منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 6:00 am

خطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني 

شرح الشيخ عفيف الدين التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح خطبة الكتاب على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
شرح خطبة فصوص الحكم الشيخ عفيف الدين التلمساني
بسم الله الرحمن الرحیم
رب أعني الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وخص من بينهم محمد قطب محيطهم الذي بعهد الأكمليات وفي، وآله وسلم
يقول العبد الفقير إلى الله الغني سليمان بن على بن عبد الله بن علي العابدي عرف بالتلمسانی عصمه الله به عن سواه وجعل في قدسه لا في نفسه مثواه: إنني لما رأيت أخي وولي قلبي السيد الأجل أبا القاسم عبد الكريم بن الحسين بن أبي بكر الطبري متعه الله بما أعطاه وبلغه من شرف الارتقاء النهاية من مناه ممن يجب حقه، ويتعين ويظهر بين طلاب الحضرة الإلهية صدقه ويتبين، جعلته سبب شرحي لفصوص الحکم وخصوص الكلم الذي تناوله شيخنا ختم الأولياء من خاتم الأنبياء، صلى الله عليه وسلم
قال شيخنا، رضي الله عنه، وجعلنا له به منه: (الحمد لله منزل الحكم على قلوب الكلم بأحدية الطريق الأمم من المقام الأقدم وإن اختلفت النحل والملل الاختلاف الأمم وصلى الله على ممد الهمم من خزائن الجود والكرم، وبالقيل الأقوم، محمد وعلى آله وسلم).
قلت: الكلم هنا من عينه من الأنبياء عليهم السلام، في هذا الكتاب، والحكم المعارف الإلهية ما ذكره منها في هذا الكتاب وما لم يذكره.
قوله: (بأحدية الطريق الأمم)
قلت: الطريق الأمم هنا هو المطلع وهو ما يجمع بين الظاهر والباطن والحد الذي يكون بين الظاهر والباطن، فالظاهر هو المنقول والمعقول من العلم النافع الذي يكون به العمل الصالح، والباطن هو المعارف الإلهية التي هي روح تلك العلوم المنقولة والمعقولة.
والحد هو حقيقة ما يتميز به العلم عن المعرفة.
وأما المطلع فهو معنى يتحد فيه الظاهر والباطن فيكون طريقا إلى الشهود الذاتي، وهو الطريق الأقوم الذي سماه الشيخ الأمم.
و قوله: (من المقام الأقدم).
قلت: هي حضرة الحق تعالى التي طلبها الأمم كلهم وإن اختلفوا في مللهم ونحلهم في الطلب.
قوله: (ممد الهمم من خزائن الجود والكرم بالقيل الأقوم).
قلت: قد عينه الشيخ، رضي الله عنه، هذا المدد أنه بالقيل الذي هو القول فأما مدد العوام من أهل الطريق بالقول الأقوم فهو ما في الحديث النبوي المختص بالعبادة وذلك هو العلم النافع المقتضي للعمل الصالح.
وأما ما يختص بالخواص من أهل الطريق وهم الصوفية فالقيل الأقوم الذي هو المدد المذكور فهو ما في الحديث النبوي من الإرشاد إلى مكارم الأخلاق، فإن التصوف خلق وما في الحديث أيضا من النهي عن سفساف الأخلاق، إذ هو أيضا مما يرشد إلى تبديل كل خلق دني بكل خلق سني .
قال عليه السلام: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وأحكام هذين الإرشادين هي كلها من المنقول والمعقول فالقيل الأقوم هنا هو في مراتب المنقول والمعقول.
أما ما يختص بخاصية الخاصة هنا هو ما في الحديث النبوي من الإشارات إلى التوحيد المستفاد من تجلياته تعالى المخصوص بها، عليه السلام.
مثل قوله: أصدق كلمة قالتها العرب قول لبيد: «ألا كل شيء ما خلا الله باطل» وهو أيضا مدد بالقيل الأقوم.
و قوله: (أما بعد: فإني رأيت رسول الله، عليه السلام، في مبشرة أريتها في العشر الآخر من المحرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق، وبيده، صلى الله عليه وآله وسلم، کتاب، فقال لي: هذا «کتاب فصوص الحکم» خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به.)
قلت: قوله، عليه السلام، هذه إشارة إلى معاني هذا الكتاب الذي أظهرها له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في عالم الكشف وأما العبارة فهي للشيخ، رضي الله عنه، ولذلك قال في دعاءه: "حتى أكون مترجما لا متحكما" فهو مترجم والترجمان هو الذي ينقل المعاني إلى لغة يعرفها من يترجم له بها.
و قوله: (فقلت السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا فحققت الأمنية وأخلصت النية وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده إلى رسول الله، عليه السلام، من غير زيادة ولا نقصان).
قلت: إنه يلفظ بالسمع والطاعة أي إطاعة في أن يترجم عن معانيه بلفظه ويقرب فهمه بالتنزل إلى مبالغ الناس، ولو كان لفظ هذا الكتاب هو لفظ رسول الله، عليه السلام، لم يكن فيه شعر لقوله تعالى: "ما علمناه الشعر وما ينبغي له" (یس: 69) فإذن قوله: من غير زيادة ولا نقصان إنما يعني في معانيه.
قوله(سألت الله تعالى وفي جميع أحوالی من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، وأن يخصني في جميع ما يرقمه بنانی وینطق به لسانی وينطوي عليه جناني بالإلقاء السبوحي والنفث الروحي في الروع النفسي بالتأييد الاعتصامی، حتى أكون مترجما لا متحكما، لتحقق من يقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب، أنه من مقام التقديس المنزه عن الأغراض النفسية التي يدخلها التلبيس، وأرجو أن يكون الحق تعالى لما سمع دعائي قد أجاب ندائي، فما ألقى إلا ما يلقى إلى، ولا أنزل في هذا المسطور إلا ما ينزل به على.)
قلت: "يعني بالذين ليس للشيطان عليهم سلطان"، أهل التجلي الأسمائي الجامع لمعاني الأسماء الحسنى . التي ذكر أنها لا يبلغها الإحصاء وطريق كونهم ليس للشيطان عليهم سلطان ليس هو أن لا يوسوس في صدورهم فإن ذلك لا بد منه.
فإن الله تعالى يقول:" إلا إذا تم ألقى الشيطان في أمنيته " الآية (الحج: 52).
فأما في حضرة ولاية الرسول عليه السلام، وولاية الأولياء من أمته فالنسخ يكون بالتجلي الإلهي الذي يرون فيه أن وسوسة الشيطان هي من أحكام تجلي الاسم المضل.
وأما في مقام نبوته، عليه السلام، ونبوة الأنبياء من قبله فالنسخ يكون بما يأتي به جبرئيل، عليه السلام، إليهم مما يحكم الله به آیاته.
لأن مقام نبوته، عليه السلام، ونبوة الأنبياء هو من مقام الوحي الذي يأتي به جبرئیل علیه السلام، والملائكة.
لأن مقام النبوة المحمدية دون مقام ولايته، عليه السلام، لأن ولايته هي حالة أخذه عن الله تعالی بغیر واسطة الملك بل منه تعالی بلا واسطة .
ولذلك قال عليه السلام: «لي مع الله وقت لا يسعني فيه غير ربی» إن صح الخبر.
وأما مقام رسالته فهي تحت مقام نبوته لأنها الحالة التي تكون فيها، عليه السلام، مخاطبا لنا وحاله في مقام النبوة مخاطبا للملك وحال ولايته هو مقام لا يصل إليه جبرئيل الذي هو سيد الملائكة .
وقد ذكر شيخنا محيي الدين، رضي الله عنه، هذه الثلاثة مقامات و میز مراتبها في قوله:
مقام النبوة في برزخ      …. دوین الولي وفوق الرسول
أي دون ولايته وفوق رسالته، عليه السلام.
ويعني بالإلقاء السبوحي، الإلقاء الذي من جهة الله سبحانه وتعالى أو من جهة الملك لا مما يكون من طريق الفكر والعقل . فإن السبوحي منسوب إلى سبحان الله ومعناه تنزيه الله تعالی.
ومعنى قوله النفث الروحي يعني النفخ في الروح، والروع هو القلب .
ومعنى التأييد الاعتصامی، حمايته، عليه السلام، الورثة من أمته أن يحتجب عنهما طريق الهداية قال الله تعالى: "ومن يعتصم بالله فقد هدى" 101 آل عمران.
قال:"حتى أكون مترجما عن معاني ما نزل من قبل الحق تعالى من المعاني مترجما لا متحكما."
فإن المفكر الذي يهدي الناس بمواد فكرته يكون متحكما لا مترجما وخص، رضي الله عنه، من يقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب فإن غيرهم لا يعرفون مقام التقديس وهو التطهير من الأغيار.
قوله: (ولست بنبي رسول ولكني وارث ولآخرتي حارث).
قلت: يعني أن الهداة من بعد رسول الله، عليه السلام، إنما يهدون الناس بطريق الميراث عنه، عليه السلام، لقوله تعالى: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " 108 يوسف.
فالسبيل في الهداية سبيله، عليه السلام، وإن كان الهادي غيره من أمته. والحارث لآخرته هو العامل لها.
و قوله:
فمن الله فاسمعوا ... و إلى الله فارجعوا
فإذا ما سمعتم ما ... أتيت به فعوا
ثم بالفهم فصلوا ... مجمل القول و أجمعوا
ثم منوا به على ... طالبيه لا تمنعوا
هذه الرحمة التي ... وسعتكم فوسعوا
قوله : (ومن الله أرجو أن أكون ممن أيد فتأيد وقيد بالشرع المحمدي المطهر فتقيد وقيد، وحشرنا في زمرته كما جعلنا من أمته.)
قلت: يعني أن هذا الكلام معناه هو من الله تعالى لا مني فإن الله تعالی عند لسان كل قائل. وبقية الأبيات" مفهومة وكذلك ما بقي إلى قوله:
 فص حكمة إلهية في كلمة آدمية.
(فأول ما ألقاه المالك على العبد من ذلك:  )
.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة أغسطس 02, 2019 3:46 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الأول .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 6:01 am

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الأول .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية  الجزء الأول
قلت: يعني أن العالم الكبير كالخاتم وآدم بمنزلة الفص منه و نقش الخاتم بمنزلة ما أودع آدم، عليه السلام، من علم الأسماء كلها قال تعالى: "علم آدم الأسماء كلها" (البقرة: 31).
قوله: لما شاء الله من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها.
وإن شئت قلت: أن يرى عينه، في كون جامع يحصر الأمر، لكونه متصفا بالوجود.
قلت: استعمل لفظ «لما» مجازا، لأن مشية الله تعالی لیست زمانية.
وقوله: من حيث أسماؤه الحسنى إشارة إلى ما أودع آدم، عليه السلام، من الأسماء الحسنى التي اقتضت حقائقها أن تظهر في كون جامع، والمراد بالكون الجامع ههنا هو آدم، عليه السلام.
ومعنى قوله: أن يرى أعيانها، أي يرى كونا من الأكوان محسوسا في الوجود العینی، پری الاسم الحی حقیقته فيه مثلا، فكان ذلك الكون هو آدم، عليه السلام، حيث اتصف بالحياة، فسمي الحي.
فقد رأى الاسم الحي عينه محسوسة من حيث هي في محسوس ولولاه أو أمثاله كان الاسم الحي معقولا فقط، بل لا يكون معقولا بل معلوما الله تعالی فقط، وكان الاسم الحي طلب الظهور في حضرة المحسوس وهو آدم وبنوه مضافا إلى ظهوره في حضرة العلم الإلهي وكذلك القول في كل اسم من الأسماء الحسنی.
قال: وإن شئت قلت أن يرى عينه يعني الحق تعالی وذلك لأن آدم، عليه السلام، مجموع أسمائه تعالى في وجود، هو في الحقيقة من عين وجوده تعالی فإذا نظر الحق تعالى إلى آدم، عليه السلام، رأى نفسه وهذا أمر سوف يذكره، رضي الله عنه، فيما يأتي في هذا الفص من هذه الحكمة التي نحن في شرحها.
فإن قلت: إنك قدمته أن أسمائه تعالى لا يبلغها الاحصاء أي أنها لا تتناهي وقد علمت أن ما لا يتناهى لا يقول له مجموع.
فالجواب: أنها تتجمع في الكليات فيدرك الكلي ويدرك أن مفرداته هي غير متناهية فقد أدركنا ما لا يتناهى من كليات هي مفردة وسيأتي بيان أن الحقيقة الإنسانية أيضا لا تتناهي فيدرك من ظهرت به من تلك الحقيقة من آدم أو من بنيه بها ما لا يتناهى.
ومعنى قوله: يحصر الأمر كله، لكونه متصفا بالوجود.
قلت: يعني أن حقيقة آدم بمنزلة المركز والأسماء الإلهية والكونية ومعاني الكليات أيضا بمنزلة النقط في محيط الدائرة ولا شك أن المركز يواجه كل نقطة في المحيط بمواجهة غير مواجهة النقطة الأخرى والمركز في نفسه لا ينقسم ولا يتجزأ ولا يقدح تعدد النقاط ومواجهاتها في وحدانيته.
قوله: (ويظهر به سره إليه فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له في نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل ولا تجليه له.)
قلت: يعني يظهر ما كان سرا في قوة قدرته تعالى التي تظهر أحكامها بظهور المقدورات ولا شك أن ظهور ما بالقوة إلى الفعل أكمل من بقائه في القوة وكمال الجناب المقدس في قوته ما لا يتناهى من الأكملیات فيقتضي الحال ظهورها فهي تظهر في الأعيان فيراها تعالى رؤية منزهة لكن من حضرة الحسیات وقد أودع تعالى جميع معاني الأسماء الكونية في آدم مرتبطة بالأسماء الإلهية وكلا الأمرين كان سانحا له في سر علمه الأقدس فأظهره في مرآة آدم، عليه السلام، وتجلي لتلك المرآة فأبدي فيها معاني المتجلي عليها، جل جلاله فقد ظهر سره إليه، وباقي الكلام ظاهر.
قوله: (وقد كان الحق أوجد العالم كله وجود شبح مسوي لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلوة ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوی محلا إلا ولا بد أن يقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه، وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال.)
قلت: معناه أن الحق تعالی اقتطع قطعة من نوره بسيطة لاصورة فيها وسماها القلم الأعلى وهي، والله أعلم، التي تسميها الحكماء «العقل الأول» الذي زعموا أنه أول صادر عنه تعالی وسماه شبحا للعالم لأنه مبدأ العالم.
ومعنى لا روح فيه، أنه تعين أول ومن شأن القدرة الإلهية أن كل ما استعد لشيء تعلق به من الصور، ما هو روح له بحسب استعداده.
فإن ذلك الشبح المشار إليه هو القلم الأعلى وأنه استعد أن يظهر فيه روح تخصه، وتلك الروح هنا هي اللوح المحفوظ والحكم الذي يتعين في القابل نفس حصوله في تلك الحالة هو بمدد إلهي هو المسمى بالنفخ.
وقوله: ما هو إلا حصول الاستعداد معناه ما الشأن والقصة إلا حصول الاستعداد لقبول التجلي المسمى نفخا وذلك هو تجل دائم لم يزل ولا يزال والضمير الذي في قوله: ما هو إلا، يرجع إلى النفخ.
قوله: وما بقى إلا قابل والقابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس والأمر كله منه، ابتداؤه وانتهاؤه "وإليه يرجع الأمر كله" (هود: 123) كما ابتدأ منه.
قلت: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: هذا الاستعداد المشار إليه من أين هو؟
فأجاب لسان الحال: أنه من الفيض الإلهي الأقدس فإذا القابل والمقبول والقبول الجميع منه تعالى رحمة إيجادية.
وأقول في بسط حال هذا الشبح المسوي: إن الحق تعالى من الحضرة الذاتية المقدسة قال بلسان حال ذاتي لنور من أنوار قدسه، و أنوار قدسه نور واحد بسيط لا يوصف بالنهاية فقال له: «کن» أولا لآخر، فحصل له من قوله «کن» تعين فقط لا أكثر من ذلك فيتحقق فيه الأولية.
ولو كان فيه أكثر من حقيقة ذلك التعين لكانت الأولية لأحدهما دون الآخر.
أو يكون كل واحد منهما أولا فيكون القول منه تعالی برز لاثنين لا لواحد، فإذن ما حصل لذلك النور إلا تعينه فقط لكن حقيقته الأولية تستدعي آخرا وإلا لم يتحقق الأولية ولا بد منها ليظهر حكم «کن» فحصل لذلك النور بالتعين المذكور أن يتميز عن بقية الأنوار.
وأن يكون فيه قابلية للظهور بصورة ثاني يكون لأوليته ذلك الثاني آخرا كما قلنا، فتعين ذلك النور تعينا آخر فكان كون آخر غيره فسمي النور في مرتبة التعين الأول قلما أعلى .
وسمي هو بعينه في مرتبة التعين الثاني لوحا محفوظا.
لكن التعين الأول الذي هو القلم الأعلى شهد في قول الحق تعالی له: «کن» أولا لآخر، يعني تهيئة لظهور اللوح المحفوظ منك.
فقالت ذاته بلسان الحال: سمعا وطاعة.
فإن القول في تلك المراتب ليس إلا بلسان الحال فقول الحق تعالی له: تهيئا هو المعنى الذي عبر عنه.
بأنه قال له: أقبل فأقبل وأدبر فأدبر.
فقال له تعالى: "وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم علي منك، فبك آخذ وبك أعطي".
هكذا نقل الناقلون، فذلك التهيؤ منه هو قبول صور العالم وسري معنى ذلك التهيؤ المذكور في اللوح المحفوظ، فكان تھیوه تسوية أخرى، فقبل اللوح بهذه التسوية المختصة به روحا هي مادة الجسم قبل ظهور صورته، فسميت كتابة معنوية من ذلك القلم الأعلى في اللوح المحفوظ ثم ظهرت حروف تلك الكتاب جسمان فكانت هي الكرات وهي أكوان حصلت كلها من معنوية قوله: "کن" وبمعنوية "كن" حصل المدد من القلم الأعلى فيضا مستمرا، كان اللوح المحفوظ يقبله في ذاته، ثم يسترسل من ذاته في ذات المادة المذكورة.
فلما حصل لتلك المادة الجمود الذي به صارت أجراما جسمية اقتضى اليبوسة الحاصله لها من جهة الحقيقة الجسمية أن لا تقبل ذلك المدد في ذواتها كله بل مقدار ما يدوم لها وجودها به فقط.
فبقي باقي المدد يطلب النفوذ في حقيقة الجسم، فمنعه الجسم ذلك لجموده فقهره المدد بقوته فأدار الأفلاك ومخضها مخضا، فاندفع منها كل جزء إلى مشابهة فأخذت كل كرة ما ناسبها وبقي الثقل السخيف.
فاندفع إلى الوسط لما استدارت عليه الأفلاك، فکانت منه الأرض لكن الأرض لما اندفعت إلى حقيقة الوسط استصحب بعض اللطائف وهي كثيفة فاقتضى الحال أن ينفصل منها ما لا يلائمها.
فأول ما انفصل منها ما هو أقرب إلى شبهها في الكثافة وكانت البحار فتميزت البحار عنها، إلا أن الماء وجد في ذاته ما هو ألطف منه، فلم يمكن أن يبقى معه فتصعد بخارا وهو الهواء، إلا أنه فيه بعد بعض كثافة الماء، فتميز ذلك البخار فما كان كثيفا يشبه الماء، دفعته الرياح التي هي في الحقيقة هواء، إلا أنها متدافعة فجمعت ذلك الكثيف الذي يشبه الماء، فانضم بعضه إلى بعض، فازداد كثافة ألحقته بالماء في الكثافة.
فنزل أمطارا فالتحق بكرة الماء، وكان قد انكشف من الأرض بعضها، فأصاب ذلك البعض من الأمطار ما رأيتهم واستمر الحال، فكل ما كثف من الهواء بواسطة ما يصعد إليه انعكس أمطارا.
ثم إن ذلك الهواء رقي منه لطيفه إلى سطح المقعر من باطن السماء الدنياء، واحتد لسخافته ورقته وقرب حركة فلك القمر منه، فسمى نارا لذلك الاحتداد الذي حصل له، فحصل في باطن سماء الدنياء أربعة أفلاك سماها الحكماء: نارا وهواء وماء وترابا.
هذا ومدد القلم الأعلى متصل وكلما اتصل، اتصل دوران الأفلاك وكانت في الأفلاك أجرام هي أصفى جوهرا في الجسمية من بقية الأجسام الفلكية، فكانت هي الكواكب، و لصفاء جوهرها صارت لها أشعة فوقعت الأشعة على سطح الأرض وسطح الماء.
فأثرت في الماء فصعد البخار من البحار وأثرت في التراب تسخينه فقط، فسرت حرارة ذلك التسخين في باطن الأرض، فوجدت باطنها قابلا للتكوين المودع في ذلك المدد مما أودعه الله في القلم الأعلى فتكون في باطن الأرض أكوان أربعة:
"الكون الأول": أكثفها الجماد المعدني، فتحركت المعادن بالحركة الايجادية في بطن الأرض ومنعتها الكثافة أن تشق الأرض وتخرج منها إلا النادر.
والكون الثاني: النبات فإنه تكون تحت الأرض ولم يكن فيه كثافة المعدن ولا بلغ من اللطافة ما يفصله عن الأرض، فشق الأرض وخرج إلى الهواء، ولكن بقي رأسه في الأرض، فاغتذي برأسه منها وجسمه كله في الهواء.
والكون الثالث: هو الحيوان فإنه تكون في بطن الأرض وتحرك فيه كما تحرك المعدن والنبات بالحركة الإيجادية وزاد على النبات بأنه شق الأرض كما شقها النبات وخرج منها كما خرج النبات، وحصلت له زيادة وهي الانتقال من مكان إلى مكان فوق سطح الأرض، وتخلص رأسه من الأرض لكن ما بعد رأسه عنها، بل بقي مكبوبا منحنيا، فاغتذي من وجه الأرض وشرب من الماء كما شرب النبات.
والكون الرابع: هو آدم، عليه السلام، فإنه تكون أيضا تحت الأرض وتحرك كما تحركت الأكوان الثلاثة، وزاد عليها أنه تخلص رأسه تخلصا كاملا فانتصب وانتهى إليه الإيجاد.
فأعطاه القلم الأعلى معناه وهو العقل، وحقيقة اللوح المحفوظ وهو النفس، لأنها هي التي تقبل الكتابة وهي العلوم، وحقيقة المادة وصورتها الجسمية وهو جسم آدم، عليه السلام، وحقيقة الأركان الأربعة وهي النار والهواء والماء والتراب.
وذلك هو الصفراء التي في جسمه المشابهة للنار في الحرارة واليبوسة، والدم الذي هو مشابه للهواء في حرارته ورطوبته، والبلغم الذي هو مشابه للماء في برودته ورطوبته، والسوداء التي هي مشابهة للتراب في برودته ويبوسته.
وفيه أيضا ما يشابه المولدات منها وهي الثلاثة:
 ففيه العظام كالمعادن.
والنبات كالشعر.
والحيوان كجسمه المحس.
ففيه صور العالم الكبير مجملة وأما ما فيه من المعاني والأسماء فسوف نذكره إن شاء الله تعالی.
قوله: (فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة.)
قلت: يعني أن آدم هو الناطق المخبر عن العالم الكبير، علوه و سفله، وكذلك بنوه أخبروا عن العقل الأول وهو القلم.
وأخبروا عن النفس الكلية وهي اللوح.
وأخبروا عن الهيولى والصورة وهي الجسم.
وأخبروا عن الأركان الأربعة والمولدات ومما في العالم من الكميات والكيفيات والإضافات والمكان والزمان والملكات والانفعالات والأفعال.
ووصفوا هيئات الأفلاك وكواكبها وحركاتها وتداخلها، وعرفوا منافعها ومضارها وخواصها وأعراضها.
وعطفوا على أجسامهم، فعلموا تشريحها وعدد عروقها وأنواع ما فيها كما فعل جالینوس وشيعته إلى غير ذلك.
وأشرف من هذا كله ما وهبه الله تعالى أولياءه من شهود حضرته القدسية وما خص به محمدا رسول الله، عليه السلام، من إحاطة الخلافة بسائر مراتب خلفاء الله تعالى مما لا ينحصر في مقال ولا يسع ذكره الأيام والليالي.
قوله: (وروح تلك الصورة).
قلت: يعني بالصورة الأفلاك من محدب التاسع إلى نقطة مركز الأرض وهو العالم الكبير وهذا العالم جسم و آدم روحه في التمثيل والتشبيه وجعله روحا مجازا.
قوله: (وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير، فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية والحسية التي في النشأة الإنسانية وكل قوة منها محجوبة بنفسها لا ترى أفضل من ذاتها، فإن فيها، فيما تزعم الأهلية لكل منصب عال ومنزلة رفيعة عند الله تعالى، لما عندها من الجمعية الإلهية بين ما يرجع من ذلك إلى الجناب الإلهي، وإلى جانب حقيقة الحقائق، وفي النشأة الحاملة لهذه الأوصاف إلى ما تقتضيه الطبيعة الكل التي حصرت قوابل العالم كله أعلاه وأسفله).
قلت: يعني أن قوى العالم تسمى ملائكة أيضا وهي له كالقوى التي في الإنسان الروحانية والجسمانية الحسية ، وباقي هذا الفصل ظاهر في كلام الشيخ
لا يحتاج إلى شرح.
إلا ما ذكره من حقيقة الحقائق فإن حقيقة الحقائق تحتاج إلى شرح، ونحن نذكر ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالی .
و قوله: (وهذا لا يعرفه عقل بطريق نظر فکری بل هذا الفن من الإدراك لا يكون إلا عن كشف إلهي منه يعرف ما أصل صور العالم القابلة لأرواحه، فسمي هذا المذكور إنسانا وخليفة، فأما إنسانيته فلعموم نشأته وحصره الحقائق كلها، وهو للحق تعالی بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر وهو المعبر عنه بالبصر فلهذا سمي إنسانا فإنه به نظر الحق تعالى إلى خلقه فرحمهم، فهو الإنسان الحادث الأزلي والنشاء الدائم الأبدي، والكلمة الفاصلة الجامعة، فتم العالم بوجوده، فهو من العالم کفص الخاتم من الخاتم، وهو محل النقش والعلامة التي بها يختم الملك على خزائنه وسماه خليفة لأجل هذا، لأنه الحافظ خلقه كما يحفظ الختم الخزائن. فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها إلا بإذنه فاستخلفه في حفظ العالم فلا يزال العالم محفوظا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل.)
قلت: يريد بالنظر استعمال المقدمات والنتائج لكن يعرفه العقل من حيث ما هو قابل للتجلي الإلهي .
فإذن العقل له اعتباران:
أحدهما من جهة ما هو فاعل بالفكر ومن هذه الجهة لا يدرك هذه الأمور.
والآخر من جهة ما هو قابل وهذه هي جهة الكشف.
 فالأولى طريقة الفكر وهذه الثانية طريقة الذكر.
والأولى طريقة الفلاسفة والمتكلمين
وهذه الثانية طريقة طالبي الحق تعالى من المتشرعين ..
قوله: وسمي إنسانا إلى آخر المعنى. قلت: والشيخ قد ذكر لأي شيء قد سمي إنسانا وهو التشبيه بإنسان العين.
ومعنى قوله: فهو الإنسان الحادث الأزلي قلت: أما حدوثه فهو ظاهر من تكون آدم في بطن الأرض وتكون كل واحد من بنيه في بطن أمه فحدوثه ظاهر .
وأما أزليته فيما احتواه من معاني الأسماء الإلهية وهي أزليته.
وأما أنه النشاء الدائم الأبدي فلأنه عبارة عن نفسه وهي باقية ببقاء من هي خليفة عنه.
وأما أنها الكلمة الفاصلة، أما الكلمة فلأنها صورة تمت فيها حقيقة كن، فسميت كلمة لقيامها بمضمون المعاني التي اشتملت عليها كلمة كن.
وأما أنها فاصلة فلأنها تفصل الحق عن الباطل بما فيها من العقل الذي اختص بها.
وأما أنها جامعة فلأنها جمعت حقائق الكليات في العلم وسيأتي كيفية ذلك.
قوله: (ألا تراه إذا زال وفك من خزانة الدنيا لم يبق فيها ما اختزنه الحق فيها وخرج ما كان فيها والتحق بعضه ببعض، وانتقل الأمر إلى الآخرة فكان ختما على خزانة الآخرة ختما أبديا.)
قلت: معناه إذا انقرض نسل آدم فإنما يكون بانحراف مزاج هذا العالم وذلك هو موت الإنسان الكبير وفيه جسم الإنسان الصغير فيموت بموته وذلك هو القيامة الكبرى
قوله: (فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية، فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود وبه قامت الحجة الله تعالى على الملائكة. فتحفظ فقد وعظك الله بغيرك، سأنظر من أين أتى على من أتى عليه .. فإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة، ولا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق تعالى من العبادة الذاتية، فإنه ما يعرف أحد من الحق تعالى إلا ما تعطيه ذاته.
وليس للملائكة جمعية آدم، ولا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها، وسبحت الحق بها وقدسته، وما علمت أن الله أسماء ما وصل علمها إليها، فما تغلب عليها ما ذكرناه، وحكم عليها هذا الحال فقالت من حيث النشأة: "أتجعل فيها من يفسد فيها" (البقرة: 30). وليس إلا النزاع وهو عين ما وقع منهم.
فما قالوه في حق آدم هو عين ما هم فيه مع الحق.
فلو لا أن نشأتهم تعطى ذلك ما قالوا في حق آدم ما قالوه وهم لا يشعرون. فلو عرفوا نفوسهم لعلموا، ولو علموا لعصموا.
ثم لم يقفوا مع التجريح حتى زادوا في الدعوى بما هم عليه من التسبيح والتقديس. وعند آدم من الأسماء الإلهية ما لم تكن الملائكة عليها، فما سبحت ربها بها ولا قدسته عنها تقدس آدم وتسبيحه.
فوصف الحق لنا ما جرى لنقف عنده ونتعلم الأدب مع الله تعالى فلا يدعى ما أنا محقق به و حاوى عليه بالتقييد.
فكيف أن نطلق في الدعوى فنعم بها ما ليس لی بحال ولا أنا منه على علم فنفتضح؟
"فهذا التعريف الإلهي مما أدب الحق به عباده الأدباء الأمناء الخلفاء"
قلت: يعني بالصورة الإلهية، الأسماء التي جمعت لأدم من قوله تعالى: "علم آدم الأسماء كلها" (البقرة: 31).
قوله: وبه قامت الحجة لله تعالى على الملائكة، قلت: يعني قوله تعالى: " قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم" إلى آخر الآية (البقرة: 33).
قوله: وتحفظ فقد وعظك الله تعالى بغيرك، قلت: يعني وعظك الله بحال الملائكة حيث اعترضوا على ربهم تعالى في قوله: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" في الآية (البقرة: 30).
فهو، رضي الله عنه، يقول: تحفظ بالأدب مع الله تعالى، لأن الملائكة لم تقفوا مع ما تعطيه نشأة آدم الذي هو الخليفة من جميع الأسماء في ذاتها، فيروا أنهم تحت إحاطته ولا تقفوا مع ما تعطيه حضرة الحق تعالى من العبادة الذاتية التي ليست هي وظيفتهم من جهة أنهم لا يعرفون من الحق تعالى إلا بما تعطيه ذواتهم وكذلك غيرهم.
فلم تعلم الملائكة أن جمعية آدم على الأسماء لم يعرفوها فما سبحوه بها ولا قدسته الملائكة بمعاني مراتبها.
وقالت من حيث نشأة آدم"أتجعل فيها من يفسد فيها " (البقرة: 30) لما رأت جسمه مرکبا من أركان متضادة. فعلمت أن بنيانه منهم:
منهم: من يغلب عليه الركن الناري وهو الصفراء، فيكون طیاشا خفيفا يتسرع إلى الأقوال والأفعال التي لا يتثبت فيها فيقع منه الفساد، يفعل ما لا ينبغي في الوقت الذي لا ينبغي.
منهم: من يغلب عليه الركن الهوائي وهو الدم، فيجد في جسده قوة تأمره بالانتقام ممن لا يستحق أن ينتقم منه.
ومنهم: من يغلب عليه الجزء المائي وهو البلغم، فيكون قاصرا عن الحركة فيما يجب أن يتحرك فيه، فيفوته ما يجب في الوقت الذي يجب، ويستبرده من غلب عليه الركن الهوائي الدموي فينشط إلى إفساد حاله، لأنه يطمع فيه لرخاوته هذا في طبع البشر.
ومنهم: من يغلب عليه الركن الترابي، فيكون السوداء غالبة عليه فيكون صاحب توهم ووسواس وأفكار ردية، فيفعل بمقتضاها ما لا يجب ويفوته ليبس مزاجه ما يجب.
وهذه أحوال كلها تقتضي الفساد فأشارت الملائكة إلى ذلك بقولهم: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " (البقرة: 30).
وما علمت أن آدم والخواص من بنيه ممن ذكر في هذه الفصوص، لهم الاعتدال الذي يقتضي لهم قول ما يجب، وفعل ما يجب في الوقت الذي يجب، وأن ذلك الاعتدال يقتضي لهم أن يكون نشأتهم جامعة الأسماء إلهية ليست عند الملائكة.
و قوله: (ثم نرجع إلى الحكمة فتقول: أعلم أن الأمور الكلية وإن لم يكن لها وجود في عينها فهي معقولة معلومة بلا شك في الذهن، فهي باطنة لا تزال عن الوجود العینی.
ولها الحكم والأثر في كل ما له وجود عینی، بل هو عينها لا غيرها أعنی أعيان الموجودات العينية، ولم تزل عن كونها معقولة فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات كما هي الباطنة من حيث معقوليتها.
فاستناد کل موجود عینی لهذه الأمور الكلية التي لا يمكن رفعها عن العقل، ولا يمكن وجودها في العين وجودا تزول به عن أن تكون معقولة.
وسواء كان ذلك الوجود العینی مؤقتا أو غير موقت، نسبة المؤقت وغير المؤقت إلى هذا الأمر الكلى المعقول نسبة واحدة.
غير أن هذا الأمر الكلی يرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسب ما تطلبه حقائق تلك الموجودات العينية، کنسبة العلم إلى العالم، والحياة إلى الحي.
فالحياة حقيقة معقولة والعلم حقيقة معقولة متميزة عن الحياة، كما أن الحياة متميزة عنه.
ثم نقول في الحق تعالى: إن له علما وحياة فهو الحى العالم.
ونقول في حق الملك: إن له علما وحياة فهو الحي والعالم.
ونقول في الإنسان: إن له علما وحياة فهو الحي والعالم.
وحقيقة العلم واحدة، وحقيقة الحياة واحدة، ونسبتها إلى العالم والحي نسبة واحدة.
ونقول في علم الحق: إنه قدیم، وفي علم الإنسان إنه محدث.
فانظر ما أحدثته الإضافة من الحكم في هذه الحقيقة المعقولة، وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات والموجودات العينية.
فكما حكم العلم على من قام به أن يقال فيه: عالم، حكم الموصوف به على العلم بأنه حادث في حق الحادث، قديم في حق القديم.
فصار كل واحد محكوما به محكوما عليه.
ومعلوم أن هذه الأمور الكلية وإن كانت معقولة فإنها معدومة العين موجودة الحكم، كما هي محكوم عليها إذا نسبت إلى الوجود العيني. فتقبل الحكم في الأعيان الموجودة ولا تقبل التفصيل والتجزيء.
فإن ذلك محال عليها، فإنها بذاتها في كل موصوف بها كالإنسانية في كل شخص شخص من هذا النوع الخاص لم تتفصل ولم تتعدد بتعدد الأشخاص ولا برحت معقولة.
وإذا كان الارتباط بين من له وجود عيني وبين من ليس له وجود عینی قد ثبت، وهي نسب عدمية، فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب أن يعقل لأنه على كل حال بينها جامع وهو الوجود العينى وهناك فما ثم جامع.  وقد وجد الارتباط بعدم الجامعة فبالجامع أحق.
ولا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه وافتقاره إلى محدث أحدثه ولإمكانه بنفسه. فوجوده من غيره، فهو مرتبط به ارتباط افتقار.
ولا بد أن يكون المستند إليه واجب الوجود بذاته غنيا في وجوده بنفسه غیر مفتقر، وهو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث فانتسب إليه.
ولما اقتضاه لذاته كان واجبا به. ولما كان استناده إلى من ظهر لذاته، اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شيء من اسم وصفة ما عدا الوجوب الذاتي فإن ذلك لا يصح في الحادث وإن كان واجب الوجود لكن وجوبه بغيره لا بنفسه.
ثم لتعلم أنه لما كان الأمر على ما قلناه من ظهوره بصورته، أحالنا تعالی في العلم به على النظر في الحادث وذكر أنه أرانا آياته فيه "وفينا" فاستدللنا بنا عليه.
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)" سورة فصلت
فما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف إلا الوجوب الخاص الذاتي.
فلما علمناه بنا ومنا نسينا إليه كل ما نسبناه إلينا. وبذلك وردت الإخبارات الإلهية على ألسنة التراجم إلينا. فوصف نفسه لنا بنا، فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا، وإذا شهدنا شهد نفسه.
ولا شك أنا كثيرون بالشخص والنوع، وأنا وإن كنا على حقيقة واحدة تجمعنا فنعلم قطعا أن ثم فارقا به تمیزت الأشخاص بعضها عن بعض، ولولا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد.
فكذلك أيضا، وإن وصفنا بما وصف نفسه من جميع الوجوه فلا بد من فارق، وليس إلا افتقارنا إليه في الوجود وتوقف وجودنا عليه الإمكاننا وغناه عن مثل ما افتقرنا إليه.
فبهذا صح له الأزل والقدم الذي انتفت عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم. فلا تنسب إليه مع كونه الأول. ولهذا قيل فيه الآخر.)
الأمور الكلية :
قلت: قد ترکت ما قبل هذا الكلام لأنه لا يحتاج إلى شرح وأما هذا ففيه ذكر الكليات فنحن الآن نتكلم في معنى ما قاله سيدنا، رضي الله عنه.
فيها فنقولإن الأمور الكلية التي ذكرها، رضي الله عنه، قد تكلم فيها المنطقيون وقد تنزل شيخنا، رضي الله عنه، إلى مبالغ عقولهم في حقيقتها.
فالذي قاله فيها مقول لكني رأيت أن أتكلم بما عندي فيها مما يوافق ما سكت شيخنا، رضي الله عنه، فلم يذكره ههنا وإن كان يعرفه لأنه، رضي الله عنه، أراد أن يؤنس الحكماء والمتكلمين بتنزله إلى مبلغهم.
فأقول: إن كلام الشيخ هاهنا وإن فهم منه تارة أن وجود هذه الكليات ذهني وتارة أن وجودها هو الذي في الأعيان الخارجية فهو في الأمرين قد تنزل إلى مخاطبة المحجوبين عنها في مراتبهم ولا شك أن هذه الكليات معان في قوة النور الأزلي فنذكرها في ثلاثة أقسام:
أحدها: ما هي؟
والثاني: ما خاصتها؟
والثالث: ما الذي يعرض لها؟
فأما القسم الأول: فإن حقيقتها معانی معلومات الحق، تبارك وتعالى، وهي لا تتناهي كما أن العلم بها لا يتناهى وفي وجود العلم الذاتي الإلهي هي أعيان متمايزة وليس كل معنى منها كليا , بل كل معنى منها صور جزئیاته متمايزة وليس هو إلا صور جزئياته .
ولما كان كل معنى منها ينفصل جزئیاته إلى غير نهاية بقيت تلك المعاني كأنها في التمثيل سلاسل وكل كعب من السلسلة مثلا هو صورة مسئلة من صور العلم الإلهي فوجودها في العلم الإلهي متميز ولا شيء منها يسبق شيئا.
فإن العلم الإلهي لا يدخل تحت الزمان بل الزمان ودقائق أجزاء الجميع هو من صور العلم الإلهي.
فالماضي والمستقبل كلاهما للعلم الإلهي حاضرة، والتجدد من جملة صور علمه تعالی مفصلا باز منته أزلا وأبدا وهذا أمر مشهود عند من كمل له السفر الثاني من أهل الشهود الذاتي، فما يتجدد لعلم الله تعالی
وقد ورد علي في الخلوة خطاب في هذه الحقيقة وهو قوله تعالى:
لم يتجدد له التجدد فأين التجدد؟
ما ثم إثنان يضاف أحدهما إلى الآخر فأين التعدد؟
ينظر الضد إلى ضده في الأحدية بعين الملائمة والتودد
فنعود ونقول: إذا كانت هذه الكليات لا وجود لها إلا صور جزئیات في العلم الإلهي فإذن كل كلي ليس هو معنی مفردا يطابق كل فرد فرد كما يقوله الحكماء.
بل هو الأعيان المتمايزة أنفسها، لكن جزئیات کل کلي تكون متشابهة في صورة ما يسميها الحكماء الفصل المميز.
لكن الأوائل من الحكماء تخيلوا في ضبط جزئیات کل کلي تخيلة هي حسية في كونها تضبط ما لا يتناهى، فأخذوا يقولون: إن الكلی مفرد تسهيلا على عقول الضعفاء فصيروا الكلي ضابطا واحدا يشمل ما لا يتناهى.
 فلما جاء المتأخرون ظنوا أن الأوائل نصوا على أن كل كلي هو معنی مفرد يحمل على ما تحته وليس في وجود الحق، تبارك وتعالى، شيء واحد يكون هو حقيقة أشياء كثيرة حتى المركز بالنسبة إلى نقط المحيط.
فإن المركز وإن كانت نقطة واحدة متوهمة وكل نقطة في المحيط لها إليه مواجهة وهو واحد وفيه قوي مواجهة النقط الكثيرة .
فإن ذلك أيضا ليس كما يتوهمه القائلون بذلك بل كل نقطة في المحيط تواجهه مواجهة تلقى نقطة المركز كلها لكن من جهة غير الجهة التي تواجهها النقطة الأخرى وإن وقعت كل مواجهة من نقطة المركز على عينه ما وقعت عليه النقطة الأخرى.
فإن قالوا: إن الكلي الطبيعي هو في الخارج.
قلنا: هو حصص متمايزة فليس بمفرد.
فإن قالوا: إن الكلي المنطقي هو في الذهن واحد.
قلنا: ما فهمتم، لان كل ذهن يتشكل فيه صورة لذلك الكلي مثلا هي غير الشكل الذي يتشكل في ذهن.
فإن قالوا: فاعتبر ذلك في ذهن واحد تجد الكلي واحدا.
قلنا: وليس كذلك أيضا بل كل ما تصوره الذهن الواحد كليا ما ثم ذهل عنه أو نسيه، ثم يتشکل بعد ذلك في ذلك الذهن بعينه، فذلك المتشکل هو صورة أخرى مغاير للأولى بالعدد وأنتم تقولون: إن الكلي واحد، فإذن هو واحد لا واحد وهو جمع بين النقيضين والصحيح أن الكلي إنما جعلناه واحدا تقريبا للأفهام وضابطا ينضبط لنا به الكثرة في الواحد.
فنرجع فنقول: إن المعاني التي سميت كلية، وجودها الذي لا يتغير إنما هو في العلم الأزلي الذي لا يتغير، وجزئيات ذلك الكلي هي مفصلة في العلم الأزلي أيضا كما قدمنا فهذا هو الكلي.
وقد قال ثامسطيوس : إن الكلي مأخوذ من تشبيه خفي في الأشخاص وهو إما أن لا يكون شيئا ألبتة أو يتأخر تأخرا كثيرا عن الأشخاص.
والصحيح أنه كما ذكره ثامیسطيوس في قوله: إنه مأخوذ من تشبيه خفي في الأشخاص.
وأما قوله: إنه ليس بشيء فهو أيضا حق لأنه ما له ذات غير اعتبار ذهني والاعتبارات نسب لا وجود لذواتها بل الوجود للذهن لا لها وإذا لم يكن له ذات.
فقولنا: إنه متأخر تأخرا كثيرا عن الأشخاص ما له معنى لكنا إذا قررنا في الذهن ضابطا فهو ضابط حسن.
وأما خاصة هذا الكلي، فإنه لا يتحقق حقيقة إلا إذا اعتبرته في علم الله تعالى الذي لا يتغير وأما في الأذهان فكل من نسيه ثم ذكره فالمنسي غير المذكور، فهو المختص بعلم الله تعالى وأما غيره من المعلومات فقد يحس ويعقل ويعلم.
وأما ما يعرض له ولغيره، فمدده في وجوده من النور الذي اقتطعه الحق تعالى وأودع فيه ما أودع من مخلوقاته.
وأما ما بعد قوله: (ثم نرجع إلى الحكمة)، فما أرى أن فيه ما يحتاج إلى الشرح لأن عبارة الشيخ فيه وافية بالمقصود وليس هو مما يحتاج إلى الذكر الجلي بل هو من مدركات أفهام الناس. 
إلى قوله: (ومعلوم أن هذه الأمور الكلية وإن كانت معقولة فإنها معدومة العين موجودة الحكم.)
فأقول: إن أمثلة المعدوم في ذاته الموجود الحكم في غيره، الفرق الذي يتوهمه البصر بين الشمس والظل، فإن العقل يعلم أنه ما بين الشمس والظل أمر ثالث يفصل وربما يتوهم الحس أن هناك ثالثا يفصل بين الشمس والظل و یسمی أمثال هذا "برازخ" ولي شعر في وصف البرزخ وهو ما صورته،:
حقيقة ميزت من القدم     ….. محفوفة في الوجود بالعدم
حبيبة لم تزل مخيلة       ….. كما يزور الخيال في الحلم
لكنها قد أتت مؤكدة   .......        معنى وجود الحدوث في القدم
بدت فأبدت مالا وجود له  ......     في ذاته للبليد والفهم
وليس منها الظهور يدركه     …… إلا الذي رأمها ولم یرم
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 6:02 am

01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الثاني .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية  الجزء الثاني
وقلت أيضا شعرا على لسانها:
تنزهت عن ذل الوجود فليس لي    …… مكان له عين الحقيقة ترمق
وسبحني قدسي فلا السر ناظر      …… إلي ولا معنى من الوهم يطرق
ولي منزل قد عز عن أين أو متى  …… وكيف وما رسم به يتعلق
أحطت ولكن لم أحط أجل أنني       ….. أحطت فللاطلاق بالقيد أوثق
ومن یکن الإطلاق قيدا لمثله     …… فذلك من شيئية السبقه أسبق
يمر الوجود الصرف طوع إرادتي   ….. إلى غاية من رقها ليس يعتق
فأشهدني فيه بعيني واجتلي     …….. بإفاقه بدرا بمعاني يشرق
وقد كنت جعلتها في ضمن أبيات في مدح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بنسبة يقال شفاها.
وأما قوله: (لم تنفصل ولم تتعدد بتعدد الأشخاص. قلت: هذا كله مبني على ما رآه الحكماء)
وأما قوله: (فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب، إلى قوله : ثم ليعلم أنه ).
قلت: مقصوده، رضي الله عنه، أن يشير إلى التوحيد الوجودي لكنه لم يرى هنا أن يصرح بذلك وقد صرح به في غير هذا الموضع تصريحا کشف معه المغطي وهاهنا ستره.
وأما قوله: (ثم ليعلم أنه لما كان الأمر على ما قلناه من ظهوره بصورته، أحالنا تعالى في العلم به على النظر في الحادث و ذكر أنه أرانا آياته فيه فاستدللنا بنا عليه.
فما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف إلا الوجوب الخاص الذاتي.
فلما علمناه بنا و منا نسبنا إليه كل ما نسبناه إلينا. و بذلك وردت الإخبارات الإلهية على ألسنة التراجم إلينا. فوصف نفسه لنا بنا: فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا، و إذا شهدنا شهد نفسه.
و لا نشك أنا كثيرون بالشخص و النوع، و أنا و إن كنا على حقيقة واحدة تجمعنا فنعلم قطعا أن ثم فارقا به تميزت الأشخاص بعضها عن بعض، و لولا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد. ، فكذلك أيضا، و إن وصفنا بما وصف نفسه من جميع الوجوه فلا بد من فارق، و ليس إلا افتقارنا إليه في الوجود و توقف وجودنا عليه لإمكاننا و غناه عن مثل ما افتقرنا إليه. إلى قوله: فهذا صح له الأزل والقدم.)
قلت: هو، رضي الله عنه، قد قصد التوطئة لأن يجعل صفات الخليفة هي صفات المستخلف ليرد الأمر كله إلى عين واحدة هي وجوده تعالى وكأنه استشهد بقوله تعالی: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" (فصلت: 53).
ثم ستر ذلك بذكر الوجوب الخاص الذاتي وهذه مصانعة منه، رضي الله عنه، للمحجوبين حتى لا ينفروا من قوله: نسبنا إليه كل ما نسبناه إلينا وزاد ذلك بيانا بقوله: (فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا، وإذا شهدنا هو شهد نفسه).
ولا سيما قوله: (ولا بد من فارق).
ثم قال: وليس إلا افتقارنا إليه. وبالجملة فهذا كله مبني على أن الوجود واحد والأعيان متمايزة وتسميها الأعيان الثابتة.
وأما قوله: (فبهذا صح له الأزل والقدم الذي انتفت عنه الأولية).
قلنا: معناه أنه لا أولية لغناه عن خلقه ولا أولية له في افتتاح الوجود أي وجوده ليس عن عدم سابق فيتحقق له الأولية في اتصافه بالوجود بعد أن لم يكن متصفا به.
قوله: (مع كونه الأول) .
قلت: قوله، رضي الله عنه، مع كونه الأول في قوله تعالى: "هو الأول والآخر" (الحديد: 3). إلا أن الشيخ هنا لم يذكر بأي معنى قيل فيه تعالى: أنه الأول مع ما ذكره من انتفاء تلك الأولية المذكورة عنه.
قوله: ولهذا قيل له الآخر. قلت: يعني لنفي تلك الأولية المذكورة.
قوله: (فلو كانت أوليته أولية وجود التقييد لم يصح أن يكون الآخر المقيد، لأنه لا آخر للممكن، لأن الممكنات غير متناهية فلا آخر لها.
وإنما كان آخرا لرجوع الأمر كله إليه بعد نسبة ذلك إلينا، فهو الآخر في عين أوليته، والأول في عين آخريته.)
قلت: يعني لو كانت له أولية اتصفت بها بالوجود بعد اتصافه بالعدم إذ كانت هذه الأولية هي أولية خاصة مقيدة.
فكأنه يقول: إن هناك أولية أخرى يصح معها أن تكون أولا مع کونه آخرا وأما تلك الأولية المذكورة فلا يصح أن يسمى من كان بها أولا أن يكون آخرا أيضا وإلا اجتمع الضدان لشيء واحد .
لكن الشيخ ما علل باجتماع الضدين بل علل بإن من كان له الأولية بافتتاح الوجود كان کالممکنات في وجودها، فإن لها الأولية بافتتاح الوجود لكن مع هذا القيد لا يصح
أن يكون لها الآخرية إذ الممكنات لا نهاية لها وفي قوة كلامه في قوله: لأن الممكنات لا نهاية لها، أنها ستوجد إلى غير نهاية وصرح بأن هذه الأولية ليست للحق تعالی.
فلا جرم صح مع أوليته تعالى أن يكون له آخرية في عين أوليته و أوليته في عين آخريته .
بخلاف الممكن وأما كيف ذلك؟ ولم ذلك؟
فما ذكره ولعمري أن الحاجة داعية إلى بيانه فإنه مهم
وأما قوله: وإنما كان آخرا لرجوع الأمر كله إليه، فذلك غير واضح في تسميته بالآخرية، فإنه إن كانت أوليته بابتداء إيجاد العالم فكان الحال يقتضي أن يكون آخرا باعتبار انتهاء ایجاد العالم .
وقد قال: إن العالم لا آخر لإيجاده، فكيف يكون هو آخرا بهذا التقدير، فإذن له معنى آخر نحتاج نحن أن يعرفنا إياه.
قوله: (ثم لتعلم أن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر و باطن، فأوجد العالم: عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا.)
قلت: معناه أن الحق تعالی فعل ذلك بنا لنعلم ظاهره بما فينا من الظهور ونعلم الباطن من وصفه نفسه بالباطن بما فينا من معنى الغيب، فإن أحدا ما يعلم شيئا إلا بما فيه من ذلك الشيء أو بما في ذلك الشيء منه.
قوله: (ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فنخاف غضبه ونرجوا رضاهووصف نفسه بأنه تعالى جميل وذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس. وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به. فعبر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهتا منه على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع بحقائق العالم ومفرداته. والعالم شهادة والخليفة غيب، ولذا تحجب السلطان.)
قلت: معناه حتى نقابل نحن غضبه بالخوف، ورضاه بالرجاء فيتحقق الرضا والغضب استدلالا على كل واحد منهما بما يقابله منا وكذلك ما بعد هذا مما وصف به نفسه.
قوله: (فعبر عن هاتين الصفتين باليدين).
قلت: يعني بالصفتين التقابل الذي بين كل صفتين مما ذكره ومما لم يذكر مما خلق الإنسان فيها على وفق صفتين متقابلتين منه تعالى على حد ما شرحناه.
كأنه قال: وهاتان الصفتان المتقابلتان هما اللتان عبر عنهما باليدين في قوله تعالى: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بیدی أستكبرت" سورة ص 75.
فاليدان هنا الصفتان المذكورتان والتعبير عنهما باليدين مجاز حسن في لغة العرب.
فإن اليدين هما سبب فيما يصنع بهما وهاتان الصفتان هما السبب في خلق العالم على وفقهما في جمعه بين المتقابلات، فهذه علاقة سوغت استعمال المجاز.
واقتصر من ذكر العالم على ذكر خلق الإنسان الكامل لكونه فيه جميع ما في العالم الكبير وجعل العالم الكبير كالمفردات التي يتركب المركب منها.
ثم جعل العالم شهادة لأنه هو عين ما يراه وأما الإنسان فما ترى منه إلا جسده لكن جسده هو من العالم الكبير وليس هو جامعا باعتبار جسمه إلا بما تخص القوى الطبيعية فقط وأما المعتبر منه.
فما هو إلا جمعه لصفات الأسماء الحسنى ومعانی الكليات التي تفاصيلها لا تتناهي وهذه معان كلها غيبية فالإنسان غيب والعالم شهادة.
قال: واحتجاب السلطان إنما كان لكونه يحس في نفسه أنه كامل وأن فيه ما هو محتجب فحجب جسمه تبعا لاحتجاب معانيه.
قوله: (ووصف الحق نفسه الكريمة بالحجب الظلمانية وهي الأجسام الطبيعية، والنورية وهي الأرواح اللطيفة، فالعالم بين لطيف وكثيف، وهو عين الحجاب على نفسه، فلا يدرك الحق أحد إدراكه نفسه.
فلا يزال في حجاب لا يرفع مع علمه بأنه متميز عن موجده بافتقاره. ولكن لا حظ له في وجوب الوجود الذاتي الذي لوجود الحق تعالی، فلا يدركه أبدا.
فلا يزال الحق تعالى من هذه الحقيقة غير معلوم علم ذوق وشهود، لأنه لا قدم للحادث في ذلك. فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشريفا.
ولهذا قال تعالى لإبليس : "ما منعك أن تسجد لما خلقت بیدی" (ص: 70) وما هو إلا عين جمعه بين الصورتين: صورة العالم وصورة الحق، وهما يدا الحق.
وإبليس جزء من العالم لم تحصل له هذه الجمعية ولهذا كان آدم خليفة، فإن لم يكن ظاهرا بصورة من استخلفه فيما استخلف فيه، فما هو خليفة وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا التي استخلف عليها لأن استنادها إليه، فلا بد أن يقوم بجميع ما تحتاج إليه وإلا فليس بخليفة عليهم، فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل.)
قلت: يعني ما ورد من قوله، عليه السلام: "إن الله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما انتهى إليه بصره من خلقه " فذكر تعالى أن حجبه من نور وظلمة وهي الأرواح والأجسام وحقيقتهما أنهما كثيف ولطيف.
ثم أشار إلى التوحيد بقوله: (وهو عين الحجاب على نفسه)، فلا يدرك الحق أحد إدراکه نفسه فهو العارف والمعروف كما أنه الحجاب والمحجوب .
وإذا كان كذلك "فلا يزال في حجاب لا يرفع"، لأن رفع الحجاب إنما يتحقق عند كون الحجاب غير المحجوب وأما إذا لم يكن هناك تغایر فلا يتحقق رفع الحجاب.
و قوله: (مع علمه).
 قلت: يعني أن العالم أو الإنسان يعلم أنه ممتاز عن موجده فقد عاد إلى إشارته إلى تمايز الأعيان الثابتة التي هي الممکنات المفتقرة، وما بعد هذا ظاهر مما سبق إلى قوله: فأنشأ صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى .
ولذلك قال فيه«كنت سمعه وبصره»، ما قال: كنت عينه وأذنه.
ففرق بين الصورتين وهكذا هو في كل موجود من العالم بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود.
قلت: يعني بصورة الحق الباطنة، حقائق الأسماء الإلهية والكليات التي هي صور علمه أزلا وأبدا.
قال: ولما كان باطن آدم على صورة حقائق الأسماء من العلم والحياة  والإرادة والقدرة والسمع والبصر.
قال تعالى: «كنت سمعه وبصره» ولو كان ظاهر جسم آدم على صورة الحق تعالى لقال «كنت عينه وأذنه»، ففرق بين الصورتين.
قال في جميع الموجودات أي هو سمع كل سامع وبصر کل مبصر وفي بعض المناجاة أنه تعالى قال: «لولای ما أبصرت العيون مناظرها، ولا رجعت الأسماع بمسامعها»
قوله:  لكن ليس لأحد مجموع ما للخليفة، فما فاز إلا بالمجموع.
فلولا سريان الحق في الموجودات بالصورة ما كان للعالم وجود كما أنه لولا تلك الحقائق المعقولة الكلية ما ظهر حكم في الموجودات العينية.
ومن هذه الحقيقة كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده یعنی شعر:
فالکل مفتقر ما الكل مستغن     …… هذا هو الحق قد قلناه لا نکنی
فإن ذکرت غنيا لا افتقار به    …… فقد علمت الذي في قولنا نعني
فالكل بالکل مربوط فليس له   …… عنه انفصال خذوا ما قلته عني
قلت: يعني أن حقائق أسمائه تعالی موجودة في كل موجود وسمي وجودها في كل موجود سريانا.
فقال: ولولا سريان الحق في الموجودات بالصورة الأسمائية لانعدم العالم دفعة واحدة بل ما كان يوجد أبدا كما أنه لولا تلك الكليات المعقولة ما ظهر في الموجودات حكم.
قال: ومن هذه الحقيقة كان افتقار العالم إلى الحق تعالى في وجوده، لأن الكليات هي صور علمه فطلبت بلسان الحال من الحق تعالى وجودها بلسان الفقر والشيخ قد أسر هنا سرا إلهيا لكن أشار إليه إشارة مبهمة في هذه الأبيات.
وهي قولهفالکل مفتقر ما الكل مستغن.
وموضع إبهامه هو قوله: فإن ذكرت غنيا لا افتقار له.
فأنه سکت عن الجواب، لأنه لو أجاب فإما أن يقول لا بد من الفقر في الحضر تین وحينئذ يقع عليه الرد من المحجوبين، فأشار إشارة لا يتنبه لها إلا من له کشف فإن الذي يعني بقوله.
هو قوله: الكل مفتقر ما الكل مستغن، إلا أن فقر الرازق إلى المرزوق في أن يتحقق رازقيته بالفعل، ما هو مثل فقر الممكن في وجوده إلى الواجب ومن شهد أن الحضرتين الإلهية والكونية تجمعهما الإحاطة الذاتية.
فما يعزب عنه أن يعلم أن فقر الشيء إلى نفسه ما هو فقر أصلا، لأنه ما هناك إلا الحق وأسمائه وصفاته وأفعاله والكل يرجع إلى ذاته تعالى ونحن حقائق أفعاله أعني وجودنا في اصطلاحه لا أعياننا الثابتة التي تجمعها الكليات.
وأما في اصطلاح صاحب المواقف فهو أمر غير هذا بوجه ما وإن كان المعنى يرجع إلى حقيقة لا تختلف، وما ذكره بعد هذا فهو ظاهر إلى قوله اتقوا ربكم.
قوله بعد الشعر : فقد علمت حكمة نشأة جسد آدم أعني صورته الظاهرة، وقد علمت نشأة روح آدم أعني صورته الباطنة، فهو الحق الخلق. وقد علمت نشأة رتبته وهي المجموع الذي به استحق الخلافة. فآدم هو النفس الواحدة التي خلق منها هذا النوع الإنساني، وهو قوله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء" (النساء: 1).
فقوله تعالى: اتقوا ربكم أي اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم، واجعلوا ما بطن منكم، وهو ربكم وقاية لكم، فإن الأمر ذم وحمد فكونوا وقايته في الذم واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين.)
قلت: يعني اتقوا سوء الأدب مع ربكم بأن تعتمدوا معه الأدب الذي يليق بكم معه والمراد: ان كل واحد من ولد آدم له أيضا جمعيته" في ذاته للأسماء الإلهية باطنة وله جسم ظاهر ولا بد لكل أحد أن يمدح أو يذم في وقت ما فيجب عليه بأن يعطي المدح منه لما فيه من الأسماء الإلهية فإن المدح يصلح لها وأما ظاهره وهو جانب الكون منه.
فلو أعطى المدح بظاهره مع كون المدح لجانب الحق لزمه أن يكون شريكا للحق تعالى في صفاته، فلما صرف هو المدح لمستحقه وقاه الحق تعالی عن نقيضه أن يظهر بصفة مشاركة ربه، عز وجل.
الذي من ادعاها فهو ظالم، لوضعه الشيء في غير موضعه، فإن الظلم في لغة العرب هو وضع الشيء في غير موضعه، فيستحق اللعنة بقوله تعالى: «ألا لعنة الله على الظالمين" (هود: 18).
فنعود ونقول وأن يعطى الذم لظاهره وقد كان الذي ذمه أو شتمه إنما يذم أو يشتم جملته، فيجب عليه أن يخصص الذم بظاهره دون باطنه.
فيكون وقاية لربه تعالى ولأسماء ربه، تعالی عن أن يصل إليها ذلك الذم، وإذا فعل هذا كان أديبا عالما.
أما أنه أديب: فظاهر، وأما أنه عالم: فلأنه علم مواضع الصفتين، فوضع كل صفة في موضعها وكان عالما بالأدب أيضا.
قوله: (ثم إنه تعالى أطلعه على ما أودع فيه وجعل ذلك في قبضتيه: القبضة الواحدة فيها العالم، والقبضة الأخرى آدم وبنوه. وبين مراتبهم فيه.
ولما أطلعني الله في سرى على ما أودع في هذا الإمام الوالد الأكبر، جعلت في هذا الكتاب منه ما حد لي لا ما وقفت عليه، فإن ذلك لا يسعه کتاب ولا العالم الموجود الآن فمما شهدته مما نودعه في هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حكمة إلهية في كلمة آدمية، وهو هذا الباب.
ثم حكمة نفثية في كلمة شيئية.
ثم حكمة سبوحية في كلمة نوحية.
ثم حكمة قدوسية في كلمة إدريسية.
ثم حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية.
ثم حكمة حقية في كلمة إسحاقية.
ثم حكمة علية في كلمة إسماعيلية.
ثم حكمة روحية في كلمة يعقوبية.
ثم حكمة نورية في كلمة يوسفية.
ثم حكمة أحدية في كلمة هودية.
ثم حكمة فاتحية في كلمة صالحية.
ثم حكمة قلبية في كلمة شعيبية.
ثم حكمة ملكية في كلمة لوطية.
ثم حكمة قدرية في كلمة عزيرية.
ثم حكمة نبوية في كلمة عيسوية.
ثم حكمة رحمانية في كلمة سليمانية.
ثم حكمة وجودية في كلمة داودية.
ثم حكمة نفسية في كلمة يونسية.
ثم حكمة غيبية في كلمة أيوبية.
ثم حكمة جلالية في كلمة يحياوية.
ثم حكمة مالكية في كلمة زکریاوية.
ثم حكمة إيناسية في كلمة إلياسية.
ثم حكمة إحسانية في كلمة لقمانية.
ثم حكمة إمامية في كلمة هارونية.
ثم حكمة علوية في كلمة موسوية.
ثم حكمة صمدية في كلمة خالدية.
ثم حكمة فردية في كلمة محمدية.
وفص كل حكمة، الكلمة التي تنسب إليها.
فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحكم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب.
فامتثلت ما رسم لى، ووقفت عند ما حد لي، ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت، فإن الحضرة تمنع من ذلك والله الموفق لا رب غيره.)
قلت: قوله، ثم إنه تعالى أطلعه على ما أودع فيه. يعني آدم..
قوله: وجعل ذلك في قبضتيه.
قلت: يعني قبضتي الحق تعالى وقد تقدم شرح معنى القبضتين أيضا، وهما هنا: العالم في قبضة وآدم وبنوه في قبضة، وبين مراتبهم وباقي الكلام مفهوم إلى قوله: وفص كل حكمة الكلمة التي نسبت الحكمة إليها.
وأم الكتاب هنا القلم الأعلى والكتاب هو اللوح المحفوظ والحضرة التي ذكر أنها تمنع عن ذلك هي حضرة الحق تعالى في مراتب الأكوان المحجوبة فإن أفهام المحجوبين قاصرة والأدب مع الله تعالى في مثل ذلك أن لا يتجاوز إلى ذكر ما لا يقدر الضعفاء أن يفهموه أو يقبلوه وقد ورد في بعض التنزلات ما صورته "یا عبد إذا رأيت من لا يراني فاسترني عنه بحكمتي فإن لم تفعل وضل أخذتك به ."
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الأول .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 6:04 am

