلك الزيادة واقتصر على الزيادة لأن النقصان أيضا زيادة اهـ جامى .""
 
 ( والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب ، وإنما تنقص أو تزيد على الشرع الذي قد تقرر بالاجتهاد لا على الشرع الذي شرّفه به محمد صلى الله عليه وسلم ) أي خوطب به مشافهة ونص عليه له ، فإنه لا يجوز الاجتهاد في مثل هذا المشروع والمنصوص ، وإنما يجتهد فيما لم يثبت عند المجتهد بنص .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقد يظهر من الخليفة ما يخالف حديثا ما في الحكم فيتخيل أنه من الاجتهاد وليس كذلك ، إنما هذا الإمام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو ثبت لحكم به ، وإن كان الطريق فيه العدل عن العدل فما هو معصوم عن الوهم ).
أي فما ذلك العدل معصوم الخطأ .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا من النقل على المعنى ، فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم وكذلك يقع من عيسى عليه السلام ، فإنه إذا نزل يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرر فيبين برفعه صورة الحق المشروع الذي كان عليه الصلاة والسلام عليه ، ولا سيما إذا تعارضت أحكام الأئمة في النازلة الواحدة فنعلم قطعا أنه لو نزل وحى لنزل بأحد الوجوه فذلك هو الحكم الإلهي ، وما عداه وإن قرره الحق فهو شرح تقرير لرفع الحرج عن هذه الأمة واتساع الحكم فيها ).
 يعنى أن الخلافة المتقررة عن النبوة التشريعية والرسالة المنقطعتين بخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام ليس لها هذا المنصب بتغيير الأحكام الاجتهادية ، وأكثر خلفاء اليوم خلفاء الرسول لا يأخذون عن الله الأحكام بل عن الرسول بالنقل ، وقد يكون فيهم الخلفاء الأولياء الذين يأخذون الأحكام عن الله مع موافقة الرسول فيها ،
فإنهم يأخذون من الحق ما أخذه الرسول فلا يغير حكما إلا أنه قد يظهر من أحدهم ما يخلف بعض الأحاديث في الحكم مع أن ذلك الحديث ثابت الإسناد في الظاهر نقله العدل عن العدل إلى رسول الله لكنه لو ثبت عنده بالكشف كونه عن النبي لحكم به فيحكم فيما يأخذ عن الله بخلافه إن أمر بذلك، فيتخيل الجاهل بحاله أنه إنما حكم بالاجتهاد على خلاف النص ،
وكذلك إن أمر بالسكوت عنه سكت، وإن أمر أن يبين أن الحديث ثابت ظاهرا من طريق النقل غير ثابت من طريق الكشف بين،
"" أضاف بالى زادة فعلم منه أن الشارع قد ستر الحق المشروع في بعض أحكامه فاختلف الناس فيه بحسب اجتهادهم ، وقرر اجتهاد كل منهم لرفع الحرج عن هذه الأمة فهذا عناية من الله في حقهم فرفع الحرج سبب لحياة الأمة ، فإذا نزل عيسى نزل معه الحرج فتمت مدة حياتهم وقرب هلاكهم اهـ بالى .""
 
فإن العدل قد يخطئ وقد يحكم بما لم تثبت صحته بالنقل لثبوت صحته بالكشف، إما بالأخذ عن الله وتصحيح ذلك في الحضرة الإلهية، وإما باجتماع روحه بروح الرسول بعروجه إليه أو بنزول روح الرسول إلى مرتبته وبرزخه في عالم المثال، أو بالأخذ عن الله وسؤال الرسول عن صحة الحديث ونفى الرسول صحته، كما ينزل عيسى برفع كثير من الأحكام الاجتهادية المقررة في الشرع فيبين ما كان صلى الله الله عليه وسلم عليه،
ولا سيما ما اختلف فيه من الأحكام وتعارض بين الأئمة، لأنا نعلم قطعا أن الحكم لو نزل بالوحي لنزل على أحد الوجهين المتعارضين ، هذا إذا كان الحكم إلهيا بالوحي
وما عداه مما لم ينزل به الوحي فهو شرع وتقرير قرر لدفع الحرج عن هذه الأمة ، بمقتضى قوله عليه الصلاة والسلام " بعثت بالحنيفية السمحة " فاتسع فيه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما قوله عليه الصلاة والسلام « إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما » فهذا في الخلافة الظاهرة التي لها السيف ، وإن اتفقا فلا بد من قتل أحدهما ، بخلاف الخلافة المعنوية فإنه لا قتل فيها )
هذا جواب سؤال أو اعتراض يرد على ما ذكر من أن الخليفة الولي الذي يأخذ الحكم عن الحق إذا خالف الحكم الثابت في الظاهر الثابت في الظاهر بالحديث الصحيح إسناده بنقل العدل عن العدل ، وجب على أهل الظاهر والسلطان القائم بأمر الشرع أي الخليفة الظاهر قتله بحكم هذا الحديث ، وكيف يصح حكمه .
وجوابه أن هذا في الخلافة الظاهرة التي لها السيف والأخذ بالنقل فقط ، فإنهما وإن اتفقا في الحكم فلا بد من قتل أحدهما ليتحد الحكم ، وأما هذه الخلافة الحقيقية المعنوية فلا تكون في كل عصر إلا لواحد كما أن الله واحد وهو القطب وإنما هو نائبه ، ولا يظهر الحكم إلا بأمر الله ولا يعارضه أحد ، فإنه إن علم الحكم من عند الله ولم يأمره بالإظهار فلا يعارض الظاهر ، وإن أمر فلا يقدر أحد على منعه لأنه منصور من الله ، فلا قتل في هذه الخلافة .
( وإنما جاء القتل في الخلافة الظاهرة ، وإن لم يكن لذلك الخليفة ) أي الخليفة الظاهر إلا آخر ( هذا المقام ) أي أخذ الحكم عن الله .
( وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عدل فمن حكم الأصل الذي به تخيل وجود الهين ) أي ما جاء القتل إلا في الخلافة الظاهرة ولم يكن للخليفة الظاهري .
الثاني مقام الأخذ من الله فهو خليفة رسول الله إن كان عادلا فمن حكم الأصل الذي هو وحدة الله تعالى جاء قتله لأنه الثاني ، وكونه ثاني الأول يخيل جواز وجود إلهين فهو محال .
"" أضاف بالى زادة :
فالقتل ينوبه إلى من كان سببا لتخيل وجود إلهين وهو الثاني ضد الأول ، فإن الخليفة مظهر الحق فيتخيل يتعدده تعدد الحق فوجب الرفع لتخيل قتل الثاني الذي هو سببه اهـ بالى .
الأصل هو برهان التمانع وحكمه : أي نتيجته وجوب وحدة الواجب ، فوجوب وحدته يحكم بوجوب وحدة الخليفة الذي هو ظله وقتل الآخر من الخليفتين ، فقوله : فمن حكم الأصلي جزاء لقوله : وإن لم يكن لذلك الخليفة اهـ جامى . ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( و "لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا " وإن اتفقا فنحن نعلم أنهما لو اختلفا تقديرا لنفذ حكم أحدهما فالنافذ الحكم هو إله على الحقيقة ، والذي لم ينفذ حكمه ليس بإله ، ومن هذا نعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم أنه حكم الله وإن خالف الحكم المقرر في الظاهر المسمى شرعا إذ لا ينفذ حكم إلا لله في نفس الأمر ، لأن الأمر الواقع في العالم إنما هو على حكم المشيئة الإلهية لا على حكم الشرع المقرر وإن كان تقريره من المشيئة ولذلك نفذ تقريره خاصة ، فإن المشيئة ليست لها فيه إلا التقرير لا العمل بما جاء به )
 
بيان الملازمة : أنه لو كان فيهما آلهة غير الله كما زعموا أو إله آخر غيره لكانا إما إلهين بالذات أو بأمر زائد عليهما ،
فإن كان الثاني الزم افتقارهما في الإلهية إلى الغير فلم يكونا إلهين ،
وإن كان الأول ، فإما أن يتخالفا في الإيجاد والإعدام أو يتوافقا ، فإن تخالفا تخالفا لتساويهما في القوة فلا يقع إيجاد ولا إعدام ، وإن توافقا فإما أن ينفذ حكم كل واحد منهما في الآخر فلا يكون أحدهما إلها لنفوذ حكم الآخر فيه ،
وكذا إن لم ينفذ حكم كل واحد منهما في الآخر لعجز كل منهما ، فإن نفذ حكم أحدهما في الآخر دون العكس فالنافذ الحكم هو الإله دون الآخر .
ولما كان النافذ الحكم هو الإله دون غيره علمنا أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم أنه حكم الله ، وإن خالف الشرع المقرر في الظاهر إذ لا ينفذ إلا حكم الله في نفس الأمر ،
لأن كل ما وقع في العالم إنما وقع بحكم المشيئة الإلهية لا بحكم الشرع ، فإن تقريره إنما هو بالمشيئة ، ولذلك نفذ تقريره خاصة لا العمل به إلا ما تتعلق به المشيئة من العمل ، ولهذا قال بعد قوله : "كَلَّا إِنَّه تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَه وما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله "   .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالمشيئة سلطانها عظيم ولهذا جعلها أبو طالب عرش الذات لأنها لذاتها تقتضي الحكم فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع عنه خارجا عن المشيئة ، فإن الأمر الإلهي إذا خولف هنا بالمسمى معصية فليس إلا الأمر بالواسطة لا الأمر التكويني ، فما خالف الله أحد قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة ، فافهم )
يعنى أن حقيقة المشيئة تقتضي الحكم لذاتها لأنها نفس الاقتضاء والاقتضاء هو تخصيص ما عينه العلم بالحكم فيقع ما تعلقت المشيئة به ،
فإن الأمر الإلهي الذي لا راد له وحكم الله الذي لا معقب لحكمه هو الذي تعلقت المشيئة بوقوعه وجودا وعدما ، فإن لم تقترن المشيئة بوقوع العمل واقترن الأمر به لم يقع ، وإن اقترنت باقتران الأمر به يقع ، لأن المشيئة إنما اقتضت وقوع الأمر بذلك العمل لا وقوعه أي صدور العمل من المأمور المعين ،
"" أضاف بالى زادة : فالمشيئة إذا تعلقت تقرير الحكم المشروع خاصة نفذ تقرير ذلك الحكم لا العمل به ، وإذا تعلقت تقريره مع العمل به نفذ تقرير ذلك الحكم والعمل به فالتكاليف نفذ تقريرها ، وأما العمل بها فقد ينقذ لتعلق المشيئة به ، وقد لا ينفذ لعدم تعلقها به ، فإذن لم يقع الأمر إلا بحسب المشيئة اهـ بالى.
ولما يشعر كلامه أن للعبد تأثيرا في الجملة في وجود الفعل نفى ذلك بقوله ( وعلى الحقيقة ) فكان ذلك المحل شطا لصدور الفعل ( فأمر المشيئة ) يتعلق بالمشروط بتعلق آخر غير تعلقه بالشرط لا أن المشيئة تتعلق بعين العبد ، والعبد يفعل الفعل بلا تعلق المشيئة ،
فالمشيئة بذلك الفعل بل يشترك في الفعل معنى المشيئة ، فالمشيئة تستقل بوجود الفعل في التأثير كما تستقل في وجوه العبد ،
فالعبد لا تأثير له في فعله كما لا تأثير له في وجود نفسه ، وإنما بنى هنا المعنى على الحقيقة لأن بناء الظاهر هو أن العبد يكسب فعله ، فاللَّه يخلقه فكان للعبد تأثير في فعله بهذا الوجه ، ولا تأثير بذلك الوجه ، فمراد الله بحسب الوقوع في الخارج تابع لمشيئته ، وبحسب الوجود العلمي فالمشيئة تابعة له فلا جبر ، فإن كان الجبر فمن العبد لا من الله ، وإنما كان من الله أن لو كان المعلوم والمراد تابعا للعلم والمشيئة من كل الوجوه اهـ بالى .  ""
 
فالمسمى معصية ومخالفة إنما هو باعتبار أمر المكلف والشارع المتوسط لا باعتبار التكوين الذي هو المشيئة ، فلا يخالف الله في أمره الذي لا واسطة فيه فلا رادّ له ولا معقب ، فهذا يقتضي الألوهية .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل لا على من ظهر على يديه فيستحيل أن لا يكون ، ولكن في هذا المحل الخاص فوقتا يسمى به مخالفة لأمر الله ) ووقتا يسمى موافقة وطاعة لأمر الله  .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  (يعنى أن أمر المشيئة إنما يتعلق على الحقيقة بعين الفعل مقتضيا وجوده لا بمن ظهر على يديه ، وإنما عدى فعل التوجه بعلي لتضمينه معنى الحكم ، يعنى أن أمر المشيئة يحكم على الفعل بالوجود متوجها نحوه ولا يحكم على فاعله فيستحيل أن لا يقع ، ولكن في المحل الخاص الذي يقع الفعل على يده يسمى وقتا موافقة وطاعة لأمر الله).
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:20 am

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

الجزء الثاني
17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية
وذلك إذا كان ذلك الشخص مأمورا بذلك الفعل من جهة الشرع ، ووقتا مخالفة ومعصية لأمر الله إذا كان منهيا في الشرع عن ذلك الفعل ( ويتبعه لسان الحمد والذم على حسب ما يكون )
أي حسب الموافقة لأمر الواسطة والمخالفة ، وإن كان العبد في كليهما موافقا لأمر الإرادة مطيعا له .

قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما كان الأمر في نفسه على ما قررناه لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة على اختلاف أنواعها ، فعبر عن هذا المقام بأن الرحمة وسعت كل شيء ، فإنها سبقت الغضب الإلهي والسابق متقدم ، فإذا لحقه هذا الذي حكم عليه المتأخر حكم عليه المتقدم ، فنالته الرحمة إذا لم يكن غيرها سبق )

يعنى أن الأمر لما كان على ما قررناه من اقتضاء المشيئة لوجود الفعل لزم أن يكون مآل الكل إلى السعادة سواء كان الفعل موافقة وطاعة أو مخالفة ومعصية ، لأن الإيجاد وهو الرحمة ، فالرحمة وسعت كل شيء حتى المعصية لعموم النص فإنها عمت وسبقت الغضب الإلهي فلا يلحقها الغضب وإلا لم تكن سابقة ، فإذا حكم الغضب على المغضوب عليه من حيث اقتضاء المعصية والمخالفة ذلك ،

وكانت الرحمة المقدمة هي الغاية لحق الرحمة السابقة في الغاية فنالته الرحمة فحكمت عليه إذا لم يسبق غيرها ، فثبت أن المآل إلى الرحمة والسعادة فلا يبقى للغضب حكم ، وأيضا فالأعيان مرحومة لأنها موجودة وداخلة في عموم الشيء الذي وسعته الرحمة وهي الغاية المتقدمة ، فكيف للغضب المحفوف بالرحمتين حكم ، فالغضب هو العسر بين اليسرين.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهذا معنى سبقت رحمته غضبه لتحكم على من وصل إليها ، فإنها في الغاية وقفت والكل سالك إلى الغاية فلا بد من الوصول إليها ، فلا بد من الوصول إلى الرحمة ومفارقة الغضب ، فيكون الحكم لها في كل واصل إليها بحسب ما يعطيه حال الواصل إليها ) فإن حال الغضب لا يعطيه من الرحمة إلا التعوذ بالغضب والالتذاذ

 
بمقتضاه حتى يصير في حقه مسمى جهنم جنة ، وحال البعض الخلاف من الغضب ، وحال البعض وجدان أثر الرضا وروح الجنة ، وحال البعض البلوغ إلى الدرجات ، وفي الجملة لا يخلو أحد في العاقبة من سعادتهما وإن كانت نسبية :
( فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا .... وإن لم يكن فهم فيأخذوه عنا
فما ثم إلا ما ذكرناه فاعتمد     ..... عليه وكن بالحال فيه كما كنا
فمنه إلينا ما تلونا عليكم      ..... ومنا إليكم ما وهبناكم منا )

أي فمن الحق ورد إلينا ما قلنا لكم وتلونا عليكم ، وليس بوارد منه إليكم ما وهبنا لكم :
أي ما وهبنا لكم فمنا ورد إليكم ، ويجوز أن يكون المعنى منا ورد إليكم ما وهبنا لكم بل منه بواسطتنا ، وكلا المعنيين يستقيم ، وتعدية وهبنا بنفسه كقوله :" واخْتارَ مُوسى قَوْمَه " في حذف الجار وإيصال الفعل إلى مفعوله .

"" أضاف بالى زادة : (فمن كان ذا فهم ؟ ) أي ذا بصيرة وكشف ( يشاهد ما قلنا ) من غير أخذ من قولنا ( وإن لم يكن ذا فهم فيأخذه عنا ) أي يدرك هذا المعنى عن قولنا على ما هو الأمر عليه بالعقل السليم وهم المؤمنون بحال أهل الله ،
وفيه إشارة إلى أن المحبين من أهل الله ( فما في ) أي فما في هذه المسألة في نفس الأمر ( إلا ما ذكرناه فاعتمد عليه وكن بالحال فيه ) أي فيما ذكرنا ، لا تكن بالقال ( كما كنا بالحال فيه ، فمنه ) أي من الحق أو من الرسول ( نزل إلينا ما تلونا ) أي الذي تلونا ( عليكم ومنا نزل إليكم ما ) أي ليس ( وهبناكم منا ) أي من عند أنفسنا .أهـ بالى ""


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما تليين الحديد فقلوب قاسية يلينها الزجر والوعيد تليين النار الحديد ، وإنما الصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة ، فإن الحجارة تكسرها وتكلسها النار ولا تلينها )
يعنى أن الحجارة ليس لها قبول التليين ، فإن النار تكسرها أو تكلسها ، فالقلوب التي تشبهها لا يؤثر فيها الزجر والوعيد
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما ألان الحديد له إلا لعمل الدروع الواقية تنبيها من الله أن لا يتقى الشيء إلا بنفسه ، فإن الدروع يتقى بها السنان والسيف والسكين والنصل فاتقيت الحديد بالحديد ، فجاء الشرع المحمدي بأعوذ بك منك فافهم ، هذا روح تليين الحديد فهو المنتقم الرحيم ، والله الموفق )

أي إنما ألان لداود الحديد لعمل الدروع الواقية من الحديد تنبيها له على أنه لا يتقى الله إلا به ، كما قال عليه الصلاة والسلام « أعوذ بعفوك من عقابك ، وأعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بك منك » فصورة تليين الحديد على يديه صورة ما أعطاه الله تعالى من قوة تليينه للقلوب السامعة لكلامه ومزاميره القابلة لمعانيها .

كما أن تسبيح الجبال والطير وترجيعها إياه معه صورة تسبيحه في جوارحه وقواه حتى تشكلت بالهيئة التنزيهية ، وانخرطت بالكلية في سلك التقديس والتوحيد ،
فتليين القلوب روح تليين الحديد ، والتوحيد الذاتي في أعوذ بك منك روح اتقاء الحديد بالحديد ، فتوحيد القلوب يسبب لها روح الروح ، فإنها إذا لانت وسعت الحق فعرفت أن المنتقم هو الرحيم .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالأحد يناير 19, 2020 6:18 pm

18 -  فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

الفص اليونسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
  18 -  فص حكمة نفسية في كلمة يونسية
إنما خصت الكلمة اليونسية بالحكمة النفسية ، لما نفس الله بنفسه الرحماني من كربه الذي لحقه من جهة قومه وأولاده وأهله ، أو لما دهمه في بطن الحوت ، أو من جهة أنه كان من المدحضين ، أو من جميع تلك الأمور حيث سبح واعترف واستغفر ( فَنادى في الظُّلُماتِ أَنْ لا إِله إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ من الظَّالِمِينَ )   فنفس الله عنه كربه ووهبه سربه وأهله .
قال تعالى :  ( ونَجَّيْناه من الْغَمِّ وكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ )   وقيل نفسية بسكون الفاء لأنه ظهر بالنفس وفارقهم من غير إذن الله فابتلاه الله بالحوت أي بالتعلق البدني والتدبير الذي يلزم النفس عند استيلاء الطبيعة وخصوصا عليها ، وخصوصا عند الاجتنان في بطن الأم ، ولهذا وصف بكونه عليما .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أن هذه النشأة الإنسانية بكمالها روحا وجسما ونفسا خلقها الله على صورته ، فلا يتولى حل نظامها إلا من خلقها إما بيده وليس إلا ذلك ، أو بأمره ) .


بكمالها أو بمجموعها ظاهرا وباطنا كما ذكر في الفص الأول لأن المراد بآدم نوع الإنسان ، ولما خلقها بيديه على صورته لم يجز أن يتولى حل نظامها إلا هو.
كما قال تعالى : ( الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها )   وليس ذلك إلا لعدم جواز تخريب البنيان الإلهي إلا بيده على مقتضى حكمته أو بأمره كما في القصاص ( ومن تولاها بغير امر الله ) أي ظلما (فقد ظلم نفسه وتعدى حد الله فيها ، وسعى في خراب من أمره الله بعمارته . واعلم أن الشفقة على عباد الله أحق بالرعاية من الغير في الله ) .


يعنى أن الإبقاء على النفوس المستحقة للقتل شرعا كالكفار والمشركين وغيرهم أحق بالرعاية لأنها بنيان الرب من القتل غيرة في الله أي في حقه وفي دينه من أن يعبد غيره ويعصى مع أن الشرع حرّض على الغزو ، فإن استمالة الكفار والمخالفة معهم شفقة على خلق الله بنية حرمة من خلقه الله ورزقه رجاء في أن يدخلوا الإسلام خير من تدميرهم وإهلاكهم ، كما فعل عليه الصلاة والسلام بالمؤلفة قلوبهم وغيرهم .
وقد يثيب الله على ذلك ولا يؤاخذ على عدم الغيرة ، فإن الغيرة لا أصل لها في الحقائق الثبوتية لأنها من الغيرية ، ولا غير هناك .


قال رضي الله عنه :  ( وأراد داود عليه السلام بنيان بيت المقدس فبناه مرارا فكلما فرغ منه تهدم ، فشكا ذلك إلى الله ، فأوحى الله إليه « إن بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدماء ،
فقال داود : يا رب ألم يكن ذلك في سبيلك ؟ قال : بلى ولكنهم أليسوا عبادي ؟
قال :  يا رب فاجعل بنيانه على يدي من هو منى ، (فأوحى الله إليه : إن ابنك سليمان يبنيه )،

قال رضي الله عنه :  (فالغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الإنسانية وأن إقامتها أولى من هدمها ألا ترى عدو الدين قد فرض الله فيهم الجزية والصلح إبقاء عليهم ،
قال :  "وإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وتَوَكَّلْ عَلَى الله "،  ألا ترى من وجب عليه القصاص كيف شرع لولى الدم أخذ الدية أو العفو ، فإن أبى فحينئذ يقتل ، ألا تراه سبحانه إذا كان أولياء الدم جماعة فرضى واحد بالدية أو عفا ، وباقي الأولياء لا يريدون إلا القتل كيف يراعى من عفا ويرجح على من لم يعف فلا يقتل قصاصا ، ألا تراه عليه الصلاة والسلام يقول:  في صاحب النسعة « إن قتله كان مثله » ألا تراه تعالى يقول : "وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها "  فجعل القصاص سيئة أي يسوء ذلك الفعل مع كونه مشروعا .)

"" أضاف بالى زادة : فأشفق الحق على عباده الذين وجب عليهم القتل ، فكيف على عباده الذين لم يجب عليهم القتل ، فأما لسان الذم على جهة الشرع فممدوح عند الله ، والمذموم على جهة الفرض مذموم عند الله ، بل هو مذموم عند صاحب الفرض لعدم موافقته لغرضه .أهـ بالى زادة . ""
 
( فَمَنْ عَفا وأَصْلَحَ فَأَجْرُه عَلَى الله )   - لأنه على صورته ، فمن عفا عنه ولم يقتله فأجره على من هو على صورته ، لأنه أحق به إذ أنشاه له ، وما ظهر باسم الظاهر إلا بوجوده ) هذه الحكاية والأدلة كلها أوردها لرجحان العفو على القتل لأن الإنسان خلق على صورة الله ، وقد أنشأه الله لأجله فالإبقاء على صورة الله أولى ، وكيف لا يكون أولى وما ظهر الله بالاسم الظاهر إلا بوجوده ، وأما النسعة فإنها كانت لرجل وجد مقتولا ،
فرأى وليه نسعته في يد رجل فأخذه بدم صاحبه ، فلما قصد قتله قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن قتله كان مثله في الظلم » إذ لا يثبت القتل شرعا بمجرد حصول النسعة في يد آخر وكلاهما هدم بنيان الرب ،
والنسعة : حبل عريض كالحزام ، وقد يكون من السير أو الفدم ؟ ؟ ؟
قال رضي الله عنه :  ( فمن راعاه ) أي الإنسان ( فإنما يراعى الحق ، وما يذم الإنسان لعينه وإنما يذم الفعل منه ، وفعله ليس عينه وكلامنا في عينه ولا فعل إلا لله ، ومع هذا ذم منها ما ذم وحمد ما حمد ) إذا أضيف الفعل إليه ( ولسان الذم على جهة العرض مذموم عند الله ) فإن ذم الصورة الإلهية راجع إلى ذم فاعلها الظاهر فيها لغرض يعود إلى نفس من يعلم أنه ينفعه أو يضره ،
فإنه أراد أن ينفعه فضره
قال رضي الله عنه :  ( فلا مذموم إلا ما ذمه الشرع ، فإن ذم الشرع لحكمة يعلمه الله ، أو من أعلمه الله كما شرع القصاص للمصلحة إبقاء لهذا النوع ، وإرداعا للمتعدى حدود الله فيه -   "ولَكُمْ في الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الأَلْبابِ " وهم أهل لب الشيء الذين عثروا على سر النواميس الإلهية والحكمية )
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (وإذا علمت أن الله تعالى راعى هذه النشأة وراعى إقامتها فأنت أولى بمراعاتها إذ لك بذلك السعادة فإنه ما دام الإنسان حيا يرجى له تحصيل صفة الكمال الذي خلق له ، ومن سعى في هدمه فقد سعى في منع وصوله لما خلق له ، وما أحسن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أنبئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ذكر الله " )
والسر في ذلك أن الغزو إنما شرع لإعلاء كلمته ، وذكره إن كانت الدولة للمسلمين والغلبة للمجاهدين وإن لم يكن كذلك وكان بالعكس كان فيه نقصان عبيد الله الذاكرين له ، وتفويت العلة الغائية فذكر الله تعالى مع الأمن من المحذور وهو الفتنة وقتل أولياء الله أفضل من الجهاد الظاهر ، وإن كان المقتول في سبيل الله على أجر تام ، فذلك حظه بهدم أبنية الرحمن في صورة الإنسان .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وذلك أنه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانية إلا من ذكر الله الذكر المطلوب منه ، فإنه تعالى جليس من ذكره الجليس مشهود الذاكر ، ومتى لم يشاهد الذاكر الحق الذي هو جليسه فليس بذاكر ، فإن ذكر الله سار في جميع أجزاء العبد لا من ذكره بلسانه خاصة ، فإن الحق لا يكون في ذلك الوقت إلا جليس اللسان خاصة ، فيراه اللسان من حيث لا يراه الإنسان بما هو راء وهو البصر ) .


الذكر المطلوب من العبد هو أن يذكر الله بلسانه مع نفى الخواطر ، وحديث النفس ومراقبة الحق بالقلب بأن يكون بقلبه مع المذكور ، وبعقله متعقلا لمعنى الذكر ، وبسره فانيا في المذكور عن الذكر ، وبروحه مشاهدا له فإنه جليسه مشهود الذاكر ، فمتى لم يشاهده فليس بذاكر إياه إذ لو ذكره لرآه ، فإن الذاكر بالحقيقة يفنى عن سوى المذكور حتى عن الذكر بالمذكور وعن نفسه ، فإن نفسه من جملة السوي فيكون الذاكر هو المذكور فيحييه الله به حياة طيبة نورية بالبقاء بعد الفناء فيه ، فيهنأ فيها العيش مع الله باللَّه معية لا بالمقارنة فيشهد به في كل ما يشهده ، وذلك معنى سريان ذكر الله في جميع العبد حتى أفناه عنه وأحياه به ، وإن لم يكن ذكره إلا بلسانه فالذاكر ذلك الجزء منه الذي هو اللسان فلا يكون الحق إلا جليس اللسان لا جليسه ، إذ لم يذكره بجوامع أجزاء وجوده فيراه اللسان ويختص اللسان بحظ الإنسان
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فافهم هذا السر في ذكر الغافلين ، فالذاكر من الغافل حاضر بلا شك والمذكور جليسه فهو يشاهده ، والغافل من حيث غفلته ليس بذكر فما هو جليس الغافل ، فإن الإنسان كثير ما هو أحدى العين والحق أحدىّ العين كثير بالأسماء الإلهية كما أن الإنسان كثير بالأجزاء ، وما يلزم من ذكر جزء ما ذكر جزء آخر فالحق جليس الجزء الذاكر منه ، والآخر متصف بالغفلة عن الذكر ، ولا بد أن يكون في الإنسان جزء يذكر به فيكون الحق جليس ذلك الجزء فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية ) 
هذا حال من يذكره ببعض أجزائه ويغفل عنه ببعضها فيكون الحق جليس ذلك الجزء مجالسة تمثيلية فإنه يعتقد كون الحق جليس الذاكر فإذا ذكره بجزء كان ذلك الجزء مختصا بمجالسته دون ما لم يشتغل بذكره من الأجزاء وكذلك شهوده ، وقد يختلف الذكر والشهود بحسب الأجزاء ، فإن ذكر القلب وشهوده جليسه بفضل كثير ذكر اللسان ومجالسته ، فإذا خشع القلب خشع جميع الجوارح بتبعيته ، 


كما قال الشيخ رضي الله عنه :
الصلاة والسلام فيمن لعب بلحيته في الصلاة « لو خشع قلبه لخشع جوارحه » بخلاف سائر الأجزاء ، فإن اللسان قد يذكر ويغفل عن الذكر سائر الأجزاء ، فإذا سرى الذكر في جميع أجزاء العبد وخشع العبد لربه بالكلية كان الحق إذا جليسه بشهادة الله ورسوله ، ولا بد أن يذكر بجزء ما فيكون الحق جليس ذلك الجزء ، فيحفظ باقي الأجزاء بحكم العناية أي العلم باتصاله ببعض الوجوه .


 "" أضاف بالى زادة : (ولا بد في الإنسان جزء يذكر به ) إذ لو لم يكن لعدم الإنسان فيحفظ ذلك الجزء بذكر الله وجليسه ( فيحفظ باقي الأجزاء ) بسبب الجزء الذاكر ، والإنسان ما دام ذاكرا للحق فهو حي محفوظ ( بالعناية ) الإلهية ، فإذا جاء أجله نسي ذكر الله فطرأ عليه الموت .أهـ بالى زادة. ""
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما يتولى الحق هدم هذه النشأة بالمسمى موتا فليس بإعدام وإنما هو تفريق فيأخذه إليه ، وليس المراد إلا أن يأخذه الحق إليه " وإِلَيْه يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه " فإذا أخذه إليه سوى له مركبا غير هذا المركب من جنس الدار التي ينتقل إليها وهي دار البقاء لوجود الاعتدال ، فلا يموت أبدا أي لا تفترق أجزاؤه ) .
يعنى ليس الموت إعداما ، وإنما هو تفريق الأجزاء المجتمعة فيقبض روحه وحقيقته إليه ، وتفرقه الأجزاء العنصرية فيجمع الله كلا إلى أصله  ( وإِلَيْه يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ) فإذا قبضه اجتمع إليه قواه الروحانية فسوى له مركبا فعاليا وصورة جسدانية ممثلة غير هذا المركب الذي فارقه ، فإن كان من أرباب من تفتح له السماوات خالط الملأ الأعلى وأرواح القدسيين ،
 
كما قال : « أرواح الشهداء في قناديل معلقة تحت العرش"
وفي حديث آخر "  في حواصل طيور خضر " هي الأجرام السماوية ، وإن لم يكن من جملة من تفتح له أبواب السماء ولا يستطيع أن ينفذ من أقطار السماوات ،
"" أضاف بالي زادة : (وإِلَيْه يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه )   وموت الإنسان بسبب رجوعه إلى الله تعالى فما فعل الله الإنسان إلا بأحسن الأمور . ولما اتجه أن يقال إن هذا لا يصدق في حق أهل النار لأن النصوص تدل على تفرق أجزائهم ، أجاب عنه بقوله (وأما أهل النار) .بالى زادة أهـ ""
 
كما قال :  "لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ "  فلا بد من مركب من جنس الدار التي ينتقل إليها من عودات وتعلقات بصور مناسبة لقواه وحقائقه وصفاته الراسخة فيه وأخلاقه ، ومن إقامة الدار التي انتقل منها إليها مدة إلى مساعدة الطالع الإلهي الأسمائى الذي هو طالع طالعه المولدى بعد ربوبية أسمائية من سدنة الاسم العدل فتسبقه الرحمة وتناله في الغاية إن قدر له الواقي من هذه الأطوار أن يفتح له أبواب السماء بمفاتيح الأمر ،
فيسوى الله له هيكلا روحانيا نوريا مناسبا لهيئته البهية النورية في دار البقاء لوجود الاعتدال المقتضى لدوام الاتصال ، فلا يموت أبدا ولا تفترق أجزاؤه ،
كما قال تعالى :  ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولى )   
ومن جملة العودات قوله :  ( فَالْتَقَمَه الْحُوتُ وهُوَ مُلِيمٌ)    .
قال رضي الله عنه :  (وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم ولكن في النار إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب أن تكون بردا وسلاما على من فيها ، بحكم الرحمة السابقة ) على ما تقدم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا نعيمهم فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل الله حين ألقى في النار ، فإنه عليه الصلاة والسلام تعذب برؤيتها وبما تعود في علمه وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان ، وما علم مراد الله فيها ومنها في حقه ) قبل الإلقاء عنده .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود الصورة الكونية في حقه وهي نار في عيون الناس ، فالشيء الواحد يتنوع في عيون الناظرين هكذا هو التجلي الإلهي ،
وإن شئت قلت : إن الله تجلى مثل هذا الأمر ، وإن شئت قلت : إن العالم في النظر إليه وفيه مثل الحق في التجلي ، فيتنوع في عين الناظر بحسب مزاج الناظر ، ويتنوع مزاج الناظر لتنوع التجلي ، وكل هذا سائغ في الحقائق ) .
يعنى أن إبراهيم عليه السلام وجد النار بردا وسلاما مع شهود الصورة النارية ، فإنها نار في أعين الناظرين ، فإن الشيء الواحد يتنوع بحسب أحوال الناظرين ، وكذلك يكون التجلي الإلهي أي يختلف باختلاف الناظرين .
 
"" أضاف بالي زادة :  مع إبراهيم أحد من الناس لجاز إحراقه مع كونه في حق إبراهيم بردا وسلاما ، فكان حال أهل النار حال إبراهيم في أنه تعذب برؤيتها مع أنه لا يخلو في تلك الحالة عن الراحة الروحانية ( مثل الحق في التجلي ) أي العالم يتنوع في مرآة وجود الحق كما يتنوع الحق في مرآة العالم اهـ بالى زادة . ""
 
فإن شئت قلت : إن الله تعالى تجلى مثل هذا الأمر : أي تجلى تجليا واحدا يتنوع بحسب تنوع أحوال الناظر .
وإن شئت قلت : إن العالم في النظر إليه مثل الحق في التجلي ، أي العالم بفتح اللام في نظر الناظرين إليه وفيه ، كالحق في تجليه يراه الناظر إليه بحسب مزاجه على صورة غير ما يراه الآخر عليها ، كما أن المحرور يرى الهواء نارا والمبرود يراه زمهريرا ،
وأما في حق التجلي الإلهي فالمراد بمزاج الناظر حاله وهيأته الروحانية لا مزاجه الجسماني ، فإن لصاحب الكشف أجزاء لا يختلف التجلي باختلافها ، وإن لمزاج البدن أيضا مدخلا في ذلك من وجه ، فتارة يتنوع التجلي الواحد باختلاف حال الناظر ، وتارة يتنوع الناظر لتنوع التجلي على ما ذكر ،
إذ المظهر الذي غلب عليه أحكام الكثرة يتنوع التجلي الإلهي الواحد فيه بحسب أحواله فينصبغ التجلي بحكم المظهر ، وأما إذا كان الغالب على المظهر حكم الوحدة وهو قلب العبد الكامل المجرد المنسلخ عن أحكام الكثرة فإنه يتنوع بحسب تنوع التجلي ،
فإن هذا القلب مع تقلب الحق في تجلياته والحق يقلب قلبه فإنه يقلب القلوب وكلا الأمرين سائغ ، هذا في الكامل وليس ذلك في غيره
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلو أن المقتول أو الميت أي ميت كان أو أي مقتول كان ، إذا مات أو قتل لا يرجع إلى الله لم يقض الله بموت أحد ولا شرع قتله ، فالكل في قبضته فلا فقدان في حقه ، فشرع القتل وحكم بالموت لعلمه بأن عبده لا يفوته فهو راجع إليه ) .
يعنى لولا أن العبد بعد موته كان باقيا على عبوديته ومربوبيته لربه لم يحكم بموته وقتله ، فإن ربوبيته موقوفة على مربوبية هذا العبد فلا يفوته ، ولا يقبل الانفكاك عنه أصلا بل دائما في قبضة القابض الباطن ، فنقله من نشأة إلى نشأة أخرى ومن موطن إلى موطن هو به أولى ،  
فهو يقبضه عن ظهور وتجل ويبسطه في نور وتجلى آخر أعلى وأجل ، كما قال لنبيه عليه الصلاة والسلام :  " ولَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ من الأُولى "   .
 
فهو معه أينما كان ( على أن في قوله "وإِلَيْه يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه "  أي فيه يقع التصرف وهو للتصرف ، فما خرج عنه شيء لم يكن عينه بل هويته عين ذلك الشيء ، وهو الذي يعطيه الكشف في قوله : " وإِلَيْه يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه" ).
اسم إن محذوف لدلالة فما خرج عنه شيء لم تكن عينه عليه أي فهو راجع إليه مع أن في قوله :( وإِلَيْه يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ) إيذانا بأن كل شيء عينه ، لأن لفظ الرجوع يدل على أنه الأصل الذي منه كل شيء بدا فيعيده ، فلا يقع التصرف إلا منه فيه فهو المتصرف بإبدائه عن نفسه ورجع إليه ، فهو عين ذلك الشيء بتجليه في صورته عينا وعلما ووجودا ،
فهويته هي عين ذلك الشيء إذ الذي يعطيه الكشف هو أن الذات الأحدية تجلى في صور الأعيان،
وهي عين علمه بذاته ليست أمورا زائدة على الوجود لأنها صور معلوماته وشئونه الذاتية منه بوجوده مع ثبوتها في علمه ،
وإليه عادت بقبضه إليه ، كما قال :" ثُمَّ قَبَضْناه إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً " أي لم يلبث أن يبسط .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين يناير 27, 2020 4:35 pm

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

الفص الأيوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية
 إنما خصت الكلمة الأيوبية بالحكمة الغيبية لكون أحواله عليه الصلاة والسلام بأسرها من ابتداء حاله وزمان ابتلائه وبعد كشف بلائه إلى انتهاء كلامه غيبية ، لأن الله تعالى أعطاه من الغيب بلا كسب ما لم يعط أحدا من المال والبنين والزرع والخول والعبيد ، ثم ابتلاه من الغيب ببلايا في نفسه وماله وأهله وولده ولم يبتل بمثلها أحدا ، ورزقه الله صبرا جميلا وافرا بلا شكوى إلى أحد في مدة لم يرزق مثله أحدا ، ولما بلغ الابتلاء غايته وتناهي الصبر نهايته ولم يجزع قط ولم يشك إلى أحد ، ولم يترك من أعماله وطاعته وأذكاره وأنواع شكره شيئا " نادى رَبَّه - أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ 

فكشف عنه ما به من ضر ، ووهب له أهله -   "ومِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً " من عنده وخزانة غيبه وأظهر له من غيب الأرض مغتسلا باردا وشرابا ، وكل ذلك كان من قوة إيمانه بالغيب ، وثقته بما ادخر الله له في الغيب ، فكان أمره كله من الغيب .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (اعلم أن سر الحياة سرى في الماء فهو أصل العناصر والأركان ، ولذا جعل الله من الماء كل شيء حي وما ثم شيء إلا هو حي ، فإنه ما ثم من شيء إلا وهو يسبح بحمده ، ولكن لا يفقه تسبيحه إلا بكشف إلهي ، ولا يسبح إلا حي ، فكل شيء حي ، فكل شيء من الماء أصله ) .

اعلم أن الحياة إذا تمثلت وتجسدت ظهرت بصورة الماء ، وكذلك العلم الذي هو الحياة الحقيقية ، وهو معنى قوله : سر الحياة سرى في الماء ولما كان أصل الكل الحياة والعلم والماء صورتهما جعل أصل النار الماء ، فإن الحياة التي هي عين الذات الأحدية تمثلت بصورة الأرواح ، ثم نزلت إلى صور الطبائع ، ثم تمثلت بصور العناصر فثبت أن من الماء الذي هو صورة الحياة كل شيء حي ، وأنه لا شيء إلا وهو حي كما ذكر ، فلا شيء إلا وأصله من الماء .

 

"" أضاف بالي زادة : قوله ( وهو أصل العناصر والأركان ) الباقية ، فالحياة صفة من صفات الله حقيقة واحدة كلية شاملة على جميع الموجودات ، لكن تظهر في بعضها في العموم والخصوص وفي بعضها في الخصوص ، وسرها هو الهوية الإلهية الظاهرة بصورة الحياتية ، فأول ما ظهرت به الهوية الإلهية الحياة ، ولذلك تقدمت على باقي الصفات تقدما ذاتيا ، وأول ما ظهرت به الحياة الماء ، لذلك كان أول كل شيء وأصله ( ولذلك ) أي لأجل سريان سر الحياة في الماء ( جعل الله من الماء كل شيء حي ) كالحيوانات فإنها خلقت من نطفة الأمهات والآباء - وهي الماء ، وكالنبات فإنها لا تنبت إلا بالماء .أهـ بالى زادة. ""


( ألا ترى العرش كيف كان على الماء لأنه منه تكوّن )

المراد بالعرش العرش الجسماني : أي الفلك الأطلس ، وإنما تكون من الماء لأن الله تعالى خلق أول ما خلق ذرة بيضاء فنظر إليها بعين الجلال فذابت حياء فصار نصفها ماء ونصفها نارا فكان عرشه على ذلك الماء ،

فالدرة هي العقل الأول الذي تكون منه جميع الأكوان ، والنظر إليه بعين الجلال احتجاب الحق تعالى بتعينه ، فإن نظر الجمال تجلى الوجه الإلهي بنوره ، ونظر الجلال تستره بغيره ، وذوبانه تلاشيه بماهيته الإمكانية العدمية وتكون الأشياء منه ،

فإنه كالهيولى لجميع الممكنات ، والنصف الناري تكون الأرواح منه بالتعينات النورية ، ألا ترى كيف سمى روح القدس عند اتصال موسى به نارا حيث قال  :"بُورِكَ من في النَّارِ ومن حَوْلَها "   - وقال :" آنَسَ من جانِبِ الطُّورِ ناراً "   - والنصف المائي تكون الأجسام منه ، فإن الهيولى هو البحر المسجور أي المملوء بالصور ، فإنها ماء كلها فكان العرش على ذلك الماء .

 

ولما كان العقل الأول الذي هو أصل الكل عين الحياة ومثالها صح أن أصل الكل الماء حتى الهيولى والنار .

( فطغى عليه ) أي ظهرت صورة العرش على ماء الهيولى ، فإن كل ما طغى على ماء ظهر ، وبطن الماء تحته ، وكذا بطن الهيولى بظهور صورة الأجسام فيها .

( فهو يحفظه من تحته ) أي الهيولى يحفظ الصورة العرشية من تحته ( كما أن الإنسان خلقه الله عبدا فتكبر على ربه وعلا عليه ، فهو سبحانه مع هذا يحفظه من تحته بالنظر إلى علو هذا العبد الجاهل بنفسه ) "وفي نسخة : بربه" وكلاهما يستقيم ، لأن الجاهل بنفسه جاهل بربه وبالعكس ،

وإنما خلق الإنسان عبدا لأنه مقيد في تعينه ، وليست حقيقة العبد إلا صورة تعين الوجود للحق المتجلى فيه ، والمتعين لا بد أن يعلو المتعين به المستور فيه وإلا لانعدم ، إذ لا تحقق للمتعين بدون المتعين به ، فإنه بلا هو هالك ، فالحق يحفظ العبد من تحته.

"" أضاف بالي زادة : (فهو يحفظه من تحته ) أي الماء يحفظ العرش من تحته ، فإذا كان أصلا العرش كان أصلا لكل ما أحاط به العرش ، فكل شيء أصله الماء اهـ بالى زادة. ""

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهو قوله عليه الصلاة والسلام "لو دليتم بحبل لهبط على الله" فأشار إلى أن نسبة التحت إليه كما أن نسبة الفوق إليه في قوله : "يَخافُونَ رَبَّهُمْ من فَوْقِهِمْ " وقوله : " وهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِه" فله الفوق وله التحت ، ولهذا ما ظهرت الجهات الست إلا بالنسبة إلى الإنسان ، وهو على صورة الرحمن ) .

لما كانت نسبة الفوق والتحت إليه سواء فحفظه لعبده من تحته لا ينافي فوقيته فإنه بإحاطته فوقه وتحته ، وكونه على صورة الرحمن إحاطته بجميع الأسماء ، فإن الرحمن في جميع الجهات المتقابلة لاشتماله على جميع الأسماء المتقابلة ، و « ما » في كما نسبة زائدة كقوله:  " فَبِما رَحْمَةٍ من الله " .