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الأول .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الأول
قوله رضي الله عنه: "اعلم أن العطايا والمنح الظاهرة في الكون على أيدي العباد وعلى غير أيديهم على قسمين: منها ما يكون عطايا ذاتية وعطايا أسمائية وتتميز عند أهل الأذواق، كما أن منها ما يكون عن سؤال في معين وعن سؤال غير معين.
ومنها ما لا يكون عن سؤال سواء كانت الأعطية ذاتية أو أسمائية.
فالمعين كمن يقول يا رب أعطني كذا فيعين أمرا ما لا يخطر له سواه وغير المعين كمن يقول أعطني كذا ما تعلم فيه مصلحتى من غير تعيين لكل جزء من ذاتی من لطيف وكثيف."
قلت: النفث هو النفخ فكأنه يقول: إن روح القدس نفث في روعي.
والمراد بالكلمة شيث، عليه السلام، أضاف الكلمة إليه إضافة المسمى إلى اسمه عند من يريد بيان المسمى من الاسم.
والمنح هي العطايا ويجوز عطف الشيء على نفسه إذا اختلفت الألفاظ
ومثال العطايا التي على أيدي العباد: ما يهبه الناس بعضهم لبعض.
ومثال ما هو على غير أيديهم: ما يهبه الله تعالى عباده من معرفة أو علم أو غير ذلك بلا واسطة أو بواسطة ملك من الملائكة.
ومثال العطايا الذاتية: أن يكشف الله تعالی لولي من أوليائه فيحصل له الشهود الذاتي الذي فوق مراتب الأسماء والصفات والأفعال.
ومثال العطايا الأسمائية: أن يحصل للولي شهود من حضرة اسم إلهي مثل القيوم مثلا فيشهد قيومية الحق تعالى التي بها قام كل شيء ولولا قيام العالم بالقيومية الإلهية لانعدم دفعة واحدة، ولولا القيومية لما وجد.
واعلم أن الصفات والأفعال ترجع إلى الأسماء الإلهية.
قال: وتتميز هذه العطايا والمنح عند أهل الأذواق، فيعرفون العطايا الذاتية من العطايا الأسمائية، ويتميزون أيضا عطايا بعض الأسماء عن بعض وذلك لا يعرفه إلا أهل الأذواق.
والذوق عبارة عن نور عرفاني يقذفه الحق تعالی بتجليه في قلوب أوليائه يفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب ولا غيره. وباقي الكلام ظاهر.
و قوله رضي الله عنه: (والسائلون صنفان صنف بعثه على السؤال الاستعجال الطبيعي فإن الإنسان خلق عجولا. والصنف الأخر بعثه على السؤال لما علم أن ثم أمورا عند الله قد سبق العلم بأنها لا تنال إلا بعد السؤال، فيقول: فلعل ما نسأله سبحانه يكون من هذا القبيل، فسؤاله احتياط لما هو الأمر عليه من الإمكان، وهو لا يعلم ما في علم الله ولا ما يعطيه استعداده.)
قلت: هذا كله ظاهر من تمثيل الشيخ، رضي الله عنه.
قوله: (ولا ما يعطيه استعداده في القبول لأنه من أغمض المعلومات الوقوف في كل زمان فرد على استعداد الشخص في ذلك الزمان. ولولا ما أعطاه الاستعداد السؤال ما سأل.
و قوله رضي الله عنه : "فغاية أهل الحضور الذين لا يعلمون مثل هذا أن يعلموه في الزمان الذي يكونون فيه، فإنهم لحضورهم يعلمون ما أعطاهم الحق تعالى في ذلك الزمان وأنهم ما قبلوه إلا بالاستعداد."
قلت: يعني بالاستعداد، التهيؤ للأمر ومن جملة الأمور السؤال، فلو لا أن السائل مستعد للسؤال ما سأل.
لكن من الناس من يعلم الاستعدادات ويعلم ما يقتضيه ومنهم من لا يعلم ذلك وهم الأكثرون.
فأما الذين يعلمون مقتضیات الاستعدادات تماما فهم الذين قطعوا السفر الثاني.
وذلك هو تفصيل التوحيد، وأكملهم معرفة في ذلك قطب الأقطاب وهو الذي شهد الشهود الذاتي المحيط وهذا الشخص هو الخليفة في الأرض عند الله تعالى سواء عرف أو لم يعرف لأنه
لا يعرف حقيقة أصلا، إذ لا يعرفه إلا من هو مثله فيجمعهم المرتبة، فيكونان واحدا في المرتبة وإن كانا إثنين في العدد بل لو كانوا آلافا. وأما من دون هذا المقام، فلا يعرفون من الاستعدادات إلا بقدر قرب مراتبهم من هذ الكامل وهذا الكامل هو الذي يصلح أن يكون رسولا فيما كان من الزمان قبل مبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وأما من بعده، فهم المشايخ الذين وردت الآية بالإخبار عنهم في قوله تعالى: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " (يوسف: 108).
وهم الكمل أو من كان تابعا بالتقليد بخلاف الكامل، إذ هو من يلقي السمع وهو شهيد.
وأما الذين لا يعلمون الاستعدادات، فلا يصلح لهم أن يكون مشایخ يرشدون طالبي الحق تعالی.
وأما طالبوا ثواب الله تعالى، فيجوز أن يكون المرشد لهم من لا يعرف الاستعدادات لكن يجب أن يكون عالما بالشرع الشريف أعني ما يخص العبادات إذ هي المهم.
وقوله: "في كل زمان فرد"، إشارة إلى تنقل الاستعدادات في الزيادة والنقص الواقع في الأزمنة فإن لم يميز الانتقال المذكور فما يتهيأ له أن يعرف الاستعدادات تماما.
وقوله: "أنه يعلموه في الزمان الذي يكونون فيه."
قلت: يعني حالة وصول العطاء إليهم يعلمون أنهم كانوا مستعدين لذلك العطاء.
قوله رضي الله عنه : "وهم صنفان صنف يعلمون من قبولهم استعدادهم، وصنف يعلمون من استعدادهم ما يقبلونه هذا أتم ما يكون في معرفة الاستعداد في هذا الصنف."
ومن هذا الصنف من يسأل لا للاستعجال ولا للإمكان، وإنما يسأل امتثالا لأمر الله في قوله تعالى: "ادعوني أستجب لکم" (غافر: 60).
فهو العبد المحض، وليس لهذا الداعی همة متعلقة فيما سأل فيه من معين أو غير معين، وإنما همته في امتثال أوامر سیده.
فإذا اقتضى الحال السؤال سأل سؤال عبودية وإذا اقتضى التفويض والسكوت سكت فقد ابتلى أيوب، عليه السلام، وغيره وما سألوا رفع ما ابتلاهم الله تعالى به، ثم اقتضى لهم الحال في زمان آخر أن يسألوا رفع ذلك، فسألوا فرفعه الله تعالی عنهم.
والتعجيل بالمسئول فيه والابطاء للقدر المعين له عند الله.
وإذا وافق السؤال الوقت أسرع بالإجابة، وإذا تأخر الوقت إما في الدنيا وإما في الآخرة، تأخرت الإجابة أي المسئول فيه لا الإجابة التي هي لبيك من الله تعالى فافهم هذا."
قلت: يعني أن قوما يستدلون بالأثر على المؤثر وقوما بالعکس.
قوله رضي الله عنه: "فهو العبد المحض."
قلت: يعني أن السؤال عبادة لكن على أهل الحجاب وأما أهل الشهود، فلا يسئلون أصلا .
وقد ورد في بعض المناجاة: «یا عبد طلبك مني وأنت لا تراني عبادة، وطلبك مني وأنت ترانی استهزاء» وما بعد هذا فهو مفهوم إلى قوله وأما القسم الثاني.
قوله رضي الله عنه: "وأما القسم الثاني وهو قولنا: ومنها ما لا يكون عن سؤال فالذي لا يكون عن سؤال، فإنما أريد بالسؤال التلفظ به، فإنه في نفس الأمر لا بد من سؤال إما باللفظ أو بالحال أو بالاستعداد.  كما أنه لا يصح حمد مطلق قط إلا في اللفظ، وأما في المعنى فلا بد أن يقيده الحال. فالذي يبعثك على حمد الله هو المقيد لك باسم فعل أو باسم تنزيه."
قلت: يعني أن السؤال إن كان باللفظ فظاهر وإن لم يكن باللفظ، فبالحال وذلك لأن الإنسان بل الأشياء كلها لا بد من افتقارها إلى أمر ما، فحالها ذلك يستدعي باستعداده ويسأل وهو أقوى من لسان المقال وكذلك الاستعداد هو سؤال وهو أقوى في الإجابة من سؤال الحال، فإن الحال إذا سأل ولا يكون هناك استعداد للإجابة فلا تحصل إجابة أصلا.
قوله: (كما أنه لا يصح حمد، إلى قوله: باسم تنزيه.)
قلت: المراد بالحمد هنا هو حمد الله تعالى فإن المخلوق إذا أصبته محمودا فحمدته، فالمقتضي لحمده هو حال المحمود وأما حمدنا الله تعالى، فإنا متی أطلقنا لفظتي الحمد لله، فلا بد أن يكون عندنا مقتضى ذلك الحمد ويكون أمرا مقيدا.
فإن من أكل مثلا فشبع، فقال الحمد لله، فإنما أراد الحمد الذي هو بمعنی الشكر، فالحمد مقيد بمعنی الشكر.
إذا كان الشكر إنما يكون في مقابلة إحسان، وأيضا فما حمد الله إلا من حضرة الاسم الرازق، فإنه هو الذي رزقه ذلك الطعام وإذا كان حمده له من مرتبة الاسم الرازق يستحيل أن يكون ذلك الحمد بعينه من حضرة الاسم المانع.
وأما من لقي مثلا مخوفا فنجا منه، فقال: الحمد لله، فإنما حمده تعالى من مرتبة اسم الواقي، تبارك وتعالى، لا من حضرة الاسم المنتقم.
وكذلك كل حمد يصدر من العبد لربه، تبارك وتعالى، فلا بد وأن يكون مقيدا في نفس الأمر وإن أطلق اللفظ به ولم يقيده، فإن الحال قد قيده.
وأما قوله: باسم فعل، فمثل الرازق والمعطي والمنعم وبالجملة كل مصدر يمكن أن يشتق منه فعل ، فاسم الفاعل المشتق من ذلك المصدر " هو عنده اسم فعل
وأما قوله: اسم تنزيه، فمثل ما إذا هداه الله تعالى إلى معرفة أن الله تعالی لا يتصف بصفات خلقه فقال وهو فرح بتلك الهداية: "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي" (الأعراف: 43).
فإنما أشار بالحمد إلى اسمه السبوح القدوس، إذ کلاهما من أسماء التنزيه وكان الاسم الهادي موصلا لحضرة التنزيه وله نصيب من هذا الحمد أيضا.
و قوله: "والاستعداد من العبد لا يشعر به صاحبه ويشعر بالحال لأنه يعلم الباعث وهو الحال، فالاستعداد أخفى سؤال وإنما يمنع هؤلاء من السؤال علمهم بأن الله فيهم سابقة قضاء. "
فهم قد هيئوا محلهم لقبول ما يرد منه وقد غابوا عن نفوسهم وأغراضهم
قلت: يعني أن الشعور بالاستعداد يتعذر على الضعفاء وعلى الأكثرين غالبا وأما الحال، فللعبد به شعور لأنه" يشعر بما بعثه على الحمد إذ لا يحمد عبثا بل لا بد أن يكون عنده معلوما ما بعثه على الحمدوباقي الكلام واضح.
قوله رضي الله عنه : "ومن هؤلاء من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه في حال ثبوت عينه قبل وجودها، ويعلم أن الحق تعالى لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به وهو ما كان عليه في حال ثبوته، فيعلم علم الله به من أين حصل. وما ثم صنف من أهل الله أعلى وأكشف من هذا الصنف فهم الواقفون على سر القدر."
قلت: يعني ومن هؤلاء من تحقق أن العالم كان قبل إيجاده أعيانا ثابتة لا موجودة ولا معدومة من العلم الإلهي، مثل تحققه أنه كان في علم الله لا بد أن يكون إنسانا وأن يجري عليه ومنه وبه أحوال الأناسي لا مطلقا.
بل أن يكون إما فقيها مثلا أو عاميا إما ذا حرفة كالخياطة أو غيرها وأحواله مفصلة من رزق و غنی أو فقر وعمر وبالجملة جميع أحواله.
وعينه الثابتة التي هي في العلم الإلهي بجميع أحوالها لا يمكن أن تكون في الوجود إلا على حد ما كانت عليه في العلم الإلهي.
وقوله: "فيعلم علم الله به من أين حصل".
 یعنی به أن علم الله تعالى تابع للمعلومات التي هي الأعيان الثابتة على حد ما هي عليه فحصول العلم بعين من الأعيان إنما حصل من تلك العين المذكورة، فإن العلم لا يعطي المعلوم زيادة في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أحواله كلها.
فقوله: من أين حصل، يعني إنما حصل من معلومه.
وأما قوله: فهم الواقفون على سر القدر، فمعناه أن أحوال تلك الأعيان الثابتة لا تتبدل عما علمت عليه فهذا هو سر القدر.
و قوله رضي الله عنه : "وهم على قسمين منهم من يعلم ذلك مجملا ومنهم من يعلمه مفصلا، والذي يعلمه مفصلا أعلى وأتم من الذي يعلمه مجملا، فإنه يعلم ما في علم الله فيه إما بإعلام الله إياه مما أعطاه عينه من العلم به، وإما بأن يكشف له عن عينه الثابتة وانتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى وهو أعلى، فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به لأن الأخذ من معدن واحد."
قلت: هذا كله واضح من عبارة الشيخ، رضي الله عنه، إلا قوله: من معدن واحد، فإنه يحتاج أن يبين المعدن المذكور ويعني بالمعدن الواحد أن الحق تعالی يأخذ علمه بالأعيان منها، لأن علمه تابع لمعلومه .
وكذلك هذا المشار إليه إنما يأخذ ذلك العلم المفصل من المعلوم وكل من علمه صحيح فإنما يأخذ علمه من معلومه، فالمعدن هو المعلوم والتقدير أنه هو تلك الأعيان الثابتة فيأخذ علمه منها.
قوله رضي الله عنه :" إلا أنه من جهة العبد عناية من الله تعالی سبقت له من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك، أي على أحوال عينه، فإنه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على أحوال عينه الثابتة التي تقع صورة الوجود عليها أن يطلع في هذه الحال على اطلاع الحق تعالى على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها لأنها نسب ذاتية لا صورة لها. "
فبهذا القدر نقول: إن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادة العلم
قلت: في قوة كلامه، رضي الله عنه، هنا قوة جواب عن سؤال مقدر.
تقريره أن يقال: إذا حصل لعبد من العبيد علم عينه الثابتة وعلم ما يكون عليه في حال الوجود والحق تعالى هو يعلم الأعيان الثابتة أيضا مثل هذا العلم بعينه فما الفرق بين علم الله تعالی و بین علم هذا العبد؟
فأجاب: بأن عناية الله تعالی سابقة لهذا العبد بأن يعلم هذا العلم فهو علم مستفاد، بخلاف علم الله تعالى فإنه ذاتي أزلي أبدي فافترق علم الله تعالی عن علم هذا المكاشف. والعناية أيضا مستفادة من تلك العين.
و قوله رضي الله عته : "ومن هنا يقول الله تعالى: "حتى نعلم" (محمد: 31) وهي كلمة محققة المعني ما هي كما يتوهمه من ليس له هذا المشرب.
وغاية المنزه أن يجعل ذلك الحدوث في العلم للتعلق وهو أعلى وجه يكون للمتكلم بعقله في هذه المسألة، لو لا أنه أثبت العلم زائدا على الذات فجعل التعلق له لا للذات.
وبهذا انفصل عن المحقق من أهل الله، صاحب الكشف والوجود."
قلت: الشيخ، رضي الله عنه، قد ألغز ها هنا لغزا وهو أنه قد قدم في الحكمة الأولى التي هي في كلمة آدمية أن الإنسان جامع لحضرة الأسماء الحسنى، فهو حق من وجه، خلق من وجهه.
فمن الوجه الذي هو منه حق ثبت للحق تعالی منه أحكام لولا هذا الإنسان الكامل ما جاز نسبتها إليه تعالى.
فمن ذلك أن هذا الإنسان يتجدد له العلم، فيصح من هذه المرتبة أن يقول الحق تعالی: "حتى نعلم" لأن الحق تعالی من حضرة إطلاقه لا علاقة بينه وبين شيء وإنما العلاقة تكون في مراتب الإنسان.
فما خاطبه الحق تعالی من حضرة إطلاقه بل من حضرة تقييده.
ألا ترى أنه لو لم يكن في الوجود عین ثابتة يقال له: أبو لهب، لم يرد في الكتاب العزيز "تبت يدا أبي لهب وتب" سورة المسد آية 1.  فمن مرتبة العين الثابتة التي هي أبو لهب نزلت هذه الآية.
والمراتب كلها في علمه تعالی فإذن هي نازلة من عند الله تعالى لأن العندية الإلهية عامة لكل عندية جزئية أزلا وأبدا .
فإذن هناك علاقة بين الحق تعالی وبين الإنسان وهي كون الإنسان جامعة الأسماء الله الحسنى .
فإذا قال الحق تعالی: "حتى نعلم"  فمعناه حتى يعلم الإنسان، فيكون نفس تجدد العلم هو للإنسان لكن للإنسان حضرة الإلهية أيضا، فيرجع إليه تعالى من حقيقة "حتى نعلم" حکم ما به صح .
قولنا: إن الله تعالى قال في كتابه العزيز: "حتى نعلم" ولما كانت هذه الحضرة المقتضية لتحقق حقيقة "حتى نعلم" هي من الحضرات الذاتية الإلهية من جهة ما للأعيان الثابتة هي معلومات الذات والمعلوم مع العلم في الذات ويشملها أن علم الله تعالى لا يغادر ذاته.
فثبت معنی "حتى نعلم" ولم يلحق الذات المقدسة منها تجدد علم إذ كان الإنسان في هذه الحقيقية وقاية لربه تعالی عن نقص هذا الحدوث.
ثم إن الشيخ، رضي الله عنه، أردف هذا بذكر ما قاله المتكلمون من قولهم:" إن الله تعالى يعلم الأشياء بعلم زائد على ذاته".
وقصدهم أن ينسبوا تجدد العلم إلى التعلق الحاصل" للعلم .
كأنهم قالوا: تجدد التعلق لغير الحق تعالى وهو العلم لا له تعالى وهذا يرون أن به بيحصل الانفصال عن هذا الاشكال.
فقال الشيخ رضى الله عنه : "إن الصحيح هو الذي اقتضاه الكشف والشهود وهو ما أشير إليه من أن تجدد العلم إنما هو للإنسان وأن الذي ذكره المتكلم باطل.
 فحصل الفرق بين المتكلمين وبين أهل الله تعالى في هذه المسألة .
ووصف أهل الكشف بأنهم أهل الوجود أي أهل شهود وجود الله تعالى .
أو أنه أراد بالوجود الوجدان فإن شهودات أهل الله تعالى هي وجدانية لا فكرية."
""يعني بالوجود :أهل الوجود العارفين شهودهم  بنور الله الأزلي الوجود الحقيقي والوجود المستعار ويفرقون بينهم شهودا ووجودا. وليسوا كغيرهم ممن لم يفتح الله بصيرهم وبصرهم  يرون الوجود المستعار انه هو كل الوجود او الوجود الحقيقي على الإطلاق.""
قوله: "ثم نرجع إلى الأعطيات "
فنقول: إن الأعطيات إما ذاتية أو أسمائية.
فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية فلا تكون أبدا إلا عن تجل إلهي.
والتجلي من الذات لا يكون أبدا إلا بصورة استعداد المتجلى له وغير ذلك لا يكون.
فإذن المتجلى له ما رأي سوى صورته في مرآة الحق تعالى، وما رأى الحق ولا يمكن أن يراه.
قلت: الأعطيات والعطايا والهبات والمنح كلها بمعنى واحد هنا، فالشيخ ذكر أن هذه الهبات إما ذاتية وإما أسمائية، فشرع في ذكر الهبات الذاتية فنسبها إلى ذات العبد في الحقيقة لا إلى ذاته تعالى .
وذلك في قوله: والتجلي من الذات المقدسة لا يكون أبدا إلا بصورة استعداد العبد المتجلى له، فرد الأمر إلى العبد و استعداد العبد هو من جملة ذاته.
فكأنه قال: إن تجلی الحق تعالی يكون مطلقا غیر مقید ولا يرى العبد منه إلا ما قيده له استعداده.
فإذن ما يمكن للعبد أن يرى إطلاق الحق تعالى من جهة أن العبد لا يكون إلا مقيدا ولا يرى المقيد إلا ما هو مقيد باستعداده فما رأى الحق تعالی أحد ولا يمكن أن يراه في حضرة إطلاقه.
أما كون نور التجلي يصير العبد كالمرآة، فيرى فيه ذاته، فهو أمر قد صح عند أهل الله ولذلك قالوا"انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بنفوسهم".
قوله رضي الله عنه: "مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه كالمرأة في الشاهد إذا رأيت الصورة فيها لا تراها مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها. فأبرز الله ذلك مثالا نصبه لتجلية الذاتي ليعلم المتجلى له أنه ما رآه. وما ثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلي من هذا. وأجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرأة أن ترى جرم المرأة لا تراه أبدا ألبتة حتى أن بعض من أدرك مثل هذا في صور المرايا ذهب إلى أن الصورة المرئية بين نظر الرآئی و بین المرآة. "
قوله رضي الله عنه: "هذا أعظم ما قدر عليه من العلم، والأمر كما قلناه وذهبنا إليه. وقد بينا هذا في الفتوحات المكية وإذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوقات، فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن ترقى في أعلى من هذا الدرج فما هو ثم أصلا، وما بعده إلا العدم المحض."
قلت: يعني به علم العبد المتجلي له، أنه ما رأى صورته إلا في الحق تعالی وشبه ذلك بالمرآة فإن الإنسان إذا شاهد الشكل الذي في المرآة لا يكون مشاهدا الجرم المرآة وكأنه يقول إن ذلك قد جرب وهو أن جرم المرآة وهو الصيقل
منها الذي يرى الشكل لا يراه أحد حين مشاهدته للشكل لكن يعلم أن الشكل ما ظهر لك إلا في المرآة وبها
قوله رضي الله عنه: "واجهد أنك إذا رأيت الشكل في المرآة أن ترى جرم المرآة فهو إرشاد منه، تعالی و تقدس، إلى أدب أهل الله تعالى في الشهود، فإنهم يجتهدون أن يروا المرآة أكثر من اجتهادهم أن يروا الشكل الذي فيها أي يرون الحق تعالی أقرب إلى شهودهم من رؤية نفوسهم التي ظهرت في مرآة تجليه تعالى وأما جرم المرآة".
 فقد قال: إنك لا تراه أبدا مع جواز إرادته، رضي الله عنه.
أن يقول لك: جرب أنت ما قلناه، هل ترى جرم المرآة في تلك الحالة؟
فإنك تعلم أنك لا تراه أصلا.
قال: ومن جملة ما ألجأ بعض الناس أن يقول: إن الشكل الظاهر في المرآة هو بين البصر وبين الجرم الصيقل من المرآة، ما جربوه من أن جرم المرآة المذكور لا يرى، فتوهموا أن الشكل المذكور هو الذي حجب أبصارنا عن إدراك جرم المرآة لما عجزوا عن رؤيته.
قال: هذا أعظم ما قدروا عليه من العلم. وباقي الكلام مفهوم مما سبق في الكلمة الآدمية .
وينبغي أن يفهم من هذا الكلام الذي ذكره شيخنا، رضي الله عنه، أن الشهود لا يكون إلا للوجود أو لمعانيه وليس غير الأعيان الثابتة المذكورة وأما العدم المحض وهو لا شيء من كل وجه، فلا يشهد ولا يعبر عنه عبارة إلا مجازا للضرورة.
قوله رضي الله عنه: "فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته نفسه وهي أسماؤه وظهور أحكامها و ليست سوى عينه"
قلت: هذا مجاز على حكم التشبيه لأن وجود الحق تعالی کالمرآة تظهر فيها نفس المشاهد، وذات المشاهد كالمرآة تظهر فيها أسماؤه تعالى والجميع يرجع إلى أن الأعيان الثابتة معان وهي صور علمه، وعلمه لا يغایر ذاته فليس إلا هو فانبهم الأمر.
قوله: "فاختلط الأمر وانبهم." الجميع يرجع إلى أن الأعيان الثابتة معان وهي صور علمه، وعلمه لا يغایر ذاته فليس إلا هو فانبهم الأمر.
و قوله: "فمنا من جهل في علمه "
قوله رضي الله عنه: والعجز عن درك الإدراك إدراك، ومنا من علم فلم يقل مثل هذا وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم السكوت، ما أعطاه العجز. وهذا هو أعلى عالم بالله.
وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء ، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى أن الرسل لا يرونه مني رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء." 
فقال رضي الله عنه : " فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته تنقطعان، والولاية لا تنقطع أبدا. فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلى."
فقال رضي الله عنه : "وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أساری بدر بالحكم فيهم، وفي تأبير النخل. فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في رتبة العلم بالله هنالك يطلبهم. وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها، فيتحقق ما ذكرناه."
قلت: الذي جهل في علمه هو الذي ما تجاوز السفر الأول بل وقف عند نهايته ويسمى هذا المقام في اصطلاح المواقف النفرية "موقف الوقفة" فإذا أردت بیانه تماما، فأنظره من هناك .
وهذا المقام أيضا يسمى الوحدة المطبقة وقد ذكره ابن العريف في محاسن المجالس في شعر ذكره على قافية القاف وصورته :
فألقوا حبال مراسيهم     ….. وغطوا فغطاهم وانطبق
فصاحب هذا المقام هو الذي يقول من عرف الله كل لسانه أي أراد أنه جهل وأما من عجز عن النطق وهو يرى أن المقام يقتضي النطق.
 فذلك لم يجهل إلا العبارات مثل أن يكون عاميا أميا، فأدركه الفتح فصار من الخواص إلا أنه غير ناطق.
قال رضي الله عنه : "ومنا من علم فلم يقل مثل هذا، بل أعطاه العلم السكوت"
لأن المحجوبين لا يقبلون ما يقول وهم الأكثرون ولهم الحكم، فرأى أن السكوت أولى، فكتم ما عنده وهو قادر على الكلام.
وأما قوله رضي الله عنه: وليس هذا العلم إلا الخاتم الرسل وخاتم الأولياء."
فإني أقول أيضا: إن خاتم الرسل هو أيضا خاتم الأولياء وإن من جاء بعده من أمته ممن حصل له مرتبة خاتم الأولياء هو أيضا خاتم الأولياء، ولا يقدح تعدد الأشخاص إذا كانت المرتبة واحدة ولو كانت الأشخاص بلا نهاية في العدد.
وقد قال قائلهم شعرا :
لو أنهم ألف ألف في عددهم     ……. عادوا إلى واحد فرد بلا عدد
فما لخاتم الأولياء مزية في الختمية إلا أن كان بالسبق" الزماني ولا أثر له " إلا إنا نعلم أن الولاية مرتبتها فوق مرتبة النبوة، والنبوة مرتبتها فوق مرتبة الرسالة.
فإذا جمعت الثلاثة لواحد كما جمعت لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فهو ولي نبي رسول إلا أن ولايته فوق نبوته، ونبوته فوق رسالته، لأن الولاية هي حاله، عليه السلام، عندما قال: «لي وقت لا يسعني فيه غير ربي» فهو يلي الحق ويأخذ عن الحق تعالی بلا واسطة الملك.
وفي مرتبة النبوة يأخذ عن الحق تعالی بواسطة الملك والنبوة مشتقة من الإنباء وهو الإخبار بواسطة جبرائيل، عليه السلام.
لكن نبوته فوق رسالته لأن النبوة حديثها حديث جبرائيل معه، عليه السلام، وأما الرسالة، فحديثها حديث البشر فلا يخفى أن النبوة أعلى وقد ذكر الشيخ هذا المعنى في بيت شعر وهو قوله:
مقام النبوة في برزخ     …… دوين الولي وفوق الرسول
ومراده ما ذكرناه وقوله: حتى أن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، أمره سهل مما ذكرناه، لأن الرسل من كونهم رسلا هم تحت مرتبة خاتم الأولياء لكن إذا كانوا في مرتبة خاتم الأولياء فالمشكاة المذكورة لهم.
والولاية كما قال الشيخ: لا ينقطع وكلام الشيخ فيما بقي واضح.
وقوله في تفضيل عمر في قصة أسارى بدر: هو أن النبي، صلى الله عليه وسلم، شاور الصحابة، رضي الله عنهم، في قتل الأسرى فأشار عليه أبوبكر أن يأخذ منهم الفدية ويطلقهم.
فقال عمر بن الخطاب: ما أرى إلا أن يضرب رقابهم.
فقال له أبو بكر: ما تزال یا عمر تعارضني فيما أقوله، فأنزل الله الآية الكريمة توافق رأي عمر وهي قوله تعالى: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تریدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حکيم لولا كتاب من الله سبق لكم فيما أخذتم عذاب عظيم" (الأنفال: 67 – 68).
فرجح الله تعالى رأي عمر بن الخطاب مع أن ابوبکر، رضي الله عنه، أفضل منه ولم يقدح ذلك في كونه يرجح عليه عمر ، رضي الله عنه.
وأما تأبير النخل فهي قضية قال لهم فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "ما أرى في ترككم تأبيره مضرة تحصل له"، فتركوا تأبير النخل، ففسدت ثماره.
فقالوا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: «أنتم أعلم بامور دنیاکم وأنا أعلم بأمر ديني».
فقد كانوا أعلم بهذه المسألة ولم يقدح ذلك في كون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أعظم قدرا من كل البشر، فكذلك قضية ختم الأولياء فيما ذكره، رضي الله عنه.
قوله رضي الله عنه: ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل سوی موضع لبنة، فكان، صلى الله عليه وسلم، تلك اللبنة. غير أنه، صلى الله عليه وسلم، لا يراها إلا كما قال لبنة واحدة. وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا، فیری ما مثله به رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، ويرى في الحائط موضع لبنتين، واللبن من ذهب وفضة" .
قوله رضي الله عنه: "فيرى اللبتين اللتين تنقص الحائط عنهما وتكمل بهما، لبنة ذهب ولبنة فضة، فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبتين، فيكون خاتم الأولياء نينك اللبنتين، فيكمل الحائط. والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع الشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضة، وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام"
قوله: "كما هو أخذ عن الله تعالى في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه، لأنه لا يرى الأمر على ما هو عليه، فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول. فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع."
قلت: حاصل ما أشار إليه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، إنما مثل النبوة وحدها وهي دون مقام ولايته، عليه السلام، فرآها لبنة واحدة لو مثل معها مقام ولايته لراها لبنتين كما رآها خاتم الأولياء ثم ذكر الشيخ، رضي الله عنه، كلامه هذا يعلم فيه أن الولي الخاتم للولاية يري أن الحائط ناقصا لبنتين وذلك من ضرورة رؤيته لمقام النبوة التي هي فيها تابع، وهي لبنة فضة.
ویری موضع لبنة أخرى وهي ما يأخذه عن الله تعالی بلا واسطة.
ولما كان مقام الولاية أعلى من مقام النبوة، كما ذكر، جعل اللبنة المختصة بالنبوة لبنة فضة والأخرى لبنة ذهبية.
ولم يقل: ذهب، ليسلم ختم الأولياء، الولاية للرسول أيضا وليسلم أيضا ما رأوه من لبنة الذهب إليه ويصف ما حصل له بصورة النسب، هكذا ينبغي أن يقال ويسطر في الكتب، وفي المشافهة يمكن أن يتبين بيانا أكثر من هذا.
قوله رضي الله عنه: "وكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبی ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نبيا و آدم بين الماء والطين.» وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث"
قلت: هذا الكلام ظاهر إلا أنه ينبغي لك أن تفهم أن كل نبي كان في الأزل في علم الله تعالى نبيا على حكم ما قرره الشيخ، رضي الله عنه، في الحكمة الآدمية منه أن الأعيان الثابتة بجميع أحوالها هي العلم وهو على حد ما يأتي في العين، والنبوة المختصة بغيره، عليه السلام، من جملة ذلك.
وأما في حال كون آدم بين الماء والطين، فذكر الشيخ، رضي الله عنه، هنا أن أحدا من الأنبياء ما كان والحالة هذه نبيا، بل عند ما حصل له في الوجود العيني الاتصاف بصفات الوجود وصار نبيا حين مبعثه فقد فهم مقصوده.
و قوله رضي الله عنه: وكذلك خاتم الأولياء كان وليا و آدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها من دون الله تعالی يسمي بالولي الحمید
قلت: هذا مفهوم مما قاله في خاتم النبيين، عليه السلام، إلا أن ذلك في النبوة وهذا في الولاية فافهم المعني هنا مما قيل هناك.
قوله رضي الله عنه: "فخاتم الرسل من حيث ولايته لنسبته مع الختم للولاية نسبة الأنبياء والرسل معه، فإنه الولى الرسول النبي. وخاتم الأولياء الولى الوارث الآخذ عن الأصل المشاهد للمراتب".
قلت: مراده، رضي الله عنه، أيضا ظاهر من كلامه فلا حاجة إلى شرحه إلا مشافهة
قوله: "وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل، محمد صلى الله عليه وسلم، مقدم الجماعة وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة. فعین حالا خاصا ما عمم."
قلت: يعني أنه وإن تأخر وجوده الطيني إلى ما بعد انتقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فهو من أمته فهو إذن حسنة من حسناته والشيخ، رضي الله عنه، هنا ذكر أن السيادة الحاصلة له، عليه السلام، على ولد آدم ليس إلا في فتح باب الشفاعة، لا مطلقا لأن ظاهر الحديث يدل على ما قال، فهي سيادة خاصة عنده لا عامة
قوله رضي الله عنه: وفي هذا الحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية، فإن الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين."
قوله:  " ففاز محمد صلى الله عليه وسلم، بالسيادة في هذا المقام الخاص، فمن فهم المراتب والمقامات لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام."
قلت: يعني أن الذي يتولى أهل البلاء من الأسماء الإلهية إنما هو الاسم المنتقم، فالشفاعة إنما تكون عنده وقد ورد في الحديث النبوي: أنه تعالى شفع الأنبياء وشفع غيرهم ممن ذكر في الحديث , وبقي شفاعة أرحم الراحمين فيخرج بها من النار من في قلبه مثقال حبة من الخير.
فإذن الرحمن شفاعته متأخرة وهو من أكمل الأسماء الإلهية، فتقدم عليه شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد تقدمت شفاعته بهذا الاعتبار شفاعة الأسماء الإلهية.

وقوله: فمن فهم المراتب إلى آخره". يعني بالمراتب مراتب الأولياء ومراتب خاتمهم ومراتب النبوة وأين محلها من مراتب خاتم النبيين وأعم من هذا فإن المراتب تشمل الموجودات كلها وغير الموجودات من الممكنات.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثاني .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين التلمساني.   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 6:05 am

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء الثاني .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين التلمساني.

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية  الجزء الثاني
وقوله رضي الله عنه: وأما المنح الأسمائية: فاعلم أن منح الله تعالى خلقه رحمة منه بهم، وهي كلها من الأسماء. فإما رحمة خالصة كالطيب من الرزق اللذيذ في الدنيا الخالص يوم القيامة، ويعطى ذلك الاسم الرحمن. فهو عطاء رحمانی. "
وقوله: "وإما رحمة ممتزجة كشرب الدواء الكره الذي يعقب شربة الراحة، وهو عطاء إلهي لا يمكن إطلاق عطائه منه من غير أن يكون على يدي سادن من سدنة الأسماء. فتارة يعطي الله العبد على يدي الرحمن فيخلص العطاء من الشوب الذي لا يلائم الطبع في الوقت أولا ولا بنيل الغرض وما أشبه ذلك."
وقوله رضي الله عنه: "وتارة يعطى الله على يدي الواسع فيعم، أو على يدي الحكيم فينظر في الأصلح في الوقت، أو على يدي الواهب فيعطي، الينعم لا يكون مع الوهاب تكليف المعطى له بعوض على ذلك من شكر أو عمل، أو على يدي الجبار فينظر في الموطن وما يستحقه، أو على يدي الغفار فينظر إلى المحل وما هو عليه، فإن كان على حال يستحق العقوبة، فيستره عنها، أو على حال لا يستحق العقوبة فيستره عن حال يستحق العقوبة، فيسمى معصوما ومعتني به ومحفوظا وغير ذلك مما شاكل هذا النوع."
قوله رضي الله عنه: "والمعطي هو الله من حيث ما هو خازن لما عنده في خزائنه
فما يخرجه إلا بقدر معلوم على يدي اسم خاص بذلك الأمر. ف وأعطى كل شيء خلقه (طه: 50) على يدي الاسم العدل وإخواته. وأسماء الله وإن كانت لا تتناهي لأنها تعلم بما يكون عنها وما يكون عنها غير متناه وإن كانت ترجع إلى أصول متناهية هي أمهات الأسماء أو حضرات الأسماء."
وقوله:  "وعلى الحقيقة فما ثم إلا حقيقة واحدة تقيل جميع هذه النسب والإضافات التي بکنی عنها بالأسماء الإلهية."
قلت: هذا الكلام واضح وحاصله أن المنح كلها رحمة، فما كانت منها لا مشقة تصحبه فهو من حقيقة الاسم الرحمن بلا واسطة اسم آخر وأما ما كان معه ممازجة بنوع مما لا يلائم الطبع.
فهو بواسطة اسم إلهي يناسب ذلك وهنا مجال واسع لمن أراد أن يشرح بعض أمثلة هذه المنح عند نسبة كل منها إلى الاسم الذي هي على يده و بواسطته.
فالمنح كلها رحمة وإن امتزجت ببعض المؤلمات، فتلك الممازجة هي كما مثل الشيخ، رضي الله عنه، من أن شرب الدواء رحمة وإن كان تناوله يكرهه الطبع.
والضابط لمعرفة مراتب أمثلة ما ذكرا أن يرى تلك المنحة الواحدة مثلا فينسبها إلى أليق ما يكون من الأسماء بها مثل أن ينسب النجاة من المكروه الذي كنت تحاذره مثلا إلى الاسم الواقي.
وينسب الخلاص من مشقة سفر تهت فيه عن الطريق ثم ظفرت بالهداية إليها إلى الاسم الهادي.
وينسب ما تجده من الخوف الشديد من جبار حضرت عنده فقابلك باللطف إلى الاسم اللطيف، وهذا أمر غير مستصعب عليك. فتأمل معناه فهو سهل.
وقد زاده الشيخ، رضي الله عنه، بيانا فيما أنا ذاكره من كلامه وهو قوله رضي الله عنه(والحقيقة تعطى أن يكون لكل اسم يظهر إلى ما لا يتناهى، حقيقة يتميز بها عن اسم آخر، تلك الحقيقة التي بها يتميز هي الاسم عينه لا ما يقع فيه الاشتراك، كما أن الأعطيات تتميز كل أعطية عن غيرها بشخصيتها، وإن كانت من أصل واحد، فمعلوم أن هذه ما هي هذه الأخرى، وسبب ذلك تميز الأسماء."
قوله رضي الله عنه: "فما في الحضرة الإلهية لاتساعها شيء يتكرر أصلا. هذا هو الحق الذي يعول عليه.
وهذا العلم كان علم شيث، عليه السلام، وروحه هو الممدود لكل من يتكلم في مثل هذا من الأرواح ما عدا روح الخاتم فإنه لا يأتيه المادة إلا من الله لا من روح من الأرواح، بل من روحه تكون تلك المادة لجميع الأرواح، وإن كان لا يعقل ذلك من نفسه في زمان ترکیب جسده العنصري. فهو من حيث حقيقته ورتبته عالم بذلك كله بعينه، من حيث ما هو جاهل به من جهة تركيبه العنصري."
قوله رضي الله عنه :" فهو العالم الجاهل، فيقبل الاتصاف بالأضداد كما قبل الأصل الاتصاف بذلك، کالجليل والجميل، وكالظاهر والباطن والأول والآخر وهو عينه ليس غيره. فيعلم لا يعلم، ويدري لا يدرى، ويشهد لا يشهد. وبهذا العلم " سمی شیث لأن معناه هبة الله، فبيده مفتاح العطايا على اختلاف أصنافها ونسبها."
قلت: إن الأسماء هي اعتبارات في الأشياء، مثاله حصول الرزق لشخص ما منه تعيين الاسم الرازق. والأشياء لا تتناهي فالاعتبارات لا تتناهي فالأسماء لا تتناهي وإن رجعت إلى أصلين: الاسم الله والاسم الرحمن، لقوله تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" (الإسراء: 110).
ولما كانت الأشياء كل شيء منها يتميز بتشخصه كانت أحكامه متشخصة به أيضا فامتازت الأسماء وامتازت الأشياء.
فإن قال قائل: إن الأشياء هي تبع للأسماء.
فقال: يجوز أن يقال ذلك باعتبار وأن يقال هذا باعتبار، فإن الوجود الالهي قدر شامل بجميع أشتات الموجودات بل والأعيان كلها باعتبار أن لها نوعا من الثبوت والثبوت لا يكون منسوبا لغير الوجود .
فالذي يقع فيه الاشتراك في نظر المحقق ليس إلا الوجود ولما كانت الأعطيات من جملة الأشياء دخلت مع ما ذكر قال: (وهذا هو علم شیث).
وقوله: "عالم به من حيث هو جاهل به لا يريد ظاهر هذا اللفظ، فإن العلم ينافي الجهل، فلا يفهم المعلوم من حيث هو مجهول بل من حيث ما هو مجهول يجهل ومن حيث ما هو معلوم يعلم .
وإلا اختلطت الحقائق "
ولكن مراد الشيخ، رضي الله عنه، أن العلم والجهل يجتمعان في هذا الشخص المذكور باعتبارین متغايرين أحد الاعتبارين اعتبار الرتبة والآخر اعتبار الوجود المشخص.
و قوله رضي الله عنه: "فيقبل الأضداد كما قبلها الأصل كالظاهر والباطن والأول والآخر والمعطي والمانع وهو هو، ومن جملة الأضداد التي قبلها الفرع لا الأصل أنه يعلم ولا يعلم ويدري ولا يدري ويشهد ولا يشهد "وباقي الكلام ظاهر.
قوله رضي الله عنه: "فإن الله وهبه لآدم أول ما وهبه، وما وهبه إلا منه لأن الولد سر أبيه،"
و قوله رضي الله عنه: "فمنه خرج وإليه عاد. فما أتاه غريب لمن عقل عن الله. وكل عطاء في الكون على هذا المجرى. فما في أحد من الله شیء، وما في أحد من سوى نفسه شيء وإن تنوعت عليه الصورة"
قلت: يعني أن شيث، عليه السلام، هو أول أولاد آدم، عليه السلام، وهو ولد ابنه وهذا باعتبار أن آدم لما كانت عينه الثابتة على قاعدة اصطلاح الشيخ، رضي الله عنه، متعينة في الأزل وفيها كل ما هو صادر عنها في المستقبل، فإذا اعتبرت، اعتبرت لواحقها معها وإن كانت الأجسام متباينة
إذا فهم على ما قررناه من أن لواحق الأعيان الثابتة أنها تكون معها في الاعتبار. "
قال رضي الله عنه"وما كل أحد يعرف هذا، وأن الأمر على ذلك، إلا آحاد من أهل الله. فإذا رأيت من يعرف ذلك، فاعتمد عليه وذلك هو عين صفاء خلاصة خاصة الخاصة من عموم أهل الله تعالی."
قلت: هذا لا يحتاج إلى شرح ، إلا أن هذا الولي الذي أشار إليه، رضي الله عنه، لا يعرفه إلا من هو مثله وقد يعرفه من يراه مثلا يسأل عن هذا المشرب فيجيب بأحسن ما يجيب غيره. فهذه علامة حسنة تعرف بها حال الأكابر من هو دونهم.
و قوله رضي الله عنه: فأی صاحب کشف شاهد صورة تلقى إليه ما لم يكن عنده من المعارف وتمنحه ما لم يكن قبل ذلك في يده، فتلك الصورة عينه لا غيره. فمن شجرة نفسه جنى ثمرة غرسه.
قلت: هذه حقيقة أجمع عليها أهل الله تعالى ولذلك قال الشيخ:
وأنت الكتاب المبين الذي   ….. بأحرفه يظهر المضمر
فما قال بأحرف غیره.
قوله رضي الله عنه:"كالصورة الظاهرة في المرآة في مقابلة الجسم الصقيل ليس غيره، إلا أن المحل أو الحضرة التي رأى فيها صورة نفسه تنقلب من وجه بحقيقة تلك الحضرة، كما يظهر الكبير في المرأة الصغيرة صغيرة أو المستطيلة مستطيلا، والمتحركة متحر کا."
قوله رضي الله عنه:"وقد تعطيه انتكاس صورته من حضرة خاصة، وقد تعطيه عين ما ظهر منها، فتقابل اليمين منها اليمين من الرائي، وقد يقابل اليمين اليسار وهو الغالب في المرائي بمنزلة العادة في العموم وبخرق العادة يقابل اليمين اليمين ويظهر الانتكاس، وهذا كله من أعطيات حقيقة الحضرة المتجلى فيها التي أنزلناها منزلة المرايا. فمن عرف استعداده عرف قبوله."
قلت: الشكل الظاهر في المرآة شبهها الشيخ، رضي الله عنه، بالنور الحق تعالى الذي يرى فيه المشاهد نفسه والذي ذكره في هذا المعنى ههنا ظاهر.
لكني أقول : في المرأة كلاما. فمن فهمه فلا بد أن يعظمني ويصفني بالإدراك التام ومن لم يفهمه فهو عندي معذور لأن أهل الفهم كلهم عجزوا عن ادراکه.
فمن ذلك ما يراه الناظر في المرآة فإن الشكل الذي يبدو في المرآة من أعجب الأشياء عند من لا يعرف الحقيقة والذي أقوله فيها.
إن العجب هو كون الإنسان لا يرى وجهه في كل شيء لأن الوحدانية قائمة بكل الأشياء لكن المرآة لما تشابهت أجزاؤها أشبهت النور الوحداني بالصقال الذي فيها، فظهر ما قابلها بها لا فيها.
ومن أسرار رؤية الشكل في المرآة أن الإنسان المقابل لها يظن أن يمينه يقابل شمال الشكل وشماله يقابل يمين الشكل وليس كذلك .
بل اليمين يقابل اليمين والشمال يقابل الشمال لأنك لما أقبلت بوجهك على المرآة انبعث منك نور وجودي ما كان يظهر لعين الرائي حتى انعكس في الصيقل من المرآة ولم يتفرق أجزاؤه كما تفرقت فيما ليس بصیقل وكأنه تكاثف تكاثفا ما ووجه الشكل ما كان مقابلا لوجهك بل ظهره هو المقابل لوجهك.
لأنك لما قابلته كنت متوجها إلى القبلة مثلا أو غيرها، فيكون الشكل مستقبلا للقبلة أيضا فما رأيت منه إلا قفاه لكن اتفق أنه ليس قفا لأنه وجه كله.
فلما نظرت إليه من الجهة التي هي قفاه ولم يكن إلا وجها، فما رأیت إلا وجها وبصرك وقع على ذلك الوجه الذي هو مستقبل للقبلة وأنت أيضا مستقبلها .
ولا يمكن إلا هذا لأنك ما قابلته بالقفا، فيكون للشكل قفا فهو وجه كله من حيث ما رأيته، فكلاكما متوجه إلى جهة واحدة.
فالذي يقابل يمينك هو يمنه والذي يقابل شمالك هو شماله لأن نظرك إليه هو من ورائه .
وأما رؤية الانسان الواقف إلى جانب غدير الماء منكوسا فهو واجب لأن الواقف لا في سطح الماء بجملته فظهر ما كان قريبا لسطح وجه الماء وهو رجلاه تلي سطح الماء في القرب ثم تباعد ما فوق رجليه ويقدر بعده تباعد شكله في الماء واستمرت هذه المقابلة إلى الرأس.
فكان الرأس أبعد من بقية الجسد إلى سطح وجه الماء، فلا جرم ظهر الشكل رأسه بعید من وجه سطح الماء ولو لم يظهر منكوسا لما طابق الشكل صاحبه في البعد والقرب من سطح الماء.
فلا المرآة كذبت ولا الماء كذب وكذلك غصون الشجر في نظرك إليها في الماء وكذلك الكواكب لما كانت بعيدة من سطح وجه الماء ظهرت في الماء بعيدة.
وأما أصل مسئلتنا وهو رؤية العبد نفسه في مرآة وجود الحق فمن عرف وحدانية الوجود، عرف أن نفس رؤيته نفسه، هو عين رؤيته ربه، تبارك وتعالى.
ولو رأى الرائي نفسه من حيث ما يغاير الرأي المرئي لما رأى شيئا لأن الوجود واحد وليس مع الوجود غيره والاعتبار الذهني الذي وقع به الاختلاف عند المقايسة الذهنية ما كثر الواحد.
ولو فرضنا مثلا أن العالم يذوب مثلا كما يذوب الشمع لقام جوهر النور وحده ولم يشهد أنه فارقه بما ليس بوجود أو نقص الجوهر الوجودي الانعدام الصور التي كذب الحس في اعتقاده أنها كانت موجودة بل هو مع الصور واحد كما هو بدونها واحد ومن لم يشهد هذا، فما أدرك وحدانية النور الذي انتفخت فيه صور العالم. وقولنا: انتفخت فيه صور العالم أو وجدت أو انعدمت إنما أحوجنا إليه ضرورة العبارة وما ثم إلا الوجود وأما تعيناته واعتباراتها، فما كانت موجودة حتى تقول إنها تنعدم ومن لم يغب بالفناء عن رؤية الأغيار، فما يري نور الأنوار.
فنعود إلى تحقيق أمر الأشكال الظاهرة في المرآة، فنقول: أما رؤية الشكل في السيف طويلا فله سبب وذلك أن النور الذي انبعث من المقابل للمرآة ما انعكس منه إلا في متطاول فصار متطاولا.
كما إذا سبکت الذهب الذائب من البوتقة في متطاول صار سبيكة طويلة وإن سكبته في مستدير صار مستديرا، لأن النور الصادر من المقابل للمرآة ما استصحب شكل المقابل معه بل صدر نورا بسيطا لا شكل له، فقبل التشكل بصورة الوعاء .
ولما كان ما سبك من البوتقة ذهبا وحده كانت سبيكة ذهبا لا سبيكة فضة مثلا، فظهر حقيقة المقابل إن كان إنسانا فإنسان ، وإن كان غيره فغيره.
وعرض له من الوعاء الذي انتقل إليه من البوتقة شكل لا يغير حقيقة المسكوب ولا يخل بما يقتضيه حقيقة الوعاء
وقول رضي الله عنه: قد يقابل اليمين اليسار يعني في ظن الرأي لا في حقيقة الأمر بل الأمر كما قاله أولا والعادة في العموم غلط، والتحقيق هو الأول .
و قوله الشيخ رضي الله عنه: "وما كل من يعرف قبوله يعرف استعداده إلا بعد القبول، وإن كان يعرفه مجملا "
و قوله رضي الله عنه: "إلا أن بعض أهل النظر من أصحاب العقول الضعيفة يرون أن الله تعالی، لما ثبت عندهم أنه فعال لما يشاء ، جوزوا على الله تعالى ما يناقض الحكمة."
قلت: القبول يحس لأن من قيل له مثلا لو اعطاك الأمير دراهم هل كان عندك قابلية تأخذها.
لقال: وما الذي يمنعني من ذلك؟ ويحس بالقابلية.
وأما الاستعداد الذي يوجب على الأمير أن يعطيه فقد يخفى عليه إلا بعد أن يأخذ الدراهم وقد يعرفه مجملا لا مفصلا.
قوله رضي الله عنه: "إلا أن بعض أهل النظر".
قلت: يعنى الأشعرية من المتكلمين، فإنهم يقولون: الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع، فعندهم أن الله تعالی لو فعل ما يناقض الحكمة لم يمتنع بل كان حسنا لأن الشرع حسنه.
قوله: الشيخ رضي الله عنه "وما هو الأمر عليه في نفسه ولهذا عدل بعض النظار إلى نفي الإمكان وإثبات الوجوب بالذات وبالغير".
قلت: يعني أنهم جوزوا ما يناقض الحكمة وجوزوا ما يناقض ما هو الأمر عليه في نفسه .
كأنه أشار إلى أن الذي عليه الأمر في نفسه هو أنه لا يجوز عليه ما يناقض الحكمة ولا ما يناقض ما هو الأمر عليه في نفسه، أي الواقع في نفس الأمر.
وذلك أن الأمر في نفسه هو أنه لا يجوز على الله تعالى أن يفعل المستحيل في العقل كاجتماع الضدين لشيء واحد في زمان واحد.
مثل أن يجمع لشخص واحد أنه قاعد وأنه قائم في زمان واحد .
أو يكون القول موجبا سالبا في حال واحد بشروط النقيض أو يرفع النقيضين معا بشروط النقيض وأمثال هذه.
ولما استقبح بعض النظار هذا المذهب عدل إلى سد الباب فيه بالكلية وقال ما هناك إلا واجب إما بنفسه وإما بالغير.
فلا يكون هناك إمكان اجتماع الضدين ولا اجتماع النقيضين وارتفاعهما ويجوز غير هذا وهو أن يحمل قول الشيخ، ولهذا عدل بعض النظار إلى آخره، على أن كل شيء واجب إما بنفسه فظاهر وهو الحق تعالى، وإما بالغير وهو كل شيء حتى اجتماع الضدين واجتماع النقيضين وارتفاعهما.
وقد قال قوم من الصوفية: أنه يجوز أن الله تعالى يقدر على إدخال الحبل في خرت الإبرة من غير أن يصفقة الحبل ولا يتسع الأبرة.
قوله رضي الله عنه: "والمحقق يثبت الإمكان ويعرف حضرته”.
قلت: المحقق هو من تفصلت له حضرة الحق وهي الوحدانية المطلقة وتفصيلها هو أن يظهر له مراتب الأسماء الإلهية والكونية قبل تعينها بالفعل وهو القطب الذي حاز رتبة الكمال.
وعن يمينه الإمام الذي هو محل ظهور الجمال وعن شماله الإمام الذي هو محل ظهور الجلال .
وبين يديه الإمام الذي حاز طرفا من رتبة الجمال وطرفا من رتبة الجلال إلا أن الجمال أظهر فيه، ومن ورائه الإمام الذي حاز طرفا من الجلال وطرفا من الجمال إلا أن الجلال أظهر فيه.
وقولنا: إن القطب له اليمين والشمال والأمام والخلف، هو باعتبار الأئمة  الأربعة وهم الأوتاد المذكورين في نسبة كل واحد منهم إليه وإلا فهو وجه کله.
شعرا:
درة من حيث ما أديرت أضاءت      ….. ومشم من حيث ما شم فاجاء
ومعنى يثبت الإمكان أي يشهد ثبوته لا أنه كان غير ثابت وهو الذي أثبته.
ومعنى قوله: "ويعرف حضرته". فهي عندي أن الإمكان صفة للحق تعالی من حيث اسمه القادر وليس هو صفة للمخلوق وهذا هو الحق الواضح في مقام شهود الأسماء.
وأما في الحضرة الذاتية فهو صفة للأعيان الثابتة من جهة أنها صور العلم من حيث لا تغاير الصفة الموصوف، لأنه ليس شيء خارجا عن الذات.
فأما كونه صفة للحق، وهو القسم الأول، فإن الإمكان منه يشتق الفعل الذي هو أمكنه يمكنه إمكانا كما تقول يمكنك أن تفعل كذا أي أنك قادر عليه أو لا يمكنك أن تفعل كذا أي لا تقدر عليه.
وأما القسم الثاني وهو أن تجعله صفة للأعيان الثابتة، فمعناه أن حال المقدور مثلا هو الذي أمكنك من نفسه حتى فعلت ایجاده له أو ایجاد صفته إلا أن هذا المعنى يرجع إلى الأول .
فإن القابل في التحقيق هو الفاعل لفاعلية الفاعل ولجميع ما يصدر عن الفاعل من الأفعال وحينئذ يقال إن حصول التسوية هو من الله تعالى لكن بالعين الثابتة، والتسوية الحاصلة هي الفاعلية في الفاعل للنفخ الملزمة له أن ينفخ النفخ الذي به يحصل القبول للقابل، فهذه حضرة الإمكان ظاهرة فيما ذكرناه.
قوله رضي الله عنه: "والممكن ما هو. "
قلت: أي يعرفه وهو المقدور قبل تصرف القدرة فيه.
قوله رضي الله عنه: "ومن أين هو ممكن. "
قلت: يعرفه من جهة سلب العدمية عن الوجود الإلهي وهذا نشرح مشافهة فإن إدراكه يدق عن أكثر الأفهام.
قوله رضي الله عنه:  "وهو بعينه واجب بالغير. "
قلت: معناه أن كل ما في الإمكان لا بد أن يظهره الحق تعالى في الوجود فهو في نفس الأمر واجب إلا أنه واجب بالغير لا بنفسه وفيه وجه پذکر شفاها أنه واجب بنفسه باعتبار أحدية الجمع.
قوله رضي الله عنه: "ومن أين صح عليه اسم الغير الذي اقتضى له الوجوب."
قلت: الضمير في "عليه"، لا يصح أن يعود على الممكن وإن كان ظاهر عبارة الشيخ، رضي الله عنه، يقتضي عود الضمير إلى الممكن.
و قوله رضي الله عنه: ولا يعلم هذا التفصيل إلا العلماء بالله خاصة.
قلت: لأن المحال ليس هو لغير أهل الله تعالی.
قوله رضي الله عنه: وعلى قدم شيث يكون آخر مولود يولد من هذا النوع الإنساني وهو حامل أسراره.
قلت: لما ثبت لشيث أولوية المولودية، لأنه أول مولود ولد من هذا النوع الانساني، فكانت له مرتبة الأولية ولما كانت الآخرية هي مضايفة للأولية، فهي في مقابلتها تماما.
فإرتسم شكل المرتبة الأولى في المقابل لها، فظهرت فيها أسرارها كما ظهرت أسرار العقل الأول الذي حصلت له الأولية في الايجاد في مرتبة آدم الذي هو آخر أنواع الموجودات ظهورا.
 فلا جرم حصل للإنسان العقل الذي به ظهور أسرار العقل الأول وهو القلم الأعلى.
قوله رضي الله عنه: (وليس بعده ولد في هذا النوع فهو خاتم الأولاد و تولد معه أخت له فتخرج قبله ويخرج بعدها يكون رأسه عند رجليها.)
قلت: كما لم يكن بعد آدم و بنیه مولود يكون فيه أسرار العقل الأول وهذا من ضرورة ارتباط الأولية بالآخرية، فإن الحقائق لا تتبدل وهي كلمات الله وقد قال تعالى: "لا تبديل كلمات الله" (یونس: 64).
أما كونه يولد معه أخت له، فلأن نسبة أخته إليه نسبة حواء إلى آدم في الأنوثة والذكورة إلا أن آدم وحواء تولدا في الطين وهذان في الرحم.
فإن آدم لما تكون من الطين كان في الطين فضله وكان في المدد الإيجادي الذي كان مصدره من العقل الأول فضلة أيضا، فقيل ما فضل من الطين عن آدم المدد الإيجادي.
 وقد تقدم أن الأمر الإلهي إن كان ما قبل بالتسوية شيئا، فلا بد أن تعلق به مقبولة بالنفخ الإلهي، فقبلت تلك الفضلة من الطين ایجادا إلا أن ما قبلته كان أنقص مما قبلته طيئة آدم وقبل آدم أكثر.
فكان من حكم الأكثرية الذكورة وذلك المزيد الحرارة الحاصلة له من مزيد المدد الخاص به، فكان ذكرا وكانت هي، أعني حواء أنثي وأميل إلى البرد.
فلم تمد الحرارة الطينية حتى يصير لها ذكرا كما حصل لآدم بل نقصت الحرارة، فبقي موضع تكوين الذكر والأنثيين مخسوفا بإذن الله تعالى.
فكان هو الفرج وتركبت فيه الشهوة للعضو الذي هو الذكر لأن ذلك الموضع كان محتاجا حالة التكوين إلى الحرارة التي تصير الفرج ذكرا فلما فقدها حالة التكوين بقي فيه طلبها بالذات.
ولما كانت جملة الأنثى أيضا ناقصة من مدد الحرارة تصير بها في درجة الذكور، بقي فيها ميل طبيعي إلى الرجال فذلك هو حقيقة شهوة المرأة التي تطلب بها الرجل.
وأما الشهوة التي يطلب بها الرجال النساء فهي أن القدر الذي في الرجال من مزید ذلك المدد المذكور الذي حصل للرجال دون النساء عند ما فاته أن يكمل نقص النساء فيصير هم رجالا انبعث نحو النساء كالمحاول لاتمام ما حصل لهم من النقص فحرك الرجال إلى محل النقص وهو الفرج كما ذكرنا.
ولما كان الأعور هو العضو المسمى ذكرا تحرك المدد في العضو الذي هو الذكر، فطلب الفرج الذي هو محل النقص، فطلب الولوج فيه فحصل الطلب من الطرفين، الذكر والأنثى.
ومن أجل حركة المدد في حيز النقص تحرك الذكر، فهي تلك الحركة التي تكون في الجماع أما من الرجل، فهي حركة فعل وأما من المرأة، فهي حركة انفعال.
فاقتضى المدد الايجادي أن ينبعث من الرجل رطوبة هي بمنزلة الرقعة التي يرقع بها الثوب ليجبر نقصه، وأن ينبعث من المرأة نظيره ليتلقى تلك الرقعة كما يرتبط الرقعة بالثوب بنوع من الخياطة.
فإن علا ماء الرجل ذكر بإذن الله. وإن علا ماء المرأة أنثى بإذن الله تعالی.
كما ورد في الحديث النبوي، لكن ذلك الماء ما انفصل ما يخص موضع
النقصان بل جاء وفيه قوة جميع البدن، فحصل منه تکوین انسان إما ذكر أو أنثى كما فصلناه.
وكان تكوين حواء في الطينة التي لآدم متصلة به غير منفصلة عنه، فكانت من جنبه.
فقيل: "إن المرأة من ضلع الرجل" كما ورد في الحديث، لأنها تكونت إلى جانبه من طينته، فعبر عن ذلك أنها من ضلعه أي من محل فيه ضلعه، ففي الكلام مجاز إذ المجاز قد ثبت أنه يكون في القرآن أيضا على المذهب الصحيح.
فنعود إلى ما كنا فيه من ذكر أخت حامل أسرار شيث أنها تكونت مع أخيها على عكس ما تكونت حواء مع آدم لأنها سبقت أخاها في التكوين لأن المدد كان على آخره.
 فتكونت بقسط من المدد لا يبلغ ما حصل لأخيها، فاقتضى سبقها لها في التكوين وكونه هو المقصود بالآخرية إن تسبقه في الخروج من الرحم ليكون آخرا إلا أنه لم يتأخر عنها.
فاقتضى الحال أن يكون رأسه عند رجليها ولما تقاصر المدد كان له حکم سنذكر هنا وهو أنه لم يقتض أن المدد يتوجه لإتمام ما حصل لأخته من النقص بالأنوثة حتى تحرك الرجال النکاح النساء فلا جرم يسرى العقم في الرجال والنساء.
وأما كثرة النكاح حينئذ، فيكون بالعادة وحرصا على النسل ولا يفيدهم الحرص لأن الأمد قد انقضي والأمر على آخره.
قوله رضي الله عنه: "ويكون مولده بالصين ولغته لغة أهل بلده. ويسرى العقم في الرجال والنساء فيكثر النكاح من غير ولادة ويدعوهم إلى الله فلا يجاب. فإذا قبضه الله تعالى وقبض مؤمنی زمانه بقى من بقي مثل البهائم لا يحلون حلالا ولا يحرمون حراما، يتصرفون بحكم الطبيعة شهوة مجردة عن العقل والشرع فعليهم تقوم الساعة."
قلت: أما مولده بالصين فلأن قدمنا أن الآخرية إنما جاءت على حكم الأولية لأنها كالشكل المرتسم من الأولية في مرآة الآخرية، فتمت دائرة الإيجاد.
فكان المولد لآخر مولود هو بالصين كما كان تكون آدم، عليه السلام، إنما هو بالصين، فاتصلت نقطة الآخر نقطة الأول لتمام الدائرة وأما أن لغته لغة بلده فلأنها من الصين تعلمها.
وأما قوله رضي الله عنه: ( ويدعوهم إلى الله تعالى).
قلت: يعني أن هذا المولود يدعوهم إلى الله، فلا يجاب لأن الاجابة هداية والهداية هي من ذلك المدد والتقدير أنه تقاصر، فتذهب عقولهم القابلة النور الهداية التوقف المدد عنهم.
فيبقون كالبهائم إلى أن يقوم عليهم القيامة وهذا الكلام كله من قوة الأحاديث النبوية.

فتأمله تجده كذلك والله الهادي.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الأول .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 6:09 am

03  - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الأول .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية   الجزء الأول
قوله: (اعلم أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد، فالمنزه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب.)
قلت: لما قال فص حكمة سبوحية تكلم في معنى السبوح وهو المنزه، فشرع في تحقيق التنزيه وسمى صاحبه إما جاهلا وإما صاحب سوء أدب.
أما جهله، فمن جهة أن يقول إن الله تعالى منزه عن كل صفة تشاركه في التسمية بها خلقه ، فيلزم هذا القائل أحد أمرين:
إما أن لا يتسمى الحق تعالی أنه سميع بصير متكلم بل ولا حي عالم مريد قادر، فإن هذه الأسماء يصح إطلاقها على خلقه.
أو ينفي هذه الصفات عن خلقه وذلك ممنوع لأن الشريعة المطهرة جاءت على وفق التسمية بهذه الأسماء لخلقه.
اللهم إلا أن يقولوا: إن هذه الأسماء من الأسماء المشتركة.
فيقال لهم: سلمنا ذلك لكن هل يفهم منها حالة إطلاقها على الحق جل جلاله ما كان من وضع واضع اللغة أو غيره؟
فإن كان هو بعينه، فالتنزيه مناف لما دل عليه الوضع.
أو لا يكون معناها ما دل عليه الوضع اللغوي؟
 فلا يكون قد خاطبنا باللسان العربي وقد قال تعالى: " بلسان عربي مبين" (الشعراء: 195).
هذا إذا تكلمنا معهم بمبلغ عقولهم فهم جهال, وإن تكلمنا بما يقتضيه الشهود، فالحق تعالی موصوف بهذه الصفات ولا يخلو منه مكان ولا زمان.
فقول القائل في التنزيه: إنه لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف ولا وسط، أو أن يقال إنه لا يرى كما يقوله المعتزلة ومن تابعهم لا في الدنيا ولا في الآخرة فهم جاهلون بالله تعالى، فإن الحق خلاف ما قالوه.
قال: وإما أن يكون صاحب سوء أدب، وهولاء، الذين هم أصحاب سوء الأدب، على قسمين:
"القسم الأول :" إما أن يقولوا على الله تعالى من تنزيهه ما يتحققون خلافه فلا يكون ما قالوه تنزيها بل كفرا، وهذا القسم قليل أن يوجد.
القسم الثاني: أن يروا من يعتقد نفي الصفات التي أثبتها لنفسه عنه تعالى فيوافقونهم في القول تملقا ونفاقا وهم يعتقدون الحق ويظهرون خلافه، فإذن المنزه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب.
قوله رضي الله عنه : (ولكن إذا أطلقاه وقالا به، فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزه ووقف عند التنزيه ولم ير غير ذلك، فقد أساء الأدب وأكذب الحق تعالی والرسل، صلوات الله عليهم، وهو لا يشعر، ويتخيل أنه في الحاصل وهو في الفائت. وهو كمن آمن بعض وکفر ببعض، ولا سيما وقد علم أن ألسنة الشرائع الإلهية إذا نطفت في الحق تعالی بما نطقت إنما جاءت به في العموم على المفهوم الأول، وعلى الخصوص على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ بأي لسان كان في وضع ذلك اللسان. )
قال رضي الله عنه : (فإن للحق في كل خلق ظهورا فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال: إن العالم صورته وهويته، وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنی روح ما ظهر، فهو الباطن فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدير للصورة. فيؤخذ في حد الإنسان مثلا ظاهره وباطنه، وكذلك كل محدود. فالحق تعالی محدود بكل حد.)
قلت: إذا أطلقه المذكوران، وهما الجاهل وصاحب سوء الأدب، أي إذا أطلقاه وقالا به، فنقول للمؤمن منهم بالشرائع: وقوفك عند التنزيه إن لم ترى غیره فقد أساءت الأدب.
لاستلزام ما قلت به تکذیب الحق تعالی ورسله الكرام وأنت لا تشعر لأنك سددت باب الصفات التي وردت عن الله تعالى على ألسنة رسله.
وسددت باب ما اقتضاه الكشف والشهود، فإن من انشق حسه ورأي بظاهره ظاهر الحق تعالى من حيث دخول ظاهريته في ظاهر الحق حتى لا يرى الحق إلا الحق تعالى، ومن سد البابين المذكورين فهو على غاية من سوء الأدب.
فأما سوء الأدب الخاص، برد ما جاءت به الرسل عن الله تعالی فذلك أنها أتت بها على العموم في المفهوم الأول يعني بلا تأويل بل على ظاهره .
وذلك هو مفهوم العموم أي العامة، لأن الرسل، عليهم السلام، أمروا أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، فكلامه تعالى على قدر عقول العامة، فهو محمول على مفهومهم. فمن خالف ذلك فقد أساء الأدب على الله تعالی.
وأما سوء الأدب المختص بما إذا حمل ما جاءت به الرسل من الصفات على مفهوم الخصوص، فهو أن يحمل الصفات على كل مفهوم مفهوم مما يحتمله اللفظ في تلك اللغة التي جاءت بها الرسل الكرام.
قال: وذلك لأن للحق تعالى في الخلق ظهورا، فهو الظاهر في كل مفهوم فإذن لا يتخصص مفهوم دون مفهوم آخر بالحمل عليه حتى لو كان المفهوم في لغة مثلا مغايرا للمفهوم في لغة أخرى حمل المعنى على كل واحد من المفهومین ولم يضر اختلاف اللغتين ، فكيف إذا كانت اللغة واحدة فأحرى أن يحمل على كل مفهوم من مفهوماتها.
ثم استطرد الشيخ، رضي الله عنه، في الكلام بذكر الباطن في قوله: وهو الباطن عن كل فهم، فإن هذا معنى آخر غير ما كان فيه، فإن كلامه في ذم من اعتمد التنويه فقط وذكر الباطن هو مناسب لمن اعتمد التنزیه فقط .
فكان حقه أن لا يذكره لكن أراد أن أن يذكر ذلك، ليستثني القائلين: بأن العالم صورته وهويته جامعين لذلك مع أن يروا أنه بالمعنی روح ما ظهر فهو الباطن، فنسبته لما ظهر من العالم نسبة الروح المدير للصورة وحينئذ كيف كان القائل، فهو صادق، لأنه إن نزه صادف الحق من حيث باطن العالم، وإن شبه صادف الحق من حيث ظاهر الحق.
وقوله: فيؤخذ في حد الإنسان مثلا باطنه وظاهره وكذلك كل محدود والمراد أن الجميع حق فيكون المحدود ليس هو غير الحق فيكون الحق محدودا بكل حد.
قوله رضي الله عنه : (وصور العالم لا تنضبط ولا يحاط بها ولا تعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورته.
فلذلك يجهل حد الحق، فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة، وهذا محال حصوله: فحد الحق محال. وكذلك من شبهه وما نزهه فقد قيده وحدده وما عرفه.
ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه بالوصفين على الإجمال- لأنه يستحيل ذلك على التفصيل لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور- فقد عرفه مجملا لا على التفصيل كما عرف نفسه مجملا لا على التفصيل.)
قلت: هذا الكلام ظاهر مما سلف، وليفهم أنه يعني أن من حصره في الصفات كالحنابلة وغيرهم فيما ينقل عنهم أنه جاهل وذلك معروف.
 قال: ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه ووصفه بالوصفين على الإجمال فقد عرفه، ثم أجاب عن سؤال مقدر.
كأن قائلا قال له: فلم لا يعلم على التفصيل؟
فقال: لأنه يستحيل ذلك لعدم الاحاطة بما في العالم من الصور وأقحم في الكلام أن الانسان أيضا إنما عرف نفسه على الاجمال لا على التفصيل.
قوله رضي الله عنه : ولذلك ربط النبي، صلى الله عليه وسلم، معرفة الحق بمعرفة النفس
فقال: «من عرف نفسه عرف ربه» وقال تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق" وهو ما خرج عنك "وفي أنفسهم" وهو عينك و"حتى يتبين لهم" أي للناظر و"أنه الحق" (فصلت: 53) من حيث أنك صورته وهو روحك.
فأنت له كالصورة الجسمية لك، وهو لك كالروح المدير الصورة جسدك.
والحد يشمل الظاهر والباطن منك، فإن الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدير لها لم تبق إنسانا.
ولكن يقال فيها: إنها صورة تشبه صورة الإنسان " جسد أو جثة "، فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة. ولا ينطلق عليها اسم الإنسان إلا بالمجاز لا بالحقيقة.
قلت: جميع هذا الفصل ظاهر لا يحتاج إلى شرح
قوله: وصور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلا فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز كما هو حد الإنسان إذا كان حيا.
وكما أن ظاهر صورة الإنسان تثنی بلسانها على روحها ونفسها والمدبر لها، كذلك جعل الله صورة العالم تسبح بحمده ولكن لا نفقه تسبيحهم لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور.
فالكل ألسنة للحق ناطقة بالثناء على الحق.
ولذلك قال: "الحمد لله رب العالمين" (الفاتحة: 2) أي إليه يرجع عواقب الثناء، فهو المثنى والمثنى عليه.
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيدا وإن قلت بالتشبيه كنت محددا وإن قلت بالأمرين کنت مسددا وكنت إماما في المعارف سیدا .
فمن قال بالإشفاع كان مشركا . ومن قال بالإفراد كان موحدا فإياك والتشبيه إن کنت ثانيا . وإياك والتنزيه إن کنت مفردا. فما أنت هو بل أنت هو وتراه في عين الأمور مسرحا ومقيدا.
قلت: بالغ الشيخ في التصريح بهذا المعنى وأكد فيه وبين أن الإنسان إذا أثنى على عقله ونفسه، فهو نظير تسبيح العالم الكبير ربه، تبارك وتعالى.
ولكن لا تفقهون تسبيحهم لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور. وهذا واضح وأبيات الشعر مفهومة المعنى مما ذكر.
قوله رضي الله عنه : قال الله تعالى: "ليس كمثله شيء" فنزه، وهو السميع البصير" (الشورى: 11) فشبه.
وقال تعالى: "ليس كمثله شيء" فشبه وثني وهو السميع البصير فنزه وأفرد.
 لو أن نوحا، عليه السلام، جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه فدعاهم جهارا ثم دعاهم إسرارا، ثم قال لهم: "استغفروا ربكم إنه كان غفارا" (نوح: 10) وقال: "دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا" (نوح: 5-6) .
وذكر عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته.
فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح، عليه السلام، في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان، ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه. فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن.
ولهذا ما يختص بالقرآن إلا محمد، صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة التي هي "خير أمة أخرجت للناس" (آل عمران: 110).
فـ "لیس كمثله شیء" فجمع الأمرين في أمر واحد.
فلو أن نوحا يأتي بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، بل في نصف آية.
و نوح، عليه السلام، دعا قومه ليلا من حيث عقولهم وروحانيتهم فإنها غيب. ونهارا دعاهم أيضا من حيث ظاهر صورهم وحسهم، وما جمع في الدعوة مثل "ليس كمثله شيء" فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان فزادهم فرارا.
ثم قال عن نفسه إذ دعاهم ليغفر لهم، لا ليكشف لهم، وفهموا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، لذلك "جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم" (نوح: 7) وهذه كلها صورة الستر التي دعاهم إليها فأجابوا دعوته بالفعل لا بلبيك.
ففي "ليس كمثله شیء" إثبات المثل و نفيه، وبهذا قال عن نفسه، صلى الله عليه وسلم، إنه أوتي جوامع الكلم. فما دعا محمد صلى الله عليه وسلم، قومه ليلا ونهارا، بل دعاهم ليلا في نهار ونهارا في ليل.
فقال نوح في حكمته لقومه: " يرسل السماء عليكم مدرارا" (نوح: 11) وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري، و يمددكم بأمواله أي بما يميل بكم إليه فإذا مال بكم إليه رأيتم صورتكم فيه.
فمن تخيل منكم أنه رآه فما عرف، ومن عرف منكم أنه رأى نفسه فهو العارف. فلهذا انقسم الناس إلى غير عالم وعالم.
وولده وهو ما أنتجه لهم نظرهم الفكري، والأمر موقوف علمه على المشاهدة، بعيد عن نتائج الفكر. "إلا خسارا"(الإسراء: 82) . "فما ربحت تجارتهم" (البقرة: 16) فزال عنهم ما كان في أيديهم مما كانوا يتخيلون أنه ملك لهم، وهو في المحمديين
"وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" (الحديد: 7) وفي نوح "ألا تتخذوا من دوني من دوني وكيلا" آية 2 الإسراء.
فأثبت الملك لهم والوكالة الله فيهم. فهم مستخلفون فيه.
فالملك لله وهو وكيلهم، فالملك لهم وذلك ملك الاستخلاف. وبهذا كان الحق تعالی مالك الملك كما قال الترمذي، رحمه الله تعالی.
" مكروا مكرا كبارا" 22 سورة نوح.  لأن الدعوة إلى الله تعالی مکر بالمدعو لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية .
"أدعوا إلى الله" 108 یوسف. فهذا عين المكر، على بصيرة فنبه أن الأمر له كله، فأجابوه مكرا كما دعاهم.
قال رضي الله عنه :"فجاء المحمدی وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته وإنما هي من حيث أسمائه.
فقال: "يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا" 80 مریم. " .
فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم، فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقین. فقالوا في مكرهم: " لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء.
فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله.
في المحمديين: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" 23 الإسراء. أي حكم.
فالعالم يعلم من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة کالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية.
فما عبد غير الله في كل معبود، فالأدنى من تخيل فيه الألوهية فلولا هذا التخيل ما عبد الحجر ولا غيره.
ولهذا قال تعالى: " قل سموهم" 33 الرعد. فلو سموهم لسموهم حجرا وشجرا وکوکبا.
ولو قيل لهم: من عبدتم؟
لقالوا إلها ما كانوا يقولون: الله ولا الإله.
والأعلى ما تخيل، بل قال: هذا مجلي إلهى فينبغي تعظيمه فلا يقتصر.
فالأدنى صاحب التخيل يقول: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " 3 الزمر. والأعلى العالم يقول: "فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) " سورة الحج. حيث ظهر "وبشر المخبتين"  (الحج: 34). الذين خبت نار طبیعتهم، فقالوا إلها ولم يقولوا طبيعة.
"وقد أضلوا كثيرا" أي حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب.
"ولا تزد الظالمين" (نوح: 24 ) لأنفسهم. المصطفين الذين أورثوا الكتاب، أول الثلاثة.
فقدمه على المقتصد والسابق " إلا ضلالا" (نوح: 24 ) إلا حيرة المحمدی " زدني فيك تحيرا". "كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا" (لبقرة: 20).
فالمحير له الدور والحركة الدورية حول القطب فلا يبرح منه،
قال رضي الله عنه : وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود، طالب ما هو فيه صاحب خيال إليه غايته، فله من وإلى وما بينهما، وصاحب الحركة الدورية لا بدء له فيلزمه "من"، ولا غاية فيحكم عليه «إلى»، فله الوجود الأتم وهو المؤتی جوامع الكلم والحكم.
"مما خطيئاتهم" فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله، وهو الحيرة، "فأدخلوا نارا" (نوح: 20) في عين الماء وفي المحمديين. "وإذا البحار سجرت" (الصف: 6) سجرت من التنور إذا أوقدته من،
فلم يجدوا لهم "من دون الله أنصارا" (نوح: 20 ) فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد.
فلو أخرجهم إلى السيف، سیف الطبيعة لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة، وإن كان الكل لله وبالله بل هو الله.
"قال نوح رب" ما قال إلهي، فإن الرب له الثبوت والإله يتنوع بالأسماء فهو كل يوم في شأن. فأراد بالرب ثبوت التلوين إذ لا يصح إلا هو.
"لا تذر على الأرض" (نوح: 26) . يدعو عليهم أن يصيروا في بطنها.
المحمدی "لو دليتم بحبل لهبط على الله".
"له ما في السماوات وما في الأرض" (البقرة: 255) وإذا دفنت فيها فأنت فيها وهي ظرفك "وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم" تارة أخرى" (طه: 55) لاختلاف الوجوه.
"من الكافرين الذين استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم" (نوح: 7) طلبا للستر لأنه دعاهم ليغفر لهم والغفر الستر. "ديارا" (نوح: 26) أحدا حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة.
"إنك إن تذرهم" أي تدعهم و تتركهم "يضلوا عبادك" أي يحيروهم فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية فينظرون أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عند أنفسهم عبيدا، فهم العبيد الأرباب.
"ولا يلدوا" أي ما ينتجون ولا يظهرون "إلا فاجرا" أي مظهرا ما ستر،
"كفارا" (نوح: 27) أي ساترا ما ظهر بعد ظهوره، فيظهرون ما ستر، ثم يسترونه بعد ظهوره، فيحار الناظر ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره، ولا الكافر في كفره، والشخص واحد.
 "رب اغفر لي" أي استرني واستر من أجلى فيجهل مقامی وقدری کما جهل قدرك
في قولك: "وما قدروا الله حق قدره" (الأنعام: 91 " ولوالدي" من کنت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة.
"ولمن دخل بيتي" أي قلبي " مؤمنا" مصدقا بما يكون فيه من الإخبارات الإلهية وهو ما حدثت به أنفسها. وللمؤمنين من العقول "والمؤمنات" من النفوس.
ولا تريد الظالمين من الظلمات أهل الغيب المكتنفین خلف الحجب الظلمانية.
إلا "تبارا" (نوح: 28) أي هلاكا، فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحق دونهم وفي المحمديين. "وكل شيء هالك إلا وجهه" (القصص: 88) والتبار الهلاك.
ومن أراد أن يقف على أسرار نوح فعليه بالترقي في فلك يوح، وهو في التنزلات الموصلية لنا والله يقول الحق.
قلت: قوله،"ليس كمثله شيء" فنزه هنا وجعل الكاف زائدة فافهم.
وقوله: "وهو السميع البصير" (الشورى: 11) شبه، لأنه وصف الحق تعالی بالسمع والبصر وهي قد يطلق على العين والأذن.
قوله: قال تعالى: "ليس كمثله شيء" فشبه وهنا جعل الكاف زائدة، فكأنه قال: ليس مثل مثله شيء فأثبت له مثلا لا يشبه ذلك المثل شيء .
ولذلك قال: وثني قوله: "وهو السميع البصير" فنزه وأفرد هنا حمل السمع والبصر على معاني أسمائه تعالى، فالسمع والبصر هنا لا يطلق على الأذن والعين بل على معاني الأسماء الإلهية .
ولذلك قال: و افرد و بالإفراد يقع التنزيه فلذلك قال فنزه وافرد.
قوله: ولو أن نوحا، عليه السلام، جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه، يعني أن محمدا رسول الله جاء بالدعوتين: التنزيه والتشبيه، وهذا مبني على ما قرر من مفهوم قوله تعالى: "ليس كمثله شيء " فإنه عين حمل الآية على الأمرين معا، فجمع نبينا، عليه الصلاة والسلام، في دعوته.
وأما نوح، عليه السلام، فذكر رضي الله عنه : أنه ما جمع لهم وسنبين كيف ذلك .
وهو قوله:  فدعاهم جهارا، أي إلى التشبيه الذي تقدم ذكره لأنه الظاهر فناسب أن يقال في الدعاء إليه جهارا.
قال:  ثم دعاهم أسرارا، أي إلى حضرة التنزيه الذي تقدم ذكره أيضا لأنه الباطن فناسب أن يقال في الدعاء إليه أسرارا.
ثم قال لهم نوح: "استغفروا ربكم إنه كان غفارا" فخاطبهم بما لا يناسب حالهم وإلى هذا أشار، رضي الله عنه: والذي لا يناسب حالهم هو كونه فرق الدعوة فدعا مرة إلى اسمه الظاهر، تعالى، ومرة إلى اسمه الباطن، تعالى.
فلما لم يجيبوه وصف حالهم معه وحاله معهم، فقال: "دعوت قومي ليلا ونهارا (نوح: 5) . 
أي ظاهرا مرة وهو قوله: نهارا وباطنا مرة وهو قوله: لیلا أي إلى الاسم الظاهر مرة وإلى الاسم الباطن مرة "فلم يزدهم دعائي إلا فرارا" (نوح: 6).
وذكر عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته بكونهم جعلوا أصابعهم في آذانهم.
قال وإنما تصامموا عن دعوته، لأنهم علموا ما يجب عليهم إن هم سمعوها أي يتعين عليهم الطاعة، فسدوا آذانهم عن سماع دعوته حتى لا يقع عليهم لسان الذم.
قال: فعلم العلماء ما أشار إليه نوح، عليه السلام، من الثناء عليهم بلسان الذم، يعني أنه عذرهم وعلم أن مستندهم في سد آذانهم عن سماع دعوته أنه صحيح.
فكأنه قال: إنهم فعلوا ما يجب عليهم فعله ولم يدخلوا تحت ما يجب عليهم ما لا يلزمهم من اجابة دعوته المفترقة الجهات، وهذا الكلام صعب.
قال: لأنهم كانوا أهل قرآن وهو إنما أتاهم بالفرقان فلا جرم ما أجابوه.
وقول الشيخ، رضي الله عنه: فإن الأمر قرآن لا فرقان، يعني أن الحق هو الجمع بين الظاهر والباطن في الدعوة إلى التنزيه والتشبيه، والمراد هنا بالقرآن الجمع، لأنه مشتق من المصدر الذي اشتق منه قولك: قرأت الماء في الحوض إذا جمعته، فكأنه قال: الأمر جمع لا فرقان ، إذا كان الفرقان هو ضد الجمع وهو مثل فرق يفرق فرقا وفرقانا.
فقال الشيخ، رضي الله عنه: الأمر الإلهي قرآن لا فرقان ثم أخذ في تعريفنا مرتبة كل واحد من الاسمين المذكورين.
قال: ومن أقيم في القرآن وهو حضرة التوحيد لا يصغي إلى من دعاه إلى الفرق وإن كان الفرق في الجمع.
فلذلك قال رضي الله عنه: وإن كان فيه فإن القرآن يتضمن الفرقان بمعنى أن تفصيل الوحدانية هو بالأحدية وفي ضمنها وفي التفصيل يظهر الفرقان لكن يرجع بالأحدية كما ذكرنا، وأما الفرقان فلا يتضمن القرآن، لأن الفرقان صفة مسلوب عن موجب، والايجاب والسلب لا يجتمعان في الأقوال والأضداد لا تجتمع في الموصوفات ، إذا تحقق التناقض والتضاد.
قال: فالجمع اختص بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة التي هي "خير أمة أخرجت للناس" (آل عمران: 110) في «ليس كمثله شيء" فجمع الأمر في أمر وأحد، يعني أن قوله تعالى: "ليس كمثله شيء" هو جامع المعنيين:
أحدهما أن يكون الكاف زايدة وهو معنی التنزيه
والثاني أن يكون الكاف غير زائدة ، وهو معنى التشبيه والكلمة واحدة، فاجتمع فيها الأمران كما هو الأمر في نفسه مجموعا في نشأة الإنسان الكامل.
قال: فلو أن نوحا أتي بمثل هذه الآية أجابوه أي يجمع الأمر في كلمة واحدة.
قوله: فإنه شبه ونزه في نصف آية، قلت: يعني قوله: "ليس كمثله شئ" .
قوله: ونوح دعا قومه إلى قوله: لیلا في نهار ونهارا في ليل، قلت: هذا الكلام ظاهر.
وقوله: إن نوحا دعاهم ليغفر لهم وما دعاهم ليكشف لهم، فكأنه قال إن استعدادهم كان يطلب الكشف، والمغفرة مشتقة من الغفر وهو الستر ومنه اشتق المغفر الذي يستر في الحرب فما احبوا الستر لأنه حجاب فمطلوبهم كان الكشف.
واعلم أن قوله عنهم في معنى قوله تعالى: "استغفروا ربكم إنه كان غفارا" (نوح: 10) أي ستارا.
أنه إنما خص المعارف بأنها عقلية في قوله: "يرسل السماء علیکم مدرارا" (نوح: 11) وفسر ذلك بالمعارف العقلية والاعتبارية ولم يقل: إنها معارف إلهية كشفية لأن الغفر مشتق منه ما يدل على الستر.
والمعارف الإلهية لا تكون مع الستر الذي هو الحجاب، وإنما الذي يكون من المعارف مع الستر هي المعارف العقلية والاعتبارات الفكرية.
فلذلك فسر قوله تعالى: "يرسل السماء عليكم مدرارا" (نوح: 11) بالمعارف العقلية لأنها جواب قوله تعالى: "فاستغفروا" والاستغفار هو طلب الاستتار كما تقدم.
ثم فسر الأموال في قوله تعالى: "ويمددكم بأموال وبنين" (نوح: 12) بأنها ما يميل بهم إليه وجرت عادة أهل الطريق أن يستمعوا في كلام الله تعالی بل وفي كلام كل متکلم أمورا تقتضيها مراتبهم من الكشف والشهود الجزئي والكلي.
ولا يلتفتون إلى كونها مخالفة لمفهوم العموم بعد أن يصح لهم نسبتها إلى الحق بطریق کشفي .
وليس لمن سلم إليهم أحوالهم أن ينكر عليهم بعد ذلك فإن الانکار بعد التسليم لا يقبل فإنه إنما سلم لهم في الكل لا في الكلي العام .
حتى يقال: إن وجود العام لا يستلزم الخاص.
وأما أن صورتهم هي التي يرونها فيه تعالى فلأن صور العالم كله هي صور معلومات الله تعالى وما في العلم شيء هو خارج عنه وإلا كان العلم ظرفا للمعلومات والذات المقدسة لا تغاير العلم.
فيلزم أن تكون الذات المقدسية ظرفا لغيرها وذلك ممنوع. فإذن إنما رأوا صورتهم فيه بمعنى لا يوجب الظرفية بل إذا رأوا صورتهم في علمه وليس علمه غيره فقد رأوا صورتهم فيه.
قوله: وولده، أي نتيجة فكرهم، لأنا قد قررنا أن معارفهم فكرية لأجل الاستغفار المستلزم للستر والستر من لوازم الفكر والفكر من لوازم الستر .
وفسر قوله تعالى: "إلا خسارا" بأن تجارتهم لم تربح لأن نتائج الفكر ما أدت إلى الحقيقة، فإذن عين ما كانوا يتخيلون أنه ملك لهم لم يكن ملكا لهم
قال: وهو ملك المحمديين ملك الاستخلاف، فيصرفوا عن إذن صحيح وإن كان قد قرر لقوم نوح أن الملك حقيقة لهم لقوله تعالى: "ألا تتخذوا من دوني وكيلا" (الإسراء: 2) .فأثبت الملك لهم والله وكيل فقط.
 واعلم أن المستخلفين فهم أعظم درجة من المستخلفين فيما في أيديهم لكن قال رضي الله عنه، هنا: إن نسبة الملك إليهم مجاز وهو إليه حقيقة، لكن لما استخلفهم فيه استحقوا أن يكون الملك لهم وهو وكيلهم فيه، فالملك لهم وهو ملك الاستخلاف أيضا.
قوله: وبهذا كان الحق تعالی مالك الملك، لأنه ملکه حقيقة والذي نسبه الشيخ، رضي الله عنه، إلى الترمذي في قوله: "مكروا مكرا كبارا" (نوح: 22) .
فقد فسره بأن الدعوة إلى الله تعالی مكر من الله ومن الرسول بالمدعو.
وذلك لأن الدعوة تقتضي أن المدعو كان على غير هدى من الله تعالى من كل وجه وليس كذلك . بل إنما كان على غير هدى من الله تعالى من جهة الاسم الهادي وقد كان على هدى من الله تعالى بالهداية العامة.
و استنادهم فيها إلى الاسم المضل لا من كل وجه بل إذا اعتبرنا هداية الاسم الهادي، أما إذا اعتبرنا هداية الذات التي فوق الأسماء والصفات فلا ضلال والذات إليها المرجع والمآل.
فالدعوة تناقضها في أحكامها، فتكون الدعوة مكرا بالمدعو، ومن عرف أحكام الأسماء الإلهية لم يستصعب هذه المعاني وقد شرحت ما تضمنه الكتاب العزيز من الأسماء و اقتصرت منها على ما أورده الغزالي والبيهقي وابن برجان رحمهم الله عليهم، فكانت مائة وستة وأربعين اسما كشفت عن قناع معاني الأسماء بما لم يذكره أحد قبلي.
قال رضي الله عنه: إن قوله: "أدعو إلى الله" هو عين المكر. قال: وقوله "على بصيرة " (يوسف: 108) إشارة إلى أن الأمر له كله.


قال: فأجابوه مكرا كما دعاهم مکرا، ثم قال: من المحمديين ، أنه علم أن الدعوة من اسمه الهادي والمدعو هو من تبع الاسم المضل، فمن كانت نسبته في الحقيقة إلى الاسم الهادي وصورة الدعوة عامة لتعذر الإتيان بها خاصة لكل فرد فرد.
ثم شبه رضي الله عنه، هذه القصة بمضمون قوله تعالى: «يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا" (مريم: 85) فجاء بحرف «إلى» التي هي للغاية وقرنها بالاسم الرحمن ولكن لما ذكر المتقين علمنا أن المحشركان من حضرة الاسم المنتقم، فإنه هو الذي يتقي منه ولا يكون الاتقاء من الاسم الرحمن.
فإذن المحشر كان من حضرة اسم إلى حضرة اسم وإذا اعتبرت الهوية لم يكن هناك حشر فمعاني الحشر على قاعدته هو مكر.
ثم عاد إلى قوم نوح وبين أنهم إنما أجابوا الداعي مكرا أيضا بما ذكر من نسبتهم لمن قال : "لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا" (نوح: 23).
فكأنه قال: إنهم صرحوا بما كانوا واخفوه حالة مكرهم في الاجابة إذ قد علموا أن هذه التي دعوها آلهة هي عندهم ظهورات إلهية. والشيخ، رضي الله عنه، يسمى الظهورات مظاهر ومجالي، بناء على قاعدته من الإقرار بالأعيان الثابتة .
وأما عنده من يري أن الشيء قبل وجوده ليس له ذات وهو صاحب المواقف، رضي الله عنه، وغيره من الأكابر، فهو يسميها ظهورات وبين القولين بون عظيم لمن يعرف غوره.
والجميع حق لعود مقاصدهم في التوحيد إلى ما لا يختلف، فتعود إلى معنى ما أشار إليه، رضي الله عنه، من أن هذه التي عددوها إنما هي مظاهر للحق تعالى، فلا جرم قالوا: "لا تذرن آلهتكم".
قال: لأنهم لو تركوها لجهلوا من الحق تعالى على قدر ما تركوه منها. قال وقد يكون مجهولا في أكثر المحمديين مع تلاوتهم قوله تعالى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" (الإسراء: 23) . والقضاء حكم فقد حكم أن لا تعبد سواه، فما عبد أحد غيره تعالي غيرة منه ذاتية، وبين ذلك بقوله: وإن التفريق والكثرة کالأعضاء في الصورة المحسوسة و كالقوى المعنوية في الصورة الروحانية
ثم أخذ يبين اعتبارات القائلين بعبادة الأصنام وجعل منهم الأعلى والأدنى التفاوت عقولهم في الاعتبارات .
فقال: فالأدنى وهو الضعيف النظر من تخيل في الأصنام الألوهة، قال ولولا هذه التخيل ما أقدم على عبادة الحجر ونحوه مع حقارة الحجر عنده ومن أجل الحقارة ورد في الكتاب العزيز توبيخا لهم بما تقرر عندهم أنهم غالطون "خأطئون".
وهو قوله تعالى: "قل سموهم" فإنهم إذا سموهم قالوا حجر أو شجر أو كوكب، فإنهم عبدوا الأصنام المتخذة من الحجارة والأصنام المتخذة من الخشب والأصنام التي هي کواکب، فقد عبدوا هذه الأنواع فطالبهم الرسول بأن يسموهم ليحصل لهم الإفحام لكن عذرهم أنهم تخيلوا أنهم آلهة لا حجارة وخشب وكواكب.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثاني .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 6:12 am

03  - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثاني .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
03 - فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية   الجزء الثاني
فلو قيل لهم في صنم وأحد مثلا: من عبدتم؟
لقالوا: آلها !. ولا كانوا يقولون الله ولا الإله
إذ ليسوا جاهلين بمرتبة معبودهم الحق الذي هو الله تعالى أو الإله الحق وهو الله تعالی
ثم أخذ يبين حال من هو أعلى مقاما من هؤلاء الذين تخيلوا أن هذه الأصنام آلهة.
فقال: والأعلى ما تخیل وهم الذين هم أفضل عقلا من أولئك قال فإنهم ما تخيلوا بل قالوا: هو مجلي " إلهي ينبغي تعظيمه فما اقتصروا على ما اقتصروا عليه أولئك الذين سماهم أدنى.
ثم أخذ يشرح حال هذا الأدنى بقوله: فالأدنى صاحب التخيل لما لم تعبد بالأصنام أنها الله تعالی لكن اعتقد أنها آلهة.
فكأن سائلا سأل فقال إذا لم تعتقد أنها الله تعالى فلأي شيء تعبدها؟
فكان جواب السؤال المقدر أن يقول"ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"(الزمر:3).
ثم رجع إلى الأعلى عقلا من هذا، فقال: والأعلى العالم يقول: "فإلهكم إله واحد له أسلموا وبشر المخبتين" (الحج: 34).
ثم أخذ يبين حال المخبتين، فقال: هم الذين خبت نار طبيعتهم أي خمدت حتى قالوا في كل صنم من الأصنام: إنه إله ولم يقولوا: طبيعة حجر أو خشب أو كوكب.
ثم أخذ يبين حال هؤلاء وهو الأدنون، فعظمهم في تفسير قوله تعالى فيهم: وقد أضلوا كثيرا" (نوح: 24) أي حيروهم إذ كان هؤلاء المذكورون يرون الوحدة في عين الكثرة فصرحوا بما رأوه.

 فأضلوا بذلك قوما کثيرين ممن لا يرى الوحدة في عين الكثرة بل يرى الكثرة ولا يرى الوحدة لقصورهم في الإدراك.
فقد حيروهم إذن بالوجوه الثابتة للواحد، فإنه ما يتكثر بالوجوه كما لا يتكثر الشخص الواحد بأنه نصف الإثنين وثلث الثلاثة وربع الأربعة. 
وكذلك إلى غير النهاية وبأنه أب لزيد وأخ لعمرو وولد لخالد وأشباه ذلك، فهذه وأمور أخرى مما لا يتناهى هي وجوه كلها لا تكثر الواحد.
ثم أخذ في اعتبار قوله "ولا تزد الظالمين" ففسر الظالمين بالذين وضعوا أنفسهم في بعض الاعتبارات في غير موضعها وهم خلفاء الله الكمل لأنهم الذين أورثوا الكتاب.

قال: وهم أول الثلاثة ويعني بالثلاثة قوله تعالى: "فمنهم ظالم لنفسه" وهؤلاء هم الأولون لأنهم قدموا على الفريقين الذين ذكروا بعدهم وهم المقتصد والسابق بالخيرات .
ثم أخذ يفسر قوله تعالى: "ضلالا" من قوله: "لا تزد الظالمين إلا ضلالا" فأشار إلى الضلال هنا بأنه الحيرة في الحق تعالى من قوله، عليه السلام: «رب زدني فيك تحيرا " فإن لم يكن هذا حديثا عن محمد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، فقد قاله المحمديون وهم أمته، عليه السلام.
قال: وقوله تعالى: "كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا" هو عنوان ما كانوا فيه من الحيرة وهذا هو كمالهم لأنهم محمديون وإليهم انتهى الكمال.

قال: وسبب حيرة المحمديين الدور والحركة الدورية التي ظاهرها الأفلاك وحركاتها، وباطنها دور حركة بواطنهم عليهم إذ ليس ورائهم مطمح يشتاقون إليه لقيامهم بمعاني الاستخلاف الإلهي وذلك هو معنى القطبية الكبرى
قال: وأما صاحب الطريق المستطيل وهو السالك إلى جهة واحدة فإنه مائل خارج عن المقصود، طالب ما هو فيه كمن ولده على كتفه وهو يسأل عنه.
قال: ومن هذه حاله هو صاحب خيال وإلى الخيال رجوعها فهو غايته فله بداية وله نهاية.
وإلى هذا المعنى أشار، رضي الله عنه، بقوله: فله من وإلى وما بينهما، فإن «من» هي لابتداء الغاية و«إلى» هي لانتهاء الغاية.
قال: وأما صاحب الحركة الدورية وهم المحمديون فليس لهم ابتداء فتلزمهم «من»، ولا لهم غاية فتحكم عليهم «إلى»، فلهم الوجود الأتم ولذلك أوتي، عليه السلام، جوامع الكلم وكذلك ورثته. وتعني بالحكم ما وافق لفظه معناه من غير خلل.
ثم أخذ بعظم أقدار من قبل فيهم: مما خطياتهم أغرقوا، وعبر عن الخطيئة بالخطوة التي خطت بهم إلى بحبوحة بحر الفناء في الله فغرقوا في ذلك البحر فحصل لهم العلم بالله تعالى من عين الحياة . فيه فادخلوا نارا في عين الماء وإنما سمي النار عين الماء لأن الشهود يقتضي ذلك.
قال النفري رضي الله عنه: «أوقفني في النار، فرأيت جيم الجنة جيم جهنم، فرأيت ما به يعذب عين ما به ينعم» ، ويجوز أن يحصل العطش الذي يتجدد لأهل الشهود في نفس الري.

وفي ذلك يقول شيخنا عبد القادر الجيلي فيما نقل لي عنه في قصيدة مذهبة وللأغيار مدهيه وهي شعر:
يرون أمرا أعطى الجمال قياده   …. فأصبح لا يلوى على اللوم والعتب
فلو أضحت السبع البحار مدامة   ….. يطوف عليه كأسها لم يقل حسبي
فهذا المعنى يجوز أن يحمل عليه في مذهب الصوفية قوله تعالى: "مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا" وليس ذلك بجائز على مذهب العلماء، رضي الله عنهم.
ولي من جملة قصيدة في هذا المعنى :
وهو الوجود المستمر بذاته    ….. في نهج متفق الشؤون محکوم
يعطيك ریا ضمنه عطش به  ….. اسمعت بالمرحوم والمحروم
قد ضاق من سعة به ذرعا      ….. ففي إقامة الموجود کالمعدوم
قال رضي الله عنه، استشهادا لوجود النار في الماء بقوله تعالى: "وإذا البحار سجرت" (التكوير: 6) والبحار هي ماء وقد وصفها بصفة النار في قوله
"سجرت" والدليل على أنها صفة النار قولهم: سجرت التنور إذا أوقدت فيه النار، فصح قوله: إن قوله: فأدخلوا نارا أنها نار في ماء.
ثم أخذ يبين معنى قوله: "فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا" (نوح: 25) وحمله على أنهم وجدوا الله ناصرا لهم لا سواه تعالى، فكأنه قال إنه نصرهم الله تعالى وهو مخالف لما قاله أئمة التفسير، إذا هو سالك فيما ذكره مسالك أهل الطريق.
ولذلك رأى أن نصره تعالى لهم هو أنهم هلكوا فيه إلى الأبد ومعنى هلاكهم إلى الأبد. أنهم راوه وحده ليس معه غيره أزلا وأبدا، فشهدوا أن ما معه غيره وهم محو فيه وهذا المحو يعرفه أهله.
قال: فلو نزل بهم لحجبهم بطبائع أجسامهم فكانوا بذلك نازلين في سيف هذا البحر وسيف البحر هو الساحل.
ثم أنه أورد على نفسه تقدیر سؤال كأن قائلا قال له: فهذا السيف الذي هو الساحل إذا أنزلهم الحق تعالى إليه هل يخرجون بذلك عنه؟
فقال في الجواب: لا بل هو الله .
واضرب بقوله: «بل» عن قوله الله وبالله فإن ذلك يقال في مراتب محو به وهو هنا سمح بذكر الحقيقة على ما هي عليه.
ثم أخذ يذكر قول نوح، عليه السلام: «رب»، قال: وخص الرب لأنه مضائف للمربوب، وأما الإله المشتق من الوله فما فيه تقييد، فأما لو اشتقه من الإلهة التي هي العبادة لكان بمعنى الرب واشتقاق الآلهة في قوله تعالى في بعض الروايات: ويذرك وآلهتك في موضوع قوله: "ويذرك وآلهتك " (الأعراف: 127) فالاشتقاق من الوله يقتضي التنوع الذي به تحصل الحيرة وهي الوله
ثم شرع في تقرير قوله: "لا تذر على الأرض" (نوح: 26) وقصده أن يعظم أقدارهم في دخولهم في باطن التوحيد ثم استشهد بما نقله المحمديون من قولهم: إنه، عليه السلام، قال "لو دليتم بحبل لهبط على الله."

ثم أخذ يبين معنى قوله تعالى: "وفيها نعیدکم" بالغيبة في الوحدانية "ومنها تخرجکم"(طه: 55) بالظهور إلى اسمه الظاهر.
قال: لاختلاف الوجوه، وهو جواب عن سؤال مقدر كأن قائلا قال له : فإذا لم يكن هناك إلا الحق فما معنى تعید کم ونخرجكم، وحقيقة الوحدانية يقتضي أن لا خروج ولا إعادة؟
فقال إن الأسماء الإلهية منها الظاهرة ومنها الباطنة وهذه من الوجوه.
فكأنه قال: إن ذلك إنما كان الاختلاف اعتبارات الأسماء الإلهية وإليها استند؛ الكافرون الذين "استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم» (نوح: 7) طلبا للستر لما طلبهم ليغفر لهم أي يسترهم.
ثم أخذ يبين معنى قوله: "لا تذر على الأرض من الکافرین دیارآ" (نوح: 29) أحدا يسكن الديار قال: حتى إذا أخذهم إليه كلهم عمت المنفعة بجميعهم كما عمت الدعوة جميعهم.

ثم أخذ يبين معنى قوله تعالى«إنك إن تذرهم» (نوح: 27) وتتركهم ولا تغمرهم بالوحدانية يضلوا عبادك فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية.
وسبب ذلك أن من غمره التوحيد ينسى الفرق الأسمائي، فأما إن تركهم وشركهم دعوا الناس إلى الفرق، فأضلوهم بإخراجهم عن العبودية إلى تحقق أنهم عين الأرباب بل عین الرب .
وذلك هو نظرهم إلى أنفسهم أي يرون حقيقة أنفسهم، فيجدونها ليست غیر معبودهم، فينتقلون إلى الربوبية من العبودية ولذلك ذکر "عبادك" في قوله: "يضلوا عبادك" ولم يقل: يضلوا خلقك.
ثم انتقل إلى معنى قوله: "ولا يلدوا" (نوح: 27)، معناه: ولا يظهرون إلا فاجرا أي مظهرا من قولك فجرت النهر ونحوه، فإن الظهور يلزمه والكفار هو الذي يتكرر منه الكفر وهو الستر . والمراد هنا ستر خاص وهو ستر ما أظهره بفجوره کالانكار بعد الإقرار .
 
ثم شرع في معنى قوله تعالى: "رب اغفر لی" (نوح: 28) ففسره بمعنی استرني، لأن الغفر هو الستر وفسر الوالدين بالعقل والطبيعة، أما العقل فللأسماء الإلهية، وأما الطبيعة فلعالم جسمه، ومجموعهما هو والده، وفسر البيت بالقلب، وفسر المؤمن بالمصدق وهو على وفق اللغة، وخص المؤمنين بالعقول لأنها أعلى والمؤمنات بالنفوس لأنها دونها والعقل فاعل في النفس فهو الذكر وهي الأنثى کنسبة القلم الأعلى من اللوح المحفوظ.
وأردف ذلك ببيان حال الظالمين، واشتق أسمائهم من الظلمات، وفسر حالهم بأنهم حجبوا بالحق عن ادراك نفوسهم، فهو هلاك لهم لأنهم لا يعرفون نفوسهم.
واستدل بحال بعض المحمديين في نزول الآية فيهم مخبرة لهم أنه "كل شيء هالك إلا وجهه" (القصص: 88) .

والهالك: المعدوم، والمستثنى من العدم يكون موجودا، فالموجود هو وجهه الكريم وقال: "إن في فلك يوحوهي الشمس أسرار نوح وفلك يوح هو السماء الرابعة والله الهادي.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 6:16 am

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية
العلو نسبتان: علو مكان وعلو مكانة. فعلو المكان "ورفعناه مكانا عليا" [مريم: 57]. وأعلى الأمكنة المكان الذي تدور عليه رحى عالم الأفلاك وهو فلك الشمس، وفيه مقام روحانية إدريس، عليه السلام، وتحته سبعة أفلاك وفوقه سبعة أفلاك وهو الخامس عشر.
فالذي فوقه فلك الأحمر وفلك المشتري وفلك كيوان  وفلك المنازل والفلك الأطلس وفلك الكرسي وفلك العرش.
والذي تحته فلك الزهرة وفلك الكاتب، وفلك القمر، واکرة الأثير ، وأكره الهواء، وأكره الماء، وأكره التراب، فمن حيث هو قطب الأفلاك هو رفيع المكان وأما على المكانة:
فهو لنا، أعني المحمديين، قال الله تعالى: "وأنتم الأعلون" والله معكم في هذا العلو، وهو يتعالی عن المكان لا عن المكانة، ولما خافت نفوس العمال منا أتبع المعية بقوله: "ولن يتركم أعمالكم" (محمد: 35) .
فالعمل يطلب المكان والعلم يطلب المكانة، فجمع لنا بين الرفعتين على المكان بالعمل وعلو المكانة بالعلم.
ثم قال تنزيها للاشتراك بالمعية: "سبح اسم ربك الأعلى" [الأعلى: 1] عن هذا الاشتراك المعنوي.
قلت : هذه الحكمة الشريفة نسبتها إلى القدوس تعالى، واشتقاق القدوس من التقديس وهو في اللغة التطهير واعتبر، رضي الله عنه، مضمون الآية وهو قوله تعالى: "ورفعناه مكانا عليا" (مريم: 57) فأخذ يبين العلو فقسمه إلى علو مكان وإلى علو مكانة، فعلى المكان معروف وعلو المكانة الجاه.
فشرع، رضي الله عنه، يبين أولا علو المكان، فذكر أن أعلاه فلك الشمس وهو السماء الرابعة.
قال: وفيه مقام روحانية إدريس، عليه السلام، فبين، رضي الله عنه، أن فوق فلك الشمس سبعة أفلاك وتحته سبعة أفلاك وهو في حقيقة الوسط، والوسط هو أعلى بدليل قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمه وسطا" (البقرة: 143).
أي خيارا، ثم ذكر الأفلاك التي فوق فلك الشمس على الترتيب، فذكر أن فوقه فلك الأحمر وهو المريخ، وفوق فلك الأحمر "المريخ" فلك المشتري.
وفوقه فلك كیوان و کیوان هو زحل، وفوقه فلك المنازل وهو فلك البروج وفيه الكواكب كلها إلا السبعة السيارة. ثم ذكر أن فوقه الأطلس وهو التاسع المحيط.
ثم ذكر ، رضي الله عنه، أن فوق التاسع فلك الكرسي وفوقه فلك العرش فهذه سبعة أفلاك كلها كما ذكر فوق فلك الشمس.
وأما الأفلاك التي تحت فلك الشمس فأقرب ما يليه فلك الزهرة، وفلك الكاتب بعده وهو عطارد.
وإن كان قد قيل: إن عطارد فوق الزهرة والمعتمد هو ما يقوله مشايخنا، رضي الله عنهم، فإنهم خلفاء الرسول عليه السلام.
قال: ثم فلك القمر، ثم اكرة الأثير وهي فلك النار، ثم فلك الهواء، ثم فلك الماء المخالط الكرة الأرض، ثم كرة الأرض.
قال: فصار فلك الشمس قطب الأفلاك فهو بهذا رفيع المكان، وإنما كان القطب أرفع من المحيط به لأن المركز وهو مطمح نظر كل نقطة من المحيط المحيط فإليه يتوجه فهو عندها الأعلى.
ونقطة القطب وحدها تعم نقط المحيطات كلها و تسعها حيث يتوجه كلها إليها فيقبلها على اختلافها ولا تضيق عن شيء منها مع أنها لا تنقسم.
قال: وأما على المكانة فهو لنا، أعني المحمديين، لقوله تعالى: "وأنتم الأعلون والله معكم» (محمد: 35) في هذا العلو، وهو يتنزه عن علو المكان لا عن علو المكانة. ومعنى قوله تعالى: "ولن يتركم أعمالکم" (محمد: 35) أي ولن ينقصها.
ثم نسب العمل إلى المكان والعلم إلى المكانة، فجعل العلم أعلى من العمل.
وفي هذا إشارة إلى أنه ما أراد بالعلم أنه العلم الذي هو يكتفيه العمل، فإن العمل أفضل من ذلك العلم لأنه توطئة للعمل والتوطئة دون الموطأ له، وإنما أراد بالعلم هنا العلم بالله تعالى، فإنه أعلى من العمل.
قال: فجمع لنا بين الرفعتين: علو المكان بالعمل وعلو المكانة بالعلم.
قال ولما ذكر المعية معنا في العلو عرفنا أنه ليس بمحصور في ذلك العلو الذي نشارکه نحن فيه فقال: "سبح اسم ربك الأعلى" (الأعلى: 1) عن هذا الاشتراك المعنوي.
قال الشيخ، رضي الله عنه: ومن أعجب الأمور كون الإنسان الكامل أعلى الموجودات وما نسب إليه العلو إلا بالتبعية، إما إلى المكان وإما إلى المكانة وهي المنزلة الرفيعة.
فما كان علوه لذاته فهو العلى بعلو المكان وبعلو المكانة, فالعلو لهما.
فعلو المكان كـ "الرحمن على العرش استوى:" (طه: 5) وهو أعلى الأماكن.
وعلى المكانة "كل شيء هالك إلا وجهه" (القصص: 88), "و إليه يرجع الأمر كله" (هود: 123)، "أإله مع الله" (النمل: 60).
ولما قال الله تعالى: "ورفعناه مكانا عليا" (مريم: 57) فجعل عليا نعتا للمكان.
"وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" (البقرة: 30).فهذا على المكانة.
وقال في الملائكة"أستكبرت أم كنت من العالين" (ص: 75) فجعل العلو للملائكة. فلو كان لكونهم ملائكة لدخل الملائكة كلهم في هذا العلو، فلما لم يعم، مع اشتراكهم في حد الملائكة، عرفنا أن هذا على المكانة عند الله تعالى.
وكذلك الخلفاء من الناس لو كان علوهم بالخلافة علوا ذاتيا الكان لكل إنسان، فلما لم يعم عرفنا أن ذلك العلو للمكانة.
ومن أسمائه الحسنى العلي على من وما ثم إلا هو؟ فهو العلي لذاته.
أو عن ماذا وما هو إلا هو؟ فعلوه لنفسه.
وهو من حيث الوجود عين الموجودات. فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها فليست إلا هو.
فهو العلي لا علو إضافة، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمت رائحة من الوجود، فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات.
والعين واحدة من المجموع في المجموع، فوجود الكثرة في الأسماء، وهي النسب، وهي أمور علمية.
وليس إلا العين الذي هو الذات، فهو العلی لنفسه لا بالإضافة، فما في العالم من هذه الحيثية على إضافة لكن الوجوه الوجودية متفاضلة، فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة. لذلك نقول فيه هو لا هو، أنت لا أنت.
قال : الخراز وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه: بأن الله تعالى لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها.
فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره.
وما ثم من يراه غيره، وما ثم من يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه.
وهو المسمى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات
فيقول الباطن: لا، إذا قال الظاهر: أنا، ويقول الظاهر: لا، إذا قال الباطن: أنا.
وهذا في كل ضد، والمتكلم واحد وهو عين السامع.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وما حدثت به أنفسها"، فهي المحدثة السامعة حديثها، العالمة" بما حدثت به أنفسها ، والعين واحدة واختلفت الأحكام.
ولا سبيل إلى جهل مثل هذا فإنه يعلمه كل إنسان من نفسه وهو صورة الحق، فاختلطت الأمور وظهرت الأعداد بالواحد في المراتب المعلومة .
فأوجد الواحد العدد، وفصل العدد الواحد، وما ظهر حكم العدد إلا بالمعدود، والمعدود منه عدم ومنه وجود، فقد يعدم الشيء من حيث الحس وهو موجود من حيث العقل، فلا بد من عدد و معدود، ولا بد من واحد ينشئ ذلك العدد فينشأ بسببه. فإن كل مرتبة من العدد حقيقة واحدة كالتسعة مثلا والعشرة إلى أدنى وإلى أكثر إلى غير نهاية، ما هي مجموع، ولا ينفك عنها اسم جمع الآحاد.
فإن الاثنين حقيقة واحدة والثلاثة حقيقة واحدة، بالغة ما بلغت هذه المراتب، وإن كانت واحدة، فما عين واحدة منهن عين ما بقى. فالجمع بأخذها فنقول " بها منها، وتحكم بها عليها، قد ظهر في هذا القول عشرون مرتبة، فقد دخلها التركيب فما تنفك تثبت عين ما هو متفى عندك لذاته.
ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، وإن كان قد تميز الخلق من الخالق.
فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق. كل ذلك من عين واحدة، لا، بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة.
فانظر ماذا ترى "قال يا أبت افعل ما تؤمر" (الصافات: 102) .
والولد عين أبيه، فما رأى يذبح سوى نفسه، "وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ" (107) ] "وفداه بذبح عظيم" (الصافات: 107) فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان، وظهر بصورة ولد لا، بل بحكم ولد من هو عين الوالد "وخلق منها زوجها" (النساء: 1).
فما نكح سوى نفسه، فمنه الصاحبة والولد والأمر واحد في العدد.
فمن الطبيعة ومن الظاهر منها، وما رأيناها نقصت بما ظهر منها ولا زادت بعدم ما ظهر؟ وما الذي ظهر غيرها.
وما هي عين ما ظهر لاختلاف الصور بالحكم عليها، فهذا بارد یابس وهذا حار يابس، فجمع باليبس وأبان بغير ذلك، والجامع الطبيعة، لا بل العين الطبيعية.
فعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة، لا بل صورة واحدة في مرآيا مختلفة. فما ثم إلا حيرة لتفرق النظر.
ومن عرف ما قلناه لم يحر، وإن كان في مزید علم، فليس إلا من حكم المحل والمحل عين العين الثابتة.
فيها يتنوع الحق في المجلى، فتتنوع الأحكام عليه، فيقبل كل حكم، وما يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه. وما ثم إلا هذا :
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا     …… وليس خلقا بذاك الوجه فاذکروا
من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته     ….. وليس  يدريه إلا  من له بصر
جمع  وفرق فإن  العين واحدة      …… وهي الكثيرة  لا تبقي ولا تذر
فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية , بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، وسواء كانت محمودة عرفا وعقلا و شرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا.
وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالی خاصة. وأما غير مسمى الله خاصة مما هو مجلي له أو صورة فيه، فإن كان مجلى له فيقع التفاضل، لا بد من ذلك، بين مجلی ومجلى، وإن كان صورة فيه فتلك الصورة عين الكمال الذاتي، لأنها عين ما ظهرت فيه.
فالذي لمسمى الله هو الذي لتلك الصورة. ولا يقال: هي هو ولا هي غيره.
وقد أشار أبو القاسم بن قسي في خلعه إلى هذا بقوله: إن كل اسم إلهي يتسمى بجميع الأسماء الإلهية وينعت بها.
وذلك أن كل اسم يدل على الذات وعلى المعنى الذي سبق له ويطلبه. فمن حيث دلالته على الذات له جميع الأسماء، ومن حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به، يتميز عن غيره كالرب والخالق والمصور إلى غير ذلك.
فالاسم المسمى من حيث الذات، والاسم غير المسمى من حيث ما يختص به من المعنى الذي سيق له.
فإذا فهمت أن العلى ما ذكرناه علمت أنه ليس على المكان ولا على المكانة، فإن علو المكانة يختص بولاة الأمر كالسلطان والحكام والوزراء والقضاة و كل ذي منصب سواء كانت فيه أهلية ذلك المنصب أو لم تكن .
والعلو بالصفات ليس كذلك، فإنه قد يكون أعلم الناس يتحكم فيه من له منصب التحكم وإن كان أجهل الناس، فهذا على بالمكانة بحكم التبع ما هو على في نفسه . فإذا عزل زالت رفعته والعالم ليس كذلك.
سر شریف
قلت : في ذلك سر شریف نبه عليه الشيخ، رضي الله عنه، لمن طلبه منه فيقوله لنا مشافهة أو ينقله إلينا من سمعه منه مشافهة ونحن نذكره الآن وهو أن العلو هو الجهات والكامل فيه الجهات.
وكذلك على المكانة هو لمن نسب إلى الكامل، فبقدر القرب من الكامل يكون على المكانة فذاته محيطة بالمكان والمكانة فلا ينسبان إليه بل العلو في المقامين هو بحسب القرب منه يكون.
وأما قوله: فهو العلي بعلو المكان وبعلو المكانة
فمعناه: أن من كان العلو بالقرب منه يكتسب، فكل علو حصل لعال فهو علوا وزيادة .
أما العلو العرشي من قوله: "الرحمن على العرش استوى" (طه: 5) .
فالعرش هو شطر حقيقة ذاته و هو، أعني الشطر، جانب باطنه فإنه مجموع الأسماء، فتجلى الرحمن فيه فهو بحقائق ما في الرحمن، من الأسماء المودعة في الكامل.
قال تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" (الإسراء:110) فالاستواء العرشي.
فيه قال رضي الله عنه: والعرش هو أعلى الأماكن يعني به ما فوق الكرسي لأنه يريد صورة ظاهر العرش وهو منطوى في حقيقة الكامل لأنه أحاط بالأفلاك كلها وكذلك هو المخبر عنها بأكمل مما تخبر هي به عن نفسها بلسان الحال وهو يخبر عنها بالمقال.
وأما قوله في علو المكانة: "كل شيء هالك إلا وجهه" (القصص: 88) فمعناه أنه تعالى يريد أن كل شيء هالك أي معدوم إلا وجهه أزلا وأبدا وهذه مكانة لا تليق إلا به.
وهو بعينه معنی "وإليه يرجع الأمر كله" (هود: 123) أي حقيقته، إليها ترجع الحقائق كلها، فهو وحده
وهو بعينه معنى قوله: "أإله مع الله" (النمل: 60) أي ليس مع الله سواه أزلا وأبدا كما أجمع عليه أهل الفناء في التوحيد .
لأن وجود سواه ألوهية ما، فهذه الصفات كلها صفات شطر من حقيقة مرتبة الكامل والكلام في هذا المجال يكون شفاها لضيق هذا المكتوب عن بسط الكلام فيه وأين مقام من قيل فيه"إني جاعل في الأرض خليفة" (البقرة: 30) ممن قيل فيه"ورفعناه مكانا عليا" (مريم: 57)
ثم أنه نسب العلو للمكان لا إليه، أعني إدريس، عليه السلام.
و كذلك قوله تعالى: "أم كنت من العالين" عن الملائكة الذين لم يعلموا أن الله خلق آدم ولا سجدوا له .
ولذلك قيل لإبليس: "أم كنت من العالین" (ص: 75) فلذلك لم يسجد لآدم ومع علو مكانة العالين فعلو الكمل من المحمديين أعلى.
قوله: ومن أسمائه الحسنى العلي ثم قال العلي على من وما ثم إلا هو.
فإذن هذه الموجودات علية بالذات، هكذا أشار وهو يستر هذا النفس في بعض الأوقات ويصرح به في بعضها.
قال: فهو العلي لذاته وصفات المدح تورد لمجرد المدح لا للفرق بين المشتر کين كعادة الصفات وهذه من جملتها.
وما بعده ظاهر إلى قوله: فما شمت رائحة من الوجود، فهي على حالها وهذا الذي ذكره، رضي الله عنه، ههنا أعلى مما ذكر في الحكمة الآدمية .
وباقيه واضح إلى قوله: هو أنت لا أنت.
وباقيه ظاهر إلى قوله: يعلمه كل إنسان من نفسه، أي يعلم كل أحد أن الإنسان قد يحدث نفسه. وقوله: فاختلطت الأمور، يعني الإلهية والكونية.
وقوله: وظهرت الأعداد بالواحد في المراتب، يعني أنك لو عددت دنانير مثلا فكلها ذهب والواحد منها هو حقيقة كل واحد منها في الذهبية والمراتب کثرت الواحد.
ألا ترى أن الإثنين هي واحد وواحد، والثلاثة هي واحد وواحد وواحد، فهو الواحد يتكرر إلى غير نهاية فإذا اتحد المعدود في الحقيقة فلا أثر لتعدد المراتب فقد بان معنى قوله، رضي الله عنه: فظهرت الأعداد بالواحد في المراتب.
واعلم أن ما ذكره، رضي الله عنه، من هنا إلى آخر هذه الحكمة ينضبط بأن الحق تعالى هو الوجود، وتعيناته، التي منشؤها عن قوة وجوده هي عدمية والعدمية لا تكثر الواحد الحق الذي تسميتنا له واحدا بها هو مجاز.
وكلامه واضح بنفسه ولكن فيه موضع واحد يجب أن أقول فيه بعض القول وهو أن قوله: إنه الجامع لجميع الكمالات، فإن ظاهر کلامه، رضي الله عنه، يقتضي أن لها جميعا وکلا، وهذا عند من يرى أن العالم عبارة عما حده محدب العرش وهو ظاهره وحده الآخر مركز الأرض" وهي نقطة متوهمة في وسطها.
وما يلحق ذلك مما يرى ومما لا يرى فلا شك أن هذا له كل وجميع وإن تفصل بالجزئيات في المستقبل إلى غير نهاية.
وأما عند من فتح له الفتح الثاني، فالعوالم بالنوع لا تتناهي فضلا عن العوالم بالشخص والكرات غير متناهية وليست بعضها في بعض بل بعض أشخاصها متناهية وبعضها غير متناهية أو ليست كذلك فكل واحد منها غير الآخر ولا شيء منها مغاير للحق تعالى على ما ذكره الشيخ، رضي الله عنه، واعلم أن جميع ما أذكره لا ينسب إليه شيء منه وإنما أقوله شرحا لما فهمته من كلام الشيخ، رضي الله عنه .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 6:20 am

05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإبراهيمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية
إنما سمي الخليل خليلا لتخلله وحصره جميع ما اتصفت به الذات الإلهية.
قال الشاعر:
 وتخللت مسلك الروح مني    …. وبذا سمي الخليل خليلا
كما يتخلل اللون المتلون، فيكون العرض بحيث جوهره ما هو كالمكان والمتمكن، أو لتخليل الحق وجود صورة إبراهيم. و كل حكم بصح من ذلك، فإن لكل حکم موطنا يظهر به لا يتعداه.
ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذم؟
ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها وكلها حق له كما هي صفات المحدثات حق للحق.
الحمد لله فرجعت إليه عواقب الثناء من كل حامد ومحمود. "وإليه يرجع الأمر كله " (هود: 123) فعم ما ذم وحمد، وما ثم إلا محمود ومذموم
اعلم أنه ما تخلل شیء شيئا إلا كان محمولا فيه، فالمتخلل، اسم فاعل، محجوب بالمتخلل، اسم مفعول، فاسم المفعول هو الظاهر، واسم الفاعل هو الباطن المستور. وهو غذاء له كالماء يتخلل الصوفة فتربو به وتتسع.
فإن كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه، فيكون الخلق جميع أسماء الحق سمعه وبصره
و جميع نسبه و إدراكاته.
وإن كان الخلق هو الظاهر فالحق مستور باطن فيه، فالحق سمع الخلق و بصره و يده و رجله و جميع قواه كما ورد في الخبر الصحيح.
ثم إن الذات لو تعرت عن هذه النسب لم تكن إلها.
وهذه النسب أحدثتها أعياننا: فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها، فلا يعرف حتى نعرف.
قال عليه السلام: «من عرف نفسه عرف ربه» وهو أعلم الخلق بالله.
فإن بعض الحكماء وأبا حامد ادعوا أنه يعرف الله من غير نظر في العالم وهذا غلط. نعم تعرف ذات قديمة أزلية لا يعرف أنها إله حتى يعرف المألوه. فهو الدليل عليه.
ثم بعد هذا في ثاني حال يعطيك الكشف أن الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه و على ألوهيته، و أن العالم ليس إلا تجليه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه ، وأنه يتنوع و يتصور بحسب حقائق هذه الأعيان و أحوالها، و هذا بعد العلم به منا أنه إله لنا.
ثم يأتي الكشف الآخر فيظهر لك صورنا فيه، فيظهر بعضنا لبعض في الحق، فيعرف بعضنا بعضا، و يتميز بعضنا عن بعض.
فمنا من يعرف أن في الحق وقعت هذه المعرفة لنا بنا، و منا من يجهل الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة بنا: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
و بالكشفين معا ما يحكم علينا إلا بنا، لا، بل نحن نحكم علينا بنا و لكن فيه، و لذلك قال «فلله الحجة البالغة»: يعني على المحجوبين إذ قالوا للحق لم فعلت بنا كذا و كذا مما لا يوافق أغراضهم، «فيكشف لهم عن ساق»: و هو الأمر الذي كشفه العارفون هنا، فيرون أن الحق ما فعل بهم ما ادعوه أنه فعله و أن ذلك منهم، فإنه ما علمهم إلا على ما هم عليه، فتدحض حجتهم و تبقى الحجة لله تعالى البالغة.
فإن قلت فما فائدة قوله تعالى: «فلو شاء لهداكم أجمعين» قلنا «لو شاء» لو حرف امتناع لامتناع: فما شاء إلا ما هو الأمر عليه.
و لكن عين الممكن قابل للشيء و نقيضه في حكم دليل العقل، و أي الحكمين المعقولين وقع، ذلك هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته.
و معنى «لهداكم لبين لكم: و ما كل ممكن من العالم فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمر في نفسه على ما هو عليه: فمنهم العالم و الجاهل. فما شاء ، فما هداهم أجمعين،  كذلك «إن يشأ»: فهل يشاء؟ هذا ما لا يكون.
فمشيئته أحدية التعلق و هي نسبة تابعة للعلم و العلم نسبة تابعة للمعلوم و المعلوم أنت و أحوالك. فليس للعلم أثر في المعلوم، بل للمعلوم أثر في العلم فيعطيه من نفسه ما هو عليه في عينه.
و إنما ورد الخطاب الإلهي بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون و ما أعطاه النظر العقلي، ما ورد الخطاب على ما يعطيه الكشف.
و لذلك كثر المؤمنون و قل العارفون أصحاب الكشوف.
«و ما منا إلا له مقام معلوم»: و هو ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك، هذا إن ثبت أن لك وجودا. فإن ثبت أن الوجود للحق لا لك، فالحكم لك بلا شك في وجود الحق. و إن ثبت أنك الموجود فالحكم لك بلا شك. و إن كان الحاكم الحق، فليس له إلا إفاضة الوجود عليك و الحكم لك عليك.
فلا تحمد إلا نفسك و لا تذم إلا نفسك، و ما يبقى للحق إلا حمد إفاضة الوجود لأن ذلك له لا لك.
فأنت غذاؤه بالأحكام، ... و هو غذاؤك بالوجود.
فتعين عليه ما تعين عليك. فالأمر منه إليك ومنك إليه.
غير أنك تسمى مكلفا و ما كلفك إلا بما قلت له كلفني بحالك و بما أنت عليه.
و لا يسمى مكلفا: اسم مفعول.
فيحمدني و أحمده ... و يعبدني و أعبده
ففي حال أقر به ... و في الأعيان أجحده
فيعرفني و أنكره ... و أعرفه فأشهده
فأنى بالغنى و أنا ... أساعده فأسعده؟
لذاك الحق أوجدني ... فأعلمه فأوجده
بذا جاء الحديث لنا ... و حقق في مقصده
و لما كان للخليل هذه المرتبة التي بها سمي خليلا لذلك سن القرى ، و جعله ابن مسرة مع ميكائيل للأرزاق ، و بالأرزاق يكون تغذي المرزوقين.
فإذا تخلل الرزق ذات المرزوق بحيث لا يبقى فيه شيء إلا تخلله، فإن الغذاء يسري في جميع أجزاء المغتذي كلها وما هنالك أجزاء فلا بد أن يتخلل جميع المقامات الإلهية المعبر عنها بالأسماء فتظهر بها ذاته جل وعلا
فنحن له كما ثبتت ... أدلتنا ونحن لنا
وليس له سوى كوني ... فنحن له كنحن بنا
فلي وجهان هو وأنا ... و ليس له أنا بأنا
ولكن في مظهره ... فنحن له كمثل إنا
و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل.