 

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولا مطعم إلا الله ، وقد قال في حق طائفة "ولَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ والإِنْجِيلَ ". 

ثم نكر وعمم فقال :" وما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ " فدخل في قوله :" وما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ " كل حكم منزل على لسان رسول أو ملهم .

" لأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ " هو المطعم من الفوقية التي نسبت إليه " ومن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ " وهو المطعم من التحتية التي نسبها إلى نفسه على لسان رسوله المترجم عنه عليه الصلاة والسلام ).

هذا بيان الإحاطة وحفظه للعبد من جميع الجهات ، فإن الإحاطة والحفظ من الصفات الرحمانية ، ومن الحفظ الإطعام فإنه من الأمداد الرحمانية التي لو انقطعت لهلك العبد ،

وقد قال الله تعالى :" لأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ ومن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ " . أي لو أقاموا ما في الكتب الإلهية وهيأوا الاستعداد لأطعمناهم من جميع الجهات ،

والتحتية التي نسبها إلى نفسه على لسان رسوله وهو قوله « لو دليتم بحبل الله لهبط على الله » .

 

"" أضاف بالي زادة : من حيث أنه مخلوق على الصورة ، وهو الجاهل بنفسه لأنه لو عرف نفسه عرف ربه ولو عرفه ما كبر وما اعتلى ( على لسان رسول الله ) ولم يوجد ذلك الحكم نسخا أو إثباتا في التوراة والإنجيل ، وإلا لكان منهما كسائر الأحكام الموجودة ، ويدل عليه قوله (أو ملهم) من ربهم على قلوبهم والمقصود (تعميم) الحكم بما لا يدخل فيهما (لأكلوا) من المعارف الإلهية وهي الأرزاق الروحانية (من جهة فوقهم ) المعنوي كما أكلوا الرزق الصوري بسبب المطر ، فعلى أي حال (وهو المطعم من الفوقية التي نسبت إليه و) لأكلوا الرزق المعنوي (من تحت أرجلهم) بالسلوك والمجاهدات كما أكلوا الرزق الصوري من أنواع الفواكه من الأرض التي تحت أرجلهم اهـ بالى زادة. ""

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلو لم يكن العرش على الماء ما انحفظ وجوده فإنه بالحياة ينحفظ وجود الحي ألا ترى الحي إذا مات الموت العرفي تنحل أجزاء نظامه وتنعدم قواه عن ذلك النظم الخاص )

يعنى إذا عدم الحي الحياة التي الماء صورتها انحلت أجزاء نظامه ، وذلك لأن الحرارة الغريزية التي بها حياة الحي إنما تنحفظ بالرطوبة الغريزية ، فحياة الحرارة أيضا بالرطوبة وهي صورة الماء فبفقدانه وجود الموت الذي هو افتراق أجزاء الإنسان ، وهذا مقدمات مهدها لبيان حال أيوب عليه السلام .

 

ثم عدل إلى قوله : ( قال الله تعالى لأيوب " ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ " يعنى لما كان عليه من إفراط حرارة الألم فسكنه ببرد الماء ، ولهذا كان الطب النقص من الزوائد ، والزيادة في الناقص ).

يعنى طبه الله تعالى بنقص حرارة الألم وزيادة البرد والسلام منها، فإن الآلام كانت نارا أوقدها الشيطان سبع سنين في أعضاء أيوب عليه السلام، فشفاه الله منها بهذا الطب الإلهي .

( والمقصود طلب الاعتدال،  ولا سبيل إليه إلا أنه يقاربه ) .

ولا سبيل إلى الاعتدال الحقيقي ، فإنه لا يوجد في هذا العالم كما بين في الحكمة إلا أن الاعتدال الإنسانى يقاربه .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما قلنا ولا سبيل إليه أعنى الاعتدال من أجل أن الحقائق والشهود تعطى التكوين مع الأنفاس على الدوام ، ولا يكون التكوين إلا عن ميل يسمى في الطبيعة انحرافا أو تعفينا ، وفي الحق إرادة وهي ميل إلى المراد الخاص دون غيره ، والاعتدال يؤذن بالسواء في الجميع ، وهذا ليس بواقع ) .

أي ولا سبيل إلى الاعتدال في عالم الكون والحضرة الأسمائية دون الذات الإلهية ، فإن التعين واللا تعين والجمع بين المتنافيين والنسبة إلى الأسماء المتقابلة في الحضرة الأحدية سواء ،

وأما في حضرة التكوين فلا ، فإن الشهود يحكم بالتكوين وتجديد الخلق مع الأنفاس دائما ، ولا يمكن التكوين إلا عند الانعدام ،

وإلا لا يسمى تكوينا فإن تحصيل الحاصل محال أفيدوم الانعدام في الخلق وذلك عن ميل في الطبيعة يسمى انحرافا أو تعفينا ، والتجديد عن الحق وذلك عن ميل للحق يسمى في حقه إرادة وهي ميل إلى المراد الخاص ، والاعتدال يؤذن بالسواء ،

وهذا ليس بواقع في الحضرتين المذكورتين وتنفرد به الذات الإلهية بالنسبة إلى الجمعية الواحدية دون الربوبية يعنى نسبة الذات إلى الصفات وهي نسبة الأحدية إلى الواحدية ، وأما في نسبة الإلهية إلى الربوبية فلا بد من الميل دائما ( فلهذا منعنا من حكم الاعتدال ) أي في هذا العالم

( وقد ورد في العلم الإلهي النبوي اتصاف الحق بالرضى والغضب وبالصفات ) أي المتقابلة .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والرضى مزيل الغضب والغضب مزيل الرضا عن المرضى عنه ، والاعتدال أن يتساوى الرضا والغضب ، فما غضب الغاضب على من غضب عليه وهو عنه راض ، فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه وهو ميل ، وما رضى الحق عمن رضى عنه وهو غاضب عليه فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه وهو ميل ) .

 

زوال الغضب عند انصاف الحق بالرضا وزوال الرضا عند اتصافه بالغضب إنما هو بالنسبة إلى مغضوب عليه أو مرضى عنه معينين ،

وأما بالنسبة إلى الغضب الكلى القهري الجلالي ، والرضا الكلى اللطفى الجمالي ، فلا يزول اتصافه بهما من حيث كونه إلها وربا مطلقا ،

وكذلك من حيث غناه الذاتي فإنه من حيث كونه غنيا عن العالمين لا يتصف بشيء منهما ، فظهر أن الميل والانحراف ليس إلا من قبل القابل ،

والربوبية المحضة المقيدة بمربوب معين لظهور حكم الرضا والغضب في القابل ، وعدم ظهوره في غير القابل ،

وأما باعتبار حقيقتي الرضا والغضب الكلبين أحكامهما أبدا سرمدا في المرضى عنهم والمغضوب عليهم من العالمين ، فهما ثابتان لله تعالى رب العالمين على السواء فلا يتصف بأحدهما بدون الآخر ، إلا أن حكم سبق الرحمة الغضب أمر ذاتي دائم لا يزال ولا يتغير .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما قلنا هذا من أجل من يرى أن أهل النار لا يزال غضب الله عليهم دائما أبدا في زعمه فما لهم حكم الرضا من الله فصح المقصود ، فإن كان كما قلنا مآل أهل النار إلى إزالة الآلام وإن سكنوا النار فذلك رضى فزال الغضب لزوال الآلام ، إذ عين الألم عين الغضب إن فهمت ) .

إنما قلنا إن الاتصاف بأحد الحكمين دون الآخر لأنه لم ير أن غضب الله على أهل النار لا يزول أبدا ولا يكون لهم حكم الرضا قط ، فإن كان كما زعموا فالمقصود حاصل ، وإن كان كما قلنا مآلهم إلى زوال الآلام مع كونهم في النار ، فذلك عين الرضا لزوال الغضب بزوال الألم.

 

"" أضاف بالي زادة : ( إذ عين الألم عين الغضب إن فهمت ) تصريح منه بأن الوجوه المذكورة في إثبات حكم الرضى والرحمة تدل على جواز وقوع ذلك الحكم لهم ، فلا يقطع أن يكون العذاب دائما لهم ، فتؤدي أدلته إلى التوقف ، فمذهبه التوقف في مثل هذه المسألة كما بيناه من قبل اهـ بالى زادة. ""

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن غضب فقد تأذى فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه إلا ليجد الغاضب الراحة بذلك فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه ، والحق إذا أفردته عن العالم يتعالى علوا كبيرا عن هذه الصفة ) على هذا الحد أي الألم ، وفي بعض النسخ : على هذا الحد ، من متن الكتاب .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإذا كان الحق هوية العالم فما ظهرت الأحكام كلها إلا فيه ومنه ، وهو قوله :" وإِلَيْه يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه "  حقيقة وكشفا " فَاعْبُدْه وتَوَكَّلْ عَلَيْه " حجابا وسترا ، فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم لأنه على صورة الرحمن أوجده الله : أي ظهر وجوده تعالى بظهور العالم كما ظهر الإنسان بوجود الصورة الطبيعية ، فنحن صورته الظاهرة وهويته روح هذه الصورة المدبرة لها فما كان التدبير إلا فيه كما لم يكن إلا منه ، فهو الأول بالمعنى والآخر بالصورة ، وهو الظاهر بتغيير الأحكام والأحوال والباطن بالتدبير ، وهو بكل شيء عليم ، فهو على كل شيء شهيد ليعلم عن شهود لا عن فكر ، فكذلك علم الأذواق لا عن فكر وهو العلم الصحيح ، وما عداه فحدس وتخمين وليس بعلم أصلا ) .

قد مر أن الحق عين كل شيء فإذا كان عين هوية العالم أي حقيقته فالأحكام الظاهرة في العالم ليست إلا في الله وهي من الله ،

وهو معنى قوله : وإِلَيْه يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه " حقيقة وكشفا فإنه تعالى باعتبار التجلي الذاتي الغيبي يسمى هو ، وذلك التجلي هو الصورة بصور أعيان العالم ، فكان هوية العالم وهوية كل جزء حجابه وستره ليتوكل عليه ، فإنه به موجود وهو الفاعل فيه لا فعل للحجاب ، والحجاب الذي هو العبد صورة أنية ربه والرب هويته ، وهو معنى قوله : فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، لأن العبد صورة العالم والعالم صورة الرحمن ، ومعنى أوجده الله ،


"" أضاف بالي زادة : ( فإذا كان الحق هوية العالم ) أي إذا نظرته من حيث أسماؤه وصفاته كان مرآة للعالم ( فما ظهرت الأحكام كلها إلا فيه وبه ) مع أنه تعالى منزه عن الانفعال والتأثر بالأحكام ، كظهور أحكام الرائي في المرآة، فإن صورة المتألم في المرآة لا تتألم بما يتألم الرائي.


أو نقول ( إذا كان الحق هوية العالم ) ففي حق كل فرد من العالم هوية من الحق مختصة به ، يظهر جميع أحكامه في الهوية المختصة به ، وهو الحق الخلق وهو العبد ، فالمتألم هو الحق الخلق لا الحق الخالق ، فلا يستريح الحق الخالق باستراحة المخلوق ولا يتألم بتألمه ، فهوية العالم هو الحق المخلوق لا الحق الخالق ، فالإنسان من حيث تحققه بالصفات الإلهية من الحياة والقدرة وغيرها يقال له حق ، ومن حيث إمكانه وتحققه بالصفات الكونية عبد وخلق ، والله من حيث تحققه بالصفات اللائقة بشأنه حق ، ومن حيث وجوبه الذاتي خالق وموجد ، فقد جرى اصطلاحهم على ذلك اهـ بالى زادة. ""

 

ولهذا أي ولأجل كون الشهود قربا للبصر وهو الحجاب الذي يمس عين قلبه ، فالشيطان يقرب منه بسبب هذا المعنى ، فطلب من الله إزالة الحجاب عنه خوفا عن تصرف الشيطان فيه اهـ بالى زادة .

ظهر بصورته ، وشبه ظهور وجوده تعالى بظهور العالم بظهور حقيقة الإنسان بوجود صورته الطبيعية أي بدنه ، ثم قال : فنحن ، أي نحن مع جميع العالم صورة الحق الظاهرة ، وهوية الحق روح هذه الصورة المدبرة لها ، والباقي ظاهر مما ذكر .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم كان لأيوب ذلك الماء شرابا بإزالة ألم العطش الذي هو من النصب ، والعذاب الذي به مسه الشيطان أي البعد عن الحقائق أن يدركها على ما هي عليه فيكون بإدراكها في محل القرب ، فكل مشهود قريب من العين ولو كان بعيدا بالمسافة فإن البصر يتصل به من حيث شهوده ، ولولا ذلك لم يشهده أو يتصل المشهود بالبصر كيف كان ، فهو قريب بين البصر والمبصر ) .

سمى الشيطان شيطانا لبعده عن الحق والحقائق ، من شطن شطونا إذا بعد ، وقيل من شاط إذا نفر فهو فيعال أو فعلان بمعنى المبالغة أي البعيدة في الغاية ، ولهذا أطلق الشيخ رضي الله عنه تسميته بالمصدر للمبالغة ، كقولهم : رجل عدل ، والمراد الذي هو في غاية البعد عن إدراك الحقائق على ما هي عليه ، وإذا كان كذلك فهو في غاية البعد عن الحق ،

لأن المدرك للحقائق على ما هي عليه يكون بإدراكها في محل القرب ، ألا ترى أن المشهود قريب من العين ولو كان بعيد المسافة ، لأن البصر يتصل به على مذهب خروج الشعاع ، أو يتصل المشهود بالبصر على مذهب الانطباع ، فإنه ليس هذا موضع تحقيقه ، وكيف كان فالمشهود قريب بين البصر والمبصر ، وإنما كان الشيطان لا يدركها على ما هي عليه لكونه على صورة الانحراف العيني ، أي جبلت عينه على الانحراف والميل عن العالم العقلي إلى العالم السفلى ، ولهذا كان من الجن .

"" أضاف بالي زادة : ولما ذكر أن للبعد وقربه من أيوب حكما وأثر فيه كان محلا لأن يقال البعد والقرب أمران اعتباريان لا وجود لهما في الخارج ، فكيف يكون لهما أثر وحكم في الموجودات الخارجية ، دفع ذلك بقوله : وقد علمت أن القرب والبعد أمران إضافيان اهـ بالى زادة. ""

 

( ولهذا كنى أيوب في المس فأضافه إلى الشيطان مع قرب المس ، فقال : البعيد منى قريب لحكمه فىّ ) أي ولأن الشيطان بعيد عن محل القرب كنى في المس :

أي أوقعه على كناية المتكلم مضافا إلى الشيطان فقال :"أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ "   أي خصني البعيد بالمس الذي هو غاية القرب لحكمه فىّ بالضر الذي هو النصب والعذاب ، شكى إلى الله من غلبة حجابية تعينه وإلا لم يكن للانحراف فيه حكم ،

فإن الشيطان الذي هو العين المنفردة بالانحراف والبعد ، إنما حكم على نفسه بالانحراف عن الاعتدال لاحتجابه بتعينه عليه ، فإن قرب البعيد منه إنما يكون لبعده .

 

ولهذا قال الشيخ رضي الله عنه :   ( وقد علمت أن القرب والبعد أمران إضافيان ، فهما نسبتان لا وجود لهما في العين مع ثبوت أحكامهما في البعيد والقريب ).

 فإنهما مع كونهما معدومين في الأعيان يحكمان على الموجودات العينية بمعناهما ، ألا ترى أن الشيطان في عين القرب لوجوده بالحق بعيد عن الله لانحرافه العيني ، فقربه من أيوب نفس كونه بعيدا منحرفا عن الاعتدال ،

فحكم على أيوب في عين القرب منه بالبعد عن الحق والانحراف عن الاعتدال .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  (واعلم أن سر الله في أيوب الذي جعله عبرة لنا وكتابا مسطورا حاليا تقرؤه هذه الأمة المحمدية لتعلم ما فيه فتلحق بصاحبه تشريفا لها ، فأثنى الله عليه أي على أيوب بالصبر مع دعائه في رفع الضر عنه ، فعلمنا أن العبد إذا دعا الله في كشف الضر عنه لا يقدح في صبره وأنه صابر وأنه نعم العبد ، كما قال : " نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّه أَوَّابٌ ".

أي رجاع إلى الله لا إلى الأسباب ، والحق يفعل عند ذلك بالسبب لأن العبد يستند إليه ، إذ الأسباب المزيلة لأمر ما كثيرة والمسبب واحد العين ، فرجوع العبد إلى الواحد العين المزيل بالسبب ذلك الألم أولى من الرجوع إلى سبب خاص ربما لا يوافق ذلك علم الله فيه ، فيقول : إن الله لم يستجب لي ، وهو ما دعاه وإنما جنح إلى سبب خاص لم يقتضه الزمان ولا الوقت ، فعمل أيوب بحكمة الله إذ كان نبيا لما علم أن الصبر الذي هو حبس النفس عن شكوى عند الطائفة ).

أي المتقدمين من الشرقيين من أهل التصوف القائلين بأن الصبر هو حبس النفس عن الشكوى مطلقا.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وليس ذلك بحد الصبر عندنا ، وإنما حده حبس النفس عن الشكوى لغير الله لا إلى الله ، فحجب الطائفة نظرهم في أن الشاكي يقدح بالشكوى في الرضا بالقضاء وليس كذلك ، فإن الرضا بالقضاء لا يقدح فيه الشكوى إلى الله ولا إلى غيره وإنما يقدح في الرضا بالمقضى ونحن ما خوطبنا بالرضا بالمقضى والضر هو المقضي ما هو عين القضاء ).

إذ المقضي به أمر يقتضيه عين المقضي وحاله واستعداده ، والقضاء حكم الله بذلك وهما متغايران فلا يلزم من الرضا بحكم الله الرضا بالمحكوم به ، فإنه مقتضى حقيقة العبد المقضي عليه لا مقتضى حكم الله .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وعلم أيوب أن في حبس النفس عن الشكوى إلى الله في رفع الضر مقاومة القهر الإلهي وهو جهل بالشخص إذا ابتلاه الله بما تتألم منه نفسه ، فلا يدعو الله في إزالة ذلك الأمر المؤلم بل ينبغي له عند المحقق أن يتضرع ويسأل الله إزالة ذلك عنه ، فإن ذلك إزالة عن جناب الله عند العارف صاحب الكشف ، فإن الله قد وصف نفسه بأنه يؤذى فقال : " إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله ورَسُولَه " وأي أذى أعظم من أن يبتليك الله ببلاء عند غفلتك عنه ، أو عن مقام إلهي لا تعلمه ، لترجع إليه بالشكوى فيرفعه عنك فيصح الافتقار الذي هو حقيقتك ) .   باعتبار التعين الذي أنت به عبد.

"" أضاف بالي زادة : وهو ما دعاه : أي والحال أن العبد لم يدع فافترى على الله وعلى نفسه وهو لا يشعر بذلك ، وأساء الأدب اهـ بالى زادة .

إذ المقضي هو المحكوم به والقضاء حكم الله ، فظهر أن الصبر أخص مطلقا من الرضا اهـ بالى زادة.

فإن الرسول وجه خاص من الوجوه الإلهية فمن يؤذيه فقد آذى الله ، والله منزه عن التألم ، لكن لما كان غاية كراهة عنده وصف نفسه بما يتأذى به عبده اهـ بالى زادة .

لا تعلمه أنت أي إن ابتلاءك أعظم أذى الحق ، فإنه يتأذى بما تتأذى به أي لا يرضى الحق أن يتأذى عباده يقول الله : يا عبادي إن رضيتم ببلائى فقد رضيت بغفلتكم عنى ، وإن شكيتم إلى من ضري فقد شكيت إليكم من غفلتكم ، اهـ بالى زادة.  ""

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيرتفع عن الحق الأذى لسؤالك إياه في دفعه عنك إذ أنت صورته الظاهرة ، كما جاع بعض العارفين فبكى ، فقال له في ذلك من لا ذوق له في هذا الفن معانيا له ، فقال العارف : إنما جوعنى لأبكى ، يقول : إنما ابتلائى بالضر لأسأله في رفعه عنى ، وذلك لا يقدح في كونى صابرا ، فعلمنا أن الصبر إنما هو حبس النفس عن الشكوى لغير الله ، وأعنى بالغير وجها خاصا من وجوه الله ، وقد عين الحق وجها خاصا من وجوه الله وهو المسمى وجه الهوية ، فيدعوه من ذلك الوجه في رفع الضر عنه لا من الوجوه الأخر المسماة أسبابا ، وليست إلا هو من حيث تفصيل الأمر في نفسه )

قد مر أن لله تعالى في كل تعين وجها خاصا ، فالهوية المتعينة بذلك التعين هي السبب ، وغير العارف إنما يتوجه إلى حجابية التعين لاحتجابه ويدعو له لدفع الضر ، وكل متعين وجه من وجوه الله وسبب من الأسباب ،

وهو وإن كان حقا لكنه من حيث تعينه وجه وسبب وغير ، لا أنه أعرض في التوجه إليه عن الوجوه الأخر ، وقد يكون رافع الضر من جملتها ، فالذي يوجه إليه ليس إلا هو من حيث التفصيل لأنه من حيث أحدية الجمع هو هو ،

فهو لا هو من حيث الخصوصية ، فالأواب هو الرجاع إلى الهوية الإلهية المطلقة الجامعة المحيطة بجميع الهويات المتعينة ، فلا يوجه وجهه إلا إلى السيد الصمد المطلق الذي تتوجه الوجوه كلها واستندت الأسباب جميعا إليه ، ولا يتقيد بوجه خاص فقد لا يجيبك فيه لعلمه أن ما تسأله في وجه آخر ، فإذا سألت حضرة جمع جميع الوجوه ووجهت وجهك نحو الأحد الصمد والوجه المطلق فقد أصبت .

 

قال الشيخ رضي الله عنه :  (فالعارف لا يحجبه سؤاله هوية الحق في رفع الضر عنه عن أن تكون جميع الأسباب عينه من حيثية خاصة ، هذا لا يلزم طريقته إلا الأدباء من عباد الله الأمناء على أسرار الله ، فإن لله أمناء لا يعرفهم إلا لله ، ويعرف بعضهم بعضا ، وقد نصحناك فاعمل ، وإياه سبحانه فاسأل ) .

الهوية الحقانية التي سألها العارف هي التي عينها الساعي بالخصوصية الإلهية، ولا يحتجب العارف بسؤال الخصوصية الإلهية عن أن تكون هي جميع الأسباب وجميع الأسباب عينها، ولا يلزم طريقة الخصوصية الإلهية إلا الأدباء من عباد الله الأمناء على أسراره، فعليك بالسؤال من ذلك الوجه في كل قليل وكثير وبالجزم بالإجابة إيمانا وتصديقا،

فإن الله يقول : " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ "  ومنه التوفيق .

 

"" أضاف بالي زادة : فكانت غفلتك سببا لابتلائك باشتغالك بغير الله ، الغفلة في الحقيقة إعراض عن الحق .

فإذا سأل غير العارف في رفع ضره عنه فقد سأل عن الحق المتعين بذلك الوجه الخاص من وجوه الله فسؤاله إنما يكون هوية الحق ، لكن سؤاله يحجبه عن أن تكون جميع الأسباب عينه من حيثية خاصة ، بخلاف العارف فإنه وإن كان سؤاله عما سأله غير العارف ، لكن لا يحجبه سؤاله من أن يكون جميع الأسباب عينه ،

فسؤال العارف عين سؤال وجه الهوية الخاصة سؤال عن وجه الهوية المطلقة التي تجمع جميع الوجوه وهو الاسم « الله » ولا كذلك غير العارف لاحتجابه عن العينية ، كان سؤاله عن العين لا عن الله اهـ بالى زادة. ""

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحياوية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:29 am

20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحياوية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

الفص اليحياوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحياوية
إنما خصت الكلمة اليحيوية بالحكمة الجلالية ، لأن الغالب على حاله أحكام الجلال من القبض والخشية والحزن والبكاء والجد والجهد في العمل ، والهيبة والرقة والخشوع في القلب ، فمشربه من حضرة ذي الجلال فكان دائما تحت القهر ، وقد خدت الدموع في خده أخاديد من كثرة البكاء ، وكان لا يضحك إلا ما شاء الله ، وكل ذلك من مقتضيات حضرة الجلال والقيام بحقها ، ولذلك قتل في سبيل الله ، وقتل في دمه سبعون ألفا حتى سكن دمه من فورانه .


( هذه حكمة الأولية في الأسماء ، فإن الله سماه يحيى أي يحيى به ذكر زكريا ) الأولية :
صفة لشيء يكون بها أولا ، والأولية في الأسماء أن يكون أول اسم سمى به لقوله -   ( لَمْ نَجْعَلْ لَه من قَبْلُ سَمِيًّا )   - وقد جمع الله فيه بين العلمية والوصفية على خلاف العادة ، لأنه لما طلب زكريا من ربه وارثا يرث النبوة والعلم منه ويحيى به ذكره أجاب دعاءه بخرق العادة إذ وهبه بين شيخ وعجوز خاص ، وسماه يحيى جمعا بين الوضع والمفهوم وهو أن يحيى به ذكره من باب الإشارة ولسانها تتمة في تسميته لخرق العادة بوجوده لأحد قبله بين التسمية والإشارة إلى الوصف ، عناية من الله بزكريا اختصاصا إلهيا وتشريفا ، كما ذكر في قوله ( فجمع بين حصول الصفة التي فيمن غبر ) أي مضى.


 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ممن ترك ولدا يحيى ذكره وبين اسمه بذلك فسماه يحيى فكان اسمه يحيى كالعلم الذوقي ، فإن آدم عليه السلام حيى ذكره بشيث ، ونوحا حيى ذكره بسام ، وكذلك الأنبياء عليهم السلام ، ولكن ما جمع الله لأحد قبل يحيى بين الاسم العلم منه ) أي صادرا من عنده ومن أمره في قوله : " نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُه يَحْيى " .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وبين الصفة إلا لزكريا عناية منه إذ قال: " فَهَبْ لِي من لَدُنْكَ وَلِيًّا "  فقدم الحق على ذكر ولده كما قدمت آسية ذكر الجار على الدار في قولها : "عِنْدَكَ بَيْتاً في الْجَنَّةِ "  فأكرمه الله بأن قضى حاجته وسماه بصفته حتى يكون اسمه تذكارا لما طلب منه نبيه زكريا، لأنه آثر بقاء ذكر الله في عقبه إذ الولد سر أبيه فقال : "يَرِثُنِي ويَرِثُ من آلِ يَعْقُوبَ " وليس ثم موروث في حق هؤلاء إلا مقاما ذكر الله والدعوة إليه ) .
كان زكريا عليه السلام مظهر الرحمة والكمال ، وله حظ وافر من الجمال والأنس والجلال والقهر والهيبة ، لكنه قد غلبت على باطنه حالة الدعاء والسؤال والخوف من أولياء السوء ، والهم من ضيقه ما قام به من ذكر الله والدعوة بعده، ولم يكن له ولى يخلفه ويقوم بأمر النبوة،


وقد أشرب باطنه  حال مريم وكونها متبتلة منقطعة إلى الله حصورا ، وكانت آيته عند البشارة بالولد الصمت والذكر والحبسة في اللسان من غير ذكر الله .
جاء يحيى على صورة باطنه من غلبة أحكام الجلال على أحكام الجمال ، حصورا مداوما على الذكر والخشية فإن الولد سر أبيه ، وقد حكم حاله على حاله حتى تحكمت عليه الأعداء بحكم القهر والجلال ، حتى تحكمت على يحيى عليه السلام


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم إنه تعالى بشره بما قدمه من سلامه عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ، فجاء بصفة الحياة وهي اسمه ، وأعلمه بسلامه عليه وكلامه صدقه فهو مقطوع به وإن كان قول الروح -   "والسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ ويَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا " أكمل في الاتحاد والاعتقاد وأرفع للتأويلات )
 يعنى أن الله بشر بما قدمه على اقترانه من سلامه عليه ، ووصفه بالحياة التي هي صورته الذاتية واسمه الذي يميزه به عن غيره ، وأعلمه بنفسه بالسلام عليه فكان وصفه إياه بذلك أكمل من حيث أن كلامه صدق مقطوع به عن الكل من أهل الحجاب والكشف ،
وإن كان قول عيسى عليه السلام :  ( والسَّلامُ عَلَيَّ )   - أكمل من حيث الاتحاد ، فإن الله هو المسلم على نفسه من حيث تعينه في المادة العيسوية ، ويدل على كمال تمكن عيسى من شهود هذه الأحدية ، وأما سلام الله على يحيى من حيث أن الله هوية لا في مادة يحيى من حيث هويته المطلقة ، فهو أتم وأكمل في الاعتقاد بالنسبة إلى شهود أهل الحجاب ،
وأما بالنسبة إلى شهود أهل الذوق فالاتحاد من قبل الحق من كونه تعالى مسلما على نفسه في مادة يحيوية من حيث كون ربه وكيلا له في التسليم عليه أتم وأعم ، ولكن لا يدل على تمكن يحيى من شهود هذه الأحدية إلا أنه أرفع للالتباس الذي عند الجاهل المحجوب
 
"" أضاف بالي زادة :   
( أكمل في الاتحاد ) أي هذا القول أكمل في الدلالة على اتحاد عيسى مع الحق ، فإذا كان قول الحق صدقا مقطوعا به فهذا : أي قول الحق في حق يحيى أكمل في الاتحاد ، أي في الدلالة على اتحاد الحق مع يحيى وأكمل في الاعتقاد في عدم الاحتمال على خلافه ، إذ شهادة الحق على سلامه على العبد أقوى من شهادة العبد على سلامه على نفسه وأرفع التأويلات بخلاف قول عيسى ، فإنه يؤول بأن لسانه لسان الحق وبه نطق وشهد على سلامه على نفسه فشهادته على نفسه شهادة الحق عليه وكلامه صدق ، فاحتاج قول الروح في رفع الالتباس إلى التأويل ، والمقصود أن نص سلامه على عيسى مثل تنصيص سلامه على يحيى ، كخلافة آدم بالنسبة إلى خلافة داود في التنصيص كما مر بيانه اهـ بالى زاده. "".
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن الذي انخرقت فيه العادة في حق عيسى إنما هو النطق ، فقد تمكن عقله وتكمل في ذلك الزمان الذي أنطقه الله فيه ، ولا يلزم التمكن من النطق على أي حالة كان الصدق فيما به نطق بخلاف المشهود له كيحيى ، فسلام الحق على يحيى من هذا الوجه أرفع للالتباس الواقع في العناية الإلهية من سلام عيسى على نفسه وإن كانت قرائن الأحوال تدل على قربه من الله في ذلك وصدقه ، إذ نطق في معرض الدلالة على براءة أمه في المهد فهو أحد الشاهدين ، والشاهد الآخر هز الجذع اليابس فسقط رطبا جنياًّ من غير فحل ولا تذكير ، كما ولدت مريم عيسى من غير فحل ولا ذكر ولا جماع عرفى معتاد ، ولو قال نبي آيتي ومعجزتي أن ينطق هذا الحائط فنطق الحائط)
وقال في نطقه : تكذب ما أنت رسول الله لصحت الآية وثبت بها أنه رسول الله ولم يلتفت إلى ما نطق به، فلما دخل على هذا الاحتمال أي عند المحجوب الجاهل
 
"" أضاف عبد الرحمن جامي :   
فحاصل المعنى ثم أنه تعالى بشر يحيى بما قدمه بشيء قدمه ذلك الشيء وفضله على سائر الأنبياء ، وذلك الشيء سلام عليه في المواطن الثلاثة تفصيلا ، فإنه لم يقع إلى نبي من الأنبياء ومن قوله من سلامه بيانية – "يَوْمَ وُلِدَ "   - من رحم أمه أو أم الطبيعة – "ويَوْمَ يَمُوتُ " - بالموت الطبيعي أو الإرادى –" ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا " - يوم القيامة أو بالبقاء بعد الفناء ،
وإذا كان في هذه المرتبة به ذكر زكريا فجاء بصفة الحياة فيها ، وهي ما أخذ منها اسمه الدال على حياة ذكر زكريا وأعلمه بسلامه وكلامه صدق فهو مقطوع به اهـ جامى . ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما دخل هذا الإحتمال في كلام عيسى بإشارة أمه إليه وهو في المهد كان سلام الله على يحيى أرفع من هذا الوجه ) يعنى مجرد نطق عيسى بإشارة أمه إليه عند سؤال الأحبار مريم بقولهم :  " لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا "
وقولهم " ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا "   كاف في صحة مدعى مريم وبراءتها مما توهمت اليهود في حقها ، إذ برأها الله مما قالوا بنطقه في المهد لكن تطرق فيما نطق به مثل ما مثل به عند الجاهل في نطق الحائط كان سلام الله على يحيى أرفع من هذا الوجه
 
"" أضاف بالي زادة :   
(في العناية الإلهية به ) أي بيحيى والعناية هي سلام الحق عليه ، بخلاف سلام عيسى لنفسه لأنه أحد الشاهدين في براءة أمه لا يدخل الاحتمال من هذا الوجه أصلا ، لكنه ليس كذلك في حق نفسه لدخول الاحتمال الوهمي في حق نفسه ، فكان كلام عيسى في حق أمه أرفع للالتباس ، وفي حق نفسه رافع الالتباس فلا يساوى كلامه مع كلام الحق في رفع الالتباس بوجود هذه القرائن من غير فحل ولا تذكير فكان حال الشاهد حال المشهود له اهـ بالى زادة. ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فموضع الدلالة أنه عبد الله من أجل ما قيل فيه إنه ابن الله ، وفرغت الدلالة بمجرد النطق وأنه عبد الله عند الطائفة الأخرى القائلة بالنبوة ، وبقي ما زاد في حكم الاحتمال في النظر العقلي حتى ظهر في المستقبل صدقه في جميع ما أخبر به في المهد فتحقق ما أشرنا إليه )
فرغت الدلالة أي تمت وصحت . والمراد بالنظر العقلي النظر العرفي العادي الحجابى ، لأن العقلي الصريح المجرد لما شاهد صحة بعض كلامه في قوله :
 ( إِنِّي عَبْدُ الله )  حكم بصحة جميع ما نطق به لأن قرائن الأحوال عند أهل الذوق والعقل الخالص عن الوهم والعادة دلائل شاهدة كيف نطق ، ومجرد نطقه دليل على براءة أمه صادق في شهادته ، فمحال أنه لا يدل على صدق نفسه ، ولو تطرق احتمال الكذب في البعض لتطرق في سائر الأبعاض ، صدقه في موضع الدلالة يقتضي صدقه في البواقي ،
وكذلك سقوط الرطب الجنى من الجذع اليابس بإخباره في بطن أمه قبل تسليمه على نفسه يحكم بكونه روحا مقدسا مؤيدا بالنور ، فكيف لا يصدق في تسليمه على نفسه ،
وكفى بكلامه في المهد مع كونه كلاما منتظما مفتتحة دعوى عبودية الله ، ومختتمه تسليمه على نفسه من قبل الله دليلا على صدقه بإخباراته وارتفاع اللبس عنها عند العقول السليمة ،
فظهر أنه ليس عند أهل التحقيق لبس واحتمال .

وأما العقول المحجوبة المشوبة بالوهم فلا اعتبار بنظرها .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:30 am

21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر   

الفص الزكرياوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
إنما خصت الكلمة الزكرياوية بالحكمة المالكية ، لأن الغالب على حاله حكم الاسم المالك ، والمليك هو الشديد ، وقد خصه الله بالشدة وأيده بالقوة حتى سرت في همته وتوجهه وأثمرت إجابة رعاية ، وأثرت في زوجته حيث قال تعالى : " وأَصْلَحْنا لَه زَوْجَه " .
ولولا إمداد الله إياه بقوة ربانية وتخصيصه بمعونة ملكوتية ما صلحت زوجه بعد الكبر وسن اليأس مع كونها عاقرا في شبابها للحمل والولادة ، وما ظهرت إلا بالتصرفات الإلهية المالكية ، ولهذا كان يشدد على نفسه في الاجتهاد ، وظهرت عليه آثار الشدة والقهر حتى نشر بالمنشار وقدّ نصفين ، فلم يدع الله في رفعه مع كونه مستجاب الدعوة لكون مشهده شدة المالك وشهود أحدية المتصرف والمتصرف فيه ،
ولما شاهد من عينه الثابتة أن تجلى القهر والشدة محيط به فاستسلم وسلم وجهه للمتصرف ، وحيث كان تحت قهر المالك وشدته سهل عليه تحمل الشدة لاتصافه بها ، فظهرت رحمة اللطف الكامن في ضمن القهر الظاهر في صورة الظلم ، فانعكست من نفسه أنوار القهر ونيرانه على أعدائه فقهرهم ودمرهم قهرا تاما ، وتغمده الله برحمته .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما ، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب فسبقت رحمته غضبه ، أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه )
لأن الرحمة له ذاتية لكونه جوادا بالذات فياضا بالجود من خزانة الرحمة والجود والوجود أول فيض الرحمة العامة التي وسعت كل شيء ، وأما الغضب فليس بذاتى للحق بل هو حكم عدمي ناشئ من عدم قابلية بعض الأشياء لكمال ظهور آثار الوجود وأحكامه فيه ، فاقتضى عدم قابليته للرحمة عدم ظهور حكم الرحمة دنيا وآخرة ، فسمى عدم فيضان الرحمة عليه لعدم قابليته غضبا بالنسبة إليه من قبل الراحم وشقاوة وشرا وأمثال هذه الألفاظ ، فظهر أن نسبة الرحمة إليه سبقت نسبة الغضب إليه ، وما هي إلا عدم قابلية المحل لكمال الرحمة ، ولكمال شهود النبي عليه الصلاة والسلام حقيقة الأمرين ، أومأ إليهما بقوله « اللهم إن الخير كله بيديك والشر ليس إليك » لأنه أمر عدمي لا يحتاج إلى الفاعل وسببه عدم قابلية المحل للخير ، والشر هو العدم المحض فلا حقيقة له حتى تتعلق به الرحمة ، بل حيث لم توجد الرحمة الفائضة بالتجلي
 
(عمت رحمته كل عين ) جواب لما ، وقوله لذلك يتعلق بعمت ، وإنما عمت رحمته كل عين من أجل ذلك الطلب فإنه أي كل عين أو الله برحمته أي برحمة الله التي رحمه بها : أي رحم الحق كل عين بها قبل العين أو الله وعينه : أي طلب كل عين من الله وجود عينه الخارجي فأوجدها في الخارج بعد حصول قبول الطلب ،

الفائض على بعض الأعيان لم يكن لها قابلية نور الوجود إلا نسبا عدمية أو أعداما نسبية ، كالجهد والفقر والمرض والألم والموت وأمثالها سميت غضبا ، وذلك لكمال سعة الرحمة وعمومها كل شيء ، وسعت هذه الأعدام النسبية أو النسب العدمية لشائبة الوجود فيها ، فصار الغضب مرحوما وإلا لم يوجد .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ( ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله لذلك عمت رحمته كل عين ، فإنه برحمته التي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه فأوجدها ، فلذلك قلنا إن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما )
لذلك إشارة إلى الطلب ، وعمت جواب لما ، وقوله فإنه تعليل لعموم الرحمة ، وقوله قبل رغبته : خبر إن ، أي فإن الله برحمته التي رحم الشيء بها سابق رغبته في وجود عينه أي طلبه ، فأوجدها أي الرغبة أولا وهي الاستعداد فلذلك أي فلسبق الرحمة الاستعداد ، قلنا وسعت رحمته كل شيء وجودا وحكما ، حيث جعله برحمته الذاتية فطلبت مشيئته الوجود فأوجده ،
أي ولما كانت الأعيان الثابتة في ثبوتها العلمي معدومة العين في نفسها ، طالبة للوجود من الله راغبة في وجودها العيني ، عمت رحمته الذاتية كل عين بأن أعطتها قابلية التجلي الوجودي ، فتلك القابلية والاستعداد الذاتي لقبول الوجود رغبتها في الوجود العيني ،
وأول أثر الرحمة الذاتية فيها تلك الصلاحية لقبول الوجود المسماة استعدادا ، فإنه تعالى رحمها قبل استعدادها للوجود بوجود الاستعداد من الفيض الأقدس ،
أي التجلي الذاتي العيني الواقع في الغيب ، وذلك الاستعداد رحمة الله عليها إذ لا وجود لها تقدم بذلك الطلب الاستعدادي ، وسؤال الرحمة في الغيب أوجدها في الأعيان بالوجود العيني فذلك رحمته عليها وجودا ، وهو معنى قوله :" وآتاكُمْ من كُلِّ ما سَأَلْتُمُوه "   أي بلسان الاستعداد في الغيب.


"" أضاف بالي زادة :
أو بعد قبول الحق طلبه ، قوله ( برحمته ) يتعلق بقبل بكسر الباء ، ويجوز أن يكون قبل جواب لما ، والجملة اعتراضية أي لما طلب قبل طلبه فأوجدها ، أو معناه فإن الله تحقق برحمته التي رحم بها أي أوجد بها كل عين في علمه الأزلي قبل طلب كل عين وجوده الخارجي ، فالرحمة صفة أزلية للحق ، وذات الحق سابقة على كل عين وكذا لوازمه من صفاته - قُلِ ادْعُوا الله )   - فكل عين مع لوازمه رحمة من رحمة الرحمن ، بل الأسماء الإلهية كلها ونفس الرحمة رحمة من الاسم الرحمن فعموم الرحمة من أجل المعلومات ، وما ذكره الشيخ في إثباته تنبيهات ، وعلى أي حال فالمقصود أن الطالب هو العين ، والمطلوب هو الوجود والطلب ، وقبوله تعالى كل ذلك من رحمة الله وإليه أشار بقوله : فلذلك قلنا اهـ بالى زادة . ""
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والأسماء الإلهية من الأشياء ، وهي ترجع إلى عين واحدة ، فأول ما وسعته رحمته أزلا شيئيته تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة ، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ، ثم الشيئية المشار إليها ، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة عرضا وجوهرا ، مركبا وبسيطا ) .
 
لما تبين أن رحمته وسعت كل شيء قال : إن الأسماء الإلهية من الأشياء فيجب أن تكون مرحومة ، فإن حقائقها التي تتميز بها عن الذات وينفصل كل منها عن الآخر أشياء غير الذات ، فلها أعيان ترجع إلى عين واحدة هي حقيقة اسم الرحمن ، فأول ما وسعته رحمة الله شيئيته تلك العين ، وتلك العين حقيقة الرحمة الانتشارية التي تفيض منها الرحمة الأسمائية فتلك العين مرحومة بالرحمة فأول شيء وسعته الرحمة الذاتية التي جعلتها شيئا راحمة بالرحمة الأسمائية ، كل شيء فهي الرحمة بالرحمة ، فأول شيء وسعته الرحمة الذاتية تنفس الرحمة الأسمائية الشيئية المشار إليها ،
أي العين الواحدة التي هي جميع الأعيان وأصلها ، فعمت الرحمة المتعلقة بهذه العين جميع الأعيان الثابتة في العلم الأزلي وهي الشيئيات الثابتة في الشيئية الأولى ، فتفصلت العين الواحدة إلى الأعيان الكونية وهو معنى قوله شيئية كل موجود أي عينه لا وجوده على الترتيب إلى ما لا يتناهى وجودها في الخارج ، فظهرت النسب الإلهية في النسبة الأولى الرحمانية وهي الأسماء الإلهية في ضمن اسم الرحمن ، وليست إلا نسب الذات إلى الأعيان فتحققت حقائق الأسماء فذهب كل اسم بحظ من الرحمة حتى تحققت حقيقته ،
ثم أثرت الأسماء الإلهية في إيجاد أعيان الأكوان فتنبسط آثار الرحمة في عرصة الإمكان ، فتوجد الأعيان الممكنة على الترتيب وأحوالها جواهر بسيطة مركبة وإعراضا في الدنيا والآخرة ، فوجود الرحمة الغيبية في الحقائق الإلهية الأعيان العلمية التي هي تعينات وشئون في الوجود الواحد الحق ، إنما هو من الرحمة الذاتية الجودية التي هي عين الذات ، ووجوده الأشياء أي كونها حقائقها بالرحمة الرحمانية الإلهية الأسمائية والله أعلم.
"" أضاف بالي زادة :
( تلك العين الموجدة ) في الخارج للرحمة علة غائية للإيجاد بالرحمة أي بسبب الرحمة ، وهي الحقيقة المحمدية التي هي عين الرحمة أوجدها الله بالرحمة ، فالرحمة شيء من حيث نفسها صفة ذاتية للحق ، ومن حيث شيئيتها حقيقة محمدية مظهر للاسم الرحمن ، وشيئية الشيء يتعين الشيء ويمتاز عن غيره ، وهي من لوازم الوجود اهـ بالى زادة ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع ، بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا ، وقد ذكرنا في الفتوحات المكية أن الأثر لا يكون إلا للمعدوم لا للموجود ، وإن كان للموجود فبحكم المعدوم ، وهو علم غريب ومسألة نادرة لا يعلم تحقيقها إلا أصحاب الأوهام فذلك بالذوق عندهم ، وأما من لا يؤثر الوهم فيه فهو بعيد عن هذه المسألة ) .
 