قلت : أما قوله، رضي الله عنه: إن إبراهيم، عليه السلام، يخلل الوجود الإلهي
فمعناه: أن إبراهيم هو جمع المعاني العدمية وبها اتصف الوجود بالكثرة مع كونه واحدا في نفسه.
وأما أن الحق تعالی بخلل حقيقة إبراهيم، فهو أظهرها في وجود ذاته من الوجه الذي هي فيه ذاتية له به منه فيه.
 وقد تقدم معنى ذلك ويتكرر حتى يظهر إن شاء الله تعالى، وما أحسن استدلال الشيخ، رضي الله عنه، بقوله: «وإليه يرجع الأمر كله» (هود: 123) يعني محموده ومذمومه وهو، رضي الله عنه، غیر محتاج إلى الاستدلال لكن ذلك من أجل أهل الحجاب.
و مقام الخلة يثبت فيه الحق والعبد لكن يكون الحق فيه أظهر في شهود الشاهد، وفي هذا المقام قيل للواقف : 
متى رأيت نفسك ثبتا أو ثابتا؟
ولم ترني في الرؤية مثبتا حجبت وجهى وأسفر لك وجهك فانظر ماذا بدا لك؟
وماذا توارى عنك ؟
 ولما بسط، رضي الله عنه، في هذا المعنى كلامه إلى آخر الحكمة الإبراهيمية، رأيت أن المعنى قليل والتعبير عنه كثير ومع ذلك ما تدركه العقول المحجوبة لكونه غير مألوف لهم .
رأيت أن اختصر الشرح في ألفاظ قليلة أرجو أن تدل على المطلوب للمكاشف والمحجوب وتعين في تسهيل المطلوب أن اصطلح على ألفاظ تدل على ما يقع من المقاصد
فمن جملتها: أني أسمي ذات الحق تعالی، من أحد وجهي ما يقال عليه النور وليس هذا هو اسم للذات المشار إليها، لأنه لا اسم لها لأن الإشارة هنا إلى ما قبل الأسماء في الرتبة، فالنور المشار إليه وإن فاق مرتبة الإشارة، فكيف العبارة؟
ليس اسما للذات وهذا النور يجب أن يعلم بحسب الإمكان أنه ما يقابل قولنا العدم المطلق .
ولما كان العدم المطلق هو لا شيء من كل وجه، إن كان يقبل شيء من كل وجه أن يخبر عنه لكن للضرورة، فما نجد لفظا يدل عليه أحسن من قولنا:
لا شيء من كل وجه وإن كان لا شيء من كل وجه لا يقبل أن يدل عليه بلفظ، لأنه لا ذات له.
 فنعود ونقول لا شيء من كل وجه يقابله ما هو الشيء من كل وجه .
وذلك هو الذي يعني بأنه النور المعبر به عن الذات لا باعتبار الصفات.
والمصطلح الثاني قولنا:
المعنى وهو عالم الصفات وهذا المعنى ينبغي أن يتخيل كأنه كلي لما لا يتناهي، وفي تفسير ما لا يتناهي بيني وبين سندي وشيخي، الشيخ محيي الدين مظهر هذا الكتاب الذي هو الفصوص، خلاف أو شيء يشبه الخلاف.
فأنا أقول: إن جزئیات هذا الذي فرضناه كليا أو كالكلي لا وجود لها قبل كونها، ولا ثبوت لها أصلا بوجه من الوجوه.
وقد تلفظ الشيخ، رضي الله عنه، بهذا لكنه يعود يقرر غيره أيضا، وموضع ذكره لهذا الذي ذكرناه هو في الحكمة القدوسية في الكلمة الإدريسية، وصورة لفظه هكذا: لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمت رائحة من الوجود،
فنعود ونقول: إن جزئیات هذا الذي فرضناه کالكلي لا وجود لها قبل كونها ولا ثبوت لها لأن الثبوت فيه رائحة الوجود وإنما سميناه نحن بالمعنى وهو لا يستحق أن يتسمی [به] لأن الوجود الذي هو النور هو الشيء من كل وجه.
 فلا بد أن يكون قويا على صفات غير متناهية تظهر، لكنها قبل ظهورها ما كانت لها أعيان ثابتة لأن الشيء لا يسبق وجوده وجود هذا، هو الحق.
أما الشيخ فإنه يقول": هي متمايزة قبل وجودها فهذا هو الخلف وإن كان الشيخ لا ينكر ما أقوله أنا.
وأما أنا فأنكر ما يقوله الشيخ، رضي الله عنه، من " ثبوت الأعيان قبل كونها، وعذر الشيخ، رضي
الله عنه، تئزله إلى عقول المحجوبين رجاء أن يمكر بهم في إثباتها ثم يخلصهم بعد ذلك إلى حضرة الوحدانية
فنعود ونعيد ما اصطلحنا عليه ونقوله إن النور الوجودي كان في ذاته، و وحداني، أن يظهر كثيرا.
وقولنا: في ذاته، مجاز إذ ليس في ذاته غير ذاته.
فنقول: إن كونه في ذاته له قوة أن يظهر كثيرا نحن سميناه بالمعنى وفرضناه أنه بلسان الحال، يتقاضي النور الوجودي الظهور بما في قوته، لا بمجاورة" فظهر بالواحد والكثير .
وهو في نفسه لا واحد ولا كثير فاحس الذهن بالمتغایرات لا بالتغايرات.
فتوهم أنه احس بالتغايرات والمتغايرات فسمي هذه التغايرات التي غلط في اثباتها أعيانا ثابتة.
وسميتها أنا تبعا للشيخ، رضي الله عنه: المعنى الكلي وهذه التغايرات جزؤياته.
فإذا تحقق أحد بالبقاء بعد الفناء في الشهود رأى أنه ليس مع النور غيره ولا تغايرات هناك وحيث أثبتها الشيخ، رضي الله عنه، قرر فيها ما ذكره في هذه الحكمة وفي غيرها. لكنا جميعا نجتمع في التصريح بأنه ليس مع الله غيره.
وبقي لنا أنه، رضي الله عنه، يقول إن العالم هو العرش والكرسي وما تحتهما من الأفلاك بما فيها .
وأنا أقول كما قيل:
شعر العرش والكرسي يتلوهما    …. غيرهما من غير ما عالم
حبابة في بحر إطلاقه       ….. ما أيسر المحدود في الدائم
فما ذهب إليه محدود وما ذهبت إليه غير محدود وغير متناه بالنوع فكيف بالشخص.
وأنه ليس للوجود مرکز وفيه منه موجودات لها مراکز، ولست ألزم أحدا أن يتبعني في ذوقي هذا والنور الوجودي عندي لا يحيط ولا يحاط به وفيه موجودات تحيط وتحاط بها.
قوله في الشعر:  فيحمدني يعني أن ذلك النور يحمد المعنى، لأنه به ظهر كثيرا وهو لا واحد ولا كثير، وأحمده يعني أنه أظهرني في اعتبار الأذهان في عالم النسب والإضافات التي لا وجود لها إلا في الأذهان، فأنا أحمده على اظهاري مع ما في ظهوري من التلبيس "التلبس"، لأني ليس لي في الحقيقة ذات حتى تظهر أو لا تظهر.
قوله: ففي حال أقر به، أي أقر بأن النور هو وليس يغایره ذلك المعنى، وأما في الوجودات الظاهرة فأجحده، أي أجحد أنه عين ذلك المعنى بل هو النور لا غيره.
قوله: فيعرفني لأني صفته. وانكره لأني عدم لا ينسب إلى معرفته.
قوله: وأعرفه فأشهده، يعني أرى النور بعين النور
قوله: فأني بالغني، یعني فكيف يصح الغنى للنور وهو مفتقر في صفاته إلى المعنى وهو عالم المعاني المختلفة فهو إذن فقير إلي، فلا يدعي أنه غني فأني أساعده في ظهور صفاته وأسعده أي أصيره ذا سعد.
قوله: لذلك الحق أو جدني، أي أن النور أوجدني لأساعده ولاعلمه علم الجزئي و أوجده في حضرة الألوهية بحقيقة أني المألوه، إذ لولا المألوه الكائن بالفعل ما وجد معنى الإله بالفعل.
قوله: بذا جاء الحديث، يريد كنت سمعه وبصره فلولا المعنى لما كان له السمع والبصر وبالجملة الصفات، إذ كلها معان.
و قوله: لذلك سن إبراهيم الخليل القرى، أي الضيافة فهو رفیق میکائیل الذي هو متكفل بأرزاق العباد، ليوصله إلى من أمر أن يوصل إليه من السحاب المسخر بين السماء والأرض، وما ذكره ظاهر
قوله: فنحن له، يعني الله تعالى كما يثبت أدلتنا، يعني أن الدليل العقلي يقتضي بأنا لله والنقلي أولى
قوله: ونحن لنا، يعني بمقتضى الشهود ویرید ، بقوله: نحن، الأعيان الثابتة
قوله: وليس له سوي کوني، أي وجود کوني وهو إظهار عيني الثابتة بوجوده.
قوله: فنحن له، یعنی منه إليه فيه لأن الأعيان الثابتة هي أحكام صور علمه وعلمه ذاته.
قوله: کنحن بنا، كما نحن بحقائق ذاتنا وماهياتنا.
قولهفلي وجهان، يعني وجه الإمكان وهو الأعيان الثابتة ووجه له وهو وجوده الذي به ظهرنا۔
قوله: وليس له أنا بأنا، أي ما ثبت له بي، إنما ثبت له به.
قوله: ولكني في مظهره، أي محل ظهوره. فنحن له كمثل أنا.
كما يقول القائل: أنا فما نحن إذن غيره.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 06 - فص حكمة حقية في كلمة اسحاقية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 6:27 am

06 - فص حكمة حقية في كلمة اسحاقية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإسحاقي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
06 - فص حكمة حقية في كلمة اسحاقية
فداء نبی ذبح ذبح لقربان     ….. وأين تواج الكبش من نوس إنسان
و عظمه الله العظيم عنابة       ….. بنا أو به لا أدر من أي ميزان
ولا شك أن البدن أعظم قيمة   ….. وقد نزلت عن ذبح كبش لقربان
فيا ليت شعري كيف ناب بذاته    ….. شخیص کبيش عن خليفة رحمان
ألم تدر أن الأمر فيه مرتب     ….. وفاء لإرباح ونقص لخسران؟
فلا خلق أعلى من جماد وبعده  …. نبات على قدر یکون وأوزان
وذو الحس بعد النبت والكل عارف  …. بخلافه کشفا وإيضاح برهان
وأما المسمى آدما فمقيد     ….. بعقل وفكر أو قلادة إيمان
بذا فال سهل والمحقق مثلنا  …… لأنا وإياهم بمنزل إحسان
فمن شهد الأمر الذي قد شهدته    …. يقول بقولي في خفاء وإعلان
ولا تلتفت قولا يخالف قولنا     …. ولا تبذر السمراء في أمر عميان  
هم الصم والبكم الذين أتى بهم   …. لأسماعنا المعصوم في نص قرآن
اعلم أيدنا الله وإياك أن إبراهيم الخليل، عليه السلام، قال لابنه: «إني أرى في المنام أني أذبحك" (الصافات: 102) .
فالمنام حضرة الخيال فلم يعبرها و كان كبشا ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام فصدق إبراهيم الرؤيا، ففداه ربه من وهم
إبراهيم بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند الله تعالى وهو لا يشعر.
فالتجلي الصوري في حضرة الخيال محتاج إلى علم آخر يدرك به ما أراد الله تعالى بتلك الصورة.
ألا ترى كيف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في تعبير الرؤيا:
«أصبت بعضا وأخطأت بعضا» فسأله أبو بكر أن يعرفه ما أصاب فيه وما أخطأ فلم يفعل.
وقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام حين ناداه:
«أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا» وما قال له صدقت في الرؤيا أنه ابنك: لأنه ما عبرها، بل أخذ بظاهر ما رأى، والرؤيا تطلب التعبير.  ولذلك قال العزيز "إن كنتم للرءيا تعبرون".  
ومعنى التعبير الجواز من صورة ما رآه إلى أمر آخر.  فكانت البقر سنين في المحل والخصب.
فلو صدق في الرؤيا لذبح ابنه، وإنما صدق الرؤيا في أن ذلك عين ولده، وما كان عند الله إلا الذبح العظيم في صورة ولده ففداه لما وقع في ذهن إبراهيم عليه السلام: ما هو فداء في نفس الأمر عند الله.
فصور الحس الذبح وصور الخيال ابن إبراهيم عليه السلام.
فلو رأى الكبش في الخيال لعبره بابنه أو بأمر آخر.
ثم قال «إن هذا لهو البلاء المبين» أي الاختبار المبين أي الظاهر يعني الاختبار في العلم: هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا؟
لأنه يعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير: فغفل فما وفى الموطن حقه، وصدق الرؤيا لهذا السبب كما فعل تقي بن مخلد الإمام صاحب المسند، سمع في الخبر الذي ثبت عنده أنه عليه السلام قال: «من رآني في النوم فقد رآني في اليقظة فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي» فرآه تقي بن مخلد وسقاه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرؤيا لبنا فصدق تقي بن مخلد رؤياه فاستقاء فقاء لبنا.
ولو عبر رؤياه لكان ذلك اللبن علما. فحرمه الله علما كثيرا على قدر ما شرب.
ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي في المنام بقدح لبن: «فشربته حتى خرج الري من أظافيري ثم أعطيت فضلي عمر".  قيل ما أولته يا رسول الله؟
قال العلم، وما تركه لبنا على صورة ما رآه لعلمه بموطن الرؤيا وما تقتضيه من التعبير.
وقد علم أن صورة النبي صلى الله عليه وسلم التي شاهدها الحس أنها في المدينة مدفونة، وأن صورة روحه ولطيفته ما شاهدها أحد من أحد ولا من نفسه.
كل روح بهذه المثابة فتتجسد له روح النبي في المنام بصورة جسده كما مات عليه لا يخرم منه شيء.
فهو محمد صلى الله عليه وسلم المرئي من حيث روحه في صورة جسدية تشبه المدفونة لا يمكن للشيطان أن يتصور بصورة جسده صلى الله عليه وسلم عصما من الله في حق الرائي.
ولهذا من رآه بهذه الصورة يأخذ عنه جميع ما يأمره أو ينهاه عنه أو يخبره كما كان يأخذ عنه في الحياة الدنيا من الأحكام على حسب ما يكون منه اللفظ الدال عليه من نص أو ظاهر أو مجمل أو ما كان فإن أعصاه شيئا فإن ذلك الشيء هو الذي يدخله التعبير، فإن خرج في الحس كما كان في الخيال فتلك رؤيا لا تعبير لها.
وبهذا القدر وعليه اعتمد إبراهيم عليه السلام وتقي بن مخلد.
ولما كان للرؤيا هذان الوجهان.
وعلمنا الله: فيما فعل بإبراهيم وما قال له: الأدب لما يعطيه مقام النبوة، علمنا في رؤيتنا الحق تعالى في صورة يردها الدليل العقلي أن نعبر تلك الصورة بالحق المشروع إما في حق حال الرائي أو المكان الذي رآه فيه أو هما معا.
وإن لم يردها الدليل العقلي أبقيناها على ما رأيناها كما نرى الحق في الآخرة سواء.
فللواحد الرحمن في كل موطن ... من الصور ما يخفي وما هو ظاهر
فإن قلت هذا الحق قد تك صادقا ... وإن قلت أمرا آخرا أنت عابر
وما حكمه في موطن دون موطن ... ولكنه بالحق للخلق سافر
إذا ما تجلى للعيون ترده ... عقول ببرهان عليه تثابر
ويقبل في مجلي العقول وفي الذي ... يسمى خيالا والصحيح النواظر
يقول أبو يزيد في هذا المقام لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بها.
وهذا وسع أبي يزيد في عالم الأجسام. بل أقول لو أن ما لا يتناهى وجوده يقدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بذلك في علمه.
فإنه قد ثبت أن القلب وسع الحق ومع ذلك ما اتصف بالري فلو امتلأ ارتوى.
وقد قال ذلك أبو يزيد. ولقد نبهنا على هذا المقام بقولنا:
يا خالق الأشياء في نفسه ... أنت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه فيه ... بك فأنت الضيق الواسع
لو أن ما قد خلق الله ما لاح ... بقلبي فجره الساطع
من وسع الحق فما ضاق عن ... خلق فكيف الأمر يا سامع؟
بالوهم يخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها، وهذا هو الأمر العام.
والعارف يخلق بالهمة ما يكون له وجود من خارج محل الهمة و لكن لا تزال الهمة تحفظه.
ولا يئودها حفظه، أي حفظ ما خلقته.
فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق، إلا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات وهو لا يغفل مطلقا، بل لا بد من حضرة يشهدها.
فإذا خلق العارف بهمته ما خلق وله هذه الإحاطة ظهر ذلك الخلق بصورته في كل حضرة، وصارت الصور يحفظ بعضها بعضا.
فإذا غفل العارف عن حضرة ما أو عن حضرات وهو شاهد حضرة ما من الحضرات، حافظ لما فيها من صورة خلقه، انحفظت جميع الصور بحفظه تلك الصورة الواحدة في الحضرة التي ما غفل عنها، لأن الغفلة ما تعم قط لا في العموم ولا في الخصوص.
وقد أوضحت هنا سرا لم يزل أهل الله يغارون على مثل هذا أن يظهر لما فيه من رد دعواهم أنهم الحق، فإن الحق لا يغفل والعبد لا بد له أن يغفل عن شيء دون شيء.
فمن حيث الحفظ لما خلق له أن يقول «أنا الحق»، ولكن ما حفظه لها حفظ الحق: وقد بينا الفرق.
ومن حيث ما غفل عن صورة ما وحضرتها فقد تميز العبد من الحق.
ولا بد أن يتميز مع بقاء الحفظ لجميع الصور بحفظه صورة واحدة منها في الحضرة التي ما غفل عنها. فهذا حفظ بالتضمن، وحفظ الحق ما خلق ليس كذلك بل حفظه لكل صورة على التعيين.
وهذه مسألة أخبرت أنه ما سطرها أحد في كتاب لا أنا ولا غيري إلا في هذا الكتاب:
فهي يتيمة الدهر وفريدته. فإياك أن تغفل عنها فإن تلك الحضرة التي يبقي لك الحضور فيها مع الصورة، مثلها مثل الكتاب الذي قال الله فيه «ما فرطنا في الكتاب من شيء» فهو الجامع للواقع وغير الواقع ولا يعرف ما قلناه إلا من كان قرآنا في نفسه ، فإن المتقي الله «يجعل له فرقانا» وهو مثل ما ذكرناه في هذه المسألة فيما يتميز به العبد من الرب.
وهذا الفرقان أرفع فرقان.
فوقتا يكون العبد ربا بلا شك ... ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك
فإن كان عبدا كان بالحق واسعا ... وإن كان ربا كان في عيشة ضنك
فمن كونه عبدا يرى عين نفسه ... وتتسع الآمال منه بلا شك
ومن كونه ربا يرى الخلق كله ... يطالبه من حضرة الملك و الملك
ويعجز عما طالبوه بذاته ... لذا تر بعض العارفين به يبكي
فكن عبد رب لا تكن رب عبده ... فتذهب بالتعليق في النار والسبك
قلت: ثواج الكبش، صورته. ونوس الإنسان حركته. قوله: وعظمه الله، إشارة إلى قوله: "وفدیناه بذبح عظيم" (الصافات: 107)
قال: والتردد واقع في هذه العظمة هل هي من أجل اسحاق أو من أجل المذبوح فإن البدنة وهي الناقة أعظم قدرا في العادة وما ذكر تعظيمها كما ذكر تعظيم الكبش. والذبيح، خليفة الله من أجل أن آدم و بنيه كل منهم يستحق الخلافة من حيث الانسانية .
وليس من غير نوع الانسان يكون خليفة في الأرض ثم ذکر في الأبيات أن الموجودات الجسمانية أشرفها في الرتبة الجماد وأشرف منه النبات.
 وأشرف منه الحيوان . وأشرف من الحيوان الإنسان .
فكيف يكون المشروف الذي هو الحيوان بدلا من الإنسان في فدائه من الذبح.
وأقول: إن ذلك سهل وهو فداء الأشرف بالأدنى ولا يلزم أن يكون الفداء بالكفؤ.
 ثم ذكر أن آدم وبنيه مقيدون بالعقل أو بالتصديق ونقل الشيخ عن سهل التستري في ذلك نقلا
وقال: لا يلتفت إلى المخالف وهم الذين قيل فيهم: "صم بكم عمى فهم لا يرجعون" (البقرة: 18) كما ورد على لسان المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم
قوله: اعلم أيدنا الله وإياك وما بعده، یعنی، رضي الله عنه، أن الذي رأى إبراهيم عليه السلام، أنه يذبحه هو الكبش في الحقيقة، ولكن رأه إبراهيم، عليه السلام ، في صورة ولده وما ذكره ظاهر من لفظه، رضي الله عنه، وأما الرؤيا التي عبرها أبو بكر ، رضي الله عنه، فهي أن رجلا قص رؤيا على النبي ، صلى الله عليه وسلم، وهي أنه رأى ظلة تنطف سمنا وعسلا.
فقال أبو بكر ، رضي الله عنه: یا رسول الله، دعني أعبرها له، فأذن له، عليه السلام.
فقال أبو بكر: الظلة كتاب الله والسمن والعسل، الأحكام والحكم الذي يستفاد منه أو ما هذا معناه.
فقال: يا رسول الله هل أصبت؟
فقال عليه السلام: أصبت بعضا وأخطأت بعضا، فأقسم علي النبي عليه السلام، ليعلمه بما فيه أصاب وبما فيه أخطاء.
والشيخ، رضي الله عنه، أورد هذا شاهدا على احتياج الرؤيا إلى التعبير.
قال وسماه الحق تعالی فداء لأن من المرائي ما يرى على صورة ما رأه بعينه فحمله الحق تعالى على ذلك الحكم مراعاة لظن ابراهیم، عليه السلام، وإلا فقد رأى الذبح وظهر على ظاهر ما رآه من غير تعبیر.
قوله: في البلاء المبين أنه الاختيار الظاهر وقد يكون معناه أنه الاختيار المظهر، فإن المبين هو المظهر وأما بقي بن مخلد فإن كان قد قاء لبنا فعندي أنه ما رأى إلا كشفا بصورة الرؤيا.
فإن بعض الناس يقع له الرؤيا في اليقظة وقد ورد ذلك كثيرا ومن جرب وقائع الخلوة رای من هذا كثيرا ثم إن بقي بن مخلد حصر الأمر في رؤيا النبي عليه السلام، بين أن يكون هو جسده، عليه السلام.
بعينه أو يكون الشيطان قد تمثل على صورته، عليه السلام، وليس الأمر محصورا فإنه قد لا تكون تلك الصورة صورة النبي عليه السلام، الجسمانية المدفونة بیثرب بل صورة أوجدها الله تعالى في خيال الرأي وأوقع في نفسه أنها صورته عليه السلام.
ولا تكون الصورة هي صورة ابلیس خصوصا إذا أمرت تلك الصورة بما يناسب شريعته، عليه السلام.
فإن الشيطان يستحيل منه أن يأمر بالشرع، لأنه مظهر الاسم المضل و مظاهر الاسم المضل لا يتمثل بمظاهر الاسم الهادي
قوله: وأن صورة روحه و لطيفته ما شاهده أحد، يعني أن الأرواح غير مرئية بالحس ما دامت أرواحا فإن رأها أحد فإنما يراها متجسدة.
والكاف في قوله: كما يرى الحق في الآخرة، متعلقة بقوله: أبقيناها، والصور التي ذكرها في البيت الأول من المقطوع الشعر، هو اسم جمع لـ "صورة"  مثل تمرة وتمر وهو جمع معروف في العربية.
ويعني أنه يرى في كل عالم بما يناسب حال ذلك العالم.
فلذلك قال في البيت الثاني: فإن قلت: هذا الحق قد تك صادقا، أي قد تصدق.
وأما إن قلت: أمرا آخر فهو من باب تعبير الرؤيا وهو قوله: أنت عابر.
ثم قال: وما حكمه في موطن دون موطن، بل حكمه واحد في المواطن كلها وذلك الحكم الواحد هو أنه يظهر بصور مخلوقاته، ومن مخلوقاته الخيال فهو يظهر فيه بما يقتضيه .
وكذلك الحس في الآخرة وغيرها وكذلك بقية العوالم الروحانية والمعنوية، وتلك الظهورات كلها بالحق تظهر للخلق فإذا ظهر العالم الحس أنكرته العقول، فإن ظهر للعقول بمقتضاها أقرت له و به وكذلك في الخيال قوله رضي الله عنه عن أبي يزيد قدس الله روحه.
أنه قال: لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بها.
ثم قال: وهذا وسع أبي يزيد في عالم الأجسام.
بل أقول لو أن ما لا يتناهی بقدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به، فإنه قد ثبت أن القلب وسع الحق ومع ذلك ما اتصف بالري فلو امتلأ ارتوی.
فأقول في التمثيل هذا أن من عرف نقطة من ماء البحر فقد عرف ماء البحر وعلى تقدير أن يكون ماء البحر غير متناه .
فقد عرف ما لا يتناهي من نفس معرفته بنقطة واحدة ولا شك أن وجود الحق تعالى لا يتناهي موجوداته.
والوجود عند العارف معروف فهو يعرف ما لا يتناهي ويكفي في معرفة صور ما لا يتناهي أن يعرف أنها لا تتناهي .
ويكفي في معرفة ماهية ذلك أن يعرف حقيقة البحر من نقطة واحدة، فقد حصل للعارف معنى ما لا يتناهي ذاتا كالنقطة.
وصفتا كصور الموجودات التي ليس حصرها إلا بمعرفة عدم حصرها وهذا هو کشف ما استتر من هذه المسألة.
قوله في الشعر: يا خالق الأشياء في نفسه، معناه أن الموجودات جوهرها هو وجوده ووجوده هو عين ذاته لأنه هو عين وجوده لا أن وجوده زائد على ماهيته، فحصل من هذا أنه خالق الأشياء في نفسه، ويكون معنی خالق الأشياء أن صفاته يتجدد في عين ذاته.
ولا تلتفت هذه الطائفة إلى قول من يقول إنه يلزم أن يكون ذاته محلا للحوادث، لأن ذلك أي ما كان يكون صعبا لو كان المحدث فيه غيره أما إذا كان عين صفاته فلا ضرر في ذلك.
وقوله في الشعر: تخلق ما لا ينتهي كونه فيك"، فقد تقدم شرحه
وقوله: فأنت الضيق الواسع، معناه: أنت الضيق لانحصار معرفة ذاتك للعارف بها في مثل ما انحصرت فيه معرفة النقطة من البحر في نفسها وكانت کاشفة الحقيقة البحر فكذلك إذا عرفك العارف في حقيقة ذات موجود واحد معرفة ذاتية فقد عرف بها ذاتك التي لا تنحصر
قوله: بالوهم يخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها، وهذا هو الأمر العام، يعني أن الذهن يقبل موجودات ذهنية، فبعضها خيالية وبعضها عقلية وبعضها وهمية قبل أن يتناولها العقل أو غيره، ثم أن بعض ما يقبله الذهن قد يكون محالا کاجتماع الضدين الشيء واحد في زمان واحد، وقد يكون متناقضا کاجتماع النقيضين أو ارتفاعهما.
واعلم أنه قد حصل في العالم خبط عظيم في مداركهم وكان منشاؤه من کون الذهن يقبل المحال والمتناقض ولا سيما عند من يجعل اللزوم ذهنيا من المنطقيين
قوله: والعارف يخلق بالهمة ما يكون له وجود في الخارج.
وأقول إن الكلام في هذا الفصل ينبغي أن يكون مشافهة ولفظ الشيخ، رضي الله عنه، فيما أشار إليه هنا واضح.
ولست أقول إن هذا الفصل پستغني عن البيان لكني لا أبينه إلا مشافهة أدبا مع الشيخ، رضي الله عنه
قوله في الشعر: فوقتا يكون العبد ربا بلا شك. يعني أن حالة التجلي لا يسع العبد أن يقول عن نفسه إلا أنه رب وهذا في التجلي الناقص وإلا فمن يستحق أن يسمى عبدا حقيقة لا يجوز أن يسمى ربا حقيقة ولا العكس.
قوله: في البيت الثاني معناه: أنه يكون حقيقة حقية فيوصف بما يوصف به الحق، وفي هذا أيضا کلام لأنه إذا كان العبد عبدا كيف يكون الحق" مع كونه عبدا وهذا سائغ في مقام المعرفة وليس بسائغ في مقام التحقيق.
أما أنه سائغ في مقام المعرفة فلأن العارف يظن أنه الحق فيصف نفسه بما يصف به الحق نفسه وهو غلط منه، فإن العارف ما فني كل رسمه ولا شك أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم
قوله: وإن كان العبد ربا كان الرب المتوهم في عيشة ضنك وأما العبد مع فرض کونه رباه لا يكون في عيشة ضنك.
و قوله في البيت الثالث: ومن كونه ربا يرى الخلق كله يطالبه.
قلت: يعني أنه يظن أن فاقة العالم كلهم إليه واحتياجهم إليه، وهو غلط منه أيضا لكن الشيخ أخبر بما يقع لمن هذه حاله.
وقوله في البيت الرابع والخامس: ويعجز. هو مما يدل على صدق ما قلناه إنه غالط ولو كان نظره صحيحا لما عجز إلا إن كان الحق تعالى يعجزه.
قوله: فكن عبد رب، دليل لما قلناه، فإنه، رضي الله عنه، أمره أن لا يغتر بالتجلي الذي به ظن أنه الحق، فإنه إن فعل ذلك وخالف، صار رب عبده وهو لا يصح له ويقوم به الحجاب الذي هو حطب العذاب.
واعلم أن الاضطراب حصل في هذا الخطاب من جهة تسمية الشخص الواحد بأنه عبد يصير ربا وذلك عندنا باطل وأما أنه ليس في الوجود إلا الواحد تعالى.
فذلك هو الواقع في نفس الأمر، فإن اعتبرت الصفات لم يكن المعطي من جهة ما هو معط، هو المانع ولا العكس .
وكذلك كل الأسماء المتقابلة وهذا ممتنع في أسماء الله تعالی.
فكيف إذا فرضنا تقابلا هو بين العبودية والربوبية، فمحال أن يجتمع لشخص واحد هذان الوصفان، فإن هذا الجمع متعذر بين الأسماء الإلهية كما ذكرنا فكيف بين الأسماء الإلهية والأسماء الكونية.
والشيخ، رضي الله عنه، هنا تكلم بألسنة أهل الأحوال وهي لا تثبت في مقام التحقيق.
وعند الاجتماع بالأخ کریم الدین متعه الله بمعرفته نشرح له ذلك إن شاء الله تعالى

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 6:33 am

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإسماعيلي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية
أعلم أن مسمى الله أحدي بالذات كل بالأسماء. وكل موجود فما له من الله إلا ربه خاصة يستحيل أن يكون له الكل.
وأما الأحدية الإلهية فما لواحد فيها قدم، لأنه لا يقال لواحد منها شي ء ولآخر منها شيء، لأنها لا تقبل التبعيض. فأحديته مجموع كله بالقوة.
والسعيد من كان عند ربه مرضيا، وما ثم إلا من هو مرضي عند ربه لأنه الذي يبقي عليه ربوبيته، فهو عنده مرضي فهو سعيد.
ولهذا قال سهل إن للربوبية سرا وهو أنت: يخاطب كل عين- لو ظهر لبطلت الربوبية.
فأدخل عليه «لو» و هو حرف امتناع لامتناع ، وهو لا يظهر فلا تبطل الربوبية لأنه  لا وجود لعين إلا بربه.
والعين موجودة دائما فالربوبية لا تبطل دائما. وكل مرضي محبوب، وكل ما يفعل المحبوب محبوب، فكله مرضي، لأنه لا فعل للعين، بل الفعل لربها فيها فاطمأنت العين أن يضاف إليها فعل، فكانت «راضية» بما يظهر فيها وعنها من أفعال ربها، «مرضية» تلك الأفعال لأن كل فاعل وصانع راض عن فعله وصنعته، فإن وفى فعله وصنعته حق ما عليه «أعطى كل شي ء خلقه ثم هدى» أي بين أنه أعطى كل شيء خلقه، فلا يقبل النقص ولا الزيادة. فكان إسماعيل بعثوره على ما ذكرناه عند ربه مرضيا. وكذا كل موجود عند ربه مرضي.
ولا يلزم إذا كان كل موجود عند ربه مرضيا على ما بيناه أن يكون مرضيا عند رب عبد آخر لأنه ما أخذ الربوبية إلا من الكل لا من واحد. فما تعين له من الكل إلا ما يناسبه، فهو ربه.
ولا يأخذه أحد من حيث أحديته. و لهذا منع أهل الله التجلي في الأحدية ، فإنك إن نظرته به فهو الناظر نفسه فما زال ناظرا نفسه بنفسه، و إن نظرته بك فزالت الأحدية بك، و إن نظرته به و بك فزالت الأحدية أيضا.
لأن ضمير التاء في «نظرته» ما هو عين المنظور، فلا بد من وجود نسبة ما اقتضت أمرين ناظرا ومنظورا، فزالت الأحدية وإن كان لم ير إلا نفسه بنفسه. ومعلوم أنه في هذا الوصف ناظر ومنظور.
فالمرضي لا يصح أن يكون مرضيا مطلقا إلا إذا كان جميع ما يظهر به من فعل الراضي فيه.
ففضل إسماعيل غيره من الأعيان بما نعته الحق به من كونه عند ربه مرضيا.
وكذلك كل نفس مطمئنة قيل لها «ارجعي إلى ربك» فما أمرها أن ترجع إلا إلى ربها الذي دعاها فعرفته من الكل، «راضية مرضية».
«فادخلي في عبادي» من حيث ما لهم هذا المقام. فالعباد المذكورون هنا كل عبد عرف ربه تعالى واقتصر عليه ولم ينظر إلى رب غيره مع أحدية العين: لا بد من ذلك «وادخلي جنتي» التي بها ستري.
وليست جنتي سواك فأنت تسترني بذاتك. فلا أعرف إلا بك كما أنك لا تكون إلا بي. فمن عرفك عرفني وأنا لا أعرف فأنت لا تعرف.
فإذا دخلت جنته دخلت نفسك فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها.
فتكون صاحب معرفتين: معرفة به من حيث أنت، ومعرفة به بك من حيث هو لا من حيث أنت.
فأنت عبد وأنت رب ... لمن له فيه أنت عبد
وأنت رب وأنت عبد ... لمن له في الخطاب عهد
فكل عقد عليه شخص ... يحله من سواه عقد
فرضي الله عن عبيده، فهم مرضيون، ورضوا عنه فهو مرضي. فتقابلت الحضرتان  تقابل الأمثال و الأمثال أضداد لأن المثلين لا يجتمعان إذ لا يتميزان وما ثم إلا متميز فما ثم مثل، فما في الوجود مثل، فما في الوجود ضد، فإن الوجود حقيقة واحدة و الشيء لا يضاد نفسه.
فلم يبق إلا الحق لم يبق كائن ... فما ثم موصول و ما ثم بائن
بذا جاء برهان العيان فما أرى ... بعيني إلا عينه إذ أعاين
«ذلك لمن خشي ربه أن يكونه لعلمه بالتمييز.
دلنا على ذلك جهل أعيان في الوجود بما أتى به عالم.
فقد وقع التمييز بين العبيد، فقد وقع التمييز بين الأرباب.
ولو لم يقع التمييز لفسر الاسم الواحد الإلهي من جميع وجوهه بما يفسر الآخر.
والمعز لا يفسر بتفسير المذل إلى مثل ذلك، لكنه هو من وجه الأحدية كما تقول في كل اسم إنه دليل على الذات وعلى حقيقته من حيث هو.
فالمسمى واحد: فالمعز هو المذل من حيث المسمى، والمعز ليس المذل من حيث نفسه وحقيقته، فإن المفهوم يختلف في الفهم في كل واحد منهم:
فلا تنظر إلى الحق ... وتعريه عن الخلق
ولا تنظر إلى الخلق ... وتكسوه سوى الحق
ونزهه وشبهه ..... وقم في مقعد الصدق
وكن في الجمع إن شئت ... وإن شئت ففي الفرق
تحز بالكل إن كل ... تبدى قصب السبق
فلا تفنى ولا تبقى ... ولا تفني ولا تبقي
ولا يلقى عليك الوحي ... في غير ولا تلقي
الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات فيثني عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز. «فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله»
لم يقل و وعيده، بل قال «ونتجاوز عن سيئاتهم» مع أنه توعد على ذلك. فأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد. وقد زال الإمكان في حق الحق لما فيه من طلب المرجح.
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ... و ما لوعيد الحق عين تعاين
و إن دخلوا دار الشقاء فإنهم ... على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد ... و بينهما عند التجلي تباين
يسمى عذابا من عذوبة طعمه ... و ذاك له كالقشر و القشر صاين 
قوله: وكل موجود فما له من الله إلا ربه خاصة، يعني أن ما له من وجود الله إلا ما به هوا موجود وهذا القدر لا يشاركه فيه أحد بل هو خاص به، وأما تسمية هذا النصيب من الوجود بالرب.
 في قوله: إنه ربه فهو على قاعدة الشيخ رضي الله عنه، أن يجعل العبد هو العين الثابتة التي صبغها هذا النصيب من الوجود حتى صارت موجودة، فإذا اعتبرنا ذلك ثبت أن هناك عبدا هذا القسط من وجود الله تعالى هو ربه، فإنه لا يثبت معنى الرب بدون ثبوت معنى العبد للتضایف الذي بين الرب والعبد، والشهود يقتضي أنه ليس نسبة الربوبية إلى الوجود بأولى من نسبتها إلى العين الثابتة، لوجود الافتقار من كل منهما حين يتحول المعنى إلى الآخر وذلك لازم لكل منهما.
وفي هذا يقول رضي الله عنه: الكل مفتقر لا الكل مستغني
قوله: وأما الأحدية الإلهية فما لواحد فيها قدم، يعني لا يتبعض، لأن المائية في النقطة مثلها في البحر .
وإنما قال الشيخ رضي الله عنه، ذلك مع أن نصيب كل موجود من وجود الله تعالی غیر نصيب الآخر بالعدد لأنه إنما اعتبر حقيقة الأحدية كما مثلناه من أن المائية لا تختلف في النقطة والبحر.
قوله: فأحديته مجموع كله بالقوة.
قلت: ينبغي أن يفهم من قوله: مجموع كله، ما به یشترك المجموع أو ما به يشترك الكل من الوجود الأحدي، وإلا فظاهر المجموع والكل ينصرف إلى التعداد وليس ذلك هو المقصود، بل المقصود ما به يتحد المعدود كالذهبية في الدنانير المعدودة، لأن مثل هذا هو أحدية الجمع لا الجمع.
والمقصود هنا إنما هو الأحدية ثم أخذ، رضي الله عنه، في ذكر إسماعيل وكونه كان عند ربه مرضيا كما ورد في الكتاب العزيز، فذكر كلاما حاصله أن كل أحد سعيد لأنه عند ربه مرضي.
قوله: هو الذي يبقي عليه ربوبيته، يعني أن العبد هو الذي يبقى على ربه" ربوبیته بحقيقة عبوديته، فالعبد بذلك عند ربه مرضي. 
ثم أشار رضي الله عنه، إلى  قول سهل بن عبد الله التستريإن للربوبية سرا لو ظهر لبطلت الربوبية.
قال الشيخ رضي الله عنه: وهو أنت: يخاطب كل عين- لو ظهر لبطلت الربوبية.
ثم قال: إن ذلك السر لا يظهر فلا يبطل الربوبية، وينبغي أن يفهم من قول الشيخ: وهو أنت، معنی أن الحقيقة فيهما واحدة وبهذا تبطل الربوبية، لمحو العبودية التي ببقائها يبقى معنى الربوبية وإلا بطل.
واعلم أن قول الشيخ والعين دائمة، نذكر معناه مشافهة، لما يلزم أن لو ذكرنا شرحه من سوء الأدب مع شيخنا، رضي الله عنه، ولا ريب في أن المسامحة في هذه المواطن تحرم، والمسامحة هنا يجب ولم اعتمدها فتعلم ذلك مني.
قوله: ولا يلزم إذا كان كل موجود عند ربه مرضيا، على ما بيناه، أن يكون مرضيا عند رب عبد آخر، لأنه ما أخذ الربوبية إلا من كل لا من واحد.
قلت: الذي يظهر أن يكون إنما قال الشيخ: لأنه إنما أخذ الربوبية من واحد ألا من كل وهذا هو وجه الكلام، والذي وجدته في النسخة ما قدمت ذكره وأنا أشرحه على ما أراه صوابا لا على أصل النسخة، فإذن قوله: لأنه ما أخذ الربوبية إلا من واحد وهو ربه الذي هو عنده مرضي، فإذا سخط عليه غيره فله ذلك، وهذه العبارات بعيدة من ظاهر الشرع ونحن إنما اتبعنا فيها الشيخ لا غير، وأما إذا شرح على أصل النسخة .
فمعناه: أن العبد ما أخذ الربوبية إلا من رب هو الكل، لكن ما أخذ من الكل بما هو كل بل بما يناسبه من الكل وهو قسطه من الربوبية المأخوذة من الكل فرجع المعنى إلى أنه ما أخذ إلا من واحد ما عين له القسط المذكور
قال: ولا يأخذ أحد، أي لا يأخذ أحد ربه من حيث الأحدية، فإنها لا نسبة فيها بين شيئين من جهة ما هما شيئان، فإن ذلك هو وجه الكثرة والأحدية تنافي الكثرة.
قال: ولهذا منع أهل الله التجلي في الأحدية، لما يقتضي التجلي من متجلي ومتجلي له وتجل وهذه كثرة والأحدية لا تناسبها، ثم علل ذلك.
فقال: لأنك إذا نظرت الحق به فهو الذي نظر إلى نفسه بنفسه. قال: وإن نظرته بك فقد أثبت ذاتك معه، فوقعت الاثنينية فذهبت الأحدية.
قال: وكذلك إذا نظرته به وبك.
قال: لأن الضمير الذي هو التاء في قولك نظرته ما هو عين المنظور فلا بد إذن إذا ثبت الضمير من وجود نسبة بين شيئين وذلك ينافي الأحدية.
ثم عاد إلى معنى التوحيد فقال وإن كان لم ير إلا نفسه بنفسه، ومعلوم أنه في هذا الوصف ناظر و منظور معا.
ثم عاد إلى سياق كلامه الأول فقال: فالمرضي لا يصح أن يكون مرضيا مطلقا إلا إذا كان فعله كله يرضاه الراضي وقد أجمل الشيخ الكلام هنا ويحتاج إلى البيان
ثم أخذ يبين فضل اسماعيل وألحق به كل نفس مطمئنة من كونها مرضية داخلة في جملة من اقتصر على زبه الذي هو عنه راض وهذا من مسالکه التي انفرد بسلوكها، رضي الله عنه، ثم جعل العبد هو جنة ربه الذي يستره لأن الجنة مشتقة من الجن وهو الستر "
لكن قوله: يسترني كيف يجتمع مع قوله: فلا أعرف إلا بك وأكد ذلك بقوله: فمن عرفك عرفني فأين الستر
ثم غطي الجميع بقوله: فأنا لا أعرف فأنت لا تعرف، ويعني بكونه لا تعرف يعني بالعقل الفكري، وأما بالعقل الالقائي فيعرف وأما معرفته نفسه معرفة أخرى فهي معرفة كشف وشهود، والأولى كانت معرفة استدلال عرف فيها الحق بخلقه وهو قوله حين عرفت ربك بمعرفتك إياها.
قال فيكون صاحب معرفتين: معرفة من حيث أنت وهذه معرفة العوام ومعرفة به" بك من حيث هو لا من حيث أنت وهذه معرفة الخواص.
قوله في الشعر: 
فأنت عبد وأنت رب  …. لمن له فيه أنت عبد
يعني فأنت عبد لمن أنت ربه، وأنت رب لمن أنت عبده، كأنه يقول: تارة تظهر الحقيقة عليك فينسبك هو إلى أنك ربه وبالعكس.
والبيت الثاني يترتب معناه على ما سبق،
والبيت الثالث هو في المعنى أيضا وتقديره إذا اعتقدت فيه الربوبية انحل عقد نسبتها إليك واتصفت أنت بالعبودية وبالعكس في حقك.
قوله: فرضي الله عن عبيده إلى قوله: والشيء لا يضاد نفسه، معناه أن حضرات الربوبية وحضرات العبودية حصل بينهم التراضي من الأزل إلى الأبد والتضایف بينهما في حقيقة الوجود الواحد حاصل، لأنه ذاتي للواحد فكيف يضاد نفسه ثم ذكر البيتين اللتين بعد هذا في المعنى بعينه فما تحتاجان شرحا
و قوله: "ذلك لمن خشي ربه" [البينة: 8] أن یکونه.
يعني ذلك الرضا المذكور هو لمن خشي أن يظهر عليه سلطان الوحدانية الإلهية، فيمحو التمييز مع أنه ثابت، فإن المعز لا يفسر بمعنى المذل، فاختلفت الأسماء و تمایزت الصفات وكذلك تمایزت العبوديات.
قال: والذات واحدة والأسماء مختلفة والأبيات الباقية ظاهرة المعنى مما سبق۔
قوله: الثناء بصدق الوعد إلى قوله: طلب المرجح.
يعني أن اسماعیل صادق الوعد فأثنى الحق عليه بذلك فالحق أولى، والحضرة تطلب الثناء وهو بصدق الوعد لا يصدق الوعيد وهذا القدر مرجح لحصول الموعود به لا حصول المتوعد به، والأبيات تشرح ذلك وحاصلها أن أهل النار يتنعمون فيها، واشتقاق العذاب من العذوبة واللب الطيب لا يضر أن يكون له قشر غير طيب.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 7:02 am

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
الفص اليعقوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية 
الدين دينان، دين عند الله وعند من عرفه الحق تعالى ومن عرف من عرفه الحق. ودين عند الحق، وقد اعتبره الله.
فالدين الذي عند الله هو الذي اصطفاه الله وأعطاه الرتبة العليا على دين الخلق فقال تعالى «ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون»: أي منقادون إليه.
وجاء الدين بالألف واللام للتعريف والعهد، فهو دين معلوم معروف وهو قوله تعالى «إن الدين عند الله الإسلام» وهو الانقياد. فالدين عبارة عن انقيادك.
والذي من عند الله تعالى هو الشرع الذي انقدت أنت إليه.
فالدين الانقياد ، والناموس هو الشرع الذي شرعه الله تعالى.
فمن اتصف بالانقياد لما شرعه الله له فذلك الذي قام بالدين وأقامه، أي أنشأه كما يقيم الصلاة.
فالعبد هو المنشئ للدين والحق هو الواضع للأحكام. فالانقياد هو عين فعلك، فالدين من فعلك.
فما سعدت إلا بما كان منك. فكما أثبت للسعادة لك ما كان فعلك كذلك ما أثبت الأسماء الإلهية إلا أفعاله وهي أنت وهي المحدثات.
فبآثاره سمي إلها وبآثارك سميت سعيدا.
فأنزلك الله تعالى منزلته إذا أقمت الدين وانقدت إلى ما شرعه لك.
وسأبسط في ذلك إن شاء الله ما تقع به الفائدة بعد أن نبين الدين الذي عند الخلق الذي اعتبره الله.
فالدين كله لله وكله منك لا منه إلا بحكم الأصالة.
قال الله تعالى «ورهبانية ابتدعوها» وهي النواميس الحكمية التي لم يجيء الرسول المعلوم بها في العامة من عند الله بالطريقة الخاصة المعلومة في العرف.
فلما وافقت الحكمة والمصلحة الظاهرة فيها الحكم الإلهي في المقصود بالوضع المشروع الإلهي، اعتبرها الله اعتبار ما شرعه من عنده تعالى، «و ما كتبها الله عليهم».
ولم فتح الله بينه وبين قلوبهم باب العناية والرحمة من حيث لا يشعرون جعل في قلوبهم تعظيم ما شرعوه يطلبون بذلك رضوان الله على غير الطريقة النبوية المعروفة بالتعريف الإلهي.
فقال: «فما رعوها»: هؤلاء الذين شرعوها وشرعت لهم: «حق رعايتها» «إلا ابتغاء رضوان الله» وكذلك اعتقدوا، «فآتينا الذين آمنوا» بها «منهم أجرهم» «وكثير منهم»:
أي من هؤلاء الذين شرع فيهم هذه العبادة «فاسقون» أي خارجون عن الانقياد إليها والقيام بحقها.  ومن لم ينقد إليها لم ينقد مشرعه بما يرضيه.
لكن الأمر يقتضي الانقياد: وبيانه أن المكلف إما منقاد بالموافقة وإما مخالف، فالموافق المطيع لا كلام فيه لبيانه، وأما المخالف فإنه يطلب بخلافه الحاكم عليه من الله أحد أمرين إما التجاوز والعفو، وإما الأخذ على ذلك، ولا بد من أحدهما لأن الأمر حق في نفسه.
فعلى كل حال قد صح انقياد الحق إلى عبده لأفعاله وما هو عليه من الحال. فالحال هو المؤثر.
فمن هنا كان الدين جزاء أي معاوضة بما يسر وبما لا يسر: فبما يسر «رضي الله عنهم ورضوا عنه» هذا جزاء بما يسر، «ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا» هذا جزاء بما لا يسر. «ونتجاوز عن سيئاتهم» هذا جزاء.
 فصح أن الدين هو الجزاء، وكما أن الدين هو الإسلام والإسلام عين الانقياد فقد انقاد إلى ما يسر وإلى ما لا يسر و هو الجزاء.
هذا لسان الظاهر في هذا الباب. وأما سره وباطنه فإنه تجلي في مرآة وجود الحق: فلا يعود على الممكنات من الحق إلا ما تعطيه ذواتهم في أحوالها، فإن لهم في كل حال صورة، فتختلف صورهم لاختلاف أحوالهم، فيختلف التجلي لاختلاف الحال، فيقع الأثر في العبد بحسب ما يكون.
فما أعطاه الخير سواه ولا أعطاه ضد الخير غيره، بل هو منعم ذاته ومعذبها. فلا يذمن إلا نفسه ولا يحمدن إلا نفسه.  «فلله الحجة البالغة» في علمه بهم إذ العلم يتبع المعلوم.
ثم السر الذي فوق هذا في مثل هذه المسألة أن الممكنات على أصلها من العدم، وليس وجود إلا وجود الحق بصور أحوال ما هي عليه الممكنات في أنفسها وأعيانها.
فقد علمت من يلتذ ومن يتألم وما يعقب كل حال من الأحوال وبه سمي عقوبة وعقابا وهو سائغ في الخير والشر غير أن العرف سماه في الخير ثوابا وفي الشر عقابا، وبهذا سمى أو شرح الدين بالعادة، لأنه عاد عليه ما يقتضيه ويطلبه حاله.
فالدين العادة قال الشاعر: كدينك من أم الحويرث قبلها أي عادتك.
ومعقول العادة أن يعود الأمر بعينه إلى حاله: وهذا ليس ثم فإن العادة تكرار.
لكن العادة حقيقة معقولة، والتشابه في الصور موجود: فنحن نعلم أن زيدا عين عمرو في الإنسانية وما عادت الإنسانية، إذ لو عادت تكثرت وهي حقيقة واحدة والواحد لا يتكثر في نفسه.
ونعلم أن زيدا ليس عين عمرو في الشخصية: فشخص زيد ليس شخص عمرو مع تحقيق وجود الشخصية بما هي شخصية في الاثنين.
فنقول في الحس عادت لهذا الشبه، ونقول في الحكم الصحيح لم تعد.
فما ثم عادة بوجه وثم عادة بوجه، كما أن ثم جزاء بوجه وما ثم جزاء بوجه فإن الجزاء أيضا حال في الممكن من أحوال الممكن.
وهذه مسألة أغفلها علماء هذا الشأن، أي أغفلوا إيضاحها على ما ينبغي لا أنهم جهلوها فإنها من سر القدر المتحكم في الخلائق.
واعلم أنه كما يقال في الطبيب إنه خادم الطبيعة كذلك يقال في الرسل والورثة إنهم خادمو الأمر الإلهي في العموم، وهم في نفس الأمر خادمو أحوال الممكنات.
وخدمتهم من جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم.
فانظر ما أعجب هذا! إلا أن الخادم المطلوب هنا إنما هو واقف عند مرسوم مخدومه إما بالحال أو بالقول، فإن الطبيب إنما يصح أن يقال فيه خادم الطبيعة لو مشى بحكم المساعدة لها، فإن الطبيعة قد أعطت في جسم المريض مزاجا خاصا به سمي مريضا، فلو ساعدها الطبيب خدمة لزاد في كمية المرض بها أيضا، وإنما يردعها طلبا الصحة والصحة من الطبيعة أيضا بإنشاء مزاج آخر يخالف هذا المزاج.
فإذن ليس الطبيب بخادم للطبيعة، وإنما هو خادم لها من حيث إنه لا يصلح جسم المريض ولا يغير ذلك المزاج إلا بالطبيعة أيضا.
ففي حقها يسعى من وجه خاص غير عام لأن العموم لا يصح في مثل هذه المسألة. فالطبيب خادم لا خادم أعني للطبيعة، وكذلك الرسل والورثة في خدمة الحق.
والحق على وجهين في الحكم في أحوال المكلفين، فيجري الأمر من العبد بحسب ما تقتضيه إرادة الحق، وتتعلق إرادة الحق به بحسب ما يقتضي به علم الحق، ويتعلق علم الحق به على حسب ما أعطاه المعلوم من ذاته: فما ظهر إلا بصورته.
فالرسول والوارث خادم الأمر الإلهي بالإرادة، لا خادم الإرادة.
فهو يرد عليه به طلبا لسعادة المكلف فلو خدم الإرادة الإلهية ما نصح وما نصح إلا بها أعني بالإرادة.
فالرسول والوارث طبيب أخروي للنفوس منقاد لأمر الله حين أمره، فينظر في أمره تعالى وينظر في إرادته تعالى، فيراه قد أمره بما يخالف إرادته ولا يكون إلا ما يريد، ولهذا كان الأمر.
فأراد الأمر فوقع، وما أراد وقوع ما أمر به بالمأمور فلم يقع من المأمور، فسمي مخالفة ومعصية.
فالرسول مبلغ: ولهذا قال شيبتني «هود» وأخواتها لما تحوي عليه من قوله «فاستقم كما أمرت» فشيبه «كما أمرت فإنه لا يدري هل أمرت بما يوافق الإرادة فيقع، أو بما يخالف الإرادة فلا يقع.
ولا يعرف أحد حكم الإرادة إلا بعد وقوع المراد إلا من كشف الله عن بصيرته فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها على ما هي عليه، فيحكم عند ذلك بما يراه.
وهذا قد يكون لآحاد الناس في أوقات لا يكون مستصحبا.
قال: «ما أدري ما يفعل بي ولا بكم» فصرح بالحجاب، وليس المقصود إلا أن يطلع في أمر خاص لا غير.

قلت: مشرع هذه الحكمة هو الآية الكريمة وهو قوله تعالى: "ووصی بھا إبراهيم بنيه ويعقوب یا بنی" الآية (البقرة: 132)
وقد قسم الدين إلى قسمين:
الأول: هو الدين الذي هو عند الله تعالى وعند من عرفه الله وعند من عرفه من عرفها الله تعالى، 
وهو مبني على قاعدتين :
إحديهما الانقياد وهو منا، 
والأخرى ما انقدنا إليه وهو الشرع.
فنصيبنا سعادتنا بالانقياد ونصيب الحضرة الإلهية كما ذكر، رضي الله عنه، ظهور الألوهية بانقيادنا إلى شرعته
فبفعله، وهو خلقه لنا، كانت ألوهيته، وبفعلنا، وهو الانقياد، كانت سعادتنا.
وأما الدين الذي عند الخلق وأعتبره الله تعالى فهو ما شرعه العباد من تلقاء أنفسهم يبتغون به رضوان الله کالرهبانية التي ابتدعوها.

ولا شك أن الحق تعالی اعتبرها ولذلك قال :" فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" (الحدید: 27) .
في قوة كلام الشيخ رضي الله عنه، معنى أن الدين الذي شرعه الخلق لابتغاء رضوان الله هو برسول من عند الله في قلوب عباده، لكنه ماهو الرسول المعلوم الذي يتحدي بالمعجزة ويصرح بالرسالة.
ثم أنه، رضي الله عنه، بين أن ما سعد أحد إلا بما أتى به، فحال كل عبد هو الذي عين له نصيبه من خير وشر، وأما في ظاهر الأمر ففعله عنوان حاله الذي به سعد أو شقي، وأما في الباطن فإن حقيقة العبد ظهرت في نور وجود الحق بما هي عليه في نفسها، فإن عاد عليها عائد من خير أو ضده فمنها عاد عليها والله أظهرها كما هي .

قال وأخفى من هذا الاعتبار الذي ذكرناه أن كل حقيقة باقية على عدميتها، والحق تعالى منزه، فما ظهر إلا أحكامها وهي في العدم، فعادت عليهم أحكام ذواتهم.
وأقول: أن هذه المسئلة تحتاج إلى بيان فإن فيها سر القدر.
وفي قوله: لزاد في كمية المرض، موضع وهي تحقق مشافهة
 وباقي الحكمة ظاهر.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 7:07 am

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
الفص اليوسيفي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية
هذه الحكمة النورية انبساط نورها على حضرة الخيال وهو أول مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية. تقول عائشة رضي الله عنها: «أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا خرجت مثل فلق الصبح «تقول لا خفاء بها. وإلى هنا بلغ علمها لا غير.
وكانت المدة له في ذلك ستة أشهر ثم جاءه الملك، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»، وكل ما يرى في حال النوم فهو من ذلك القبيل، وإن اختلفت الأحوال.
فمضى قولها ستة أشهر، بل عمره كله في الدنيا بتلك المثابة: إنما هو منام في منام.
وكل ما ورد من هذا القبيل فهو المسمى عالم الخيال ولهذا يعبر، أي الأمر الذي هو في نفسه على صورة كذا ظهر في صورة غيرها، فيجوز العابر من هذه الصورة التي أبصرها النائم إلى صورة ما هو الأمر عليه إن أصاب كظهور العلم في صورة اللبن.
فعبر في التأويل من صورة اللبن إلى صورة العلم فتأول أي قال: مآل هذه الصورة اللبنية إلى صورة العلم.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه أخذ عن المحسوسات المعتادة فسجي وغاب عن الحاضرين عنده: فإذا سري عنه رد. فما أدركه إلا في حضرة الخيال، إلا أنه لا يسمى نائما.
وكذلك إذا تمثل له الملك رجلا فذلك من حضرة الخيال، فإنه ليس برجل وإنما هو ملك، فدخل في صورة إنسان.
فعبره الناظر العارف حتى وصل إلى صورته الحقيقية، فقال هذا جبريل أتاكم يعلمكم  دينكم.
و قد قال لهم ردوا علي الرجل فسماه بالرجل من أجل الصورة التي ظهر لهم فيها.
ثم قال هذا جبريل فاعتبر الصورة التي مآل هذا الرجل المتخيل إليها. 
فهو صادق في المقالتين:
صدق للعين في العين الحسية.
وصدق في أن هذا جبريل، فإنه جبريل بلا شك.
و قال يوسف عليه السلام: «إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين»: فرأى إخوته في صورة الكواكب و رأى أباه و خالته في صورة الشمس و القمر.
هذا من جهة يوسف، ولو كان من جهة المرئي لكان ظهور إخوته في صورة الكواكب وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس والقمر مرادا لهم.
فلما لم يكن لهم علم بما رآه يوسف كان الإدراك من يوسف في خزانة خياله، وعلم ذلك يعقوب حين قصها عليه فقال: «يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا» ثم برأ أبناءه عن ذلك الكيد وألحقه بالشيطان، وليس إلا عين الكيد.
فقال: «إن الشيطان للإنسان عدو مبين» أي ظاهر العداوة.
ثم قال يوسف بعد ذلك في آخر الأمر: «هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا» أي أظهرها في الحس بعد ما كانت في صورة الخيال، فقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «الناس نيام»، فكان قول يوسف عليه السلام : «قد جعلها ربي حقا» بمنزلة من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤيا رآها ثم عبرها.
ولم يعلم أنه في النوم عينه ما برح، فإذا استيقظ يقول رأيت كذا ورأيت كأني استيقظت وأولها بكذا. هذا مثل ذلك.
فانظر كم بين إدراك محمد صلى الله عليه و سلم و بين إدراك يوسف عليه السلام في آخر أمره حين قال: «هذا تأويل رءياي من قبل قد جعلها ربي حقا». معناه حسا أي محسوسا، و ما كان إلا محسوسا، فإن الخيال لا يعطي أبدا إلا المحسوسات، غير ذلك ليس له.
فانظر ما أشرف علم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم. و سأبسط من القول في هذه الحضرة بلسان يوسف المحمدي ما تقف عليه إن شاء الله فنقول: اعلم أن المعول عليه «سوى الحق» أو مسمى العالم هو بالنسبة إلى الحق كالظل للشخص، وهو ظل الله ، وهو عين نسبة الوجود إلى العالم لأن الظل موجود بلا شك في الحس ، ولكن إذا كان ثم من يظهر فيه ذلك الظل: حتى لو قدرت عدم من يظهر فيه ذلك الظل: كان الظل معقولا غير موجود في الحس، بل يكون بالقوة في ذات الشخص المنسوب إليه الظل.
فمحل ظهور هذا الظل الإلهي المسمى بالعالم إنما هو أعيان الممكنات: عليها امتد هذا الظل، فتدرك من هذا الظل بحسب ما امتد عليه من وجود هذه الذات.
ولكن باسمه النور وقع الإدراك و امتد هذا الظل على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول .
ألا ترى الظلال تضرب إلى السواد تشير إلى ما فيها من الخفاء لبعد المناسبة بينها و بين أشخاص من هي ظل له؟. وإن كان الشخص أبيض فظله بهذه المثابة.
ألا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر سوداء وقد تكون في أعيانها على غير ما يدركها الحس من اللونية، و ليس ثم علة إلا البعد؟. وكزرقة السماء.
فهذا ما أنتجه البعد في الحس في الأجسام غير النيرة.
و كذلك أعيان الممكنات ليست نيرة لأنها معدومة و إن اتصفت بالثبوت لكن لم تتصف بالوجود إذ الوجود نور . غير أن الأجسام النيرة يعطي فيها البعد في الحس صغرا ، فهذا تأثير آخر للبعد.
فلا يدركها الحس إلا صغيرة الحجم وهي في أعيانها كبيرة عن ذلك القدر وأكثر كميات، كما يعلم بالدليل أن الشمس مثل الأرض في الجرم مائة وستين مرة، و هي في الحس على قدر جرم الترس مثلا.  فهذا أثر البعد أيضا.
فما يعلم من العالم إلا قدر ما يعلم من الظلال، و يجهل من الحق على قدر ما يجهل من الشخص الذي عنه كان ذلك الظل.
فمن حيث هو ظل له يعلم، و من حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظل من صورة شخص من امتد عنه بجهل من الحق.
فلذلك نقول إن الحق معلوم لنا من وجه مجهول لنا من وجه: «أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل و لو شاء لجعله ساكنا» أي يكون فيه بالقوة.
يقول ما كان الحق ليتجلى للممكنات حتى يظهر الظل فيكون كما بقي من الممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود. «ثم جعلنا الشمس عليه دليلا» وهو اسمه النور الذي قلناه، و يشهد له الحس: فإن الظلال لا يكون لها عين بعدم النور.
«ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا»: و إنما قبضه إليه لأنه ظله، فمنه ظهر و إليه يرجع الأمر كله. فهو "هو" لا غيره.
فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات.
فمن حيث هوية الحق هو وجوده، و من حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات.
فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل، كذلك لا يزول باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق.
فمن حيث أحدية كونه ظلا هو الحق، لأنه الواحد الأحد.
و من حيث كثرة الصور هو العالم، فتفطن و تحقق ما أوضحته لك.
و إذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ما له وجود حقيقي، و هذا معنى الخيال .
أي خيل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق وليس كذلك في نفس الأمر.
ألا تراه في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه، ويستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال لأنه يستحيل على الشي ء الانفكاك عن ذاته؟
فاعرف عينك ومن أنت و ما هويتك و ما نسبتك إلى الحق، و بما أنت حق و بما أنت عالم و سوى و غير و ما شاكل هذه الألفاظ.
وفي هذا يتفاضل العلماء، فعالم وأعلم. فالحق بالنسبة إلى ظل خاص صغير وكبير، وصاف وأصفى، كالنور بالنسبة إلى حجابه عن الناظر في الزجاج يتلون بلونه، وفي نفس الأمر لا لون له. ولكن هكذا تراه.
ضرب مثال لحقيقتك بربك. فإن قلت: إن النور أخضر لخضرة الزجاج صدقت وشاهدك الحس، وإن قلت إنه ليس بأخضر ولا ذي لون لما أعطاه لك الدليل، صدقت وشاهدك النظر العقلي الصحيح.
فهذا نور ممتد عن ظل وهو عين الزجاج فهو ظل نوري لصفائه.
كذلك المتحقق منا بالحق تظهر صورة الحق فيه أكثر مما تظهر في غيره. فمنا من يكون الحق سمعه وبصره وجميع قوة وجوارحه بعلامات قد أعطاها الشرع الذي يخبر عن الحق.
مع هذا عين الظل موجود، فإن الضمير من سمعه يعود عليه: وغيره من العبيد ليس كذلك. فنسبة هذا العبد أقرب إلى وجود الحق من نسبة غيره من العبيد.
وإذا كان الأمر على ما قررناه فاعلم أنك خيال وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس أنا خيال.
فالوجود كله خيال في خيال، والوجود الحق إنما هو الله خاصة من حيث ذاته و عينه لا من حيث أسماؤه، لأن أسماءه لها مدلولان: المدلول الواحد عينه و هو عين المسمى، و المدلول الآخر ما يدل عليه مما ينفصل الاسم به من هذا الاسم الآخر و يتميز.
فأين الغفور من الظاهر ومن الباطن، وأين الأول من الآخر.؟
فقد بان لك بما هو كل اسم عين الاسم الآخر وبما هو غير الاسم الآخر.
فبما هو عينه هو الحق، وبما هو غيره هو الحق المتخيل الذي كنا بصدده.
فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه ولا ثبت كونه إلا بعينه. فما في الكون إلا ما دلت عليه الأحدية. وما في الخيال إلا ما دلت عليه الكثرة. فمن وقف مع الكثرة كان مع العالم ومع الأسماء الإلهية وأسماء العالم.
ومن وقف مع الأحدية كان مع الحق من حيث ذاته الغنية عن العالمين.
وإذا كانت غنية عن العالمين فهو عين غنائها عن نسبة الأسماء لها، لأن الأسماء لها كما تدل عليها تدل على مسميات أخر يحقق ذلك أثرها.
«قل هو الله أحد» من حيث عينه: «الله الصمد» من حيث استنادنا إليه: «لم يلد» من حيث هويته ونحن، «ولم يولد» كذلك، «ولم يكن له كفوا أحد» كذلك.
فهذا نعته فأفرد ذاته بقوله: «الله أحد» وظهرت الكثرة بنعوته المعلومة عندنا.
فنحن نلد ونولد ونحن نستند إليه ونحن أكفاء بعضنا لبعض.
وهذا الواحد منزه عن هذه النعوت فهو غني عنها كما هو غني عنا.
وما للحق نسب إلا هذه السورة، سورة الإخلاص، وفي ذلك نزلت.
فأحدية الله من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا أحدية الكثرة، و أحدية الله من حيث الغنى عنا و عن الأسماء أحدية العين، و كلاهما يطلق عليه الاسم الأحد، فاعلم ذلك. فما أوجد الحق الظلال وجعلها ساجدة متفيئة عن اليمين والشمال إلا دلائل لك عليك وعليه لتعرف من أنت وما نسبتك إليه وما نسبته إليك حتى تعلم من أين أو من أي حقيقة إلهية اتصف ما سوى الله بالفقر الكلي إلى الله، وبالفقر النسبي بافتقار بعضه إلى بعض، وحتى تعلم من أين أو من أي حقيقة اتصف الحق بالغناء عن الناس والغناء عن العالمين، واتصف العالم بالغناء أي بغناء بعضه عن بعض من وجه ما هو عين ما افتقر إلى بعضه به.
فإن العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شك افتقارا ذاتيا.
وأعظم الأسباب له سببية الحق: ولا سببية للحق يفتقر العالم إليها سوى الأسماء الإلهية. والأسماء الإلهية كل اسم يفتقر العالم إليه من عالم مثله أو عين الحق.
فهو الله لا غيره ولذلك قال: «يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد». ومعلوم أن لنا افتقارا من بعضنا لبعضنا.
فأسماؤنا أسماء الله تعالى إذ إليه الافتقار بلا شك، وأعياننا في نفس الأمر ظله لا غيره. فهو هويتنا لا هويتنا، و قد مهدنا لك السبيل فانظر.