أي لا يعتبر في تعلق الرحمة بالأشياء حصول غرض ولا ملاءمة طبع ، فإن الرحمة وسعت كل شيء فأوجدته سواء كان ملائما له أو غير ملائم ، ثم ذكر أن الأعيان الثابتة المعدومة في أنفسها هي المؤثرة في الوجود الواحد الحق المنبسط عليها بالتعين والتقييد والتكييف والتسمية بحسب خصوصياتها حتى تظهر الأسماء الإلهية والنسب الزمانية ، ثم النسب الإلهية هي من حيث خصوصياتها معدومة الأعيان لا تحقق لها ، فإن حقيقتها لا تعقل إلا بين أمرين ، والموجود
 
هاهنا أحد طرفيها وهو الحق ، ولا مؤثر في وجود الأشياء إلا هي ، فالآثار كلها إن كانت من الأسماء الإلهية فهي من النسب العدمية ، وإن كانت من الذات المعينة بها فمن الوجود باعتبار هذه النسب العدمية الأعيان وحكم تعيناتها واقتضاء تلك التعينان المخصصة ،
"" أضاف بالي زادة :
( أن الأثر لا يكون إلا للمعدوم ) في الخارج مع كونه موجودا في الباطن لا للموجود الخارجي ، فالرحمة وإن كانت لا عين لها في الخارج لكن لها أثر في كل ماله وجود في الخارج ، ولا يعلم تحقيقها إلا أصحاب الأوهام إشارة إلى أن المسألة نادرة ، وأصحاب الأوهام نادرة لأنهم يذوقون أن الأمور المعدومة تؤثر في وجودهم ، فمن لا وهم له لا ذوق له بأن الأثر للمعدوم لا للموجود ، لأن الأمور المعدومة المؤثرة لا تدرك إلا بالوهم. اهـ بالى زادة""
 
وإن كانت من الأعيان الثابتة في الوجود الحق فالأثر للمعدوم والعين وكذلك في الأكوان ، فإن كل أثر يظهر من موجود فإنه لا ينسب إلى وجوده من حيث هو وجود بل إلى عينه العدمية أو إلى وجوده المتعين بتلك النسب العدمية ،
وهذا علم غريب في غاية الغرابة ومسألة نادرة في غاية الندرة ، إذ لا يعقل أن العدم يؤثر في الوجود أي المعدوم من حيث كونه معدوما يؤثر في الشيء المعلوم فيوجده ، ولهذا قال : لا يعلم تحقيقها إلا أصحاب الأوهام : أي الذين يؤثرون الأشياء بالوهم فيوجدونها ، فإنهم يعلمون ذلك علم ذوق لا من يؤثر الوهم فيه ،
أي من لا يؤثر وهمه الموجود فيه في الأشياء ، أو من يتأثر من الوهم فهو بعيد من ذوق هذه المسألة ، وتحقيق ذلك أن الوجود المضاف إلى الأشياء أمر خيالي لا حقيقة له في عينه كما مر في مسألة الظل ، وليس الوجود الحقيقي إلا حقيقة الحق ، فالوجود المعين الذي نسميه الوجود الإضافي وهو المقيد بتعين ما هو ذلك الوجود القائم بنفسه مع أمر عدمي يمنعه عن كماله الإطلاقى ويحصره في القيد الخلقي فنسميه وجودا خاصا وليس إلا ظهور الوجود الحق في صورة أمر عدمي إمكانى ،
فالظهور هو نفس تقيده الأمر العدمي الإمكانى الذي يحكم عليه بالحدوث ولا حدوث في الحقيقة إلا التعين الذي ينقص الوجود عن كماله والحقيقة بحالها على قدمها الأزلي
 
فهذا سر تأثير المعدوم ولا تأثير في الحقيقة إلا شوب العدم والحدوث بالوجود الحق والعدم في الظل الخيالي :
( فرحمة الله في الأكوان سارية  .... وفي الذوات وفي الأعيان جارية
مكانة الرحمة المثلى إذا علمت   .... من الشهود مع الأفكار عالية )
المكانة المرتبة الرفيعة والمنزلة العلية ، والمثلي : تأنيث الأمثل بمعنى الأفضل ، قال تعالى :" ويَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى " أي منزلة الرحمة التي هي أفضل أنواعها ، إذا علمت من طريق الشهود كانت تعلو الأفكار ، أي أجلّ وأعلى من أن تعلم بطريق الفكر .
"" أضاف بالي زادة :
لما قسم الأشياء إلى الموجود والمعدوم وعبر عنهما بالأكوان والذوات وأدرج شمول الرحمة على كلها في البيت الأول ، وقسم العلم إلى الشهودي والفكري وأدرج وسعة الرحمة العلمي فيهما في البيت الثاني ، فوسعت الرحمة كل شيء وجودا وحكما وعلما وهو المطلوب اه بالى .
ولهذا أي ولكون الرحمة ناظرة في عين ثبوت كل موجود ، رأت الحق المخلوق إلخ فرحمته بنفسها ، أي رحمت الرحمة الحق المخلوق بنفس الرحمة بالإيجاد ، أي بإيجاد نفسها فأوجدت الرحمة نفسها بالرحمة ، ثم أوجدت الحق المخلوق .اهـ بالى زادة""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (فكل من ذكرته الرحمة فقد سعد وما ثم إلا ما ذكرته الرحمة ، وذكر الرحمة الأشياء عين إيجادها إياها فكل موجود مرحوم ، ولا تحجب يا وليي عن إدراك ما قلناه بما تراه من أصحاب البلاء ، وما تؤمن به من آلام الآخرة التي لا تفتر عمن قامت به . واعلم أولا أن الرحمة إنما هي في الإيجاد عامة ، فبالرحمة بالآلام أوجد الآلام ، ثم إن الرحمة لها أثر بوجهين أثر بالذات وهو إيجادها كل عين موجودة ، ولا تنظر إلى غرض ولا إلى عدم غرض ، ولا إلى ملايم ولا إلى غير ملايم ، فإنها ناظرة في عين كل موجود قبل وجوده بل تنظره في عين ثبوته ولهذا رأيت الحق المخلوق في الاعتقادات عينا ثابتة في العيون الثابتة ، فرحمته بنفسها بالإيجاد ، ولذلك قلنا : إن الحق المخلوق في الاعتقادات أول شيء مرحوم بعد رحمتها بنفسها في تعلقها بإيجاد المرحومين ، ولها أثر آخر بالسؤال . فيسأل المحجوبون الحق أن يرحمهم في اعتقادهم ، وأهل الكشف يسألون رحمة الله أن تقوم بهم فيسألونها باسم الله ، فيقولون : يا الله ارحمنا ، ولا يرحمهم إلا قيام الرحمة بهم فلها الحكم ، لأن الحكم إنما هو في الحقيقة للمعنى القائم بالمحل ) .
 
أثر الرحمة بالذات : إيجادها كل عين ثابتة على العموم ، فرحمة الحق المخلوق في الاعتقادات بتبعية رحمتها أعيان المعتقدين ، فإنه عين ثابتة في أعيان المعتقدين الثابتة ، فرحمت أولا بنفسها في تعلقها بايجاد المرحومين من الأعيان فتعينت بها وظهرت في مظاهرها وانتشرت ، فكان في ضمن تعلقها بإيجاد المرحومين رحمة إيجاد الحق المخلوق فكان أول مرحوم المتعلقة بالأعيان ، لأن الحق المعتقد حال من أحوال أعيان المعتقدين فبنفس تعلقها بالأعيان تعلقت به ، وأما أثر الرحمة بالسؤال ، فهو أن يترتب على سؤال الطالبين ،
 
وهم : إما محجوبون ، وإما أهل الكشف
فالمحجوبون : يسألون الحق الذي هو ربهم في اعتقادهم أن يرحمهم ، فهم من يرحمون من الراحم المتجلى في صور معتقداتهم بحسب ما يعتقدونه ، فإن تعين الرحمة الوجودية في علم المعتقدين واعتقاداتهم بعد تعينها في علم الله ، فتعلق الرحمة المطلوبة بهم بحسب تعينها في أعيانها متأخر الرتبة عن حقيقة الرحمة متقدم في علم الله على المرحوم بحسب اعتقاده ،
وأما أهل الكشف : فيسألون رحمة الله أن تقوم بهم باسم الله فلها الحكم عليهم ، لأن القائم بالمحل يحكم على القابل بمقتضى حقيقته ، فلا يرحمهم إلا قيام الرحمة بهم فيجعلهم راحمين ، وهو منتهى قوله ( فهو الراحم على الحقيقة ) يعنى المحل القائم بالرحمة.
 
"" أضاف بالي زادة :
وأهل الكشف يسألون رحمة الله أن تقوم بهم : أي يسألون قيام الرحمة اتصافهم بالرحمة فيسألونها باسم الله ، أي يسألون الرحمة عن الحضرة الجامعة الحكم بين السؤالين .اهـ بالى زادة

فهو الراحم على الحقيقة لا المحل فالراحم هو الرحمة لا من اتصف بها ، قوله وجدوا حكمها في أنفسهم ذوقا فإن الرحمة تحكم عليهم أن يرحموا من طلب منهم الرحمة فعلموا ذوقا كيف يرحم الله عباده فإن الرحمة حاكمة على الحق أن يرحم من يسأل الرحمة من عباده فإذا وجدوا حكم الرحمة فقد ذكرتهم الرحمة ومن ذكرته الرحمة أي قامت به الرحمة فقد رحم غيره .اهـ بالى زادة""
 
( فلا يرحم الله عباده المعتنى بهم إلا بالرحمة ) ليكونوا موصوفين بصفته ( فإذا قامت بهم الرحمة وجدوا حكمها ذوقا ، فمن ذكرته الرحمة فقد رحم ، واسم الفاعل هو الرحيم والراحم ، والحكم لا يتصف بالخلق لأنه أمر توحيه المعاني لذواتها )
كما ذكر في الفص الأول من حكم الحياة والعلم على الحي والعالم
"" أضاف بالي زادة :
قوله (لذواتها ) أي من اتصف بها من الذوات ، فالرحمة معنى من المعاني لأنها لا عين لها في الخارج توجب الحكم لذاتها الذي لا عين له في الخارج لذلك قال - رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ )   - وجودا وحكما ، ولم يكتف بقوله وجودا والأمور التي توجبها المعاني أحوال ، فالحكم حال من الأحوال ، فالأحوال لا موجودة .اهـ بالى زادة
 
فصفات الحق موجود زائد على ذاته في العقل فإن لها حقائق معقولة ممتازة ، وأما في الخارج فلا أعيان لها فلا وجود فكان وجودها في الخارج عين ذاته تعالى والتحق الحكماء والمعتزلة في هذه المسألة بأهل الحق .اهـ بالى زادة . ""
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالأحوال لا موجودة ولا معدومة ، إذ لا عين لها في الوجود لأنها نسب ، ولا معدومة في الحكم لأن الذي قام به العلم يسمى عالما وهو الحال ، فعالم ذات موصوفة بالعلم ما هو عين الذات ولا عين العلم ، وما ثم إلا علم وذات قام بها هذا العلم ، فكونه عالما حال لهذه الذات باتصافها بهذا المعنى ، فحدثت نسبة العلم إليه فهو المسمى عالما ، والرحمة على الحقيقة نسبة من الراحم وهي الموجبة للحكم فهي الراحمة ) أي الجاعلة للذي نسب إليه راحما
( والذي أوجدها في المرحوم ما أوجدها ليرحمه بها ) أي ليكون بها مرحوما .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما أوجدها ليرحم بها من قامت به ) فيكون راحما
( وهو سبحانه ليس بمحل للحوادث ، فليس بمحل لإيجاد الرحمة وهو الراحم ، ولا يكون الراحم راحما إلا بقيام الرحمة به فثبت أنه عين الرحمة ، ومن لم يذق هذا الأمر ولا كان له فيه قدم ما اجترأ أن يقول : إنه عين الرحمة أو عين الصفة ، فقال : ما هو عين الصفة ولا غيرها فصفات الحق عنده لا هي هو ولا هي غيره ، لأنه لا يقدر على نفيها ولا يقدر أن يجعلها عينه ، فعدل إلى هذه العبارة )


وهو الأشعري ( وهي عبارة حسنة وغيرها ) أي غير هذه العبارة ( أحق بالأمر منها ) أي ما هو في نفس الأمر من هذه العبارة ( وأرفع للإشكال وهو القول بنفي أعيان الصفات وجودا قائما بذات الموصوف ، وإنما هي نسب وإضافات بين الموصوف بها وبين أعيانها المعقولة ) وهو قول أكثر العلماء والمعتزلة ( وإن كانت الرحمة جامعة فإنها بالنسبة إلى كل اسم إلهي مختلفة ) كالرحمة بالرزق والعلم والحفظ وأمثال ذلك من معاني الأسماء الإلهية .
( فلهذا يسأل سبحانه أن يرحم بكل اسم إلهي ، فرحمة الله والكناية ) أي الضمير في قوله :" ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ "  .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( هي التي وسعت كل شيء ، ثم لها شعب كثيرة تتعدد بتعدد الأسماء الإلهية ، فما تعم بالنسبة إلى ذلك الاسم الخاص الإلهي في قول السائل : يا رب ارحم ، وغير ذلك من الأسماء حتى المنتقم له أن يقول : يا منتقم ارحمني ، وذلك لأن هذه الأسماء تدل على الذات المسماة وتدل بحقائقها على معان مختلفة فيدعوه بها في الرحمة من حيث دلالتها على الذات المسماة بذلك الاسم لا غير ) أي الله مطلقا
 
"" أضاف بالي زادة :
( يا منتقم ارحمني ) أي ارفع عنى العذاب ، فإذا قلت : يا الله أو يا رحمن ارحمني تريد الاتصاف بالكمالات اللائقة بك ، فلا تعم الرحمة في قول السائل : يا رب ارحم بالنسبة إلى اسم الرب جميع أنواع الرحمة ، بل يريد نوعا مخصوصا من الرحمة .اهـ بالى زادة ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لا بما مدلول ذلك الاسم الذي ينفصل به عن غيره ويتميز فإنه لا يتميز عن غيره وهو عنده دليل الذات ) أي ذات الله من حيث هي لا باعتبار المعنى الخاص المميز .
 ( وإنما يتميز به بنفسه عن غيره لذاته ) أي لخصوصية ذات الاسم الخاص .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذ المصطلح عليه بأي لفظ كان حقيقة متميزة بذاتها عن غيرها ، وإن كان الكل قد سيق ليدل على عين واحدة مسماة ، فلا خلاف في أنه لكل اسم حكم ليس للآخر ، فذلك أيضا ينبغي أن يعتبر كما يعتبر دلالتها على الذات المسماة ، ولهذا قال أبو القاسم بن قسى في الأسماء الإلهية : إن كل اسم على انفراده مسمى بجميع الأسماء الإلهية كلها ، إذا قدمته في الذكر نعته بجميع الأسماء ، وذلك لدلالتها على عين واحدة وإن تكثرت الأسماء عليها واختلفت حقائقها أي حقائق تلك الأسماء ، ثم إن الرحمة تنال عن طريقين : طريق الوجوب ،
وهو قوله : " فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ " وما قيدهم به من الصفات العلمية والعملية ، والطريق الآخر الذي تنال به الرحمة طريق الامتنان الإلهي الذي لا يقترن به عمل ، وهو قوله : " ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ " ومنه قيل "لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ " ومنها قوله « اعمل ما شئت فقد غفرت لك » فاعلم ذلك ).
"" أضاف بالي زادة :
(على الذات المسماة ) فاختصت الرحمة بحكم ذلك الاسم ، فما تعم الرحمة بالنسبة إلى ذلك الاسم ، فإذا قال المريض : يا شافى ارحمني ، فلا يريد إلا صحة البدن بالخلاص عن المرض ، فقد اعتبر حكم الشافي في الرحمة وهي هذه الصحة المخصوصة وكذا في غيره ، فظهر منه أن الرحمة تتعدد بتعدد الأسماء وتتبع حكم كل اسم دعيت به .اهـ بالى زادة ""
 
رحمة الامتنان ذاتية تنال الأشياء كلها لأنها ليست في مقابلة عمل ، فكل ما تناولته الشيئية تناله هذه الرحمة ، وبهذه الرحمة استظهار الأبالسة والفراعنة والكفرة والسحرة ، والله المنان وعليه التكلان .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:31 am

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 
الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية                الجزء الأول
إنما خصت الكلمة الإلياسية بالحكمة الإيناسية ، لأنه عليه السلام قد غلب عليه الروحانية والقوة الملكوتية حتى ناسب بها الملائكة وأنس بهم ، وقد آنسه الله بغلبة النورية بالطائفتين الملائكة والإنس ، وخالط الفريقين وكان له منهما رفقاء يأنس بهم ، وبلغ من كمال الروحانية مبلغا لا يؤثر فيه الموت كالخضر وعيسى عليه السلام .
 
"" أضاف بالي زادة :
واعلم أن إلياس لما آنس الملائكة بحسب مزاجه الروحاني ، وآنس الإنسان بحسب مزاجه العنصري ، أورد الحكمة الإيناسية في كلمته وبين التنزيه والتشبيه ، فالتنزيه من جهة ملكيته والتشبيه من جهة بشريته فسمى بإلياس بعد البعثة إلى بعلبك . 
قال المفسرون :
 وهو إلياس بن ياسين سبط هارون أخي موسى بعث بعده وقيل ، هو إدريس لأنه قرئ إدريس وإدراس مكان إلياس ، وكشف الشيخ وافق الأخير .اهـ بالى زادة . ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (إلياس : هو إدريس عليه السلام ، كان نبيا قبل نوح ورفعه الله مكانا عليا فهو في قلب الأفلاك ساكن وهو فلك الشمس ، ثم بعث إلى قرية بعلبك ، وبعل : اسم صنم ، وبك : هو سلطان تلك القرية ، وكان هذا الصنم المسمى بعلا مخصوصا بالملك ، وكان إلياس الذي هو إدريس ،
قد مثل له انفلاق الجبل المسمى لبنان من اللبانة وهي الحاجة عن فرس من نار وجميع آلاته من نار ، فلما رآه ركب عليه فسقطت عنه الشهوة ، فكان عقلا بلا شهوة ، فلم يبق له تعلق بما تتعلق به الأغراض النفسانية فكان الحق فيه منزها ، فكان على النصف من المعرفة باللَّه ).
 
حال إدريس النبي عليه السلام في الرفع إلى السماء كانت كحال عيسى عليه السلام ، وكان كثير الرياضة مغلبا لقواه الروحانية مبالغا في التنزيه كما ذكر في قصته ، وقد تدرج الرياضة والسير إلى عالم القدس عن علايق حتى بقي ستة عشر سنة لم ينم ولم يأكل ولم يشرب على ما نقل ، وعرج إلى السماء الرابعة التي هي محل القطب ، ثم نزل بعد مدة ببعلبك ، كما ينزل عيسى عليه السلام على ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم ،
 فكان إلياس النبي والجبل الذي مثل له انفلاقه المسمى لبنان جسمانيته المحتاج إليها في استكماله وتكميل الخلق في الدعوة إلى الله تعالى ، وانفلاقه انفراج هيأتها وغواشيها الطبيعية عنها بالتجرد عن ملابسها ، والفرس النارية التي انفلق عنه هي النفس الحيوانية التي هي مركب النفس الناطقة على ما ذكر في فص صالح ،
وهي بمثابة البراق له صلى الله عليه وسلم ، وكونها من نار غلبة حرارة الشوق واستيلاء نور القدس عليه ، كما قيل لموسى عليه السلام :" بُورِكَ من في النَّارِ " وكون آلاته من نار تكامل قواه وأخلاقه واستعداده المهيئات لاستعلاء النفس الناطقة التي هي القلب عليه بنور روح القدس الذي هو العقل ،
ولهذا صار عقلا بلا شهوة ، لأن النور القدسي إذا غلب عليها سقطت شهوتها وصارت قواها منورة عقلية وأذهب عنها ظلمة الشهوة ،
 
ولهذا قال : ركب عليه فسقطت شهوته ، لأن الاستيلاء بتأييد الروح القدسي والتنور بنوره يوجب سقوط الشهوة ، وقطع التعلقات النفسية ، وانتفاء أغراض النفس الناطقة والطبيعة ، فكان الحق فيه منزها لتنزهه عن العلائق ، ولتغلب أحكام الروح على أحكام الجسد ، والتنزيه على التشبيه ، لأن الغالب عليه الصفات الروحانية ، وقهر القوى النفسانية والطبيعية والبدنية حتى صار روحا مجردا كالملائكة ، فكان على النصف من المعرفة باللَّه كالعقول المجردة وهو التنزيه ،
وفائدة الكمالات الخلقية والصفات الحاصلة للنفس من المقامات والفضائل كالصبر والشكر وما يتعلق بالتشبيه وينبئ عن مقام الاستقامة وهو النصف الأخير ، وفي الجملة كمل فيه أحكام اسم الباطن وبقي أحكام اسم الظاهر
 
كما قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن العقل إذا تجرد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره كانت معرفته باللَّه على التنزيه لا على التشبيه ، وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلي كملت معرفته باللَّه فنزه في موضع وشبه في موضع ) .
أي نزه في موضع التنزيه تنزيها حقيقيا لا وهميا رسميا ، وشبه في موضع التشبيه تشبيها شهوديا كشفيا
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ورأى سريان الحق بالوجود في الصور الطبيعية والعنصرية ، وما بقيت له صورة إلا ويرى عين الحق عينها ، وهذه هي المعرفة التامة الكاملة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله ، وحكمت أيضا بهذه المعرفة الأوهام كلها )
لأن الوهم يستشرف ما وراء موجبات الأفكار ولا ينفعل عن القوة العقلية من حيث تقييدها انفعالا يخرج عن الإطلاق ، فيجيز الحكم على المطلق بالتقييد مرة ويحكم بالعكس أخرى ، ولا يحيل ذلك وبحكم بالشاهد على الغائب تارة وبالعكس أخرى ، وهذا في جميع من له قوة الوهم من المقلدين والمؤمنين .
 
"" أضاف بالي زادة :
 ( إلا ويرى الحق عينها ) عين من وجه ، ومعنى سريان الحق في الصور ظهور آثار أسمائه وصفاته فيها .
ولو لم يكن الصورة مع الحق جهة الاتحاد والعينية في وجه خاص لم يكن العالم دليلا على وجوده ووجوبه ووحدانيته فكان إلياس مع هذا الوجه آنس الإنسان ، فسريان الحق في الصور عند أهل الحقيقة كإحاطة الحق بالأشياء عند علماء الرسوم في أن المراد من كل واحد منهما معنى واحد ، وكون الحق عين الأشياء عند أهل الله كاتحاد الحق مع الأشياء في بعض الأمور الكلية عند أهل الظاهر ، ولا مخالفة بينهما إلا في العبارة لا في المعنى .اهـ بالى زادة.
 
( قوله ويرى الحق عينها ) من حيث اتحاد الظاهر بالظاهر والتصور فيما عقل فإذا حكم العقل بالتنزيه في موضع فقد حكم الوهم بالتشبيه في ذلك الموضع لشهوده سريان الحق في الصور الذهنية والخارجية ، فشاهد الحق في صورة التنزيه الذي حصل في العقل ، ويرى أن إثبات التنزيه له تحديد ، والتحديد عين التشبيه ، ولا شعور للعقل أن تنزيهه صورة من الصور التي يجب تنزيه الحق عنها عنده فحكم على العقل وعلى إدراكه .اهـ بالى زادة. ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا كانت الأوهام أقوى سلطانا في هذه النشأة الإنسانية من العقول ، لأن العاقل وإن بلغ من عقله ما بلغ لم يخل عن حكم الوهم عليه والتصور فيما عقل ، فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه النشأة الصورية الكاملة الإنسانية . وبه جاءت الشرائع المنزلة فشبهت ونزهت شهت في التنزيه بالوهم ونزهت في التشبيه بالعقل فارتبط الكل بالكل ، فلا يمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه ولا تشبيه عن تنزيه ، قال الله تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ "  فنزه وشبه ).


أي نزه في عين التشبيه حيث نفى عن كل شيء مماثلة في مثليته وهو عين التشبيه. لأنه إثبات المثل .
ولما نفى عن كل شيء مماثلة المثل نزه الحق أن يكون مثلا له لأنه شيء من الأشياء فلا يماثل ذلك المثل ، وإذا لم يكن مثل مثله فبالأحرى أن يكون ذلك المثل ليس مثلا له وذلك في غاية التنزيه ، فهو تشبيه في تنزيه وتنزيه في تشبيه (" وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " فشبه )
أي في عين التنزيه لأنه أثبت له السمعية والبصرية اللتين هما صفتان ثابتتان للعبد وهو محض التشبيه ، لكنه خصصهما بالصيغة التركيبية المفيدة للحصر حيث حمل الصفتين المعرفتين بلام الجنس على ضميره ، فأفاد أنه هو السميع وحده لا سميع غيره ، وهو البصير وحده لا بصير غيره وهو عين التنزيه ، فتأمل
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهي أعظم آية نزلت في التنزيه ، ومع ذلك لم تخل عن تشبيه بالكاف ، فهو أعلم  العلماء بنفسه ، وما عبر عن نفسه إلا بما ذكرناه ، ثم قال :" سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ " وما يصفونه إلا بما تعطيه عقولهم ، فنزه نفسه عن تنزيههم إذ حددوه بذلك التنزيه ، وذلك لقصور العقل عن إدراك مثل هذا )
يعنى العقول البشرية المفيدة بالنظر الفكري ، لا العقول المنورة بنور التجلي والكشف الشهودي .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ثم جاءت الشرائع كلها بما تحكم به الأوهام ، فلم تخل الحق عن صفة يظهر فيها ، كذا قالت وبذا جاءت ، فعملت الأمم على ذلك فأعطاها الحق التجلي فألحقت بالرسل وراثة ، فنطقت بما نطقت به " رُسُلُ الله الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَه " فاللَّه أعلم موجه له وجه بالخبرية إلى رسل الله ، وله وجه بالابتداء إلى أعلم حيث يجعل رسالته )
والوجه الأول : أن يوقف على قولهم :" لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ " أي هذا الرسول على أن القول قد تم وابتدأ بقوله -   ( رُسُلُ الله ، الله )   - بمعنى أن رسل الله هم الله ، وأعلم خبر مبتدإ محذوف أي هو أعلم حيث يجعل رسالاته ، والمعنى رسل الله صورته والله هويتهم ، وهو من حيث هم وهم من حيث هو أعلم من حيث يجعل رسالاته ، وإذا كان الله هوية الرسل والرسل صورته كان تشبيها في عين تنزيه . والوجه الثاني هو المشهور ظاهرا .
( وكلا الوجهين حقيقة فيه فلذلك قلنا بالتشبيه في التنزيه ، وبالتنزيه في التشبيه ) أي فلأن الوجه المذكور أولا حقيقة
كالوجه الثاني: قلنا بالتشبيه في عين التنزيه ، ونفى الغيرية في إثبات الوحدة الحقيقية كقوله عليه الصلاة والسلام « هذه يد الله » وأشار إلى يمينه المباركة ،
وهذا الحديث أوله أهل الحجاب وآمن به أهل الإيمان ، وعاين أهل الكشف والشهود أن يده صلى الله عليه وسلم عين يد الله العليا في قوله : " يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ "  وكانت يد رسول الله فوق أيديهم رأى أعيان
 
"" أضاف بالي زادة :
( عن صفة يظهر فيها ) إذ لا بد لظهور الحق من صفة ، وثبوت تلك الصفة له عين التشبيه ، على أن كونه في كنزه ظهوره بصفة الخفاء والعماء ، وتنزيه الشرع إنما هو بمقتضى العقول لا لكون الأمر في نفسه كذلك ، لذلك نزه عن تنزيه العقول بقوله :" سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ" .اهـ بالى زادة. ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وبعد أن تقرر هذا فنرخي الستور ونسدل الحجب على عين المنتقد والمعتقد ، وإن كانا من بعض صور ما تجلى فيها الحق ولكن قد أمرنا بالستر )
أي بعد تقدير قاعدة الجمع بين التنزيه والتشبيه نسدل الغطاء على عين المنتقد ، أي المحقق العاقل الذي خلاصة المذاهب بالنظر العقلي البرهاني ، والمعتقد أي المقلد لما اعتقده بالعقد الإيماني وإن كانا من جملة مظاهر الحق ومجاليه ، ولكن قد أمرنا بالستر عنهم وأن نكلمهم على حسب نظرهم واعتقادهم بموجب زعمهم ، كما قيل : كلموا الناس على قدر عقولهم ، فإن الله تعالى قال : " وما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِه " وما أمكنهم فهمه
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ليظهر تفاضل استعداد الصور ، وإن المتجلى في صورة بحكم استعداد تلك الصورة ، فينسب إليه ما تعطيه حقيقتها ولوازمها لا بد من ذلك )
أي فينسب إلى المتجلى ما تعطيه حقيقة تلك الصورة التي هي المجلى ولوازمها من الحجاب والكشف والتجلي والسر والعرفان والذكر ( مثل من يرى الحق في النوم ولا ينكر هذا ، وإنه لا شك الحق عينه ) وأنه هو الحق عينه بلا شك .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيتبعه لوازم تلك الصورة وحقائقها التي تجلى فيها في النوم ، ثم بعد ذلك يعبر أي يجتاز عنها إلى أمر آخر يقتضي التنزيه عقلا ، فإن كان الذي يعبرها ذا كشف وإيمان فلا يجوز عنها إلى تنزيه فقط بل يعطيها حقها من التنزيه ، ومما ظهرت فيه أي من التشبيه فاللَّه على التحقيق عبارة لمن فهم الإشارة ) .
"" أضاف بالي زادة :
( ولوازمها ) أي لوازم تلك الحقيقة فلا يذوق هذه المسألة إلا من تجلى له الحق في صورة استعداده فينميه ما نسبه لنفسه ، ويشاهده بذلك التجلي تفاضل الصور فيشبهه وينزهه ولا بد من ذلك في التجلي ، فلا بد لظهور استعداد الصور من التجلي مثل هذه المسألة بما وقع في المنام من الصور الإلهية حتى يعلم منه ما في اليقظة فإنها على الحقيقة قال عليه الصلاة والسلام « الناس نيام » وكما قيل : إنما الكون خيال .اهـ بالى  زادة. ""
 
يعنى أن الأمر بالستر إنما ورد سلطان الوهم على هذه النشأة فلا بد من الستر ليظهر تفاضل الاستعداد .
واعلم أن الوهم قوة تحكم في المتخيلات وتدرك المعاني الجزئية في المحسوسات ، وأحكامها في المعاني الجزئية التي تدركها من المحسوسات والمتخيلات أكثرها صحيحة ، وقد يحكم أيضا في المعقولات والمعاني الكلية بأحكام كلها فاسدة إلى ما شاء الله ، والتميز بين صحيحها وفاسدها لا يتيسر إلا لمن أخلصه الله بنور الهداية الحقانية ، وو فقه لإدراك الحق والصواب ، وأيد عقله بتأييد روح القدس ،
 
ومن شأن هذه القوة أن تركت أقيسة استقرائية أو تمثيلية من المواد الجزئية فتحكم من الجزئي على الكلى ، وتجعل الحكم بالقياس كليا والمقيس عليه جزئي ، وتحكم بالشاهد على الغائب والاستيلاء به على العقل يفسد أكثر أحكام العقل إلا ما صار لبا ،
والمقال الذي يتفاضل الاستعداد به ، هو أن الله قد يتجلى في صورة إنسانية مثلا في النوم فالمؤمن العاقل يؤمن بذلك ويتوهم أنه مطرد في جميع صور التجلي حتى أنه يظن أنه تعالى كما تجلى في هذه الصورة ، وأنه إذا تجلى تجلى في صورة إنسانية ، أو أن الصورة الإنسانية صورته مطلقا ، والمنزه ينزه الحق عن الصورة بالدليل العقلي ،
 
ويحكم الوهم أن التجرد عن الصورة له ذاتي فلا يعطيه الفكر إلا ذلك ، فيعبر عنها إلى ما يقتضيه التنزيه العقلي ، فحصره فيما لا صورة له ، وحدده وشبهه بالعقول والمجردات ،
ويتوهم أنه قد نزهه غاية التنزيه وهو في عين التشبيه ، وأما صاحب الكشف فلا يعبر عنها إلى التنزيه المحض ، بل يعطيها حقها من التنزيه بأن لا يقيد الحق بصورة ، ولا يعطله عن جميع الصور ولا يجرده ويعطيها أيضا حقها مما ظهرت فيه من التشبيه بأن يضيف إليه في تلك الصورة أحكام تلك الصورة ولا يقيده بها ،
ويعلم أنه كلما شاء ظهر في أي صورة شاء فيضاف إليه ما يضاف إلى تلك الصورة وإن شاء لم يظهر في صورة أصلا ، وهو في كل موطن ومقام وظهور وبطون منزه عن ذلك كله غير مقيد بتجرد ولا لا تجرد ولا بإطلاق ولا لا إطلاق ،
فاللَّه عند التحقيق لفظ وعبارة فهم منه كل أحد ما بلغه من معرفته للحق بحسب استعداده ، ولمن فهم إشارة الحق وأهله عن الحق الصريح .
قال رضي الله عنه :  ( وروح هذه الحكمة وفصلها أن الأمر ينقسم إلى مؤثر ومؤثر فيه وهما عبارتان) وإلا فالمؤثر والمؤثر فيه واحد لا شيء غيره .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالمؤثر بكل وجه وعلى كل حال وفي كل حضرة هو الله ، والمؤثر فيه بكل وجه وعلى كل حال وفي كل حضرة هو العالم ، فإذا ورد ) أي وارد الحق والضمير للأمر المنقسم المذكور وهو الوارد ( فالحق كل شيء بأصله الذي يناسب ، فإن الوارد أبدا لا بد أن يكون فرعا عن أصل كانت المحبة الإلهية فرعا عن النوافل من العبد ، فهذا أثر بين مؤثر والمؤثر فيه )
أي الأحباب أثر من الحق في قوله : أحببته وكون الحق سمع العبد وبصره أثر مقرر وفي العبد مؤثر فيه
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كان الحق سمع العبد وبصره وقواه عن هذه المحبة ، فهذا أثر مقرر لا تقدر على إنكاره لثبوته شرعا إن كنت مؤمنا ، وأما العقل السليم فهو إما صاحب تجلى إلهي في مجلى طبيعي ) أي صورة إنسانية
"" أضاف بالي زادة :
فالحق بأصله الذي يناسبه ، فإن الكمالات الإلهية كالوجود والعلم والقدرة وغيرها آثار فيك لاحقة إلى أصلها الذي يناسبه وهو الحق تعالى قال :" ما أَصابَكَ من حَسَنَةٍ فَمِنَ الله " والنقائص الإمكانية كالاحتياج وغيره ، وهو الأثر الحاصل فيك منك ، فالحق إلى أصله الذي يناسب ذلك الاحتياج به وهو أنت ، فلا يكون الحق أصلا له .أهـ بالى زادة ""
 
قال رضي الله عنه :  ( فيعرف ما قلناه ، وإما مؤمن مسلم يؤمن به كما ورد في الصحيح ، ولا بد من سلطان الوهم أن يحكم على العاقل الباحث فيما جاء به في هذه الصورة ) أي فيما آتاه الله الحق في الصورة التي رآه في النوم
قال رضي الله عنه :  ( لأنه مؤمن بها ، وأما غير المؤمن فيحكم على الوهم بالوهم فيتخيل بنظره الفكري أنه قد أحال على الله ما أعطاه ذلك التجلي في الرؤيا ) أي قد استحال في حقه تعالى كونه في صورة جسدانية
( والوهم في ذلك لا يفارقه من حيث لا يشعر لغفلته عن نفسه ) أي لا ينفك أن يتوهم في حقه تعالى التمثيل بصورة من حيث لا شعور له به
 
قال رضي الله عنه :  ( ومن ذلك قوله تعالى :" ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ "   ، قال الله تعالى :" وإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ " إذ لا يكون مجيبا إلا إذا كان من يدعوه ) كان تامة أي إذا وجد من يدعوه يعنى أن صاحب الوهم يتوهم أن قربه تعالى منه كقرب الأجساد بعضها من بعض ، وأنه غير الداعي من كل وجه ، وذلك وهم منه إذ هو هو لا غير
 
لقوله رضي الله عنه  : ( وإن كان عين الداعي عين المجيب فلا خلاف في اختلاف الصور ، فهما صورتان بلا شك ، وتلك الصور كلها كالأعضاء لزيد ، فمعلوم أن زيدا حقيقة واحدة شخصية ، وأن يده ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبه ) مع أن أحدية جمع هذه الأعضاء بحقيقته وهيأتها الاجتماعية صورته الظاهرة
( فهو الكثير الواحد الكثير بالصور الواحد بالعين ، وكالإنسان بالعين واحد بلا شك ) أين هو كالإنسان بالعين أي بالحقيقة الإنسانية من حيث هي لا بالشخصية واحد
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولا شك أن عمر إما هو زيد ولا خالد ولا جعفر ، وأن أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودا فهو وإن كان واحدا بالعين فهو كثير بالصور والأشخاص ، وقد علمت قطعا إن كنت مؤمنا أن الحق عينه يتجلى في القيامة في صورة فيعرف ، ثم يتحول في صور فينكر ، ثم يتحول عنها في صورة فيعرف ، وهو هو المتجلي ليس غيره في كل صورة ، ومعلوم أن هذه الصورة ما هي تلك الصورة الأخرى فكانت العين الواحدة قامت مقام المرآة ، فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقده في الله عرفه فأقر به ، وإذا اتفق أن يرى فيها معتقد غيره أنكره ، كما يرى في المرآة صورته وصورة غيره ، فالمرآة عين واحدة والصور كثيرة في عين الرائي ، وليس في المرآة صورة جملة واحدة )
يعنى وليس في المرآة صورة واحدة من تلك الصور هي مجموع تلك الصور جملة واحدة ، لأن المرآة لا يرى فيها إلا ما قابلها ، وهو الصور الكثيرة
"" أضاف بالي زادة :
لاختلاف مقادير المرائي فللحق أثر في الصورة الظاهرة في مرآته بحسب تجلياته الذاتية ، وللرائى أثر بحسب اعتقاده إذ الحق لا يتجلى له إلا بصورة اعتقاده ، فكان للحق أثر بوجه ، وما له أثر بوجه فأهل الذوق والتمييز لعلمه بمراتب الأشياء يلحق كل أثر إلى صاحبه ، ويعطى كل ذي حق حقه ، فإن طلبت أنت معرفة الحق بالمثال الشهادى فانظر في المثال مرآة واحدة اهـ .أهـ بالى زادة""
 
 قال الشيخ رضي الله عنه : ( مع كون المرآة لها أثر في الصور بوجه وما لها أثر بوجه ، فالأثر الذي لها كونها ترد الصورة متغيرة الشكل من الصغر والكبر والطول والعرض ، فلها أثر في المقادير وذلك راجع إليها ، وإنما كانت هذه التغييرات منها لاختلاف مقادير المرايا )
قد صرح بالحق المشهود في هذا المثال ، فإن الحق تعالى لما تجلى في صور المعتقدات رأى كل ناظر معتقد فيه صورة معتقده فعرفه وأقرّ به ، وصوّر سائر المعتقدات فلم يعرفها وأنكرها ، فهو في الحقيقة لم يعترف إلا بصورة معتقده في الحق لا بالحق ، وإلا لاعترف وأقرّ به في جمع صور المعتقدات ، لأن العارف للحق المعترف به يعلم أنه غير محدود ولا ينحصر في شيء منها ولا في الجميع ، ولكنه تعالى يقبل إنكاره في غير صورة معتقده كما يقبل إقراره في صورة معتقده وهو عين الكل غنى بذاته عن العالمين ، وعن كل هذه الصور والتعين بها جمعا وفرادى ، وعن نفى هذه الصور والتنزيه عنها جميعا كما هو مذهب العقلاء .
 
وأما تأثير المرآة في الصور فهي ردها مختلفة المقادير لاختلاف مقادير المرايا في الصغر والكبر والطول والعرض إذا كانت مختلفة ،
وهو ضرب مثال لتجلى الحق في صور الحضرات الأسمائية ، فتصير مرآة الحق مرايا مختلفة الحكم ، فلا يكون تجليه وظهوره في مرآة كل صورة إلا بحسبها ، فإن نظر ناظر الحق من حيث تجليه في حضرة من حضراته فإنه يرى صورته في تلك الحضرة بحسبها لما ذكرنا من تأثير المرآة في الصور .
وأما في تجليه الذاتي الوجودي الأحدى ، فلا يرى فيه صورته إلا على ما هي عليه إذا لم يغلب على نظره التقيد بصورة دون صورة ، ولا حصر في الصور المرئية في المرايا بهذه الاعتبارات .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فانظر في المثال مرآة واحدة من هذه المرائي لا تنظر الجماعة ، وهو نظرك من حيث كونه ذاتا فهو غنى عن العالمين ومن حيث الأسماء الإلهية فذلك الوقت يكون كالمرائي ، فأي اسم إلهي نظرت فيه نفسك أو من نظر فإنما يظهر في الناظر حقيقة ذلك الاسم ، فهكذا هو الأمر إن فهمت ، فلا تجزع ولا تخف ، فإن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية ، وليست الحية سوى نفسك ، والحية حية لنفسها بالصورة والحقيقة والشيء لا يقتل عن نفسه ، وإن أفسدت الصورة في الحس فإن الحد يضبطها والحيال لا يزيلها ) .
 
أي فانظر في هذه المثال مرآة واحدة هي مرآة الذات الأحدية ، ولا تنظر المرايا الأسمائية ، وفيه تحريض على التوجه إلى الذات الأحدية على إطلاقها عن كل قيد وحصر في عقد ،
وذلك بإفناء الاعتقادات المتجزية التحديدية والتقييدية صورة ومعنى ،
وتشجيع للطالب السالك سبيل الحق على كسر أصنام المعتقدات كلها ، ورفع حجب التعينات بأسرها ، حتى يشهد الحق المحض الشاهد المشهود على الحقيقة في عين كل شيء غير منحصر فيه وفي تعينه ولا في الكل ، بل مطلقا جامعا بين التعين واللا تعين فيكون سويا على صراط مستقيم " صِراطِ الله الَّذِي لَه ما في السَّماواتِ وما في الأَرْضِ أَلا إِلَى الله تَصِيرُ الأُمُورُ "
ولا عوج ولا التواء ولا ميل ولا تعرج في سير الله كالحية ، ولا حية إلا نفسك "أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِه أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ "
"" أضاف بالي زادة :
غنى عن العالمين : أي لا يكون مرآة لأحد ولا يكون أحد مرآة له ، فتكون المرآة المنظور فيها من حيث نفسها واحدة غنية عن الصور الحاصلة فيها ، كذلك ذات الحق من حيث ذاته غنى على العالمين ، وانظر إلى المرايا المتخالفة في المقدار وهو نظرك في الحق من حيث الأسماء فذلك الوقت يكون كالمرائي .اهـ بالى زادة ""
 
 فالميل إلى اختلاف المذاهب والمعتقدات ومعارج طرق الحضرات ، إنما هو كانسياب الحيات فاجتنبها واتبع الطريقة المحمدية في قوله تعالى :" ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ من الأَمْرِ فَاتَّبِعْها " أي فاتبع الطريقة " ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ " فاقتل حية نفسك في التقييد بتعينك ،
 
ومعنى قوله : والحية حية لنفسها أن كل متعين نفسك كان أو غيرها فهو حي بحياته تعالى متعين بحقيقته فكيف يقتل عن نفسه ، وإن أفسدت صورته في الحس فهو باق في العلم بالعين وفي الخيال بالمثال ، فلا سبيل إلى إخفائه الطريق ، فالطريق هو التحقيق بالحق ، والنظر إلى العين بالفناء ، حتى يتجلى لك فتشهده بفناء الكل به ، ويتحقق معنى قوله :" كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ".
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإذا كان الأمر على هذا فهذا هو الأمان على الذوات والعزة والمنعة ، فإنك لا تقدر على إفساد الحدود ، وأي عزة أعظم من هذه العزة فتتخيل بالوهم أنك قتلت . وبالعقل والوهم لم تزل الصورة موجودة في الحد ، والدليل على ذلك 
" وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى " والعين ما أدركت إلا الصورة المحمدية التي ثبت لها هذا الرمي في الحس ، وهي التي نفى الله الرمي عنها أولا ، ثم أثبته لها وسطا ، ثم عاد بالاستدراك أن الله هو الرامي في صورة محمدية ، ولا بد من الإيمان بهذا فانظر إلى هذا المؤثر حتى نزل الحق في صورة محمدية وأخبر الحق نفسه عباده بذلك ، فما قال أحد منا عنه ذلك بل هو قال عن نفسه ، وخبره صدق والإيمان به واجب ، سواء أدركت علم ما قال أو لم تدركه ، فإما عالم وإما مسلم مؤمن ، ومما يدلك على ضعف النظر العقلي من حيث فكره كون العقل يحكم على العلة أنها لا تكون معلولة لمن هي علة له ، هذا حكم العقل لا خفاء به ، وما في علم التجلي إلا هذا ، وهو أن العلة تكون معلولة لمن هي علة له ، والذي حكم به العقل صحيح مع التحرير في النظر ، وغايته في ذلك أن يقول إذا رأى الأمر على خلاف ما أعطاه الدليل النظري أن العين بعد أن ثبت أنها واحدة في هذا الكثير ، فمن حيث هي علة في صورة من هذه الصور لمعلول ما ، فلا تكون معلولة لمعلولها فيصير معلولها علة لها ، وهذا غايته إذا كان قد رأى الأمر على ما هو عليه ، ولم يقف مع نظره الفكري ).