قلت : هذه الحكمة جعل، رضي الله عنه، موضوعها الذي يتكلم في أحواله هو عالم الخيال، من أجل أن يوسف، عليه السلام، رأي«إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين» (يوسف: 4) وذلك أن الرؤيا عنده هي من عالم الخيال.
ولما قرر أن الناس نيام كان مجال تصرفهم النومي كله في عالم الخيال، وفي قوة كلامه ما يقتضي أن الوحي أيضا هو في عالم الخيال.
قال: ولذلك كان، عليه السلام، إذا جاءه الوحي يغيب عن المحسوسات.
قال وامتداد النور على عالم الخيال هو أول مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية وذكر حديث عائشة، رضي الله عنها، وهو قولها: أول ما بدئ به رسول الله عليه السلام، من الوحي الرؤيا الصادقة.
قد قال: وإلى هنا بلغ علمها، يعني أن ما بقي هو أيضا في المنام، فلا معنى لقولها أنه بقي وحيه الوارد عليه ستة أشهر ثم جاءه الملك.
يعني أن عند مجيء الملك أيضا كان من عالم الخيال .
قال :وعذرها أنها ما علمت قوله، عليه السلام: "الناس نيام"، وأنه لا انتباه من ذلك النوم إلا بالموت وهو قوله: «فإذا ماتوا انتبهوا.»
قال : و كل ما يرى فهو في حال النوم، فمضى قولها ستة أشهر أي بطل .
قال: بل عمره كله في الدنيا بتلك المثابة إنما هو منام في منام، يعني أن المستيقظ هو نائم، فإذا انتقل إلى النوم" فإنما انتقل من منام إلى منام.
قال: وكل ما ورد من هذا القبيل، أي من الوحي فهو من عالم الخيال.
قال: ولهذا يعبره العابر، كتأويل شرب اللبن بحصول العلم وهو علم الفطرة لا العلم الإلهي. فإن تعبير ذلك إنما هو برؤية شرب الماء كما أن عبارة شرب الخمر عند أهل الطريق بحصول الأحوال وتناول العسل بحصول علم الأسرار.
قال: فما أدرکه النبي، صلى الله عليه وسلم، هو في صورة الخيال لأنه إذا غاب ويتنحى في حال ورود الوحي لا يسمونه مناما وإن كان في الحقيقة مناما، هذا هو مراده.
و قال وكذلك إذا تمثل له الملك رجلا، فهو في عالم الخيال المذكور.
قال فإنه ليس برجل وإنما هو ملك، لأنه، عليه السلام، قال عند ما رأوا رجلا يسأل النبي عليه السلام، عن الإسلام والإيمان والإحسان... والحديث مشهور.
قال: ردوا على الرجل فسماه رجلا، نظرا إلى صورته التي تحتاج إلى التعبير فلما لم يروا شيئا
قال: هذا جبرائیل جاء ليعلم الناس دينهم فسماه بالتعبير جبرئیل .وإن كان قد يقال للملك أنه رجل .و للجان أنه رجل.
 قال تعالى: "وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن" (الجن: 6).
قال: ومن عالم الخيال، قول يوسف، عليه السلام: «إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين» (يوسف: 4) وكان تعبير الأحد عشر كوكبا، إخوته وتعبير الشمس والقمر، أباه وخالته.
قال: وهذا من جهة خيال يوسف، لا خيال إخوته وأبيه وخالته، إذ لو كان بخيال الأخوة والأبوين لأحسوا بأنهم صاروا كواكب وشمسا وقمرا ولكان صيرورتهم كذلك هو مرادا لهم.
أي أرادوا أن يصيروا شمسا وقمرا وكواكب وليس فلیس"كذلك" .
قال : وعلم ذلك يعقوب حین قصها عليه، يعني أنه عبرها فعلم مآل الأمر .
فقال: يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك.
قال : وبرأ أبناءه من ذلك الكيد و ألحقه بالشيطان، قال: وتعني بالشيطان نفس کیدهم فإنه شیطان ظاهر العداوة.



وأما قوله رضي الله عنه: إن الظل موجود بلا شك، فهو وهم قد أراد الشيخ أن يحققه باعتبار توهم من يتوهمه.
""تعقيب الجامع : الشيخ الأكبر هو على الحق هنا وان الممكنات كلها غير منيرة او نورها اقل من الشمس فلها ظلال وقد يكون بعضها عند التجلي نور اكبر او مساوي لنور الشمس فلن تجد له ظل كما حدث لرسول الله لاحظ الصحابة أن لهم ظلال الا رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة مرات سواء فى نور الشمس أو القمر رويت كمعجزة لرسول الله . ويخلق ما لا تعلمون.
قال البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع": لم يكن له صلى الله عليه وسلم في أي ظل في الشمس والقمر، لأنه نوراني، والظل نوع ظلمة.. ويشهد له أنه سأل الله تعالى أن يجعل في جميع أعضائه وجهاته نورا، وختم بقولهواجعلني نورا.
وفي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "ثُمَّ خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى فَجَعَلَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ أَوْ فِي سُجُودِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ شِمَالِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا أَوْ قَالَ وَاجْعَلْنِي نُورًا"رواه البخاري و مسلم
حديث ابن عباس : عن ابن عباس رضي اللَّه عنه: لم يكن لرسول اللَّه ظل، ولم يقم مع شمس قط إلا غلب ضوؤه الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوءه على ضوء السراج. إسناده صحيح وأخرجه ابن الجوزي في الوفا بتعريف فضائل المصطفى
وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بإسناد مرسل (ج1/ص122) من طريق ذكوان أبي صالح، السمان الزيات، المدني، الثقة الثبت:"أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يُرَى له ظلّ في شمس ولا قمر ولا أثر قضاء حاجة". فالحديث مرسل حسن لغيره وله شاهد على كونه نورا والنّور لاظلّ له. من حديث البخاري ومسلم""
بل لا حقيقة للظل في نفسه لأنه عدم الشمس في مكان مخصوص مقابل لحاجز مخصوص حجز من شعاع الشمس قسطا مخصوصا، فدار البصر على حدود الشمس فرأى ما بقي خارجا عن الشمس شبيها بصورة الشخص الحاجز لبعض أجزاء الشعاع.
فظن أن في الخارج شيئا فسماه الناس المتوهمون لهذا الغلط ظلا، وليس هو إلا بقايا عدم شروق الشمس على المكان الأرضي وهو ما يسمى حال غروب الشمس ليلا وحال احتجاب بعض الأرض أو الجسم عن شعاع الشمس ظلا، فهو هو فلا وجود للظل في الأعيان.
فقوله: إنه موجود بلا شك، مردود فإن كان العالم مثل الظل فالعالم ليس بموجود.
وإنما الذي أقول به: أن لكل جسم نورا يمتد منه وهو غير محسوس بالبصر إلا إذا جمعه صقال المرأة لتساوي أجزائها وتشابه المتصل الصيقل منها، فإنه يجتمع فيراه بالبصر في سطح المرأة حيث انجمع منها، وأما إذا تقابلت الأجسام غير الصقيلة فإن ذلك النور الشعاعي يتفرق في تجاويف خشونة الأجسام المذكورة، فلا يتصل ولا يجتمع فلا جرم لا يراه البصر، فهذا الذي ينبعث من الأجسام ولا يرى إلا في الصيقل المتلزز من الأجرام فإنه موجود بلا شك.
بخلاف الظل فاعلم فلو قاله رضي الله عنه: إن العالم من الحق تعالی بمنزلة هذا الشعاع المذكور من الأجسام لما بعد عن المرام فإن الحق تعالی وجود وكل ما يصدر عنه هو الموجود، فلا وجود إلا الله تعالى فإن نور الشمس لا يغاير الشمس.
فإن قال قائل: إن هذا مذهب هو الفلاسفة.
فالجواب: إن الفلاسفة يحصرون العالم فيما هو من محدب الفلك التاسع إلى نقطة مركز الأرض وما هو عندهم من المجردات أيضا عن هذه الأفلاك التي المادة من لواحقها، فيجردون المجردات عن المادة.
وعندنا لهم مخالفة في الأمرين معا :
أحدهما: أن العوالم الصادرة عن الحق المذكور حالها غير متناهية وليس لها مرکز واحد بل كل كرة فلها مرکز ولا مركز لما لا يتناهي وهي غير متناهية.
والثاني: أنه ليس هناك شيء مجرد عن النور الوجودي الصادر عن الباريء تعالى فهو مادة لكل مادة، فإذن ما هناك شيء مجرد عن المادة إلا إن عنوا بالمادة شيئا معينا محدودا، فلا يلزم أن يكون ما لا يتناهي هو من مادة محدودة هي ذلك المحدود أو غيره.
فحاصل الأمر أن الحق تعالی ليس معه غيره لأن عوالمه هي أشعة أنواره، فإن سماها مخلوقاته فواجب حق لا مرية فيه، وبهذا قال جميع العلماء بالله تعالی وإن اختلفت ألفاظهم.
ولم يخالفهم إلا الشيخ، رضي الله عنه، أو من كان على رأيه، و واوفق رأيه رأي طائفة من المتكلمين الذين يرون أن العالم قبل وجوده هو ثابت لا موجود ولا معدوم، فيجعلون بين الوجود والعدم مرتبة ثالثة.
والشيخ، رضي الله عنه، فيلزمه ما يلزمهم، وأنا أقول إن الوجود مساو للاثبات وإن العدم مساو للنفي وإن النفي و الاثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان.
""أضاف الجامع : قال الشيخ ابن العربي في الفتوحات الباب الثاني عشر وثلاثمائة في معرفة منزل كيفية نزول الوحي على قلوب الأولياء :
إعلم أن المعلومات ثلاثة لا رابع لها:
1 - وهي الوجود المطلق الذي لا يتقيد وهو وجود الله تعالى الواجب الوجود لنفسه
2 - والمعلوم الآخر العدم المطلق الذي هو عدم لنفسه وهو الذي لا يتقيد أصلا وهو المحال وهو في مقابلة الوجود المطلق .
فكانا على السواء حتى لو اتصفا لحكم الوزن عليهما وما من نقيضين متقابلين إلا .
وبينهما فاصل به يتميز كل واحد من الآخر وهو المانع أن يتصف الواحد بصفة الآخر وهذا الفاصل الذي بين الوجود المطلق والعدم لو حكم الميزان عليه لكان على السواء في المقدار من غير زيادة ولا نقصان .
3 - وهذا هو البرزخ الأعلى وهو برزخ البرازخ له وجه إلى الوجود ووجه إلى العدم .
فهو يقابل كل واحد من المعلومين بذاته وهو المعلوم الثالث وفيه جميع الممكنات وهي لا تتناهى كما أنه كل واحد من المعلومين لا يتناهى .
ولها في هذا البرزخ أعيان ثابتة من الوجه الذي ينظر إليها الوجود المطلق ومن هذا الوجه ينطلق عليها اسم الشيء الذي أراد الحق إيجاده قال له كن فيكون .
وليس له أعيان موجودة من الوجه الذي ينظر إليه منه العدم المطلق ولهذا يقال له كن .
وكن حرف وجودي فإنه لو أنه كائن ما قيل له كن .
وهذه الممكنات في هذا البرزخ بما هي عليه وما تكون إذا كانت مما تتصف به من الأحوال والأعراض والصفات والأكوان .
وهذا هو العالم الذي لا يتناهى وماله طرف ينتهي إليه وهو العامر الذي عمر الأرض التي خلقت من بقية خميرة طينة آدم عليه السلام عمارة الصور الظاهرة للرائي في الجسم الصقيل عمارة إفاضة .
ومن هذا البرزخ هو وجود الممكنات وبها يتعلق رؤية الحق للأشياء قبل كونها وكل إنسان ذي خيال وتخيل إذا تخيل أمرا ما فإن نظره يمتد إلى هذا البرزخ وهو لا يدري أنه ناظر ذلك الشيء في هذه الحضرة .
وهذه الموجودات الممكنات التي أوجدها الحق تعالى هي للأعيان التي يتضمنها هذا البرزخ بمنزلة الظلالات للأجسام بل هي الظلالات الحقيقية .
وهي التي وصفها الحق سبحانه بالسجود له مع سجود أعيانها فما زالت تلك الأعيان ساجدة له قبل وجودها فلما وجدت ظلالاتها وجدت ساجدة لله تعالى لسجود أعيانها التي وجدت عنها من سماء وأرض وشمس وقمر ونجم وجبال وشجر ودواب وكل موجود .
ثم لهذه الظلالات التي ظهرت عن تلك الأعيان الثابتة من حيث ما تكونت أجساما ظلالات أوجدها الحق لها دلالات على معرفة نفسها من أين صدرت .
ثم إنها تمتد مع ميل النور أكثر من حد الجسم الذي تظهر عنه إلى ما لا يدركه طولا ومع هذا ينسب إليه وهو تنبيه أن العين التي في البرزخ التي وجدت عنها لا نهاية لها كما قررناه في تلك الحضرة البرزخية الفاصلة بين الوجود المطلق والعدم المطلق.
وأنت بين هذين الظلالين ذو مقدار فأنت موجود عن حضرة لا مقدار لها ويظهر عنك ظل لا مقدار له فامتداده يطلب تلك الحضرة البرزخية .
وتلك الحضرة البرزخية هي ظل الوجود المطلق من الاسم النور الذي ينطلق على وجوده فلهذا نسميها ظلا ووجود الأعيان ظل .
لذلك الظل والظلالات المحسوسة ظلالات هذه الموجودات في الحس .
ولما كان الظل في حكم الزوال لا في حكم الثبات وكانت الممكنات وإن وجدت في حكم العدم سميت ظلالات ليفصل بينها وبين من له الثبات المطلق في الوجود .
وهو واجب الوجود وبين من له الثبات المطلق في العدم وهو المحال لتتميز المراتب .
فالأعيان الموجودات إذا ظهرت ففي هذا البرزخ هي فإنه ما ثم حضرة تخرج إليه ففيها تكتسب حالة الوجود والوجود فيها متناه ما حصل منه .
والإيجاد فيها لا ينتهي فما من صورة موجود إلا والعين الثابتة عينها والوجود كالثوب عليها .
فإذا أراد الحق أن يوحي إلى ولي من أوليائه بأمر ما .
تجلى الحق في صورة ذلك الأمر لهذه العين التي هي حقيقة ذلك الولي الخاص.
فيفهم من ذلك التجلي بمجرد المشاهدة بما يريد الحق أن يعلمه به فيجد الولي في نفسه علم ما لم يكن يعلم.أهـ
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي: " شرف العدم المطلق فإنه يدل على الوجود المطلق فعظم من حيث الدلالة … وأما شرف العدم المقيد فإنه على صفة تقل الوجود ، والوجود في نفسه شريف،
ولهذا هو من أوصاف الحق فقد شرف على العدم المطلق بوجه قبوله للوجود .
فله دلالتان على الحق : دلالة في حال عدمه ، ودلالة في حال وجوده .
وشرف العدم المطلق على المقيد بوجه وهو أنه من تعظيمه لله وقوة دلالته أنه ما قبل الوجود وبقي على أصله في عينه غيرة على الجناب الإلهي أن يشركه في صفة الوجود … فشرف سبحانه العدم المطلق. بأن وصف به نفسه فقال : " سبحان ربك رب العزة عما يصفون " تشريفا
للعدم لهذا القصد المحقق .   فالعدم المحض : "هو الذي ما فيه حق ولا خلق".
د. سعد الحكيم ترى العدم المطلق عند ابن العربي : هو المحال ، وهو الشر المحض والظلمة المحضة ، وهو الباطل في مقابل الوجود الخير المحض - النور المحض - الحق .أهـ ""
وما قالته هذه الطائفة يقتضي ارتفاع النقيضين وإن ما رواه فيه تهافت والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
قوله: فمحل ظهور هذا الظل الإلهي المسمى بالعالم إنما هو أعيان الممكنات عليها امتد هذا الظل.
فأقول: كيف يصح أن يكون الظل الممتد هو العالم وأنه امتد على أعيان الممكنات وأعيان الممكنات هو العالم نفسه ولا ثبوت لها يسبق الامتداد، إذ لا ذوات لها قبل وجودها، لأن المعدوم لا اسم له من ضرورة أن لا ذات له، وإنما قلنا نحن معدوم لتميز الموجود عما لا ذات له لا لتميز المعدوم الذي لا ذات له، وهنا مكان زلق إلا لمن تنورت لطيفته المدركة.
فنعود ونقول قوله هنا: المسمى بالعالم إن أراد به الظل فقد قلنا ما يرد عليه مما يقتضي أن فيه تهافتا .
وإن أراد بقوله المسمى بالعالم محل الظهور وهو الممکنات فقد تقدم ما ينافي هذا وهو أن الظل نفسه هو العالم .
وهنا قال: إن محل ظهور الظل هو العالم.
قوله: ألا ترى الظلال تضرب إلى السواد إلى آخر كلامه فيه.
هو معنى لا يتقرر إذا حقق، لأن أصل الظل قبل طلوع الشمس كان ليلا، فلما طلعت الشمس ولم يتصل شعاعها بمكان الظل لأجل الحائل سری بعض ضياء الشمس في مكان الظل، فجلا منه بعض الظلمة ولم يبلغ أن يتجلى كانجلاء ما اتصل به الشعاع، فبقي مايلا إلى السواد الذي هو أصله إذ أصله أن يكون ليلا أعني لون الليل مما هو من الخفاء، لبعد المناسبة بينها وبين أشخاص من هي له.
وأما قوله: إن الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تراها سوداء، فما ذلك إلا لأن أشعة النيرات يكتنفها، فتظهر هي بالنسبة إلى أشعة النيرات سوداء، لأن الضد يظهر حكمه بمقارنة الضد.
قوله: وكذلك أعيان الممكنات ليست نيرة لأنها معدومة
قلت: وهذا الكلام لا يتحقق لأن المعدوم لا ذات له، فلا يقال فيه: إنه نیر ولا نیر، فصدق لا نير عليه ليس لأن له ذاتا غير نيرة.
قوله: وإن اتصفت بالثبوت، قول لا أقبله لأن الثبوت إما أن يكون بضرب من الوجود فهو من الوجود فهي موجودة الوجود الثبوتي، وإن لم يكن لها ضرب من الوجود فذلك الثبوت هو من حقيقة لا شيء من كل وجه وهو العدم الصرف.
وأما الاستدلال بقوله : " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل" (الفرقان: 45) يعني ولو كان عدما لم يمتد، فالجواب أنه خاطبنا على قدر جهلنا والكتاب العزيز مملوء من مثل هذا الخطاب.
قوله: وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم، ما له وجود حقيقي.
قلت: إن الذي تقدم من الكلام ما يقتضي أن العالم متوهم بل متحقق، لأنه جعله ثابتا قبل الوجود ومتحققا بعد الوجود، فكيف مع هذين الوصفين يكون متوهما.
قوله: والوجود الحق إنما هو الله خاصة من حيث ذاته وعينه لا من حيث أسماؤه، لأن أسماؤه لها مدلولان : المدلول الواحد عينه وهو عين المسمی، والمدلول الآخر ما ينفصل به عن اسم آخر إما ضد أو غير، وكل هذا غير متحقق لأنه سماه هنا أعني العالم الحق المتخيل.
وقوله في آخر الحكمة: و أعياننا في نفس الأمر ظله لا غيره فهو هويتنا لا هويتنا فيه ما يتضح مشافهة إن شاء الله تعالی.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالجمعة أغسطس 02, 2019 10:11 pm

 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية
إن لله الصراط المستقيم ... ظاهر غير خفي في العموم
في كبير وصغير عينه ... وجهول بأمور وعليم
ولهذا وسعت رحمته ... كل شيء من حقير وعظيم
«ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم». فكل ماش فعلى صراط الرب المستقيم.
فهو غير مغضوب عليهم من هذا الوجه ولا ضالون. فكما كان الضلال عارضا كذلك الغضب الإلهي عارض، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي السابقة.
وكل ما سوى الحق دابة فإنه ذو روح. وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره. فهو يدب بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم، فإنه لا يكون صراطا إلا بالمشي عليه.
إذا دان لك الخلق ... فقد دان لك الحق
و إن دان لك الحق ... فقد لا يتبع الخلق
فحقق قولنا فيه ... فقولي كله الحق
فما في الكون موجود ... تراه ما له نطق
وما خلق تراه العين ... إلا عينه حق
ولكن مودع فيه ... لهذا صوره حق
اعلم أن العلوم الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة.
فإن الله تعالى يقول : «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يسعى بها.
فذكر أن هويته هي عين الجوارح التي هي عين العبد. فالهوية واحدة والجوارح مختلفة.
ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها من عين واحدة تختلف باختلاف الجوارح، كالماء حقيقة واحدة مختلف في الطعم باختلاف البقاع، فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج، وهو ماء في جميع الأحوال لا يتغير عن حقيقته وإن اختلفت طعومه.
وهذه الحكمة من علم الأرجل وهو قوله تعالى في الأكل لمن أقام كتبه: «ومن تحت أرجلهم». فإن الطريق الذي هو الصراط هو للسلوك عليه والمشي فيه، والسعي لا يكون إلا بالأرجل.
فلا ينتج هذا الشهود في أخذ النواصي بيد من هو على صراط مستقيم إلا هذا الفن الخاص من علوم الأذواق.
«فيسوق المجرمين» وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكهم عن نفوسهم بها، فهو يأخذ بنواصيهم والريح تسوقهم- وهو عين الأهواء التي كانوا عليها- إلى جهنم، وهي البعد الذي كانوا يتوهمونه.
فلما ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب فزال البعد فزال مسمى جهنم في حقهم، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق لأنهم مجرمون.
فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة، وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها، وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة.
فما مشوا بنفوسهم وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب.
«ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون»: وإنما هو يبصر فإنه مكشوف الغطاء «فبصره حديد». وما خص ميتا من ميت أي ما خص سعيدا في القرب من شقي.
«ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» وما خص إنسانا من إنسان. فالقرب الإلهي من العبد لا خفاء به في الإخبار الإلهي.
فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عين أعضاء العبد وقواه، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى فهو حق مشهود في خلق متوهم.
فالخلق معقول والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود.
وما عدا هذين الصنفين فالحق عندهم معقول والخلق مشهود. فهم بمنزلة الماء الملح الأجاج، والطائفة الأولى بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ لشاربه.
فالناس على قسمين: من الناس من يمشي على طريق يعرفها ويعرف غايتها، فهي في حقه صراط مستقيم.
ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها ولا يعرف غايتها وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر.
فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة، وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة.
فهذا علم خاص يأتي من أسفل سافلين، لأن الأرجل هي السفل من الشخص، وأسفل منها ما تحتها وليس إلا الطريق. فمن عرف أن الحق عين الطريق عرف الأمر على ما هو عليه، فإن فيه جل وعلا تسلك وتسافر إذ لا معلوم إلا هو، وهو عين الوجود والسالك والمسافر.
فلا عالم إلا هو فمن أنت؟ فاعرف حقيقتك وطريقتك، فقد بان لك الأمر على لسان الترجمان إن فهمت.
وهو لسان حق فلا يفهمه إلا من فهمه حق، فإن للحق نسبا كثيرة و وجوها مختلفة.
ألا ترى عادا قوم هود كيف «قالوا هذا عارض ممطرنا» فظنوا خيرا بالله تعالى وهو عند ظن عبده به.
فأضرب لهم الحق عن هذا القول فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب، فإنه إذا أمطرهم فذلك حظ الأرض وسقى الحبة فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد فقال لهم: «بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم»: فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة فإن بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة والسدف المدلهمة،
و في هذه الريح عذاب أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه، إلا أنه يوجعهم لفرقة المألوف. فباشرهم العذاب فكان الأمر إليهم أقرب مما تخيلوه فدمرت كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم» وهي جثتهم التي عمرتها أرواحهم الحقية.
فزالت حقية هذه النسبة الخاصة وبقيت على هياكلهم الحياة الخاصة بهم من الحق التي تنطق بها الجلود والأيدي والأرجل وعذبات الأسواط والأفخاذ.
وقد ورد النص الإلهي بهذا كله، إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة، ومن غيرته «حرم الفواحش» وليس الفحش إلا ما ظهر.
وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له.
فلما حرم الفواحش أي منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء، فسترها بالغيرة وهو أنت من الغير.
فالغير يقول السمع سمع زيد، والعارف يقول السمع عين الحق، وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء.
فما كل أحد عرف الحق: فتفاضل الناس وتميزت المراتب فبان الفاضل والمفضول.
واعلم أنه لما أطلعني الحق وأشهدني أعيان رسله عليهم السلام وأنبيائه كلهم البشريين من آدم إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين في مشهد أقمت فيه بقرطبة سنة ست وثمانين و خمسمائة، ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلا هود عليه السلام فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم، و رأيته رجلا ضخما في الرجال حسن الصورة لطيف المحاورة عارفا بالأمور كاشفا لها.
ودليلي على كشفه لها قوله: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم». وأي بشارة للخلق أعظم من هذه؟
ثم من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن، ثم تمها الجامع للكل محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبر به عن الحق بأنه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان: أي هو عين الحواس. والقوى الروحانية أقرب من الحواس. فاكتفى بالأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحد.
 
فترجم الحق لنا عن نبيه هود مقالته لقومه بشرى لنا، وترجم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله مقالته بشرى: فكمل العلم في صدور الذين أوتوا العلم «و ما يجحد بآياتنا إلا الكافرون» فإنهم يسترونها وإن عرفوها حسدا منهم و نفاسة و ظلما.
وما رأينا قط من عند الله في حقه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أو صله إلينا فيما يرجع إليه إلا بالتحديد تنزيها كان أو غير تنزيه.
أوله العماء الذي ما فوقه هواء وما تحته هواء. فكان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق. ثم ذكر أنه استوى على العرش، فهذا أيضا تحديد.
ثم ذكر أنه ينزل إلى السماء الدنيا فهذا تحديد. ثم ذكر أنه في السماء وأنه في الأرض وأنه معنا أينما كنا إلى أن أخبرنا أنه عيننا.
ونحن محدودون، فما وصف نفسه إلا بالحد. وقوله ليس كمثله شيء حد أيضا إن أخذنا الكف زائدة لغير الصفة.
ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود. فالإطلاق عن التقيد تقييد، والمطلق مقيد بالإطلاق لمن فهم.
وإن جعلنا الكاف للصفة فقد حددناه، وإن أخذنا «ليس كمثله شيء» على نفي المثل تحققنا بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنه عين الأشياء، والأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها. فهو محدود بحد كل محدود.
فما يحد شيء إلا وهو الحق. فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود. فهو عين الوجود، «وهو على كل شيء حفيظ» بذاته، «ولا يؤده» حفظ شيء.
فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشيء غير صورته.
ولا يصح إلا هذا، فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود.
 فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير.
فهو الكون كله ... وهو الواحد الذي
قام كوني بكونه ... ولذا قلت يغتذي
فوجودي غذاؤه ... وبه نحن نحتذي
فبه منه إن نظرت ... بوجه تعوذي
ولهذا الكرب تنفس، فنسب النفس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صور العالم التي قلنا هي ظاهر الحق إذ هو الظاهر، وهو باطنها إذ هو الباطن، و هو الأول إذ كان و لا هي، و هو الآخر إذ كان عينها عند ظهورها.
فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول، « وهو بكل شيء عليم» لأنه بنفسه عليم.
فلما أوجد الصور في النفس وظهر سلطان النسب المعبر عنها بالأسماء صح النسب الإلهي للعالم فانتسبوا إليه تعالى فقال: «اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي» أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم وأردكم إلى انتسابكم إلي.
 أين المتقون؟
أي الذين اتخذوا الله وقاية فكان الحق ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة، وهو أعظم الناس وأحقه وأقواه عند الجميع.
وقد يكون المتقي من جعل نفسه وقاية للحق بصورته إذ هوية الحق قوى العبد. فجعل مسمى العبد وقاية لمسمى الحق على الشهود حتى يتميز العالم من غير العالم.
«قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب» وهم الناظرون في لب الشيء الذي هو المطلوب من الشيء. فما سبق مقصر مجدا كذلك لا يماثل أجير عبدا.
وإذا كان الحق وقاية للعبد بوجه والعبد وقاية للحق بوجه.
فقل في الكون ما شئت: إن شئت قلت هو الخلق.
وإن شئت قلت هو الحق.
 وإن شئت قلت هو الحق الخلق.
وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه.
وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك فقد بانت المطالب بتعيينك المراتب.
ولو لا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه.
فلا تنظر العين إلا إليه ... و لا يقع الحكم إلا عليه
فنحن له وبه في يديه ... و في كل حال فإنا لديه
لهذا ينكر ويعرف وينزه ويوصف.
فمن رأى الحق منه فيه بعينه فذلك العارف.
ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف.
ومن لم ير الحق منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل.
وبالجملة فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه يرجع بها إليه ويطلبه فيها :
فإذا تجلى له الحق فيها عرفه و أقر به، و إن تجلى له في غيرها أنكره وتعوذ منه وأساء الأدب عليه في نفس الأمر، وهو عند نفسه أنه قد تأدب معه فلا يعتقد معتقد إلها إلا بما جعل في نفسه، فالإله في الاعتقادات بالجعل، فما رأوا إلا نفوسهم و ما جعلوا فيها.
فانظر: مراتب الناس في العلم بالله تعالى هو عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة.
وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك . فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه. فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد فإنه يقول «فأينما تولوا فثم وجه الله» وما ذكر أينا من أين.
وذكر أن ثم وجه الله، ووجه الشيء حقيقته.
فنبه بذلك قلوب العارفين لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا فإنه لا يدري العبد في أي نفس يقبض، فقد يقبض في وقت غفلة فلا يستوي مع من قبض على حضور.
ثم إن العبد الكامل مع علمه بهذا يلزم في الصورة الظاهرة والحال المقيدة التوجه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ويعتقد أن الله في قبلته حال صلاته، و هو بعض مراتب وجه لحق من «فأينما تولوا فثم وجه الله». فشطر المسجد الحرام منها، ففيه وجه الله.
ولكن لا تقل هو هنا فقط، بل قف عند ما أدركت و الزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام و الزم الأدب في عدم حصر الوجه في تلك الأبنية الخاصة، بل هي من جملة أينيات ما تولى متول إليها. فقد بان لك عن الله تعالى أنه في أينية كل وجهة، و ما ثم إلا الاعتقادات.
فالكل مصيب، وكل مصيب مأجور وكل مأجور سعيد وكل سعيد مرضي عند ربه وإن شقي زمانا ما في الدار الآخرة.
فقد مرض وتألم أهل العناية- مع علمنا بأنهم سعداء أهل حق- في الحياة الدنيا. فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى جهنم، و مع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاص بهم، إما بفقد ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم، أو يكون نعيم مستقل زائد كنعيم أهل الجنان في الجنان و الله أعلم .
قلت: هذه الحكمة الشريفة جعل ابتداء كلامه فيها في معنى قوله تعالى: "وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقیم"(هود: 56) .
وضمن في الأبيات جملیات " معناها ولحظ القيومية الإلهية التي لا يقوم شيء إلا بها، فهي في الكبير والصغير والجهول والعليم.
وجعل القيومية التي بها تقوم الموجودات رحمة، لأنها وسعت كل شيء فالقيومية هي الرحمة التي وسعت كل شيء.
ولما كان الصراط هو الطريق ذكر الماشي عليه فقال: كل ماش فهو على الصراط المستقيم، فهم غير مغضوب عليهم من هذا الوجه، لأن القيومية رحمة والرحمة لا تجتمع مع الغضب.
قال: فكما كان الضلال عارضا، فكذلك الغضب الإلهي عارض، وإنما كان الضلال عارضا لأن كل مولود يولد على الفطرة والفطرة هدى لا ضلال .
ثم عرض الضلال وهو اعتبار في مقام حجاب، فيكون الغضب اللاحق للضلال عارضا أيضا لأن الرحمة سابقة للغضب كما ورد الأخبار الإلهي على لسان السنة النبوية.
ثم قال: وكل ما سوى الحق تعالى فهو دابة ، قال وما ثم من يدب بنفسه، وإن كان كل شيء هو ذو روح لائقة به.
قال: فهو  يدب بحكم التبعية  للذي هو على صراط مستقیم. 
قوله:
إذا  دان  لك  الخلق          …..         فقد  دان  لك  الحق
 يعني أنه حيث كان الخلق فثم الحق ولا ينعكس
فلذلك قال :
إذا  دان  لك  الحق         …..     فقد  لا  يتبع  الخلق
وإنما قال، فقد، ولم يقل: لم يتبع الخلق، لأن العارف خلق وهو أبدا حيث الحق خصوصا القطب، فإن له نسبة إلى كل موجود وإلى كل حقيقة إلهية. 
ثم قال :
فحقق  قولنا  فيه     ……              فقولي  كله   الحق
يعني وكل ناطق لا بد وأن ينطق بالحق بوجه ما، وكل أحد له نطق بل كل موجود، ولي في مثل هذا المعنى بیت وهو هذا:
وأصبحت معشوق القلوب بأسرها    …..   وما ذرة في الكون إلا لها نطق
وأما قوله: وما ذرة في الكون إلا لها نطق، فـ يعني بألسنة الأحوال وهي أفصح من السنة الأقوال قوله:
وما  خلق  تراه  العين        ……                إلا  عينه  حق
ولم يقل عينه الحق بالألف واللام ثم استثنى بقوله:
ولكن  مودع  فيه       …….        لهذا  صوره  حق
ويعني بالحق هذا الوعاء المعلوم، وهذا على قاعدة الشيخ بأن الأعيان الثابتة قبلت الحقيقة، ولست أقول بذلك بل الحق ليس معه غيره.
وقد قال رضي الله عنه: ما صورته، فذكر أن هويته هي عين الجوارح التي هي عين العبد فالهوية واحدة والجوارح مختلفة ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها من عين واحدة تختلف باختلاف الجوارح. 
وأقول: إنه، رضي الله عنه، يريد بالعلوم هنا المعلومات. وكلامه فيما ذكره بعد هذا ظاهر بنفسه.
فإنه أخذ معنى قوله: "إن ربي على صراط مستقيم " (هود: 56)
فجعل كل أحد على صراط مستقيم حتى أن المجرمين الذين يساقون إلى جهنم، فإنهم فائزون في البعد بالقرب، فيتنعمون بالقرب من حقيقة  البعد، لأن الحق تعالی معهم، أو قال: عين جوارحهم وهو قوله: هويته عين أعضاء العبد وقواه، وليس العبد إلا هذه الأعضاء والقوى، فهو حق مشهود في خلق متوهم
قال: ويعرف هذا المؤمنون والمكاشفون.
وهاتان الطائفتان هما بمنزلة الماء العذب الفرات وأما من سواهما، فعندهم الخلق مشهود والحق متوهم وهؤلاء بمنزلة الماء الملح الأجاج.
 ثم أخذ يبين المشي على الصراط المستقيم:
فقال: من الناس من يعرف صراط المستقيم فيمشي عليه ومن الناس من يجهله والصراط واحد لولا الجهل به ما اختلفت.
وقال: كل أحد يدعوا إلى الله، فأما العارفون: فيدعون إلى الله على بصيرة، وأما غير العارفين: فيدعون أيضا إلى الله لكن على جهالة، لأنهم الذين يأكلون من تحت أرجلهم فعلو مهم تأتي من قبل السفل.
ثم قال فمن عرف أن الحق عين الطريق عرف الأمر على ما هو عليه إلى قوله: فاعرف حقيقتك وطريقتك، فقد بان لك الأمر.
 قال: وهذا لسان حق فلا يفهمه إلا من فهمه حق.
قال: ولما كانت للحق اعتبارات في مراتب أسمائه مختلفة اختلفت الأفهام في تلقي علومها.
قال: ولذلك غلط عاد قوم هود حين قالوا "هذا عارض ممطرنا" (الأحقاف: 24) فظنوا بالله الخير غير أن ذلك الخير دون الخير الذي أتاهم الله به، وهو ريح فيها عذاب أليم يريحهم من هياكلهم ويلحقهم بالقرب الأتم.  فاختلف الإدراك بسبب اختلاف نسبهم إلى الأسماء الإلهية.
قال رضي الله عنه: إن العذاب الذي أصابهم من الريح، فهو من العذوبة وإن أوجعهم لفراق المألوف، فإنه يسرهم عقباه.
قال: فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم وهي جثتهم التي عمرتها الأرواح الحقية، فزالت تلك الأرواح وبقيت لهم الحياة الخاصة لجثثهم وتلك لحياة هي التي تنطق بها الجوارح يوم تشهد عليهم
قوله: إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة، ومن غيرته حرم الفواحش، ثم
فسر الفواحش بقوله: أي منع أن يعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء. قال: فسترها بالغيرة وهو أنت من الغير.
قال: فالغير يقول السمع سمع زيد، والعارف يقول السمع عین الحق، وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء. فما كل أحد عرف الحق فتفاضل الناس.
فهو يقول إن العارف هو الفاضل، والمحجوب هو المفضول ومن هنا إلى الأبيات الشعر التي أولها: فهو الكون كله، فهو مفهوم من لفظ الشيخ غیر محتاج إلى شرح.
قوله في الأبيات:
فهو الكون كله، اشارة إلى قوله تعالى: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن"  (الحديد: 3).
وقوله: قام کوني، بكونه اشارة إلى مقام القيومية فإن به تعالی قام كل شيء أي بقي بعد وجوده.
وقوله: ولذا قلت يغتذي، يعني أن النسب الإلهية من مراتب الأسماء لا تقوم إلا بظهور أطوار العبيد كالرازقية بالمرزوق، والخالقية بالمخلوق، وجميع أسماء الأفعال والمتضایفات، لا يتحقق أحد المتضايفين إلا ويكون الآخر متحققا، فصار العبيد كالغذاء الذي به يقوم المغتذي.
وقوله: نحتذي يعني نبقي وفسره بقوله:
فيه  منه  إن  نظرت           ……        بوجه   تعوذي
وبهذا المعنى يتحقق الاسم الواقي تعالي.
ثم شرع بعد الأبيات الشعر في ذكر أن مقام الكنزية الذي ذكره في قوله: "کنت کنزا لا أعرف"، فعبر عن مقام الكنزية بالكرب ومقام ایجاد العالم بالتنفس.
 قال: فكأنه رحم نفسه فتنفس، فسمي النفس المذكور نفس الرحمن،ثم فسر معنى الأول والآخر والظاهر والباطن بكلام ظاهر.
قال: ولما كان هو عين كل شيء كان بكل شيء عليما لأنه عليم بنفسه، فبعین علمه بنفسه علم الأشياء كلها .
و قوله: فلما أوجد الأشياء في النفس،
فكأنه قال: إن الموجودات هي كلمات الله، لأنها صور نفسه، فبسائط العالم حروف النفس، ومركباته كلماته التي من النفس..
قال: فظهر سلطان النسب المعبر عنها بالأسماء، صح النسب الإلهية للعالم
يعني لتضائف "لتلائم" الأسماء الإلهية للأسماء الكونية كالرب للمربوب و الخالق للمخلوق و رفعه النسب المخصوص به تعالى أن يظهر أنه ليس معه غيره.
وقوله: آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم، أي اجعله لي، فانتسب إلى نفسي وأنتم نفسي، فأردكم إلى بوجه حق يظهر للعارفين منكم وتمام الخير.
قوله: أين المتقون؟ أي الذين اتخذوا الله وقاية، فكان الحق ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة.
قال: وقد يفسر بأن يجعل العبد وقاية للحق إذا شهد أن ذاته عبارة عن وجوده والحق باطن بالقوى في ذلك الظاهر، وهذا هو بعض المشاهد الجزئية ثم أثنى على ذوي الألباب وفسر ذلك بالناظرين في لب الأشياء وهم المحمديون.
وقال: ما سبق مقصر مجدا.
قال: كذلك أنه لا يماثل أجير عبدا، والأجير هنا هو الذي يبتغي الثواب من الله على طاعته، وأما العبد فهو الذي يخدم عبودية لا يطلب عليها جزاء.
قال: وإذا ثبت الوقاية من الطرفين صدق أن تسمى الكون ربا وأن تسميه عبدا، وإن شئت قلت: هو الحق الخلق معا،
وإن شئت قلت: لا هو خلق من كل وجه ولا هو حق من كل وجه،
وإن شئت قلت: بالحيرة في ذلك فقد بانت المطالب بتعين المراتب
قال: ولو لا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه.
قال: فلا تنظر العين إلا إليه ولا يقع الحكم إلا عليه فنحن له وبه في يديه وفي كل حال فإنا لديه
قوله: لهذا ينكر فينزه ويعرف فيوصف، فمن رأى الحق منه فيه بعين الحق فذلك هو العارف.
قال: ومن رأى الحق فيه منه بعين نفسه فذلك غير العارف، من جهة دخوله في القضية حيث اعتقد أنه يراه بعين نفسه مع أنه لا يرى الحق إلا الحق لكن هذا لا يسمى جاهلا، لأنه عرف الحق منه فيه.
قال: ومن لم ير الحق منه فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه، فذلك هو الجاهل.
ثم ذكر أن لكل أحد عقيدة وكل عقيدة فهي مصادفة وجه ربها، عز وجل، في متوجهها إليه.
لأنه واسع الإحاطة محيط السعة فمن حصره انحصر هو ولم ينحصر الحق تعالى.
ونبه الشيخ رضي الله تعالی عنه: على وجوب الأدب مع الحق من حيث ما استقرت عليه عقائد هذه الأمة الكريمة، صلوات الله على رسولها.
فيولون وجوههم شطر المسجد الحرام مع معرفتهم بأن الحق تعالى في كل وجهة ، فيقومون بوظيفة مقام اتباعه في ظاهر ما ورد به أمره ونهيه ويقومون بوظيفة معرفة باطنه، عليه السلام، وباقي الحكمة ظاهر
 .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:11 pm

11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الصالحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم 
11 - فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية
من الآيات آيات الركائب ... و ذلك لاختلاف في المذاهب
فمنهم قائمون بها بحق ... و منهم قاطعون بها السباسب
فأما القائمون فأهل عين ... و أما القاطعون هم الجنائب
و كل منهم يأتيه منه ...   فتوح غيوبه من كل جانب
اعلم وفقك الله أن الأمر مبني في نفسه على الفردية و لها التثليث، فهي من الثلاثة فصاعدا. فالثلاثة أول الأفراد.
و عن هذه الحضرة الإلهية وجد العالم ، فقال تعالى «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون» و هذه ذات ذات إرادة و قول.
فلولا هذه الذات و إرادتها و هي نسبة التوجه بالتخصيص لتكوين أمر ما، ثم لو لا قوله عند هذا التوجه كن لذلك الشيء ما كان ذلك الشيء.
ثم ظهرت الفردية الثلاثية أيضا في ذلك الشيء، و بها من جهته صح تكوينه و اتصافه بالوجود، و هي شيئيته و سماعه و امتثاله أمر مكونه بالإيجاد.
فقابل ثلاثة بثلاثة:
ذاته الثابتة في حال عدمها في موازنة ذات موجدها، وسماعه في موازنة إرادة موجده،
وقبوله بالامتثال لما أمر به من التكوين في موازنة قوله كن، فكان هو فنسب التكوين إليه فلو لا أنه من- قوته التكوين من نفسه عند هذا القول ما تكون.
فما أوجد هذا الشيء بعد أن لم يكن عند الأمر بالتكوين إلا نفسه.
فأثبت الحق تعالى أن التكوين للشيء نفسه لا للحق، والذي للحق فيه أمره خاصة.
وكذلك أخبر عن نفسه في قوله «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون» فنسب التكوين لنفس الشيء عن أمر الله وهو الصادق في قوله.
وهذا هو المعقول في نفس الأمر.
كما يقول الآمر الذي يخاف فلا يعصى لعبده قم فيقوم العبد امتثالا لأمر سيده.
فليس للسيد في قيام هذا العبد سوى أمره له بالقيام، والقيام من فعل العبد لا من فعل السيد.
فقام أصل التكوين على التثليث أي من الثلاثة من الجانبين، من جانب الحق ومن جانب الخلق. ثم سرى ذلك في إيجاد المعاني بالأدلة:
فلا بد من الدليل أن يكون مركبا من ثلاثة على نظام مخصوص وشرط مخصوص، وحينئذ ينتج لا بد من ذلك، وهو أن يركب الناظر دليله من مقدمتين كل مقدمة تحوي على مفردين فتكون أربعة واحد من هذه الأربعة يتكرر في المقدمتين لتربط إحداهما بالأخرى كالنكاح فتكون ثلاثة لا غير لتكرار الواحد فيهما.
فيكون المطلوب إذا وقع هذا الترتيب على الوجه المخصوص وهو ربط إحدى المقدمتين بالأخرى بتكرار ذلك الواحد المفرد الذي به يصح التثليث.
والشرط المخصوص أن يكون الحكم أعم من العلة أو مساويا لها، وحينئذ يصدق، وإن لم يكن كذلك فإنه ينتج نتيجة غير صادقة.
وهذا موجود في العالم مثل إضافة الأفعال إلى العبد معراة عن نسبتها إلى الله أو إضافة التكوين الذي نحن بصدده إلى الله مطلقا.
والحق ما أضافه الا إلى الشيء الذي قيل له كن.
ومثاله إذا أردنا أن ندل أن وجود العالم عن سبب فنقول كل حادث فله سبب فمعنا الحادث والسبب.
ثم نقول في المقدمة الأخرى والعالم حادث فتكرر الحادث في المقدمتين.
والثالث قولنا العالم، فأنتج أن العالم له سبب، وظهر في النتيجة ما ذكر في المقدمة الواحدة وهو السبب.
فالوجه الخاص هو تكرار الحادث، والشرط الخاص عموم العلة لأن العلة في وجود الحادث السبب، وهو عام في حدوث العالم عن الله أعني الحكم.

فنحكم على كل حادث أن له سببا سواء كان ذلك السبب مساويا للحكم أو يكون الحكم أعم منه فيدخل تحت حكمه، فتصدق النتيجة.
فهذا أيضا قد ظهر حكم التثليث في إيجاد المعاني التي تقتنص بالأدلة.
فأصل الكون التثليث، ولهذا كانت حكمة صالح عليه السلام التي أظهر الله في تأخير أخذ قومه ثلاثة أيام وعدا غير مكذوب، فأنتج صدقا وهو الصحيحة التي أهلكهم الله بها فأصبحوا في ديارهم جاثمين.
فأول يوم من الثلاثة اصفرت وجوه القوم، وفي الثاني احمرت وفي الثالث اسودت.
فلما كملت الثلاثة صح الاستعداد فظهر كون الفساد فيهم فسمى ذلك الظهور هلاكا، فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة إسفار وجوه السعداء في قوله تعالى «وجوه يومئذ مسفرة» من السفور وهو الظهور، كما كان الاصفرار في أول يوم ظهور علامة الشقاء في قوم صالح.
ثم جاء في موازنة الاحمرار القائم بهم قوله تعالى في السعداء «ضاحكة»، فإن الضحك من الأسباب المولدة لاحمرار الوجوه، فهي في السعداء احمرار الوجنات.
ثم جعل في موازنة تغير بشرة الأشقياء بالسواد قوله تعالى «مستبشرة» وهو ما أثره السرور في بشرتهم كما أثر السواد في بشرة الأشقياء.
ولهذا قال في الفريقين بالبشرى، أي يقول لهم قولا يؤثر في بشرتهم فيعدل بها إلى لون لم تكن البشرة تتصف به قبل هذا.
فقال في حق السعداء «يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان» وقال في حق الأشقياء «فبشرهم بعذاب أليم» 
فأثر في بشرة كل طائفة ما حصل في نفوسهم من أثر هذا الكلام.
فما ظهر عليهم في ظاهرهم إلا حكم ما استقر في بواطنهم من المفهوم.
فما أثر فيهم سواهم كما لم يكن التكوين إلا منهم. فلله الحجة البالغة.
فمن فهم هذه الحكمة وقررها في نفسه وجعلها مشهودة له أراح نفسه من التعلق بغيره وعلم أنه لا يؤتى عليه بخير ولا بشر إلا منه.
وأعني بالخير ما يوافق غرضه ويلائم طبعه ومزاجه، وأعني بالشر ما لا يوافق غرضه ولا يلائم طبعه ولا مزاجه.
ويقيم صاحب هذا الشهود معاذير الموجودات كلها عنهم وإن لم يعتذروا، ويعلم أنه منه كان كل ما هو فيه كما ذكرناه أولا في أن العلم تابع للمعلوم، فيقول لنفسه إذا جاءه ما لا يوافق غرضه: يداك أوكتا وفوك نفخ.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

قلت : قوله رضي الله عنه، في الشعر: من الآيات آيات الركائب، اشارة إلى
ناقة صالح، عليه السلام، فإنها من جملة الركائب وهي الإبل ولا شك أن الإبل لها مزية على الحيوان خصها به خالقها.

ولذلك ورد في الكتاب العزيز : "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف ځلقت" (الغاشية: 17) فقرنها بـ "السماء كيف رفعت" (الغاشية: 16) و "الأرض كيف سطحت" (الغاشية: 20) . 

وقدمها عليهما في الذكر، والآيات هي العلامات واختلاف المذاهب المشار إليه، أن قوما يعظمون الإبل لما أودع فيها من أسرار الله تعالى كما عظمت ناقة صالح عند من عظمها وقوما آخرين لا يعرفون ما فيها من أسرار الله لكنهم يتخذون الإبل لقطع السباسب، وهي البراي .
ثم قال: فأما القائمون فأهل عين، أي أهل مشاهدة الحقيقة عيانا، فهم أهل عين أي معاينة ومراده: أنهم يشهدون الحق في ثبوت كل صورة ومن جملتها الركائب فيعظمون حرمات الله وشعائره.

قال القاطعون بها السباسب إلى حرم الله فهم الحبائب وإلى غير حرم الله إذ عدوا اتخاذ الركائب من نعم الله، فهم بها في شهود كرم الله تعالى.
فالأولون أهل توحيد الصفات وهذه الطائفة أهل توحيد الأفعال
 قال: ولكل من الفريقين فتوح غيب في علومه الخاصة بمرتبته.
ثم قال: اعلم وفقك الله أن الأمر مبني في نفسه على الفردية، يعني أن الله تعالى كان ولا شيء معه، ثم أشار إلى أن الفردية من خواصها التثليث، لأن فردية الواحد لا تقبل الكلام ولذلك لم يكن الواحد من العدد، بل أول العدد هو إثنان، لكن لما كان الأمر لا يستقر إلا على الفردانية .

اقتضى الأمر إثبات ثالث يرد الشرك إلى التوحيد ويظهر ذلك مما قاله، رضي الله عنه، في ذكر القول والإرادة وكلمة کن، ويقابلها شيئية " المكون، اسم مفعول .
وهو في قوله تعالى: لشيء، فأثبت له شيئية المعلومية للعلم الإلهي.
وبمثل هذا يتمسك الشيخ رضي الله عنه، في اثبات الأعيان وأنها ثابتة قبل كونها.
وجوابه أن في الكلام مجازا، فنعود ونقول الشيئية مقابلة حضرة العلم، والسماع مقابلة الإرادة، لأن السماع میل للمسموع والإرادة ميلة للمراد .
والامتثال مقابلة قوله: کن، ثم أخذ في اعتبار کون الحق تعالی نسب الكون إلى فعل الشيء المقول له کن، وذلك ظاهر في قوله : فيكون من قوله
تعالی: "وإنما قولنا لقي إذا أردنا أن تقول له كن فيكون" (النحل: 40) .

فهو يرى أن الاقتضاء في الأصل هو من العين الثابتة في حضرة الإمكان وما وقع الحكم في الإيجاد إلا بمقتضى طلبها الذاتي.
فكأنه أشار إلى سر القدر وهو أنه لا يكون إلا بمقتضى الأعيان الثابتة، فيستريح من عرف هذا من الكد والتعب.
وأخذ يقوى حكم التثليث في ذكر المقدمتين وأنها تعود مفرداتها، وهي حدود القياس إلى ثلاثة: 
الأصغر 
والأوسط المكرر 
والأكبر. 
قال: ومن جملة اعتبارات أحكام التثليث، الآيات التي ظهرت في مبشرات قومه في الثلاثة الأيام التي أمهلوا فيها حتى نفذ فيهم حكم الله تعالى.
 فهي ثلاثة أحوال في ثلاثة أيام كل يوم حال وهؤلاء أشقياء وفي مقابلتهم سعداء، لهم أيضا أحوال ثلاثة. 
وجوه السعداء مسفرة ووجوه الأشقياء في اليوم الأول مصفرة .

وفي اليوم الثاني وجوه السعداء ضاحكة و وجوه الأشقياء محمرة كما وقع في قوم صالح .
ووجوه السعداء في اليوم الثالث مستبشرة ووجوه الأشقياء فيه مسودة.
 وباقي ذكر في هذه الحكمة ظاهرة.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:12 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

اعلم أن القلب أعني قلب العارف بالله هو من رحمة الله، و هو أوسع منها، فإنه وسع الحق جل جلاله و رحمته لا تسعه:
هذا لسان العموم من باب الإشارة، فإن الحق راحم ليس بمرحوم فلا حكم للرحمة فيه.
وأما الإشارة من لسان الخصوص فإن الله وصف نفسه بالنفس وهو من التنفيس:
وأن الأسماء الإلهية عين المسمى وليس إلا هو، وأنها طالبة ما تعطيه من الحقائق وليس الحقائق التي تطلبها الأسماء إلا العالم. فالألوهية تطلب المألوه، والربوبية تطلب المربوب، وإلا فلا عين لها إلا به وجودا أو تقديرا.
والحق من حيث ذاته غني عن العالمين.
والربوبية ما لها هذا الحكم.
فبقي الأمر بين ما تطلبه الربوبية وبين ما تستحقه الذات من الغنى عن العالم.
وليست الربوبية على الحقيقة والاتصاف إلا عين هذه الذات.
فلما تعارض الأمر بحكم النسب ورد في الخبر ما وصف الحق به نفسه من الشفقة على عباده.
فأول ما نفس عن الربوبية بنفسه المنسوب إلى الرحمن بإيجاده العالم الذي تطلبه الربوبية بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهية.
فيثبت من هذا الوجه أن رحمته وسعت كل شيء فوسعت الحق، فهي أوسع من القلب أو مساوية له في السعة.
هذا مضى، ثم لتعلم أن الحق تعالى كما ثبت في الصحيح يتحول في الصور عند التجلي، وأن الحق تعالى إذا وسعه القلب لا يسع معه غيره من المخلوقات فكأنه يملؤه.
ومعنى هذا أنه إذا نظر إلى الحق عند تجليه له لا يمكن أن ينظر معه إلى غيره.
وقلب العارف من السعة كما قال أبو يزيد البسطامي «لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به».
وقال الجنيد في هذا المعنى: إن المحدث إذا قرن بالقديم لم يبق له أثر، وقلب يسع القديم كيف يحس بالمحدث موجودا.
وإذا كان الحق يتنوع تجليه في الصور فبالضرورة يتسع القلب ويضيق بحسب الصورة التي يقع فيها التجلي الإلهي، فإنه لا يفضل شيء عن صورة ما يقع فيها التجلي.
فإن القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محل فص الخاتم من الخاتم لا يفضل بل يكون على قدره وشكله من الاستدارة إن كان الفص مستديرا أو من التربيع والتسديس والتثمين وغير ذلك من الأشكال إن كان الفص مربعا أو مسدسا أو مثمنا أو ما كان من الأشكال، فإن محله من الخاتم يكون مثله لا غير.
وهذا عكس ما يشير إليه الطائفة من أن الحق يتجلى على قدر استعداد العبد.
وهذا ليس كذلك، فإن العبد يظهر للحق على قدر الصورة التي يتجلى له فيها الحق.
وتحرير هذه المسألة أن لله تجليين.
تجلي غيب وتجلي شهادة، فمن تجلي الغيب يعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب، وهو التجلي الذاتي الذي الغيب حقيقته، وهو الهوية التي يستحقها بقوله عن نفسه «هو».
فلا يزال «هو» له دائما أبدا.
فإذا حصل له- أعني للقلب هذا الاستعداد، تجلى له التجلي الشهودي في الشهادة فرآه فظهر بصورة ما تجلى له كما ذكرناه.
فهو تعالى أعطاه الاستعداد بقوله «أعطى كل شي ء خلقه»، ثم رفع الحجاب بينه وبين عبده فرآه في صورة معتقده، فهو عين اعتقاده. فلا يشهد القلب ولا العين أبدا إلا صورة معتقده في الحق.
فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته، وهو الذي يتجلى له فيعرفه.
فلا ترى العين إلا الحق الاعتقادي.
ولا خفاء بتنوع الاعتقادات: فمن قيده أنكره في غير ما قيده به، وأقر به فيما قيده به إذا تجلى.
ومن أطلقه عن التقييد لم ينكره وأقر به في كل صورة يتحول فيها ويعطيه من نفسه قدر صورة ما تجلى له إلى ما لا يتناهى، فإن صور التجلي ما لها نهاية تقف عندها.
وكذلك العلم بالله ما له غاية في العارف يقف عندها، بل هو العارف في كل زمان يطلب الزيادة من العلم به.
«رب زدني علما» ، «رب زدني علما»، «رب زدني علما».
فالأمر لا يتناهى من الطرفين. هذا إذا قلت حق وخلق، فإذا نظرت في قوله : «كنت رجله التي  يسعى بها و يده التي يبطش بها و لسانه الذي يتكلم به» إلى غير ذلك من القوى، و محلها الذي هو الأعضاء، لم تفرق فقلت الأمر حق كله أو خلق كله.
فهو خلق بنسبة وهو حق بنسبة والعين واحدة.
فعين صورة ما تجلى عين صورة من قبل ذلك التجلي، فهو المتجلي والمتجلي له.
فانظر ما أعجب أمر الله من حيث هويته، ومن حيث نسبته إلى العالم في حقائق أسمائه الحسنى.
فمن ثم و ما ثمه ... و عين ثم هو ثمه
فمن قد عمه خصه ... و من قد خصه عمه
فما عين سوى عين ... فنور عينه ظلمه
فمن يغفل عن هذا ... يجد في نفسه غمه
وما يعرف ما قلنا  ... سوى عبد له همه
«إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب» لتقلبه في أنواع الصور والصفات ولم يقل لمن كان له عقل، فإن العقل قيد فيحصر الأمر في نعت واحد والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر.
فما هو ذكرى لمن كان له عقل وهم أصحاب الاعتقادات الذين يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا وما لهم من ناصرين.
فإن إله المعتقد ما له حكم في إله المعتقد الآخر: فصاحب الاعتقاد يذب عنه أي عن الأمر الذي اعتقده في إلهه وينصره، وذلك في اعتقاده لا ينصره، فلهذا لا يكون له أثر في اعتقاد المنازع له.
وكذا المنازع ما له نصرة من إلهه الذي في اعتقاده، فما لهم من ناصرين، فنفى الحق النصرة عن آلهة الاعتقادات على انفراد كل معتقد على حدته، والمنصور المجموع، والناصر المجموع. فالحق عند العارف هو المعروف الذي لا ينكر.
فأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة.
فلهذا قال «لمن كان له قلب» فعلم تقلب الحق في الصور بتقليبه في الأشكال.
فمن نفسه عرف نفسه، وليست نفسه بغير لهوية الحق، ولا شيء من الكون مما هو كائن ويكون بغير لهوية الحق، بل هو عين الهوية.
فهو العارف والعالم والمقر في هذه الصورة، وهو الذي لا عارف ولا عالم، وهو المنكر في هذه الصورة الأخرى.
هذا حظ من عرف الحق من التجلي والشهود في عين الجمع، فهو قوله «لمن كان له قلب» يتنوع في تقليبه.
وأما أهل الإيمان وهم المقلدة الذين قلدوا الأنبياء والرسل فيما أخبروا به عن الحق، لا من قلد أصحاب الأفكار والمتأولين الأخبار الواردة بحملها على أدلتهم العقلية، فهؤلاء الذين قلدوا الرسل صلوات الله عليهم وسلامه هم المرادون بقوله تعالى «أو ألقى السمع» لما وردت به الأخبار الإلهية على ألسنة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهو يعني هذا الذي ألقى السمع شهيد ينبه على حضرة الخيال واستعمالها، وهو قوله عليه السلام في الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه»، والله في قبلة المصلي، فلذلك هو شهيد.
ومن قلد صاحب نظر فكري وتقيد به فليس هو الذي ألقى السمع، فإن هذا الذي ألقى السمع لا بد أن يكون شهيدا لما ذكرناه.
ومتى لم يكن شهيدا لما ذكرناه فما هو المراد بهذه الآية.
فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم «إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا» والرسل لا يتبرءون من أتباعهم الذين اتبعوهم.
فحقق يا ولي ما ذكرته لك في هذه الحكمة القلبية.
وأما اختصاصها بشعيب، لما فيها من التشعب، أي شعبها لا تنحصر، لأن كل اعتقاد شعبة فهي شعب كلها، أعني الاعتقادات فإذا انكشف الغطاء انكشف لكل أحد بحسب معتقده، وقد ينكشف بخلاف معتقده في الحكم، وهو قوله «وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون».
فأكثرها في الحكم كالمعتزلي يعتقد في الله نفوذ الوعيد في العاصي إذا مات على غير توبة.
فإذا مات وكان مرحوما عند الله قد سبقت له عناية بأنه لا يعاقب، وجد الله غفورا رحيما، فبدا له من الله ما لم يكن يحتسبه.
وأما في الهوية فإن بعض العباد يجزم في اعتقاده أن الله كذا وكذا، فإذا انكشف الغطاء رأى صورة معتقده وهي حق فاعتقدها.
وانحلت العقدة فزال الاعتقاد وعاد علما بالمشاهدة.
وبعد احتداد البصر لا يرجع كليل النظر، فيبدو لبعض العبيد باختلاف التجلي في الصور عند الرؤية خلاف معتقده لأنه لا يتكرر، فيصدق عليه في الهوية «وبدا لهم من الله» في هويته «ما لم يكونوا يحتسبون» فيها قبل كشف الغطاء.
وقد ذكرنا صورة الترقي بعد الموت في المعارف الإلهية في كتاب التجليات لنا عند ذكرنا من اجتمعنا به من الطائفة في الكشف وما أفدناهم في هذه المسألة بما لم يكن عندهم.
ومن أعجب الأمور أنه في الترقي دائما ولا يشعر بذلك للطافة الحجاب ودقته وتشابه الصور مثل قوله تعالى «وأتوا به متشابها».
وليس هو الواحد عين الآخر فإن الشبيهين عند العارف أنهما شبيهان، غير ان ، و صاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد كما يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية، و إن اختلفت حقائقها و كثرت، أنها عين واحدة.
فهذه كثرة معقولة في واحد العين.
فتكون في التجلي كثرة مشهودة في عين واحدة، كما أن الهيولى تؤخذ في حد كل صورة، وهي مع كثرة الصور واختلافها ترجع في الحقيقة إلى جوهر واحد هو هيولاها.
فمن عرف نفسه بهذه المعرفة فقد عرف ربه فإنه على صورته خلقه، بل هو عين هويته وحقيقته.
ولهذا ما عثر أحد من العلماء على معرفة النفس وحقيقتها إلا الإلهيون من الرسل والصوفية.
وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلمين في كلامهم في النفس وماهيتها، فما منهم من عثر على حقيقتها، ولا يعطيها النظر الفكري أبدا.
فمن طلب العلم بها من طريق النظر الفكري فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم.
لا جرم أنهم من «الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا».
فمن طلب الأمر من غير طريقه فما ظفر بتحقيقه، وما أحسن ما قال الله تعالى في حق العالم وتبدله مع الأنفاس.
«في خلق جديد» في عين واحدة، فقال في حق طائفة، بل أكثر العالم، «بل هم في لبس من خلق جديد». فلا يعرفون تجديد الأمر مع الأنفاس.
لكن قد عثرت عليه الأشاعرة في بعض الموجودات وهي الأعراض، وعثرت عليه الحسبانية في العالم كله.
وجهلهم أهل النظر بأجمعهم.
ولكن أخطأ الفريقان: أما خطأ الحسبانية فبكونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدل في العالم بأسره على أحدية عين الجوهر الذي قبل هذه الصورة ولا يوجد إلا بها كما لا تعقل إلا به.
فلو قالوا بذلك فازوا بدرجة التحقيق في الأمر.
وأما الأشاعرة فما علموا أن العالم كله مجموع أعراض فهو في الأمر.
وأما الأشاعرة فما علموا أن العالم كله مجموع أعراض فهو يتبدل في كل زمان إذ العرض لا يبقى زمانين.
ويظهر ذلك في الحدود للأشياء، فإنهم إذا حدوا الشيء تبين في حدهم كونه الأعراض، وأن هذه الأعراض المذكورة في حده عين هذا الجوهر وحقيقته القائم بنفسه.
ومن حيث هو عرض لا يقوم بنفسه.
فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه من يقوم بنفسه كالتحيز في حد الجوهر القائم بنفسه الذاتي وقبوله للأعراض حد له ذاتي.
ولا شك أن القبول عرض إذ لا يكون إلا في قابل لأنه لا يقوم بنفسه: وهو ذاتي للجوهر.
والتحيز عرض لا يكون إلا في متحيز، فلا يقوم بنفسه.
وليس التحيز عرض لا يكون إلا في متحيز، فلا يقوم بنفسه.
وليس التحيز والقبول بأمر زائد على عين الجوهر المحدود لأن الحدود الذاتية هي عين المحدود وهويته.
 فقد صار ما لا يبقى زمانين، يبقى زمانين، وأزمنة وعاد ما لا يقوم بنفسه يقوم بنفسه.
ولا يشعرون لما هم عليه، وهؤلاء هم في لبس من خلق جديد.
وأما أهل الكشف فإنهم يرون أن الله يتجلى في كل نفس ولا يكرر التجلي، ويرون أيضا شهودا أن كل تجل يعطي خلقا جديدا ويذهب بخلق.
فذهابه هو عين الفناء عند التجلي والبقاء لما يعطيه التجلي الآخر. فافهم.
 