يعنى أن العلية معلولة وجودا وتقديرا لمعلولية المعلول ، لأنه لولا معلولية المعلول لم تتحقق علية العلة ، فعلية العلة موقوفة التحقق على معلولية المعلول ، فإذن معلولية المعلول علة لعلية العلة وعليتها ، وكذلك العلة وعكسها ، لما كان المعلول معلولا لهما لأنهما متضايفان ،
فيتوقف كل واحد منهما على الآخر ذهنا وخارجا فتكون علية العلة علة لمعلولية المعلول ، ومعلولية المعلول علة لعلية العلة ، والمعلول معلول بقيام المعلولية به ،
وكذلك العلة علة بقيام العلية بها ، فالعلة مع عليتها التي هي بها علة للمعلول معلول لمعلولية المعلول الذي هو بها معلول ، ومعلولية المعلول ليست زائدة عليه إلا في العقل ،
 كما أن علية العلة ليست بزائدة على العلة إلا في العقل فهي في الخارج عينه ، لكن العقل ينزع معنى المعلولية فيجعله زائدا على ذات المعلول ،
وكذا معنى العلية بالنسبة إلى ذات العلة ، وليس كذلك في الخارج ، إذ العلة والمعلولية لا غير لهما في الخارج زائدة على العلة والمعلول في الوجود ، لأنه لو كان لها تحقق وجودي دون عين العلة والمعلول في الوجود لتحقق امتيازها عنهما في الوجود ،
لكن الامتياز ليس إلا في التعقل ، وكذلك جميع أقسام المتضايفين لا تحقق لأحدهما وجودا إلا بالآخر فكل منها علة لمعلوله
 
"" أضاف بالي زادة :
أنزل الحق في صورة محمدية فالمعلول علة لعلته بوجه كما سيأتي ، فإن تأثير الحق ، في وجود الرمي وتأثير الرمي في نزول الحق في صورة رامية ليظهر منه .أهـ بالى زادة ""
 
ومعنى قوله : والذي حكم العقل به صحيح مع التحرير في النظر أن ذلك صحيح عند تحرير المبحث ومحل النزاع ، لأن الذي حكم العقل به هو أن الشيء الذي يتوقف عليه وجود شيء آخر حتى يتحقق به لا يتحقق في وجوده على وجود ذلك المتأخر المتحقق به وإلا لزم الدور ، وذلك عند تجريد المرادين عن معنى التضايف ، أما إذا أخذهما من حيث أنهما متضايفان فلا بد من التوقف في الجانبين .
وفي بعض النسخ : مع التحرز في النظر ، أي الاحتراز عن معنى التضايف فيهما وغايته أي وغاية الناظر والمفكر إذا رأى الأمر على خلاف مقتضى الدليل العقلي ، وتحقق أن العين واحدة في هذه الصورة الكثيرة أن يقول إنها وإن كانت حقيقة واحدة في العلة والمعلول فهي من حيث كونها علة في صورة من الصور الكثيرة لمعلول ما ، فلا تكون معلولة لمعلولها فيكون معلولها حينئذ علة لها وهي معلولة له
 
وحينئذ لم يقف مع نظره العقلي وجوابه بلسان الذوق . والتحقيق أن العين الواحدة في الصورتين لها صلاحية قبول الأمرين بالاعتبارين ،
فلها حال كونها علة صلاحية كونها معلولا ، وحال كونها معلولا صلاحية كونها علة ، فهي في عينها جامعة للعلية والمعلولية وأحكامهما ،
فكانت علة بعليتها ومعلولة بمعلولتيها ، فلها بحسب الأحوال جميع هذه الاعتبارات من حيث عينها على السواء ،
وهكذا صورة الأمر في التجلي ، فإن المتجلي والمتجلي له والتجلي وكون المتجلي متجليا والمتجلي له هو الحق الواحد بعينه المنعوت بجميع هذه الاعتبارات التي يتعقلها العقل ،

والفرقان والامتياز ليس إلا في العقل والصور المتعلقة ، والنسب المفروضة المتفرعة عن الحقيقة الواحدة ، وهو الله الواحد الأحد ليس في الوجود إلا هو .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:32 am

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر 
الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية                الجزء الثاني

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وإذا كان الأمر في العلية بهذه المثابة فما ظنك باتساع النظر العقلي في غير هذا المضيق ، فلا أعقل من الرسل صلوات الله عليهم وقد جاؤوا بما جاؤوا في الخبر عن الجناب الإلهي ، فأثبتوا ما أثبته العقل ) أي في طور العقل

( وزادوا ما لا يستقل العقل بإدراكه ولا يخيله العقل رأسا ويقربه في التجلي الإلهي ، فإذا خلا بعد التجلي بنفسه حار فيما رآه ، فإن كان عبد رب رد العقل إليه ، وإن كان عبد نظر رد الحق إلى حكمه ، وهذا لا يكون إلا ما دام في هذه النشأة الدنيوية محجوبا عن نشأته الأخروية في الدنيا )

يعنى هذه الحيرة لا تكون إلا إذا كان صاحبها في هذه النشأة الدنيوية محجوبا عن النشأة الأخروية ، فإنه فيها مقيد أبدا بعين العقل مقيد للأمر بحسب تقيده فيسعى في قيد ،

فإذا أطلق تحير لتعوده بحكم القيد ، فإن غلب حكم القيد حار عن الحق فأخذ بقيده ، وإن غلب حكم الإطلاق حار عما تحيره وانحاز إلى الحق وأذعن له الحق فراعى حكم الطرفين فكان من الكمل ، وإن بقي في الحيرة كان من الوله ،

وأما الكمل فهم خرجوا عن النشأة الدنيوية باطنا وإن كانوا فيها ظاهرا

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن العارفين يظهرون هنا كأنهم في الصورة الدنيوية لما يجرى عليهم من أحكامها ، والله تعالى قد حولهم في بواطنهم في النشأة الأخروية لا بد من ذلك ، فهم بالصورة مجهولون إلا لمن كشف الله عين بصيرته فأدرك ، فما من عارف باللَّه من حيث التجلي الإلهي إلا وهو على النشأة الآخرة قد حشر في دنياه ونشر من قبره ، فهو يرى ما لا يرون ويشهد ما لا يشهدون عناية من الله ببعض عباده في ذلك ).

قد حشر أي جمع ليوم الجمع فشاهد أحوال القيامة ونشر من قبره أحيا بالحياة الأخروية عن قبر تقيده ، وانغماسه في غواشيه بالمتجرد عن ملابسته .

"" أضاف بالي زادة :
فعجل لهم ما أجل لغيرهم ، فأنشأ الله العارفين نشأتين في حال حياتهم دنيوية وأخروية . أهـ بالى زادة  . ""


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فمن أراد العثور على هذه الحكمة الإلياسية الإدريسية الذي أنشأه الله تعالى نشأتين فكان نبيا قبل نوح ، ثم رفع ونزل رسولا بعد ذلك ، فجمع الله له بين المنزلتين فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته ويكون حيوانا مطلقا ) أي من غير تصرف عقلي


قال الشيخ رضي الله عنه : ( حتى يكشف ما يكشفه كل دابة ما عدا الثقلين ، فحينئذ يعلم أنه قد تحقق بحيوانيته ، وعلامته علامتان ، الواحدة هذا الكشف ، فيرى من يعذب في قبره ومن ينعم ، ويرى الميت حيا ، والصامت متكلما ، والقاعد ماشيا .
والعلامة الثانية الحرس ، بحيث أنه لو أراد أن ينطق بما رآه لم يقدر ، فحينئذ يتحقق بحيوانيته ، وكان لنا تلميذ قد حصل له هذا الكشف ، غير أنه لم يحفظ عليه الحرس فلم يتحقق بحيوانيته ، ولما أقامني الله تعالى في هذا المقام تحققت بحيوانيتي تحققا كليا ، فكنت أرى وأريد أن أنطق بما أشاهده فلا أستطيع ، فكنت لا أفرق بيني وبين الخرس الذين لا يتكلمون )


لما ذكر قبيل ذكره من كشف النشأتين مثال ظهور العين الواحدة في صور كثيرة هي في تلك الصور عينها غير متقيد ولا منحصر في شيء منها ،
فيصدق على تلك العين الواحدة في صورة من تلك الصور الكثيرة أنها عينها في صورة أخرى أو صور أخر من وجه ، ويصدق أيضا أنها غير الأخرى من حيث تغاير الصورتين والتعين من وجه ،
علم من ذلك ظهور إلياس في النشأتين ، وأن إلياس المرسل إلى بعلبك هو عين إدريس الذي كان يوحى إليه قبل نوح من حيث العين والحقيقة ، ويصدق أنه غيره من حيث الصورة والتعين فلا تلتبس عليك التعينات ،

فلو قلنا : إن العين أخذت الصورة الإدريسية وانتقلت إلى الصورة الإلياسية لكان عين القول بالتناسخ ، ولكنا نقول : إن عين إدريس وهويته مع كونها قائمة في إنية إدريس وصورته في السماء الرابعة هي الظاهرة في الصورة الإلياسية والمتعينة في إنية إلياس ،

فيكونان من حيث العين واحدا ومن حيث التعين الصوري والظهور الشخصي إثنين كحقيقة جبريل وعزرائيل وميكائيل ،

فإنهم يظهرون في الآن الواحد في مائة ألف مكان بصور شتى ، كلها قائمة موجودة هؤلاء الأرواح الكلية الكاملة فكذلك أرواح الكمل وأنفسهم ، وكالحق المتجلي في صور تجليات غير متناهية ، وتعينات أسماء إلهية لا تحصى كثرة مع أحدية ذاته وعينه المتنزهة عن أن تتكثر بالصور والتعينات ،

ثم إنه قدس سره أحال التحقق بهذا المعنى والاطلاع على الحكمة الإلياسية عن أن يتحقق السالك بحيوانيته ويتنزل عن رتبة العقل وحكمه حتى يبقى حيوانا محضا ، ليعلم سر نزول إدريس بعد أن تحقق بروحانيته حتى بقي عقلا مجردا بلا شهوة إلى صورة إلياس مبعوثا إلى أهل بعلبك .

 

وفائدة التحقق بالمنزلتين منزلة شهود الحق والتحقق به في الملإ الأعلى ذوقا ومنزلة ،

والتحقق بشهود الحق أيضا في العالم الأسفل والتحقق به ليكشف ما تكشفه كل دابة أي يطلع على عذاب القبر والتنعم فيه ، فإنه يطلع على ذلك الحيوانات العجم شهودا دون الثقلين ، والباقي ظاهر

"" أضاف بالي زادة :

( تحقق بحيوانيته ) فيه نزل منزلة إدريس عليه السلام حيث نزل عن سماء عقله إلى أرض نفسه ، فهذا النزول لا يكون إلا بعد العروج إلى سماء الروح بالرياضات والمجاهدات كما كان رفع إدريس إلى السماء كذلك .أهـ بالى زداة ""

 

قال رضي الله عنه :  ( فإذا تحقق بما ذكرناه ) أي عند نزوله إلى حيوانيته والتحقق بها ( انتقل إلى أن يكون عقلا مجردا في مادة طبيعية ، فيشهد أمورا هي أصول لما يظهر في الصور الطبيعية ، فيعلم من أين يظهر هذا الحكم في الصورة الطبيعية علما ذوقيا )

يعنى أن السالك المتحقق بحيوانيته إذا انتقل بعد ذلك إلى التحقق بكونه عقلا مجردا عن القيود الطبيعية ، تحقق حينئذ ذوقا أن العين التي كانت في عالم العقل عقلا هي في عالم النفس نفس ، فشهد في العالم العقلي عقولا هي أصول لما في العالم الأسفل من الصور الطبيعية ، فيعلم أن الأحكام المختلفة في الصور الطبيعية هي معاني الأعيان والحقائق العقلية علما ذوقيا ، فالحقيقة التي هي وجود بحث صرف هي ذاته تعالى في عالم الأعيان عين ،

وفي عالم المعاني معنى صرف معقول ، وفي عالم العقول عقل مجرد ، وفي عالم النفس نفس ، وفي عالم الحيوان حيوان ، وفي النبات نبات ، وفي الجماد جماد ،

فقد ظهرت العين الحقيقة في المراتب كلها بهذه الصور مع بقائها على حالها في عالمها فهي أصل الكل ومنشؤه ومنبعه ، وإلى الأصل الأول والحقيقة الأولى مصيره ومرجعه " وإِلَى الله تُرْجَعُ الأُمُورُ " منه بدأ الكل وإليه يعود

قال رضي الله عنه : (فإن كوشف على أن الطبيعة عين نفس الرحمن "فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً")   فإنه قد أوتى الحكمة التي بها تنقلب أعيان خلق العالم كله ، مع كثرة صورها الغير المتناهية حقا واحدا أحدا لا كثرة فيه أصلا وهو الخير الكثير ، لأن الغالب على حاله الإحسان العلمي والحكمة والتوحيد

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن اقتصر معه على ما ذكرناه فهذا القدر يكفيه من المعرفة الحاكمة على عقله فيلحق بالعارفين، ويعرف عند ذلك ذوقا "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكِنَّ الله قَتَلَهُمْ")
يعنى أن الله قتلهم في صوركم وموادكم


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما قتلهم إلا الحديد والضارب والذي خلف هذه الصورة ، فبالمجموع وقع القتل والرمي فيشاهد الأمور بأصولها وصورها فيكون تاما ، فإن شهد النفس كان مع التمام كاملا ، فإن النفس الرحماني هو عين فيض الوجود والحياة على الكل بل عين تنزل الحق إلى الصور كلها ) فلا يرى إلا الله عين ما يرى فيرى الرائي عين المرئي ، وهذا القدر كاف ،

والله الموفق والهادي .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت مارس 14, 2020 12:28 am

23 -  فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر  

الفص اللقماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
23 -  فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية
إنما اختصت الكلمة اللقمانية بالحكمة الإحسانية ، لأن الغالب على حاله عليه السلام الإحسان بالشهود العلمي والحكمة والتوحيد والإسلام في قوله تعالى  
" ومن يُسْلِمْ وَجْهَه إِلَى الله " تعالى ( وهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ) وقوله  ( آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ )  .
 
والإحسان والحكمة أخوان ، لأن الإحسان فعل ما ينبغي ، والحكمة وضع الشيء في موضعه ، وفي وصيته لابنه : ( يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )   .
وأول مراتب الإحسان المعاملة مع الحق بمحض التوحيد ، ثم الشهود في الطاعة والعبادة كما في قوله عليه الصلاة والسلام « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه » أي في غاية الظهور ،
ومن هذا الباب قوله : ( يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أَوْ في السَّماواتِ أَوْ في الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا الله )  ثم في معاملة الخلق كالإحسان بالوالدين ، وجميع وصاياه لابنه من باب الإحسان :


( إذا شاء الإله يريد رزقا  .... له فالكون أجمعه غذاء )
أي إذا تعلقت مشيئة الله بإرادة الرزق له من حيث أنه عين الوجود الحق المتعين بأعيان الممكنات ، فالكون كله والأحكام الإلهية الظاهرة بالكون كلها غذاء له لظهوره بها في ملابس الصفات والأسماء ،
فإن الهوية الإلهية الجمعية من حيث عينها بذاتها غنية عن العالمين وعن الأسماء كلها ، وأما تعلق المشيئة بإرادة الرزق فهو من حيث كونه ظاهرا في مظاهر الأكوان وأعيان العالم ، والفرق بين المشيئة والإرادة أن المشيئة عين الذات وقد تكون مع إرادة وبدونها ، والإرادة من الصفات الموجبة للاسم المريد ،
فالمشيئة أعم من الإرادة فقد تتعلق بها وتنقبض بها كمشيئة الكراهة أي بالإيجاد والإعدام . ولما كانت الإرادة من الحقائق الأسمائية فلا تقتضي إلا الوجود فتتعلق بالإيجاد لا غير ،
ولهذا علقها بالإرادة لتختص بوجود الرزق ،
وأصل الكلام أن يريد الرزق لأنها مفعول المشيئة ، فحذف إن ورفع الفعل كقوله :
 ( ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى )
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن شاء الإله يريد رزقا .... لنا فهو الغذاء كما يشاء )
أي وإن تعلقت مشيئته بإرادة الرزق لنا من لدنه فهو المراد أن يكون لنا رزقا من حيث أنه الوجود الحق ، فيوجدنا كما يشاء ويختفى فينا ويظهرنا كالغذاء بالنسبة إلى المغتذى ،
فإنا نقوش وهيئات وشئون وتعينات لا وجود لنا ولا تحقق فهو المتعين بنا ومظهرنا وغذاؤنا ورزقنا بالوجود كما نحن غذاؤه بالأحكام ،
وفي نسخة : فهو الغذاء كما تشاء أي كما تقتضي أعياننا أن توجد به ، وكما أن تحققنا وإبقاءنا بالوجود فكذلك بقاء أسمائه بالأعيان .
"" إضافة بالي زادة : ( إذا شاء الإله يريد رزقا ) له أي أراد الحق سببا لظهور نفسه ( فالكون أجمعه غذاء ) له من إظهارها إياه واختفاؤه فيها .أهـ بالى زاده. ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( مشيئته إرادته فقولوا .....  بها قد شاءها فهو المشاء )

ولما كانت الإرادة لا تتعلق إلا بالإيجاد أي بمعدوم يريد إيجاده لأن تأثير الأسماء الإلهية إنما هو في المعدومات لإيجادها
لقوله : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناه ). والمشيئة من حيث كونها عين الذات ولا بد لكل اسم من الذات كانت عين الذات من وجه وأعم منها من وجه لأنها قد تتعلق بالإعدام أي بوجود يريد إعدامه
كقوله : ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ )   - فقال مشيئته إرادته ، أي هما متحدان في التعلق بالفعل والإيجاد فقولوا بهذه المشيئة ،
أي المقتضية للإيجاد التي هي عين الإرادة قد شاء الإرادة ، فهي : أي فالإرادة هي مفعول المشيئة فالمشاء اسم مفعول بمعنى المراد ، وأصله على قياس اللغة المشيء لكنه غير مستعمل
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( يريد زيادة ويريد نقصا ....  وليس مشاؤه إلا المشاء )
المشاء بفتح الميم هنا مصدر ميمى أي المشيئة كما كانت عين الذات ، ولم يثبت لها اسما كالإرادة وليست إلا العناية لم تقتض لوجود ، فقد تتعلق بإرادة الزيادة وهي الإيجاد ، وقد تتعلق بالنقص وهي الإعدام ، وليست المشيئة في القسمين إلا المشيئة ، بخلاف الإرادة فإنها لم تتعلق في القرآن إلا بالإيجاد ، ولهذا قال بالفرق بينهما من وجه وباتحادهما من وجه
 
"" إضافة بالي زادة :
وقيل : إن المشيئة تخصيص المعدوم للوجود والموجود للعدم ، والإرادة تخصيص المعدوم للوجود فقط ( مشيئته عين إرادته فقولوا بها ) أي بالمشيئة قد شاءها الإرادة فهي أي الإرادة بالمشاء بفتح الميم أي المراد فهذا وجه اتحادهما ، ومعنى البيت الأول على تقدير الاتحاد إذا شاء الإله أن يشاء فحينئذ تكون المشيئة المشاء
ويفرق بينهما بفرق آخر بقوله: (يريد زيادة ويريد نقصا ) يعنى أن الإرادة تتعلق بزيادة شيء ونقصه
(وليس مشاؤه إلا المشاء ) أي لا تتعلق مشيئته بزيادة شيء ونقصه بل هي العناية الإلهية المتعلقة بإيجاد المشاء من غير تعرض إلى الزيادة والنقصان .أهـ بالى زاده. ""
 
في قوله :( فهذا الفرق بينهما فحقق  .... ومن وجه فعينهما سواء )
قال الله تعالى : ( ولَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ) ، وقال : ( ومن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً )   
قال الشيخ رضي الله عنه:  ( فلقمان بالنص هو ذو الخبر الكثير بشهادة الله تعالى له بذلك، والحكمة قد تكون متلفظا بها، وقد تكون مسكوتا عنها ).


 أي حيث يكون الحال يقتضي النطق فالحكمة متلفظ بها ، فإن النطق في موضعه حكمة ، ومن حيث يقتضي الحال السكوت ، فالحكمة مسكوت عنها لأن السكوت في موضعه حكمة ، كما سكت لقمان عن سؤال داود حين رآه صنع الدرع ، فأراد أن يسأل ما هو فسكت ولم يسأل حتى أتمه فلبس ، 
فقال : نعم لبوس الحرب هذا ، 
فقال لقمان : نعم الخلق الصبر ،
فقال داود : الصمت حكمة ، وقيل إنه قال لأجل هذا سمى حكيما ، فمثل هذا السكوت ينبئ عن التؤدة وانتفاء الاستعجال الطبيعي .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( مثل قول لقمان لابنه : " يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أَوْ في السَّماواتِ أَوْ في الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا الله " - فهذه حكمة منطوق بها ، وهو أن جعل الله هو الآتي بها وقرر ذلك الله في كتابه ولم يرد هذا القول على قائله ، وأما الحكمة المسكوت عنها وعلمت بقرينة الحال فكونه سكت عن المؤتى إليه بتلك الحبة ، فما ذكره ولا قال لابنه يأت بها الله إليك ولا إلى غيرك )
وفي نسخة أو إلى غيرك ، ولا في النسخة الأولى تأكيد لقوله ، ولا قال وفي ولا قال تأكيد للنفي « في » فما ذكره ، ومعناه ولا قال إلى غيرك فيكون معناهما واحدا .
 
 "" إضافة بالي زادة :
( ولم يرد هذا القول على قائله ) مع أن الإتيان يضاف إلى العبد أيضا ، ولم يقل الحق ليس الأمر كما قلت فدل ذلك على أن كل آتى الحبة ؟ عين الحق من جهة الحقيقة .أهـ بالى زاده. ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأرسل الإتيان عاما ، وجعل المؤتى به في السماوات إن كان أو في الأرض تنبيها ، لينظر الناظر في قوله تعالى :" وهُوَ الله في السَّماواتِ وفي الأَرْضِ " فنبه لقمان بما تكلم به وبما سكت عنه أن الحق عين كل معلوم ، لأن المعلوم أعم من الشيء فهو أنكر النكرات ) .
أي تنبيها على أن في السماوات والأرض هو الحق ، فالمعلوم في السماوات والأرض ليس غيره لأن المأتى به هو المعلوم في السماوات وفي الأرض ، والمعلوم في السماوات هو ما في الجهة العلوية من الحقائق العينية والاسمية والروحانية على اختلاف طبقاتها ،
 
والمعلوم في الأرض هو ما في الجهة السفلية من الحقائق الكونية والآثار الجسمية على اختلاف مراتبها كالعناصر والمواليد وأحوالها وهيئاتها ، فإنها تحت تصرف العوالم العلوية الإلهية وتأثيراتها ، وإنما جعل المعلوم أعم من الشيء لأن الشيء عنده هو الذي له وجود عيني ، والمعلوم يتناول ما له وجود عيني وما ليس له وجود عيني ،
 
فإن علمه محيط بالكل ، فالمعلوم أعم من الشيء ، وأما عند من جعل الشيء أعم من المتعين الخارجي والعقلي فالمعلوم والشيء يتساويان ، لأن الثابت في العلم شيء كالأعيان الثابتة ، وهو أرجح لقوله :" إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناه أَنْ نَقُولَ لَه كُنْ فَيَكُونُ ".
 فإنه تعالى أطلق قبل الكون على العين اسم الشيء وخاطبه بقوله « كُنْ » فيترتب الأمر كونه وكيف كان فالمقصود حاصل ، لأن المراد التنبيه على العالم الآتي بالمعلوم أي الله عين المعلوم سواء كان أعم من الشيء أو مساويا ، فإن الغرض إحاطة علمه بالكل ، وإن العلم والعالم والمعلوم حقيقة واحدة لا فرق بينها إلا باعتبار .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ثم تمم الحكمة واستوفاها لتكون النشأة كاملة فيها فقال :" إِنَّ الله لَطِيفٌ " فمن لطافته ولطفه أنه في الشيء المسمى بكذا المحدود بكذا عين ذلك الشيء حتى لا يقال فيه إلا ما يدل عليه اسمه بالتواطؤ والاصطلاح ،
فيقال : هذا سماء وأرض وصخرة وشجر وحيوان وملك ورزق وطعام ، والعين واحدة من كل شيء .
وفيه كما يقول الأشاعرة : إن العالم كله متماثل بالجوهر فهو جوهر واحد ، فهو عين قولنا العين واحدة ،
ثم قالت : ويختلف بالأعراض ، وهو قولنا : ويختلف ويتكثر بالصور والنسب حتى يتميز ، فيقال : هذا ليس هذا من حيث صورته أو عرضه أو مزاجه كيف شئت فقل ، وهذا عين هذا من حيث جوهره ، ولهذا يؤخذ عين الجوهر في حد كل صورة ومزاج ، فنقول نحن إنه ليس سوى الحق ، ويظن المتكلم أن مسمى الجوهر وإن كان حقا )
أي ثابتا غير متعين ( ما هو عين الحق الذي يطلقه أهل الكشف والتجلي ، فهذه حكمة كونه لطيفا ).
 
 بتتميم الحكمة المبنية للتوحيد واستيفائها تكميل ما نشأ فيه من المعنى أو لتكون النشأة اللقمانية كاملة في تلك الحكمة قوله : " إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ " .
 
"" إضافة بالي زادة :
( إلا ما يدل عليه اسمه ) وما عبارة عما يدل عليه اسم ذلك الشيء من المفهوم ، فإن قولنا هذا سماء لا يحصل على المبتدأ إلا مدلول السماء بالتواطؤ أي بالتوافق والاصطلاح .أهـ بالى زاده.
 
( متماثلة بالجوهر ) كتماثل أفراد الإنسان بالإنسان فهو جوهر واحد في كل متماثل كما أن الإنسان واحد في كل متماثل من أفراده .أهـ بالى زادة""
 
 فمن كمال لطافته أن الحق تعالى مع أحدية عينه يصدق الأشياء المتباينة المحدودة بحدود مختلفة وأسام متفاوتة ، كالسماء والأرض وغيرهما مما عدّ ولم يعد مما يصدق عليها بالتواطؤ بمعنى أنها عين واحدة ،
 
وذلك يطابق قول الأشاعرة : إن العالم كله متماثل بالجوهر أي هو جوهر واحد ، وكذلك نقول : يختلف ويتكثر بالصور والنسب حتى يتميز ،
فيقال : هذا ليس هذا من حيث صورته أو عرضه ، وذلك يطابق قولهم يختلف بالأعراض ، ثم إنهم مع قولهم بأحدية الجوهر في صور العالم كلها يقولون باثنينية العين : أي أن عين الجوهر في العالم غير الحق ولو كان كما قالوا لما كان الحق المشهود الموجود المطلق واحدا أحدا في الوجود بل كانا عينين وانتهى حد كل منهما إلى الأخرى وتمايزتا لكون كل واحد منهما غير الآخر ، وليس عينه حينئذ والحق تعالى وتنزه أن يكون محدودا معه غيره في الوجود حقيقة
 
فنقول : ما في الوجود إلا عين واحدة هي عين الوجود المطلق الحق وحقيقته وهو الوجود المشهود لا غير ، ولكن هذه الحقيقة لها مراتب وظهور لا تتناهى أبدا في التعين ،
فأول مراتبها إطلاقها عن كل قيد واعتبار ولا تعينها وعدم انحصارها ،
والمرتبة الثانية تعينها في عينها وذاتها بتعين جامع لجميع التعينات الفعلية الوجوبية الإلهية الانفعالية الكونية .
والمرتبة الثالثة المرتبة الجامعة لجميع التعينات الفعلية المؤثرة وهي مرتبة الله تعالى .
ثم المرتبة التفصيلية لتلك المرتبة الأحدية الإلهية وهي مرتبة الأسماء وحضراتها .
ثم المرتبة الجامعة لجميع التعينات الانفعالية التي من شأنها التأثر والانفعال ولوازمها ، وهي المرتبة الكونية الإمكانية الخلقية .
 
ثم المرتبة التفصيلية لهذه الأحدية الجمعية الكونية ، وهي مرتبة العالم ، ثم تفاصيل الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص والأعضاء والأجزاء والأعراض والنسب ، ولا يقدح كثرة التعينات واختلافها وكثرة الصور في أحدية العين ، إذ لا تحقق إلا لها في ذاتها وعينها لا غير لا إله إلا الله :"  كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ".
فالعين بأحدية الجمع سارية في جميع هذه المراتب والحقائق المترتبة فيها فهي هو وهو هي عينها لا غيرها ، كما كانت الهوية في المرتبة الأحدية الجمعية الأولى هو لا غيره "كان الله ولم يكن معه شيء " .
( ثم نعت فقال : ( خَبِيرٌ ) أي عالم عن إخبار وهو قوله :" ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ"
وهو العلم الثابت للحق من حيث حقيقة وجود العباد


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهذا هو علم الأذواق ، فجعل الحق نفسه مع علمه بما هو الأمر عليه مستفيدا علما ، ولا يقدر على إنكار ما نص الحق عليه في حق نفسه ، ففرق تعالى ما بين علم الذوق والعلم المطلق ، فعلم الذوق مقيد بالقوى ، وقد قال عن نفسه إنه عين قوى عبده في قوله « كنت سمعه » وهو قوة من قوى العبد ، وبصره وهو قوة من قوى العبد ، ولسانه وهو عضو من أعضاء العبد ، ورجاء ويده ، فما اقتصر في التعريف على القوى فحسب حتى ذكر الأعضاء ، وليس العبد بغير لهذه الأعضاء والقوى ، فعين مسمى العبد هو الحق لا عين العبد وهو السيد الرؤف) .
 
أي هوية العبد وحقيقته من غير نسبة العبدانية هو الحق من غير نسبة الإلهية والسيدية ، إلا أن عين العبد من حيث أنه عبد أعنى مع نسبة العبودية هو السيد من حيث أنه سيد مع نسبة السيادة
( فإن النسب متميزة لذاتها وليس المنسوب إليه متميزا ) أي من حيث الحقيقة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه ليس ثم سوى عينه في جميع النسب فهو عين واحدة ذات نسب وإضافات وصفات ، فمن تمام حكمة لقمان في تعليم ابنه ما جاء به في هذه الآية من هذين الاسمين الإلهيين لطيفا وخبيرا سمى بهما الله ، فلو جعل ذلك في الكون وهو الوجود فقال كان لكان أتم في الحكمة وأبلغ في الموعظة ، فحكى الله تعالى قول لقمان على المعنى كما قال لم يزد عليه شيئا ) يعنى أن قوله :" إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ " .
 
إخبار بأنه تعالى موصوف باللطف والخبرة ، وذلك يدل على أنه تعالى كذلك في الواقع ، ولا يدل على أن وجوده يقتضي ذلك ،
فلو أتى بالكلمة الوجودية الدالة على اتصافه بالصفتين المذكورتين في الأزل فقال وكان الله لطيفا خبيرا لكان أتم في الحكمة وأبلغ لدلالته على أن وجوده تعالى كان في الأزل ، كذلك اقتضى وجود تلك النسبة فهو كذلك لطيف خبير في الحال الواقع .


وأما العبارة المذكورة فتحتمل أن تكون كذلك في الأزل ، وأن لا يكون لكون الله تعالى حكى قول لقمان من غير تغيير ، وإنما قال لقمان بهذه الصيغة مع كلمة التحقيق والتأكيد ليتمكن ويتحقق في نفس ابنه أنه في الواقع كذلك جزما
( وإن كان قوله :" إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ " ، من قول الله ، فلما علم الله تعالى من لقمان أنه لو نطق لتمم متمما بهذا )   
أي بما معناه في لغته معنى هذا في اللغة العربية وذلك من حيث التحقيق ، والعذر ما ذكرناه من أن لقمان لفرط شفقته وتعطفه ورأفته بابنه قام في مقام التعليم والإرشاد والنصيحة بهذه القرائن مخبرا عن الواقع إخبارا مؤكدا جازما ، ليتحقق ويتمكن في نفس ابنه مقام الإخبار عن خبرة وجود ، ولو قال كان الله لطيفا خبيرا ،
وهذا وإن كان كذلك فالمبالغة والإتمام على الوجه الأول أنسب في الحكمة فأخبر الله تعالى عنه صورة ما جرى في الحال الواقع من غير زيادة ولا نقصان .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما قوله :" إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ " لمن هي له غذاء وليس إلا الذرة المذكورة في قوله : " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه ومن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه " فهي أصغر متغذ ) أي لو كان أصغر منها لذكره الله في هذه الآية لكونه تعالى في بيان أنهى درجة المبالغة ، وأيضا لأن في الحبة من الخردل أكبر وأكثر من الذرة ، فالمبالغة إنما تكون في منفذ أصغر من غذائه
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والحبة من الخردل أصغر غذاء ولو كان ثم أصغر لجاء به كما جاء بقوله :" إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً " ثم لما علم أنه ثم ما هو أصغر من البعوضة قال : فما فوقها يعنى في الصغر ، وهذا قول الله والتي في الزلزلة قول الله أيضا فاعلم ذلك ، فما فوق البعوضة في الصغر الذرة ، وثم لطيفة أخرى وذلك أن الذرة مع صغرها أخف في الوزن أيضا لكونها حيوانا إذ الحي أخف من الميت ، فالمعنى أن العمل إذا كان مثقال ذرة في الصغر والخفة فلا بد من رؤية الجزاء ، فنحن نعلم أن الله تعالى ما اقتصر على وزن الذرة وثم ما هو أصغر منها فإنه جاء بذلك على المبالغة والله أعلم ، وأما تصغيره اسم ابنه فتصغير رحمة ، فلهذا وصاة بما فيه سعادته إذا عمل بذلك ، وأما حكمة وصيته في نهيه إياه أن " لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ "  والمظلوم المقام ). أي المحل الذي أثبت فيه الانقسام .
 
"" إضافة بالي زادة :
( وهذا ) أي العلم الاختياري هو علم الأذواق ، أي مختص بالذوق الذي لا يحصل إلا بالقوى ، فجعل الحق نفسه مع علمه بالعلم المطلق بما هو عليه الأمر مستفيدا علما بقوله :" حَتَّى نَعْلَمَ "   وهو علم الذوق لا العلم المطلق ، فتميز الاسم الخبير من الاسم العليم .أهـ بالى زادة
 
وجواب أما قوله فهي الذرة التي هي النملة الصغيرة أصغر متغذ من الحيوان ، والحبة من الخردل أصغر غذاء من الأغذية ، ولو كان ثمة في العالم أصغر غذاء ومتغذيا من خردل وذرة لجاء به كما جاء بقوله :" إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ " الآية أهـ بالى زادة . ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حيث نعته بالانقسام وهو عين واحدة فإنه لا يشرك معه إلا عينه وهذا غاية الجهل ، وسبب ذلك أن الشخص الذي لا معرفة له بالأمر على ما هو عليه ، ولا بحقيقة الشيء إذا اختلفت عليه الصور في العين الواحدة ، وهو لا يعرف أن ذلك الاختلاف في عين واحدة جعل الصورة مشاركة للأخرى في ذلك المقام ، فجعل لكل صورة جزءا من ذلك المقام ومعلوم في الشريك أن الأمر الذي يخصه مما وقعت فيه المشاركة ليس عين الآخر الذي شاركه إذ هو الآخر ، فإذا ما ثم شريك على الحقيقة ، فإن كل واحد على حظه مما قيل فيه إن بينهما المشاركة فيه ، وسبب ذلك الشركة المشاعة وإن كانت مشاعة فإن التصريف من أحدهما يزيل الإشاعة " قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ " هذا روح المسألة ).
 
 إنما هو روح المسألة لأن الشركة بين الصور الإلهية متوهمة عند أهل الحجاب ، فإن الصور الإلهية والأسماء واحدة بالذات ، والدعوة إنما هي للذات في الصورة الرحمانية أو الصورة الإلهية أو فيهما معا أو في أي صورة شاء من الصور الأسمائية ،
فالداعى للرحمن مختص من وجه فلا شركة وكذلك المختص بدعوة الله الذات الأحدية فلا شركة في مدعوه لأحديته عنده في جميع الصور كما هو عليه ، ولذلك علل الإجازة في دعوة أحدهما على السواء

بقوله :" فَلَه الأَسْماءُ الْحُسْنى " أي الدعوة إنما هي للهوية الأحدية العينية الجمعية بين صور الأسماء الحسنى ، والمسمى ليس إلا واحدا فلا شركة أصلا والألفاظ ظاهرة .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي    شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت مارس 14, 2020 12:29 am

24 -  فص حكمة إمامية في كلمة هارونية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر  

الفص الهاروني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
24 -  فص حكمة إمامية في كلمة هارونية
إنما خصت الكلمة الهارونية بالحكمة الإمامية ، لأن هارون عليه السلام كان إمام أئمة الأحبار ، وقد استخلفه موسى على قومه بقوله : " اخْلُفْنِي في قَوْمِي وأَصْلِحْ "  .
والإمام لقب من ألقاب الخلافة ، وقد صرح هارون بذلك في قوله :  " فَاتَّبِعُونِي وأَطِيعُوا أَمْرِي " وقد بقيت الإمامة في نسله إلى الآن ،
وهي الخلافة المقيدة أي الإمامة بالوساطة كما كانت لخلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وله الإمامة المطلقة لكونه نبيا مبعوثا بالسيف كإمامة المهدي عليه السلام ،
والمراد بالمطلقة التي لا واسطة بين صاحبها وبين الله وله رتبة التقدم والتحكم في الوجود ، ولو لم يكن كذلك لما صرح بوجوب اتباعه وطاعته في قوله  :"فَاتَّبِعُونِي وأَطِيعُوا أَمْرِي " وهي التي قال فيها لخليله: "إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً " فله الإمامة المطلقة والمقيدة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( اعلم أن وجود هارون عليه السلام كان من حضرة الرحموت بقوله :" ووَهَبْنا لَه من رَحْمَتِنا أَخاه هارُونَ نَبِيًّا " فكانت نبوته من حضرة الرحموت ، فإنه أكبر من موسى سنا وكان موسى أكبر منه نبوة .
ولما كانت نبوة هارون من حضرة الرحمة لذلك قال لأخيه موسى عليه السلام -   ( يَا بْنَ أُمَّ )   - فناداه بأمه لا بأبيه إذ كانت الرحمة للأم دون الأب أوفر في الحكم ، ولولا تلك الرحمة ما صبرت أي الأم على مباشرة التربية ،
 
ثم قال الشيخ رضي الله عنه : ( لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ولا بِرَأْسِي ) و ( فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْداءَ )   فهذا كله نفس من أنفاس الرحمة ، وسبب ذلك عدم التثبت في النظر فيما كان في يده من الألواح التي ألقاها من يديه ، (فلو نظر فيها نظر تثبت لوجد فيها الهدى والرحمة ، فالهدى ) أي فوجد الهدى
"" أضاف بالى زاده :
أي وجد موسى في الألواح ما أضل قومه إلا السامري ، وهارون بريء منه والرحمة بأخيه . أهـ بالى زاده ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( بيان ما وقع من الأمر الذي أغضبه مما هو هارون بريء منه ) وكان الله قد أعلمه قبل ذلك بالأمر بقوله : ( فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ من بَعْدِكَ وأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ )   ، ( والرحمة بأخيه ) ووجد الرحمة بأخيه ( فكان لا يأخذ بلحيته بما رأى من قومه مع كبره وأنه أسن منه فكان ذلك من هارون شفقة على موسى ، لأن نبوة هارون من رحمة الله فلا يصدر منه إلا مثل هذا ،)
 
(ثم قال هارون لموسى عليهما السلام  إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ )   - (فتجعلني سببا في تفريقهم ، فإن عبادة  العجل فرقت بينهم فكان منهم من عبده اتباعا للسامري وتقليدا له ، ومنهم من توقف عن عبادته حتى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك ، فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه ، وكان موسى أعلم بالأمر من هارون ، لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه ، وما حكم الله بشيء إلا وقع . فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه ،
فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء . فكان موسى يربى هارون تربية علم وإن كان أصغر منه في السن )
أي يربيه تربية ربانية متعينة لهارون في مادة موسى ، لأن التربية لا تكون حقيقة إلا من الرب ، فكما كان يربى موسى في مادة هارون بأن جعله من رحمته له نبيا يكمل نبوته وشد به أزره كان يربى هارون في مادة موسى ،
فإنه عتب عليه وأخذ بلحيته ورأسه ليتنبه على أسرار ما وقع من عبادة العجل فيطلع على ما يقرر موسى بعلمه في سر ذلك ،
وكان الله في تربية موسى وهارون من حيث لا يشعر بذلك إلا من شاء الله ، فإن جميع الأفعال التي يجرى الله على أيدي عباده صور أحكام حقائقهم وحكمة لا يعلمها إلا الله ومن أطلعه عليها ، فوقوع العتب وعدم التثبت وإلقاء الألواح من يد موسى وأخذه بلحية هارون أمر قوى غير متوقع من مثله في مثل أخيه
الذي هو أكبر سنا إنما كان لتنبيهه على ما ذكر من السر وتربيته من حيث لا يشعران بذلك الأمر فإنهما من المعصومين الذين لا يجرى الله على أيديهم إلا ما هو الحكمة والطاعة ، ويزيد به العلم والمعرفة ، وهذا بالنسبة إلى أخيه ،
"" أضاف بالى زاده :
فالأنبياء والأولياء العارفون وإن كانوا ينكرون العبادة للأرباب الجزئية لكن إنكارهم ليس لاحتجابهم عن الحق الظاهر في صور الأشياء ، بل إنكارهم بحسب اقتضاء نبوتهم وبحسب اقتضاء الظاهر فإنهم يرون بحسب الباطن في كل شيء ، ونهى العبادة عن الأمة بحسب النبوة في مظهر خاص ، والمحجوبون وإن أنكروا أيضا لكن إنكارهم لاحتجابهم عن ظهور الحق في الأشياء أهـ بالى زاده ""
 
وأما بالنسبة إلى قومه فهو أن موسى عليه السلام كان في مبالغته في عتب أخيه يرى قومه أن عبادة ما يسمى غيرا وسوى عند أهل الحجاب ، وتعيينا جزئيا في شهود أهل الكشف جهل وكفر
أما كونه جهلا فلأن المعبود ليس محصورا في صورة ، بل هو ما في الصور كلها من الحق ، لأن العبادة لا يستحقها إلا الله الذي هو عين الكل وله هوية جميع الصور ، وأما كونه كفرا فلكونه سرا يتعين على الحق المتعين ،
ففعل ذلك رب موسى في مادته ليتنبهوا على ما قد كان حذرهم من قبل
 
حين قالوا له : " يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ".
 يعنى أن حقيقته يقتضي أن العبادة مطلقا لا تكون إلا للرب المطلق ،
كما قال تعالى : " ذلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لا إِله إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوه ".
 وقال : " وهُوَ الله في السَّماواتِ وفي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجَهْرَكُمْ " والإله المجعول ليس له الخلق فلا يستحق عبادة المخلوق إياه ، ولا علم له بما يسرون وما يعلنون ،
وبعلمه عليه السلام بجهلهم أقبل والتفت بالعتب على هارون ، فإنه كان في تربيته قولا وفعلا ليعلم من حيث ولايته ونبوته بما هو الأمر عليه علما بذلك في تلك الحالة إذ لم يعلما إلا بعد وقوع ما وقع ،
فلما نبه هارون بالحقيقة المذكورة وتحقق هو بما وقع منه ظاهرا وباطنا أعرض عن قومه بعد ما أراهم وأعلمهم بخطئهم إلى السامري فلم يعاتبهم ليتعظوا ، وذلك أبلغ في الغرض .
 
"" أضاف بالى زاده :
فعلم هارون ما أشار إليه موسى من كلامه إلى السامري ، وعلم أن غضبه وأخذ لحيته لا لأجل عبادة العجل بل لأجل تعليمه بأن الحق لا يعبد في صورة العجل ، وإنما تصرف موسى في صورة العجل بالحرق والنسف ، فإن حيوانية الإنسان إلخ .أهـ بالى زاده ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولذلك لما قال هارون ما قال رجع إلى السامري فقال له :" فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ " يعنى فما  صنعت من عدولك إلى صورة العجل على الاختصاص ، وصنعك هذا الشبح من حلى القوم حتى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم ، فإن عيسى يقول لبني إسرائيل : يا بني إسرائيل قلب كل إنسان حيث ماله فاجعلوا أموالكم في السماء تكن قلوبكم في السماء ، وما سمى المال مالا إلا لكونه بالذات يميل القلوب بالعبادة ، فهو المقصود الأعظم المعظم في القلوب لما فيها من الافتقار إليه ، وليس للصور بقاء فلا بد من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه فغلبت عليه الغيرة فحرقه ثم نسف رماد تلك الصورة في اليم نسفا وقال له : " انْظُرْ إِلى إِلهِكَ " فسماه إلها بطريق التنبيه للتعليم لما علم أنه بعض المجالى الإلهية "  لَنُحَرِّقَنَّه " فإن حيوانية الإنسان لها التصرف في حيوانية الحيوان لكون الله سخرها للإنسان ولا سيما وأصله ليس من حيوان ، فكان أعظم في التسخير ، لأن غير الحيوان ما له إرادة بل هو بحكم من يتصرف فيه من غير إباءة ) .
اعلم أن الأنبياء كلهم صور الحقائق الإلهية النورانية الروحانية ، والفراعنة صور الحقائق النفسانية الظلمانية ، ولهذا كانت العداوة والمخالفة بين الرسل والفراعنة لازمة ، كما بين العقل والهوى وبين الروح والشيطان ،
لكنهم مختلفون في التعينات الإنسانية لاختلاف الأسماء الإلهية فيهم ، وذلك لاختلاف القوابل بحسب الأمزجة والاعتدالات الإنسانية ، ولهذا اختلفت صورهم في الأشكال والهيئات والتعينات الشخصية ، ونفوسهم في الأخلاق والعوائد والأذواق ،
 
وأرواحهم في العلوم والمشاهدات والمشارب والتجليات ، مع اتحادهم في الوجهة والمعارف الحقانية والتوحيد وأصول الدين القيم ،
فإنهم في ذلك كنفس واحدة على آل واحد لرب واحد هو رب الأرباب ، فالحق الواحد يتجلى لكل منهم على صورة الاسم الغالب عليهم ،
ولهذا كان الغالب على موسى أحكام القهر وشهود التجلي النوري له في صورة النار ، وكانت علومه فرقانية ، والغالب على نبينا صلى الله عليه وسلم أحكام المحبة وشهود التجلي في صورة
النور ، وكانت علومه قرآنية .
 
ولما كان التجلي الإلهي في حق موسى في صورة القهر والسلطنة والجلال سلط النار على صورة العجل الذي جعله السامري إلها لمن عبدها حتى أحرقته وفرقها وبرد أجزاءها ، كما أن التجلي الإلهي يحرق كل من تجلى له ، فإن المحدث لا يبقى عند ظهور القديم بل يضمحل ويتلاشى ، فأراهم في نسف رماد العجل وحراقته صورة فناء المحدث عند تجلى الرب القديم ، وفي إحراقه صورة إحراق سبحات وجهه تعالى حتى ما انتهى إليه بصره من خلقه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما الحيوان فذو إرادة وغرض ، فقد يقع منه الإباءة في بعض التصريف ، فإن كان فيه قوة إظهار ذلك ظهر منه الجموح لما يريده منه الإنسان وإن لم يكن له هذه القوة أو صادف غرض الحيوان ) أي وجد عند المسخر الذي يريد تسخيره في أمر حيواني غرضا من أغراض الحيوان كمأكول أو مشروب أو ما يتوسل به إليه من أجرة
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( انقاد مذللا لما يريده منه كما ينقاد مثله لأمر فيما رفعه الله به من أجل المال الذي يرجوه منه المعبر عنه في بعض الأحوال بالآخرة ، في قوله : " ورَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ " ليتخذ بعضهم بعضا سخريا فما يسخر له من هو مثله إلا من حيوانيته لا من إنسانيته فإن المثلين ضدان ) من حيث أنهما لا يجتمعان .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فيسخره الأرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانيته ، ويتسخر له ذلك الآخر إما خوفا أو طمعا من حيوانيته لا من إنسانيته فما تسخر له من هو مثله ألا ترى ما بين البهائم من التحريش لأنها أمثال فالمثلان ضدان ، فلذلك قال : " ورَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ " - فما هو معه في درجته فوقع التسخير من أجل الدرجات .
"" أضاف بالى زاده :
الراعي لغنمه ، وإنما لا يتسخر من إنسانيته لأن المثلين ضدان ، والضدان متساويان في الدرجة لا يجتمعان ليس بينهما جهة جامعة من هذا الوجه فلا ينقاد الإنسان لمن هو مثله من جهة الإنسانية .أهـ بالى زاده ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (والتسخير على قسمين : تسخير مراد للمسخر اسم فاعل قاهر في تسخيره لهذا الشخص المسخر ، كتسخير السيد لعبده وإن كان مثله في الإنسانية ، وكتسخير السلطان لرعاياه وإن كانوا أمثالا له في الإنسانية فسخرهم بالدرجة .
والقسم الآخر تسخير بالحال ، كتسخير الرعايا للملك القائم بأمرهم في الذب عنهم وحمايتهم وقتال من عاداهم وحفظ أموالهم وأنفسهم عليهم ، وهذا كله تسخير بالحال من الرعايا يسخرون في ذلك مليكهم ويسمى على الحقيقة تسخير المرتبة فالمرتبة حكمت عليه بذلك ، فمن الملوك من سعى لنفسه ، ومنهم من عرف الأمر فعلم أنه بالمرتبة في تسخير رعاياه فعلم قدرهم وحقهم ، فآجره الله على ذلك أجر العلماء بالأمر على ما هو عليه ، وأجر مثل هذا يكون على الله في كون الله في شؤون عباده ، فالعالم كله يسخر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه أنه مسخر. قال تعالى : " كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ". ).
والظاهر أن تسخير موسى لقومه كان بمرتبة النبوة ، ولهذا كان يعلم حقهم ويراعيهم رعاية فكلما عاث فيهم ذئب كالسامرى قاتله وقابله ورماه بالإمساس وتحريق العجل ،
وشدد على خليفته مخافة المخالفة ، فكما سخرهم في مراد الله بما عنده من الله من النبوة والسلطنة ، سخروه بالحال على أن يسعى عند الله في مصالحهم الدينية والدنيوية ،
عرفوا ذلك أو لم يعرفوا وما يعرفه إلا العارفون .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكان عدم قوة ادراع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل كما سلط موسى عليه حكمة من الله ظاهرة في الوجود ليعبد في كل صورة ، وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية ، ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد ، إما عبادة تأله وإما عبادة تسخير ، فلا بد ذلك لمن عقل ) .
يعنى أن الحق المعبود المطلق الذي أمر أن لا يعبد إلا إياه لما ظهر بنور الوجود في كل نوع من الأنواع بل في كل شخص ، لزم أن يعبد في تلك الصورة إما عبادة عبد لإلهه ، وإما عبادة تسخير ، كما عبدت عبدة الأصنام الحجر والشجر والشمس والقمر ، لكون الإلهية ذاتية للوجود الحق ، وعبادة التسخير ليس لها اسم العبادة عرفا لأنها مخصوصة بمن تأله لكن العبودية متحققة في القسمين ، فإنك عبد لمن ظهر عليك سلطانه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد ، والظهور بالدرجة في قلبه ، ولذلك يسمى الحق لنا برفيع الدرجات ولم يقل رفيع الدرجة فكثر الدرجات في عين واحدة ، فإنه قضى ألا نعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كل درجة مجلى إلهيا عبد فيها ، وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه الهوى ، كما قال – " أَفَرَأَيْتَ من اتَّخَذَ إِلهَه هَواه " فهو أعظم معبود فإنه لا يعبد شيء إلا به ، ولا يعبد هو إلا بذاته ، وفيه أقول :
وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى ...  ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى )
يعنى أن كلمتي العبوديتين :
عبودية التأله وعبودية التسخير لا تكون من العابد لأي معبود كان إلا لهواه ، فما عبد إلا الهوى فهو الصنم والجبت والطاغوت الحقيقي لمن يرى غير الحق في الوجود .
وأما عند العارف فهو أعظم مجلى عبد فيه ، وهو باطن أبدا لا يظهر بالعين إلا في الأصنام ، وكليات مراتبه بعدد الأنواع المعبودة كما ذكر بعضها في الفص النوحى .
"" أضاف بالى زاده :
كما سلط موسى على العجل بالحرق والنسف ، ولم يقدر هارون بالفعل كذلك حكمة من الله خبر كان ظاهرة في الوجود ليعبد الحق في كل صورة نوعية من الأنواع ، وإنما قيدنا ذلك إذ لا يعبد الحق في كل صورة شخصية بل يعبد في صورة شخص من كل نوع .أهـ بالى زاده ""
 
وأما البيت فمعناه :
أنه أقسم بحق العشق الأحدى الذي هو حب الحق ذاته أنه سبب الهوى الجزئي الظاهري في كل متعين بتنزلاته في صور التعينات ، ولولا الهوى الحب الباطن المعين في القلب ما عبد الهوى الظاهر في النفس لأنه عينه تنزل عن التعين القلبي إلى التعين النفسي مع أحدية عينه في الكل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله ، كيف تمم في حق من عبد هواه واتخذه إلها ، فقال : " وأَضَلَّه الله عَلى عِلْمٍ " - والضلالة الحيرة ، وذلك أنه لما رأى هذا العابد ما عبد إلا هواه بانقياده لطاعته فيما يأمره به من عبادة من عبده من الأشخاص ، حتى أن عبادته لله تعالى كانت عن هوى أيضا ، لأنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس هوى وهو الإرادة بمحبة ما عبد الله ولا آثره على غيره ) .
أي كيف تمم العلم في حق من عبد هواه حيث نكره تنكير تعظيم أي على علم كامل لا يبلغ كنهه ، وذلك أن أصل الهوى هو الحب اللازم لشهوده تعالى ذاته بذاته ، فإنه تعالى أقوى الأشياء إدراكا وأتم الأشياء كمالا ولا يدرك ، واقف للمدرك من ذاته بذاته ،
فذاته أحب الأشياء إليه بل الحب عين الحب ، وحقيقته ليس إلا حبه لذاته ، وهو العشق الحقيقي وما عداه رشحة من ذلك البحر ولمعة من ذلك النور ،
 
فلا ميل في شيء إلى شيء إلا وهو جزئي من جزئيات ذلك الحب ، فلا محب إلا وهو يحب نفسه في محبوبه أي محبوب كان لأن المحبة لازمة للوحدة الحقيقية ،
فبسريان الوحدة في الوجود تسرى المحبة فيه لكنها تختلف بحسب كثرة التعينات المتوسطة بينها وبين الأول وقلتها ،
 
فكلما كانت الوسائط أكثر كان أحكام الوجوب فيها أخفى وأحكام الإمكان أظهر وبالعكس ، وينبنى على ذلك المذمة والمحمدة بحسب تنوع أنواعها ، وتختلف أسماؤها في الانتهاء كما بيناها في رسالة المحبة ، فالحاصل أن كل هوى كان أقرب إلى الحب الكلى ،
والأقرب بقلة الوسائط والتعينات كان أحمد وأشرف وأقوى في نفسه وأظهر ، وصاحبه أعلى مقاما وأرفع رتبة ، وأكثر تجردا وأشرف ذاتا وأقرب إلى الحق تعالى ، وكلما كان الحب أبعد من الحب الكلى المطلق بكثرة الوسائط والتعينات كان أخس وأذم وأضعف في نفسه وأخفى ، وصاحبه أدنى رتبة ، وأكثر تقيدا واحتجابا وأخس وجودا وأبعد من الله تعالى ،
"" أضاف بالى زاده :
( واتخذه إلها ) أي سماه إلها فقط دون غيره من مجالي الحق ، لظهور الحق له فيه دون غيره فقال في حقه - وأَضَلَّه الله )   .أهـ بالى زاده
 
وذلك أي التكميل والتعميم لما رأى الحق هذا العابد ما عبد إلا هواه  ولهذا أي لأن المعبود الخاص مجلى للحق في بصر هذا المحجوب بتعيين معبوده الذي هو المجلى الخاص
 .أهـ بالى زاده ""
 
والحقيقة من حيث هي هي واحدة ، فمن علم حقيقة الهوى كان على علم عظيم ، وقد حيره الله حيث وجده في الحقيقة محمودا غاية الحمد ، ومع التغشى بغواشى التعينات مذموما غاية الذم ، فتحير بين كونه حقا وبين كونه باطلا ،
 
والحق مطلع على أنه لا يعبد في الجهة العليا والسفلى بهواه إلا إياه إذ ليس في الوجود شيء إلا وهو عين الحق ، ألا ترى إلى قوله -   ( وهُوَ الله في السَّماواتِ وفي الأَرْضِ )   - وقوله -   ( وهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إِله وفي الأَرْضِ إِله )   - وقوله عليه الصلاة والسلام « لو دلى أحدكم بحبل لهبط على الله »
فكل ما عبده عابد في أحد الجهتين لا يعبده إلا بهواه إذ هو الذي يأمره بعبادة ما يعبده فلا يطيع في الحقيقة إلا هواه حتى إن الحق المطلق لم يعبد إلا بالهوى ، إلا أنه يسمى باسم أشرف كالإرادة ،
 
وهي محبة ما إما محبة النجاة والدرجات ، أو كمال النفس ، أو محبة صفات الله تعالى ، أو محبة ذاته تعالى وتقدس ، ولذلك نكر المحبة فقال وهو الإرادة بمحبة ، إذ لو لم يكن له نوع من أنواع المحبة ما عبد الله تعالى ولا آثره على غيره
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم واتخذها إلها ما اتخذها إلا بالهوى ، فالعبد لا يزال تحت سلطان هواه ) ولذلك أطلق بعض المحققين من المتأخرين كالعراقى وغيره اسم العشق على الحق تعالى نظرا إلى الحقيقة ، فإن العشق والمعشوق ثمة ليس في الحقيقة إلا واحدا لا فرق إلا بالاعتبار كالعلم والعالم والمعلوم . وإذا تقرر قاعدة التوحيد الحقيقي فلا مشاحة في الألفاظ ،
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم رأى المعبودات تتنوع في العابدين ، وكل عابد أمرا ما يكفر من يعبد سواه ، والذي عنده أدنى تنبه يحار لاتحاد الهوى بل لأحدية الهوى كما ذكر ، فإنها عين واحدة في كل عابد فأضله الله : أي حيره على علم بأن كل عابد ما عبد إلا هواه ولا استعبده إلا هواه ، سواء صادف الأمر المشروع أو لم يصادف ) قوله فأضله الله جواب لما في قوله :
وذلك أنه لما رأى هذا العابد ، وفاعل رأى ضمير اسم إن في أنه وهو يرجع إلى من عبد هواه اتخذ إلها مع كونه على علم بليغ ،
 
وقوله : ثم رأى المعبودات تتنوع عطف على رأى في لما رأى ، وفيه إشارة إلى منشأ حيرته وتعليل لها مع كمال علمه ، وحذف الفاء في جواب لما لطول الكلام ، وتوسط التعليل بين الشرط والجزاء .
والمعنى أنه لما رأى هذا العابد وذلك العابد وكل عابد حتى عابد الحق تعالى وكذا كل من عبد صورة ما من صور العالم لا يعبد كل منهم إلا هواه ،
ثم رأى تنوع المعبودات وتناكر العباد بحيث يكفر كل عابد من يعبد سوى معبوده مع أحدية الهوى في الحقيقة عند من له أدنى تنبه حيره الله لضيق ذرعه وصعوبة فرقه بين الحق والباطل والمشروع وغير المشروع .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه ) لأن الوجود الحق هو الذي ظهر في الكل وفي كل واحد ( ولذلك سموه كلهم إلها مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك ، هذا اسم الشخصية فيه )  بحسب الماهية المتعينة بالتعين النوعي ثم بالتعين الشخصي
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والألوهة مرتبة تخيل العابد له أنها مرتبة معبودة ، وهي على الحقيقة مجلى الحق لبصر هذا العابد الخاص المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختص ) .
يعنى أن الألوهة في كل معبود هي مرتبة رفيعة تخيل عابدة أنها مرتبة معبوده ، وهي في الحقيقة كونه مجلى الحق لبصر هذا العابد المعتكف على هذا المعبود ،
فاحتجب العابد بحكم تعينه بتعين المجلى الخاص عن وجه الحق المتعين به ، وذلك بجزئية هوى نفسه وتعينه بالشخص والنوع ، إذ لو انطلق عن قيد التعين لشاهد وجه الحق في الكل ، فكان  الشاهد والمشهود حقا يحب الحق
 
"" أضاف بالى زاده :
ولهذا أي لأن المعبود الخاص مجلى للحق في بصر هذا المحجوب بتعيين معبوده الذي هو المجلى الخاص.
 قال من عرف : أي من كان في استعداده الفطري أن يعرف الأمر على ما هو عليه ، وهو أن معبوده الخاص على الحقيقة مجلى للحق مقالة جهالة - ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا )   -
وإنما كانت هذه المقالة جهالة لأنه جعل ما هو مجلى إلهي أمرا مقربا مع أن كونه مجلى إلهيا يقتضي العينية ، وكونه مقربا يوجب الغيرية مع تسميتهم إياهم آلهة . أهـ جامى
 
عرفوه منهم أي من صور أصنامهم فعبادتهم الأصنام ليست إلا ما كان الأمر عليه فإنكارهم لا عن جهل بحقيقة الأمر بل مرتبتهم في العلم نعطيهم ذلك .أهـ بالى زاده ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولهذا قال بعض من لم يعرف مقاله جهالة " ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى " مع تسميتهم إياهم آلهة )
أي ولأن المعبود الخاص مجلى الحق لبصر هذا العابد المحجوب بتعين معبوده هو المجلى المختص ، قال من لم يعرف مقاله ولغاية جهله "ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى " فإنهم أثبتوا وحدة الله المقرب إليه مع تسمية معبوداتهم آلهة ، ولم يشعروا أنه إذا كان فيهم معنى الألوهية كانوا عين الله وحقيقته فما معنى التوسل بهم في التقريب ؟
ولم يشعروا أن الوسيلة إلى الإله ليس بإله فكأنهم بالفطرة عرفوا معنى الألوهية فيهم واحتجبوا بالتعينات فوقفوا مع صورة الكثرة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كما قالوا " أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ " فما أنكروه بل تعجبوا من ذلك ، فإنهم وقفوا مع كثرة الصور الإمكانية ونسبة الألوهية لها ، فجاء الرسول ودعاهم إلى إله واحد يعرف ولا يشهد ) أي ما أنكروا الإله بل تعجبوا من التوحيد لوقوفهم مع كثرة الصور الإمكانية ونسبة الألوهية لها ، فاعترضهم الرسول ودعاهم إلى إله واحد يعرف من قولهم ولا يشهد
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (بشهادتهم أنهم أثبتوه عندهم واعتقدوه في قولهم " ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى " )   فهو معروف عندهم غير مشهود ( لعلمهم بأن تلك الصور ) أي المشهودة ( حجارة ) ليست من الألوهية في شيء ( ولذلك قامت الحجة عليهم بقوله " قُلْ سَمُّوهُمْ " فما يسمونهم إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم حقيقة ) كحجر وخشب وكوكب وأمثالها .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأما العارفون بالأمر على ما هو عليه فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور ، لأن مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت لحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم الذي به سموا مؤمنين. فهم عباد الوقت )
لأنهم علموا أن الوقت مجلى عظيم من مجالي الحق يتجلى في كل وقت ببعض صفاته ، ولهذا كان الدهر اسما من أسمائه سبحانه
 
قال عليه الصلاة والسلام « لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر » فيغلب على الناس في كل وقت حكم الوصف الذي يتجلى به في ذلك الوقت والرسول الذي بعث فيه هو المظهر الأعظم لكمال ذلك الوصف ، فيدعو الخلق إلى الحق المتجلى فيه بطاعته طاعة الحق كقوله تعالى " من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله ".
 
فلذلك وجب الإيمان به وطاعته ، فالعارفون هم الذين يعرفونه ويحبونه أحب من أنفسهم ويتبعونه حق الاتباع ، فهم عباد الوقت لأن الوقت  هو الدهر الحاضر
الذي قال : « إن الدهر هو الله » فهم في الحقيقة عباد الوقت الحق ينقلبون مع تجلياته في الأوقات التي هي أجزاء الدهر المستمر مطيعين له دائما بحكم أوامره ونواهيه حقيقة طوعا وشهودا ، كمن تحول إلى القبلة في أثناء الصلاة عند تحول الرسول من غير أمر ظاهر لشهود تحول الحق في تجليه
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانا ) متعلق بقوله : فيظهرون بصورة الإنكار : أي ينكرون ما عبد من الصور متابعة للرسول مع علمهم بأنهم ما عبدوها ( وإنما عبدوا الله فيها بحكم سلطان التجلي الذي عرفوه منهم ) أي من عباد الصور وإن لم يشعروا بذلك وجهلوه ، والباء في بحكم يتعلق بقوله مع علمهم ومعناها السببية أي علموا ذلك بسبب حكم سلطان التجلي الذي عرفوه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وجهله المنكر الذي لا علم له بما تجلى الله وستره العارف المكمل من نبي ورسول ووارث عنهم ، فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصورة لما انتزح عنها رسول الوقت اتباعا للرسول طمعا في محبة الله إياهم بقوله :" إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله " ) .
إنما ستر العارف المكمل تعظيما وإجلالا وتنزيها له عما هو مبلغ علمهم من التعين والتشبه ، وتكميلا لمن استعد من الأمم بالطريق له من التقييد إلى الإطلاق ومن المحسوس إلى المعقول ، فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصور الجزئية ليهتدوا إلى المعنى المطلق الذي هو الكلى الطبيعي فيجمعوا بين الإطلاق والتقييد ،
 
ويتوسلوا بتوسط التخيل والتعقل إلى محض الشهود والتجلي إن شاء الله ، وذلك من الوفاء بصحة متابعتهم الرسول في العلم إذا قرن بالعمل المزكى للنفوس المصفى للقلوب ، فيكمل الناس بالاقتداء بهم ،
وهم بصحة المتابعة ظاهرا وباطنا علما وعملا وخلقا وحالا ناسبوا رسولهم فاحتظوا من ولايته بقدر استعداداتهم فينالون من محبة الله إياهم ببركة متابعة حبيب الله وشفاعته وإمداده إياهم .
"" أضاف عبد الرحمن جامي :
فلا بد منها ، أي من الصورة لأن الصورة ليست إلا تعين تجلى الوجود الحق ،
فالوجود الحق من حيث الإطلاق هو المتجلى ،
ومن حيث التقييد هو المجلى والصورة ، فإذا تجلى الحق في الصورة فلا بد أن يعبده . أهـ جامى . ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فدعا إلى إله يصمد إليه ) وهو الوجود الحق المطلق الذي يستند إليه كل وجود خاص ( ويعلم من حيث الجملة ولا يشهد ولا تدركه الأبصار ) أي يعلم من حيث الإطلاق والإجمال ولا يشهد من حيث التقييد والتفصيل ، إذ لا بد في الشهود من تجلى ومجلى ومتجل ، وكذا الأبصار
 
قال الشيخ رضي الله عنه : ( بل هو يدرك الأبصار للطفه وسريانه في أعيان الأشياء ولا تدركه الأبصار كما أنها لا تدرك أرواحها المدبرة أشباحها وصورها الظاهرة ).
الضمير في أنها ضمير القصة ، كقوله :" فَإِنَّها لا تَعْمَى الأَبْصارُ " وإضافة الأرواح إلى ضمير الأبصار لملابسته ، وإنما لا تدركه الأبصار لأن إدراكها مخصوص ببعض الظواهر فلا تدرك الحقائق وكل ما تحت الاسم الباطن
وإنما لا تدركه الأرواح لأن إدراكها مخصوص بالبواطن فلا تدرك ما تحت الاسم الظاهر من أسمائه وصفاته ولا يجمع بين الظاهر والباطن والتقييد والإطلاق واللاتقيد واللاإطلاق إلا التجلي الشهودي .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (فهو اللطيف ) أي عن إدراك الأبصار والبصائر ( الخبير ) بالبواطن والظواهر ( والخبرة ذوق والذوق تجل والتجلي في الصور فلا بد منها ولا بد منه ، فلا بد أن يعبده من رآه بهواه إن فهمت " وعَلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ ")  .
الذوق إنما يكون بقوى وجدانية وذلك إنما يكون بالتجلي في الصور فمن رآه متجليا في أي صورة كانت مال إليه ،
والهوى في العرف ليس إلا ميلا نفسيا فلا شهود إلا بالتجلي ، ولا تجلى إلا في صورة ،
فلا عبادة له شهودية إلا بميل تام نفسي لأن الصورة لا بد لها من ميل إلى ما يوافقها وهو الهوى.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:05 pm

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية
إنما خصت الكلمة الموسوية بالحكمة العلوية ، لعلوه على من ادعى الأعلوية ، فقال : " أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى " فكذبه الله تعالى بقوله لموسى : " إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلى " على القصر يعنى لا هو مع أنه تعالى وصفه بالعلوية في قوله : "من فِرْعَوْنَ إِنَّه كانَ عالِياً من الْمُسْرِفِينَ ".
ولعلو درجته في النبوة بأن كلمه الله بلا واسطة ملك ، وكتب له التوراة بيده تعالى ، كما ورد في الحديث ، ويقرب مقامه من مقام الجمعية التي اختص بها نبينا صلى الله عليه وسلم المشار إليه بقوله :"وكَتَبْنا لَه في الأَلْواحِ من كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ".
وبكثرة أمته كما أخبر عليه الصلاة والسلام في حديث القيامة حال عرض الأمم عليه أنه لم ير أمة نبي من الأنبياء أكثر من أمة موسى عليه السلام وبكثرة معجزاته .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حكمة قتل الأبناء من أجل موسى ليعود عليه بالإمداد حياة كل من قتل من أجله لأنه قتل على أنه موسى وما ثمة جهل فلا بد أن تعود حياته على موسى أعنى حياة المقتول من أجله ، وهي حياة طاهرة على الفطرة لم تدنسها الأغراض النفسية بل هي على فطرة بلى ، فكان موسى مجموع حياة من قتل على أنه هو ، فكل ما كان مهيأ لذلك المقتول مما كان استعداد روحه له كان في موسى عليه السلام ، وهذا اختصاص إلهي بموسى لم يكن لأحد قبله فإن حكم موسى كثيرة ، وأنا إن شاء الله أسرد منها في هذا الباب على قدر ما يقع به الأمر الإلهي في خاطري ، فكان هذا أول ما شوفهت به من هذا الباب ).
اعلم أن التعينات اللاحقة للوجود المطلق بعضها كلية معنوية كالتعينات الجنسية والنوعية والصنفية ، والنسب التي تحصل بها أسماء الله الحسنى المرتبة الشاملة بعضها لبعض شمول اسم الله والرحمن سائر الأسماء ،
وبعضها جزئية كالتعينات الغير المتناهية المندرجة تحت الأولى ، فتحصل من نسبة الأولى إليها أسماء غير متناهية في حضرات أمهات الأسماء المتناهية ،
والتعينات الأولية تقتضي في عالم الأرواح حقائق روحانية مجردة وطبائع كلية ، فالتعيين الأول هو العقل الأول المسمى أم الكتاب ، والقلم الأعلى والعين الواحدة والنور المحمدي كما ورد في الحديث « أول ما خلق الله العقل » وفي رواية « نوري وروحى » وهو يتفصل بحسب التعينات الروحانية إلى العقول السماوية والأرواح العلوية والكروبيين وأرواح الكمل من الأنبياء والأولياء ،
 
فالعقل الأول هو متعين كل طبيعي ، يشمل جميع المتعينات ويمدها وبقومها ويفيض عليها النور والحياة دائما ، ثم يتنزل مراتب التعينات إلى تعين النفس الكلية المسماة باللوح المحفوظ ، ونسبتها إلى النفوس الناطقة المجردة الطاهرة في مظاهر جميع الأجرام السماوية أفلاكها وكواكبها ، وإلى النفوس الناطقة الإنسية بعينها نسبة العقل الأول إلى الأنواع والأصناف التي هي تحتها في عالمها ،
وهذه النفس الكلية أيضا مراتب تعيناته في التنزل ، ثم مراتب النفوس المنطبعة في الأجرام التي يسمى عالمها عالم المثال ،
ثم مراتب العناصر التي هي آخر مراتب التنزلات ، وكلها تعينات الوجود الحق المتجلى في مراتب النفوس بصور التعينات الخلقية وشئونها الذاتية كما مر غير مرة فالأرواح المتعينة بالتعينات الكلية من المجردات العقلية والنفوس السماوية والأرواح النبوية مفيضات وممدات لما تحتها من الأرواح المتعينة بالتعينات الجزئية البشرية ، ومقومات لها تقويم الحقائق النوعية أشخاصها ، ومدبرات وحاكمات عليها سياسة لها سياسة الأنبياء أممها والسلاطين خولها ،
ومن هذا يعرف سر قوله « كنت نبيا وآدم بين الماء والطين » ويفهم معنى قوله :" إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً ".
 والأرواح المتعينة بالتعينات الجزئية والهيئات المزاجية الشخصية تحت قهرها وسياستها وتصريفها بحسب إرادتها ،
فهي بالنسبة إليها كالقوى الجسمانية والنفسانية والروحانية على اختلاف مراتبها بالنسبة إلى روحنا المدبرة لأبداننا ،
وكالخدم والأعوان والعبيد بالنسبة إلى المخادم والسلاطين والموالي ، وكالأمم والأتباع بالنسبة إلى الأنبياء والمتبوعين .
إذا تقرر هذا فنقول : أرواح الأنبياء هم التعينات بالتعينات الكلية في الصف الأول ، وأرواح أممهم بل أكثر الملائكة والأرواح والنفوس الفلكية كالقوى والأعوان والخدم بالنسبة إليهم ، ومن هذا يعرف سر سجود الملائكة لآدم ، وسر طاعة أهل العالم العلوي والجن والإنس لسليمان ولذي القرنين وسر إمداد الملائكة للنبي عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى :" أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ من الْمَلائِكَةِ " الآية ،
فعلى هذا كانت الأبناء الذين قتلوا في زمان ولادة موسى هي الأرواح التي تحت حيطة روح موسى عليه السلام وفي حكم أمته وأعوانه ،
فلما أراد الله إظهار آيات الكلمة الموسوية ومعجزاتها وحكمها وأحكامها ، وقدر الأسباب العلوية والسفلية من الأوضاع الفلكية والحركات السماوية المعدة لمواد العالم ، والامتزاجات العنصرية والاستعدادات القابلة المهيأة لظهور ذلك وقرب زمان ظهوره ، تعينت أمزجة قابلة لتلك الأرواح فتعلقت بأبدانها ،
وكان علماء القبط وحكماؤهم أخبروا قومهم أنه يولد في ذلك الزمان مولود من بني إسرائيل يكون هلاك فرعون وذهاب ملكه على يده ،
فأمر فرعون بقتل كل من يولد من الأبناء في ذلك الزمان حذرا مما قضى الله وقدر ،
ولم يعلم أن لا مرد لقضائه ولا معقب لحكمه
 
فكان ذلك سببا لاجتماع تلك الأرواح في عالمها وانضمامها إلى روح موسى ، وعدم تفرقها وانبثاثها عنه بالتعلق البدني والانفراد في عالم الطبيعة فيتقوى بهم ويجتمع فيه خواصهم ويعتضد بقواهم ،
وذلك اختصاص من الله لموسى وتأييد بإمداده بتلك الأرواح كإمداده بالأرواح السماوية وقوى النيرات الناظرة إلى طاعته
فلما تعلق الروح الموسوي ببدنه تعاضدت تلك الأرواح والأرواح السماوية في إمداده بالحياة والقوة والأيد والنصرة ،
وكل ما هو مهيأ لتلك الأرواح الطاهرة من الكمالات فكان مؤيدا بهم بتلك الأرواح كلها ،
ونظير ذلك ما قال أمير المؤمنين علي بن أبى طالب رضي الله عنه ، حين قال له بعض أصحابه عند ظفره بأصحاب الجمل : وددت أن أخي فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك ، فقال : أهوى أخيك معنا ؟
قال : نعم ، قال : فقد شهدنا ، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرجال وقرارات النساء سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان ،
فالحكمة فيما دبره الله من قتلهم أن أرواحهم تتلاحق في إمداد موسى حتى يبلغ أشده بما ذكر ،
ثم تتلاحق عند دعوته بالتعلق بأبدانها وتتكامل في القوة والشدة متفقين في تصرفه ، كما قال : سيرعف بهم الزمان ، ويقوى بهم الإيمان .
 
( فما ولد موسى إلا وهو مجموع أرواح كثيرة ) باتصال تلك الأرواح به متوجهة إليه مقبلة نحوه بهواها ومحبتها ونوريتها خادمة له ، ولذلك كان محبوبا إلى كل من يراه لنوريته بتشفيع أنوار تلك الأرواح .
"" إضافة بالي زاده :
فهي أرواح لطيفة مجردة عن تعلق الصور المادية وأنوار لطيفة ،
وكذلك روح موسى نور لطيف فناسب كل منهم للآخر لذلك اتحد كلهم كاتحاد نور القمر والشمس في النهار ، فمثل هذه الأرواح للطافتها قد يتحد بعضها مع بعض ويمتاز أخرى كما يمتاز نور القمر عن نور الشمس بعد اتحاده في النهار ،
فإذا انقطع روح موسى عن تعلق الصورة الموسوية العنصرية افترقوا عنه وامتاز كل واحد عن الآخر ورجع إلى مقامهم الأصلي ، فانفرد روح موسى كما انفرد قبله ، فإن لكل صورة روحا خاصا عند الله ، وبهذا قد انقطع وهم التناسخ من ظاهر كلام الشيخ . أهـ بالى زادة   ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( جمع قوى فعالة لأن الصغير يفعل في الكبير ، ألا ترى الطفل يفعل في الكبير بالخاصية فينزل الكبير من رياسته إليه فيلاعبه ويزقزق له ويظهر له بعقله :
أي ينزل إلى مبلغ عقله فهو تحت تستخيره وهو لا يشعر ، ثم شغله بتربيته وحمايته وتفقد مصالحه وتأنيسه حتى لا يضيق صدره هذا كله من فعل الصغير بالكبير وذلك لقوة المقام ، فإن الصغير حديث عهد بربه لأنه حديث التكوين والكبير أبعد ، فمن كان من الله أقرب سخر من كان من الله أبعد ، كخواص الملك المقرب منه يسخرون الأبعدين ) .
القرب والبعد نسبتان معتبرتان باعتبارات كثيرة لقلة التعينات والوسائط بين الشيء وبين الحق وكثرتها .
 
فالأقل الوسائط أقرب ، ولهذا سخر الأرواح الأجساد والعقول النفوس كتسخير العقل الأول من دونه من العقول والنفوس ،
وكاستجماع الفضائل والكمالات في الاتصاف بها والتخلي عنها ، فالأكثر بالكمالات والأوفر بالفضائل أقرب إلى الله ممن يخلو عنها ، فيسخر بقرب مقامه من الله من دونه في ذلك كتسخير الأنبياء والأولياء أممهم وأتباعهم ،
وكل من له أحدية الجمعية الكمالية الإلهية أقرب إلى الله ممن غلب عليه أحكام الكثرة فيسخر له ، وأما القرب والبعد في هذا الموضع فهو باعتبار حدوث تجلى الحق وطراوته بحسب الزمان وتمادى مدته وبعد عهده ،
 
فإن طراوة ظهور الحق في مجلى واحدة بتصرفاته وأفعاله وصفاته كما في الصغار قرب لهم بربهم وصفاء ، لكونهم على فطرتهم الأصلية والعهد الأول والاتصال الحقيقي وتقادم الزمان بالكبر وغلبة أحكام النشأة والهيئات النفسانية كالمادة الحيوانية والطبيعية بعدلهم من ربهم وتكرر وسقوط عن الفطرة فلذلك يسخر الصغير الكبير فيخدمه ،
وأما تنزل الكبير العارف الكامل إلى مرتبته للتربية مع كونه في غاية القرب بالنسبة إلى الطفل فذلك للرحمة والعناية الإلهية ،
وهو أمر آخر باعتبار آخر فلا ينافي ما ذكرناه لأنه رجع إلى الله بعد البعد بالمعنى المذكور حتى صار أقرب مما كان أولا .
 
"" إضافة بالي زاده :
( فيلاعبه الكبير ) ولهذا تصح هذه الملاعبة في الشرع مع أن كل لعب حرام لأنها ليست من فعل الكبير بل من فعل الصغير بالكبير يظهر من صورة الكبير يصدر منه بلا اختيار ، ولا يؤخذ الفاعل بمثل هذا الفعل ( ويزقزق ) أي يتكلم الكبير بلسان الصغير ويظهر له بعقله : أي وينزل الكبير للصغير في مرتبة عقله بالى. أهـ بالى زادة    . ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبرز نفسه للمطر إذا نزل ، ويكشف رأسه له حتى يصيب منه ، ويقول « إنه حديث عهد بربه » فانظر إلى هذه المعرفة باللَّه من هذا النبي ، ما أجلها وما أعلاها وأوضحها ، فقد سخر المطر أفضل البشر لقربه من ربه فكان مثل الرسول الذي ينزل بالوحي عليه )
أي فكان المطر مثل الملك الذي ينزل إليه بالوحي يعنى جبريل ، لأنه كان يشاهد فيه صورة العلم الإلهي النازل إليه بواسطة الملك فيتلقاه ، ومخصوصا رأسه الذي هو منه بمثابة الكتاب الأكبر الذي رتبته في التعين الأول والبرزخية الأولى ومظهر العلم الإلهي الأول ، ويعرف قربه من الحق بالتجلي الجديد فلذلك سخره .
( فدعاه بالحال لذاته ) أي فدعا المطر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان الحال بذاته النازلة إليه من عند ربه في صورة العلم والحياة كالملك فأجابه
( فبرز إليه ليصيب منه ما أتاه به من ربه ) من المعنى الذي به يحيى كل شيء ( فلو لا ما حصلت له منه الفائدة الإلهية بما أصاب منه ما برز بنفسه إليه ، فهذه رسالة ماء جعل الله تعالى منه كل شيء حي فافهم )
فإذا كان المطر سخر أفضل البشر لقربه من ربه ، فما ظنك بالأرواح الظاهرة الباقية على الفطرة النورية إذا اتصلت بروح موسى من عند ربها مقبلة إليه مع مباديها التي انبعث منها من الأسماء الإلهية والأرواح السماوية ، فإنها لا تنفك عنها متوجهة نحوه ، فلذلك فعلت ما فعلت بأعدائه من القهر والتدمير ، وأظهرت ما أظهرت من آيات الله العظمى .
 
"" إضافة بالي زاده :
فبروزه إليه تلقيه إلى ما ينزل عليه من ربه من العلوم والمعارف الإلهية ، وكشف رأسه رفع التعينات المانعة لوصول الفيض الإلهي .أهـ بالى زادة  ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما حكمة إلقائه في التابوت ورميه في اليم ، فالتابوت ناسوته واليم ما حصل له من العلم بواسطة هذا الجسم مما أعطته القوة النظرية الفكرية والقوى الحسية الخيالية التي لا يكون شيء منها ولا من أمثالها لهذه النفس الإنسانية إلا بوجود هذا الجسم العنصري ، فلما حصلت النفس في هذا الجسم وأمرت بالتصرف فيه وتدبيره جعل الله لها هذه القوى آلات تتوصل بها إلى ما أراده الله منها في تدبير هذا التابوت الذي فيه سكينة الرب )
لأن اليقين والعلم الذي تزداد به الإيمان والسكينة النفس إلى ربها وتطمئن لا يحصل إلا فيه
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فرمى به في اليم ليحصل بهذه القوى على فنون العلم ، فأعلمه بذلك أنه وإن كان الروح المدبر له هو الملك ، فإنه لا يدبره إلا به ، فأصحبه هذه القوى الكائنة في هذا الناسوت الذي عبر عنه بالتابوت في باب الإشارات والحكم ، كذلك تدبير الحق العالم ما دبره إلا به )
أي بالعالم ( أو بصورته فما دبره إلا به ، كتوقف الولد على إيجاد الوالد ) فإن التدبير الذي دبره الحق العالم فيه بنفس العالم : أي بعضه ببعض ، وهو مثل توقف الولد على إيجاد الحق الوالد الحقيقي .
"" إضافة بالي زاده :
يعنى أن هذا الرمي إشارة إلى أن النفس الإنسانية ألقيت في تابوت البدن ، ورميت به في يم العلم ، لتكون بهذه القوى الحاصلة مستعلية على فنون العلم .أهـ بالى زادة  ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والمسببات على أسبابها ، والمشروطات على شروطها والمعلولات على عللها والمدلولات على أدلتها ، والمحققات على حقائقها ) أي الأشخاص المتحققة على حقائقها النوعية .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكل ذلك من العالم وهو تدبير الحق فيه ، فما دبره إلا به ،
وأما قولنا : أو بصورته أعنى صورة العالم فأعنى به الأسماء الحسنى والصفات العلى التي تسمى الحق بها واتصف بها ، فما وصل إلينا من اسم يسمى به إلا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في العالم ، فما دبر العالم أيضا إلا بصورة العالم )
ليس المراد بصورة العالم صورته الشخصية الحسية ، وإلا رجع إلى القسم الأول ولم يطابق تفسيره ، بل الصورة النوعية العقلية وهي الأسماء الحسنى وحقائقها التي هي الصفات العلى ، فإن صور العالم مظاهر الأسماء والصفات فهي صوره الحقيقية الباطنة ، والمحسوسات صوره الشخصية الظاهرة ، فهذه نقوش وأشكال تتبدل ،
وتلك بأعيانها باقية ثابتة لا تتبدل ، فهذه هياكل وأشباح وتلك معانيها وأرواحها ،
فكل ما تسمى به الحق من الأسماء كالحي والعالم والمريد والقادر واتصف به من الصفات كالحياة والعلم والإرادة والقدرة موجود في العالم ، فما دبر الله ظواهر العالم إلا ببواطنه
فالقسم الأول : هو تدبير بعض الصور الظاهرة من أجزاء العالم ببعضها ،
والقسم الثاني : تدبير الصور الشخصية الظاهرة بالصور النوعية الباطنة ، وكلاهما تدبير العالم بالعالم ، ومعنى الاسم وروحه حقيقته التي هو به ، فإن الاسم ليس إلا الذات مع الصفة ، فالأسماء كلها بالذات حقيقة واحدة هو الحق تعالى فلا امتياز من هذا الوجه ، فالاسم والمعاني والحقائق التي تحصل بها الأسماء هي الصفات فالمراد بمعنى الاسم وروحه الصفة التي يتميز به الاسم عن غيره ، ومعنى قوله : فما دبر العالم أيضا إلا بصورة العالم ، فما دبر العالم إلا بصورته التي هي الهيئة الاجتماعية من الأسماء الإلهية.
"" إضافة بالي زاده :
أي دبر الروح ملكه الذي هو الجسم العنصري بملكه التي هي القوى الكائنة في هذا الناسوت فدبر ملكه بملكه ، كذلك تدبير الحق ما دبر العالم إلا بالعالم .أهـ بالى زادة  ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك قال في خلق آدم الذي هو البرنامج الجامع لنعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال « إن الله خلق آدم على صورته )
الأنمونامج بحذف الذال والأنموذنامج معرب معناه النسج ، ويقال بالفارسية نمودار نامه ، والأول بحذف الدال معرب وفي بعض النسخ البرنامج ، ولعله تصحيف وقع من بعض الناظرين في الكتاب على معنى النسخة الكبرى من العالم ،
وهو في النسخة الأولى المعول عليها أعجمي كالعلم لتعينه الجامع صفة أو خبر ثان الذي هو صدر الصلة ، وعلى الثانية إن صح والمعنى ظاهر ، ومعرب نمودار نامه الأنموذج.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وليست صورته سوى الحضرة الإلهية ، فأوجد في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المنفصل عنه )
أي وأوجد فيه حقائق الأشياء الخارجة عن الإنسان في العالم الكبير المنفصل ، فإن أجزاء العالم كالسماوات والعناصر والمعادن والنبات وأصناف الحيوانات ليست بموجودة في الإنسان صورها وأشخاصها ،
لكن حقائقها التي بها هي كالأرواح والنفوس الناطقة والمنطبقة والطبائع العنصرية والصور الجسمية المادية والقوى المعدنية والنباتية والحيوانية بأسرها ، وفي الجملة الجواهر والأعراض كلها موجودة فيه فصح أنه تعالى أوجد جميع ما في الحضرة الإلهية ، وجميع الحقائق بأعيانها وأجزائها في الإنسان الكامل
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وجعله روحا للعالم فسخر له العلو والسفل لكمال الصورة ، فكما أنه ليس شيء من العالم إلا وهو يسبح الله بحمده كذلك ليس شيء من العالم إلا وهو مسخر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته ، فقال :" وسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وما في الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْه " فكل ما في العالم تحت تسخير الإنسان ،
علم ذلك من علمه وهو الإنسان الكامل وجهل ذلك من جهله وهو الإنسان الحيواني ، فكانت صورة إلقاء موسى في التابوت وإلقاء التابوت في اليم صورة هلاك في الظاهر ، وفي الباطن كانت نجاة له من القتل فحيي كما تحيى النفوس بالعلم من موت الجهل ، كما قال :" أَومن كانَ مَيْتاً "، يعنى بالجهل " فَأَحْيَيْناه " يعنى بالعلم " وجَعَلْنا لَه نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ " وهو الهدى " كَمَنْ مَثَلُه في الظُّلُماتِ " وهي الضلال " لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها " أي لا يهتدى أبدا ،
فإن الأمر في نفسه لا غاية له يوقف عندها ، فالهدى هو أن يهتدى الإنسان إلى الحيرة فيعلم أن الأمر حيرة والحيرة قلق وحركة ، والحركة حياة فلا سكون ولا موت ، ووجود فلا عدم ، وكذلك في الماء الذي به حياة الأرض وحركتها قوله :" اهْتَزَّتْ " وحملها قوله :" ورَبَتْ " ولادتها ، قوله :" وأَنْبَتَتْ من كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ " أي أنها ما ولدت إلا من يشبهها : أي طبيعيا مثلها ، فكانت الزوجية التي هي الشفعية لها بما تولد منها وظهر عنها ، كذلك وجود الحق كانت الكثرة له وتعداد الأسماء أنه كذا وكذا بما ظهر عنه من العالم الذي يطلب بنشأته حقائق الأسماء الإلهية فثنيت به )
أي بالعالم ، والمعنى أنه كما شفعت المواليد من المواليد من الثمرات والنتائج أصولها فكذلك كثرة الأسماء شفعت أحدية الوجود الحق ، فإن الأسماء تثنت للوجود الحق بالعالم إذ هو المألوه المربوب المقتضى لوجود الإلهية والربوبية ، وهما لا يكونان إلا بالأسماء .
"" إضافة بالي زاده :
ولذلك : أي ولأجل أن الحق ما دبر العالم إلا بصورة العالم ، قال في خلق آدم . اهـ
وإنما قال حقائق ما خرج عنه :
أي ما يوجد في المختصر جميع ما في العالم الكبير بصورها وتشخصاتها ، بل ما يوجد ما في العالم الكبير إلا بحقائقها وهي الأمور الكلية التي تحتها أفراد شخصية ، فلا يوجد في الإنسان الكامل الأشخاص الجزئية الموجودة في العالم الكبير ، بل توجد حقائق تلك الأشخاص فيه .أهـ بالى زادة  ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويخالفه أحدية الكثرة ) أي ويخالف ما ظهر عنه من العالم أحدية الكثرة التي له لذاته .
( وقد كان إحدى العين من حيث ذاته كالجوهر الهيولاني إحدى العين من حيث ذاته كثير بالصور الظاهرة فيه الذي هو حامل لها بذاته ، كذلك الحق بما ظهر منه من صور التجلي فكان مجلى صورة العالم مع الأحدية المعقولة ، فانظر ما أحسن هذا التعليم الإلهي الذي خص الله بالاطلاع عليه من شاء من عباده ، ولما وجده آل فرعون في اليم عند الشجرة سماه فرعون موسى والمو : هو الماء بالقبطية ، والسا : هو الشجرة فسماه بما وجده عنده ، فإن التابوت وقف عند الشجرة في اليم ، فأراد قتله فقالت امرأته وكانت منطقة بالنطق الإلهي فيما قالت لفرعون إذ كان الله خلقها للكمال ، كما قال تعالى عنها حيث شهد لها ولمريم بنت عمران بالكمال الذي هو الذكران )  
بقوله :" وكانَتْ من الْقانِتِينَ " بعد الجمع بينهما في ضرب المثل
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقالت لفرعون في حق موسى إنه " قُرَّتُ عَيْنٍ لِي ولَكَ " فبه قرت عينها بالكمال الذي حصل لها كما قلنا ، وكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق فقبضه طاهرا مطهرا ليس فيه شيء من الخبث ، لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام ، والإسلام يجبّ ما قبله ، وجعله آية على عنايته سبحانه بمن شاء حتى لا ييأس أحد من رحمة الله  فـ " إِنَّه لا يَيْأَسُ من رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ " ، فلو كان فرعون ممن يئس ما بادر إلى الإيمان فكان موسى عليه السلام كما قالت امرأة فرعون فيه إنه " قُرَّتُ عَيْنٍ لِي ولَكَ لا تَقْتُلُوه عَسى أَنْ يَنْفَعَنا " ، وكذلك وقع فإن الله نفعهما به عليه السلام ، وإن كانا ما شعرا بأنه هو النبي الذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون وهلاك آله )
 
على تأويل التابوت بالبدن الإنسانى وموسى بالروح يؤول فرعون بالنفس الأمارة والشجر بالقوة الفكرية ، فمن أراد التطبيق فليرجع إلى تأويلات القرآن التي كتبناها فليس هذا موضع ذكره ، وأما الإيمان الذي بادر إليه فرعون قبل موته إذ أدركه الغرق وكونه منتفعا به مقبولا ، فهو مما أنكره بعضهم على الشيخ قدس سره وليس بذلك لأن القياس أثبت صحته كما ذكر ، فإن النص دل على ما أفصح عنه قبل أن يتغرغر حيث قال :" آمَنْتُ أَنَّه لا إِله إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ وأَنَا من الْمُسْلِمِينَ " .
وليس بمناف لكتاب الله كما زعم هذا المنكر ، فإن كونه طاهرا مطهرا من الخبث الاعتقادي كالشرك ودعوى الألوهية لا ينافي الإنكار في قوله :" آلآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنْتَ من الْمُفْسِدِينَ "
 يعنى الآن مؤمن لأنه متوجه إلى كونه سببا للنجاة من الغرق ، ولهذا جعل الموجب له العصيان السابق والإفساد ، ولا ينافي أيضا تعذيبه في الآخرة بسبب الظلم وارتكاب الكبائر ، فإن الذنوب التي يجبها الإسلام هي التي بين العبد والرب ،
فأما المظالم التي تتعلق برقبته من جهة الخلق فلا ، ولهذا أخبر عن وعيده في الكتاب على الإضلال بقوله : " يَقْدُمُ قَوْمَه يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وأُتْبِعُوا في هذِه لَعْنَةً ويَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ".
 