قلت : لما كانت الحكمة قلبية شرع في ذكر القلب، فذكر أن قلب العارف بالله هو من رحمة الله.
قال: وهو أوسع منها وفيه اشكال لأن ما هو من الشيء كالبعض من الكل كيف يكون أوسع من الكل الذي هو بعضه؟ 
قال: لأنه وسع الحق، جل جلاله، ورحمته لا تسعه، فصارت الرحمة أوسع منه ولما كان فيه هذا الإشكال .
قال رضي الله عنه: هذا لسان عموم من باب الاشارة. 
قال: وإنما لم تسعه رحمته، لأنه راحم فلا يدخل في المرحومين بالرحمة فما وسعته.
قال: وأما الأشارة من لسان الخصوص، فإن الله وصف نفسه بالنفس وهو من التنفيس وهو يشير إلى أنه عين أسمائه تعالى مما يظهر العالم الذي يطلبه أسماؤه الحسني بالذات، فهو في حال لولا نزاهته لكان من أجلها مكروب فالتنفيس من كربه هو عين ظهور العالم من غيب ما لم يكن إلى فضاء الكون .
ولا عين للألوهية إلا بالمألوه وجودا وتقديرا.
فأما وجودا: فلا ألوهية بالفعل ما لم يكن المألوه بالفعل.
وأما في التقدير: فلا ألوهية في عالم التقدير إلا بالمألوه المقدر وذلك حال کل متضايفين. 
وأما حضرة الغني عن العالمين، فهي حضرة الذات لا حضرة الصفات والأسماء.
قال وليست الربوبية في الحقيقة والاتصاف إلا عين هذا الذات الغنية،
فإذن إنما وصف الحق تعالی نفسه بالشفقة على عباده لصحة نسبهم إلى ذاته من حيث أسماؤها التي ليس هو غيرها.
قال: ولما كان الإيجاد رحمة، فهو أول رحمة وسعت كل شيء، فشملت الرحمة أسمائه الحسنى حيث حصل لها بالايجاد عالما نفس من كرب الأسماء الإلهية باعطائها ما طلبته من حقائق العالم. 
قال: فلما وسعت الرحمة العالم والأسماء الإلهية كانت أوسع من القلب أو مساوية له في السعة.
وأعلم أنه، رضي الله عنه، ذكر عقيب هذا مسألة التجلي،. 
فكأن قائلا قال: هل التجلي يجيء على وفق القلب أم القلب يجيء على وفق التجلي؟
فصرح الشيخ، رضي الله عنه، أن التجلي الاعتقادي يجيء على قدر القلب المعتقد لأنه لا يتجاوز العقيدة، فإن تحولت العقيدة تحول التجلي وأشار إلى أن التجلي الغيبي هو يعطي الاستعداد، فإذا ورد التجلي ورد على حكم الاستعداد. 
قال: وهو التجلي الذاتي.
وقد ذكر هنا كلاما ظاهرا لا يحتاج إلى شرح والحق فيه: أن للحق تعالی وجود خارجي وغير خارجي وأما الخلق فإنه مفروض بالذهن في مراتب وجود الحق أو هو عين مراتب وجوده تعالی. 
قال رضي الله عنه شعرا:
فمن ثم و ما ثمه ... و عين ثم هو ثمه
فمن قد عمه خصه ... و من قد خصه عمه
فما عين سوى عين ... فنور عينه ظلمه
فمن يغفل عن هذا ... يجد في نفسه غمه
وما يعرف ما قلنا  ... سوى عبد له همه
قوله: فمن ثم غير الله؟ وما ثم غير الله؟ وهما استفهام بمعنى الجحد والتقرير" لكون الحق ليس معه غيره. 
قوله: وما عين سوی عین الحق فهو نور عينه كالظلمة، لكونه ينبهم معناه على غير أهل الشهود.
وأما الغمة التي يجدها من يغفل، فهي غمة فقده لنفسه، لأنه يرى الحق تعالى قد ملك عليه نفسه التي هي ذاته فكان الحق الذي لم يزل، وفني الباطل الذي لم يكن ولا شك أن المحو والمحق والسحق الذي تجده هذه الطائفة ظاهره غمة.
قال : ولا يعرف ما قلنا سوى عيد له همة إلهية لا كونية، ثم فضل، رضي الله عنه، القلب على العقل لورود الآية الكريمة وهي قوله تعالى: "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب" [ق : 37] .
ولم يقل له عقل ولذلك كانت أرباب القلوب أشرف من أرباب العقول.
قال: وإنما كان القلب أفضل من العقل لأن العقل يصف الحق في التنزيه وهو وصف واحد والحقيقة تأبى الحصر، والقلب يتقلب فهو يسع الحقيقة، والعقل لا يسعها من حيث هو مفكر أما من حيث ما هو قابل فهو القلب نفسه .
ثم علل رضي الله عنه، كون أرباب الاعتقاد يكفر بعضهم بعضا.
فقال: لأن إله صاحب هذا المعتقد مثلا ما له حكم في إله المعتقد الآخر بل الخلف بينهم قائم.
وأيضا فإذا نصر المعتقد مذهبه، فربه الخاص به لا ينصره، لأنه رب وهمي لا حقيقة له، فلا يكون لنصرة مذهبه أثر ظاهر ينقطع به النزاع وكذلك المقاوم له ولا يزال النزاع قائما .
ولذلك قال: يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا وما لهم من ناصرین، فذكر أنه لا ناصر لهم فقد نفيه الحق تعالى النصرة عن آلهة الاعتقادات.
قال: فالحق عند العارف المعروف الذي لا ينكر ولا يتنكر في نفس الأمر. 
قال: ومن دون العارفين هم المؤمنون وهم الذين قيل فيهم أو ألقي السمع وهو شهيد وليس من هؤلاء مقلدوا أصحاب الرأي الذي نزلوا الأخبار الإلهي إلى مراتب أدلتهم النظرية.
فإن تقليد أوليك ليس هو تقليدا للأنبياء عليهم السلام، ولا هم أتباع الأنبياء، ويوم القيامة يتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، والرسل، عليهم السلام، لا يتبرؤون من أتباعهم الذين اتبعوهم.
قال: وأما اختصاص هذه الحكمة بشعیب، فلما في اسمه، عليه السلام، من اشتقاق التشعب وهذه المسألة كثيرة التشعب والاختلاف، فإن العقائد لا تنحصر لكثرتها. قال: فإذا انكشف الأمر فقد ينكشف، على خلاف العقائد وهو قوله وبدأ لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
وأما قوله في الهوية: إن بعض العباد ينكشف له على حكم معتقده فيها، فيتحول الظن علما، فهذا فيه تجوز، لأنه إذا اعتقد ما لا يراه يستحيل أن يكون الرؤية مثله سواء، بل لا بد من مخالفة ما حتى يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب. 
ثم ذكر أن الترقي قد يكون للإنسان وهو لا يشعر به وهذا لا شك فيه ، بشهود الوحدانية بالتدريج وهو لا يشعر فيظن أنه لم يفتح له.
 ثم مثل شهود الكثرة في العين الواحدة بأخذ حد الهيولى في كل صورة ، صورة من صورها وهو تمثیل حسن، لكن في مدارك الأفكار.
ثم قال: فمن عرف نفسه بهذه المعرفة فقد عرف ربه، فإنه على صورته خلقه، بل هو عين هويته وصورة حقيقته ثم شرع في أن النفس ما عثر أحد من علماء الرسوم على معرفتها إلا الإلهيون من الأنبياء والصوفية خاصة. 
""قال تعالى : " أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) سورة ق""
قال: ولا سبيل إلى معرفة النفس بطريق النظر الفكري، ثم ذكر أن الناس كل نفس يتجددون "هم في لبس من خلق جديد" [ق: 15] فهم لا يشعرون بالتجدد وهم فيه، لأنهم أوتوا به متشابها والأشباه أغيار.
قال: وما عثر أحد على تجدد الأمر كله في العالم من أرباب النظر.
 وإن كان الأشاعرة قد قالوا بتجدد أعراض العالم، لكنهم ما عرفوا أن العالم هو مجموع أعراض، 
وأما الحسبانية فإنهم وإن قالوا بتجدد العالم في كل نفس جميعة ولم يخصوا الأعراض، إلا أنهم ما تحققوا وحدانية الجوهر.
وآفة الأشاعرة أنهم ظنوا أن ما لا يقوم بنفسه إذا اجتمع مع ما يقوم بنفسه لا يمكن أن يقوم بنفسه، وهو غلط فاحش.
قال: وأما أصحاب الكشف فيرون العالم متغيرا في ذاته دائما بتجليات إلهية، والتجليات المذكورة تعطي في كل تجل خلقا جديدا ويرون ذلك عيانا مشهودا والله الهادي.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:13 pm

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية

قال الشيخ رضي الله عنه :  (الملك الشدة والمليك الشديد: يقال ملكت العجين إذا شددت عجينه.
قال قيس بن الحطيم يصف طعنة:
ملكت بها كفي فانهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
أي شددت بها كفي يعني الطعنة. فهو قول الله تعالى عن لوط عليه السلام: «لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد».
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله أخى لوطا: لقد كان يأوي إلى ركن شديد.
فنبه صلى الله عليه وسلم أنه كان مع الله من كونه شديدا.
والذي قصد لوط عليه السلام القبيلة بالركن الشديد: والمقاومة بقوله «لو أن لي بكم قوة» وهي الهمة هنا من البشر خاصة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك الوقت يعني من الزمن الذي قال فيه عليه السلام «أو آوي إلى ركن شديد» ما بعث نبي بعد ذلك إلا في منعة من قومه، فكان يحميه قبيله كأبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله «لو أن لي بكم قوة» لكونه عليه السلام سمع الله تعالى يقول «الله الذي خلقكم من ضعف» بالأصالة، "ثم جعل من بعد ضعف قوة" فعرضت القوة بالجعل فهي قوة عرضية، «ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة» فالجعل تعلق بالشيبة، وأما الضعف فهو رجوع إلى أصل خلقه وهو قوله خلقكم من ضعف، فرده لما خلقه منه كما قال «يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا».
فذكر أنه رد إلى الضعف الأول فحكم الشيخ حكم الطفل في الضعف.
وما بعث نبي إلا بعد تمام الأربعين وهو زمان أخذه في النقص والضعف.
فلهذا قال «لو أن لي بكم قوة» مع كون ذلك يطلب همة مؤثرة.
فإن قلت وما يمنعه من الهمة المؤثرة وهي موجودة في السالكين من الاتباع، والرسل أولى بها؟
قلنا صدقت: ولكن نقصك علم آخر، وذلك أن المعرفة لا تترك للهمة تصرفا.
فكلما علت معرفته نقص تصرفه بالهمة، وذلك لوجهين:
الوجه الواحد لتحققه بمقام العبودية ونظره إلى أصل خلقه الطبيعي،
والوجه الآخر أحدية المتصرف والمتصرف فيه : فلا يرى على من يرسل همته فيمنعه ذلك.
وفي هذا المشهد يرى أن المنازع له ما عدل عن حقيقته التي هو عليها في حال ثبوت عينه وحال عدمه.
فما ظهر في الوجود إلا ما كان له في حال العدم في الثبوت، فما تعدى حقيقته ولا أخل بطريقته. فتسمية ذلك نزاعا إنما هو أمر عرضي أظهره الحجاب الذي على أعين الناس كما قال الله فيهم «ولكن أكثر الناس لا يعلمون: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون»: وهو من القلوب فإنه من قولهم «قلوبنا غلف».
أي في غلاف وهو الكن الذي ستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه. فهذا وأمثاله يمنع العارف من التصرف في العالم .
قال الشيخ أبو عبد الله بن قايد للشيخ أبي السعود بن الشبل لم لا تتصرف؟
فقال أبو السعود تركت الحق يتصرف لي كما يشاء: يريد قوله تعالى آمرا «فاتخذه وكيلا» فالوكيل هو المتصرف ولا سيما وقد سمع الله تعالى يقول: «وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه».
فعلم أبو السعود والعارفون أن الأمر الذي بيده ليس له وأنه مستخلف فيه.
ثم قال له الحق هذا الأمر الذي استخلفتك فيه وملكتك إياه: اجعلني واتخذني وكيلا فيه، فامتثل أبو السعود أمر الله فاتخذه وكيلا.
فكيف يبقى لمن يشهد هذا الأمر همة يتصرف بها، والهمة لا تفعل إلا بالجمعية التي لا متسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه؟
وهذه المعرفة تفرقه عن هذه الجمعية. فيظهر العارف التام المعرفة بغاية العجز والضعف.
قال بعض الأبدال للشيخ عبد الرزاق رضي الله عنه : قل للشيخ أبي مدين بعد السلام عليه يا أبا مدين لم لا يعتاص علينا شيء وأنت تعتاص عليك الأشياء: ونحن نرغب في مقامك وأنت لا ترغب في مقامنا؟
وكذلك كان مع كون أبي مدين رضي الله عنه كان عنده ذلك المقام وغيره: ونحن أتم في مقام الضعف والعجز منه.
ومع هذا قال له هذا البدل ما قال. وهذا من ذلك القبيل أيضا.
وقال صلى الله عليه وسلم في هذا المقام عن أمر الله له بذلك «ما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي».
فالرسول بحكم ما يوحى إليه به ما عنده غير ذلك.
فإن أوحي إليه بالتصرف بجزم تصرف: وإن منع امتنع، وإن خير اختار ترك التصرف إلا أن يكون ناقص المعرفة.
قال أبو السعود لأصحابه المؤمنين به إن الله أعطاني التصرف منذ خمس عشرة سنة وتركناه تظرفا. هذا لسان إدلال.
وأما نحن فما تركناه تظرفا وهو تركه إيثارا وإنما تركناه لكمال المعرفة، فإن المعرفة لا تقتضيه بحكم الاختيار.
فمتى تصرف العارف بالهمة في العالم فعن أمر إلهي وجبر لا باختيار.
ولا نشك أن مقام الرسالة يطلب التصرف لقبول الرسالة التي جاء بها، فيظهر عليه ما يصدقه عند أمته وقومه ليظهر دين الله. والولي ليس كذلك.
ومع هذا فلا يطلبه الرسول في الظاهر لأن للرسول الشفقة على قومه، فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجة عليهم، فإن في ذلك هلاكهم:
فيبقي عليهم. وقد علم الرسول أيضا أن الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة منهم من يؤمن عند ذلك ومنهم من يعرفه ويجحده ولا يظهر التصديق به ظلما وعلوا وحسدا، ومنهم من يلحق ذلك بالسحر والإيهام.
فلما رأت الرسل ذلك وأنه لا يؤمن إلا من أنار الله قلبه بنور الإيمان:
ومتى لم ينظر الشخص بذلك النور المسمى إيمانا فلا ينفع في حقه الأمر المعجز. فقصرت الهمم عن طلب الأمور المعجزة لما لم يعم أثرها في الناظرين ولا في قلوبهم كما قال في حق أكمل الرسل وأعلم الخلق وأصدقهم في الحال «إنك لا تهدي من أحببت "ولكن الله يهدي من يشاء".
ولو كان للهمة أثر ولا بد، لم يكن أحد أكمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلى ولا أقوى همة منه، وما أثرت في إسلام أبي طالب عمه، وفيه نزلت الآية التي ذكرناها:
ولذلك قال في الرسول إنه ما عليه إلا البلاغ، وقال «ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء» .
وزاد في سورة القصص «وهو أعلم بالمهتدين» أي بالذين أعطوه العلم بهدايتهم في حال عدمهم بأعيانهم الثابتة.
فأثبت أن العلم تابع للمعلوم. فمن كان مؤمنا في ثبوت عينه وحال عدمه ظهر بتلك الصورة في حال وجوده.
وقد علم الله ذلك منه أنه هكذا يكون، فلذلك قال «وهو أعلم بالمهتدين».
فلما قال مثل هذا قال أيضا «ما يبدل القول لدي» لأن قولي على حد علمي في خلقي، «وما أنا بظلام للعبيد» أي ما قدرت عليهم الكفر الذي يشقيهم ثم طلبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به.
بل ما عاملناهم إلا بحسب ما علمناهم، وما علمناهم إلا بما أعطونا من نفوسهم مما هم عليه، فإن كان ظلم فهم الظالمون.
ولذلك قال «ولكن كانوا أنفسهم يظلمون». فما ظلمهم الله. كذلك ما قلنا لهم إلا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم، وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ولا نقول كذا.
فما قلنا إلا ما علمنا أنا نقول، فلنا القول منا، ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السماع منهم
فالكل منا ومنهم ... والأخذ عنا وعنهم
إن لا يكونون منا ... فنحن لا شك منهم
فتحقق يا ولي هذه الحكمة الملكية في الكلمة اللوطية فإنها لباب المعرفة
فقد بان لك السر ...  وقد اتضح الأمر
وقد أدرج في الشفع ... الذي قيل هو الوتر

قلت : الشيخ، رضي الله عنه، اعتمد في هذه الحكمة على قول النبي لوطی عليه السلام : "لو أن لي بكم ؛ أو آوي إلى ركن شديد" (هود: 80) أراد لوط، عليه السلام، قبيلة تحميه وأراد نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، أنه كان يأوي إلى الله تعالى فإنه شديد البطش ثم بین، رضي الله عنه، أن الضعف أصل لا يحتاج إلى فعل فاعل وأما القوة فيحتاج إلى ذلك .
ولذلك قال: ثم جل من بعير قوة فأشار إلى أن القوة بالجعل فهي عرضية.
وأما قوله: و جعل من بعد قوة ضعفا وشيبه" (الروم:54) فذكر أن الجعل متعلق بالشيبة لا بالضعف، وللمجاورة شرك بينهما مجازا.
وفسره بالآية الأخرى وهو قوله تعالى: "ثم يرد إلى أرذل العمر"(النحل: 70) فهو رد لا جعل.
وأما قوله: وما بعث نبي إلا بعد الأربعين فهو عذر للنبي لوط، عليه السلام، في قوله: "لو أن لي بكم قوة" (هود: 80) .

فإنه كان بعد الأربعين فقد شرع في النقص 
كما قال الشاعر: 
كأن الفتى" يرقي من العمر سلما  ….. إلى أن يجوز الأربعين فينحط
ثم أجاب عن الإشكال الذي أورده: بأن القوة وإن كانت هي الهمة إلا أن المعرفة لا تترك للهمة تأثيرا ولا تصرفا. 
وقد قال القشيري رحمه الله في بعض كتبه: إذا برقت بارقة من التحقيق لم يبق حال ولا همة.
وقد بين رضي الله عنه، ذلك بيانا شافيا وهو حق لا شك فيه إلا قوله: فما ظهر في الوجود إلا ما كان له في حال العدم، فإني مخالف له فيه وعند الاجتماع يقال مشافهة وهذه المسألة عظيمة الجدوى إذا حققت 
فقوله في الشعر: 
فالكل منا ومنهم     …… والأخذ عنا وعنهم
عندي غير مقبول، بل منه فقط إلا في طور العلم لا المعرفة. 

وأما قوله: 
وقد أدرج في الشفع  ….. الذي قيل هو الوتر

فإنه يتقرر على ما يقوله، ولا نقبله على ما يقوله، رضي الله عنه، فمن أراد تحقيق هذا يجده في المواقف التي للنفري، رضي الله عنه، ولو كان مرادنا العلم كنا نجده في كتب المتكلمين.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس نوفمبر 21, 2019 9:06 pm

14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية
اعلم أن القضاء حكم الله في الأشياء، وحكم الله في الأشياء على حد علمه بها وفيها.
وعلم الله في الأشياء على ما أعطته المعلومات مما هي عليه في نفسها.
والقدر توقيت ما هي عليه الأشياء في عينها من غير مزيد. فما حكم القضاء على الأشياء إلا بها.
وهذا هو عين سر القدر «لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد». «فلله الحجة البالغة».
فالحاكم في التحقيق تابع لعين المسألة التي يحكم فيها بما تقتضيه ذاتها.
فالمحكوم عليه بما هو فيه حاكم على الحاكم أن يحكم عليه بذلك.
فكل حاكم محكوم عليه بما حكم به وفيه: كان الحاكم من كان.
فتحقق هذه المسألة فإن القدر ما جهل إلا لشدة ظهوره، فلم يعرف وكثر فيه الطلب والإلحاح. واعلم أن الرسل صلوات الله عليهم من حيث هم رسل لا من حيث هم أولياء وعارفون على مراتب ما هي عليه أممهم.
فما عندهم من العلم الذي أرسلوا به إلا قدر ما تحتاج إليه أمة ذلك الرسول: لا زائد ولا ناقص.
والأمم متفاضلة يزيد بعضها على بعض.
فتتفاضل الرسل في علم الإرسال بتفاضل أممها، وهو قوله تعالى «تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض» كما هم أيضا فيما يرجع إلى ذواتهم عليهم السلام من العلوم والأحكام متفاضلون بحسب استعداداتهم، وهو قوله «ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض».
وقال تعالى في حق الخلق «والله فضل بعضكم على بعض في الرزق».
والرزق منه ما هو روحاني كالعلوم، وحسي كالأغذية، وما ينزله الحق إلا بقدر معلوم، وهو الاستحقاق الذي يطلبه الخلق: فإن الله «أعطى كل شي ء خلقه» فينزل بقدر ما يشاء، وما يشاء إلا ما علم فحكم به.
وما علم كما قلناه إلا بما أعطاه المعلوم.
فالتوقيت في الأصل للمعلوم، والقضاء والعلم والإرادة والمشيئة تبع للقدر.
فسر القدر من أجل العلوم، وما يفهمه الله تعالى إلا لمن اختصه بالمعرفة التامة. فالعلم به يعطي الراحة الكلية للعالم به، ويعطي العذاب الأليم للعالم به أيضا.
فهو يعطي النقيضين.
وبه وصف الحق نفسه بالغضب والرضا، وبه تقابلت الأسماء الإلهية.
فحقيقته تحكم في الوجود المطلق والوجود المقيد، لا يمكن أن يكون شيء أتم منها ولا أقوى ولا أعظم لعموم حكمها المتعدي وغير المتعدي.
ولما كانت الأنبياء صلوات الله عليهم لا تأخذ علومها إلا من الوحي الخاص الإلهي، فقلوبهم ساذجة من النظر العقلي لعلمهم بقصور العقل من حيث نظره الفكري، عن إدراك الأمور على ما هي عليه.
والإخبار أيضا يقصر عن إدراك ما لا ينال إلا بالذوق.
فلم يبق العلم الكامل إلا في التجلي الإلهي وما يكشف الحق عن أعين البصائر والأبصار من الأغطية فتدرك الأمور قديمها وحديثها، وعدمها ووجودها، ومحالها وواجبها وجائزها على ما هي عليه في حقائقها وأعيانها.
فلما كان مطلب العزير على الطريقة الخاصة، لذلك وقع العتب عليه كما ورد في الخبر.
فلو طلب الكشف الذي ذكرناه ربما كان لا يقع عليه عتب في ذلك.
والدليل على سذاجة قلبه قوله في بعض الوجوه «أنى يحيي هذه الله بعد موتها».
وأما عندنا فصورته عليه السلام في قوله هذا كصورة إبراهيم عليه السلام في قوله «رب أرني كيف تحي الموتى».
ويقتضي ذلك الجواب بالفعل الذي أظهره الحق فيه في قوله تعالى «فأماته الله مائة عام ثم بعثه» فقال له «وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما» فعاين كيف تنبت الأجسام معاينة تحقيق، فأراه الكيفية.
فسأل عن القدر الذي لا يدرك إلا بالكشف للأشياء في حال ثبوتها في عدمها، فما أعطي ذلك فإن ذلك من خصائص الاطلاع الإلهي، فمن المحال أن يعلمه إلا هو فإنها المفاتح الأول، أعني مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو.
وقد يطلع الله من شاء من عباده على بعض الأمور من ذلك.
واعلم أنها لا تسمى مفاتح إلا في حال الفتح، وحال الفتح هو حال تعلق التكوين بالأشياء، أو قل إن شئت حال تعلق القدرة بالمقدور ولا ذوق لغير الله في ذلك.
فلا يقع فيها تجل ولا كشف، إذ لا قدرة ولا فعل إلا لله خاصة، إذ له الوجود المطلق الذي لا يتقيد.
فلما رأينا عتب الحق له عليه السلام في سؤاله في القدر علمنا أنه طلب هذا الاطلاع، فطلب أن يكون له قدرة تتعلق بالمقدور، وما يقتضي ذلك إلا من له الوجود المطلق.
فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق ذوقا، فإن الكيفيات لا تدرك إلا بالأذواق.
وأما ما رويناه مما أوحى الله به إليه لئن لم تنته لأمحون اسمك من ديوان النبوة، أي أرفع عنك طريق الخبر وأعطيك الأمور على التجلي، والتجلي لا يكون إلا بما أنت عليه من الاستعداد الذي به يقع الإدراك الذوقي، فتعلم أنك ما أدركت إلا بحسب استعدادك فتنظر في هذا الأمر الذي طلبت، فإذا لم تره تعلم أنه ليس عندك الاستعداد الذي تطلبه وأن ذلك من خصائص الذات الإلهية، وقد علمت أن الله أعطى كل شيء خلقه: ولم يعطك هذا الاستعداد الخاص، فما هو خلقك، ولو كان خلقك لأعطاكه الحق الذي أخبر أنه «أعطى كل شي ء خلقه».
فتكون أنت الذي تنتهي عن مثل هذا السؤال من نفسك، لا تحتاج فيه إلى نهي إلهي.
وهذه عناية من الله بالعزير عليه السلام علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
واعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العام، ولهذا لم تنقطع، ولها الإنباء العام.
وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة.
وفي محمد صلى الله عليه وسلم قد انقطعت، فلا نبي بعده: يعني مشرعا أو مشرعا له، ولا رسول وهو المشرع.
وهذا الحديث قصم ظهور أولياء الله لأنه يتضمن انقطاع ذوق العبودية الكاملة التامة.
فلا ينطلق عليه اسمها الخاص بها فإن العبد يريد ألا يشارك سيده- وهو الله في اسم، والله لم يتسم بنبي ولا رسول، وتسمى بالولي واتصف بهذا الاسم فقال «الله ولي الذين آمنوا»: وقال «هو الولي الحميد».
وهذا الاسم باق جار على عباد الله دنيا وآخرة. فلم يبق اسم يختص به العبد دون الحق بانقطاع النبوة والرسالة: إلا أن الله لطف بعباده، فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها، وأبقى لهم التشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام، وأبقى لهم الوراثة في التشريع فقال «العلماء ورثة الأنبياء».
وما ثم ميراث في ذلك إلا فيما اجتهدوا فيه من الأحكام فشرعوه.
فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع فمن حيث هو ولي وعارف، ولهذا، مقامه من حيث هو عالم أتم وأكمل من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع.
فإذا سمعت أحدا من أهل الله يقول أو ينقل إليك عنه أنه قال الولاية أعلى من النبوة، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه.
أو يقول إن الولي فوق النبي والرسول، فإنه يعني بذلك في شخص واحد: وهو أن الرسول عليه السلام من حيث هو ولي أتم من حيث هو نبي رسول، لا أن الولي التابع له أعلى منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه، إذ لو أدركه لم يكن تابعا له فافهم.
فمرجع الرسول والنبي المشرع إلى الولاية والعلم.
ألا ترى الله تعالى قد أمره بطلب الزيادة من العلم لا من غيره فقال له آمرا «وقل رب زدني علما».
وذلك أنك تعلم أن الشرع تكليف بأعمال مخصوصة أو نهي عن أفعال مخصوصة ومحلها هذه الدار فهي منقطعة، والولاية ليست كذلك إذ لو انقطعت لانقطعت من حيث هي كما انقطعت الرسالة من حيث هي.
وإذا انقطعت من حيث هي لم يبق لها اسم.
والولي اسم باق لله تعالى، فهو لعبيده تخلقا وتحققا وتعلقا.
فقوله للعزير لئن لم تنته عن السؤال عن ماهية القدر لأمحون اسمك من ديوان النبوة فيأتيك الأمر على الكشف بالتجلي ويزول عنك اسم النبي والرسول، وتبقى له ولايته.
إلا أنه لما دلت قرينة الحال أن هذا الخطاب جرى مجرى الوعيد علم من اقترنت عنده هذه الحالة مع الخطاب أنه وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية في هذه الدار، إذ النبوة والرسالة خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تحوي عليه الولاية من المراتب.
فيعلم أنه أعلى من الولي الذي لا نبوة تشريع عنده ولا رسالة.
ومن اقترنت عنده حالة أخرى تقتضيها أيضا مرتبة النبوة، يثبت عنده أن هذا وعد لا وعيد.
فإن سؤاله عليه السلام مقبول إذ النبي هو الولي الخاص.
ويعرف بقرينة الحال أن النبي من حيث له في الولاية هذا الاختصاص محال أن يقدم على ما يعلم أن الله يكرهه منه، أو يقدم على ما يعلم أن حصوله محال.
فإذا اقترنت هذه الأحوال عند من اقترنت عنده وتقررت عنده، أخرج هذا الخطاب الإلهي عنده في قوله «لأمحون اسمك من ديوان النبوة» مخرج الوعد، وصار خبرا يدل على علو رتبة باقية، وهي المرتبة الباقية على الأنبياء والرسل في الدار الآخرة التي ليست بمحل لشرع يكون عليه أحد من خلق الله في جنة ولا نار بعد دخول الناس فيهما.
وإنما قيدناه بالدخول في الدارين الجنة والنار لما شرع يوم القيامة لأصحاب الفترات والأطفال الصغار والمجانين، فيحشر هؤلاء في صعيد واحد لإقامة العدل والمؤاخذة بالجريمة والثواب العملي في أصحاب الجنة.
فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل عن الناس بعث فيهم نبي من أفضلهم وتمثل لهم نار يأتي بها هذا النبي المبعوث في ذلك اليوم فيقول لهم أنا رسول الحق إليكم، فيقع عندهم التصديق به ويقع التكذيب عند بعضهم.
ويقول لهم اقتحموا هذه النار بأنفسكم، فمن أطاعني نجا ودخل الجنة، ومن عصاني وخالف أمري هلك وكان من أهل النار.
فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها سعد ونال الثواب العملي ووجد تلك النار بردا وسلاما.
ومن عصاه استحق العقوبة فدخل النار ونزل فيها بعمله المخالف ليقوم العدل من الله في عباده.
وكذلك قوله تعالى «يوم يكشف عن ساق» أي أمر عظيم من أمور الآخرة، «ويدعون إلى السجود» وهذا تكليف وتشريع.
فمنهم من يستطيع ومنهم من لا يستطيع، وهم الذين قال الله فيهم «ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون» كما لم يستطع في الدنيا امتثال أمر الله بعض العباد كأبي جهل وغيره.
فهذا قدر ما يبقى من الشرع في الآخرة يوم القيامة قبل دخول الجنة والنار، فلهذا قيدناه.
والحمد لله.
 
قلت: ظاهر كلامه رضي الله عنه، أن القضاء حكم الله في الأشياء وأما سباق المعنى فيقتضي أن القضاء حكم الأشياء في الله فتأمل ذلك. 
والذي أراه أن القضاء حكم الله تعالى وليس للممكنات تأثير وأن المعدوم ليس بشيء
وأن الشيء ليس إلا الموجود وموجوديته شيئيته.
ولا يقال: إن هذا يفضي إلى تجدد العلم لله تعالى. 
فإنا نقول: إن علم الله تعالی تابع للموجودات حال وجودها وذلك ثابت في الأزل إلى الأبد، لأن ما بينهما لا ماضي فيه ولا مستقبل عند الله تعالی بل الجميع حاضر.
فما يتجدد له علم .
وأما الدليل على صحة القدر والقضاء، فإن العالم ممکن وكل ممكن فلا يقع في نفس الأمر إلا أحد طرفيه.
فالممتنع في نفس الأمر ليس بممکن، والممكن الذي لا بد أن يقع فليس إلا واجب.
فصور الواجب بأزمنته وأمكنته معلومة الله تعالى دائما أزلا وإبدا ولا يتعدي الموجود زمانه ، فشيئيته حال وجوده فقط، فيكون سر القدر أنه أحد طرفي الممكن.
أعني الذي لا بد أن يقع في نفس الأمر، وهو أحد المحتملين فلا شيء إلا بقضاء، وهو وقوع أحد المحتملين، وقدر، وهو الترتيب الذي لابد أن يقع، لأن أحكام الأعيان الثابتة في حال عدمها.
فإن المعدوم لا يتصف بالثبوت لأنه ليس بشيء.
وما بقي من هذه الحكمة فظاهر.



.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:29 am

15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
15 - فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين ... في صورة البشر الموجود من طين
تكون الروح في ذات مطهرة ... من الطبيعة تدعوها بسجين
لأجل ذلك قد طالت إقامته ... فيها فزاد على ألف بتعيين
روح من الله لا من غيره فلذا ... أحيا الموات وأنشا الطير من طين
حتى يصح له من ربه نسب ... به يؤثر في العالي وفي الدون
الله طهره جسما ونزهه  .... روحا وصيره مثلا بتكوين
اعلم أن من خصائص الأرواح أنها لا تطأ شيئا إلا حيي ذلك الشيء وسرت الحياة فيه.
ولهذا قبض السامري قبضة من أثر الرسول الذي هو جبريل عليه السلام وهو الروح.
وكان السامري عالما بهذا الأمر.
فلما عرف أنه جبريل، عرف أن الحياة قد سرت فيما وطئ عليه، فقبض قبضة من أثر الرسول بالصاد أو بالضاد أي بملء أو بأطراف أصابعه، فنبذها في العجل فخار العجل، إذ صوت البقر إنما هو خوار، ولو أقامه صورة أخرى لنسب إليه اسم الصوت الذي لتلك الصورة كالرغاء للإبل والثؤاج للكباش واليعار للشياه والصوت للإنسان أو النطق أو الكلام.
فذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء يسمى لاهوتا والناسوت هو المحل القائم به ذلك الروح. فسمي الناسوت روحا بما قام به.
فلما تمثل الروح الأمين الذي هو جبريل لمريم عليهما السلام بشرا سويا تخيلت أنه بشر يريد مواقعتها، فاستعاذت بالله منه استعاذة بجمعية منها ليخلصها الله منه لما تعلم أن ذلك مما لا يجوز.
فحصل لها حضور تام مع الله وهو الروح المعنوي.
فلو نفخ فيها في ذلك الوقت على هذه الحالة لخرج عيسى لا يطيقه أحد لشكاسة خلقه لحال أمه. فلما قال لها «إنما أنا رسول ربك» جئت «لأهب لك غلاما زكيا» انبسطت عن ذلك القبض وانشرح صدرها.
فنفخ فيها في ذلك الحين عيسى: فكان جبريل ناقلا كلمة الله لمريم كما ينقل الرسول كلام الله لأمته، وهو قوله «وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه».
فسرت الشهوة في مريم:
فخلق جسم عيسى من ماء محقق من مريم ومن ماء متوهم من جبريل، سرى في رطوبة ذلك النفخ لأن النفخ من الجسم الحيواني رطب لما فيه من ركن الماء.
فتكون جسم عيسى من ماء متوهم وماء محقق، وخرج على صورة البشر من أجل أمه، ومن أجل تمثل جبريل في صورة البشر حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني إلا على الحكم المعتاد.
فخرج عيسى يحيي الموتى لأنه روح إلهي، وان الإحياء لله والنفخ لعيسى، كما كان النفخ لجبريل والكلمة لله.
فكان إحياء عيسى للأموات إحياء محققا من حيث ما ظهر عن نفخه كما ظهر هو عن صورة أمه.
وكان إحياؤه أيضا متوهما أنه منه وإنما كان لله.
فجمع بحقيقته التي خلق عليها كما قلناه أنه مخلوق من ماء متوهم وماء محقق: ينسب إليه الإحياء بطريق التحقيق من وجه وبطريق التوهم من وجه، فقيل فيه من طريق التحقيق «هو يحي الموتى»، وقيل فيه من طريق التوهم «فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني» فالعامل في المجرور «يكون» لا قوله «تنفخ».
ويحتمل أن يكون العامل فيه تنفخ، فيكون طائرا من حيث صورته الجسمية الحسية.
وكذلك «تبرئ الأكمه والأبرص» وجميع ما ينسب «إليه وإلى إذن الله وإذن الكناية في مثل قوله بإذني وبإذن الله.
فإذا تعلق المجرور «بتنفخ» فيكون النافخ مأذونا له في النفخ ويكون الطائر عن النافخ بإذن الله. وإذا كان النافخ نافخا لا عن الإذن، فيكون التكوين للطائر طائرا بإذن الله، فيكون العامل عند ذلك «يكون».
فلو لا أن في الأمر توهما وتحققا ما قبلت هذه الصورة هذين الوجهين. بل لها هذان الوجهان لأن النشأة العيسوية تعطي ذلك.
وخرج عيسى من التواضع إلى أن شرع لأمته أن «يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون» وأن أحدهم إذا لطم في خده وضع الخد الآخر لمن لطمه، ولا يرتفع عليه ولا يطلب القصاص منه.
هذا له من جهة أمه، إذ المرأة لها السفل، فلها التواضع لأنها تحت الرجل حكما وحسا.
وما كان فيه من قوة الإحياء والإبراء فمن جهة نفخ جبريل في صورة البشر.
فكان عيسى يحيي الموتى بصورة البشر.
ولم يأت جبريل في صورة البشر وأتى في صورة غيرها من صور الأكوان العنصرية من حيوان أو نبات أو جماد لكان عيسى لا يحيى إلا حتى يتلبس بتلك الصورة ويظهر فيها.
ولو أتى جبريل أيضا بصورته النورية الخارجة عن العناصر والأركان إذ لا يخرج عن طبيعته لكان عيسى لا يحيي الموتى إلا حتى يطهر في تلك الصورة الطبيعية النورية لا العنصرية مع الصورة البشرية من جهة أمه.
فكان يقال فيه عند إحيائه الموتى هو لا هو، و تقع الحيرة في النظر إليه كما وقعت في العاقل عند النظر الفكري إذا رأى شخصا بشريا من البشر يحيي الموتى، و هو من الخصائص الإلهية، إحياء النطق لا إحياء الحيوان، بقي الناظر حائرا، إذ يرى الصورة بشرا بالأثر الإلهي.
فأدى بعضهم فيه إلى القول بالحلول، و أنه هو الله بما أحيا به من الموتى، و لذلك نسبوا إلى الكفر و هو الستر لأنهم ستروا الله الذي أحيا الموتى بصورة بشرية عيسى.
فقال تعالى «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم» فجمعوا بين الخطأ والكفر في تمام الكلام كله لأنه لا بقولهم هو الله، ولا بقولهم ابن مريم، فعدلوا بالتضمين من الله من حيث إحياء الموتى إلى الصورة الناسوتية البشرية بقولهم ابن مريم وهو ابن مريم بلا شك.
فتخيل السامع أنهم نسبوا الألوهية لصورة وجعلوها عين الصورة وما فعلوا، بل جعلوا الهوية الإلهية ابتداء في صورة بشرية هي ابن مريم، ففصلوا بين الصورة والحكم، لا أنهم جعلوا الصورة عين الحكم كما كان جبريل في صورة البشر ولا نفخ، ثم نفخ، ففصل بين الصورة والنفخ وكان النفخ من الصورة، فقد كانت ولا نفخ، فما هو النفخ من حدها الذاتي.
فوقع الخلاف بين أهل الملل في عيسى ما هو؟
فمن ناظر فيه من حيث صورته الإنسانية البشرية فيقول هو ابن مريم، ومن ناظر فيه من حيث الصورة الممثلة البشرية فينسبه لجبريل، ومن ناظر فيه من حيث ما ظهر عنه من إحياء الموتى فينسبه إلى الله بالروحية، فيقول روح الله، أي به ظهرت الحياة فيمن نفخ فيه.
فتارة يكون الحق فيه متوهما- اسم مفعول وتارة يكون الملك فيه متوهما، وتارة تكون البشرية الإنسانية فيه متوهمة: فيكون عند كل ناظر بحسب ما يغلب عليه.
فهو كلمة الله وهو روح الله وهو عبد الله، وليس ذلك في الصورة الحسية لغيره، بل كل شخص منسوب إلى أبيه الصوري لا إلى النافخ روحه في الصورة البشرية.
فإن الله إذا سوى الجسم الإنساني كما قال تعالى «فإذا سويته» نفخ فيه هو تعالى من روحه فنسب الروح في كونه وعينه إليه تعالى.
وعيسى ليس كذلك، فإنه اندرجت تسوية جسمه وصورته البشرية بالنفخ الروحي، وغيره كما ذكرناه لم يكن مثله.
فالموجودات كلها كلمات الله التي لا تنفد، فإنها عن «كن» وكن كلمة الله. فهل تنسب الكلمة إليه بحسب ما هو عليه فلا تعلم ماهيتها، أو ينزل هو تعالى إلى صورة من يقول «كن» فيكون قول كن حقيقة لتلك الصورة التي نزل إليها وظهر فيها؟
فبعض العارفين يذهب إلى الطرف الواحد، وبعضهم إلى الطرف الآخر، وبعضهم يحار في الأمر ولا يدري.
وهذه مسألة لا يمكن أن تعرف إلا ذوقا كأبي يزيد حين نفخ في النملة التي قتلها فحييت فعلم عند ذلك بمن ينفخ فنفخ فكان عيسوي المشهد.
وأما الإحياء المعنوي بالعلم فتلك الحياة الإلهية الدائمة العلية النورية التي قال الله فيها «أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس» فكل من أحيا نفسا ميتة بحياة علمية في مسألة خاصة متعلقة بالعلم بالله، فقد أحياه بها وكانت له نورا يمشي به في الناس أي بين أشكاله في الصورة.
فلولاه ولولانا ... لما كان الذي كانا
فإنا أعبد حقا ...    وإن الله مولانا
وإنا عينه فاعلم ...    إذا ما قلت إنسانا
فلا تحجب بإنسان ...  فقد أعطاك برهانا
فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا
وغذ خلقه منه ...    تكن روحا وريحانا
فأعطيناه ما يبدو ...    به فينا وأعطانا
فصار الأمر مقسوما   ... بإياه وإيانا
فأحياه الذي يدري  ... بقلبي حين أحيانا
فكنا فيه أكوانا    ... وأعيانا وأزمانا
وليس بدائم فينا   ... ولكن ذاك أحيانا
ومما يدل على ما ذكرناه في أمر النفخ الروحاني مع صورة البشر العنصري هو أن الحق وصف نفسه بالنفس الرحماني ولا بد لكل موصوف بصفة أن يتبع الصفة جميع ما تستلزمه تلك الصفة.
وقد عرفت أن النفس في المتنفس ما يستلزمه.
فلذلك قبل النفس الإلهي صور العالم.
فهو لها كالجوهر الهيولاني، وليس إلا عين الطبيعة.
فالعناصر صورة من صور الطبيعة.
وما فوق العناصر وما تولد عنها فهو أيضا من صور الطبيعة وهي الأرواح العلوية التي فوق السموات السبع.
وأما أرواح السموات السبع و أعيانها فهي عنصرية، فإنها من دخان العناصر المتولد عنها، و ما تكون عن كل سماء من الملائكة فهو منها، فهم عنصريون و من فوقهم طبيعيون: و لهذا وصفهم الله بالاختصام أعني الملأ الأعلى لأن الطبيعة متقابلة، و التقابل الذي في الأسماء الإلهية التي هي النسب، إنما أعطاه النفس.
ألا ترى الذات الخارجة عن هذا الحكم كيف جاء فيها الغنى عن العالمين؟.
فلهذا أخرج العالم على صورة من أوجدهم، وليس إلا النفس الإلهي.
فبما فيه من الحرارة علا، وبما فيه من البرودة والرطوبة سفل، وبما فيه من اليبوسة ثبت ولم يتزلزل. فالرسوب للبرودة والرطوبة.
ألا ترى الطبيب إذا أراد سقي دواء لأحد ينظر في قارورة مائه، فإذا رآه راسا علم أن النضج قد كمل فيسقيه الدواء ليسرع في النجح.
وإنما يرسب لرطوبته وبرودته الطبيعية.
ثم إن هذا الشخص الإنساني عجن طينته بيديه وهما متقابلتان و إن كانت كلتا يديه يمينا فلا خفاء بما بينهما من الفرقان، و لو لم يكن إلا كونهما اثنين أعني يدين، لأنه لا يؤثر في الطبيعة إلا ما يناسبها و هي متقابلة.
فجاء باليدين: ولما أوجده باليدين سماه بشرا للمباشرة اللائقة بذلك الجناب باليدين المضافتين إليه.
وجعل ذلك من عنايته بهذا النوع الإنساني فقال لمن أبى عن السجود له «ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت» على من هو مثلك- يعني عنصريا أم كنت من العالين عن العنصر ولست كذلك.
ويعني بالعالين من علا بذاته عن أن يكون في نشأته النورية عنصريا وإن كان طبيعيا.
فما فضل الإنسان غيره من الأنواع العنصرية إلا بكونه بشرا من طين، فهو أفضل نوع من كل ما خلق من العناصر من غير مباشرة.
والإنسان في الرتبة فوق الملائكة الأرضية والسماوية، والملائكة العالون خير من هذا النوع الإنساني بالنص الإلهي.
فمن أراد أن يعرف النفس الإلهي فليعرف العالم فإنه من عرف نفسه عرف ربه الذي ظهر فيه: أي العالم ظهر في نفس الرحمن الذي نفس الله به عن الأسماء الإلهية ما تجده من عدم ظهور آثارها.
فامتن على نفسه بما أوجده في نفسه، فأول أثر كان للنفس إنما كان في ذلك الجناب، ثم لم يزل الأمر ينزل بتنفيس العموم إلى آخر ما وجد.
فالكل في عين النفس ... كالضوء في ذات الغلس
والعلم بالبرهان في ... سلخ النهار لمن نعس
فيرى الذي قد قلته ... رؤيا تدل على النفس
فيريحه من كل غم ... في تلاوته «عبس»
ولقد تجلى للذي ... قد جاء في طلب القبس
فرآه نارا وهو نور ... في الملوك و في العسس
فإذا فهمت مقالتي ... تعلم بأنك مبتئس
لو كان يطلب غير ذا ... لرآه فيه وما نكس
وأما هذه الكلمة العيسوية لما قام لها الحق في مقام «حتى نعلم» ويعلم، استفهما عما نسب إليها هل هو حق أم لا مع علمه الأول بهل وقع ذلك الأمر أم لا فقال له «أ أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله».
فلا بد في الأدب من الجواب للمستفهم لأنه لما تجلى له في هذا المقام وهذه الصورة اقتضت الحكمة الجواب في التفرقة بعين الجمع، فقال: وقدم التنزيه «سبحانك» فحدد بالكاف التي تقتضي المواجهة والخطاب «ما يكون لي» من حيث أنا لنفسي دونك «أن أقول ما ليس لي بحق» أي ما تقتضيه هويتي ولا ذاتي.
«إن كنت قلته فقد علمته» لأنك أنت القائل، ومن قال أمرا فقد علم ما قال، وأنت اللسان الذي أتكلم به كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه في الخبر الإلهي فقال «كنت لسانه الذي يتكلم به».
فجعل هويته عين لسان المتكلم، ونسب الكلام إلى عبده.
ثم تمم العبد الصالح الجواب بقوله «تعلم ما في نفسي» والمتكلم الحق، ولا أعلم ما فيها. فنفى العلم عن هوية عيسى من حيث هويته لا من حيث إنه قائل وذو أثر.
«إنك أنت» فجاء بالفصل والعماد تأكيدا للبيان واعتمادا عليه، إذ لا يعلم الغيب إلا الله.
ففرق وجمع، ووحد وكثر، ووسع وضيق ثم قال متمما للجواب «ما قلت لهم إلا ما أمرتني به» فنفى أولا مشيرا إلى أنه ما هو.
ثم أوجب القول أدبا مع المستفهم، ولو لم يفعل ذلك لاتصف بعدم علم الحقائق وحاشاه من ذلك، فقال «إلا ما أمرتني به» وأنت المتكلم على لساني وأنت لساني.
فانظر إلى هذه التنبئة الروحية الإلهية ما ألطفها وأدقها، «أن اعبدوا الله» فجاء بالاسم «الله» لاختلاف العباد في العبادات واختلاف الشرائع، لم يخص اسما خاصا دون اسم، بل جاء بالاسم الجامع للكل.
ثم قال «ربي وربكم»، ومعلوم أن نسبته إلى موجود ما بالربوبية ليست عين نسبته إلى موجود آخر، فلذلك فصل بقوله «ربي وربكم» بالكنايتين كناية المتكلم وكناية المخاطب.
«إلا ما أمرتني به» فأثبت نفسه مأمورا وليست سوى عبوديته، إذ لا يؤمر إلا من يتصور منه الامتثال وإن لم يفعل.
ولما كان الأمر ينزل بحكم المراتب، لذلك ينصبغ كل من ظهر في مرتبة ما بما تعطيه حقيقة تلك المرتبة:
فمرتبة المأمور لها حكم يظهر في كل مأمور، ومرتبة الآمر لها حكم يبدو في كل آمر.
فيقول الحق «أقيموا الصلاة» فهو الآمر والمكلف والمأمور.
ويقول العبد «رب اغفر لي» فهو الآمر والحق المأمور.
فما يطلب الحق من العبد بأمره هو بعينه يطلبه العبد من الحق بأمره.
ولهذا كان كل دعاء مجابا ولا بد، وإن تأخر كما يتأخر بعض المكلفين ممن أقيم مخاطبا بإقامة الصلاة فلا يصلي في وقت فيؤخر الامتثال ويصلي في وقت آخر إن كان متمكنا من ذلك. فلا بد من الاجابة و لو بالقصد.
ثم قال «وكنت عليهم» ولم يقل على نفسي معهم كما قال ربي وربكم. «شهيدا ما دمت فيهم» لأن الأنبياء
شهداء على أممهم ما داموا فيهم.
«فلما توفيتني»: أي رفعتني إليك وحجبتهم عني وحجبتني عنهم «كنت أنت الرقيب عليهم» في غير مادتي، بل في موادهم إذ كنت بصرهم الذي يقتضي المراقبة.
فشهود الإنسان نفسه شهود الحق إياه.
وجعله بالاسم الرقيب لأنه جعل الشهود له فأراد أن يفصل بينه و بين ربه حتى يعلم أنه هو لكونه عبدا وأن الحق هو الحق لكونه ربا له، فجاء لنفسه بأنه شهيد و في الحق بأنه رقيب، وقدمهم في حق نفسه فقال «عليهم شهيدا ما دمت فيهم» إيثارا لهم في التقدم وأدبا، وأخرهم في جانب الحق عن الحق في قوله «الرقيب عليهم» لما يستحقه الرب من التقديم بالرتبة.
ثم أعلم أن للحق الرقيب الاسم الذي جعله عيسى لنفسه وهو الشهيد في قوله عليهم شهيدا. فقال «وأنت على كل شي ء شهيد».
فجاء «بكل» للعموم و«بشيء» لكونه أنكر النكرات.
وجاء بالاسم الشهيد، فهو الشهيد على كل مشهود بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود. فنبه على أنه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى حين قال «وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم».
فهي شهادة الحق في مادة عيسوية كما ثبت أنه لسانه وسمعه وبصره.
ثم قال كلمة عيسوية ومحمدية: أما كونها عيسوية فإنها قول عيسى بإخبار الله عنه في كتابه، وأما كونها محمدية فلموقعها من محمد صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي وقعت منه، فقام بها ليلة كاملة يرددها لم يعدل إلى غيرها حتى مطلع الفجر.
«إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم».
و«هم» ضمير الغائب كما أن «هو» ضمير الغائب.
كما قال «هم الذين كفروا» بضمير الغائب، فكان الغيب سترا لهم عما يراد بالمشهود الحاضر.
فقال «إن تعذبهم» بضمير الغائب وهو عين الحجاب الذي هم فيه عن الحق.
فذكرهم الله قبل حضورهم حتى إذا حضروا تكون الخميرة قد تحكمت في العجين فصيرته مثلها.
«فإنهم عبادك» فأفرد الخطاب للتوحيد الذي كانوا عليه.
ولا ذلة أعظم من ذلة العبيد لأنهم لا تصرف لهم في أنفسهم.
فهم بحكم ما يريده بهم سيدهم ولا شريك له فيهم فإنه قال «عبادك» فأفرد.
والمراد بالعذاب إذلالهم ولا أذل منهم لكونهم عبادا.
فذواتهم تقتضي أنهم أذلاء، فلا تذلهم فإنك لا تذلهم بأدون مما هم فيه من كونهم عبيدا.
«وإن تغفر لهم» أي تسترهم عن إيقاع العذاب الذي يستحقونه بمخالفتهم أي تجعل لهم غفرا يسترهم عن ذلك ويمنعهم منه.
«فإنك أنت العزيز» أي المنيع الحمى.
وهذا الاسم إذا أعطاه الحق لمن أعطاه من عباده تسمى الحق بالمعز، والمعطى له هذا الاسم بالعزيز.
فيكون منيع الحمى عما يريد به المنتقم والمعذب من الانتقام والعذاب.
وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ولتكون الآية على مساق واحد في قوله «إنك أنت علام الغيوب» وقوله «كنت أنت الرقيب عليهم».
فجاء أيضا «فإنك أنت العزيز الحكيم».
فكان سؤالا من النبي عليه السلام وإلحاحا منه على ربه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر يرددها طلبا للإجابة.
فلو سمع الإجابة في أول سؤال ما كرر.
فكان الحق يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب عرضا مفصلا فيقول له في عرض عرض وعين عين «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم».
فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه لدعا عليهم لا لهم.
فما عرض عليه إلا ما استحقوا به ما تعطيه هذه الآية من التسليم لله والتعريض لعفوه.
وقد ورد أن الحق إذا أحب صوت عبده في دعائه إياه أخر الاجابة عنه حتى يتكرر ذلك منه حبا فيه لا إعراضا عنه، ولذلك جاء بالاسم الحكيم، والحكيم هو الذي يضع الأشياء مواضعها ولا يعدل بها عما تقتضيه وتطلبه حقائقها بصفاتها.
فالحكيم العليم بالترتيب.
فكان صلى الله عليه وسلم بترداد هذه الآية على علم عظيم من الله تعالى.
فمن تلا فهكذا يتلو، وإلا فالسكوت أولى به.
وإذا وفق الله عبدا إلى النطق بأمر ما فما وفقه الله إليه إلا وقد أراد إجابته فيه وقضاء حاجته، فلا يستبطئ أحد ما يتضمنه ما وفق له، وليثابر مثابرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الآية في جميع أحواله حتى يسمع بأذنه أو بسمعه كيف شئت أو كيف أسمعك الله الاجابة.
فإن جازاك بسؤال اللسان أسمعك بأذنك، وإن جازاك بالمعنى أسمعك بسمعك.

قلت قوله : من ماء مريم أو من نفخ جبرئيل في صورة البشر الموجود من طين
يعني أن الله تعالى خلق من ماء مريم ومن نفخ جبرئیل عیسی ، عليهما السلام، في صورة أبيه آدم، فإنه الموجود من طين.
قوله: أو المراد الواو كما قال: "أو یزیدون" (الصافات: 147).

البيت الثاني: تكون الروح إلى آخره. یعنی أن روح عیسی مطهرة من ظلمة الطبيعة التي تدعوها "بسجین"   وسجین اسم من أسماء دار الفجار. 
وأقول: إن هناك اعتبارا آخر يكون فيه الأجسام أكمل من الأرواح وأثبت في الوجود الإلهي.
البيت الثالث : لأجل ذلك قد طالت إقامته فيها إلى آخره، يعني لأجل كون الروح تكون من ذات مطهرة طال عمر عیسی علیه السلام، فهو إلى الآن حي وقد زاد على ألف سنة من تاريخ تكون روحه. 
البيت الرابع: روح من الله لا من غيره إلى آخره، يعني لما كانت روح عیسی، عليه السلام، هي من الله لا من غيره لا جرم أحيا الموتى وخلق من الطين طائرا فنفخ فيه فعاش. 
والبيت الخامس: "حتى يصح له من ربه نسب إلى آخره، يعني بذلك النسب، يكون التأثير في العالي وفي الدون.
البيت السادس: الله طهره جسما ونزهه روحا وصيره مثلا بتکوین، یعنی طهر جسمه ونزه روحه عن الطبيعة وصيره بالتكوين مثلا له في إحياء الموتی وجميع ما أتی به إلى أبيات الشعر التي يقول فيها: فلولاه ولولانا، لا يحتاج إلى شرح، لوضوحه وإن كان غريب المسلك.
قوله : فلولاه و لولانا لما كان الذي كانا
يعني لولا لاهوته تعالى لما أحيا عيسى الموتى وإبراء الأكمة والأبرص 
ولولانا سوتنا وهو قسط عيسى من أمه، لما حصل التواضع من عيسى 
حتى قال لأصحابه: إذا لطمك على خدك فأدر له الخد الآخر وإذا أخذ رداءك فزده قميصك وإذا سخرك ميلا فامض معه ميلين، 
فصح قوله: فلولاه ولولانا لما كان هذا الوصفان التواضع والرفعة.
قوله: 
فإنا أعبد حقا   ….. وأن الله مولانا 
يعني بال" أعبد"، الأعيان الثابتة وهي الممکنات عنده.
قوله: 
وإنا عينه فاعلم   ….. إذا ما قلت إنسانا 
يعني أنه إنما سمي الإنسان إنسانا لأنه إنسان عين الحق وقد تقدم ذكر  ذلك في كلمة آدم عليه السلام.
قوله: 
فلا تحجب بإنسان  …… فقد أعطاك برهانا
يعني لا تستبعد أن يكون الإنسان هو إنسان عین الحق فقد أعطاك برهانا على ذلك. ذكره في حكمة آدم، عليه السلام، وفي غيرها.
قوله: 
فكن حقا وكن خلقا   …… تکن بالله رحمانا
يعني" فصرح في نفسك بأنك حق خلق باعتبار الأسماء الكونية والأسماء الإلهية التي فيك بما أنت إنسان فتصير بذلك رحمانا أي جامعا لوجودات المراتب.
قوله: 
وغذ خلقه منه     …… تکن روحا وريحانا
يعني ما تقدم مما ذكره أن الخلق غذاء الحق وبالعكس وقد تقدم ذكر ذلك. قال: وإذا صرت غذاء فأنت الروح له والريحان.
قوله: 
فأعطيناه ما يبدو   ….. به فينا وأعطانا 
يعني أن ظهورنا في وجوده أعطيناه به أنه الآخر والظاهر من كوننا آخرا وظاهرين وأعطانا هو الوجود فإن الوجود له لا لنا. 
قوله: 
فصار الأمر مقسوما  ……. بإياه وإيانا
یعنی صارت الحضرة الإلهية مجموع الأسماء الكونية والأسماء الإلهية وهي منا ومنه.
قوله: 
فأحياه الذي أدري     ….. بقلبي حين أحيانا
وأحياه الذي أدري أي ظهورنا أحياه، أي أحيا له اسما كالخالق المتحصل من المخلوق والرازق المتحصل من المرزوق وحصول حياته لو كانت حين حصلت لنا الحياة منه.
قوله: 
فكنا فيه أقواتا    …. وأعيانا وأزمانا 
يعني بالأقوات " ما تقدم من الغذاء ويعني بالأعيان ظهوراتنا بأزمانها.
قوله: 
وليس بدائم فينا   … ولكن ذاك أحيانا 
يعني لا يدوم لنا هذا الشهود أي أنه غذاؤنا ونحن غذاؤه، وأنا أحييناه كما هو أحيانا، فإن هذا إنما يظهر في بعض الأوقات. وأقول: إن الشهود إذا حصل لا يتغير وأما توهم الشهود، فهو الذي يتغير وما تجلي الله لشيء، فاحتجب عنه بعد ذلك.
قوله: 
ومما يدل على ما ذكرناه في أمر النفخ الروحاني إلى آخره. 
يعني أن الحق تعالی وصف نفسه بأن له نفسا فتناسب أن يكون منه النفخ، إذ النفخ هو ضرب من النفس. 
قال: وبالنفخ كانت الطبيعة والعناصر والمولدات بل وأرواح السماوات وأعيانها وهي عنصرية، فإنها من دخان العناصر إشارة إلى قوله تعالى:
"ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها" (فصلت: 11) يعني من حقيقة هذا الدخان.
قال: وملائكة ذلك عنصريون 
قال: ومن فوقهم طبيعيون، 
قال: ولذلك وصفهم بالاختصام في ایرادهم أن الملأ الأعلى يختصمون 
ثم ذكر أن التقابل الذي بين الأسماء ليس هو من هذا القبيل بل من النفس الرحماني، وهذا عندي فيه توقف، لأن النفس وحداني فلا يعطي التقابل 
وإنما التقابل الأسمائي عرضي من حركة النفس. 
وأما الغني عن العالمين، فهو في مقام «کنت کنزا لم أعرف" 


وهو بعينه الذي عرف ثم أخذ ينسب إلى الإنسان وقوع الاختلاف في أخلاقه وأحواله، وإنما هو للاختلاف الذي بين اليدين إشارة إلى قوله تعالى: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " (ص: 75) .
فكونهما يدين اثنين دل على اختلاف طبيعة الإنسان، وأما احتقاره بالعنصريات فما يقدر أن يرد عليه، 
وكذلك جعل الملائكة العالين أفضل من الإنسان لا نوافقه فيه " ولا نرد عليه 
وأما العالين الذين قيل فيهم: "أستكبرت أم كنت من العالين" (ص: 75) فما أراد إلا على المكان.
وأما المكانة فالإنسان أعلى مرتبة منهم وأما كون النفس به نفس الله تعالی کرب الأسماء، فالأسماء الإلهية لا توصف بالكرب.