وبقوله : " وأَتْبَعْناهُمْ في هذِه الدُّنْيا لَعْنَةً ويَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ من الْمَقْبُوحِينَ " فإن مثل هذه الوعيد والتعذيب ثابت للفساق من المؤمنين مع صحة إيمانهم ، وأما نفع إيمانه وفائدته فهو في انتفاء خلوده في النار وخلاصه من العذاب في العاقبة ، فإن المؤمن لا يخلد في النار لا أنه لا يدخل النار ، وأما قوله :" وحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ". وأمثاله فهو مخصوص بالآل وهم كفار.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما عصمه الله من فرعون أصبح فؤاد أم موسى فارغا من الهم الذي كان قد أصابها تم إن الله حرم عليه المراضع حتى أقبل على ثدي أمه فأرضعته ليكمل الله لها سرورها به كذلك علم الشرائع ) أي مثل تحريم المراضع عليه إلا لبن أمه علم الشرائع ، فإن لكل نبي شريعة مخصوصة دون شرائع سائر الأنبياء ، فحرم عليه جميع شرائع الأنبياء إلا شريعته ، فتحريم المراضع عليه صورة ذلك المعنى وآية أنه النبي الموعود .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما قال :" لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً " أي طريقا " ومِنْهاجاً " أي من تلك الطريقة جاء فكان هذا القول إشارة إلى الأصل الذي منه جاء فهو غذاؤه )
هذا القول إشارة إلى الآية المذكورة والأصل
 
"" إضافة بالي زاده :
موسى بن عمران بن قاهاث بن لاوى بن يعقوب أوحى الله إلى موسى إن توفى هارون فأت به إلى جبل كذا فانطلقا ، فإذا هما بسرير فناما عليه وأخذ هارون الموت ورفع إلى السماء ، وكان أكبر من موسى بثلاث سنين توفى وعمره مائة وثنتان وعشرون سنة وشهر واحد ،
واتهم بنو إسرائيل موسى بقتل أخيه هارون حين رجع إليهم وحده ، فأنزل الله السرير وعليه هارون وقال إني مت ولم يقتلني أخي ،
ثم توفى موسى بعده بأحد عشر شهرا وعمره مائة وعشرون سنة ( إلى الأصل الذي منه جاء ) أي كل واحد منكم وغذاؤكم الروحاني والجسماني من طريقتكم الخاصة التي هي الأصل كما أن موسى وغذاءه جاء عن أصله وهي أمه .أهـ بالى زادة  ""
 
الذي منه جاء هو الاسم الإلهي الذي رباه الله به موسى ، وذلك تجليه تعالى بذاته في صورة عينه الثابتة وغذاؤه علم ذلك العين ونقشه ،
وذلك خزانة الاسم العلم الإلهي المختص بموسى وعينه من التعينات الكلية الشاملة لتعينات جزئية كثيرة مندرجة تحتها كما مر ، فهو يتغذى من ذلك الأصل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما أن فرع الشجرة لا يتغذى إلا من أصله ، فما كان حراما في شرع يكون حلالا في شرع آخر ، يعنى في الصورة ، أعنى قولي يكون حلالا ، وفي نفس الأمر ما هو عين ما مضى لأن الأمر خلق جديد ولا تكرار ، فلهذا نبهناك )
يعنى أن الأمر الذي كان حراما في شرع يكون حلالا في شرع آخر ، وإن كان عينا واحدة في الصور النوعية والحقيقة ، لكن الذي هو حلال في شرع ليس بعينه ذلك الحرام الذي مضى في الشرع السابق بناء على أن كل شيء في كل آن خلق جديد ، ولا تكرار في التجلي كما ذكر غير مرة .
( وكنى عن هذا في حق موسى بتحريم المراضع ) فإن اللبن صورة العلم النافع أعنى علم الشريعة الذي هو غذاء الروح الأخص حتى يكمل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه على الحقيقة من أرضعته لا من ولدته ، فإن أم الولادة حملته على وجه الأمانة فتكون فيها ، وتغذى بدم طمثها من غير إرادة لها في ذلك حتى لا يكون لها عليه امتنان ، فإنه ما تغذى إلا بما أنه لو لم يتغذ به ولم يخرج عنها ذلك الدم لأهلكها وأمرضها ، فللجنين المنة على أمه بكونه تغذى بذلك الدم ، فوقاها بنفسه من الضرر الذي كانت تجده لو امتسك ذلك الدم عندها ولا يخرج ولا يتغذى به جنينها ، والمرضعة ليست كذلك فإنها قصدت برضاعته حياته وإبقاءه فجعل الله ذلك لموسى في أم ولادته ، فلم يكن لامرأة عليه فضل إلا لأم ولادته لتقر عينها أيضا بتربيته ، وتشاهد انتشاءه في حجرها ولا تحزن ، ونجاه الله من غم التابوت فخرق ظلمة الطبيعة بما أعطاه الله من العلم الإلهي ، وإن لم يخرج عنها )
أي عن الطبيعة بالمفارقة الكلية بل خرق حجابها بالتجرد عنها عن غواشيها إلى عالم القدس ، كما قال تعالى :" فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ " ،  (وفتناه فتونا : أي اختبره في مواطن كثيرة ليتحقق في نفسه صبره على ما ابتلاه الله به )
فإن أكثر الكمالات المودعة في الإنسان لا تظهر عليه ولا تخرج إلى الفعل إلا بالابتلاء
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأول ما ابتلاه الله به قتله القبطي بما ألهمه الله وو فقه له في سره وإن لم يعلم بذلك ، ولكن لم يجد في نفسه اكتراثا بقتله مع كونه ما توقف حتى يأتيه أمر ربه بذلك ، لأن النبي معصوم الباطن من حيث لا يشعر حتى ينبأ أي يخبر ، ولهذا أراه الخضر قتل الغلام فأنكر عليه قتله ، ولم يتذكر قتله القبطي ، فقال له الخضر :" ما فَعَلْتُه عَنْ أَمْرِي " ينبهه على مرتبته قبل أن ينبأ أنه كان معصوم الحركة في نفس الأمر وإن لم يشعر بذلك )
فلذلك نسبه إلى الشيطان و " قالَ هذا من عَمَلِ الشَّيْطانِ " واستغفر ربه " قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي "  لأنه لم يشعر بعد أنه نبي يعصمه الله عن الكبيرة ، ولا يجرى على يده إلا ما هو خير كله
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأراه أيضا خرق السفينة التي ظاهرها هلاك وباطنها نجاة من يد الغاصب ، جعل له ذلك في مقابلة التابوت له الذي كان في اليم مطبقا عليه ، فظاهره هلاك وباطنه نجاة ، وإنما فعلت به أمه ذلك خوفا من يد الغاصب فرعون أن يذبحه صبرا وهي تنظر إليه مع الوحي الذي ألهمها الله به من حيث لا تشعر فوجدت في نفسها أنها ترضعه فإذا خافت عليه ألقته في اليم ، لأن في المثل عين لا ترى قلب لا يفجع فلم تخف عليه خوف مشاهدة عين ولا حزنت عليه حزن رؤية بصر ، وغلب على ظنها أن الله ربما رده إليها لحسن ظنها به ، فعاشت بهذا الظن في نفسها والرجاء يقابل الخوف واليأس ، وقالت حين ألهمت لذلك : لعل هذا هو الرسول الذي يهلك فرعون والقبط على يديه ، فعاشت وسرت بهذا التوهم والظن بالنظر إليها ) إنما هو توهم وظن بالنسبة إليها
 
( وهو علم في نفس الأمر ) متحقق عند الله ( ثم إنه ) أي موسى ( لما وقع عليه الطلب خرج فارا خوفا في الظاهر ، وكان في المعنى حبا في النجاة ، فإن الحركة أبدا إنما هي حبية ويحجب الناظر فيها بأسباب أخر ) كالغضب والخوف والحزن والميل ، وقد يتحقق ذلك مما ذكر في الهوى ، والمحجوب عن الأصل يسندها إلى الأسباب القريبة ، ولهذا عللها لفرعون المحجوب في قوله :" فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ "  بالخوف لاحتجابه عن الأصل ، فإنه لولا حب الحياة لما خاف ، وكيف لا والخوف يقتضي الجمود والسكون لا الحركة .

 .
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:05 pm

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وليست تلك وذلك لأن الأصل حركة العالم من العدم الذي كان ساكنا فيه إلى الوجود ، ولذلك يقال : إن الأمر حركة عن سكون فكانت الحركة التي هي وجود العالم حركة حب ، وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله « كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف » فلو لا هذه المحبة ما ظهر العالم في عينه فحركته من العدم إلى الوجود حركة حب الموجد لذلك )
أي لأن يعرف ويشهد ذاته من ذاته ومن غيره على تقدير وجود الغير بالاعتبار

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولأن العالم أيضا يحب شهود نفسه وجودا كما شهدها ثبوتا ، فكانت بكل وجه حركة من العدم الثبوتي إلى الوجود العيني حركة حب من جانب الحق وجانبه ، فإن الكمال محبوب لذاته ، وعلمه تعالى بنفسه من حيث هو غنى عن العالمين هو له )
دون اعتبار غيره ، فإنه تعالى من تلك الحيثية ليس إلا الذات وحدها فلم يكن معه شيء


"" إضافة بالي زاده :
( حب الموجد لذلك للعالم ) أي السبب لحركة العالم حب الله الموجد للعالم ، فكان الحق يحب حركة العالم من العدم إلى الوجود ليكون مظهرا لكمالاته الذاتية والأسمائية والصفاتية بالى .
في الوقت متعلق بقوله فذكر : أي ذكر في وقت ملاقاته فرعون ، وهو قوله: "فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ " إلخ الذي أي السبب الأقرب الذي هو كصورة الجسم البشر. اهـ  بالى زاده ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما بقي إلا تمام مرتبة العلم بالعلم الحادث الذي يكون من هذه الأعيان أعيان العالم إذا وجدت ، فيظهر صورة الكمال بالعلم المحدث والقديم فيكمل مرتبة العلم بالوجهين )
فإن العلم القديم غيب لم يكن له ظهور وانتشار ، وبالظهور في المظاهر المسمى حدوثا يكمل كمال العلم الغيبي

قال الشيخ رضي الله عنه :  (وكذلك تكمل مراتب الوجود ، فإن الوجود منه أزلي وغير أزلي وهو الحادث فالأزلى وجود الحق لنفسه ) يعنى حقيقة الوجود من حيث هو وجود لأن الحق له حقيقة غير الوجود فيضاف الوجود إليها كسائر الماهيات

( وغير الأزلي وجود الحق بصور العالم الثابت ) أي الوجود الذي هو الحق أي الوجود الظاهر بصور العالم الثابت عينه في العالم الأزلي ، ويسمى الوجود الإضافي ( فيسمى حدوثا لأنه ظهر بعضه لبعضه ) كظهور سائر الأكوان للإنسان

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وظهر لنفسه بصور العالم فكمل الوجود فكانت حركة العالم حبية للكمال فافهم ، ألا تراه كيف نفس عن الأسماء الإلهية ما كانت تجده من عدم ظهور آثارها في عين مسمى العالم فكانت الراحة محبوبة له )
لأن الراحة إنما هي بالوصول إلى الكمال المحبوب الذي يصفو به الحب عن ألم الشوق عند الفراق فهي الابتهاج الحاصل بصفاء الحب عن شوب الألم ، ولأنها كمال لذة الحب بالوصل قال ( ولم يوصل إليها إلا بالوجود الصوري ) أي الظاهر

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( الأعلى والأسفل ، فثبت أن الحركة كانت للحب فما ثم حركة في الكون إلا وهي حبية ، فمن العلماء من يعلم ذلك ، ومنهم من يحجبه السبب الأقرب لحكمه في الحال واستيلاؤه على النفس ، وكان الخوف لموسى مشهودا له بما وقع من قتله القبطي ، وتضمن الخوف حب النجاة من القتل ففر لما خاف ، وفي المعنى ففر لما أحب النجاة من فرعون وعمله به ، فذكر السبب الأقرب المشهود له في الوقت الذي هو كصورة الجسم للبشر ، وحب النجاة متضمن فيه تضمن الجسد للروح المدبر له ، والأنبياء لهم لسان الظاهر به يتكلمون لعموم الخطاب واعتمادهم على فهم العالم السامع فلا تعتبر الرسل إلا العامة لعلمهم بمرتبة أهل الفهم ، كما نبه عليه الصلاة والسلام ، وعلى هذه الرتبة في العطايا فقال « لأعطى الرجل وغيره أحب إلى منه مخافة أن يكبه الله في النار » فاعتبر ضعيف العقل والنظر الذي غلب عليه الطمع والطبع ، فكذا ما جاؤوا به من العلوم جاؤوا به وعليه خلعة أدنى الفهوم ليقف من لا غوص له عند الخلعة فيقول : ما أحسن هذه الخلعة ويراها غاية الدرجة ، ويقول صاحب الفهم الدقيق الغائص على درر الحكم بما استوجب هذا : هذه الخلعة من الملك ، فينظر في قدر الخلعة وصنفها من الثياب ) وهذا ظاهر الكلام

( فيعلم منها قدر من خلعت عليه فيعثر على علم لم يحصل لغيره ممن لا علم له بمثل هذا) وهو أن ظاهر الكلام بقدر أدنى الفهوم وباطنه وحقائقه ولطائفه بقدر أعلاها ، كما قال عليه الصلاة والسلام : "ما من آية إلا ولها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع " .

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما علمت الأنبياء والرسل والورثة أن في العالم من أمتهم من هو بهذه المثابة عمدوا في العبارة إلى اللسان الظاهر الذي يقع فيه اشتراك الخاص والعام فيفهم منه الخاص ما فهم العامة منه وزيادة مما صح له به اسم أنه خاص فيتميز عن العامي فاكتفى المبلغون العلوم بهذا فهذا حكمة قوله : "فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ " ولم يقل ففرت منكم حبا للسلامة والعافية).
يعنى أن قوله لما خفتكم عليه منه عليه السلام لفهم العامة ، فإنهم لا ينظرون إلا في السبب القريب لا في الحقيقة كما ذكر .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فجاء إلى مدين فوجد الجاريتين فسقى لهما من غير أجر ، ثم تولى إلى الظل الإلهي فقال :" رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ من خَيْرٍ فَقِيرٌ "  فجعل عين عمله السقي عين الخير الذي أنزل الله إليه ، ووصف نفسه بالفقر إلى الله في الخير الذي عنده )
 لأنه عليه السلام تحقق أن له عند الله خيرا نزل إليه ، وقد أنزل الله هذا الخير : أي عمل السقي إليه ، فإنه خير في نفسه فعرض حاجته إلى الله في الخير الذي عنده مطلقا أو من الدنيا : أي إني لأجل الذي أنزلت إلى من خير الدين فقير إليك فيه أو من الدنيا ، قال : ذلك شكرا لله وإظهارا للرضا بالخير الديني من الخير الدنيوي أي بدله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأراه الخضر إقامة الجدار من غير أجر فعتبه على ذلك فذكره بسقايته من غير أجر إلى غير ذلك مما لم يذكر ، حتى تمنى صلى الله عليه وسلم أن يسكت موسى عليه السلام ولا يعرض ، حتى يقص الله عليه من أمرهما ) .
روى أنه صلى الله عليه وسلم قال « ليت أخي موسى سكت حتى يقص الله علينا من أنبائهما » وروى عن الشيخ قدس سره : أنه اجتمع بأبى العباس الخضر عليه السلام ، فقال : كنت أعددت لموسى بن عمران ألف مسألة مما جرى عليه من أول ما ولد إلى زمان اجتماعه فلم يصبر على ثلاث مسائل منها .

"" إضافة بالي زاده :
فما أورد في هذا الكتاب إلا ما ذكر في كلام رب العزة .
وروى عن الشيخ أنه قد أخبر الخضر في كشفه فقال : أعددت لموسى بن عمران ألف مسألة مما جرى عليه من أول ما ولد إلى زمان الاجتماع مما وفق إليه موسى من غير علم فلم يصبر موسى على ثلاث مسائل منها ، فاستخبر الشيخ هذه المسائل كلها من الخضر فأخبره تفصيلا ولم يذكرها الشيخ حفظ للأدب . اهـ  بالى زاده ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( تنبيها لموسى من الخضر أن جميع ما جرى عليه ويجرى إنما هو بأمر الله وإرادته الذي لا يمكن وقوع خلافه ، فإن العلم بها من خصوص الولاية ، وأما الرسول فقد لا يطلع عليه فإنه سر القدر ، ولو اطلع عليه لربما كان سببا لفتوره عن تبليغ ما هو مأمور بتبليغه فطوى الله علم ذلك عن بعض الرسل رحمة منه بهم ، ولم يطوه عن نبينا صلى الله عليه وسلم لقوة حاله ، ولهذا قال :" أَدْعُوا إِلَى الله عَلى بَصِيرَةٍ "  فيعلم بذلك ما وفق إليه موسى عليه السلام من غير علم منه )
الظاهر أنه فيعلم بالياء والنصب عطفا على يقص والفاعل هو الرسول عليه السلام ، ويجوز أن يكون فنعلم بالنون والرفع عطفا على قصة الخضر : أي فنعلم نحن ما أراه الخضر ما وفق لموسى عليه السلام ، وأجرى على يده من الخيرات من غير علم منه.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( إذ لو كان عن علم ما أنكر مثل ذلك على الخضر الذي قد شهد الله له عند موسى وزكاه وعدله ، ومع هذا غفل موسى عن تزكية الله له وعما شرط عليه في أتباعه رحمة بنا إذا نسينا أمر الله ، ولو كان موسى عالما بذلك لما قال له الخضر : " ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً " أي إني على علم لم يحصل لك عن ذوق كما أنت على علم لا أعلمه أنا فأنصف ، وأما حكمة فراقه فلأن الرسول يقول الله فيه: "وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وما نَهاكُمْ عَنْه فَانْتَهُوا " فوقف العلماء باللَّه الذين يعرفون قدر الرسالة والرسول عند هذا القول )  أي لزموه وامتثلوه ولم يتجاوزوا عنه.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقد علم الخضر أن موسى رسول الله فأخذ يرقب ما يكون منه ليوفى الأدب حقه مع الرسل فقال له :" إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي " فنهاه عن صحبته فلما وقعت منه الثالثة
قال " هذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ " ولم يقل له موسى لا تفعل ولا طلب صحبته لعلمه بقدر الرتبة التي هو فيها التي أنطقته بالنهي عن أن يصحبه فسكت موسى ووقع الفراق ، فانظر إلى كمال هذين الرجلين في العلم وتوفية الأدب الإلهي حقه ، وإنصاف الخضر عليه السلام فيما اعترف به عند موسى حيث قال : أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا ، فكان هذا الإعلان من الخضر لموسى دواء لما جرحه به في قوله :" وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً " مع علمه بعلو مرتبته بالرسالة وليست تلك الرتبة للخضر ، فظهر ذلك في الأمة المحمدية في حديث آبار النخل ،
فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه « أنتم أعلم بأمور دنياكم » ولا شك أن العلم بالشيء خير من الجهل به ، ولهذا مدح الله نفسه بأنه بكل شيء عليم ، فقد اعترف صلى الله عليه وسلم لأصحابه بأنهم أعلم بمصالح الدنيا منه لكونه لا خبرة له بذلك فإنه علم ذوق وتجربة ، ولم يتفرغ عليه الصلاة والسلام لعلم ذلك بل كان شغله بالأهم فالأهم ، فقد نبهتك على أدب عظيم تنتفع به إن استعملت نفسك فيه )

اعلم أن الخضر عليه السلام صورة اسم الله الباطن ومقامه مقام الروح ، وله الولاية والغيب وأسرار القدر وعلوم الهوية والإنية والعلوم اللدنية ، ولهذا كان محتد ذوقه الوهب والإيتاء ، قال تعالى :" فَوَجَدا عَبْداً من عِبادِنا آتَيْناه رَحْمَةً من عِنْدِنا وعَلَّمْناه من لَدُنَّا عِلْماً "  ولكماله في علم الباطن لما بين لموسى عليه السلام تأويل ما لم يستطع عليه صبرا من الوقائع الثلاث .
قال في الأولى :" فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها " بالتقييد والإخبار عن تخصيص إرادته بعض ما في باطنه من معلوماته .
وفي الثانية : " فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْه زَكاةً " لجمع الضمير في الإرادة .
وفي الثالثة : " فَأَرادَ رَبُّكَ " بتوحيد الضمير والإخبار عن الإرادة الربانية الباطنة ،

كل ذلك إشارة منه إلى سر التوحيد وأحدية الإرادة والتصرف والعلم في الظاهر والباطن عن ذوق وخبرة ، وأن الذي ظهر في المظاهر من الصفات الثلاث هي عين الصفات القديمة الباطنة من غير تعدد بحسب الحقيقة ، وهو من أسرار علوم الولاية .

وأما موسى عليه السلام فهو صورة اسم الله الظاهر ومقامه مقام القلب ، وله علوم الرسالة والنبوة والتشريع من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والحكم بالظاهر ، ولذلك كانت معجزاته في غاية الوضوح والظهور ،
فلما أراد الله تكميل موسى بالجمع بين التجليات الظاهرة والباطنة وعلوم نبوة وما في استعداده من علوم الولاية ، فكان موسى قد ظهر بين قومه بدعوى أنه أعلم أهل الأرض وذلك في ملأ من بني إسرائيل ،

فأوحى الله إليه : بل عبد لنا بمجمع البحرين : أي بين بحرى الوجوب والإمكان ، أو بحرى الظاهر والباطن ، أو بحرى النبوة والولاية ، فاستحى موسى من دعواه فسأل الله أن يقدر الصحبة بينهما ، واستأذن في طلب الاجتماع حتى يعلمه مما علمه الله ، فلو آثر صحبة الله وأخذ علم الولاية منه لإغناء الله عن اتباع الخضر ، فلما وقع الاجتماع ظهر النزاع لما بين الظهور من حيث الظهور ، والبطون من حيث البطون من المغايرة والمباينة ، فلذلك وقع بينهما الفراق بعد حصول ما قدر الله إيصاله إليه بصحبة الخضر من العلم ، ولا بد للمحمدي من الجمع بين الظاهر والباطن اتباعا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وقوله : " فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً " يريد الخلافة :" وجَعَلَنِي من الْمُرْسَلِينَ " يريد الرسالة فما كل رسول خليفة فالخليفة صاحب السيف والعزل والولاية ، والرسول ليس كذلك إنما عليه البلاغ لما أرسل به ، فإن قاتل عليه وحماه بالسيف فذلك الخليفة الرسول )
 فكما أنه ما كل نبي رسول كذلك ما كل رسول خليفة : أي ما أعطى الملك ولا التحكم فيه .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما حكمة سؤال فرعون عن الماهية الإلهية بقوله : " وما رَبُّ الْعالَمِينَ "  فلم يكن عن جهل وإنما كان عن اختبار حتى يرى جوابه مع دعواه الرسالة عن ربه ، وقد علم فرعون مرتبة المرسلين في العلم باللَّه فيستدل بجوابه على صدق دعواه ، وسأل سؤال إيهام من أجل الحاضرين ) حيث أوهمهم في سؤاله أن لله ماهية غير الوجود يجب أن يعرفها من يدعى النبوة بحدها فسأل بما الطالبة لمعرفة ماهية الشيء .

( حتى يعرفهم من حيث لا يشعرون بما شعر هو في نفسه في سؤاله ) وهو أنه علم أن السائل بما يطلب حقيقة الشيء ، ولا بد لكل شيء أن يكون له حقيقة ، ولا يلزم أن يكون له ماهية مركبة يمكن تعرفها بالحد فأورد السؤال ذا وجهين ليتمكن من تخطئته ( فأجابه جواب العلماء بالأمر ) أي بحقيقة الأمر


في المعرفة الإلهية حيث قال :   " رَبُّ السَّماواتِ والأَرْضِ وما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ " إيماء إلى حقيقة بسيطة لا يمكن تعريفها إلا بالنسب والإضافات ، وأكمل الرسوم له وأتمها نسبته بالربوبية إلى العالم كله إن كنتم من أهل الإيقان فموقنون حقيقة من حيث لا يعرفها إلا هو ، ومن حيث تعاريفها الخارجية أي بالنسب الذاتية لا يكون أتم من هذا ،

فإذا أصاب في الجواب ( أظهر فرعون إبقاء لمنصبه أن موسى ما أجاب على سؤاله ) حيث قال لمن حوله : " أَلا تَسْتَمِعُونَ " يعنى أنه ما أجاب بالحد الذي هو حق السؤال بما ( فيتبين عند الحاضرين لقصور فهمهم أن فرعون أعلم من موسى ، ولهذا لما قال له في الجواب - ما ينبغي - وهو في الظاهر غير جواب على ما سئل عنه ، وقد علم فرعون أنه لا يجيبه إلا بذلك ) فإن ذلك حق الجواب وعين الصواب ، وقد عرفه قبل السؤال وعلمه أنه لا يقول إلا حقا فلذلك جعل السؤال محتمل الوجهين

"" إضافة بالي زاده :
فأمرهما الله تعالى باللين في القول ، وعلق الرجاء بإجابته عند الذكرى لما كان فيه من الحجاب بالعزة الإلهية التي اقتضت له المرتبة التي كان فيها وهي الملك – إذ " الملك لِلَّه الْواحِدِ الْقَهَّارِ "   ، فإذا تذكر ذلك رجع إليه ولو بعد حين ، وكذا كان نفعته الذكرى فتذكر عند الغرق وخشي الفوت فاستعجل بما قيده بإيمان بني إسرائيل فانتقل من نسب القبط إلى نسب الإسرائيليين في الإيمان ليدفع الإشكال والاحتمال ، ولذلك قال الله له  "آلآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ " فكلمه فصح له من موسى وراثة الكلام إذ كان الله قد كلم موسى تكليما حين قربه نجيا ،

فقال الله لفرعون ولم يذكر الواسطة " آلآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ " فما ذكر أنه عاصى في الحال " وكُنْتَ من الْمُفْسِدِينَ "  فيما مضى وقال له " فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ " جمالية الشيخ الأكبر ، فكيف فرقت كلام فرعون يسأل عن جانب موسى فيقول فرعون في جوابه : موسى إنما فرقت : أي فلما فهم موسى ذلك الحكم والتسلط من فرعون أعطاه حقه في كونه يقول له : أي حال كون موسى قائلا لفرعون لا تقدر على ذلك التحكم يعنى أن قول موسى لفرعون لا تقدر على ذلك ، مجرد إعطاء لحق فرعون في مقابلة قوله لموسى : ومرتبتى الآن التحكم فيك يا موسى لا تكذيب له في قوله هذا . اهـ  بالى زاده ""

( فقال لأصحابه : " إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ " أي مستور عنه علم ما سألته عنه إذ لا يتصور أن يعلم أصلا ) لجنونه وستر عقله

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالسؤال صحيح فإن السؤال عن الماهية سؤال عن حقيقة المطلوب ، ولا بد أن يكون على حقيقة في نفسه ، وأما الذين جعلوا الحدود مركبة من جنس وفصل فذلك في كل ما يقع فيه الاشتراك ، ومن لا جنس له لا يلزم أن لا يكون على حقيقة في نفسه لا تكون لغيره ) فإنه لا شيء إلا وله حقيقة هو بها هو لا يكون غيره على تلك الحقيقة .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالسؤال صحيح على مذهب أهل الحق والعلم الصحيح والعقل السليم ) ليس كما زعم من لا دراية له في العلوم أن من لا حد له لا يسأل بما ( فالجواب عنه لا يكون إلا بما أجاب به موسى ) كما ذكر .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهاهنا سر كبير فإنه أجاب بالفعل لمن سأل عن الحد الذاتي فجعل الحد الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم ، أو ما ظهر فيه من صور العالم فكأنه قال له في جواب قوله : " وما رَبُّ الْعالَمِينَ "  قال الذي يظهر فيه صور العالمين ) أي بالمربوبية
( من علو وهو السماء ، وسفل وهو الأرض " إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ " أو يظهر هو بها ) أي بالربوبية حق التركيب أن يقال الذي يظهر فيه من غير لفظة قال ليكون مقولا لقال له لكن لما وسط بين قال ومقوله في جواب قوله : "وما رَبُّ الْعالَمِينَ " كرر قال لطول الكلام .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلما قال فرعون لأصحابه " إِنَّه لَمَجْنُونٌ "  كما قلنا في معنى كونه مجنونا زاد موسى في البيان ليعلم فرعون رتبته في العلم الإلهي لعلمه بأن فرعون يعلم ذلك فقال : " رَبُّ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ "  فجاء بما يظهر ويستر ، وهو الظاهر والباطن وما بينهما ، وهو قوله : "وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " ) .


 أي بما ظهر من عالم الأجسام والخلق ، وما بطن من عالم الأرواح والأمر ، وما بين الظاهر والباطن من التعينات والشؤون الجامعة بين الأرواح والأجسام ، فإن المشرق للظهور والمغرب للبطون ، وهو الحق الظاهر المتعين بجميع ما ظهر بإشراق نوره وإطلاق ظهوره ، وهو الباطن المتعين بجميع ما بطن في غيب عينه وعين حضوره بعلمه بما بينهما من النسب والتعينات التي ليست إلا في حيز العلم ( " إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ " أي إن كنتم أصحاب تقييد فإن للعقل للتقييد )
 وهل التقييد والتحديد إما أن يقيده بالتشبيه بالأرواح والعقول فتنزيههم وهمى لأنه عين التشبيه عند المحقق .
 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فالجواب الأول جواب الموقنين ، وهم أهل الكشف والوجود فقال له : " إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ " أي أهل كشف ووجود فقد أعلمتكم بما تيقنتموه في شهودكم ووجودكم )
وهو أن الجواب عن الحقيقة الإلهية مع قطع النظر عن الإضافة محال ، فإعراضه بالفعل عن التصدي للجواب عن السؤال بما هو عن الماهية إعلام بأنه مطلق عن كل قيد وحد ،
ولا يدخل تحت جنس ولا يتميز بفصل لاستغراقه الكل وعدوله إلى بيان حقيقة الربوبية بيان المضاف إليه بأنه هو الذي له ربوبية عالم الأرواح العالية وعالم الأجسام السافلة وما بينهما من التعينات والنسب والإضافات ،

الظاهر بربوبيته للكل الباطن بهويته في الكل ، لأنه عين العالمين في الشهود والوجود ينبه على أن تعريفه لا يمكن إلا بهذا الوجه من الإضافة إلى الكل والبعض ، كما قال : " رَبُّكُمْ ورَبُّ آبائِكُمُ الأَوَّلِينَ "


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن لم تكونوا من هذا الصنف فقد أجبتكم في الجواب الثاني إن كنتم أهل عقل وتقييد ، وحصرتم الحق فيما تعطيه أدلة عقولكم فظهر موسى بالوجهين ليعلم فرعون سؤاله وصدقه ، وعلم موسى أن فرعون علم ذلك أو يعلم ذلك لكونه سأل عن الماهية فعلم أن سؤاله ليس على اصطلاح القدماء في السؤال بما ) .
لكونهم لا يجيزون السؤال عن ماهية ما لا حد له بجنس وفصل فلما علم موسى ذلك .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلذلك أجاب ، فلو علم منه غير ذلك لخطأه في السؤال فلما جعل موسى المسؤول عنه عين العالم خاطبه فرعون بهذا اللسان ) الكشفي ( والقوم لا يشعرون فقال له :"  لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ من الْمَسْجُونِينَ "والسين في السجن من حروف الزوائد : أي لأسترنك ، فإنك أجبت بما أيدتنى به أن أقول لك مثل هذا القول ) .


المراد بهذا اللسان لسان الإشارة ، فإن فرعون كان غاليا من غلاة الموحدة عاليا من المسرفين في دعواه من جملة من قال عليه الصلاة والسلام عنه « شر الناس من قامت القيامة وعليه وهي حي » أي وقف على سر التوحيد والقيامة الكبرى قبل فناء أبنيته وموته الحقيقي في الله وهو يدعى الإلهية بتعينه ، ويدعو الخلق إلى نفسه لتوحيده العلمي لا الشهودي الذوقي

وهو يعلم لسان الإشارة ، فلما علم أن موسى موحد ناطق بالحق افترص فرصة دعوى الألوهية لأن غير الحق ممتنع الوجود في هذا اللسان الحق في الرتب والتجليات مختلف الظهور والأحكام ، فرتبة الحق الظاهر في صورة فرعون له التحكم في ذلك المجلس على الرتبة الموسوية فأيده جواب موسى بلسان التوحيد ، وقواه على دعواه مع إظهار السلطنة والقدرة بحسب الرتبة
فقال له ما قال ، ولما كان اللسان بلسان الإشارة أخذ فيه سين الجن من حروف الزيادة

فبقي الجن بمعنى الستر وإن لم يكن مضاعفا ، فإن اعتبار ذلك إنما كان في لسان العبارة ، وأما في لسان الإشارة فيكفي في الدلالة على المعنى المشار إليه بعض حروف اللفظ الدالة عليه فلا تعتبر الوضع والاشتقاق فيه ، كما فهم بعضهم من سعتر برى : اسع تر برى ؟

فوجد وجدا شديدا ( فإن قلت لي ) يا موسى بهذا اللسان ( فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي والعين واحدة فكيف فرقت ) فهذا لسان الحال في موسى عند سماع الوعيد ،
وكذلك جواب فرعون في قول الشيخ :
 ( فيقول فرعون : إنما فرقت المراتب ما تفرقت العين ولا انقسمت في ذاتها ، ومرتبتى الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل ، وأنا أنت بالعين وغيرك بالرتبة ، فلما فهم ذلك موسى منه أعطاه حقه في كونه ) أي في كون موسى

( يقول له لا تقدر على ذلك ، والرتبة ) أي رتبة فرعون ( تشهد له بالقدرة عليه وإظهار الأثر فيه لأن الحق في رتبة فرعون من الصورة الظاهر لها التحكم على الرتبة التي كان فيها ظهور موسى في ذلك المجلس، فقال له يظهر له المانع من تعديه عليه " أَولَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ")   

يظهر المانع حال من موسى أي مظهر المانع ومعقول قوله : " أَولَوْ جِئْتُكَ " وهو المانع 

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلم يسع فرعون إلا أن يقول له : " فَأْتِ به إِنْ كُنْتَ من الصَّادِقِينَ " حتى لا يظهر فرعون عند الضعفاء الرأي من قومه بعدم الإنصاف فكانوا يرتابون فيه ، وهي الطائفة التي استخفها فرعون فأطاعوه : " إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ " أي خارجين عما تعطيه العقول الصحيحة من إنكار ما ادعاه فرعون باللسان الظاهر في العقل ، فإن له ) أي للعقل (حدا يقف عنده إذا جاوزه صاحب الكشف واليقين ، ولهذا جاء موسى في الجواب بما يقبله الموقن والعاقل خاصة) على ما ذكر من الجوابين المربين بقوله :  " إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ " و " إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ " .

( " فَأَلْقى عَصاه " وهو صورة ما عصى به فرعون موسى في إبائه عن إجابة دعوته ) اعلم أن الشيخ قدس سره أومأ إلى أن الله تعالى بين صورة المحاجة التي جرت بين موسى عليه السلام وبين فرعون على طريقة ضرب الأمثال فضرب العصا مثلا للمطمئنة الموسوية المطاوعة للقلب المؤتلفة بنور القدس المؤيدة بتأييد الحق ،
ولهذا قال : وهي صورة ما عصى به فرعون في إبائه ، فالنفس حقيقة واحدة فلما أطاعت الهوى في فرعون واستولى عليه شيطان الوهم لغلبة الهوى كانت نفسا أمارة مستكبرة أبت الحق وأنكرته ، ولما انقادت للحق وأطاعت القلب : أي النفس الناطقة ، وتنورت بنور الروح في موسى كانت عصا يعتمد عليها في أعمال البر والطاعات والأخلاق الفاضلة ، وحية تسعى في مقاصده ومطالبه بتركيب الحجج والدلائل وتحصيل المقاصد ، وثعبانا يلتقم ما زورته شجرة القوة المتخيلة والوهمية من فرعون وقومه من الشبهة كل ذلك لطاعتها موسى القلب والروح ، ومن أراد ترتيب القصة وتحقيق

"" إضافة بالي زاده :
موسى فيقول فرعون في جوابه : موسى إنما فرقت : أي فلما فهم موسى ذلك الحكم والتسلط من فرعون أعطاه حقه في كونه يقول له : أي حال كون موسى قائلا لفرعون لا تقدر على ذلك التحكم يعنى أن قول موسى لفرعون لا تقدر على ذلك ، مجرد إعطاء لحق فرعون في مقابلة قوله لموسى : ومرتبتى الآن التحكم فيك يا موسى لا تكذيب له في قوله هذا . اهـ  بالى زاده ""

الحق في هذا المثل ونظائره فليطالعها في التأويلات التي كتبناها في القرآن فإن هذا الموضع ينبغي أن لا يزاد على ما أورده الشيخ قدس سره (: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ " أي حية ظاهرة ، فانقلبت المعصية التي هي السيئة طاعة أي حسنة ) إشارة إلى أن النفس في سنخها وطبعها العصيان للقلب والروح ، لكن لما راضها عليه السلام بقمع هواها حتى صارت بإماتة قواها وقهر هواها الذي هو روحها كالنفس النباتية في الطاعة تشبهت بالعصا بعد كونها مركبا حرونا فإذا اطمأنت صارت معصيتها طاعة وسيئاتها حسنة فكل ما أمرها به موسى امتثلت وآلت إلى هيئة ما أراد منها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما قال الله تعالى : "يُبَدِّلُ الله سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ " يعنى في الحكم ) أي سيئاتهم في حكم حسناتهم ، لأنها إن غضبت وقهرت أو حلمت وتلطفت كانت بأمر الحق ، فكل حركاتها وأفعالها وإن كانت في صورة الفساد كانت عين الصلاح
ألا ترى إلى قوله تعالى : " ما قَطَعْتُمْ من لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ الله "   و ( فظهر الحكم هنا عينا متميزة في جوهر واحد ) أي تأصل حكم الله فيها وترسخ حتى صار الحكم لكمال طاعتها بالطبع فيها عينا فكما أمرت تمثلت وتجسدت بصورة الحكم فكل حكم عليها عين متميزة عن نظيرتها إلى صورة حكم آخر في جوهر واحد

( فهي العصا ) في صورة الحكم ( وهي الحية ) في صورة حكم آخر ( والثعبان الظاهر ) كذلك ( فالتقم أمثاله من الحيات من كونها حية والعصا من كونها عصا ) لأنها متأيدة بتأييد الحق متنورة بنور القدس ، فبأي شبهة تمسك فرعون وقومه أبطلها ببرهان نير من جنسها .


.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:06 pm

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الثالث .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فظهرت حجة موسى على حجج فرعون في صورة عصا وحيات وحبال فكانت للسحرة حبالا ولم يكن لموسى حبل ، والحبل التل الصغير : أي مقاديرهم بالنسبة إلى قدر موسى بمنزلة الحبال من الجبال الشامخة ، فلما رأت السحرة ذلك علموا رتبة موسى في العلم ، وإن الذي رأوه ليس من مقدور البشر ، وإن كان من مقدور البشر فلا يكون إلا ممن له تمييز في العلم المحقق عن التخيل والإيهام - فآمنوا   " بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وهارُونَ " أي الرب الذي يدعو إليه موسى وهارون لعلمهم بأن القوم يعلمون أنه ما دعا لفرعون )
أي لعلم السحرة أن قوم فرعون يعلمون أن موسى ما دعا إلى فرعون بينوا ذلك ، لأن فرعون كان يدعى أنه رب العالمين .

"" إضافة بالي زاده :
فهم لا يقبلون حكم العقل ولا الكشف فهم ليسوا من الموقنين والعاقلين بل هم بهائم في صورة الأناسى . اهـ  بالى زاده ""

 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت ، وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال : " أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى "   )

الرب اسم إضافى يقتضي مربوبا ، وهو يجيء في اللغة بمعنى المالك يقال : رب الدار ورب الثوب ورب الغنم ، وبمعنى السيد ،
يقال : رب المدينة ورب القوم ورب العبيد ، وبمعنى المربي يقال : رب الصبى ورب الطفل ورب المتعلم ، ولا يطلق بدون الإضافة إلا على رب العالمين فالرب المطلق بلام التعريف هو الله وحده فله الربوبية على الحقيقة بالمعاني الثلاثة ولغيره عرضية لأنه مجلى ومظهر لها فهي صفة لعين واحدة ظاهرة بصور كثيرة ، فكل من ظهر له ربوبية عرضية بحسب ما أعطاه من التصرف والتحكم في ملكه وعبيده ومرباه ، وتختلف المظاهر في تجلى صفة الربوبية وتتفاضل ، فمن كان أكثر تصرفا وتحكما بالنسبة إلى غيره كانت ربوبيته أعلى ، ولما كان فرعون صاحب السلطنة في وقته متحكما في قومه بحسب إرادته ادعى أنه ربهم الأعلى ( أي وإن كان الكل أربابا ) بنسبة ما وإضافة لمن يربه .