"" أضاف الجامع :
 من الفص الشعيبي شرح الشيخ التلمساني  "قال: ولما كان الإيجاد رحمة، فهو أول رحمة وسعت كل شيء، فشملت الرحمة أسمائه الحسنى حيث حصل لها بالايجاد عالما نفس من كرب الأسماء الإلهية باعطائها ما طلبته من حقائق العالم."
 
وتقول د. سعاد الحكيم في المعجم الصوفي :
" ولهذا الكرب تنفس، فنسب النفس إلى الرحمن، لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية، من إيجاد صور العالم، التي قلنا هي: ظاهر الحق، إذ هو الظاهر. . . فلما أوجد الصور في النفس وظهر سلطان النسب المعبر عنها بالأسماء. . . " (فصوص 1/ 112).
نستخلص منه ما يلي:
1 - أن الجملة " ولهذا الكرب تنفس " تفيدنا وجود الكرب من جهة، والتنفس الذي اعطى المرتبة اسمه النفس من جهة ثانية.
- " فالكرب ": موجود على مستوى الأسماء الإلهية، التي تطلب الكون لظهور ربوبيتها.
يقول: " فأول ما نفسّ عن الربوبية بنفسه، المنسوب إلى: الرحمن، بإيجاده العالم الذي تطلبه الربوبية بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهية. . . " (فصوص 1/ 119).
- و " التنفس ": الذي وقع، كانت صورته: " العماء "، من حيث إن العماء الذي هو السحاب يتولد من الأبخرة، ونفس الرحمن، بخار رحماني.أهـ .""
 
قوله: 
فالكل في عين النفس   …… كالضوء في ذات الغلس
يعني حضرة الحق وحضرة الخلق كلها في ذات النفس، وعنده أن النفس هو من الحق تعالى وهو ضوء، وحضرة الإمكان التي هي الخلق جعلها كالغلس .
هذا ما هو ذوق التوحيد، لأن الضوء هو وجود وهو يوجد فإن نسبته إلى أنه ضوء والإمكان غلس.
فالإمكان ما ينتفي بالنور وجعل البرهان انسلاخ النهار، لأنه جعل الضوء کاقبال النهار وجعل الإمكان انسلاخ النهار فكما أن اقبال النهار يعطي ظهور الضوء، وانسلاخه يعطي عدمها.
ويعني بقوله: لمن نعس، يعني ألا ترى انسلاخ النهار كيف يعطي النوم وهو إشارة إلى العدم.
وأما قوله: في تلاوته عبس، فهو إشارة إلى قوله تعالى: "أو يذكر فتنفعه الذكرى" (عبس: 4) .
يعني فإذا تذكر كيف الأمر استراح، لأنه يشهد سر القدر وقد تقدم كيف يستريح بذلك.
قوله: ولقد تجلى، يعني موسی فرآها نارا وهي نور وأراد بالمبتئس الفقير
قوله: لو كان يطلب غیر ذا، لوجده في ذاته.
 
قوله: وأما هذه الكلمة العيسوية لما قام لها الحق في مقام حتى يعلم ونعلم، يعني أنه مقام" لعيسى في مقام قوله تعالى: "لنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منگم والصابرين (محمد: 31) .
وهو مقام معلوم أي يكون الحق تعالى يعلم الأمر على ما هو عليه ومع ذلك يستفهم عنه لتقوم حجته على العباد بالمعاينة .
فهذا هو المقام الذي عامل به الحق تعالی عیسی علیه السلام، في قوله:"أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"  (المائدة: 116) مع علمه تعالی بما قال.
وقد التزم" عيسى عليه السلام، الأدب في كونه أجاب مع علمه أن الله تعالی عالم بالحال غیر محتاج إلى الجواب.
لكن حيث يسئله فلا بد أن يجيب في التفرقة، لأن السؤال إنما يقع في لسان التفرقة لكونه عليه السلام، يعلم أن التفرقة هي عين الجمع.
لأن السؤال كان مع العلم فالجمع حاصل والذي يقتضيه هويته أنه ليس له من الأمر شيء .
وعلل کونه تعالى يعلم بأنه هو القائل واللسان نفسه .
ولي في هذا المعنى أبيات: 
شهدت نفسك فينا وهي واحدة    ….. كثيرة ذات أوصاف وأسماء
ونحن فيك شهدنا بعد كثرتنا     …… عينا بها اتحد المرآئی والرائي
فأول أنت من قبل الظهور لنا  ……. وآخر عند عود النازح النای
وظاهر في سواد العين أشهده  ….. وباطن في امتیازاتی واخفاء
أنت الملقن سري ما أفوه به   …… أنت نطقي والمصغي لنجواي
وهو قول الشيخ رضي الله عنه: 
وأنت اللسان الذي اتكلم به واستشهد بقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما ذكره إلى آخر الحكمة ظاهر.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني    شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:03 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني 

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
«إنه» يعني الكتاب «من سليمان، وإنه» أي مضمون الكتاب «بسم الله الرحمن الرحيم».
فأخذ بعض الناس في تقديم اسم سليمان على اسم الله تعالى ولم يكن كذلك.
وتكلموا في ذلك بما لا ينبغي مما لا يليق بمعرفة سليمان عليه السلام بربه.
وكيف يليق ما قالوه وبلقيس تقول فيه «ألقي إلي كتاب كريم» أي يكرم عليها.
وإنما حملهم على ذلك ربما تمزيق كسرى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما مزقه حتى قرأه كله وعرف مضمونه.
فكذلك كانت تفعل بلقيس لو لم توفق لما وقفت له.
فلم يكن يحمي الكتاب عن الإحراق لحرمة صاحبه تقديم اسمه عليه السلام على اسم الله عز وجل ولا تأخيره.
فأتى سليمان بالرحمتين: رحمة الامتنان ورحمة الوجوب اللتان هما الرحمن الرحيم.
فامتن بالرحمن وأوجب بالرحيم.
وذا الوجوب من الامتنان.
فدخل الرحيم في الرحمن دخول تضمن.
فإنه كتب على نفسه الرحمة سبحانه ليكون ذلك للعبد بما ذكره الحق من الأعمال التي يأتي بها هذا العبد، حقا على الله تعالى أوجبه له على نفسه يستحق بها هذه الرحمة- أعني رحمة الوجوب.
ومن كان من العبيد بهذه المثابة فإنه يعلم من هو العامل منه.
والعمل مقسم على ثمانية أعضاء من الإنسان.
وقد أخبر الحق أنه تعالى هوية كل عضو منها، فلم يكن العامل غير الحق، والصورة للعبد، و الهوية مدرجة فيه أي في اسمه لا غير لأنه تعالى عين ما ظهر.
وسمي خلقا وبه كان الاسم الظاهر والآخر للعبد، وبكونه لم يكن ثم كان.
وبتوقف ظهوره عليه وصدور العمل منه كان الاسم الباطن والأول.
فإذا رأيت الخلق رأيت الأول والآخر والظاهر والباطن.
وهذه معرفة لا يغيب عنها سليمان، بل هي من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، يعني الظهور به في عالم الشهادة.
فقد أوتي محمد صلى الله عليه وسلم ما أوتيه سليمان، وما ظهر به: فمكنه الله تعالى تمكين قهر من العفريت الذي جاءه بالليل ليفتك به فهم بأخذه وربطه بسارية من سواري المسجد حتى يصبح فتلعب به ولدان المدينة، فذكر دعوة سليمان عليه السلام فرده الله خاسئا.
فلم يظهر عليه السلام بما أقدر عليه وظهر بذلك سليمان.
ثم قوله «ملكا» فلم يعم، فعلمنا أنه يريد ملكا ما.
ورأيناه قد شورك في كل جزء من الملك الذي أعطاه الله، فعلمنا أنه ما اختص إلا بالمجموع من ذلك، وبحديث العفريت، أنه ما اختص إلا بالظهور.
وقد يختص بالمجموع والظهور.
ولو لم يقل صلى الله عليه وسلم في حديث العفريت «فأمكنني الله منه» لقلنا إنه لما هم بأخذه ذكره الله دعوة سليمان ليعلم أنه لا يقدره الله على أخذه، فرده الله خاسئا.
فلما قال فأمكنني الله منه علمنا أن الله تعالى قد وهبه التصرف فيه.
ثم إن الله ذكره فتذكر دعوة سليمان فتأدب معه، فعلمنا من هذا أن الذي لا ينبغي لأحد من الخلق بعد سليمان الظهور بذلك في العموم.
وليس غرضنا من هذه المسألة إلا الكلام والتنبيه على الرحمتين اللتين ذكرهما سليمان في الاسمين اللذين تفسيرهما بلسان العرب الرحمن الرحيم.
فقيد رحمة الوجوب وأطلق رحمة الامتنان في قوله تعالى «ورحمتي وسعت كل شيء» حتى الأسماء الإلهية، أعني حقائق النسب.
فامتن عليها بنا.
فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء الإلهية والنسب الربانية.
ثم أوجبها على نفسه بظهورنا لنا وأعلمنا أنه هويتنا لنعلم أنه ما أوجبها على نفسه إلا لنفسه.
فما خرجت الرحمة عنه.
فعلى من امتن وما ثم إلا هو؟
إلا أنه لا بد من حكم لسان التفصيل لما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم، حتى يقال إن هذا أعلم من هذا مع أحدية العين.
ومعناه معنى نقص تعلق الإرادة عن تعلق العلم، فهذه مفاضلة في الصفات الإلهية، كمال تعلق الإرادة وفضلها وزيادتها على تعلق القدرة.
وكذلك السمع والبصر الإلهي.
وجميع الأسماء الإلهية على درجات في تفاضل بعضها على بعض.
كذلك تفاضل ما ظهر في الخلق من أن يقال هذا أعلم من هذا مع أحدية العين.
وكما أن كل اسم إلهي إذا قدمته سميته بجميع الأسماء ونعته بها، كذلك فيما يظهر من الخلق فيه أهلية كل ما فوضل به.
فكل جزء من العالم مجموع العالم، أي هو قابل للحقائق متفرقات العالم كله، فلا يقدح قولنا إن زيدا دون عمرو في العلم أن تكون هوية الحق عين زيد وعمرو، وتكون في عمرو أكمل وأعلم منه في زيد، كما تفاضلت الأسماء الإلهية وليست غير الحق.
فهو تعالى من حيث هو عالم أعم في التعلق من حيث ما هو مريد وقادر، وهو هو ليس غيره.
فلا تعلمه هنا يا ولي وتجهله هنا، وتثبته هنا وتنفيه هنا إلا إن أثبته بالوجه الذي أثبت نفسه، ونفيته عن كذا بالوجه الذي نفى نفسه كالآية الجامعة للنفي والإثبات في حقه حين قال «ليس كمثله شيء» فنفى، «وهو السميع البصير» فأثبت بصفة تعم كل سامع بصير من حيوان وما ثم إلا حيوان إلا أنه بطن في الدنيا عن إدراك بعض الناس، وظهر في الآخرة لكل الناس، فإنها الدار الحيوان، وكذلك الدنيا إلا أن حياتها مستورة عن بعض العباد ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد الله بما يدركونه من حقائق العالم.
فمن عم إدراكه كان الحق فيه أظهر في الحكم ممن ليس له ذلك العموم.
فلا تحجب بالتفاضل وتقول لا يصح كلام من يقول إن الخلق هوية الحق بعد ما أريتك التفاضل في الأسماء الإلهية التي لا تشك أنت أنها هي الحق ومدلولها المسمى بها وليس إلا الله تعالى.
ثم إنه كيف يقدم سليمان اسمه على اسم الله كما زعموا وهو من جملة من أوجدته الرحمة: فلا بد أن يتقدم الرحمن الرحيم ليصح استناد المرحوم.
هذا عكس الحقائق: تقديم من يستحق التأخير وتأخير من يستحق التقديم في الموضع الذي يستحقه.
ومن حكمة بلقيس وعلو علمها كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب، وما عملت ذلك إلا لتعلم أصحابها أن لها اتصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها، وهذا من التدبير الإلهي في الملك، لأنه إذا جهل طريق الإخبار الواصل للملك خاف أهل الدولة على أنفسهم في تصرفاتهم، فلا يتصرفون إلا في أمر إذا وصل إلى سلطانهم عنهم يأمنون غائلة ذلك التصرف.
فلو تعين لهم على يدي من تصل الأخبار إلى ملكهم لصانعوه وأعظموا له الرشا حتى يفعلوا ما يريدون ولا يصل ذلك إلى ملكهم.
فكان قولها «ألقي إلي» ولم تسم من ألقاه سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواص مدبريها، وبهذا استحقت التقدم عليهم.
وأما فضل العالم من الصنف الإنساني على العالم من الجن بأسرار التصريف وخواص الأشياء، فمعلوم بالقدر الزماني: فإن رجوع الطرف إلى الناظر به أسرع من قيام القائم من مجلسه، لأن حركة البصر في الإدراك إلى ما يدركه أسرع من حركة الجسم فيما يتحرك منه، فإن الزمان الذي يتحرك فيه البصر عين الزمان الذي يتعلق بمبصره مع بعد المسافة بين الناظر والمنظور : فإن زمان فتح البصر زمان تعلقه بفلك الكواكب الثابتة، وزمان رجوع طرفه إليه هو عين زمان عدم إدراكه.
والقيام من مقام الإنسان ليس كذلك: أي ليس له هذه السرعة.
فكان آصف ابن برخيا أتم في العمل من الجن، فكان عين قول آصف بن برخيا عين الفعل في الزمن الواحد.
فرأى في ذلك الزمان بعينه سليمان عليه السلام عرش بلقيس مستقرا عنده لئلا يتخيل أنه أدركه وهو في مكانه من غير انتقال، ولم يكن عندنا باتحاد الزمان انتقال، وإنما كان إعدام وإيجاد من حيث لا يشعر أحد بذلك إلا من عرفه وهو قوله تعالى «بل هم في لبس من خلق جديد.
ولا يمضي عليهم وقت لا يرون فيه ما هم راءون له.
وإذا كان هذا كما ذكرناه، فكان زمان عدمه (أعني عدم العرش) من مكانه عين وجوده عند سليمان، من تجديد الخلق مع الأنفاس.
ولا علم لأحد بهذا القدر، بل الإنسان لا يشعر به من نفسه أنه في كل نفس لا يكون ثم يكون.
ولا تقل «ثم» تقتضي المهلة، فليس ذلك بصحيح، وإنما «ثم» تقتضي تقدم الرتبة العلية عند العرب في مواضع مخصوصة كقول الشاعر :
كهز الرديني  ثم اضطرب و زمان الهز عين زمان
اضطراب المهزوز بلا شك. وقد جاء بـ "ثم" ولا مهلة.
كذلك تجديد الخلق مع الأنفاس: زمان العدم زمان وجود المثل كتجديد الأعراض في دليل الأشاعرة.
فإن مسألة حصول عرش بلقيس من أشكال المسائل إلا عند من عرف ما ذكرناه آنفا في قصته. فلم يكن لآصف من الفضل في ذلك إلا حصول التجديد في مجلس سليمان عليه السلام.
فما قطع العرش مسافة، ولا زويت له أرض ولا خرقها لمن فهم ما ذكرناه.
وكان ذلك على يدي بعض أصحاب سليمان ليكون أعظم لسليمان عليه السلام في نفوس الحاضرين من بلقيس وأصحابها.
وسبب ذلك كون سليمان هبة الله تعالى لداود من قوله تعالى «ووهبنا لداود سليمان».
والهبة عطاء الواهب بطريق الإنعام لا بطريق الوفاق أو الاستحقاق.
فهو النعمة السابغة والحجة البالغة والضربة الدامغة.
وأما علمه فقوله تعالى «ففهمناها سليمان» مع نقيض الحكم، وكلا آتاه الله حكما وعلما.
فكان علم داود علما مؤتى آتاه الله، وعلم سليمان علم الله في المسألة إذ كان الحاكم بلا واسطة. فكان سليمان ترجمان حق في مقعد صدق.
كما أن المجتهد المصيب لحكم الله الذي يحكم به الله في المسألة لو تولاها بنفسه أو بما يوحي به لرسوله له أجران، والمخطئ لهذا الحكم المعين له أجر مع كونه علما وحكما.
فأعطيت هذه الأمة المحمدية رتبة سليمان عليه السلام في الحكم، ورتبة داود عليه السلام.
فما أفضلها من أمة.
ولما رأت بلقيس عرشها مع علمها ببعد المسافة واستحالة انتقاله في تلك المدة عندها، «قالت كأنه هو»، وصدقت بما ذكرناه من تجديد الخلق بالأمثال، وهو هو، وصدق الأمر، كما أنك في زمان التجديد عين ما أنت في الزمن الماضي.
ثم إنه من كمال علم سليمان التنبيه الذي ذكره في الصرح.
فقيل لها «ادخلي الصرح» وكان صرحا أملس لا أمت فيه من زجاج.
فلما رأته حسبته لجة أي ماء، «وكشفت عن ساقيها».
حتى لا يصيب الماء ثوبها.
فنبهها بذلك على أن عرشها الذي رأته من هذا القبيل، وهذا غاية الانصاف.
فإنه أعلمها بذلك إصابتها في قولها «كأنه هو».
فقالت عند ذلك «رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان»:
أي إسلام سليمان: «لله رب العالمين».
فما انقادت لسليمان وإنما انقادت لله رب العالمين، وسليمان من العالمين.
فما تقيدت في انقيادها كما لا تتقيد الرسل في اعتقادها في الله، بخلاف فرعون فإنه قال «رب موسى وهارون»، وإن كان يلحق بهذا الانقياد البلقيسي من وجه، ولكن لا يقوى قوته فكانت أفقه من فرعون في الانقياد لله وكان فرعون تحت حكم الوقت حيث قال «آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل».
فخصص، وإنما خصص لما رأى السحرة قالوا في إيمانهم بالله «رب موسى وهارون».
فكان إسلام بلقيس إسلام سليمان إذ قالت «مع سليمان» فتبعته.
فما يمر بشيء من العقائد إلا مرت به معتقدة ذلك.
كما نحن على الصراط المستقيم الذي الرب عليه لكون نواصينا في يده.
ويستحيل مفارقتنا إياه.
فنحن معه بالتضمين، وهو معنا بالتصريح، فإنه قال «وهو معكم أين ما كنتم».
ونحن معه بكونه آخذا بنواصينا.
فهو تعالى مع نفسه حيثما مشى بنا من صراطه.
فما أحد من العالم الا على صراط مستقيم، وهو صراط الرب تعالى.
وكذا علمت بلقيس من سليمان فقالت «لله رب العالمين» وما خصصت عالما من عالم.
وأما التسخير الذي اختص به سليمان وفضل به غيره وجعله الله له من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده فهو كونه عن أمره.
فقال «فسخرنا له الريح تجري بأمره».
فما هو من كونه تسخيرا، فإن الله يقول في حقنا كلنا من غير تخصيص «وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه».
وقد ذكر تسخير الرياح والنجوم وغير ذلك ولكن لا عن أمرنا بل عن أمر الله.
فما اختص سليمان إن عقلت إلا بالأمر من غير جمعية ولا همة، بل بمجرد الأمر.
وإنما قلنا ذلك لأنا نعرف أن أجرام العالم تنفعل لهمم النفوس إذا أقيمت في مقام الجمعية.
وقد عاينا ذلك في هذا الطريق.
فكان من سليمان مجرد التلفظ بالأمر لمن أراد تسخيره من غير همة ولا جمعية.
واعلم أيدنا الله وإياك بروح منه، أن مثل هذا العطاء إذا حصل للعبد أي عبد كان فإنه لا ينقصه ذلك من ملك آخرته، ولا يحسب عليه، مع كون سليمان عليه السلام طلبه من ربه تعالى.
فيقتضي ذوق الطريق أن يكون قد عجل له ما ادخر لغيره ويحاسب به إذا أراده في الآخرة.
فقال الله له «هذا عطاؤنا» ولم يقل لك ولا لغيرك، «فامنن» أي أعط «أو أمسك بغير حساب».
فعلمنا من ذوق الطريق أن سؤاله ذلك كان عن أمر ربه.
والطلب إذا وقع عن الأمر الإلهي كان الطالب له الأجر التام على طلبه.
والباري تعالى إن شاء قضى حاجته فيما طلب منه وإن شاء أمسك، فإن العبد قد وفى ما أوجب الله عليه من امتثال أمره فيما سأل ربه فيه، فلو سأل ذلك من نفسه عن غير أمر ربه له بذلك لحاسبه به.
وهذا سار في جميع ما يسأل فيه الله تعالى، كما قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم «قل رب زدني علما».
فامتثل أمر ربه فكان يطلب الزيادة من العلم حتى كان إذا سيق له لبن يتأوله علما كما تأول رؤياه لما رأى في النوم أنه أوتي بقدح لبن فشربه وأعطى فضله عمر بن الخطاب.
قالوا فما أولته قال العلم.
وكذلك لما أسري به أتاه الملك بإناء فيه لبن وإناء فيه خمر فشرب اللبن فقال له الملك أصبت الفطرة أصاب الله بك أمتك.
فاللبن متى ظهر فهو صورة العلم، فهو العلم تمثل في صورة اللبن كجبريل تمثل في صورة بشر سوي لمريم.
ولما قال عليه السلام "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " نبه على أنه كل ما يراه الإنسان في حياته الدنيا إنما هو بمنزلة الرؤيا للنائم: خيال فلا بد من تأويله.
إنما الكون خيال ... وهو حق في الحقيقة
والذي يفهم هذا ... حاز أسرار الطريقة
فكان صلى الله عليه وسلم إذا قدم له لبن قال «اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه» لأنه كان يراه صورة العلم، وقد أمر بطلب الزيادة من العلم، وإذا قدم له غير اللبن قال اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه.
فمن أعطاه الله ما أعطاه بسؤال عن أمر إلهي فإن الله لا يحاسبه به في الدار الآخرة، ومن أعطاه الله ما أعطاه بسؤال عن غير أمر إلهي فالأمر فيه إلى الله، إن شاء حاسبه وإن شاء لم يحاسبه.
وأرجو من الله في العلم خاصة أنه لا يحاسبه به.
فإن أمره لنبيه عليه السلام يطلب الزيادة من العلم عين أمره لأمته: فإن الله يقول «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة».
وأي أسوة أعظم من هذا التأسي لمن عقل عن الله تعالى.
ولو نبهنا على المقام السليماني على تمامه لرأيت أمرا يهولك الاطلاع عليه فإن أكثر علماء هذه الطريقة جهلوا حالة سليمان ومكانته وليس الأمر كما زعموا.


قلت : قال بعضهم: إنما كتب سليمان عليه السلام، اسمه قبل اسم الله تعالى في قوله: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (الروم: 27) 
خوفا على اسم الله تعالى من الإحراق   فإن عوائد الجبابرة من الملوك أن يهينوا المرسل بتمزيق أول اسم في كتابه.
فأراد سليمان، عليه السلام، أن يكون التمزيق في اسمه لا في اسم الله تعالى.
فلذلك قدمه وأخر ذكر اسم الله تعالی. 
قال، رضي الله عنه: ليس الأمر كما قالوه وإن أوهم تمزيق کسری کتاب النبي عليه السلام ، صدق من من توهم ذلك.
ثم ذكر أن ذكر سليمان الرحمن الرحيم هو إرادة إبراز حکم الرحمتین 
أما الأولى، فهو قوله الرحمن وهذه هي رحمة الامتنان. 
 قال: والرحمة الأخرى، هي التي كتبها على نفسه بقوله تعالى: "كتب ربكم على نفسه الرحمة " [الأنعام: 54] وبسط القول في ذلك.
واعلم أن هذا الكلام من الشيخ، رضي الله عنه، ليس هو من حضرة المعرفة بل من حضرة العلم إلا اليسير من كلامه وذلك اليسير غیر مخلص، لأنه، رضي الله عنه، راعى فيه مراتب عقول المحجوبين.
لأنه، عليه السلام قال: خذ هذا فاخرج به للناس والمعرفة لا يليق بالناس وإنما يليق بهم العلم. 
وأما العارفون فهم صفات الله تعالی عن شهود منهم، 
لذلك فالشيخ قد أطال وبين فلا نحتاج نحن إلى زيادة شرح.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني    شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالسبت يناير 11, 2020 12:24 am

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني 

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية
اعلم أنه لما كانت النبوة والرسالة اختصاصا إلهيا ليس فيها شيء من الاكتساب:
أعني نبوة التشريع، كما كانت عطاياه تعالى لهم عليهم السلام من هذا القبيل مواهب ليست جزاء: ولا يطلب عليها منهم جزاء.
فإعطاؤه إياهم على طريق الإنعام والإفضال. فقال تعالى ووهبنا له إسحاق ويعقوب يعني لإبراهيم الخليل عليه السلام.
وقال في أيوب «ووهبنا له أهله ومثلهم معهم»، وقال في حق موسى «ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا» إلى مثل ذلك.
فالذي تولاهم أولا هو الذي تولاهم في عموم أحوالهم أو أكثرها، وليس إلا اسمه الوهاب.
وقال في حق داود «ولقد آتينا داود منا فضلا» فلم يقرن به جزاء يطلبه منه، ولا أخبر أنه أعطاه هذا الذي ذكره جزاء.
ولما طلب الشكر على ذلك العمل طلبه من آل داود ولم يتعرض لذكر داود ليشكره الآل على ما أنعم به على داود.
فهو في حق داود عطاء نعمة وإفضال، وفي حق آله على غير ذلك لطلب المعاوضة فقال تعالى «اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور».
وإن كانت الأنبياء عليهم السلام قد شكروا الله على ما أنعم به عليهم ووهبهم، فلم يكن ذلك على طلب من الله، بل تبرعوا بذلك من نفوسهم كما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه شكرا لما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
فلما قيل له في ذلك قال «أفلا أكون عبدا شكورا»؟
وقال في نوح «إنه كان عبدا شكورا».
فالشكور من عباد الله تعالى قليل.
فأول نعمة أنعم الله بها على داود عليه السلام أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتصال، فقطعه عن العالم بذلك إخبارا لنا عنه بمجرد هذا الاسم، وهي الدال والألف والواو.
وسمى محمدا صلى الله عليه وسلم بحروف الاتصال والانفصال، فوصله به وفصله عن العالم فجمع له بين الحالين في اسمه كما جمع لداود بين الحالين من طريق المعنى، ولم يجعل ذلك في اسمه، فكان ذلك اختصاصا لمحمد على داود عليهما السلام، أعني التنبيه عليه باسمه.
فتم له الأمر عليه السلام من جميع جهاته، وكذلك في اسمه أحمد، فهذا من حكمة الله تعالى.
ثم قال في حق داود- فيما أعطاه على طريق الإنعام عليه- ترجيع الجبال معه التسبيح، فتسبح لتسبيحه ليكون له عملها. وكذلك الطير.
وأعطاه القوة و نعته بها، وأعطاه الحكمة و فصل الخطاب.
ثم المنة الكبرى والمكانة الزلفى التي خصه الله بها التنصيص على خلافته.
ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه وإن كان فيهم خلفاء فقال «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى» أي ما يخطر لك في حكمك من غير وحي مني «فيضلك عن سبيل الله».
أي عن الطريق الذي أوحي بها إلى رسلي.
ثم تأدب سبحانه معه فقال «إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب» ولم يقل له فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد.
فإن قلت وآدم عليه السلام قد نص على خلافته.
قلنا ما نص مثل التنصيص على داود، وإنما قال للملائكة «إني جاعل في الأرض خليفة»، ولم يقل إني جاعل آدم خليفة في الأرض.
ولو قال، لم يكن مثل قوله «جعلناك خليفة» في حق داود، فإن هذا محقق وذلك ليس كذلك.
وما يدل ذكر آدم في القصة بعد ذلك على أنه عين ذلك الخليفة الذي نص الله عليه. فاجعل بالك لإخبارات الحق عن عباده إذا أخبر.
وكذلك في حق إبراهيم الخليل «إني جاعلك للناس إماما» ولم يقل خليفة، وإن كنا نعلم أن الإمامة هنا خلافة، ولكن ما هي مثلها، لأنه ما ذكرها بأخص أسمائها وهي الخلافة.
ثم في داود من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم، وليس ذلك إلا عن الله فقال له فاحكم بين الناس بالحق، وخلافة آدم قد لا تكون من هذه المرتبة: فتكون خلافته أن يخلف من كان فيها قبل ذلك، لا أنه نائب عن الله في خلقه بالحكم الإلهي فيهم، وإن كان الأمر كذلك وقع، ولكن ليس كلامنا إلا في التنصيص عليه والتصريح به.
ولله في الأرض خلائف عن الله، وهم الرسل.
وأما الخلافة اليوم فعن الرسول لا عن الله، فإنهم ما يحكمون إلا بما شرع لهم الرسول لا يخرجون عن ذلك.
غير أن هنا دقيقة لا يعلمها إلا أمثالنا، وذلك في أخذ ما يحكمون به مما هو شرع للرسول عليه السلام.
فالخليفة عن الرسول من يأخذ الحكم بالنقل عنه
صلى الله عليه و سلم أو بالاجتهاد الذي أصله أيضا منقول عنه صلى الله عليه وسلم.
وفينا من يأخذه عن الله فيكون خليفة عن الله بعين ذلك الحكم، فتكون المادة له من حيث كانت المادة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
فهو في الظاهر متبع لعدم مخالفته في الحكم، كعيسى إذا نزل فحكم، وكالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في قوله «أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده»، وهو في حق ما يعرفه من صورة الأخذ مختص موافق، هو فيه بمنزلة ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم من شرع من تقدم من الرسل بكونه قرره فاتبعناه من حيث تقريره لا من حيث إنه شرع لغيره قبله.
وكذلك أخذ الخليفة عن الله عين ما أخذه منه الرسول.
فنقول فيه بلسان الكشف خليفة الله وبلسان الظاهر خليفة رسول الله.
ولهذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نص بخلافة عنه إلى أحد.
ولا عينه لعلمه أن في أمته من يأخذ الخلافة عن ربه فيكون خليفة عن الله مع الموافقة في الحكم المشروع.
فلما علم ذلك صلى الله عليه وسلم لم يحجر الأمر.
فلله خلفاء في خلقه يأخذون من معدن الرسول والرسل ما أخذته الرسل عليهم السلام، ويعرفون فضل المتقدم هناك لأن الرسول قابل للزيادة: وهذا الخليفة ليس بقابل للزيادة التي لو كان الرسول قبلها.
فلا يعطي من العلم والحكم فيما شرع إلا ما شرع للرسول خاصة، فهو في الظاهر متبع غير مخالف، بخلاف الرسل.
ألا ترى عيسى عليه السلام لما تخيلت اليهود أنه لا يزيد على موسى، مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرسول، آمنوا به وأقروه:
فلما زاد حكما أو نسخ حكما قد قرره موسى لكون عيسى رسولا لم يحتملوا ذلك لأنه خالف اعتقادهم فيه؟
وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه فطلبت قتله، فكان من قصته ما أخبرنا الله في كتابه العزيز عنه وعنهم.
فلما كان رسولا قبل الزيادة، إما بنقص حكم قد تقرر، أو زيادة حكم.
على أن النقص زيادة حكم بلا شك.
والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب وإنما تنقص أو تزيد على الشرع الذي تقرر بالاجتهاد لا على الشرع الذي شوفه به محمد صلى الله عليه وسلم، فقد يظهر من الخليفة ما يخالف حديثا ما في الحكم فيتخيل أنه من الاجتهاد وليس كذلك: وإنما هذا الامام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو ثبت لحكم به.
وإن كان الطريق فيه العدل عن العدل فما هو معصوم من الوهم ولا من النقل على المعنى.
فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم، وكذلك يقع من عيسى عليه السلام، فإنه إذا نزل يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرر فيبين برفعه صورة الحق المشروع الذي كان عليه عليه السلام، ولا سيما إذا تعارضت أحكام الأئمة في النازلة الواحدة.
فنعلم قطعا أنه لو نزل وحي لنزل بأحد الوجوه، فذلك هو الحكم الإلهي.
وما عداه وإن قرره الحق فهو شرع تقرير لرفع الحرج عن هذه الأمة واتساع الحكم فيها.
وأما قوله عليه السلام إذا بويع الخليفتين فاقتلوا الآخر منهما هذا في الخلافة الظاهرة التي لها السيف.
وإن اتفقا فلا بد من قتل أحدهما.
بخلاف الخلافة المعنوية فإنه لا قتل فيها.
وإنما جاء القتل في الخلافة الظاهرة وإن لم يكن لذلك الخليفة هذا المقام، وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عدل فمن حكم الأصل الذي به تخيل وجود إلهين، «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا»، وان اتفقا: فنحن نعلم أنهما لو اختلفا تقديرا لنفذ حكم أحدهما، فالنافذ الحكم هو الإله على الحقيقة، والذي لم ينفذ حكمه ليس بإله.
ومن هنا نعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم أنه حكم الله عز وجل، وإن خالف الحكم المقرر في الظاهر المسمى شرعا إذ لا ينفذ حكم إلا لله في نفس الأمر، لأن الأمر الواقع في العالم إنما هو على حكم المشيئة الإلهية لا علم حكم الشرع المقرر، وإن كان تقريره من المشيئة.
ولذلك نفذ تقريره خاصة فإن المشيئة ليست لها فيه إلا التقرير لا العمل بما جاء به.
فالمشيئة سلطانها عظيم، ولهذا جعلها أبو طالب عرش الذات، لأنها لذاتها تقتضي الحكم.
فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع خارجا عن المشيئة، فإن الأمر الإلهي إذا خولف هنا بالمسمى معصية، فليس إلا الأمر بالواسطة لا الأمر التكويني.
فما خالف الله أحد قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة، فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة فافهم.
وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل لا على من ظهر على يديه، فيستحيل ألا يكون.
ولكن في هذا المحل الخاص، فوقتا يسمى به مخالفة لأمر الله، ووقتا يسمى موافقة وطاعة لأمر الله.
ويتبعه لسان الحمد أو الذم على حسب ما يكون.
ولما كان الأمر في نفسه على ما قررناه، لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة على اختلاف أنواعها.
فعبر عن هذا المقام بأن الرحمة وسعت كل شيء، وأنها سبقت الغضب الإلهي.
والسابق متقدم، فإذا لحقه هذا الذي حكم عليه المتأخر حكم عليه المتقدم فنالته الرحمة إذ لم يكن غيرها سبق.
فهذا معنى سبقت رحمته غضبه، لتحكم على ما وصل إليها فإنها في الغاية وقفت والكل سالك إلى الغاية.
فلا بد من الوصول إليها، فلا بد من الوصول إلى الرحمة ومفارقة الغضب، فيكون الحكم لها في كل واصل إليها بحسب ما تعطيه حال الواصل إليها.
فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلناه ... وإن لم يكن فهم فيأخذه عنا
فما ثم إلا ما ذكرناه فاعتمد ... عليه وكن بالحال فيه كما كنا
فمنه إلينا ما تلونا عليكم ... ومنا إليكم ما وهبناكم منا
وأما تليين الحديد فقلوب قاسية يلينها الزجر والوعيد تليين النار الحديد.
وإنما الصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة، فإن الحجارة تكسرها وتكلسها النار ولا تلينها.
وما ألان له الحديد إلا لعمل الدروع الواقية تنبيها من الله: أي لا يتقى الشيء إلا بنفسه، لأن الدرع يتقى بها السنان والسيف والسكين والنصل، فاتقيت الحديد بالحديد.
فجاء الشرع المحمدي بأعوذ بك منك، فافهم، فهذا روح تليين الحديد فهو المنتقم الرحيم والله الموفق.
قلت : استفتح كلامه في معنى قوله تعالى لداود، عليه السلام: ولقد آتينا داود منا فضلا (سبأ: 10) ولم يقل جزاء بل عطاء منه وموهبة .
ولذلك لم يأمره بالشكر بل قال اعملوا آل داود شكرا، وآل داود غیر داود 
قال: وشكر الأنبياء لربهم تبارك وتعالى، هو تبرع منهم ولم يكلفوا به، ثم ذكر أمورا ظاهرة من كلامه، ومن جملتها ما ذكره من قوله تعالى: "وألنا له الحديد" (سبأ: 10) إن الحديد هنا هي قلوب قاسية كالحديد فألانها الله تعالى لداود حتى اطاعته تلك القلوب.
"وألنا له الحديد" إن الحديد هنا هي قلوب "بعض" العباد قاسية كالحديد فألانها الله تعالی لداود حتى اطاعته تلك القلوب.. الباقي معناه ظاهر
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني    شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالأحد يناير 19, 2020 6:15 pm

18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني 

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليونسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية
اعلم أن هذه النشأة الانسانية بكمالها روحا وجسما ونفسا خلقها الله على صورته، فلا يتولى حل نظامها إلا من خلقها، إما بيده وليس إلا ذلك أو بأمره.
ومن تولاها بغير أمر الله فقد ظلم نفسه وتعدى حد الله فيها وسعى في خراب من أمره الله بعمارته.
وأعلم أن الشفقة على عباد الله أحق بالرعاية من الغيرة في الله.
أراد داود بنيان البيت المقدس فبناه مرارا، فكلما فرغ منه تهدم، فشكا ذلك إلى الله فأوحى الله إليه أن بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدماء، فقال داود يا رب أ لم يكن ذلك في سبيلك؟ قال بلى! ولكنهم أليسوا عبادي؟
قال يا رب فاجعل بنيانه على يدي من هو مني، فأوحى الله إليه أن ابنك سليمان يبنيه.
فالغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الانسانية، وأن إقامتها أولى من هدمها.
ألا ترى عدو الدين قد فرض الله في حقهم الجزية والصلح إبقاء عليهم، وقال «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله»؟
ألا ترى من وجب عليه القصاص كيف شرع لولي الدم أخذ الفدية أو العفو، فإن أبى حينئذ يقتل؟
ألا تراه سبحانه إذا كان أولياء الدم جماعة فرضي واحد بالدية أو عفا، و باقي الأولياء لا يريدون إلا القتل، كيف يراعى من عفا و يرجح على من لم يعف فلا يقتل قصاصا؟
ألا تراه عليه السلام يقول في صاحب النسعة «إن قتله كان مثله»؟
ألا تراه يقول «وجزاء سيئة سيئة مثلها؟» فجعل القصاص سيئة، أي يسوء ذلك الفعل مع كونه مشروعا.
«فمن عفا وأصلح فأجره على الله» لأنه على صورته.
فمن عفا عنه ولم يقتله فأجره على من هو على صورته لأنه أحق به إذ أنشأه له، وما ظهر بالاسم الظاهر إلا بوجوده فمن راعاه إنما يراعي الحق.
وما يذم الإنسان لعينه وإنما يذم الفعل منه، وفعله ليس عينه، وكلامنا في عينه.
ولا فعل إلا الله، ومع هذا ذم منها ما ذم وحمد منها ما حمد.
ولسان الذم على جهة الغرض مذموم عند الله.
فلا مذموم إلا ما ذمه الشرع، فإن ذم الشرع لحكمة يعلمها الله أو من أعلمه الله، كما شرع القصاص للمصلحة إبقاء لهذا النوع وإرداعا للمعتدي حدود الله فيه.
«ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب» وهم أهل لب الشيء الذين عثروا على سر لنواميس الإلهية والحكمية.
وإذا علمت أن الله راعى هذه النشأة وإقامتها فأنت أولى بمراعاتها إذ لك بذلك السعادة، فإنه ما دام الإنسان حيا، يرجى له تحصيل صفة الكمال الذي خلق له.
ومن سعى في هدمه فقد سعى في منع وصوله لما خلق له.
وما أحسن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أنبئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربون رقابكم؟ ذكر الله».
وذلك أنه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانية إلا من ذكر الله الذكر المطلوب منه، فإنه تعالى جليس من ذكره، والجليس مشهود للذاكر.
ومتى لم يشاهد الذاكر الحق الذي هو جليسه فليس بذاكر.
فإن ذكر الله سار في جميع العبد لا من ذكره بلسانه خاصة.
فان الحق لا يكون في ذلك الوقت إلا جليس اللسان خاصة، فيراه اللسان من حيث لا يراه الإنسان: بما هو راء وهو البصر.
فافهم هذا السر في ذكر الغافلين.
فالذاكر من الغافل حاضر بلا شك، والمذكور جليسه، فهو يشاهده.
والغافل من حيث غفلته ليس بذاكر: فما هو جليس الغافل.
فالإنسان كثير ما هو أحدى العين، والحق أحدى العين كثير بالأسماء الإلهية:
كما أن الإنسان كثير بالأجزاء: وما يلزم من ذكر جزء ما ذكر جزء آخر.
فالحق جليس الجزء الذاكر منه والآخر متصف بالغفلة عن الذكر.
ولا بد أن يكون في الإنسان جزء يذكر به يكون الحق جليس ذلك الجزء فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية.
وما يتولى الحق هدم هذه النشاة بالمسمى موتا، وليس بإعدام وإنما هو تفريق، فيأخذه إليه، وليس المراد إلا أن يأخذه الحق إليه، «وإليه يرجع الأمر كله» فإذا أخذه إليه سوى له مركبا غير هذا المركب من جنس الدار التي ينتقل إليها، وهي دار البقاء لوجود الاعتدال:
فلا يموت أبدا، أي لا تفرق أجزاؤه.
وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم، ولكن في النار إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب أن تكون بردا وسلاما على من فيها. وهذا نعيمهم.
فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل الله حين ألقي في النار فإنه عليه السلام تعذب برؤيتها وبما تعود في علمه وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان. وما علم مراد الله فيها ومنها في حقه.
فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود الصورة اللونية في حقه، وهي نار في عيون الناس.
فالشيء الواحد يتنوع في عيون الناظرين: هكذا هو التجلي الإلهي.
فإن شئت قلت إن الله تجلى مثل هذا الأمر، وإن شئت قلت إن العالم في النظر إليه وفيه مثل الحق في التجلي، فيتنوع في عين الناظر بحسب مزاج الناظر أو يتنوع مزاج الناظر لتنوع التجلي: وكل هذا سائغ في الحقائق.
ولو أن الميت والمقتول أي ميت كان أو أي مقتول كانإذا مات أو قتل لا يرجع إلى الله، لم يقض الله بموت أحد ولا شرع قتله.
فالكل في قبضته: فلا فقدان في حقه.
فشرع القتل وحكم بالموت لعلمه بأن عبده لا يفوته: فهو راجع إليه على أن قوله «وإليه يرجع الأمر كله» أي فيه يقع التصرف، وهو المتصرف، فما خرج عنه شيء لم يكن عينه، بل هويته هو عين ذلك الشيء وهو الذي يعطيه الكشف في قوله «و إليه يرجع الأمر كله».
والتّوفيق من اللّه تعالى .
 


قلت : أما أن الحق تعالی خلق آدم على صورته، فهو حديث نبوي ومعناه
أن النشأة الإنسانية قد جمعت في ذاتها حقائق الأسماء الإلهية، فصارت بهذا على الصورة المقدسة، فلا يجوز لأحد أن يتعرض لفسادها 
قال: والشفقة على خلق الله أولى بالرعاية من الغيرة لله.
قال: فمنع الله داود، عليه السلام، فضيلة بناء بيت المقدس لأجل سفكه الدماء وإن كان غزوا لكنهم عباد الله في الجملة. 
قال: ومن شفقة الله تعالی علی الكفار قوله: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" (الأنفال: 61).
وقال: ومن الشفقة أخذ الدية مكان القتل وقبول العفو ولذلك لو عفى أحد الأولياء قدم على من لم يعف 
ولذلك قوله عليه السلام في الحديث المختص بالنسعة: إن قتله كان مثله 
وكذلك تسمية القصاص سيئة في قوله تعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها"  (الشورى: 40) 
قال: وذلك لرعاية صورة الحق، 
قال: وما يذم من الإنسان إلا فعله لا صورته.
ثم قال: إن الذاكر من هو جليس المذكور لا غير، فمن ذكر باللسان فقط فما فيه مشاهد للحق تعالى إلا لسانه، فلسانه هو الجليس وبقية الغافل فلیس بجلیس. 
وذكر رضي الله عنه: أن الحق تعالى يخلق للإنسان نشأة تبقى مناسبة لما ينتقل إليه بعد الموت. 
ثم ذكر أهل الشقاء وأن مآلهم إلى النعيم لكن في النار بها ويصير النار بردا وسلاما على من فيها كنعيم الخليل، عليه السلام بالنار حين ألقي فيها وعاين أن الحق تعالى هو عين الكل وهويته تحقيقه وإليه يرجع الأمر كله.


.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني    شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالإثنين يناير 27, 2020 4:38 pm

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني 

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الأيوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية
اعلم أن سر الحياة سرى في الماء فهو أصل العناصر والأركان، ولذلك جعل الله «من الماء كل شيء حي»: وما ثم شيء إلا وهو حي، فإنه ما من شيء إلا وهو يسبح بحمد الله ولكن لا نفقة تسبيحه إلا بكشف إلهي.
ولا يسبح إلا حي. فكل شيء حي. فكل شيء الماء أصله.
ألا ترى العرش كيف كان على الماء لأنه منه تكون فطفا عليه فهو يحفظه من تحته، كما أن الإنسان خلقه الله عبدا فتكبر على ربه وعلا عليه، فهو سبحانه مع هذا يحفظه من تحته بالنظر إلى علو هذا العبد الجاهل بنفسه، وهو قوله عليه السلام «لو دليتم بحبل لهبط على الله».
فأشار إلى نسبة التحت إليه كما أن نسبة الفوق إليه في قوله «يخافون ربهم من فوقهم»، «وهو القاهر فوق عباده». فله الفوق والتحت.
ولهذا ما ظهرت الجهات الست إلا بالإنسان، وهو على صورة الرحمن.
ولا مطعم إلا الله، وقد قال في حق طائفة «ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل»، ثم نكر وعم فقال «وما أنزل إليهم من ربهم»، فدخل في قوله «وما أنزل إليهم من ربهم» كل حكم منزل على لسان رسول أو ملهم، «لأكلوا من فوقهم» وهو المطعم من الفوقية التي نسبت إليه، «ومن تحت أرجلهم»، وهو المطعم من التحتية التي نسبها إلى نفسه على لسان رسوله المترجم عنه صلى الله عليه وسلم.
ولو لم يكن العرش على الماء ما انحفظ وجوده، فإنه بالحياة ينحفظ وجود الحي.
ألا ترى الحي إذا مات الموت العرفي تنحل أجزاء نظامه وتنعدم قواه عن ذلك النظم الخاص؟
قال تعالى لأيوب «اركض برجلك هذا مغتسل»، يعني ماء، «بارد» لما كان عليه من إفراط حرارة الألم، فسكنه الله ببرد الماء.
ولهذا كان الطب النقص من الزائد والزيادة في الناقص.
والمقصود طلب الاعتدال، ولا سبيل إليه إلا أنه يقاربه.
وإنما قلنا ولا سبيل إليه- أعني الاعتدال- من أجل أن الحقائق والشهود تعطي التكوين مع الأنفاس على الدوام، ولا يكون التكوين إلا عن ميل في الطبيعة يسمى انحرافا أو تعفينا وفي حق الحق إرادة وهي ميل إلى المراد الخاص دون غيره.
والاعتدال يؤذن بالسواء في الجميع، وهذا ليس بواقع، فلهذا منعنا من حكم الاعتدال.
وقد ورد في العلم الإلهي النبوي اتصاف الحق بالرضا والغضب، وبالصفات.
والرضا مزيل للغضب، والغضب مزيل للرضا عن المرضي عنه والاعتدال أن يتساوى الرضا والغضب، فما غضب الغاضب على من غضب عليه وهو عنه راض.
فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه وهو ميل.
وما رضي الراضي عمن رضي عنه وهو غاضب عليه، فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه وهو ميل.
وإنما قلنا هذا من أجل من يرى أن أهل النار لا يزال غضب الله عليهم دائما أبدا في زعمه .
فما لهم حكم الرضا من الله، فصح المقصود.
فإن كان كما قلنا مآل أهل النار إلى إزالة الآلام وإن سكنوا النار، فذلك رضا:
فزال الغضب لزوال الآلام إذا عين الألم عين الغضب إن فهمت.
فمن غضب فقد تأذى، فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه إلا ليجد الغاضب الراحة بذلك، فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه.
والحق إذا أفردته عن العالم يتعالى علوا كبيرا عن هذه الصفة على هذا الحد.
وإذا كان الحق هوية العالم، فما ظهرت الأحكام كلها إلا منه وفيه، وهو قوله «وإليه يرجع الأمر كله» حقيقة وكشفا «فاعبده و توكل عليه» حجابا وسترا .
فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم لأنه على صورة الرحمن، أوجده الله أي ظهر وجوده تعالى بظهور العالم كما ظهر الإنسان بوجود الصورة الطبيعية.
فنحن صورته الظاهرة، وهويته روح هذه الصورة المدبرة لها.
فما كان التدبير إلا فيه كما لم يكن إلا منه.
فـ هو «الأول» بالمعنى «والآخر» بالصورة وهو «الظاهر» بتغير الأحكام والأحوال، «والباطن» بالتدبير، «وهو بكل شيء عليم» فهو على كل شيء شهيد، ليعلم عن شهود لا عن فكر.
فكذلك علم الأذواق لا عن فكر وهو العلم الصحيح وما عداه فحدس وتخمين ليس بعلم أصلا.
ثم كان لأيوب عليه السلام ذلك الماء شرابا لإزالة ألم العطش الذي هو من النصب والعذاب الذي مسه به الشيطان، أي البعد عن الحقائق أن يدركها على ما هي عليه فيكون بإدراكها في محل القرب.
فكل مشهود قريب من العين ولو كان بعيدا بالمسافة.
فإن البصر يتصل به من حيث شهوده ولولا ذلك لم يشهده، أو يتصل المشهود بالبصر كيف كان.  فهو قرب بين البصر والمبصر.
ولهذا كنى أيوب في المس، فأضافه إلى الشيطان مع قرب المس فقال البعيد مني قريب لحكمه في.
وقد علمت أن البعد والقرب أمران إضافيان، فهما نسبتان لا وجود لهما في العين مع ثبوت أحكامها في البعيد والقريب.
واعلم أن سر الله في أيوب الذي جعله عبرة لنا وكتابا مسطورا حاليا تقرؤه هذه الأمة المحمدية لتعلم ما فيه فتلحق بصاحبه تشريفا لها.
فأثنى الله عليه- أعني على أيوب- بالصبر مع دعائه في رفع الضر عنه.
فعلمنا أن العبد إذا دعا الله في كشف الضر عنه لا يقدح في صبره وأنه صابر وأنه نعم العبد كما قال تعالى «إنه أواب» أي رجاع إلى الله لا إلى الأسباب، والحق يفعل عند ذلك بالسبب لأن العبد يستند إليه، إذ الأسباب المزيلة لأمر ما كثيرة والمسبب واحد العين.
فرجوع العبد إلى الواحد العين المزيل بالسبب ذلك الألم أولى من الرجوع إلى سبب خاص ربما لا يوافق علم الله فيه، فيقول إن الله لم.
فعمل أيوب بحكمة الله إذ كان نبيا، لما علم أن الصبر الذي هو حبس النفس عن الشكوى عند الطائفة، وليس ذلك بحد للصبر عندنا.
وإنما حده حبس النفس عن الشكوى لغير الله لا إلى الله.
فحجب الطائفة نظرهم في أن الشاكي يقدح بالشكوى في الرضا بالقضاء، وليس كذلك، فإن الرضا بالقضاء لا تقدح فيه الشكوى إلى الله ولا إلى غيره، وإنما تقدح في الرضا بالمقضي.
ونحن ما خوطبنا بالرضا بالمقضي.
والضر هو المقضي ما هو عين القضاء.
وعلم أيوب أن في حبس النفس عن الشكوى إلى الله في رفع الضر مقاومة القهر الإلهي، وهو جهل بالشخص إذ ابتلاه الله بما تتألم منه نفسه، فلا يدعو الله في إزالة ذلك الأمر المؤلم، بل ينبغي له عند المحقق أن يتضرع ويسأل الله في إزالة ذلك عنه، فإن ذلك إزالة عن جناب الله عند العارف صاحب الكشف: فإن الله قد وصف نفسه بأنه يؤذي فقال «إن الذين يؤذون الله ورسوله».
وأي أذى أعظم من أن يبتليك ببلاء عند غفلتك عنه أو عن مقام إلهي لا تعلمه لترجع إليه بالشكوى فيرفعه عنك، فيصح الافتقار الذي هو حقيقتك، فيرتفع عن الحق الأذى بسؤالك إياه في رفعه عنك، إذ أنت صورته الظاهرة.
كما جاع بعض العارفين فبكى فقال له في ذلك من لا ذوق له في هذا الفن معاتبا له، فقال العارف «إنما جوعني لأبكي».
يقول إنما ابتلاني بالضر لأسأله في رفعه عني، وذلك لا يقدح في كوني صابرا.
فعلمنا أن الصبر إنما هو حبس النفس عن الشكوى لغير الله، وأعني بالغير وجها خاصا من وجوه الله.
وقد عين الله الحق وجها خاصا من وجوه الله وهو المسمى وجه الهوية فتدعوه من ذلك الوجه في رفع الضر لا من الوجوه الأخر المسماة أسبابا، وليست إلا هو من حيث تفصيل الأمر في نفسه.
فالعارف لا يحجبه سؤاله هوية الحق في رفع الضر عنه عن أن تكون جميع الأسباب عينه من حيثية خاصة.
وهذا لا يلزم طريقته إلا الأدباء من عباد الله الأمناء على أسرار الله، فإن لله أمناء لا يعرفهم إلا الله ويعرف بعضهم بعضا.
وقد نصحناك فاعمل وإياه سبحانه فاسأل.
 
قلت : الشيخ، رضي الله عنه، عظم قدر الماء على بقية العناصر حيث جعله أصلها ولا شك أن الماء هو عالم الإرادة، والأشياء المرادة كلها أصلها من الماء، فهذه الحقيقة فيما تخص الأشياء المرادة، وإلا فالعلم ما هو من الإرادة بل هو أصل الإرادة والحياة ما هي من العلم ولا من الإرادة بل أصل العلم هو الحياة، لأن بها يكون الحس وبالحس يكون الإدراك.
قال: وكل شيء حي ومسبح بحمد الله ولا يفقه تسبيحه إلا أهل معرفة لغة الله، عز وجل، وأما كون العرش على الماء، فلكون العرش مرادا لأنه جسم.
قال: الحق تعالی تحت كل تحت بدليل قوله: «لو دليتم بحبل لسقط أو لهبط على الله» 
قال: وهو فوق الفوق بدليل قوله تعالى : يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (النحل: 50)، وهو القاهر فوق عباده (الأنعام: 18) فله الفوق والتحت.
 
ثم بعد قليل ذكر أن الطب طلب الاعتدال قال وهو غير واقع ونحن نقول: إن الأطباء قالوا: إنه غير واقع ولسنا نقول ذلك بل ما يكون موجود واحد إلا باعتدلال ما يخص ذلك الموجود.
 
فإن قلت: المراد هو الاعتدال المطلق. قلنا: ما لنا شيء مطلق إلا ما فاق الاعتدالات كلها ولا كل لها، إذ ليست متناهية وغير المتناهي ما له كل، فالذي يقتضيه الشهود أنه لا يقع في الوجود إلا الاعتدال لأن كل انحراف فهو اعتدال فإن الانحراف الذي يقتضي فساد صورة هو اعتداله يقتضي كون صورة أخرى ولا يلزم أن تكون الصورة المعدومة أنقص من الصورة المتجددة بانعدامها.
 
ثم إنا ما فسرنا الاعتدال بأنه السواء في الجميع، فإن السواء في الجميع يكون فيما له أجزاء متساوية والتساوي نسبي فقد يكون الربع مساويا للثلثين في تکوین موجود ما بحيث لو وضع من الثلثين أكثر أو أقل من الربع لما حصل تكوين ذلك الوجود الخاص.
وأما حكم الرضا والغضب في حق الله تعالى، فهما اعتباران في زمانين أو في زمان واحد باعتبارین أو باعتبارات.
 
ثم أشار أن الحق تعالى هو هوية العالم، قال: وإليه يرجع الأمر كله کشفا فاعبده وتوكل عليه سترا وهذا هو معنى قول صاحب المواقف عنه تعالى أنه قال رؤيتي لا تأمر ولا تنهى وغيبتي تأمر وتنهي.  
ثم قال كما قال الغزالي: (ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم)، فإن أراد بقوله هذا العالم العرش والكرسي والأفلاك التسعة إلى نقطة مركز الأرض، 
فقوله: ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم، هو قول موقوف في ذوقي . 
أما إن قال : ليس في الإمكان أبدع من العالم فيصدق، لأن العالم أكره "كثرة" غير متناهية وعوالمه غير متناهية وأنواع جزئياته غير متناهية فضلا عن جزئياته ،
وهذا الفتح ما رأيت شيخنا، رضي الله عنه، ألم بذكره ولا يمكن سواه ولا حق ينافيه والباطل هو كل شيء نافاه والحق يقول الحق.
وأما أن السؤال من الله تعالى أن يرفع الضر فمشروع في الحجاب ولا يقدح السؤال في حقيقة وجود الصبره وأما في عالم الكشف فيمتنع السؤال. 
 
فقد ورد في المناجاة" یا عبد طلبك مني وأنت لا تراني عبادة وطلبك مني وأنت تراني استهزاء. "
""  أضاف الجامع :  ورد في المواقف والمخاطبات لعبد الجبار النفرى : "
يا عبد إن لم تؤثرني على كل مجهول ومعلوم فكيف تنتسب إلى عبوديتي.
يا عبد كيف تقول حسبي الله وأنت تطمأن بالجهل على المجهول كما تطمأن على العلم بالمعلوم.
يا عبد طلبك مني أن أعلمك ما جهلت كطلبك أن أجهلك ما علمت فلا تطلب مني أكفك البتة".أهـ ""

 .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني    شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:38 am

20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني 

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليحيوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية
هذه حكمة الأولية في الأسماء، فإن الله سماه يحيى أي يحيا به ذكر زكريا.
و«لم نجعل له من قبل سميا» فجمع بين حصول الصفة التي فيمن غبر ممن ترك ولدا يحيا به ذكره وبين اسمه بذلك.
فسماه يحيى فكان اسمه يحيى كالعلم الذوقي، فإن آدم حيي ذكره بشيث ونوحا حيي ذكره بسام، وكذلك الأنبياء.
 
ولكن ما جمع الله لأحد قبل يحيى بين الاسم العلم منه وبين الصفة إلا لزكريا عناية منه إذ قال «فهب لي من لدنك وليا» فقدم الحق على ذكر ولده كما قدمت آسية ذكر الجار على الدار في قولها «عندك بيتا في الجنة» فأكرمه الله بأن قضى حاجته وسماه بصفته حتى يكون اسمه تذكارا لما طلب منه نبيه زكريا، لأنه عليه السلام آثر بقاء ذكر الله في عقبه إذ الولد سر أبيه، فقال «يرثني ويرث من آل يعقوب» وليس ثم موروث في حق هؤلاء إلا مقام ذكر الله والدعوة إليه.
 
ثم إنه بشره بما قدمه من سلامه عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.
فجاء بصفة الحياة وهي اسمه وأعلم بسلامه عليه، وكلامه صدق فهو مقطوع به، وإن كان قول الروح «والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا» أكمل في الاتحاد، فهذا أكمل في الاتحاد والاعتقاد وأرفع للتأويلات.
فإن الذي انخرقت فيه العادة في حق عيسى إنما هو النطق، فقد تمكن عقله وتكمل في ذلك الزمان الذي أنطقه الله فيه.
ولا يلزم للمتمكن من النطق على أي حالة كان الصدق فيما به ينطق، بخلاف المشهود له كيحيى.
 
فسلام الحق على يحيى من هذا الوجه أرفع للالتباس الواقع في العناية الإلهية به من سلام عيسى على نفسه، وإن كانت قرائن الأحوال تدل على قربه من الله في ذلك وصدقه، إذ نطق في معرض الدلالة على براءة أمه في المهد.
فهذا أحد الشاهدين، والشاهد الآخر هو الجذع اليابس فسقط رطبا جنيا من غير فحل ولا تذكير، كما ولدت مريم عيسى من غير فحل ولا ذكر ولا جماع عرفي معتاد، لو قال نبي آيتي ومعجزتي أن ينطق هذا الحائط، فنطق الحائط وقال في نطقه تكذب ما أنت رسول الله، لصحت الآية وثبت بها أنه رسول الله، ولم يلتفت إلى ما نطق به الحائط.
 
فلما دخل هذا الاحتمال في كلام عيسى بإشارة أمه إليه وهو في المهد، كان سلام الله على يحيى أرفع من هذا الوجه.
فموضع الدلالة أنه عبد الله من أجل ما قيل فيه إنه ابن الله وفرغت الدلالة بمجرد النطق وأنه عبد الله عند الطائفة الأخري القائلة بالنبوة.
وبقي ما زاد في حكم الاحتمال في النظر العقلي حتى ظهر في المستقبل صدقه في جميع ما أخبر به في المهد فتحقق ما أشرنا إليه.


قلت : قال رضي الله عنه، إنما سمي يحيى لما فيه من أحياء ذكر أبيه زکریا، فكانت لفظة واحدة تنبئ بالإحياء وبالتسمية وذكر ، رضي الله عنه، المفاضلة بين يحيى وبين عيسى، عليه السلام، بما يتضح من نفس كلامه.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني    شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:39 am

21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني 

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الزكرياوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
21 - فص حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما، وأن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب.
فسبقت رحمته غضبه أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه.
ولما كان لكل عين وجود يطلبه من الله، لذلك عمت رحمته كل عين، فإنه برحمته التي رحمه بها قبل رغبته في وجود عينه، فأوجدها.
فلذلك قلنا إن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما.
والأسماء الإلهية من الأشياء، وهي ترجع إلى عين واحدة.
فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ثم الشيئية المشار إليها، ثم شيئية كل موجود يوجد إلى ما لا يتناهى دنيا وآخرة، وعرضا وجوهرا، ومركبا وبسيطا.
ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع، بل الملائم وغير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا.
وقد ذكرنا في الفتوحات أن الأثر لا يكون إلا للمعدوم لا للموجود، وإن كان للموجود فبحكم المعدوم: وهو علم غريب ومسألة نادرة، ولا يعلم تحقيقها إلا أصحاب الأوهام، فذلك بالذوق عندهم.
وأما من لا يؤثر الوهم فيه فهو بعيد عن هذه المسألة.
فرحمة الله في الأكوان سارية ... وفي الذوات وفي الأعيان جارية
مكانة الرحمة المثلى إذا علمت ... من الشهود مع الأفكار عالية
فكل من ذكرته الرحمة فقد سعد، وما ثم إلا من ذكرته الرحمة.
وذكر الرحمة الأشياء عين إيجادها إياها. فكل موجود مرحوم.
ولا تحجب يا ولي عن إدراك ما قلناه بما ترى من أصحاب البلاء وما تؤمن به من آلام الآخرة التي لا تفتر عمن قامت به.  
واعلم أولا أن الرحمة إنما هي في الإيجاد عامة.
فبالرحمة بالآلام أوجد الآلام.
ثم إن الرحمة لها أثر بوجهين: أثر بالذات، وهو إيجادها كل عين موجودة.
ولا تنظر إلى غرض ولا إلى عدم غرض، ولا إلى ملائم ولا إلى غير ملائم: فإنها ناظرة في عين كل موجود قبل وجوده. بل تنظره في عين ثبوته، ولهذا رأت الحق المخلوق في الاعتقادات عينا ثابتة في العيون الثابتة فرحمته بنفسها بالإيجاد.
ولذلك قلنا إن الحق المخلوق في الاعتقادات أول شيء مرحوم بعد رحمتها نفسها في تعلقها بإيجاد الموجودين.
ولها أثر آخر بالسؤال، فيسأل المحجوبون الحق أن يرحمهم في اعتقادهم، وأهل الكشف يسألون رحمة الله أن تقوم بهم، فيسألونها باسم الله فيقولون يا الله ارحمنا.
ولا يرحمهم إلا قيام الرحمة بهم، فلها الحكم، لأن الحكم إنما هو في الحقيقة للمعنى القائم بالمحل.
فهو الراحم على الحقيقة. فلا يرحم الله عباده المعتنى بهم إلا بالرحمة، فإذا قامت بهم وجدوا حكمها ذوقا. فمن ذكرته الرحمة فقد رحم.
واسم الفاعل هو الرحيم والراحم.
والحكم لا يتصف بالخلق لأنه أمر توجبه المعاني لذواتها.
فالأحوال لا موجودة ولا معدومة، أي لا عين لها في الوجود لأنها نسب، ولا معدومة في الحكم لأن الذي قام به العلم يسمى عالما وهو الحال.
فعالم ذات موصوفة بالعلم، ما هو عين الذات ولا عين العلم، وما ثم إلا علم وذات قام بها هذا العلم.
وكونه عالما حال لهذه الذات باتصافها بهذا المعنى.
فحدثت نسبة العلم إليه، فهو المسمى عالما.
والرحمة على الحقيقة نسبة من الراحم، وهي الموجبة للحكم، وهي الراحمة.
والذي أوجدها في المرحوم ما أوجدها ليرحمه بها وإنما أوجدها ليرحم بها من قامت به.
وهو سبحانه ليس بمحل للحوادث، فليس بمحل لإيجاد الرحمة فيه.
وهو الراحم، ولا يكون الراحم راحما إلا بقيام الرحمة به. فثبت أنه عين الرحمة.
ومن لم يذق هذا الأمر ولا كان له فيه قدم ما اجترأ أن يقول إنه عين الرحمة أو عين الصفة، فقال ما هو عين الصفة ولا غيرها.
فصفات الحق عنده لا هي هو ولا هي غيره، لأنه لا يقدر على نفيها ولا يقدر أن يجعلها عينه، فعدل إلى هذه العبارة وهي حسنة، وغيرها أحق بالأمر منها وأرفع للإشكال، وهو القول بنفي أعيان الصفات وجودا قائما بذات الموصوف.
وإنما هي نسب وإضافات بين الموصوف بها وبين أعيانها المعقولة.
وإن كانت الرحمة جامعة فإنها بالنسبة إلى كل اسم إلهي مختلفة، فلهذا يسأل سبحانه أن يرحم بكل اسم إلهي.
فرحمة الله والكناية هي التي وسعت كل شيء.
ثم لها شعب كثيرة تتعدد بتعدد الأسماء الإلهية.
فما تعم بالنسبة إلى ذلك الاسم الخاص الإلهي في قول السائل رب ارحم، وغير ذلك من الأسماء.
حتى المنتقم له أن يقول يا منتقم ارحمني، وذلك لأن هذه الأسماء تدل على الذات المسماة، وتدل بحقائقها على معان مختلفة.
فيدعو بها في الرحمة من حيث دلالتها على الذات المسماة بذلك الاسم لا غير، لا بما يعطيه مدلول ذلك الاسم الذي ينفصل به عن غيره ويتميز.
فإنه لا يتميز عن غيره وهو عنده دليل الذات، وإنما يتميز بنفسه عن غيره لذاته، إذ المصطلح عليه بأي لفظ كان حقيقة متميزة بذاتها عن غيرها: وإن كان الكل قد سيق ليدل على عين واحدة مسماة.
فلا خلاف في أنه لكل اسم حكم ليس للآخر، فذلك أيضا ينبغي أن يعتبر كما تعتبر دلالتها على الذات المسماة.
ولهذا قال أبو القاسم بن قسي في الأسماء الإلهية إن كل اسم إلهي على انفراده مسمى بجميع الأسماء الإلهية كلها:
إذا قدمته في الذكر نعته بجميع الأسماء، وذلك لدلالتها على عين واحدة، وإن تكثرت الأسماء عليها واختلفت حقائقها، أي حقائق تلك الأسماء.
ثم إن الرحمة تنال على طريقين، طريق الوجوب، وهو قوله «فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة» وما قيدهم به من الصفات العلمية والعملية.
والطريق الآخر الذي تنال به هذه الرحمة طريق الامتنان الإلهي الذي لا يقترن به عمل وهو قوله «ورحمتي وسعت كل شيء» ومنه قيل «ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر»، ومنها قوله «اعمل ما شئت فقد غفرت لك» فاعلم ذلك.

قلت : قال رضي الله عنه: إن رحمة الله وسعت كل شيء ومن جملة الأشياء الغضب، فإذا غضب، تبارك وتعالى، فقد رحم الغضب حيث أحياها فقد رحم الغضب ورحم الرحمة بايجادها ورحم أسمائه الإلهية باظهار متعلقاتها في الوجود العيني والذهني معا ورحم الشيئية بكونه شاءها سواء كانت اعتدالية أو انحرافية.

قوله: وقد ذكرنا في الفتوحات: إن الحكم إنما هو للمعدوم. 
قلت: للمعدوم الممكن لا للمعدوم الممتنع، وكذلك حكم الموجود باعتبار معدوم ما وأما كون من لا يؤثر الوهم فيه فهو بعيد من هذه المسألة، فمن جهة أن توهم إمكان الموجود قبل وجودية" يستدعي بالذات ظهور ذلك الموجود فمن لا يعرف التوهم لا يفهم هذا الاقتضاء الخاص.
 
ثم قال: إن الايجاد رحمة ومنها ایجاد الآلام أي هو رحمة للآلام أنفسها وأستدام، رضي الله عنه، الكلام حتى انتهى إلى الذوات، فجعلها لا موجودة ولا معدومة وسبب ذلك أنه تعالى، 
إذا قلنا: إنه إنما يوجد ما يوجده رحمة منه 

فنقول: فالرحمة نفسها هو قد أوجدها فإن كان رحمها ثم أوجدها فقد كانت الرحمة فيه من حيث هي صفته، والتقدير إنها لم يكن موجودة فهي إذن موجودة لا موجودة فخرج القول إلى إثبات الذوات التي لا موجودة ولا معدومة، 
ثم تقرر أن قبول الحق تعالى للصفات إنما هو نسب واعتبارات وما بعد هذا واضح بنفسه 

.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني    شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس فبراير 20, 2020 12:40 am

22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني 

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
22 - فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية
إلياس هو إدريس كان نبيا قبل نوح، ورفعه الله مكانا عليا، فهو في قلب الأفلاك ساكن وهو فلك الشمس.
ثم بعث إلى قرية بعلبك، وبعل اسم صنم، وبك هو سلطان تلك القرية.
وكان هذا الصنم المسمى بعلا مخصوصا بالملك.
وكان إلياس الذي هو إدريس قد مثل له انفلاق الجبل المسمى لبنان من اللبنانة، وهي الحاجة عن فرس من نار، وجميع آلاته من نار.
فلما رآه ركب عليه فسقطت عنه الشهوة، فكان عقلا بلا شهوة، فلم يبق له تعلق بما تتعلق به الأعراض النفسية.
فكان الحق فيه منزها، فكان على النصف من المعرفة بالله، فإن العقل إذا تجرد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره، كانت معرفته بالله على التنزيه لا على التشبيه.
وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلي كملت معرفته بالله، فنزه في موضع و شبه في موضع، ورأى سريان الحق في الصور الطبيعية والعنصرية.
وما بقيت له صورة إلا ويرى عين الحق عينها.
وهذه المعرفة التامة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله، و حكمت بهذه المعرفة الأوهام كلها.
ولذلك كانت الأوهام أقوى سلطانا في هذه النشأة من العقول، لأن العاقل ولو بلغ في عقله ما بلغ لم يخل من حكم الوهم عليه والتصور فيما عقل.
فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه الصورة الكاملة الإنسانية، و به جاءت الشرائع المنزلة فشبهت و نزهت، شبهت في التنزيه بالوهم، و نزهت في التشبيه بالعقل.
فارتبط الكل بالكل، فلم يتمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه ولا تشبيه عن تنزيه: قال تعالى «ليس كمثله شيء» فنزه و شبه، «وهو السميع البصير» فشبه.
وهي أعظم آية تنزيه نزلت، ومع ذلك لم تخل عن التشبيه بالكاف.
فهو أعلم العلماء بنفسه، وما عبر عن نفسه إلا بما ذكرناه.
ثم قال «سبحان ربك رب العزة عما يصفون» وما يصفونه إلا بما تعطيه عقولهم.
فنزه نفسه عن تنزيههم إذ حدوده بذلك التنزيه، وذلك لقصور العقول عن إدراك مثل هذا.
ثم جاءت الشرائع كلها بما تحكم به الأوهام. فلم تخل عن صفة يظهر فيها.
كذا قالت، و بذا جاءت. فعملت الأمم على ذلك فأعطاها الحق التجلي فلحقت بالرسل وراثة ، فنطقت بما نطقت به رسل الله «الله أعلم حيث يجعل رسالته .
«فالله أعلم» موجه: له وجه بالخبرية إلى رسل الله، و له وجه بالابتداء إلى أعلم حيث يجعل رسالاته .
و كلا الوجهين حقيقة فيه، ولذلك قلنا بالتشبيه في التنزيه وبالتنزيه في التشبيه.
وبعد أن تقرر هذا فنرخي الستور و نسدل الحجب على عين المنتقد والمعتقد ، وإن كانا من بعض صور ما تجلى فيها الحق.
ولكن قد أمرنا بالستر ليظهر تفاضل استعداد الصور، وأن المتجلي في صورة بحكم استعداد تلك الصورة، فينسب إليه ما تعطيه حقيقتها و لوازمها لا بد من ذلك: مثل من يرى الحق في النوم ولا ينكر هذا وأنه لا شك الحق عينه فتتبعه لوازم تلك الصورة وحقائقها التي تجلى فيها في النوم، ثم بعد ذلك يعبر أي يجاز عنها إلى أمر آخر يقتضي التنزيه عقلا.
فإن كان الذي يعبرها ذا كشف و إيمان ، فلا يجوز عنها إلى تنزيه فقط، بل يعطيها حقها في التنزيه و مما ظهرت فيه.
فالله على التحقيق عبارة لمن فهم الإشارة.
وروح هذه الحكمة و فصها أن الأمر ينقسم إلى مؤثر و مؤثر فيه وهما عبارتان: فالمؤثر بكل وجه وعلى كل حال وفي كل حضرة و هو الله.
والمؤثر فيه بكل وجه و على كل حال و في كل حضرة هو العالم فإذا ورد.
فألحق كل شيء بأصله الذي يناسبه ، فإن الوارد أبدا لا بد أن يكون فرعا عن أصل كما كانت المحبة الإلهية عن النوافل من العبد .
فهذا أثر بين مؤثر و مؤثر فيه: و كما كان الحق سمع العبد وبصره و قواه عن هذه المحبة. فهذا أثر مقرر لا يقدر على إنكاره لثبوته شرعا إن كنت مؤمنا.
وأما العقل السليم، فهو إما صاحب تجل إلهي في مجلى طبيعي فيعرف ما قلناه، وإما مؤمن مسلم يؤمن به كما ورد في الصحيح.
ولا بد من سلطان الوهم أن يحكم على العاقل الباحث فيما جاء به الحق في هذه الصورة لأنه مؤمن بها.
وأما غير المؤمن فيحكم على الوهم بالوهم فيتخيل بنظره الفكري أنه قد أحال على الله ما أعطاه ذلك التجلي في الرؤيا، و الوهم في ذلك لا يفارقه من حيث لا يشعر لغفلته عن نفسه ، ومن ذلك قوله تعالى «ادعوني أستجب لكم».
قال تعالى «و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان» إذ لا يكون مجيبا إلا إذا كان من يدعوه، وإن كان عين الداعي عين المجيب.
فلا خلاف في اختلاف الصور، فهما صورتان بلا شك.
وتلك الصور كلها كالأعضاء لزيد: فمعلوم أن زيدا حقيقة واحدة شخصية، وأن يده ليست صورة رجله و لا رأسه ولا عينه ولا حاجبه.
فهو الكثير الواحد: الكثير بالصور ، الواحد بالعين.
وكالإنسان: واحد بالعين بلا شك. ولا نشك أن عمرا ما هو زيد ولا خالد ولا جعفر، وأن أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودا.
فهو و إن كان واحدا بالعين، فهو كثير بالصور والأشخاص .
وقد علمت قطعا إن كنت مؤمنا أن الحق عينه يتجلى يوم القيامة في صورة فيعرف، ثم يتحول في صورة فينكر، ثم يتحول عنها في صورة فيعرف، وهو المتجلي ليس غيره في كل صورة.
ومعلوم أن هذه الصورة ما هي تلك الصورة الأخرى: فكأن العين الواحدة قامت مقام المرآة، فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقده في الله عرفه فأقر به.
وإذا اتفق أن يرى فيها معتقد غيره أنكره، كما يرى في المرآة صورته وصورة غيره.
فالمرآة عين واحدة والصور كثيرة في عين الرائي، وليس في المرآة صورة منها جملة واحدة، مع كون المرآة لها أثر في الصور بوجه وما لها أثر بوجه: فالأثر الذي لها كونها ترد الصورة متغيرة الشكل من الصغر والكبر والطول والعرض، فلها أثر في المقادير، وذلك راجع إليها.
وإنما كانت هذه التغيرات منها لاختلاف مقادير المرائي: فانظر في المثال مرآة واحدة من هذه المرايا، لا تنظر الجماعة، وهو نظرك من حيث كونه ذاتا: فهو غني عن العالمين، ومن حيث الأسماء الإلهية فذلك الوقت يكون كالمرايا: فأي اسم إلهي نظرت فيه نفسك أو من نظر، فإنما يظهر في الناظر حقيقة ذلك الاسم: فهكذا هو الأمر إن فهمت .
فلا تجزع ولا تخف فإن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية، وليست الحية سوى نفسك.
والحية حية لنفسها بالصورة والحقيقة.
والشيء لا يقتل عن نفسه. و إن أفسدت الصورة في الحس فإن الحد يضبطها و الخيال لا يزيلها. و إذا كان الأمر على هذا فهذا هو الأمان على الذوات و العزة و المنعة، فإنك لا تقدر على فساد الحدود.
وأي عزة أعظم من هذه العزة؟ فتتخيل بالوهم أنك قتلت، وبالعقل و الوهم لم تزل الصورة موجودة في الحد .
والدليل على ذلك «و ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى» : والعين ما أدركت إلا الصورة المحمدية التي ثبت لها الرمي في الحس، وهي التي نفى الله الرمي عنها أولا ثم أثبته لها وسطا، ثم عاد بالاستدراك أن الله هو الرامي في صورة محمدية.
ولا بد من الإيمان بهذا. فانظر إلى هذا المؤثر حتى أنزل الحق في صورة محمدية.
وأخبر الحق نفسه عباده بذلك، فما قال أحد منا عنه ذلك بل هو قال عن نفسه.
وخبره صدق والإيمان به واجب، سواء أدركت علم ما قال أو لم تدركه: فإما عالم و إما مسلم مؤمن .
ومما يدلك على ضعف النظر العقلي من حيث فكره، كون العقل يحكم على العلة أنها لا تكون معلولة لمن هي علة له : هذا حكم العقل لا خفاء به، وما في علم التجلي إلا هذا، وهو أن العلة تكون معلولة لمن هي علة له.
والذي حكم به العقل صحيح مع التحرير في النظر، وغايته في ذلك أن يقول إذا رأى الأمر على خلاف ما أعطاه الدليل النظري، إن العين بعد ثبت أنها واحدة في هذا الكثير، فمن حيث هي علة في صورة من هذه الصور لمعلول ما، فلا تكون معلولة لمعلولها، في حال كونها علة، بل ينتقل الحكم بانتقالها في الصور، فتكون معلولة لمعلولها، فيصير معلولها علة لها .
هذا غايته إذا كان قد رأى الأمر على ما هو عليه، و لم يقف مع نظره الفكرى.
وإذا كان الأمر في العلية بهذه المثابة، فما ظنك باتساع النظر العقلي في غير هذا المضيق؟
فلا أعقل من الرسل صلوات الله عليهم وقد جاءوا بما جاءوا به في الخبر عن الجناب الإلهي، فأثبتوا ما أثبته العقل وزادوا ما لا يستقل العقل بإدراكه، وما يحيله العقل رأسا ويقر به في التجلي.
فإذا خلا بعد التجلي بنفسه حار فيما رآه: فإن كان عبد رب رد العقل إليه، و إن كان عبد نظر رد الحق إلى حكمه .
وهذا لا يكون إلا ما دام في هذه النشأة الدنيوية محجوبا عن نشأته الأخروية في الدنيا.
فإن العارفين يظهرون هنا كأنهم في الصورة الدنيا لما يجري عليهم من أحكامها، والله تعالى قد حولهم في بواطنهم في النشأة الأخروية، لا بد من ذلك.
فهم بالصورة مجهولون إلا لمن كشف الله عن بصيرته فأدرك.
فما من عارف بالله من حيث التجلي الإلهي إلا و هو على النشأة الآخرة: قد حشر في دنياه و نشر في قبره ، فهو يرى ما لا ترون، ويشهد ما لا تشهدون، عناية من الله ببعض عباده في ذلك.
فمن أراد العثور على هذه الحكمة الإلياسية الإدريسية الذي أنشأه الله نشأتين، فكان نبيا قبل نوح ثم رفع و نزل رسولا بعد ذلك، فجمع الله له بين المنزلتين فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته، و يكون حيوانا مطلقا حتى يكشف ما تكشفه كل دابة ما عدا الثقلين، فحينئذ يعلم أنه قد تحقق بحيوانيته.
وعلامته علامتان الواحدة هذا الكشف، فيرى من يعذب في قبره و من ينعم، ويرى الميت حيا والصامت متكلما والقاعد ماشيا.
والعلامة الثانية الخرس بحيث إنه لو أراد أن ينطق بما رآه لم يقدر فحينئذ يتحقق بحيوانيته.
وكان لنا تلميذ قد حصل له هذا الكشف غير أنه لم يحفظ عليه الخرس فلم يتحقق بحيوانيته.
ولما أقامني الله في هذا المقام تحققت بحيوانيتي تحققا كليا، فكنت أرى وأريد النطق
بما أشاهده فلا أستطيع، فكنت لا أفرق بيني و بين الخرس الذين لا يتكلمون.
فإذا تحقق بما ذكرناه انتقل إلى أن يكون عقلا مجردا في غير مادة طبيعية، فيشهد  أمورا هي أصول لما يظهر في صور الطبيعة فيعلم من أين ظهر هذا الحكم في صور الطبيعة علما ذوقيا.
فإن كوشف على أن الطبيعة عين نفس الرحمن فقد أوتي خيرا كثيرا، وإن اقتصر معه على ما ذكرناه فهذا القدر يكفيه من المعرفة الحاكمة على عقله: فيلحق بالعارفين و يعرف عند ذلك ذوقا «فلم تقتلوهم و لكن الله قتلهم»: و ما قتلهم إلا الحديد و الضارب، و الذي خلف هذه الصور.
فبالمجموع وقع القتل و الرمي، فيشاهد الأمور بأصولها و صورها، فيكون تاما. فإن شهد النفس كان مع التمام كاملا: فلا يرى إلا الله عين ما يرى.
فيرى الرائي عين المرئي . و هذا القدر كاف، و الله الموفق الهادي.
 
قلت : الشيخ رضي الله عنه وصف حال الوهم في الإنسان وأنه سلطان عظیم لقبوله التنزيه والتشبيه وما جمعهما إلا عارف .
وأما العقل فهو بشطر المعرفة أنسب، لأنه يقتضي التنزيه دون التشبيه .
وأما الحس فلا يقتضي إلا التشبيه والجامع هو الوهم أو المحقق. وما ذكره بعد ظاهر.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني    شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالسبت مارس 14, 2020 12:33 am

23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني 

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي 

الفص اللقماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية

إذ شاء الإله يريد رزقا ... له فالكون أجمعه غذاء
وإن شاء الإله يريد رزقا ... لنا فهو الغذاء كما يشاء
مشيئته إرادته فقولوا ... بها قد شاءها فهي المشاء
يريد زيادة و يريد نقصا ... وليس مشاءه إلا المشاء
فهذا الفرق بينهما فحقق ... ومن وجه فعينهما سواء

قال تعالى «ولقد آتينا لقمان الحكمة: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا».
فلقمان بالنص ذو الخير الكثير بشهادة الله تعالى له بذلك.
والحكمة قد تكون متلفظا بها و مسكوتا عنها مثل قول لقمان لابنه «يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله».
فهذه حكمة منطوق بها، و هي أن جعل الله هو الآتي بها، وقرر ذلك الله في كتابه، ولم يرد هذا القول على قائله.
وأما الحكمة المسكوت عنها و علمت بقرينة الحال، فكونه سكت عن المؤتى إليه بتلك الحبة، فما ذكره، و ما قال لابنه يأت بها الله إليك ولا إلى غيرك.
فأرسل الإتيان عاما وجعل المؤتى به في السموات إن كان أو في الأرض تنبيها لينظر الناظر في قوله «و هو الله في السماوات و في الأرض».
فنبه لقمان بما تكلم و بما سكت عنه أن الحق عين كل معلوم، لأن المعلوم أعم من الشيء فهو أنكر النكرات .
ثم تمم الحكمة واستوفاها لتكون النشأة كاملة فيها فقال "إن الله لطيف" فمن لطفه ولطافته أنه في الشيء المسمى كذا المحدود بكذا عين ذلك الشيء، حتى لا يقال فيه إلا ما يدل عليه اسمه بالتواطؤ والاصطلاح.
فيقال هذا سماء ورض و صخرة وشجر وحيوان و ملك ورزق وطعام.
والعين واحدة من كل شيء و فيه.
كما تقول الأشاعرة إن العالم كله متماثل بالجوهر: فهو جوهر واحد، فهو عين قولنا العين واحدة.
ثم قالت ويختلف بالأعراض، وهو قولنا ويختلف ويتكثر بالصور والنسب حتى يتميز فيقال هذا ليس هذا من حيث صورته أو عرضه أو مزاجه كيف شئت فقل.
وهذا عين هذا من حيث جوهره، ولهذا  يؤخذ عين الجوهر في كل حد صورة و مزاج: فنقول نحن إنه ليس سوى الحق، ويظن المتكلم أن مسمى الجوهر وإن كان حقا، ما هو عين الحق الذي يطلقه أهل الكشف والتجلي.
فهذا حكمة كونه لطيفا.
ثم نعت فقال «خبيرا» أي عالما عن اختبار وهو قوله «ولنبلونكم حتى نعلم» وهذا هو علم الأذواق.
فجعل الحق نفسه مع علمه بما هو الأمر عليه مستفيدا علما.
ولا نقدر على إنكار ما نص الحق عليه في حق نفسه: ففرق تعالى ما بين علم الذوق والعلم المطلق، فعلم الذوق مقيد بالقوى.
وقد قال عن نفسه إنه عين قوى عبده في قوله «كنت سمعه»، وهو قوة من قوى العبد، «وبصره» وهو قوة من قوى العبد، «ولسانه» وهو عضو من أعضاء العبد، «ورجله ويده».
فما اقتصر في التعريف على القوى فحسب حتى ذكر الأعضاء: وليس العبد بغير لهذه الأعضاء والقوى.
فعين مسمى العبد هو الحق، لا عين العبد هو السيد، فإن النسب متميزة لذاتها، و ليس المنسوب إليه متميزا، فإنه ليس ثم سوى عينه في جميع النسب.
فهو عين واحدة ذات نسب وإضافات وصفات.
فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ابنه ما جاء به في هذه الآية من هذين الاسمين الإلهيين «لطيفا خبيرا»، سمى بهما الله تعالى.
فلو جعل ذلك في الكون وهو الوجود فقال «كان» لكان أتم في الحكمة و أبلغ.
فحكى الله قول لقمان على المعنى كما قال: لم يزد عليه شيئا وإن كان قوله إن الله لطيف خبير من قول الله لما علم الله من لقمان أنه لو نطق متمما لتمم بهذا.
وأما قوله «إن تك مثقال حبة من خردل» لمن هي له غذاء، وليس إلا الذرة المذكورة في قوله «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره».
فهي أصغر متغذ و الحبة من الخردل أصغر غذاء.
و لو كان ثم أصغر لجاء به كما جاء بقوله تعالى «إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها».
ثم لما علم أنه ثم ما هو أصغر من البعوضة قال «فما فوقها» يعني في الصغر.
وهذا قول الله و التي في «الزلزلة» قول الله أيضا.
فاعلم ذلك فنحن نعلم أن الله تعالى ما اقتصر على وزن الذرة وثم ما هو أصغر منها، فإنه جاء بذلك على المبالغة والله أعلم.
وأما تصغيره اسم ابنه فتصغير رحمة: و لهذا أوصاه بما فيه سعادته إذا عمل بذلك.
وأما حكمة وصيته في نهيه إياه أن لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ، والمظلوم المقام حيث نعته بالانقسام وهو عين واحدة، فإنه لا يشرك معه إلا عينه وهذا غاية الجهل.
وسبب ذلك أن الشخص الذي لا معرفة له بالأمر على ما هو عليه، ولا بحقيقة الشيء إذا اختلفت عليه الصور في العين الواحدة، وهو لا يعرف أن ذلك الاختلاف في عين واحدة، جعل الصورة مشاركة للأخرى في ذلك المقام فجعل لكل صورة جزءا من ذلك المقام.
ومعلوم في الشريك أن الأمر الذي يخصه مما وقعت فيه المشاركة ليس عين الآخر الذي شاركه، إذ هو للآخر ».
فإذن ما ثم شريك على الحقيقة، فإن كل واحد على حظه مما قيل فيه إن بينهما مشاركة فيه.
وسبب ذلك الشركة المشاعة، وإن كانت مشاعة فإن التصريف من أحدهما يزيل الإشاعة.
«قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن» هذا روح المسألة.
 

قلت : قال رضي الله عنه: إذ شاء الإله يريد رزقا له فالكون أجمعه غذاء
يعني: إذا شاء الحق تعالى أن يريد الرزق لنفسه وهو وجود صرف فما رزقه إلا الأكوان،
ويعني بالأكوان الذوات وهي التي تسميها هو الأعيان الثابتة
والغذاء استعارة لتناول الوجود تلك الذوات بمعنى أنه يظهرها، أي يظهر بأحكامها وهو تعالى قد شاء هذه الإرادة أي أنه يريد هذا المعنى.
 
وإن شاء الإله يريد رزقا       ….. لنا فهو الغذاء كما يشاء
يعني: وإن شاء أن يبدو منه إرادة أن يكون الرزق للأكوان كان هو لها غذاء فبه يغتذي وهو غذاؤها، وذلك أنه نسبة افتقار الأعيان الثابتة في فقرها إلى الوجود الإلهي، ليكون به موجودة كافتقار الجياع إلى الزاد ولا زاد من غير الحق إذ لا سواه.
 
 مشيئته إرادته فقولوا       …… بها قد شاءها فهي المشاء
واعلم أن هذا البيت جواب عن سؤال مقدر تقريره: ما هذه المشيئة المتعلقة بالإرادة؟ فقال: هما سواء فلا فرق أن تقول: أراد أن يشاء الرزق أو تقول: شاء أن يريد الرزق. 
 
يريد زيادة ويريد نقصا      ….. وليس مشاءه إلا المشاء
يعني بإرادة الزيادة، الإظهار الإيجادي ويريد بإرادة النقص، الإخفاء الإعدامي. والمشاء، بضم الميم، هو المراد، أعني المفعول، وأما المشاء الثاني، وهو المفتوح الميم، فهو مصدر شاء يشاء ويجوز أن يريد بالمشاء، بفتح الميم ، جمع مشيئة مثل تمرة وتمر وقمحة وقمح وهي أسماء جموع يتميز فيه المفرد عن الجمع بإثبات التاء. 
 
فهذا الفرق بينهما فحقق    …… ومن وجه فعينهما سواء
يعني هذا الفرق بين الإرادة والمشيئة وهذا المعنى ما يتعلق به كثير فائدة.
قوله: ولقد آتينا لقمان الحكمة فإذن قد أوتي خيرا كثيرا لقوله تعالى:"ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"[البقرة: 269] .
وقد بين الحكمة المنطوق بها ، والحكمة المسكوت عنها، 
وبين بعد ذلك أن المؤتي به من السماء أو من الأرض إنما هو الحق تعالى، 
فهو إذن الغذاء لنا كما ذكر ونحن الغذاء له كما شرح، 
وبين سبب القول بذلك بالنص من قوله: "وهو الله في السماوات وفي الأرض "  [الأنعام: 3].
 قال: لأن الحق تعالی عين كل معلوم، ثم بین عموم المعلوم
 
وخصوص الشيء وهذه المسألة مذكورة في كتب الكلام، ثم بين کونه تعالی لطيفا خبيرا في مقتضي تمام الآية، 
ثم ذكر معنى التوحيد وهو قوله : والعين واحدة من كل شيء وفيه.
 
 
ثم ذكر بعد ذلك حكمة وصية لقمان لابنه في قوله لا تشرك بالله وذكر، رضي الله عنه أن ما هناك شرك أصلا وعلى تقدير الإشاعة بين الشريكين، فإن تصرف أحد الشريكين تميز نصيبه فترفع الإشاعة؟ 

قال: وإنما أوهم الشرك توهم أن الصور تتشارك في المقام الواحد وما علموا أن العين الواحدة لا يتكثر بتكثر صورها، فهذه حكمة هذه المسألة.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني    شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالسبت مارس 14, 2020 12:33 am

24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني 

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   

الفص الهاروني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية
اعلم أن وجود هارون عليه السلام كان من حضرة الرحموت بقوله تعالى «ووهبنا له من رحمتنا» يعني لموسى «أخاه هارون نبيا».
فكانت نبوته من حضرة الرحموت فإنه أكبر من موسى سنا، وكان موسى أكبر منه نبوة.
ولما كانت نبوة هارون من حضرة الرحمة، لذلك قال لأخيه موسى عليهما السلام «يا بن أم» فناداه بأمه لا بأبيه إذ كانت الرحمة للأم دون الأب أوفر في الحكم.
ولو لا تلك الرحمة ما صبرت على مباشرة التربية.
ثم قال «لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي وفلا تشمت بي الأعداء».
فهذا كله نفس من أنفاس الرحمة.
و سبب ذلك عدم التثبت في النظر فيما كان في يديه من الألواح التي ألقاها من يديه.
فلو نظر فيها نظر تثبت لوجد فيها الهدى و الرحمة.
فالهدى بيان ما وقع من الأمر الذي أغضبه مما هو هارون بري ء منه.
والرحمة بأخيه، فكان لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه مع كبره وأنه أسن منه.
فكان ذلك من هارون شفقة على موسى لأن نبوة هارون من رحمة الله، فلا يصدر منه إلا مثل هذا.
ثم قال هارون لموسى عليهما السلام «إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل» فتجعلني سببا في تفريقهم فإن عبادة العجل فرقت بينهم، فكان منهم من عبده اتباعا للسامري و تقليدا له، ومنهم من توقف عن عبادته حتى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك.
فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه، فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن الله قد قضى ألا يعبد إلا إياه: و ما حكم الله بشيء إلا وقع.
فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه.
فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه كل شيء.
فكان موسى يربي هارون تربية علم و إن كان أصغر منه في السن.
ولذا لما قال له هارون ما قال، رجع إلى السامري فقال له «فما خطبك يا سامري» يعني فيما صنعت من عدو لك إلى صورة العجل على الاختصاص، و صنعك هذا الشبح من حلي القوم حتى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم.
فإن عيسى يقول لبني إسرائيل «يا بني إسرائيل قلب كل إنسان حيث ماله، فاجعلوا أموالكم في السماء تكن قلوبكم في السماء».
وما سمي المال مالا إلا لكونه بالذات تميل القلوب إليه بالعبادة.
فهو المقصود الأعظم المعظم في القلوب لما فيها من الافتقار إليه.
وليس للصور بقاء، فلا بد من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه. فغلبت عليه الغيرة فحرقه ثم نسف رماد تلك الصورة في اليم نسفا.
وقال له «انظر إلى إلهك» فسماه إلها بطريق التنبيه للتعليم، لما علم أنه بعض المجالي الإلهية: «لنحرقنه» فإن حيوانية الإنسان لها التصرف في حيوانية الحيوان لكون الله سخرها للإنسان، ولا سيما و أصله ليس من حيوان، فكان أعظم في التسخير لأن غير الحيوان ما له إرادة بل هو بحكم من يتصرف فيه من غير إبائه.
وأما الحيوان فهو ذو إرادة وغرض فقد يقع منه الإباءة في بعض التصريف: فإن كان فيه قوة إظهار ذلك ظهر منه الجموح لما يريده منه الإنسان وإن لم يكن له هذه القوة أو يصادف غرض الحيوان انقاد مذللا لما يريده منه، كما ينقاد مثله لأمر فيما رفعه الله به من أجل المال الذي يرجوه منه المعبر عنه في بعض الأحوال بالأجرة في قوله «ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا».
فما يسخر له من هو مثله إلا من حيوانيته لا من إنسانيته: فإن المثلين ضدان، فيسخره الأرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانيته ويتسخر له ذلك الآخر إما خوفا أو طمعا من حيوانيته لا من إنسانيته: فما تسخر له من هو مثله أ لا ترى ما بين البهائم من التحريش لأنها أمثال؟
فالمثلان ضدان، ولذلك قال ورفع بعضكم فوق بعض درجات: فما هو معه في درجته.
فوقع التسخير من أجل الدرجات.
والتسخير على قسمين: تسخير مراد للمسخر، اسم فاعل قاهر في تسخيره لهذا الشخص المسخر كتسخير السيد لعبده وإن كان مثله في الإنسانية، وكتسخير السلطان لرعاياه، وإن كانوا أمثالا له فيسخرهم بالدرجة.
والقسم الآخر تسخير بالحال كتسخير الرعايا للملك القائم بأمرهم في الذب عنهم وحمايتهم و قتال من عاداهم و حفظه أموالهم و أنفسهم عليهم.
وهذا كله تسخير بالحال من الرعايا يسخرون في ذلك مليكهم، و يسمى على الحقيقة تسخير المرتبة. فالمرتبة حكمت عليه بذلك.
فمن الملوك من سعى لنفسه، و منهم من عرف الأمر فعلم أنه بالمرتبة في تسخير رعاياه، فعلم قدرهم و حقهم، فآجره الله على ذلك أجر العلماء بالأمر على ما هو عليه وأجر مثل هذا يكون على الله في كون الله في شئون عباده.
فالعالم كله مسخر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه أنه مسخر.
قال تعالى «كل يوم هو في شأن». فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل كما سلط موسى عليه، حكمة من الله تعالى ظاهرة في الوجود ليعبد في كل صورة.
وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية.
ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا و عبد إما عبادة تأله و إما عبادة تسخير.
 
فلا بد من ذلك لمن عقل. وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد والظهور بالدرجة في قلبه: و لذلك تسمى الحق لنا برفيع الدرجات، ولم يقل رفيع الدرجة. فكثر الدرجات في عين واحدة.
فإنه قضى ألا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كل درجة مجلى إلهيا عبد فيها.
وأعظم مجلى عبد فيه و أعلاه «الهوى» كما قال «أفرأيت من اتخذ إلهه هواه» وهو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شيء إلا به، ولا يعبد هو إلا بذاته، و فيه أقول:
وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى ... ولو لا الهوى في القلب ما عبد الهوى
ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله، كيف تمم في حق من عبد هواه و اتخذه إلها فقال «وأضله الله على علم» و الضلالة الحيرة: و ذلك أنه لما رأى هذا العابد ما عبد إلا هواه بانقياده لطاعته فيما يأمره به من عبادة من عبده من الأشخاص، حتى إن عبادته لله كانت عن هوى أيضا، لأنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس هوى وهو الإرادة بمحبة ما عبد الله ولا آثره على غيره.
 
وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم و اتخذها إلها ما اتخذها إلا بالهوى. فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه. ثم رأى المعبودات تتنوع في العابدين، فكل عابد أمرا ما يكفر من يعبد سواه، والذي عنده أدنى تنبه يحار لاتحاد الهوى، بل لأحدية الهوى، فإنه عين واحدة في كل عابد.
«وأضله الله» أي حيره «على علم» بأن كل عابد ما عبد إلا هواه ولا استعبده إلا هواه سواء صادف الأمر المشروع أو لم يصادف.
والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه «ولذلك سموه كلهم إلها مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك.
هذا اسم الشخصية فيه.
والألوهية مرتبة تخيل العابد له أنها مرتبة معبوده، وهي على الحقيقة مجلى الحق لبصر هذا العابد المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختص.
ولهذا قال بعض من عرف مقالة جهالة «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى» مع تسميتهم إياهم آلهة حتى قالوا «أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب».
فما أنكروه بل تعجبوا من ذلك، 
فإنهم وقفوا مع كثرة الصور ونسبة الألوهة لها.
فجاء الرسول ودعاهم إلى إله واحد يعرف ولا يشهد، بشهادتهم أنهم أثبتوه عندهم واعتقدوه في قولهم «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى» لعلمهم بأن تلك الصور حجارة.
ولذلك قامت الحجة عليهم بقوله «قل سموهم»: فما يسمونهم إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم حقيقة.
وأما العارفون بالأمر على ما هو عليه فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور لأن مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت لحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم الذي به سموا مؤمنين.
فهم عباد الوقت مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها، وإنما عبدوا الله فيها لحكم سلطان التجلي الذي عرفوه منهم ، وجهله المنكر الذي لا علم له بما تجلى، ويستره العارف المكمل من نبي ورسول و وارث عنهم.
فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصور لما انتزح عنها رسول الوقت اتباعا للرسول طمعا في محبة الله إياهم بقوله «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله».
فدعا إلى إله يصمد إليه ويعلم من حيث الجملة، ولا يشهد «ولا تدركه الأبصار»، بل «هو يدرك الأبصار» للطفه و سريانه في أعيان الأشياء.
فلا تدركه الأبصار كما أنها لا تدرك أرواحها المدبرة أشباحها وصورها الظاهرة.
«وهو اللطيف الخبير» والخبرة ذوق، والذوق تجل، والتجلي في الصور.
فلا بد منها ولا بد منه، فلا بد أن يعبده من رآه بهواه إن فهمت، وعلى الله قصد السبيل.
 
قلت: ذكر، رضي الله عنه، قصة هارون مع موسى وأن هارون من حقيقة الرحمة الإلهية كان نبيا، لأنه رحمة في حق أخيه موسى 
وذكر أن هارون ما أنكر عبادتهم العجل وإنما خاف التفرقة بين بني إسرائيل 
ونسب موسی عليه السلام، إلى أنه علم الحقيقة في الواقعة إلا أنه ما يثبت حتى أحرق العجل 
وأنه لم يحرقه لعدم معرفته بظهور الربوبية بصورة عجل، فإنه لا ينكر ذلك لكنه تصرف فيه لأنه جسد أو حيوان وكلاهما مسخر للإنسان، فله أن يحكم فيه بما شاء لأن درجة الإنسان فوق درجة من سواه 
في قوله تعالى: "ورفع بعضكم فوق بعض درجات" (الأنعام: 165). 


ثم قسم التسخير إلى قسمين: تسخير قهري، وتسخير حالي ومثل التسخیرین.
ثم ذكر أنه لم يبق شيء من الأشياء لم يعبد، إما عبادة تأله وإما عبادة حال وأنه تعالى عين الأشياء لأنه تعالى قضى أن لا يعبد سواه وذلك نص في قوله: "وقضى ربك ألا تبدوا إلا إياه " (الإسراء: 23) 


أي حكم ولا مرد لحكمه، فإذن هو المعبود من درجات كثيرة ولذلك يسمی تعالی برفیع الدرجات ولم يقل رفيع الدرجة. 
قال وأعظم ما عبد فيه درجة الهوى " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه" (الجاثية:23) ثم بين أنه ما عبد عابد إلا هواه وكلامه واضح.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: 25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني    شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:22 pm

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني 

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية
حكمة قتل الأبناء من أجل موسى ليعود إليه بالإمداد حياة كل من قتل من أجله لأنه قتل على أنه موسى.
وما ثم جهل ، فلا بد أن تعود حياته على موسى أعني حياة المقتول من أجله وهي حياة طاهرة على الفطرة لم تدنسها الأغراض النفسية، بل هي على فطرة «بلى».
فكان موسى مجموع حياة من قتل على أنه هو، فكل ما كان مهيئا لذلك المقتول مما كان استعداد روحه له، كان في موسى عليه السلام.
وهذا اختصاص إلهي بموسى لم يكن لأحد من قبله: فإن حكم موسى كثيرة وأنا إن شاء الله أسرد منها في هذا الباب على قدر ما يقع به الأمر الإلهي في خاطري.
فكان هذا أول ما شوفهت به من هذا الباب، فما ولد موسى إلا وهو مجموع أرواح كثيرة جمع قوى فعالة لأن الصغير يفعل في الكبير.
ألا ترى الطفل يفعل في الكبير بالخاصية فينزل الكبير من رياسته إليه فيلاعبه و يزقزق له و يظهر له بعقله.
فهو تحت تسخيره و هو لا يشعر، ثم شغله بتربيته و حمايته و تفقد مصالحه و تأنيسه حتى لا يضيق صدره.
هذا كله من فعل الصغير بالكبير و ذلك لقوة المقام، فإن الصغير حديث عهد بربه لأنه حديث التكوين و الكبير أبعد.
فمن كان من الله أقرب سخر من كان من الله أبعد، كخواص الملك للقرب منه يسخرون الأبعدين. كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يبرز بنفسه للمطر إذا نزل ويكشف رأسه له حتى يصيب منه و يقول إنه حديث عهد بربه.
فانظر إلى هذه المعرفة بالله من هذا النبي ما أجلها وما أعلاها وأوضحها.
فقد سخر المطر أفضل البشر لقربه من ربه فكان مثل الرسول الذي ينزل بالوحي عليه، فدعاه  بالحال بذاته فبرز إليه ليصيب منه ما أتاه به من ربه فلو لا ما حصلت له منه الفائدة الإلهية بما أصاب منه، ما برز بنفسه إليه.
فهذه رسالة ماء جعل الله منه كل شيء حي فافهم.
و أما حكمة إلقائه في التابوت و رميه في اليم: فالتابوت ناسوته، واليم ما حصل له من العلم بواسطة هذا الجسم مما أعطته القوة النظرية الفكرية والقوى الحسية والخيالية التي لا يكون شيء منها ولا من أمثالها لهذه النفس الإنسانية إلا بوجود هذا الجسم العنصري.
فلما حصلت النفس في هذا الجسم وأمرت بالتصرف فيه وتدبيره، جعل الله لها هذه القوى آلات يتوصل بها إلى ما أراده الله منها في تدبير هذا التابوت الذي فيه سكينة الرب.
فرمي به في اليم ليحصل بهذه القوى على فنون العلم فأعلمه بذلك أنه وإن كان الروح المدبر له هو الملك، فإنه لا يدبره إلا به.
فأصحبه هذه القوى الكائنة في هذا الناسوت الذي عبر عنه بالتابوت في باب الإشارات والحكم.
كذلك تدبير الحق العالم ما دبره إلا به أو بصورته، فما دبره إلا به كتوقف الولد على إيجاد الوالد ، والمسببات على سبابها، والمشروطات على شروطها، والمعلولات على عللها ، والمدلولات على أدلتها، و المحققات على حقائقها. وكل ذلك من العالم وهو تدبير الحق فيه. فما دبره إلا به.
وأما قولنا أو بصورته أعني صورة العالم فأعني به الأسماء الحسنى والصفات العلى التي تسمى الحق بها واتصف بها. فما وصل إلينا من اسم تسمى به إلا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في العالم. فما دبر العالم أيضا إلا بصورة العالم.
ولذلك قال في خلق آدم الذي هو البرنامج الجامع لنعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال «إن الله خلق آدم على صورته».
وليست صورته سوى الحضرة الإلهية.
فأوجد في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المنفصل، وجعله روحا للعالم فسخر له العلو والسفل لكمال الصورة.
فكما أنه ليس شيء من العالم إلا وهو يسبح بحمده، كذلك ليس شيء من العالم إلا وهو مسخر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته.
فقال تعالى «وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه».
فكل ما في العالم تحت تسخير الإنسان، علم ذلك من علمه وهو الإنسان الكامل وجهل ذلك من جهله، وهو الإنسان الحيوان.
فكانت صورة إلقاء موسى في التابوت، وإلقاء التابوت في اليم صورة هلاك، وفي الباطن كانت نجاة له من القتل.
فحيي كما تحيا النفوس بالعلم من موت الجهل، كما قال تعالى «أو من كان ميتا» يعني بالجهل «فأحييناه» يعني بالعلم، «وجعلنا له نورا يمشي به في الناس» و هو الهدى، «كمن مثله في الظلمات» وهي الضلال «ليس بخارج منها» أي لا يهتدي أبدا: فإن الأمر في نفسه لا غاية له يوقف عندها.
فالهدى هو أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة، فيعلم أن الأمر حيرة و الحيرة قلق و حركة، و الحركة حياة. فلا سكون، فلا موت، و وجود، فلا عدم.
وكذلك في الماء الذي به حياة الأرض وحركتها، قوله تعالى «اهتزت» وحملها، قوله «وربت»، وولادتها قوله «وأنبتت من كل زوج بهيج».
أي أنها ما ولدت إلا من يشبهها أي طبيعيا مثلها.
فكانت الزوجية التي هي الشفعية لها بما تولد منها و ظهر عنها.
كذلك وجود الحق كانت الكثرة له و تعداد الأسماء أنه كذا وكذا بما ظهر عنه من العالم الذي يطلب بنشأته حقائق الأسماء الإلهية.
فثبت  به و بخالقه أحدية الكثرة، و قد كان أحدي العين من حيث ذاته كالجوهر الهيولاني أحدي العين من حيث ذاته، كثير بالصور الظاهرة فيه التي هو حامل لها بذاته.
كذلك الحق بما ظهر منه من صور التجلي، فكان مجلى صور العالم مع الأحدية المعقولة.
فانظر ما أحسن هذا التعليم الإلهي الذي خص الله بالاطلاع عليه من شاء من عباده.
ولما وجده آل فرعون في اليم عند الشجرة سماه فرعون موسى: والمو هو الماء بالقبطية والسا هو الشجرة ، فسماه بما وجده عنده، فإن التابوت وقف عند الشجرة في اليم.
فأراد قتله فقالت امرأته و كانت منطقة بالنطق الإلهي فيما قالت لفرعون، إذ كان الله تعالى خلقها للكمال كما قال عليه السلام عنها حيث شهد لها و لمريم بنت عمران بالكمال الذي هو للذكران فقالت لفرعون في حق موسى إنه «قرت عين لي و لك».
فبه قرت عينها بالكمال الذي حصل لها كما قلنا، وكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق.
فقبضه طاهرا مطهرا ليس فيه شيء من الخبث لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام. والإسلام يجب ما قبله.
وجعله آية على عنايته سبحانه بمن شاء حتى لا ييأس أحد من رحمة الله، «فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون».
فلو كان ممن يئس ما بادر إلى الايمان فكان موسى عليه السلام كما قالت امرأة فرعون فيه «إنه قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا».
وكذلك وقع فإن الله نفعهما به عليه السلام و إن كانا ما شعرا بأنه هو النبي الذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون و هلاك آله.
ولما عصمه الله من فرعون «أصبح فؤاد أم موسى فارغا» من الهم الذي كان قد أصابها.
ثم إن الله حرم عليه المراضع حتى أقبل على ثدي أمه فأرضعته ليكمل الله لها سرورها به.
كذلك علم الشرائع، كما قال تعالى «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا» أي طريقا.
ومنهاجا أي من تلك الطريقة جاء.
فكان هذا القول إشارة إلى الأصل الذي منه جاء.
فهو غذاؤه كما أن فرع الشجرة لا يتغذى إلا من أصله.
فما كان حراما في شرع يكون حلالا في شرع آخر يعني في الصورة: أعني قولي يكون حلالا، وفي نفس الأمر ما هو عين ما مضى، لأن الأمر خلق جديد و لا تكرار. فلهذا نبهناك.
فكنى عن هذا في حق موسى بتحريم المراضع: فأمه على الحقيقة من أرضعته لا من ولدته، فإن أم الولادة حملته على جهة الأمانة فتكون فيها و تغذى بدم طمثها من غير إرادة لها في ذلك حتى لا يكون لها عليه امتنان، فإنه ما تغذى إلا بما لو لم يتغذ به ولم يخرج عنها ذلك الدم لأهلكها وأمرضها.
فللجنين المنة على أمه بكونه تغذى بذلك الدم فوقاها بنفسه من الضرر الذي كانت تجده لو امتسك ذلك الدم عندها ولا يخرج ولا يتغذى به جنينها.
والمرضعة ليست كذلك، فإنها قصدت برضاعته حياته و إبقائه.
فجعل الله ذلك لموسى في أم ولادته، فلم يكن لامرأة عليه فضل إلا لأم ولادته لتقر عينها أيضا بتربيته و تشاهد انتشاءه في حجرها، «ولا تحزن».
ونجاه الله من غم التابوت، فخرق ظلمة الطبيعة بما أعطاه الله من العلم الإلهي وإن لم يخرج عنها، و فتنه فتونا أي اختبره في مواطن كثيرة ليتحقق في نفسه صبره على ما ابتلاه الله به.
فأول ما أبلاه الله به قتله القبطي بما ألهمه الله ووفقه له في سره  وإن لم يعلم بذلك، ولكن لم يجد في نفسه اكتراثا بقتله مع كونه ما توقف حتى يأتيه أمر ربه بذلك، لأن النبي معصوم الباطن من حيث لا يشعر حتى ينبأ أي يخبر بذلك.
ولهذا أراه الخضر قتل الغلام فأنكر عليه قتله ولم يتذكر قتله القبطي فقال له الخضر «ما فعلته عن أمري» ينبهه على مرتبته قبل أن ينبأ أنه كان معصوم الحركة في نفس الأمر وإن لم يشعر بذلك.
وأراه أيضا خرق السفينة التي ظاهرها هلاك و باطنها نجاة من يد الغاصب.
جعل له ذلك في مقابلة التابوت له الذي كان في اليم مطبقا عليه. فظاهره هلاك و باطنه نجاة.
و إنما فعلت به أمه ذلك خوفا من يد الغاصب فرعون أن يذبحه صبرا  وهي تنظر إليه، مع الوحي الذي ألهمها الله به من حيث لا تشعر.
فوجدت في نفسها أنها ترضعه فإذا خافت عليه ألقته في اليم لأن في المثل «عين لا ترى قلب لا يفجع».
فلم تخف عليه خوف مشاهدة عين، ولا حزنت عليه حزن رؤية بصر، وغلب على ظنها أن الله ربما رده إليها لحسن ظنها به.
فعاشت بهذا الظن في نفسها، والرجاء يقابل الخوف واليأس، وقالت حين ألهمت لذلك لعل هذا هو الرسول الذي يهلك فرعون والقبط على يديه.
فعاشت وسرت بهذا التوهم والظن بالنظر إليها، وهو علم في نفس الأمر.
ثم إنه لما وقع عليه الطلب خرج فارا خوفا في الظاهر، وكان في المعنى حبا للنجاة.
فإن الحركة أبدا إنما هي حبية، ويحجب الناظر فيها بأسباب أخر ، وليست تلك.
وذلك لأن الأصل حركة العلم من العدم الذي كان ساكنا فيه إلى الوجود، ولذلك يقال إن الأمر حركة عن سكون: فكانت الحركة التي هي وجود العالم حركة حب.
وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله «كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف ».  فلولا هذه المحبة ما ظهر العالم في عينه.
فحركته من العدم إلى الوجود حركة حب الموجد لذلك: ولأن العالم أيضا يحب شهود نفسه وجودا كما شهدها ثبوتا، فكانت بكل وجه حركته من العدم الثبوتي إلى الوجود حركة حب من جانب الحق وجانبه: فإن الكمال محبوب لذاته، وعلمه تعالى بنفسه من حيث هو غني عن العالمين، هو له.
وما بقي إلا تمام مرتبة العلم بالعلم الحادث الذي يكون من هذه الأعيان، أعيان العالم، إذا وجدت.
فتظهر صورة الكمال بالعلم المحدث والقديم فتكمل مرتبة العلم بالوجهين، وكذلك تكمل مراتب الوجود: فإن الوجود منه أزلي و غير أزلي وهو الحادث.
فالأزلي وجود الحق لنفسه، و غير الأزلي وجود الحق بصورة العالم الثابت.
فيسمى حدوثا لأنه ظهر بعضه لبعضه وظهر لنفسه بصور العالم.
فكمل الوجود فكانت حركة العالم حبية للكمال فافهم.
ألا تراه كيف نفس عن الأسماء الإلهية ما كانت تجده من عدم ظهور آثارها في عين مسمى العالم، فكانت الراحة محبوبة له ، و لم يوصل إليها إلا بالوجود الصوري الأعلى والأسفل.
فثبت أن الحركة كانت للحب، فما ثم حركة في الكون إلا و هي حبية.
فمن العلماء من يعلم ذلك ومنهم من يحجبه السبب الأقرب لحكمه في الحال واستيلائه على النفس.
فكان الخوف لموسى مشهودا له بما وقع من قتله القبطي، وتضمن الخوف حب النجاة من القتل. ففر لما خاف، و في المعنى ففر لما أحب النجاة من فرعون و عمله به.
فذكر السبب الأقرب المشهود له في الوقت الذي هو كصورة الجسم للبشر.
وحب النجاة مضمن فيه تضمين الجسد للروح المدبر له.
والأنبياء لهم لسان الظاهر به يتكلمون لعموم الخطاب، واعتمادهم على فهم العالم السامع.
فلا يعتبر الرسل إلا العامة لعلمهم بمرتبة أهل الفهم، كما نبه عليه السلام على هذه المرتبة في العطايا فقال «إني لأعطي الرجل و غيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار».
فاعتبر الضعيف العقل والنظر الذي غلب عليه الطمع والطبع.
فكذا ما جاءوا به من العلوم جاءوا به وعليه خلعة أدنى الفهوم ليقف من لا غوص له عند الخلعة، فيقول ما أحسن هذه الخلعة ويراها غاية الدرجة.
ويقول صاحب الفهم الدقيق الغائص على درر الحكم بما استوجب هذا «هذه الخلعة من الملك». فينظر في قدر الخلعة وصنفها من الثياب، فيعلم منها قدر من خلعت عليه، فيعثر على علم لم يحصل لغيره ممن لا علم له بمثل هذا.
ولما علمت الأنبياء والرسل والورثة أن في العالم وأممهم من هو بهذه المثابة، عمدوا في العبارة إلى اللسان الظاهر الذي يقع فيه اشتراك الخاص والعام، فيفهم منه الخاص ما فهم العامة منه وزيادة مما صح له به اسم أنه خاص، فيتميز به عن العامي. فاكتفى المبلغون العلوم بهذا.
فهذا حكمة قوله عليه السلام «ففررت منكم لما خفتكم»، ولم يقل ففررت منكم حبا في السلامة والعافية.
فجاء إلى مدين فوجد الجاريتين «فسقى لهما» من غير أجر، «ثم تولى إلى الظل» الإلهي فقال «رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير» فجعل عين عمله السقي عين الخير الذي أنزله الله إليه، ووصف نفسه بالفقر إلى الله في الخير الذي عنده.
فأراد الخضر إقامة الجدار من غير أجر فعتبه على ذلك، فذكره سقايته من غير أجر، إلى غير ذلك مما لم يذكر حتى تمنى صلى الله عليه وسلم أن يسكت موسى عليه السلام ولا يعترض حتى يقص الله عليه من أمرهما فيعلم بذلك ما وفق إليه موسى من غير علم منه.
إذ لو كان على علم ما أنكر مثل ذلك على الخضر الذي قد شهد الله له عند موسى وزكاه وعدله . ومع هذا غفل موسى عن تزكية الله وعما شرطه عليه في اتباعه، رحمة بنا إذا نسينا أمر الله.
ولو كان موسى عالما بذلك لما قال له الخضر «ما لم تحط به خبرا» أي إني على علم لم يحصل لك عن ذوق كما أنت على علم لا أعلمه أنا. فأنصف.
وأما حكمة فراقه فلأن الرسول يقول الله فيه «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا». فوقف العلماء بالله الذين يعرفون قدر الرسالة والرسول عند هذا القول.
وقد علم الخضر أن موسى رسول الله فأخذ يرقب ما يكون منه ليوفي الأدب حقه مع الرسول: فقال له «إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني» فنهاه عن صحبته.
فلما وقعت منه الثالثة قال: «هذا فراق بيني و بينك».
ولم يقل له موسى لا تفعل ولا طلب صحبته لعلمه بقدر الرتبة التي هو فيها التي نطقته بالنهي عن أن يصحبه.
فسكت موسى ووقع الفراق. فانظر إلى كمال هذين الرجلين في العلم وتوفيقة الأدب الإلهي حقه وإنصاف الخضر فيما اعترف به عند موسى عليه السلام حيث قال له «أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، و أنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا».
فكان هذا الإعلام في الخضر لموسى دواء لما جرحه به في قوله «وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا» مع علمه بعلو رتبته بالرسالة، و ليست تلك الرتبة للخضر.
و ظهر ذلك في الأمة المحمدية في حديث إبار النخل، فقال عليه السلام لأصحابه «أنتم أعلم بمصالح دنياكم».
ولا شك أن العلم بالشيء خير من الجهل به: و لهذا مدح الله نفسه بأنه بكل شيء عليم فقد اعترف صلى الله عليه وسلم لأصحابه بأنهم أعلم بمصالح الدنيا منه لكونه لا خبرة له بذلك فإنه علم ذوق وتجربة ولم يتفرغ عليه السلام لعلم ذلك، بل كان شغله بالأهم فالأهم. فقد نبهتك على أدب عظيم تنتفع به إن استعملت نفسك فيه.
وقوله «فوهب لي ربي حكما» يريد الخلافة، «وجعلني من المرسلين» يريد الرسالة : فما كل رسول خليفة.
فالخليفة صاحب السيف و العزل و الولاية. والرسول ليس كذلك: إنما عليه بلاغ ما أرسل به: فإن قاتل عليه و حماه بالسيف فذلك الخليفة الرسول.
فكما أنه ما كل نبي رسول، كذلك ما كل رسول خليفة أي ما أعطي الملك ولا التحكم فيه.
وأما حكمة سؤال فرعون عن الماهية الإلهية فلم يكن عن جهل، و إنما كان عن اختبار حتى يرى جوابه مع دعواه الرسالة عن ربه وقد علم فرعون مرتبة المرسلين في العلم فيستدل بجوابه على صدق دعواه.
وسأل سؤال إيهام  من أجل الحاضرين حتى يعرفهم من حيث لا يشعرون بما شعر هو في نفسه في سؤاله: فإذا أجابه جواب العلماء بالأمر أظهر فرعون إبقاء لمنصبه أن موسى ما أجابه على سؤاله، فيتبين عند الحاضرين لقصور فهمهم أن فرعون أعلم من موسى.
ولهذا لما قال له في الجواب ما ينبغي وهو في الظاهر غير جواب ما سئل عنه، وقد علم فرعون أنه لا يجيبه إلا بذلك فقال لأصحابه «إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون» أي مستور عنه علم ما سألته عنه، إذ لا يتصور أن يعلم أصلا.
فالسؤال صحيح، فإن السؤال عن الماهية سؤال عن حقيقة المطلوب، ولا بد أن يكون على حقيقة في نفسه .
وأما الذين جعلوا الحدود مركبة من جنس وفصل، فذلك في كل ما يقع فيه الاشتراك، ومن لا جنس له لا يلزم ألا يكون على حقيقة في نفسه لا تكون لغيره.
فالسؤال صحيح على مذهب أهل الحق والعلم الصحيح والعقل السليم، والجواب عنه لا يكون إلا بما أجاب به موسى.
وهنا سر كبير، فإنه أجاب بالفعل لمن سأل عن الحد الذاتي، فجعل الحد الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم، أو ما ظهر فيه من صور العالم.
فكأنه قال في جواب قوله «وما رب العالمين» قال الذي يظهر فيه صور العالمين من علو وهو السماء وسفل وهو الأرض: «إن كنتم موقنين»، أو يظهر هو بها.
فلما قال فرعون لأصحابه «إنه لمجنون» كما قلنا في معنى كونه مجنونا، زاد موسى في البيان  ليعلم فرعون رتبته في العلم الإلهي لعلمه بأن فرعون يعلم ذلك: فقال: «رب المشرق والمغرب» فجاء بما يظهر ويستر، وهو الظاهر والباطن، وما بينهما وهو قوله «بكل شيء عليم».
«إن كنتم تعقلون»: أي إن كنتم أصحاب تقييد، فإن العقل يقيد.
فالجواب الأول جواب الموقنين وهم أهل الكشف والوجود.
فقال له «إن كنتم موقنين» أي أهل كشف ووجود، فقد أعلمتكم بما تيقنتموه في شهودكم ووجودكم، فإن لم تكونوا من هذا الصنف، فقد أجبتكم في الجواب الثاني إن كنتم أهل عقل و تقييد و حصر. ثم الحق فيما تعطيه أدلة عقولكم.
فظهر موسى بالوجهين ليعلم فرعون فضله وصدقه.
وعلم موسى أن فرعون علم ذلك أو يعلم ذلك لكونه سأل عن الماهية، فعلم أنه ليس سؤاله على اصطلاح القدماء في السؤال بما  فلذلك أجاب.
ولو علم منه غير ذلك لخطأه في السؤال.
فلما جعل موسى المسئول عنه عين العالم، خاطبه فرعون بهذا اللسان والقوم لا يشعرون.
فقال له «لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين».
و السين في «السجن» من حروف الزوائد: أي لأسترنك: فإنك أجبت بما أيدتني به أن أقول لك مثل هذا القول.
فإن قلت لي: فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي، والعين واحدة، فكيف فرقت، فيقول فرعون إنما فرقت المراتب العين، ما تفرقت العين ولا انقسمت في ذاتها.
ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل، وأنا أنت بالعين وغيرك بالرتبة.
فلما فهم ذلك موسى منه أعطاه حقه في كونه يقول له لا تقدر على ذلك، والرتبة تشهد له بالقدرة عليه و إظهار الأثر فيه: لأن الحق في رتبة فرعون من الصورة الظاهرة، لها التحكم على الرتبة التي كان فيها ظهور موسى في ذلك المجلس.
فقال له، يظهر له المانع من تعديه عليه، «أو لو جئتك بشي ء مبين».
فلم يسع فرعون إلا أن يقول له «فأت به إن كنت من الصادقين» حتى لا يظهر فرعون عند الضعفاء الرأي من قومه بعدم الإنصاف فكانوا يرتابون فيه، و هي الطائفة التي استخفها فرعون فأطاعوه «إنهم كانوا قوما فاسقين»: أي خارجين عما تعطيه العقول الصحيحة من إنكار ما ادعاه فرعون باللسان الظاهر في العقل، فإن له حدا يقف عنده إذا جاوزه صاحب الكشف واليقين.
ولهذا جاء موسى في الجواب بما يقبله الموقن والعاقل خاصة .
«فألقى عصاه» ، وهي صورة ما عصى به فرعون موسى في إبائه عن إجابة دعوته، «فإذا هي ثعبان مبين» أي حية ظاهرة.
فانقلبت المعصية التي هي السيئة طاعة أي حسنة كما قال «يبدل الله سيئاتهم حسنات» يعني في الحكم. فظهر الحكم هنا عينا متميزة في جوهر واحد .
فهي العصا وهي الحية و الثعبان الظاهر، فالتقم أمثاله من الحيات من كونها حية والعصي من كونها عصا.
فظهرت حجة موسى على حجج فرعون في صورة عصي و حيات و حبال، فكانت للسحرة الحبال ولم يكن لموسى حبل.
والحبل التل الصغير: أي مقاديرهم بالنسبة إلى قدر موسى بمنزلة الحبال من الجبال الشامخة. فلما رأت السحرة ذلك علموا رتبة موسى في العلم، وأن الذي رأوه ليس من مقدور البشر: وإن كان من مقدورا لبشر فلا يكون إلا ممن له تميز في العلم المحقق عن التخيل والإيهام.
فآمنوا برب العالمين رب موسى وهارون: أي الرب الذي يدعو إليه موسى وهارون، لعلمهم بأن القوم يعلمون أنه ما دعا لفرعون.
ولما كفي منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال «أنا ربكم الأعلى»: أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم.
ولما علمت السحرة صدقه في مقاله لم ينكروه و أقروا له بذلك فقالوا له: إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فاقض ما أنت قاض ، فالدولة لك . فصح قوله «أنا ربكم الأعلى».
وإن كان عين الحق فالصورة لفرعون. فقطع الأيدي والأرجل وصلب بعين حق في صورة باطل لنيل مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل.
فإن الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها لأن الأعيان الثابتة اقتضتها، فلا تظهر في الوجود إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت إذ لا تبديل لكلمات الله.
وليست كلمات الله سوى أعيان الموجودات ،فينسب إليها القدم من حيث ثبوتها، و ينسب إليها الحدوث من حيث وجودها و ظهورها.
كما تقول حدث عندنا اليوم إنسان أو ضيف، ولا يلزم من حدوثه أنه ما كان له وجود قبل هذا الحدوث.
لذلك قال تعالى في كلامه العزيز أي في إتيانه مع قدم كلامه «ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون»: «ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين».
والرحمن لا يأتي إلا يأتي إلا بالرحمة.
ومن أعرض عن الرحمة استقبل العذاب الذي هو عدم الرحمة.
وأما قوله «فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده» إلا قوم يونس، فلم يدل ذلك على أنه لا ينفعهم في الآخرة لقوله في الاستثناء إلا قوم يونس، فأراد أن ذلك لا يرفع عنهم الأخذ في الدنيا، فلذلك أخذ فرعون مع وجود الإيمان منه.
هذا إن كان أمره أمر من تيقن بالانتقال في تلك الساعة.
وقرينة الحال تعطي أنه ما كان على يقين من الانتقال، لأنه عاين المؤمنين يمشون في الطريق اليبس الذي ظهر بضرب موسى بعصاه البحر.
فلم يتيقن فرعون بالهلاك إذ آمن، بخلاف المحتضر حتى لا يلحق به.
فآمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل على التيقن بالنجاة، فكان كما تيقن لكن على غير الصورة التي أراد.
فنجاه الله من عذاب الآخرة في نفسه، ونجى بدنه كما قال تعالى «فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية»، لأنه لو غاب بصورته ربما قال قومه احتجب.
فظهر بالصورة المعهودة ميتا ليعلم أنه هو. فقد عمته النجاة حسا ومعنى.
ومن حقت عليه كلمة العذاب الأخروي لا يؤمن ولو جاءته كل آية حتى يروا العذاب الأليم، أي يذوقوا العذاب الأخروي.
فخرج فرعون من هذا الصنف. هذا هو الظاهر الذي ورد به القرآن.
ثم إنا نقول بعد ذلك: والأمر فيه إلى الله، لما استقر في نفوس عامة الخلق من شقائه، وما لهم نص في ذلك يستندون إليه.
وأما آله فلهم حكم آخر ليس هذا موضعه. ثم لتعلم أنه ما يقبض الله أحدا إلا و هو مؤمن أي مصدق بما جاءت به الأخبار الإلهية: وأعني من المحتضرين : و لهذا يكره موت الفجاءة و قتل الغفلة.
فأما موت الفجاءة فحده أن يخرج النفس الداخل و لا يدخل النفس الخارج.
فهذا موت الفجاءة. وهذا غير المحتضر.
وكذلك قتل الغفلة بضرب عنقه من ورائه وهو لا يشعر: فيقبض على ما كان عليه من إيمان أو كفر.
ولذلك قال عليه السلام «ويحشر على ما عليه مات» كما أنه