"" إضافة بالي زاده :
في العرف الناموسي يتعلق بقوله الخليفة : أي يطلق الخلافة بالسيف على الأمير الظالم في الشرع لقوله عليه الصلاة والسلام « أطيعوا أمراءكم وإن جاروا » . اهـ  بالى زاده ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم ، ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لم ينكروه وأقروا له بذلك فقالوا : " فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِه الْحَياةَ الدُّنْيا "  فالدولة لك فصح قوله : " أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى " وإن كان عين الحق فالصورة لفرعون )

أي وإن كان الرب الأعلى مطلقا هو عين الحق فإنه تعالى بأحديته الذاتية والأسمائية ظاهر في كل صورة بقدر قابليتها فله أحدية جميع الربوبية الأسمائية في الكل بالحقيقة بجميع المعاني الثلاثة ، لكن الصورة القابلة لما قبلها من المعاني صورة فرعون

( فقطع الأيدي والأرجل فصلب بعين حق في صورة باطل ) فإن الله تعالى بالمشيئة الذاتية تجلى بها في صورة الأعيان شاء ذلك « ما شاء الله » كان فالوجود بما يجرى فيه تبع لإرادته وهو الفاعل لما يحدث فيه فكما قال بلسان الذي أنطق به كل حي وميت وجماد في صورة الهداية والغي " أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى " فكذلك فعل ما فعل بيد الحق في صورة باطل بالنسبة إلى تجليه باسمه الهادي والعدل والكامل في العرف الناموسي : أي الشرع ، فإن التمييز بين الحق والباطل والحسن والقبح إنما هو في الأحكام الإلهية الشرعية التي يظهر بها كمال الوجود ، وأما سائر المراتب فلكل مرتبة حكم مختص بها كما علل فعله الشنيع الباطل القبيح بقوله
( لنيل مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل ) مثل المهابة والسلطنة وإلقاء الرعب في قلوب الناس ليسخروا وينقادوا لحكمه

"" إضافة بالي زاده :
لنيل كل من السحرة وفرعون مراتب لا تنال إلا بذلك ، أما فرعون فلأن السلطنة لا بد منها ، والمجازاة في الآخرة ، وأما السحرة فإنهم لا ينالون درجة الشهادة إلا بها . اهـ  بالى زاده ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن الأسباب لا سبيل إلى تعطيها لأن الأعيان الثابتة اقتضتها فلا تظهر في الوجود إلا بصورة ما عليه في الثبوت إذ " لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ الله " وليست كلمات الله سوى أعيان الموجودات فينسب إليه القدم من حيث ثبوتها ، وينسب إليها الحدوث من وجودها وظهورها ، كما تقول : حدث عندنا اليوم إنسان أو ضيف ، ولا يلزم من حدوثه أنه ما كان له وجود قبل هذا الحدوث ، ولذلك قال الله تعالى في كلامه العزيز في إتيانه مع قدم كلامه " ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا " اسْتَمَعُوه وهُمْ يَلْعَبُونَ"  و " ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْه مُعْرِضِينَ"، والرحمن لا يأتي إلا بالرحمة ، ومن أعرض عن الرحمن استقبل العذاب الذي هو عدم الرحمة، وأما قوله : " فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبادِه"، ونظيره في سورة يونس مع الاستثناء في قوله " فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ"، أي في وقت رؤيتهم العذاب " فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ")

( فلم يك ذلك على أنه لا ينفعهم في الآخرة بقوله ) أي بدليل قوله ( في الاستثناء " إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ " ) لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ،

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأراد أن ذلك لا يرفع عنهم الأخذ في الدنيا فلذلك أخذ فرعون مع وجود الإيمان منه هذا إن كان أمره أمر من تيقن بالانتقال في تلك الساعة ، وقرينة الحال تعطى أنه ما كان على يقين من الانتقال ) أي من الدنيا إلى الآخرة


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأنه عاين المؤمنين يمشون في الطريق اليبس التي ظهرت بضرب موسى عليه السلام بعصاه البحر فلم يتيقن فرعون الهلاك إذ آمن بخلاف المحتضر حتى لا يلحق به )   أي لم يتيقن فرعون بالهلاك وقت الإيمان حتى يلحق بالمحتضر الذي يؤمن بعد تيقنه بالهلاك فلا يلحق به  .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (فآمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل على التيقن بالنجاة فكان كما تيقن لكن على غير الصورة التي أراد فنجاه من عذاب الآخرة في نفسه ونجى بدنه كما قال تعالى :" فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً " لأنه لو غاب بصورته ربما قال قومه احتجب ) أي عن الأبصار فارتقى إلى السماء أو غاب بنوع آخر بناء على ما اعتقدوا في حقه أنه إله
 ( فظهر بالصورة المعهودة ميتا ليعلم أنه هو ، فقد عمته النجاة حسا ومعنى ) حسا بالصورة ومعنى بالروح للإيمان ، لأن الخطاب إن كان للمجموع فذلك وإن كان للروح فمعناه مع بدنك ، والله أعلم بحاله .


قال الشيخ رضي الله عنه :  (ومن حقت عليه كلمة العذاب الأخروى لا يؤمن ولو جاءته كل آية حتى يروا العذاب الأليم : أي يذوقوا العذاب الأخروى فخرج فرعون من هذا الصنف ، هذا هو الظاهر الذي ورد به نص القرآن ، ثم إنا نقول بعد ذلك والأمر فيه إلى الله لما استقر في نفوس عامة الخلق من شقائه ، وما لهم نص في ذلك ) أي في شقائه الأبدي .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( يسندون الشقاء إليه ، وأما آله فلهم حكم آخر ليس هذا موضع ذكره ، ثم ليعلم أنه ما يقبض الله أحدا إلا وهو مؤمن أي مصدق بما جاءت به الأخبار الإلهية وأعنى من المحتضرين ، ولهذا يكره موت الفجأة وقتل الغفلة ، فأما موت الفجأة فحده أن يخرج النفس الداخل ولا يدخل النفس الخارج فهذا موت الفجأة وهذا غير المحتضر ، وكذلك قتل الغفلة بضرب عنقه من ورائه وهو لا يشعر فيقبض على ما كان عليه من إيمان أو كفر ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام « يحشر على ما مات عليه كما أنه يقبض على ما كان عليه والمحتضر ما يكون إلا صاحب شهود ، فهو صاحب إيمان بما ثم فلا يقبض إلا على ما كان عليه « لأن كان حرف وجودي ) أي لفظة كان كلمة وجودية ( لا ينجر معه الزمان إلا بقرائن الأحوال ) أي لا يدل على الزمان كقوله تعالى :" وكانَ الله عَلِيماً حَكِيماً " .

وكان زيد قائما ، فإن معناه ثبوت الخبر للاسم ووجوده على الصيغة المذكورة وأما قرائن الأحوال فكما تشاهد فقر زيد ، فيقال لك : كان زيد غنيا : أي في الزمان الماضي فافتقر ، وكقول الشيخ : كنت شابا قويا ، والمراد أن معنى الحديث أنه يقبض على ما هو عليه ، وإطلاق الحرف على ما كان حرف وجودي مجاز ، كقولهم في حرف إني كذا أي قرأته .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فنفرق بين الكافر المحتضر في الموت ، وبين الكافر المقتول غفلة أو الميت فجأة ، كما قلنا في حد الفجأة )
هذه بشارة لمن احتضر من الكفار والمحجوبين بأنه يشهد الملائكة وأحوال الآخرة قبل موته ، فهو مؤمن بحكم ما يشهد ولكن قد يكون إيمانه حال الغرغرة والله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ، ولا شك أن كل محتضر يشاهد ذلك لكن الكلام في أنه لا ينفعه إيمانه حينئذ بما لم يعتقد قبل ذلك فلم يخبر الشيخ عن ذلك ،
والحق أنه لا ينفعه لقوله تعالى :" يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ من قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمانِها خَيْراً "

"" إضافة بالي زاده :
فهو صاحب إيمان بما ثمة : أي يؤمن بالذي يشاهده من الوعد والوعيد ، فإنه ثبت بالنص بأن كل كافر لا يموت إلا وهو مؤمن لكن لا ينفع إيمان من تيقن بالموت ، وعلى أي حال فالمحتضر صاحب إيمان. اهـ  بالى زاده ""


قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما حكمة التجلي والكلام في صورة النار فلأنها كانت بغية موسى فتجلى له في مطلوبه ليقبل عليه ولا يعرض عنه ، فإنه لو تجلى له في غير صورة مطلوبه أعرض عنه لاجتماع همه على مطلوب خاص ، ولو أعرض لعاد عمله عليه فأعرض عنه الحق ، وهو مصطفى مقرب ، فمن قربه أنه تجلى له في مطلوبه وهو لا يعلم .
كنار موسى رآها عين حاجته ... وهو الإله ولكن ليس يدريه )


ولما كان موسى عليه السلام مصطفى محبوبا جذبه الله تعالى بأن وفقه لمصلحة شعيب عليه السلام حتى عرفه الحق وحببه إليه فكان الغالب عليه طلب الشهود ، والشهود لا يكون إلا في صورة أشرف ،

ولا أشرف من صور أركان العالم كالنار ، فإنها تناسب حضرة الحق بالصفتين اللتين هما أجل الصفات الذاتية وأقدمها وهما القهر والمحبة فالإحراق في النار أثر القهر بأنها ما مست شيئا قابلا لتأثيرها إلا أفنته ،

كما أن الله تعالى ما تجلى لشيء إلا أفناه والتجلي لا يكون إلا بحسب قبول المتجلى له والنورية أثر المحبة ، فإن النور لذاته محبوب فمن عنايته أحوجه إلى النار فاستولى على باطنه وظاهره صفتا القهر والمحبة من التجلي والمتجلى فيها ،

فإنه لا بد للمتجلى له أن يتصف بصفة المتجلى ويناسب المتجلى فيه ، وهذا هو الشهود المثالي في مقام التفرقة قبل الجمع ، ومقام المكالمة المقتضى للاثنينية ، وأما الشهود الحقيقي فهو يقتضي فناء المتجلى له في المتجلى ،

وذلك في قوله  : "  فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ جَعَلَه دَكًّا وخَرَّ مُوسى صَعِقاً " وهناك لا اثنينية فلا خطاب ولا كلام إلا بعد الإفاقة والله الباقي بعد فناء الخلق ، والله أعلم بالصواب .

تم الفص الموسوي
.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:07 pm

26 -  فص حكمة صمدية في كلمة خالدية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر  

الفص الخالدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
26 -  فص حكمة صمدية في كلمة خالدية
إنما اختصت الكلمة الخالدية بالكلمة الصمدية ، لأن دعوته إلى الأحد الصمد ، ومشهده الصمدية ، وهجيره في ذكره الأحد الصمد ، وكان في قومه مظهر الصمدية يصمدون إليه في المهمات ، ويقصدونه في الملمات ، فيكشف الله عنهم بدعائه البليات .
( وأما حكمة خالد بن سنان فإنه أظهر بدعواه النبوة البرزخية ) أي الحجابية التي تكون في عالم المثال بعد الموت ، فإنه لم يظهر نبوته في حياته ، ولذلك لم يعتبرها نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال « إني أولى الناس بعيسى ابن مريم فإنه ليس بيني وبينه نبي » فعلم أنه لم يكن نبيا في هذا الموطن ( فإنه ما ادعى الإخبار بما هنالك إلا بعد الموت ) أي ادعى أنه يخبر بعد موته عن أحوال الآخرة.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأمر أن ينبش عليه ويسأل فيخبر أن الحكم في البرزخ على صورة الحياة الدنيا ، فيعلم بذلك صدق الرسل كلهم فيما أخبروا به في حياتهم الدنيا ، فكان غرض خالد عليه السلام إيمان العالم كله بما جاء به الرسل ليكون رحمة للجميع ، فإنه تشرف بقرب نبوته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلم أن الله أرسله رحمة للعالمين ولم يكن خالد برسول ، فأراد أن يحصل من هذه الرحمة في الرسالة المحمدية على حظ وافر ولم يؤمر بالتبليغ فأراد أن يحظى بذلك في البرزخ ليكون أقوى في العلم في حق الخلق فأضاعه قومه ).
 
فلما استشرف خالد عليه السلام كمال نبوة محمد وعلم أنه المبعوث رحمة للعالمين كافة تمنى أن يكون له عموم أنباء ونبوة مستندة إلى العلم الحاصل للكافة بما في البرزخ بعد الموت ، فإن العامة لا ينقادون لأنباء الأنبياء انقيادهم لأنباء من ينبئ بعد أن يموت فيحييه الله فيخبر بما شاهد هنالك ، فإن تأثير مثل ذلك في إيمان عموم الخلق أبلغ .
 
وكان من قصته عليه السلام أنه كان قوى الهمة والغالب عليه شهود الأحدية ، وكان هو وقومه يسكنون بلاد عدن فظهرت بينهم نار عظيمة خرجت من مغارة فأهلكت الزرع والضرع فصمد إليه قومه على ما اعتادوا منه في دفع الملمات حتى يدفع عنهم أذى تلك النار وكانوا مؤمنين به ، فأخذ خالد يضرب تلك النار بعصاه من خلفها ويقول : بدّا بدا حتى بردت النار فرجعت هاربة منه إلى المغارة التي خرجت منها وهو يسوقها حتى أدخلها ،
 
ثم قال لأولاده وقومه : إني أدخل المغارة خلف النار حتى أطفئها ، فأمرهم أن يدعوه بعد ثلاثة أيام تامة فإنهم إن نادوه قبل انقضائها فهو يخرج ويموت ، وإن صبر وأخرج سالما وقد دفع عنهم مضرة النار ، فلما دخل صبروا يومين واستفزهم الشيطان فلم يصبروا تمام ثلاثة أيام ، فارتابوا أنه هلك فصاحوا به فرجع عليه السلام من المغارة ويداه على رأسه من الألم الذي أصابه من صياحهم ،
فقال لهم : ضيعتمونى وأضعتم قولي وعهدي وأخبرهم بموته وأمرهم أن يقبروه ويرقبوه أربعين يوما ، فإنه يأتيهم قطع من الغنم يقدمها حمار أبتر مقطوع الذنب ، فإذا حاذى قبره ووقف فلينبشوا عليه قبره فإنه يقوم ويخبرهم بجلية الأمر بعد الموت عن شهود ورؤية فيحصل للخلق كلهم عين اليقين بما أخبرت به الرسل عليهم السلام .
 
ثم مات خالد فدفنوه فانتظروا مضى الأربعين وورود قطيع الغنم ، فجاء القطيع كما يذكر يقدمه حمار أبتر فوقف حذاء قبره فهمّ مؤمنو قومه وأولاده أن ينبشوا عليه كما أمرهم حتى يخبرهم بصدق الأنبياء والنبوات كلها ، فأبى أكابر أولاده وقالوا : يكون علينا عارا عند العرب أن ينبش على أبينا فيقال فينا أولاد المنبوش وندعى بذلك ، فحماتهم الحمية الجاهلية على ذلك فضيعوا وصيته وأضاعوه .
 
ثم بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته بنت خالد فقال لها صلى الله عليه وسلم « مرحبا بابنة نبي أضاعه قومه » ولم يصف النبي عليه الصلاة والسلام قومه بأنهم ضاعوا لإصابتهم في الإيمان فصحت نبوته .
 
قال رضي الله عنه :  ( وإنما وصفهم بأنهم أضاعوا نبيهم حيث لم يبلغوه مراده فهل بلغه الله أجر أمنيته ؟ فلا شك ولا خلاف في أن له أجر أمنيته ، وإنما الشك والخلاف في أجر المطلوب ، هل يساوى تمنى وقوعه به مع عدم وقوعه بالوجود يعنى في الآخرة ) .
أي هل يساوى أجر وقوع المطلوب بالوجود الخارجي عند مجرد تمنى وقوعه أجر تمنيه بحيث لا ينقص عدم وقوعه أجر وقوع المطلوب بالوجود الخارجي عند مجرد تمنى وقوعه أجر تمنيه بحيث لا ينقص عدم وقوعه أجر تمنيه إذا وقع .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( أم لا فإن في الشرع ما يؤيد التساوي في مواضع كثيرة كالآتى للصلاة في الجماعة فتفوته الجماعة فله أجر من حضر الجماعة ، وكالمتمنى مع فقره ما هم عليه أصحاب الثروة والمال من فعل الخيرات فيه فله مثل أجورهم ، ولكن مثل أجورهم في نياتهم أو في أعمالهم ؟ فإنهم جمعوا بين العمل والنية ولم ينص النبي عليه الصلاة والسلام عليهما ولا على واحد منهما ، والظاهر أنه لا تساوى بينهما ، ولذلك طلب خالد بن سنان الإبلاغ حتى يصح له مقام الجمع بين الأمرين فيحصل على الأجرين والله أعلم ) .
 
"" أضاف عبد الرحمن جامي :
بأنهم ضاعوا لأنه لم يكن رسولا مأمورا بالتبليغ حتى يلزم من تضييع ما أمرهم به ضياعهم ، ولو كان كذلك لكانوا هم الضائعين أولا . أهـ  عبد الرحمن جامى .
والظاهر أنه التساوي بينهما ، فإن النسبة بينهما نسبة الكل إلى الأجزاء . أهـ  عبد الرحمن جامى . ""
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:07 pm

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر  

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
 إنما خصت الكلمة المحمدية بالحكمة الفردية ، لأنه صلى الله عليه وسلم أول التعينات الذي تعين به الذات الأحدية قبل كل تعين فظهر به من التعينات الغير المتناهية ، وقد سبق أن التعينات مرتبة ترتب الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص مندرج بعضها تحت بعض ، فهو يشمل جميع التعينات ، فهو واحد فرد في الوجود لا نظير له إذ لا يتعين من يساويه في المرتبة ليس فوقه إلا الذات الأحدية المطلقة المتنزهة عن كل تعين وصفة واسم ورسم وحد ونعت فله الفردية مطلقا ، 
ولشموله كل تعين سماه الشيخ أيضا لمعنى هذا الفص:
فص الحكمة الكلية ، ولا فرق بينهما إلا بالاعتبار ، فإن هذا التعين بالنسبة إلى سائر التعينات كلى الكليات ، وقد مر في الفص الموسوي أن الأنبياء لهم التعينات الكلية ، وقد يتناول حتى التعينات الشخصية ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في حديث القيامة « إنه يجيء النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجلان والنبي ومعه الرجل الواحد والنبي وليس معه أحد » فله الجمعية المطلقة ، ولذلك جاء في حقه وحق أمته 
"وكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً " وجاء أيضا "وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ " ،  "وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ " .
ولا شك أن الحق تعالى له إلى كل تعين نسبة مخصوصة تلك النسبة مع الذات اسم من أسماء الله تعالى يرتبط به هذا الشخص المتعين باللَّه تعالى يربيه به ، فمن هذا يعلم أن الاسم الأعظم لا يكون إلا مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء ، ومن فرديته يعلم سر قوله : « كنت نبيا وآدم بين الماء والطين » وكونه خاتم النبيين وأول الأولين وآخر الآخرين ومن كليته وجمعيته سر قوله :
« أوتيت جوامع الكلم » وكونه أفضل الأنبياء فإنهم في التصاعد وسعة الاستعداد والمرتبة ينتهون إلى التعين الأول ولا يبلغونه ، وسر اختصاصه بالشفاعة إلى غير ذلك من خصائصه .


(وإنما كانت حكمته فردية لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنسانى فلهذا بدىء الأمر به وختم فكان نبيا وآدم بين الماء والطين ، ثم كان بنشأته العنصرية خاتم النبيين ) علل الشيخ فرديته بكونه أكمل أفراد النوع الإنسانى ، لأن الأكمل جامع للأحد والشفع والوتر ، أما الأحد فلأن هذا التعين عين الذات الأحدية أعنى عين المتعين لا زائد عليه إلا في التعقل ، فإنه تعين بعلمه بذاته فلا يكثر إلا بالاعتبار ،
ولا شك أن هذا الاعتبار شفع الأحدية فجعلها الواحدية وهي الوترية التي هي بالتثليث ( وأول الأفراد الثلاثة ) فتحقق أن أول التثليث الاعتباري إنما هو بالعلم والعالم والمعلوم ، ومظهره في الوجود هو هذا الأكمل بجامع الأحدية والشفعية والوترية : أي الواحدية التي هي الذات والصفة والاسم ، وتسمى باصطلاحهم : حقيقة الحقائق الكبرى ، والبرزخ الجامع ، وآدم الحقيقي ، والعين الواحدة .
"" أضاف بالي زاده :-
وأوله الإفراد : أي أول ما يوجد من الفردية الثلاثة : وهي الأحدية الذاتية ، والأحدية الصفاتية ، والحقيقة المحمدية . أهـ بالى زاده  ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما زاد على هذه الأولية من الأفراد فإنه عنها ، فكان صلى الله عليه وسلم أدل دليل على ربه ، فإنه أوتى جوامع الكلم التي هي مسميات أسماء آدم )
يعنى مسميات الأسماء التي علمها الله آدم ، والكلمات الإلهية وإن كانت لا تنفد فإنها لا تتناهى لكنها تنحصر مع لا تناهيها في أمهات ثلاث ،
أولها : الحقائق والأعيان الفعلية الوجوبية الإلهية.
والثانية : الحقائق الانفعالية الكونية المربوبية .
والثالثة : الحقائق الجمعية الكمالية الإنسانية ، والكل أمها الشؤون الذاتية والحقيقة العينية الذاتية الإحاطية ، فهذه الكلمة جوامع الكلم التي أوتيها محمد صلى الله عليه وسلم فجمعها بالبرزخية المذكورة ( فأشبه الدليل في تثليثه ) يعنى ما ذكر في الفص الصالحي من تثليث الدليل ( والدليل دليل لنفسه ) أي دلالته ذاتية له ، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام مظهر الاسم الهادي ، والحقيقة هو الهادي وهي المهدى فهو دليل لنفسه على نفسه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما كانت حقيقته تعطى الفردية الأولى بما هو مثلث النشأة لذلك قال في باب المحبة التي هي أصل الوجود « حبب إلىّ من دنياكم ثلاث » بما فيه من التثليث ثم ذكر « النساء والطبيب وجعلت قرة عينه في الصلاة » فابتدأ بذكر النساء وأخر الصلاة ، وذلك لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها ومعرفة الإنسان بنفسه مقدمة على معرفته بربه فإن معرفته بربه نتيجة عن معرفته بنفسه لذلك قال عليه الصلاة والسلام " من عرف نفسه فقد عرف ربه "،  فإن شئت قلت بمنع المعرفة في هذا الخبر والعجز عن الوصول فإنه سائغ فيه ، وإن شئت قلت بثبوت المعرفة .
فالأول : أن تعرف أن نفسك لا تعرفها فلا تعرف ربك ،
والثاني : أن تعرفها فتعرف ربك فكان محمد أوضح دليل على ربه ، فإن كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربه ، فافهم )
اعلم أن المرأة صورة النفس والرجل صورة الروح ، فكما أن النفس جزء من الروح فإن التعين النفسي أحد التعينات الداخلة تحت التعين الأول الروحي الذي هو الآدم الحقيقي وتنزل من تنزلاته ، فالمرأة في الحقيقة جزء من الرجل وكل جزء دليل على أصله ، فالمرأة دليل على الرجل والرجل عليها بدليل قوله « من عرف نفسه فقد عرف ربه » والدليل مقدم على المدلول فلذلك قدم النساء ،
فإن قلنا : حقيقة الحق من حيث هو المتعين بتعين الإنسان لا يعرفه إلا هو فلا يعرف حقيقة
النفس فلا يعرف حقيقته الذاتي في تعين ساغ ، وإن قلنا : إن الحق المتعين بتعين النفس :
أي الهوية المتعينة بتعينها يعرف بمعرفة تعين النفس ساغ .
وأما معرفة أكمل أفراد الإنسان المتعين بالتعين الأول وهو محمد صلى الله عليه وسلم من نفسه فهو أتم المعارف ، أما من حيث عينه فلأن العين المحمدية من حيث كونها متعينة بالبرزخية الجامعة الكبرى فهو عين الذات الأحدية من حيث كونها متعينة بالتعين الأول ، وأما من حيث صورته فلأن الصورة المحمدية جامعة للحضرة الأحدية الذاتية والواحدية الأسمائية وجميع المراتب الإمكانية من الروح والقلب والنفس والخيال والجسم ،
فكذلك الحضرة الإلهية هي الذات مع جميع الأسماء وصورها من أعيان العالم وفواعله وقوابله من أم الكتاب هو الروح الكلى الشامل لجميع الأرواح ، واللوح المحفوظ الذي هو القلب الكلى الشامل لجميع القلوب ، وعالم المثال والجسم المطلق الشامل لجميع أجسام العالم فهو أتم دليل وأوضحه على ربه لكونه أكمل المظاهر الكمالية الإلهية ،
وقوله ، فإن كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربه : معناه أن كل جزء له عين ، ولذات الحق تعالى نسبة إلى عينه بتجليه في صورتها خاصة ليست تلك النسبة لغيره ، فللذات مع تلك النسبة عينها اسم خاص لله يرب به ذلك الجزء فذلك الاسم ربه الخاص ، فجميع أجزاء العالم بمجموعها دليل على أصل العالم الذي هو الرب المطلق رب الأرباب ، وجميع أجزاء العالم فهو الدليل الأتم على ربه بل على نفسه إجمالا وتفصيلا فافهم .
 
قال الشيخ رضي الله عنه : (وإنما حبب إليه النساء فحن إليهن لأنه من باب حنين الكل إلى جزئه ) لأن كلية الكل إنما تكون بجزئية الجزء فلا يكون الكل كلا حتى يكون الجزء جزءا فهو حنين الشيء إلى نفسه باعتبارين وحيثيتين ، فإن الجزء باعتبار الحقيقة عين الكل وباعتبار التعين غيره والشيء لا يحب إلا نفسه كما مر ، فإن الحب في الوجود حقيقة واحدة ولا يحن ولا يشتاق إلا مع بينونة واحتجاب فيحن الكل في الجزء إلى نفسه باعتبار جزئيته للبينونة الواقعة بتعين الجزء ، وفي الكل إلى نفسه باعتبار جزئيته للبينونة الواقعة بتعين الكل من حيث هو كل ، ولولا ذلك الافتراق بالاثنينية لما كان الكل كلا ولا الجزء جزءا فخلص الحب ولذته من الحنين وألمه .
"" أضاف بالي زاده :-
فحن الحق إلينا حنين الكل إلى جزئه فنحن إليه حنين الجزء إلى كله والفرع إلى أصله ، فأبان عليه الصلاة والسلام هذا المعنى بحنينه إلى النساء بالحديث ، فإن الأمر كذلك بين الحق وعباده . أهـ بالى زاده  ""
  
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحق في قوله في هذه النشأة العنصرية الإنسانية "ونَفَخْتُ فِيه من رُوحِي " ثم وصف نفسه بشدة الشوق إلى لقائه للمشتاقين فقال يا داود إني أشد شوقا إليهم يعنى للمشتاقين إليه وهو لقاء خاص فإنه قال في حديث الدجال " إن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت " فلا بد من الشوق لمن هذه صفته )
 
أي لمن لا يرى ربه حتى يموت فيحب أن يموت شوقا إلى الحق . كما حكى الأصمعي أنه مر في بعض طرق البادية بحجر على جادة الحجاج مكتوب عليه هذا البيت :
ألا أيها الحجاج باللَّه خبروا  .... إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع
فكتب تحته :
يداوي هواه ثم يكتم سره  .... ويخضع في كل الأمور ويخشع
 
قال : فرجعت إليه في الثاني ، فإذا مكتوب تحته :
وكيف يداوي والهوى قاطع الحشا  .... وفي كل يوم روحه تتقطع
قال فكتبت تحته :
إذا لم يطق صبرا وكتمان سره   ..... فليس له شيء سوى الموت أنفع
 
قال فرجعت إليه فإذا أنا بشاب نحيف قد شحب لونه ودق شخصه وقد قضى نحبه وخر ميتا.
والسر في زيادة شوق الحق أن الحق من حيث تعينه تعين العبد المشتاق ،
يشتاق إلى نفسه من حيث تعينه في الأصل ، ثم إنه من حيث الأصل يشتاق إلى نفسه في مرتبة التقييد فيكون في اشتياق الحق لكون شوقه تعالى أضعاف أضعاف الشوق الظاهر من المسمى عبدا إذ هو المشتاق إلى نفسه من حيثيتين في مرتبتين ذاتيتين ،
ولا شك أن الشوق في مرتبة الأصل أقوى بما لا يبلغ كنهه لأن الشوق بقدر الحب ، والحب هناك في الغاية ، ومنه يتحقق معنى قوله « من تقرب إلىّ شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب إلى ذراعا تقربت منه باعا ، ومن أتاني ماشيا أتيته هرولة » .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فشوق الحق لهؤلاء المقربين مع كونه يراهم فيحب أن يروه ) يعنى بارتفاع حجاب الإنية من العين الموجب في زعمه البين في البين ( ويأبى المقام ذلك ) أي الكون في هذه الحياة الدنيا ، والكون إلى مقام النفس ( فأشبه قوله " حَتَّى نَعْلَمَ " مع كونه عالما ) من حيث أنه يشتاق إلى حصول رؤيته نفسه في عين العبد مع رؤيته نفسه مطلقا كظهور علمه في مظاهر المؤمنين مع علمه القديم الذاتي .
 
"" أضاف بالي زاده :-
قوله :- "حَتَّى نَعْلَمَ " مع كونه عالما بجميع الأشياء بعلمه الأزلي ، وهو علم خاص حاصل له بصور المظاهر .أهـ بالى زاده  ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو يشتاق لهذه الصفة الخاصة ) وهي ارتفاع حجاب إنية العبد فيشهده بعينه ( التي لا وجود لها إلا عند الموت فيبل بها شوقهم إليه كما قال في حديث التردد ، وهو من هذا الباب « ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددى في قبض نسمة عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مماته ولا بد له من لقائي » ) يعنى بارتفاع الحجاب ، ولا يرتفع إلا بمفارقة البدن ( فبشره) بما بعد الموت من اللقاء .


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما قال له ولا بد له من الموت لئلا يغمه بذكر الموت ، ولما كان لا يلقى الله إلا بعد الموت كما قال عليه الصلاة والسلام" إن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت " لذلك قال الله تعالى ولا بد من لقائي فاشتاق الحق ) لوجود هذا الموت ، فاشتياق الحق ( لوجود هذه النسبة ) اللقاء الذي لا يكون إلا بعد الموت هو الذي يكون عند ارتفاع الحجاب البدني والتجرد عن الغواشي الطبيعية ، وهو بالنسبة إلى أهل الحجاب من المؤمنين بالغيب إنما يكون في صورة معتقدهم ، إما في العالم المثالي ، وإما في البرازخ النورية الروحانية .
 
(« وإما في الهياكل السماوية والصور الفلكية بحسب تفاوت درجاتهم في التجرد بصفاء النفس وقوة الاستعداد ، كما قال عليه الصلاة والسلام » أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر « وهي الأجرام السماوية وفي حديث آخر »)
 في قناديل معلقة تحت العرش « وهي الكواكب الدرية ، وبالنسبة إلى أهل الشهود من الموقنين فاللقاء دائم ، وهم الذين ماتوا عن نياتهم وتعيناتهم في حياتهم الدنيا ، وتجردوا في حياتهم من ملابس طبائعهم ، فهم يشاهدون من حيث أنهم انخلعوا عن الهيئات النفسانية والطبيعية وأحياهم الله بالحياة الأخروية فهم الذين فازوا بلقاء الله على الإطلاق والتقييد ، وشاهدوا جمال وجهه الباقي في الكل ، وخلصوا عن خوف الفراق فلا شوق لهم كالفريق الأول فإنهم أهل الشوق لوجود الفراق ودوام الحجاب ، لكنهم مشتاقون أبدا لأن الحق تتوالى تجلياته من غير تكرار ، فهم في كل وقت يشاهدونه ببعض تجلياته ويشتاقون إلى نور جماله في سائر تجلياته ،
وفي هذا قال أبو يزيد رضي الله عنه :
شربت الحب كأسا بعد كأس  .... فما نفد الشراب وما رويت
وبين الفريقين طائفة من أهل القلوب يشاهدونه في ملابس حسن الصفات مع بقاء الإنيات ، وهم المنخلعون عن صفاتهم في مقام قرب النوافل خرقوا حجاب الصفات وحرموا جمال الذات ، فهم الجامعون بين الشوق والاشتياق لاحتجابهم من وجه واتصافهم من وجه .
فاللقاء على ثلاثة أقسام : ولكل قسم موت وبعث وقيامة .
فالأول : إما أن يكون بالموت الطبيعي والبعث والقيامة فيه ، كما قال عليه الصلاة والسلام « من مات فقد قامت قيامته » .
وقال عليه الصلاة والسلام « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » واللقاء بعدها لأهل السعادة من المؤمنين بالغيب المحجوبين من رؤية الحق في صور معتقداتهم في عالم المثال أو في الهياكل العلوية السماوية وعلى حسب درجاتهم ، ولأهل القلوب في البرازخ النورية الروحانية من عالم القدس على أحسن ما يكون ولأهل الشهود في جميع صور الموجودات على الجمع والتفصيل والإطلاق والتقييد أمرهم الله تعالى بذلك : "وما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله " لأن إرادتهم إرادته ، وإذا فنوا عن ذواتهم فكيف تبقى صفاتهم فالكل في هذه القيامة سواء ، وهي الصغرى بالمرتبة والكبرى بالشمول .
والحق أنها أول موطن من مواطن القيامة الكبرى ،
 
ولهذا قال الشيخ رضي الله عنه : "القبر أول منزل من منازل الآخرة " وأما قيامة أرباب القلوب فهي بالانخلاع عن ملابس الحس ، والانبعاث عن مرقد البدن في هذه الدار ، والترقي إلى عالم القدس ، والانحراط في زمرة الملكوت ، وهي القيامة الوسطى وأوسط المواطن الكلية من القيامة الكبرى ، وهي بعد الموت الإرادى من الحياة النفسانية بقمع الهوى وإماتة القوى ، كما قيل : مت بالإرادة تحيى بالطبيعة .
 
وأما قيامة أهل الشهود فهي الطامة الكبرى بعد الفناء في الحق ، وفناء الخلق بارتفاع حجب الجلال النورانية والظلمانية بإحراق نور جمال الوجه الباقي إياها ، كما قال عليه الصلاة والسلام « إن لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لاحترقت سبحات الجلال » من غير إشارة ، وذلك الفناء هو الموت الحقيقي الطبيعي لكل ممكن ، والقيامة بعده هو البقاء بعد الفناء الذي يشهد التعين نسبة ذاتية للمتعين وشأنا من شؤونه الذاتية ، ويرى عينه إياه فهو دائما فناء عن ذاته وبقاء بربه ، فتحقق أن كل مرتبة من اللقاء لا تكون إلا بموت ، ولا يذوق بعده الموت إلا الموتة الأولى ، والله الباقي بعد فناء الخلق :
يحن الحبيب إلى رؤيتي  ….وإني إليه أشد حنينا
وتهفو النفوس وتأبى القضا  ..... فأشكو الأنين ويشكو الأنينا
 
يقول الشيخ قدس سره : إن الحق يقول على لساني من حيث المرتبة فإنه المحب للعارف به المحب له فإن حنين العبد عن محبته ، ومحبته عن محبة الله إياه كما قال " يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَه " فلو لا محبة الحق إياه لما أحب الحق فحنينه عن حنين الحق إليه أشد كما ذكر ، فإن الحق من حيث تعينه في عين عبده يشتاق ويتقرب إلى نفسه ثم يجازى المسمى عبدا عن شوقه إليه ويقربه بالشوق والتقرب إلى عبده المشتاق والتقرب والمجازاة بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى ما لا يتناهى من الأضعاف ، فيكون شوق العبد إليه بما لا يقدر قدره ،
وتهفو : أي تضطرب إليه النفوس من شدة الشوق حبا للموت الذي هو وسيلة اللقاء ، ويأبى القضا الأجل المسمى الذي عينه الحق فيبقى شوق الأنين من الطرفين ( فلما أبان أنه نفخ فيه من روحه فما اشتاق إلا إليه ) أي إلى نفسه للنبوية المذكورة بإنية العبد وتعينه
"" أضاف بالي زاده :-
أشد حنينا ، فإن كل واحد من الحق والعبد يكون محبا ومحبوبا ، فالحق محب العبد ومحبوب له ، وكذلك العبد وتهفو النفوس في طلب رؤيتي ، ويأبى القضاء والتقدير الإلهي عن حصول مرادهم قبل وقت الأجل فأشكر الأنين : أي فأشكو من الأزمنة والأنين إلى أن جاء الأجلى ، ويشكو الحبيب الأنينا لكون الأنين حائلا بيني وبين حبيبي .أهـ بالى زاده 
 
فظهر أن الروح يتبع في الظهور النشأة فكان في النشأة الطبيعية نورا كما في الملائكة ، ونارا كما في الإنسان .أهـ بالى زاده  ""
 
 قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا تراه خلقه على صورته لأنه من روحه . ولما كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسماة في جسده أخلاطا ) فإن الأركان ما لم تصر أخلاطا لم تصر أعضاء ( حدث عن نفخه اشتعال بما في جسده من الرطوبة ) يعنى الحرارة الغريزية التي تشتعل بمادة الرطوبة الغريزية من الروح الإنسانى ( فكان روح الإنسان نارا لأجل نشأته ) أي الروح الحيواني الذي به حياة البدن وهو النفس باصطلاح أهل التصوف ، فإنها نارية الجوهر والروح الإنسانى بظاهر صورة النار.
 
 ( ولهذا ما كلم الله موسى إلا في صورة النار وجعل حاجته فيها ، فلو كانت نشأته طبيعية ) أي على طبيعية عالم القدس ( لكان روحه نورا وكنى عنه بالنفخ يشير إلى أنه من نفس الرحمن فإنه بهذا النفس الذي هو النفخة ظهر عنه ) أي بالوجود الخارجي ( وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال نارا لا نورا ) المنفوخ فيه هو مادة الجسد ، واستعداده الرطوبة الغريزية التي أصله المنى المسوى باعتدال المزاج ، فالاستعداد بالحقيقة هو ذلك الاعتدال الذي جعل المحل قابلا لتأثير الروح وتعلقه التدبيرى به حتى اشتعل من الروح فيه النار ، أي الحار الغريزي الذي يكون منه الروح الحيواني أعنى النفس فظهر الجوهر النوري أعنى الروح الإنسانى المجرد فيه بصورة النار فلو لا هذه الطبيعة الدهنية في الرطوبة الغريزية بسبب الاعتدال لما ظهر هذا النور بصورة النار( فبطن نفس الحق ) أي الجوهر النوري ( فيما كان الإنسان به إنسانا ) من النفس التي هي الروح الحيواني الذي ظهر به الإنسان حيا ، وإلا لم يظهر فلم يكن إنسانا وظهر النار
 
قال الشيخ رضي الله عنه :   ( ثم اشتق له منه شخصا على صورته سماه امرأة فظهرت بصورته فحن إليها حنين الشيء إلى نفسه ، وحنت إليه حنين الشيء إلى وطنه ) الذي هو أصل خلقته ( فحبب إليه النساء فإن الله أحب من خلقه على صورته وأسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم ومنزلتهم وعلو نشأتهم الطبيعية ، فمن هناك وقعت المناسبة )   : أي بالصورة بين الرجل والمرأة كما بين الحق والرجل ، والصورة أعظم مناسبة وأجلها وأكملها فإنها زوجت : أي شفعت وجود الحق كما كانت المرأة شفعت وجودها الرجل فصيرته زوجا )   لأن كل زوج على صورة زوجه ( فظهرت الثلاثة حق ورجل والمرأة فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه ) لأنه أصلها وكذا المعاشقة بين الروح والجسد ، فإن الجسد على صورة الروح ، وهو الواحد الوتر فشفعته الصورة فصيرته زوجا ، وكذلك الحال بين الهوية والإنية فارتبط الوجود كله بالمحبة.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فحبب إليه ربه النساء كما أحب الله من هو على صورته ، فما وقع الحب إلا لمن تكون عنه وقد كان حبه لمن تكون عنه وهو الحق فلهذا قال « حبب إلىّ » ولم يقل حببت من نفسه لتعلق حبه بربه الذي هو على صورته حتى في محبته لامرأته فإنه أحبها بحب الله إياه تخلقا إليها ) فكان من خلقه العظيم الذي قال فيه:" وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ " فإن كل خلقه خلق الله ، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة : أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح ) أي الجماع مجازا من باب إطلاق اسم السبب على المسبب ( ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها ، ولذلك أمر بالاغتسال منه فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة ) لأن المادة التي تنفصل منه أصل حياته
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره فطهره بالغسل ليرجع بالنظر إليه فيمن فنى فيه إذ لا يكون إلا ذلك ، فإذا شاهد الرجل الحق في المراة كان شهوده في منفعل ، وإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرآة عنه شاهده في فاعل ، وإذا شاهده من نفسه من غير استحضار صورة ما تكون عنه كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل ، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل ومن نفسه هو منفعل خاصة ، فلهذا أحب صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن ، إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا ، فإن الله تعالى بالذات غنى عن العالمين ، فإذا كان الامر من هذا الوجه ممتنعا ، ولم تكن الشهادة إلا في مادة فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله ) .
أي في حالة النكاح لأنه في منفعل حالة انفعاله عن فاعل مع كونهما واحدا في الحقيقة الأحدية ، فإن النكاح من العارف المشاهد جامع شهود الحق منفعلا في عين كونه فاعلا فعلا في انفعال وانفعالا في فعل .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأعظم الوصلة النكاح ، وهو نظير التوجه الإرادى على من خلقه على صورته ليخلقه فيرى فيه صورته بل نفسه فسوّاه وعدله ونفخ فيه من روحه الذي هو نفسه فظاهره خلق وباطنه حق ) بطريق السببية بذلك الفعل والانفعال .
"" أضاف بالي زاده :-
وأعظم الوصلة النكاح : أي الجماع الحلال ، وهو بالنكاح أو الملك إذ بدونهما لا روح له فلا يشاهد الحق فيه أبدا ، لذلك حرم الزنا في جميع الأديان  .أهـ بالى زاده ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا وصفه ) أي وصف الله تعالى نفسه ( بالتدبير لهذا الهيكل ، فإنه تعالى :"يُدَبِّرُ الأَمْرَ من السَّماءِ " وهو العلو إلى الأرض ، وهو أسفل السافلين لأنها أسفل الأركان كلها ) وإنما قال ظاهره خلق وباطنه حق لأن الهوية المتعينة في عالم الغيب بصورة الروح باطنا ، تدبر الصورة الظاهرة وتصورها وتظهر فيها ، وهو بعينه صورة التدبير لهذا الهيكل المسمى عالما ، فإنه تنزلات خمسة للذات الأحدية إلى عالم الشهادة أي عالم الحس الذي هو آخر العالم في صورة الفعل والانفعال ، ولهذا شبهوها بالنكاح وسموها النكاح الخمسة ، وهو حقيقة واحدة في الفعل والانفعال ظاهرها العالم وباطنها الحق ، والباطن يدبر الظاهر ، وفي الحقيقة هو الظاهر والباطن ، فإن التنزلات ليست إلا تعينات وشئونا للذات الأحدية في الصور الأسمائية المؤثرة في صورها المتأثرة :
أولها : تجلى الذات في صور الأعيان الثابتة الغير المجعولة وهو عالم المعاني .
وثانيها : التنزل من عالم المعاني إلى التعينات الروحية ، وهي عالم الأرواح المجردة .
وثالثها : التنزل إلى التعينات النفسية ، وهي عالم النفوس الناطقة .
ورابعها : التنزلات المثالية المتجسدة المتشكلة من غير مادة وهي عالم المثال وباصطلاح الحكماء عالم النفوس المنطبقة ، وهو بالحقيقة خيال العالم .
فما أحبهن : أي فإذا راعى مرتبتهن في الوجود حيث 
وخامسها : عالم الأجسام المادية ، وهو عالم الحس وعالم الشهادة ، والأربعة المتقدمة مراتب الغيب وكل ما هو أسفل فهو كالنتيجة لما هو أعلى الحاصلة بالفعل والانفعال ، ولهذا شبهت بالنكاح وذلك عين تدبير الحق تعالى للعالم.


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وسماهن بالنساء وهو جمع لا واحد له من لفظه ولذلك قال « حبب إلىّ من دنياكم ثلاث النساء » ولم يقل المرأة ، فراعى تأخرهن في الوجود عنه فإن النساء هي التأخير قال تعالى :" إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ في الْكُفْرِ "  والبيع بنسيئة تقول بتأخير فلذلك ذكر النساء ) يعنى راعى فيه معنى التأخير بلسان الإشارة لا العبارة كما ذكر في السجن فلا يلزم الاشتقاق
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما أحبهن إلا بالمرتبة ، وإنهن محل الانفعال فهن له كالطبيعة للحق التي فتح الله فيها صور العالم بالتوجه الإرادى والأمر الإلهي الذي هو النكاح في عالم الصور العنصرية ، وهمة في عالم الأرواح النورية ، وترتيب مقدمات في المعاني للإنتاج ، وكل ذلك نكاح الفردية الأولى في كل وجه من هذه الوجوه ، فمن أحب النساء على هذا الحد فهو حب إلهي ، ومن أحبهن على جهة الشهوة الطبيعية خاصة نقصه علم هذه الشهوة فكان صورة بلا روح عنده وإن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذات روح ولكنها غير مشهودة لمن جاء لامرأته أو لأنثى حيث كانت لمجرد الالتذاذ لكن لا يدرى لمن ، فجهل من نفسه ما يجهل الغير منه ما لم يسمه هو بلسانه حتى يعلمه ) أي جهل أنه من هو كما يجهله غيره
حتى يخبره أنى فلان فيعرفه
"" أضاف بالي زاده :-
قال النساء علم أنه ما أحبهن إلا بالمرتبة ، بخلاف ما لو قال المرأة ، فإنه لا تفيد ما أفاد به النساء لجواز أن يحبهن لقضاء الشهوة لعدم وجود ما روعي في النساء .أهـ بالى زاده 

فكان غناؤه وفاعليته الأولية مسببا عن تلك الدرجة ، فإن الصورة المخلوقة على صورة فاعل ثان لأنه متصرف العالم خلافة عن الله فما له الإلهية التي للحق ، فتميز الحق عنه بالمرتبة فتميزت الأعيان عن الحق بالمراتب ، وتميز بعضها عن بعض بحصة معينة فأعطى كل ذي حق حقه بلا نقص وزيادة ، متخلفا بتخلف إلهي وهو عين حقه فاقتضى عين محمد حبهن فأعطى الله حقه فأحبهن ، فاقتضت أعيان النساء أن يحبهن الرجل فأعطى محمد حقهن مما أعطاه له فكل عارف أعطى كل ذي حق حقه ،
وهذا معنى قوله : فما أعطاه : أي فما أعطى الحق الحب لمحمد إلا باستحقاق استحقه : أي حبهن .أهـ بالى زاده
 
وذلك سريان آخر فإن الطبيعة تسرى في وجود الأرواح بالذات والنفس الرحماني يسرى بسريان الطبيعية الجوهرية  .أهـ بالى زاده ""
 
( كما قال بعضهم :
صح عند الناس أنى عاشق  ..... غير أن لم يعرفوا عشقى لمن
كذلك هذا إذا أحب الالتذاذ فأحب المحل الذي يكون فيه وهو المرأة ، ولكن غاب عنه روح المسألة ، فلو علمها العلم بمن التذ ومن التذ وكان كاملا )
أي لو علم علما شهودا بحيث شهد الحق في تلك الحالة شهودا أحديا جمعيا عين الفاعل والمنفعل مع عدم انحصاره في تعينهما أو في تعين الكل ولا تجرده عن الجميع ، بل مطلقا عن هذه العبارات كان حينئذ هو الرجل الكامل الملتذ بالحق في كل شيء .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله تعالى :"  ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ " نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته فتلك الدرجة التي تميز بها عنه بها كان غنيا عن العالمين وفاعلا أولا ، فإن الصورة فاعل ثان فما له الأولية التي للحق ) أي ليست له الأولية المطلقة الأزلية التي للحق .
 
( فتميزت الأعيان بالمراتب فأعطى "كل شيء خلقه" كما أعطى كل ذي حق حقه كل عارف ، فلهذا كان حب النساء لمحمد صلى الله عليه وسلم عن تحبيب إلهي ، وأن الله أعطى كل شيء خلقه ، وهو عين حقه ، فما أعطاه إلا باستحقاق استحقه بمسماه : أي بذات ذلك المستحق ) .
يعنى أن الحق لما تعين في كل متعين من كل روح عارف وغير عارف بل في كل شيء أعطى كل ذي حق ومرتبة ما يستحقه بحقيقته وعينه ، فأعطى المنفعل خلقه في انفعاله ، وتأخره في الدرجة وهو حقه ، وأعطى الفاعل خلقه كذلك في فاعليته وتقدمه وذلك حقه ، وأعطى العارف بذلك شهود الحق في الكل والالتذاذ به وهو خلقه وحقه ، وأعطى غير العارف خلقه وهو صورة الالتذاذ بلا روح عنده وذلك حقه ، وقس على ذلك كل شيء .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما قدم النساء لأنهن محل الانفعال كما قدمت الطبيعة على من وجد منها بالصورة ، وليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفس الرحماني ، فإنه فيه انفتحت صور العالم أعلاه وأسفله لسريان النفخة في الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام خاصة ، وأما سريانها الوجود الأرواح النورية والأعراض فذلك سريان آخر ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام غلب في هذا الخير التأنيث على التذكير لأنه قصد التهمم بالنساء ، فقال : ثلاث ، ولم يقل ثلاثة بالهاء التي هو لعدد الذكران ، إذ وفيها ذكر الطيب ) أي فيها ذكر النساء ، وفيها ذكر الطيب .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهو مذكر وعادة العرب أن تغلب التذكير على التأنيث ، فتقول : الفواطم وزيد خرجوا ولا تقول خرجن ، فغلبوا التذكير وإن كان واحدا على التأنيث وإن كن جماعة وهو عربى ، فراعى صلى الله عليه وسلم المعنى الذي قصد به في التحبب إليه ما لم يكن يؤثر حبه ) أي ما لم يكن يختار حبه ، أي ليس يحبهن إياهن بنفسه ، بل بتحبيب الله إياهن إليه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فعلمه الله ما لم يكن يعلم ، وكان فضل الله عليه عظيما ، فغلب التأنيث على التذكير بقوله ثلاث بغير هاء ، فما أعلمه صلى الله عليه وسلم بالحقائق ، وما أشد رعايته للحقوق . ثم إنه جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث وأدرج بينهما المذكر فبدأ بالنساء وختم بالصلاة وكلتاهما تأنيث ، والطيب بينهما كهو في وجوده ، فإن الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها وبين امرأة ظهرت عنه فهو بين مؤنثين تأنيث ذات وتأنيث حقيقي ، كذلك النساء تأنيث حقيقي والصلاة تأنيث غير حقيقي ، والطيب مذكر بينهما ، كآدم بين الذات الموجود هو عنها وبين حواء الموجودة عنه ، وإن شئت قلت الصفة فمؤنثة أيضا ، وإن شئت قلت القدرة فمؤنثة أيضا ، فكن على أي مذهب شئت ، فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدم حتى عند أهل العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم ، والعلة مؤنثة ) .
يعنى أنه صلى الله عليه وسلم ما غلب التأنيث على التذكير مع كونه أفصح العرب العرباء من سرة البطحاء إلا لكمال عنايته برعاية الحقوق بعد بلوغ النهاية بتحقيق الحقائق ،
 
وذلك أن أصل كل شيء يسمى الأم لأن الأم يتفرع عنها الفروع ألا ترى قوله :" وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً ونِساءً " وهي مؤنثة مع أن النفس الواحدة المخلوق منها أيضا مؤنثة ، وكذلك أصل الأصول الذي ليس فوقه فوق يعبر عنه بالحقيقة ، كما سأل كميل بن زياد إلى علي رضي الله عنه ما الحقيقة ؟
فقال : ما شأنك والحقيقة ثم عرفها له في حديث طويل ، وكذا العين والذات « تباركت وتعاليت » وكل هذه الألفاظ تؤنث فمراده من التغليب الاعتناء بحال النساء لما فيها من معنى الأصالة للتفرع كما في الطبيعة بل في الحقيقة ، فإن الحقيقة وإن كان أبا للكل لأنه الفاعل المطلق ، فهي أم أيضا لأنها الجامعة بين الفعل والانفعال فهي عين المنفعل في صورة المنفعل،
كما أنها عين الفاعل في صورة الفاعل لأنها بحقيقتها تقتضي الجمع بين التعين واللا تعين فهي المتعينة بكل تعين ذكرا وأنثى كما أنها هي المنزهة عن كل تعين ، ومن حيث أنها متعينة بالتعين الأول فهي العين الواحدة المقتضية للاستواء والاعتدال بين الفعل والانفعال والظهور والبطون ، وهي من حيث أنه الباطن في كل صورة فاعل ،
ومن حيث أنه الظاهر ينفعل كما مر في الروح ومدبريته للجسم ، وقد شهد التعين الأول بظهوره لذاته بلا تعينها وإطلاقها لأن التعين بذاته مسبوق باللاتعين ، فإن الحقيقة من حيث هي هي متحققة في كل متعين فاقتضى التعين أن يكون مسبوقا باللاتعين بل كل متعين فهو باعتبار الحقيقة مع قطع النظر عن القيد مطلق فالمتعين مستند إلى المطلق متقوم به فهو منفعل من حيث ذلك الأصل المطلق ومظهر له وذلك الأصل فاعل فيه مستتر فهو منفعل من حيث أنه متعين من نفسه من حيث أنه مطلق مع أن العين واحدة ، وإن اعتبرنا التعين بمعنى سلب التعين وهي الماهية أو الحقيقة بشرط لا شيء في اصطلاح العقلاء فإن تعقلها من تلك الحيثية موقوف على التعين في التعين في العالم فهو في العلم منفعل التعين والتحقق عن المتعين بالتعين الأول ، فإن اعتبرنا الحقيقة مطلقة عن التعين،
 
واللا تعين فلها السبق عليهما ، وهما أعنى التعين واللا تعين بمعنى السلب مسبوقان منفعلان عنها ، فإنهما نسبتان لها متساويتان ، والحقيقة تظهر بالتعين الأول عن بطونها الذاتي إلى شهادتها الكبرى الأولى ،
وكل ينزل من منازل التنزلات الخمسة ظهور بعد بطون وشهادة بعد غيب ، كل مظهر ومجلى من حيث كونه معينا ومقيدا للمطلق فاعل فيه ، فصح من هذا الوجه للمتعين والتعين الفعل والتأثير في الحقيقة من هذا الوجه للمتعين فالحقيقة أينما سلكت وفي أي وجه ظهرت فلها الفعل والانفعال والأبوة والأمومة ، فلهذا صح التأنيث في الحقيقة والعين والذات والبرزخ الجامع الذي هو آدم الحقيقي مذكور بين مؤنثين ،
 
فأظهر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسرار من حيث أوتى جوامع الكلم في جميع أقواله وأفعاله ، وراعى الفردية الأولى في الكل وألفاظ الكتاب ظاهرة ، وأما الصفة والقدرة فبناء على مذهب الأشاعرة في كون الصفات زائدة على الذات بالوجود ، وكونها متوسطة بين الذات والفعل : أي الخلق .
 
وأما العلة فعلى مذهب الحكماء أو ردها لبيان التثليث في الكل ، ووقوع الذكر بين انثيين في جميع المذاهب .

 
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:08 pm

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية الجزء الثاني .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي 

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر  

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما حكمة الطيب وجعله بعد النساء لما في النساء من روائح التكوين ، فإن أطيب الطيب عناق الحبيب كذا قالوا في المثل السائر ، ولما خلق ) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عبدا بالأصالة لم يرفع رأسه قط إلى السيادة بل لم يزل ساجدا خاضعا واقفا مع كونه منفعلا حتى كوّن الله عنه ما كون فأعطاه رتبة الفاعلية في عالم الأنفاس التي هي الأعراف الطيبة ، فحبب إليه الطيب فلذلك جعله بعد النساء فراعى الدرجات التي للحق في قوله تعالى:" رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ " لاستوائه عليه باسم الرحمن ).
يعنى لما كان عليه الصلاة والسلام متعينا بالتعين الأول منحصرا في برزخيته منفعلا عن الحقيقة عبدا مقيدا في تعينه ظاهرا في خلقيته ، وإن كان جامعا للحقية والخلقية والوجوب والإمكان ، لكن الغالب عليه حكم الخلقية والإمكان ، لم يرفع رأسه إلى السيادة مراعيا للأدب مع الله ، غير مجاوز حد مرتبته في العبودية ساجدا لله غير متكبر ، لأنه غاية التذلل في مقابلة كمال العظمة وصورة الفناء الذي هو من لوازم الإمكان وأحكامه ،
 
واقفا في مقام الانفعال الذي هو حق الممكن وخاصيته بالأصالة ، فإن أصله عدم ثم انفعال من حيث ثبوت عينه من موجده بإيجاده حتى آتاه الله الفعل والتأثير لما فيه من الحقية ، وغلب فيه حكمها على أحكام الخلقية ، وأظهر أحكام الوجوب فتساوى فيه طرف الفعل والانفعال " فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ " الوجوب والإمكان ، وفوض إليه الفاعلية بحكم الخلافة والسيادة الكبرى في عالم الأنفاس لكونه أوتى جوامع الكلم ،
وهي هيئات اجتماعية بحقائق الحروف الأولية : أي المعاني المنفردة الجنسية والفصلية ، والصفات العارضة التي يتركب منها الماهيات المسماة كلمات : أي الحقائق الظاهرة بالوجود الخارجي ، فإن الأنفاس فيضان الوجودات على الحقائق النوعية المتعينة بالتعينات الشخصية حتى يتحقق بالتكوين ،
فنسائم التكوين هي الأنفاس والأعراف : أي الروائح الطيبة ، فعند ذلك حبب له الطيب فلذا أخره عن النساء تنبيها على أن النفس متأخر عن الأصل المتنفس الذي هو الأم ، أي التعين الأول .
وأول ما ظهر عن هذه الأم ، المسماة أم الكتاب باعتبار هو النفس الذي نفس الله به عن الحقائق التي هي أحرف هذا الكتاب وكلماته فظهرت به فهو مسبوق بالمتنفس بذلك النفس ،
 
"" أضاف بالي زاده :-
ذو العرش لاستوائه : أي استواء النبي العرش باسم الرحمن ، فإن العرش مخلوق من العقل الأول الذي هو روحه عليه الصلاة والسلام فكان عليه الصلاة والسلام ذا العرش ، فإن الدرجات كما تنسب إلى الحق تنسب إليه عليه الصلاة والسلام تبعا لا أصله ، فإذا استوى على العرش فلا يبقى فيمن حوى  .أهـ بالى زاده ""
 
فراعى الدرجات التي للحق في قوله :" رَفِيعُ الدَّرَجاتِ " فقدم درجة المتنفس الذي هو اسم الله الرحمن المستوي على العرش ، وبهذا الاستواء وصفه بقوله :" ذُو الْعَرْشِ " ولما كانت الأسماء نسبا ذاتية موقوفة على المسمى غير أو سوى وسمت بالعبدانية ، فإنها من الحضرة الإمكانية لتوقف وجودها على وجود الغير فراعى أولا طرف العبدانية في نفسه الشريفة التي هي النسمة المباركة ومظهر الاسم الرحمن ،
ثم عند ترقبه في الدرجات حتى بلغ مبلغ ما أعده الله له من الكمال على ما ذكر قال " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " وذلك عند شمول رحمته للكل ، وحين خوطب " وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ " فإن الرحمن الذي هو مظهره عام الفيض بالنسبة إلى الكل فصح قوله : لولاك لما خلقت الأفلاك ، فإنها من كريم أنفاسه المذكورة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا يبقى فيمن حوى عليه العرش من لا تصيبه الرحمة الإلهية ، وهو قوله تعالى :" ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ " والعرش وسع كل شيء والمستوي عليه الرحمن ، فبحقيقته يكون سريان الرحمة في العالم كما قد بيناه في غير موضع من هذا الكتاب ومن الفتوح المكي ، وقد جعل الطيب تعالى في هذا الالتحام النكاحى في براءة عائشة رضي الله عنها فقال :" الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ والْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ والطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ والطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ " فجعل روائحهم طيبة لأن القول نفس ، وهو عين الرائحة فيخرج بالطيب وبالخبيث على حسب ما يظهر به في صورة النطق ، فمن حيث هو إلهي بالأصالة كله طيب فهو طيب ، ومن حيث ما يحمد ويذم فهو طيب وخبيث ) .
 
قوله  وجعل الطيب : أي استعمل تعالى في براءة عائشة فجعل الطيب المحض المخصوص بالالتحام النكاحى حاصلا في براءتها ، على أن قوله في هذا الالتحام صفة للطيب ،
وقوله في براءة مفعول ثان لجعل : أي جعل الله الطيب الواقع في هذا الالتحام النكاحى كائنا في براءتها ، لأنه تعالى خص الطيبين بالطيبات في الالتحام النكاحى والطيبات بالطيبين ، وكذا في الخبيثين والخبيثات ، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم أطيب الطيبين فلزم طيب من اختص به في هذا الالتحام ، وانتفاء الخبث عنها بشهادة الله تعالى وبراءتها ، فجعل دولتهم طيبة فتكون روائحهم طيبة وتكون أقوالهم طيبة ، لأن القول نفس والنفس عين الرائحة ، فإنه نكهة فتكون أفعالهم طيبة لأن الأصل الطيب لا يصدر عنه إلا الطيب " والَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً "  فالطيب والخبث صفتان متقابلتان عارضتان للنفس بحسب المحل فالنفس من حيث هو نفس أمر إلهي بالأصالة فيكون طيبا بالذات لكنه بحسب المحل الخبيث قد يحصل هيئة طيبة فيصير أطيب ، فترتب المدح والذم على النفس بحسب هاتين الهيئتين في النطق ، ألا يرى أن نفس النائم لا يحمد ولا يذم ، وهو طيب في نفسه إما بحسب صورة النطق فمنه طيب ومنه خبيث
 
"" أضاف بالي زاده :-
والمستوي عليه الرحمن فكان العرش مظهر الرحمن ، يظهر منه فيض الرحمن على ما تحته من الموجودات ، فبحقيقته : أي بحقيقة اسم الرحمن يكون سريان الرحمة في العالم   .أهـ بالى زاده ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فقال في خبث الثوم هي شجرة أكره ريحها ولم يقل أكرهها فالعين لا تكره ) لأنه أمر إلهي وكذلك النفس ( وإنما يكره ما يظهر منها ، والكراهة لذلك إما عرفا أو بملاءمة طبع أو عرض أو شرع أو نقص عن كمال مطلوب ، وما ثم غير ما ذكرناه )
فلذلك قد يكون المدح والذم في الرائحة والنفس بحسب القابل والشام والسامع ، لا من جهة المحل : أي الرائحة والمنفس ، فقد يكون القول في نفسه طيبا ، ويكرهه السامع لأنه لا يوافق غرضه ، وكذلك الرائحة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما انقسم الأمر إلى خبيث وطيب كما قررناه حبب إليه الطيب دون الخبيث ) لمناسبته لذاته الطيبة الطاهرة ( ووصف الملائكة بأنها تتأذى بالروائح الخبيثة لما في هذه النشأة العنصرية من التعفين فإنه مخلوق من صلصال من حمأ مسنون ) أي متغير الريح ( فتكره الملائكة بالذات ) لأنه لا بد لهذه النشأة من العفونات والفضلات المنتنة فلا تناسب ذواتهم المجردة الطيبة الطاهرة ، ولذلك أمرنا بطهارة الثوب والجسد ودوام الوضوء لتناسب ذواتنا الذات الملكوتية ، ولذا يحب خبيث الجوهر الخبائث ويكره الطيبات.
 
"" أضاف بالي زاده :-
فتكره الملائكة بالذات لعدم ملاءمة طبعهم فتكره عين الإنسان لهم لما ظهرت منه من تعين الريح فيتضرر مزاج الملائكة دون غيرهم   .أهـ بالى زاده 
 
والإنسان على الصورتين : أي مخلوق على صورتي الحق والعالم ، والصورة ما يمتاز به الشيء عن غيره ، والمطلوب هنا أن العالم والإنسان على صورة أسمائه وصفاته فيكون فيهما الاختلاف والتنافي ، فإنه تعالى يحب الشيء ويكرهه لا في مقام جمعه فيوجد فيهما الطيب والخبيث   .أهـ بالى زاده ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما أن مزاج الجعل يتضرر برائحة الورد وهي من الروائح الطيبة ، فليس ريح الورد عند الجعل بريح طيبة ، ومن كان على مثل هذا المزاج معنى وصورة أضر به الحق إذا سمعه وسر بالباطل ، وهو قوله تعالى :" والَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وكَفَرُوا بِالله " ووصفهم بالخسران فقال :" أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ " ،   "الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ " فإنه لم يدرك الطيب من الخبيث ) أي لم يميزه منه ( فلا إدراك له ، فما حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الطيب من كل شيء ، وما ثم إلا هو ) أي وما بحضرته إلا هو : أي الطيب ( وهل يتصور أن يكون في العالم مزاج لا يجد إلا الطيب من كل شيء لا يعرف الخبيث أم لا ؟ قلنا : هذا لا يكون ) إلا إذا انحرف عن الاعتدال الطبيعي وآل إلى مزاج مرضى ، كما أن بعض من انحرف مزاجه يجد من كل شيء رائحة الدخان والعفونة في هذا الإدراك والتمييز
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنا وجدناه في الأصل الذي ظهر العالم منه وهو الحق فوجدناه يكره ويحب ، وليس الخبيث إلا ما يكره ولا الطيب إلا ما يحب ، والعالم على صورة الحق ، والإنسان على الصورتين فلا يكون ، ثم مزاج لا يدرك إلا الأمر الواحد من كل شيء بل ثم مزاج يدرك الطيب من الخبيث مع علمه بأنه خبيث بالذوق وطيب بغير الذوق فيشغله إدراك الطيب منه عن الإحساس بخبثه هذا قد يكون ، وأما رفع الخبيث من العالم : أي من الكون فإنه لا يصح )
يعنى رفع الخبيث عن الإدراك بالذوق فإن الطبائع مختلفة ، وليس الطيب إلا ما يلائم مزاج المدرك وطباعه ، والخبيث ما لا يلائم مزاجه وطبعه ، وكل طيب بالنسبة إلى مدرك فقد يكون خبيثا بالنسبة إلى مريض ومزاجه مزاج الذي يستطيبه ويستلذه كما ذكر في رائحة الورد مع الجعل ، فالطيب والخبيث أمران نسبيان ، فإن المبرود يكره رائحة الكافور والمحرور يستطيعه ، فلا يصح رفع الخبيث عن الكون بالنسبة إلى صور الأسماء المتضادة المؤثرة في العالم ، فأما من حيث أعيان الأشياء وحقائقها من حيث هي هي ، من حيث أن الوجود الحق هو المتعين بكل شيء فليس شيء في العالم خبيثا . وأما كون بعض الأمور طيبا عند الحق وبعضه خبيثا عنده فذلك من حيث تعين ذلك الشيء في مرتبة ما فيطيب منه ما يشكل مرتبة ويناسبها في الحال ، ويكره منه ما يضادها وينافيها بحسب الحال ، والكل من حيث هو هو طيب له أي لله عنده وعند نفسه أيضا وكذلك عند الكامل العارف وإن وجد خبثه بحسب الحال والمرتبة في الحس كما ذكره ، فإن إدراكه ووجدانه لطيبة من هذه الحيثية يشغله عن إدراك خبثه بالحس
 
فلذلك قال ( ورحمة الله في الخبيث والطيب ) أي حاصلة فيهما بالنسبة والإضافة ، وبالنظر إلى ذات كل واحد منهما (والخبيث عند نفسه طيب والطيب عنده خبيث ، فما ثم شيء طيب إلا وهو من وجه في حق مزاج ما خبيث ، وكذلك بالعكس ) كما مر آنفا .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  (وأما الثالث الذي به كملت الفردية فالصلاة ، فقال « وجعلت قرة عيني في الصلاة » لأنها مشاهدة ) لأن عين الحبيب إنما تكون بمشاهدة الحبيب ( وذلك لأنها ) أي الصلاة ( مناجاة بين الله وبين عبده كما قال الله تعالى :" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " وهي عبادة مقسومة بين الله وبين عبده بنصفين فنصفها لله ونصفها للعبد ، كما ورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى أنه قال قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد : بسم الله الرحمن الرحيم ، يقول الله : ذكرني عبدي ، يقول العبد :
الحمد لله رب العالمين ، يقول الله حمدني عبدي ، يقول العبد : الرحمن الرحيم ، يقول الله أثنى على عبدي ، يقول العبد : مالك يوم الدين ، يقول الله : مجدنى عبدي فوض إلى عبدي فهذا النصف كله لله تعالى خالص ، ثم يقول العبد : إياك نعبد وإياك نستعين ، يقول الله هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل « فأوقع الاشتراك في هذه الآية » يقول العبد  اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ، ولا الضالين ، يقول الله : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل فخلص هؤلاء لعبده كما خلص الأول لله تعالى فعلم من هذا وجوب قراءة الحمد لله رب العالمين فمن لم يقرأها فما صلى الصلاة المقسومة بين الله وبين عبده )   .


كما قال عليه الصلاة والسلام « لا صلاة إلا بالفاتحة الكتاب » وكذلك علم من هذا الحديث الصحيح أن البسملة جزء من الفاتحة ، بل من الصلاة لأن الفاتحة هي الصلاة المقسومة وقد عد البسملة قسما منها وقد بين الله في الفاتحة الفردية الأولى التي خص بها محمد صلى الله عليه وسلم وبنى الوجود عليها أعنى التثليث ، لأن القسم الأول مختص بالحق ، والأخير بالعبد ، وما بينهما مشترك بين الحق والعبد .
"" أضاف عبد الرحمن جامي :-
لأنها أي الصلاة إذا وقعت على وجه الكمال ، كما قال علي رضي الله عنه : لم أعبد ربا لا أراه مشاهدة ومشاهدة المحبوب تقر عين المحب ، وذلك : أي كونها مشاهدة لأنها مناجاة بين الله وبين عبده ، ولا بد في المناجاة من مشاهدة كل من الطرفين لمناجاة الآخر ، ولأن المناجاة ذكر ، والمناجى ذاكر لربه ، والذاكر جليس المذكور ، والجليس مشاهد للجليس الآخر ، وكون المناجاة بين الله وبين عبده ككون الذكر بينهما ، كما قال تعالى:" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ "   وهي : أي الصلاة عبادة مقسومة . أهـ عبد الرحمن جامي""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولما كانت الصلاة مناجاة فهي ذكر ، ومن ذكر الحق فقد جالس الحق وجالسة الحق ، فإنه صح في الخبر الإلهي أنه تعالى قال أنا جليس من ذكرني ومن جالس من ذكره وهو ذو بصر رأى جليسه فهذه مشاهدة ورؤية فإن لم يكن ذا بصر لم يره ، فمن هنا يعلم المصلى رتبته ، هل يرى الحق هذه الرؤية في هذه الصلاة أم لا ؟ فإن لم يره فليعبده بالإيمان كأنه يراه متخيله في قبلته عند مناجاته ، ويلقى السمع لما يرد به عليه من الحق ، فإن كان إماما لعالمه الخاص به وللملائكة المصلين معه ، فإن كل مصل فهو إمام بلا شك ، فإن الملائكة تصلى خلف العبد إذا صلى وحده ، كما ورد في الخبر )   ،
وكما بين في غير موضع أن كل جزء من العالم موجود في الإنسان إما بصورته كالعناصر ، وإما بحقيقته وعينه كالأفلاك وسائر الأشياء ، فيكون العالم فيه والملائكة قواه الطبيعية والنفسانية والروحانية ( فقد حصل له رتبة الرسول في الصلاة ، وهي النيابة عن الله تعالى ) فقوله قد حصل له جواب الشرط
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فيخبر عن نفسه ومن خلفه بأن الله قد سمعه ، فتقول الملائكة والحاضرون : ربنا لك الحمد ، فإن الله تعالى قال على لسان عبده :  سمع الله لمن حمده ، فانظره علو رتبة الصلاة وإلى أين تنتهي بصاحبها ، فمن لم يحصل درجة الرؤية في الصلاة فما بلغ غايتها ولا كان له فيها قرة عين لأنه لم ير من يناجيه ، فإن لم يسمع ما يرد من الحق عليه فيها فما هو ممن ألقى السمع ، ومن لم يحضر فيها مع ربه مع كونه لم يسمع ولم يره فليس بمصلّ أصلا ، ولا هو ممن ألقى السمع وهو شهيد )
اعلم أن الرؤية والسماع والشهود من العبد المصلى للحق ، قد يكون بقوة الإيمان واليقين حتى يكون خاتمة اليقين منه بمثابة الإدراك البصري والسمعي ، أعنى في قوة الضروريات والمشاهدات ،
وقد يكون ببصر القلب : أي نور البصيرة والفهم ، أعنى بنور تجليات الصفات الإلهية للقلب حتى صار العلم عيانا ،
وقد يكون بالرؤية البصرية فيتمثل له الحق متجليا مشهودا له قاسما للصلاة بينه وبين عبده ، وقد يجمع الله هذه كلها لعبده الكامل الأوحدي ،
وقد يختص كل واحد منهم ، اللهم اجعلنا من الجامعين الذين جمعت لهم كلمات الأولين والآخرين من المحمديين البالغين السابقين برحمتك يا أرحم الراحمين .
 
( وما ثم عبادة تمنع من التصرف في غيرها ما دامت ) أي ما بقيت بمعنى ما ثبتت واستقرت ، وهي قوله :" ما دامَتِ السَّماواتُ والأَرْضُ " فتكون تامة لا ناقصة .
"" أضاف بالي زاده :-
فكانت الفردية الثلاثة في الصلاة مرتبة الحضور ، وهي أدنى مرتبة الصلاة ، ومرتبة السمع ، ومرتبة الرؤية وبدون هذه الثلاثة لا يتم أداء الصلاة  .أهـ بالى زاده ""



قال الشيخ رضي الله عنه :  ( سوى الصلاة ، وذكر الله فيها أكبر ما فيها لما تشتمل عليه من أقوال وأفعال وقد ذكرنا صفة الرجل الكامل في الصلاة الفتوحات المكية كيف يكون لأن الله يقول " إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والْمُنْكَرِ "لأنه شرع للمصلي أن لا يتصرف في غير هذه العبادة ما دام فيها ، ويقال له : مصل ، ولذكر الله أكبر ، يعنى فيها : أي الذكر الذي يكون من الله لعبده حين يجيبه في سؤاله والثناء عليه أكبر من ذكر العبد ربه فيها ، لأن الكبرياء لله تعالى ، ولذلك قال :" والله يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ " وقال :" أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ " وإلقاؤه السمع هو لما يكون من ذكر الله إياه فيها ، ومن ذلك أن الوجود لما كان عن حركة معقولة نقلت العالم من العدم إلى الوجود عمت الصلاة جميع الحركات وهي ثلاثة : مستقيمة ، وهي حال قيام المصلى ) .
المراد بالحركة المستقيمة ليس ما عدا المستديرة كما هو اصطلاح الحكماء ، بل التي تكون من جهة السفل إلى العلو على أحسن التقويم ، وهو ما يضاد المنكوسة .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وحركة أفقية وهي حال ركوع المصلى وحركة منكوسة وهي حال سجوده ، فحركة الإنسان مستقيمة ، وحركة الحيوان أفقية ، وحركة النبات منكوسة وليس للجماد حركة من ذاته فإذا تحرك حجر فإنما يتحرك بغيره )
والمراد بهذه الحركات ، الحركات الطبيعية المحسوسة : أي التوجه من الشيء في حركته إلى جهته ، وإلا فقد يتحرك الإنسان بالإرادة حركة دورية لكنه ليس يتحرك بالطبع في نموه إلا على استقامة قامته بحيث يصعد رأسه إلى السماء كالحركة المعراجية ، والحيوان يتحرك في نموه بالطبع إلى جهة الأفق ، والنبات يتحرك بطبعه في نموه منكوسا ، فإن أصل النبات هو أصله الذي يوجهه نحو السفل ضد المستقيمة ، فحركات العالم في وجوده لا تكون إلا على هذه الأنحاء الثلاثة ،
وكذلك حركات الوجود الكوني المعقولة من حقيقة العالم التي خرجت بها من الغيب إلى الشهادة على هذه الأنحاء ، وهي الحركة الإرادية من الحق بالتوجه إلى العالم السفلى لإيجاده وهو التكوين بالحركة المنكوسة وبالتوجه إلى العالم العلوي لإيجاد عوالم الأسماء الإلهية والنسب ، وهو الإبداع بالحركة المستقيمة وتندرج فيه الحركة الإرادية لإيجاد الأرواح والأنفس ،
وبالتوجه إلى الأجرام السماوية المتوسطة بينهما من الأفق إلى الأفق ، فإنها على هيئة الركوع حركة أفقية هذا في صلاة الحق المختصة به في التجلي الإيجاد ، وكذا في الصلاة العبد باتصاله وارتباطه بالحق بهذه الحركات الثلاث ، أي القيام والركوع والسجود هذا في أفعاله ، وأما في أقواله فقد مر في الفاتحة فانظر إلى سريان سر الفردية المحمدية بالتثليث في كل تطلع على عجائب :
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما قوله « وجعلت قرة عيني في الصلاة » ولم ينسب الجعل إلى نفسه ، فإن تجلى الحق للمصلي إنما هو راجع إليه تعالى لا إلى المصلى ، فإنه لو لم يذكر هذه الصفة عن نفسه لأمره بالصلاة على غير تجل منه له ، فلما كان منه ذلك بطريق الامتنان كانت المشاهدة بطريق الامتنان ، فقال « جعلت قرة عيني في الصلاة » وليس إلا مشاهدة المحبوب التي تقر بها عين المحب من الاستقرار فتستقر العين عند رؤيته فلا ينظر معه إلى شيء غيره في شيء وفي غير شيء )


 يعنى في شيء موجود تعلقت المشيئة بوجوده من قولهم ، كل شيء بمشيئة الله تعالى أي بمشيئته وغير شيء ما تتعلق به المشيئة من الأعيان والنسب والتجليات ، وإنما أخذ القرة من الاستقرار : أي القرار ، لأن من شاهد حبيبه استقرت عينه : أي ثبتت وقرت من القرار فلا تلتفت إلى غيره ، ولهذا يقال : قرير العين بمعنى المسرور ، فإن كل مسرور فسروره إنما هو بوصول مطلوبه فلا بد تولى غيره ،


وقيل : من القر أي البرد ، لأن السرور تبرد عينه والمغموم تسخن عينه ، لأن برودتها إنما يكون بسكونها وقرارها بالنظر إلى ما يسره وسخونها لحركتها واضطرابها في طلب ما يسره فهو لما ذكر تعليل الحركة بالخوف ، وفي الأصل معللة بالحب لكن المحجوب عند السبب القريب ، وأهل الكشف يذهبون إلى الأصل بخرق الحجب ، فالعبد إنما يكون قرير العين إذا شاهد عين حبيبه لقرار عينه بوجه الحق فلا يشاهد سواه ، ويفنى عن نفسه وعن كل ما يسمى سوى الحق في هذا الشهود فتقر عينه وتثبت ، وإنما يقال : قرت عينه تقر بفتح القاف إذا ابتهج برؤية ما يسره ، وقرير بكسر القاف إذا ثبت الفرق ، وهذا الشهود فوق اللقاء منتظر الموعود لأن اللقاء يقتضي الإثنينية وهذا يقتضي أحدية العين والله الأحد ، وأما تغيير النظم عن الأسلوب الطبيعي ، ولم يعطف الثالث وسلك طريقة أسلوب الحكيم وهو صلى الله عليه وسلم أفصح العرب ، تنبيهات على أن الثالث أعظم من الباقيين وهو المقصود بالقصد الأول ، فإن أجل المطلوب شهود المحبوب .
"" أضاف بالي زاده :-
لأنه لو لم يذكر الحق هذه الصفة عن نفسه بأن يقول الرسول : جعلت أنا قرة عينك في الصلاة ، ولم يذكر الحق بلسان نبيه لأمر الرسول بالصلاة على غير تجل منه ، أي من الحق للرسول  .أهـ بالى زاده
عن وجود العبد أي لا تظهر هذه الصلاة منه إلا بعد وجود العبد كما تتأخر رحمته عن شفاعة الشافعين في الآخرة  .أهـ بالى زاده ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك نهى عن الالتفات في الصلاة ، فإن الالتفات شيء يختلسه الشيطان من صلاة العبد فيحرمه مشاهدة محبوبه ، بل لو كان الحق محبوب هذا الملتفت ما التفت في صلاته إلى غير قبلته بوجهه )
البتة : يعنى لما كانت القبلة في الحقيقة وجه المحبوب ، والمحبوب ينبغي أن يتجليه في سمت قبلته لم يجز الالتفات في الصلاة إلى غير قبلته ، فإن وقع منه الالتفات في جهة القبلة من غير توجهه إلى جهة غير القبلة ، فإن الحق قد يعفو عنه لأنه في قبلته .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والإنسان يعلم حاله في نفسه ، هل هو بهذه المثابة في هذه العبادة الخاصة أم لا ، فإن الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره فهو يعرف كذبه من صدقه في نفسه لأن الإنسان لا يجهل حاله فإن حاله ذوقي ، ثم إن مسمى الصلاة له قسمة أخرى ، فإنه تعالى أمرنا أن نصلي له وأخبرنا أنه يصلى علينا فالصلاة منا ومنه ، فإذا كان هو المصلى فإنما يصلى باسمه الآخر فيتأخر عن وجود العبد ، وهو عين الحق الذي يخلقه العبد في قبلته بنظره الفكري أو بتقليده وهو إله المعتقد )
وفي نسخة الإله المعتقد بفتح القاف ، وهو أنسب لما بعده والمعنى واحد


قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويتنوع بحسب ما قام بذلك المحل من الاستعداد ، كما قال الجنيد حين سئل عن المعرفة باللَّه والعارف فقال : لون الماء لون إنائه ، فهو جواب ساد أخبر عن الأمر بما هو عليه فهذا هو الله الذي يصلى علينا ) 
المصلى هو التابع للمجلى إلى السابق ، وهو إشارة إلى أن التجلي بحسب المتجلى له ، فإن تعين الوجود الحق وظهوره في تجليه إنما يكون بحسب خصوص قابلية المتجلى له ،
كما أشار إليه الجنيد رضي الله عنه بقوله : لون الماء لون إنائه ، يعنى ليس للحق صورة معينة تسمى ، فيميزه السامع عن صورة أخرى كالماء لا لون له ، ولكن يتلون بحسب إنائه ، فإن الحق لذاته يقتضي الظهور بكل وصف ، والقبول لكل نعت بحسب الواصف والناعت والعالم به ، فإن كان العالم صاحب اعتقاد جزوي ظهر معتقده بحسب عقد معين ، ولم يتقيد في معرفته بحسبه فهو بالنسبة إلى كل اعتقاد على حكم معتقده ،
ومن لم يكن في علمه باللَّه بحسب عقد معين ، ولم يتقيد في معرفته وشهوده بعقيدة معينة دون غيره ، بل يكون علمه ومعرفته باللَّه وشهوده مطلقة بحيث لا شيء ولا صورة إلا وهو يرى للحق وجها فيه حقيقة بتجليه له في ذلك الشيء وتلك الصورة ، ويرى وجهه الوجود المطلق ،


كما قال قدس سره :
عقد الخلائق للإله عقائدا .... وأنا شهدت جميع ما اعتقدوه
فذلك هو العارف العالم الذي لا لون له فيستحيل الماء : أي ذلك اللون ، ويكسبه ما ليس له إلا فيه لا في نفسه ،
وقول الجنيد رضي الله عنه مشعر أن سائله لم يكن إلا صاحب عقد معين ، فأجابه بجواب كلى يفيد الكل معرفته بالمعرفة باللَّه فرقاه إلى ما فوق معتقده ، فإن من كان على ذكر صافيا لا لون له ظهر الحق له بحسبه كما هو تعالى في نفسه
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإذا صلينا نحن كان لنا الاسم الآخر فكنا فيه كما ذكرناه في حال من هو له هذا الاسم فنكون عنده بحسب حالنا ، فلا ينظر إلينا إلا بصورة ما جئناه بها ، فإن المصلى هو المتأخر عن السابق في الحلبة ) وذلك لأن مرآة الحق تظهرنا على ما نحن عليه فما نكون عنده إلا بحسب حالنا في صلاتنا ، ولو كنا فيه بحسبه فقد كملت صلاتنا كصلاة أهل الكمال الراسخين في العلم.
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وهو قوله تعالى :" كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَه وتَسْبِيحَه " أي رتبته في التأخر في عبادة ربه وتسبيحه الذي يعطيه من التنزيه استعداده ، فما من شيء إلا وهو يسبح بحمد ربه الحليم الغفور ) .
أي كل شيء قد علم رتبته في تأخر وجوده عن ربه بمظهريته له التي هي عبادته لربه ، وتسبيحه الخاص به بتنزيهه عما يخصه من الكمالات الإلهية ربه عن نقصه الذاتي لكل ممكن ، ونقصه الخاص به بمقتضى عينه وهو تقييده بأحكام عينه ، وقصور استعداده عن قبول جميع كمالات الوجود إلا ما يخصه من النقائص ،
وبحمده بما يظهر من الكمالات الثبوتية التي يقبلها من ربه الحليم الذي لا يعجل بعقوبة نقائصه ، الغفور الذي يستر نقائصه وظلمته الإمكانية وسيئات تقصيره عن قبول سائر الكمالات بنور وجوبه ، ووجود تجليات صفاته التي يظهر بما فيه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي ولأن لكل شيء تسبيحا يخصه ( لا نفقة تسبيح العالم على التفصيل واحدا واحدا ، ثم مرتبة يعود الضمير على العبد المسبح فيها في قوله :" وإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه " أي بحمد ذلك الشيء فالضمير الذي في قوله بحمده يعود على الشيء : أي بالثناء الذي يكون عليه ) .
يعنى : ثم إن في وجود كل شيء مرتبة فيها يعود الضمير في بحمده إلى العبد المسيح ، وذلك لأن لكل موجود مرتبة في الوجود المطلق ، والمقيد هو المطلق مع التعين الذي يقيده فله كمالات ومحامد مختصة به وكمالات يشترك فيها مع غيره ، فهو بالقسم الأول يحمد نفسه : أي هوية الحق المقيدة بقيد تعين ، وينزه عن النقائص التي يقابلها لأن تلك المحامد لا تظهر على الوجه الذي ظهرت فيه إلا منه وله لا من غيره ،
كما أنه بالقسم الثاني يحمد ربه : أي الهوية المطلقة فهو بلسان مرتبته يحمده بكمالاته المختصة عين وجوده الظاهر هو به ، بل يحمد بوجوده الخاص به عينه الثابتة التي هذه المحامد خواصها فيها فأظهرها الوجود الحق لها ووصفها به كما أنه بلسان هويته المطلقة يحمد ربها ، فليس الحمد والثناء إلا لله ومن الله في الحالين ، وكذلك في تسبيحه نزه نفسه عن النقائص الكونية المخصوصة بما عداه من الأشياء معينة
 
"" أضاف بالي زاده :-
الضمير المنصوب في يعطيه يرجع إلى الحق ، واستعداده ، فاعل يعطيه ، وضميره يرجع إلى الكل يحمد ربه ، الحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة المذنبين ، الغفور الذي يستر ذنوب العباد ، فكان لكل شيء تسبيح خاص لربه الخاص الحليم الغفور له  .أهـ بالى زاده ""
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( كما قلناه في المعتقد أنه إنما يثنى على الإله الذي في معتقده وربط نفسه به ، وما كان من عمله فهو راجع إليه فما أثنى إلا على نفسه ، فإنه من مدح الصنعة فإنما مدح الصانع بلا شك ، فإن حسنها وعدم حسنها راجع إلى صانعها ، وإله المعتقد مصنوع للناظر فيه فهو صنعته فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه ، ولهذا يذم معتقد غيره ولو أنصف لم يكن له ذلك ، إلا أن صاحب هذا المعبود الخاص جاهل بلا شك في ذلك لاعتراضه على غيره فيما اعتقده في الله ، إذ لو عرف ما قال الجنيد لون الماء لون إنائه ، لسلم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده وعرف الله في كل صورة وفي كل معتقد )
هذا تشبيه بحمد الشيء نفسه : أي في وجوده الخاص بلسان المرتبة بحمد المعتقد الإله الذي يعتقده ، فإن ذلك الحمد يرجع إلى نفسه لأن ذلك الإله من عمله وصنعته لأنه تخيله فهو مصنوع له والثناء على  الصنع ثناء على الصانع فهو يثنى على نفسه بذلك الثناء ،
إلا أن الأشياء بالطبع مثنية على أنفسها حامدة لها ولا تذم غيرها فهي عالمة بإلهها الذي تعين بأعيانها فهي عالمة بصلاتها وتسبيحها ، بخلاف الجاهل فإنه لاستحسانه صنعته ومحبته إياه يذم معتقد غيره ، وذلك لأن مصنوعه يلائمه ، ومصنوع غيره لا يلائمه فيذمه .
 
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهو ظان ليس بعالم فلذلك قال تعالى أنا عند ظن عبدي بي أي لا أظهر له إلا في صورة معتقده فإن شاء أطلق وإن شاء قيد ، قاله المعتقدات تأخذه الحدود فهو الإله الذي وسعه قلب عبده ، فإن الإله المطلق لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء وعين نفسه ، والشيء لا يقال فيه يسع نفسه ولا لا يسعها فافهم ، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل ) .
إنما قال تعالى أنا عند ظن عبدي لأنه بكل شيء محيط بأحديته المطلقة فلا بد أن يحيط بجميع الصور الحسية والخيالية والوهمية أو بالعقلية الظنية والعلمية ، فعلى أي وجه يكون ظن العبد في معتقده من تشبيه حسى أو خيالي أو وهمى أو تنزيه عقلي ، فاللَّه هو الظاهر بصورة معتقده ذلك ، ولا يظهر له إلا بتلك الصورة أطلق أو قيد ، والإطلاق ليس من شأن العقل وما دونه من المدركات لأن العقل مقيد إلا المقيد بقيد الإطلاق ، فإنه أيضا مقيد لا مطلق من حيث هو بالحقيقة ، فلا بد لإله المعتقدات أن تأخذه الحدود المميز بعضها عن بعض ، فهو الذي وسعه قلب العبد المؤمن بالإيمان العيني ، فإن المعتقد لا يكون إلا في القلب ، وأما الإله المطلق الذي هو عين كل شيء فلا يسعه شيء إلا قلب العارف الذي هو عين الكل ، فإنه متقلب مع الحق في إطلاقه وتقيده لتجرده عن تعينه ، وتعينه لفنائه في الحق وبقائه ، فهو قلب الحق متعين بالتعين الأول الحقي الذي يستهلك جميع التعينات فيه ، وأما قوله : الشيء لا يقال ومع نفسه ولا لا يسعها ، فالمراد أنه لا يقال إنه عرف بحسب الحس ، وأما بحسب العلم فقد يسع نفسه فإن الله يقول :" وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً " وعن قول الملائكة  "رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْماً " ولا شك أنه تعالى عالم بذاته فهو يسع نفسه علما وكيفا ،
"" أضاف بالي زاده :-
فظهور الحق في قلب عبده غير ظهوره في مرتبة إطلاقه ، فالحق واحد حقيقي والتعدد بحسب الأسماء والصفات في مرتبة يقال الإله المطلق وفي مرتبة الإله المحدود وغير ذلك من المراتب فالأمر واحد فافهم   .أهـ بالى زاده ""
 
وقال الشيخ في الفص الإسحاقي بهذه العبارة لو أن ما لا يتناهى وجوده إلى آخر ما قال ، ومثله أجل وأعلى منصبا من أن يكون في كلامه تناقض حاشاه من ذلك فهو محمول على أن الأمر تنزيه وتشبيه ،
والله تعالى لا يكون مشهودا بالبصر من حيث التنزيه كما ذكر في قوله تعالى -   "لا تُدْرِكُه الأَبْصارُ " بل يكون معلوما بالقلب ويكون مشهودا بالبصر من حيث التشبيه ، والظاهر في صورة المعتقد لا يكون إلا مشهودا ،
فمن ثم قال : هو الذي يسعه عبده المؤمن : أي من حيث الشهود ولا يسعه شيء من حيث الإطلاق ، وأعنى بالتشبيه والتنزيه الإطلاق والتقييد ، وقد مر مثل هذا التنزيه والتشبيه في شرح قوله : " لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " .
وليكن هذا آخر ما أردنا إيراده ، والله تعالى هو البالغ أمره ومراده ، اللهم اعصمنا من الخطأ والزلل في الإيراد ، ووفقنا في العلم والقول والعمل للحق والصواب والسداد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .

بحمد الله تعالى قد تم طبع كتاب : شرح الأستاذ الفاضل والعالم الكامل الشيخ عبد الرزاق القاشاني على فصوص الحكم.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر
» كتاب فصوص الحكم الشيخ الاكبر محيي الدين بن العربي الطائي الحاتمي
» شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: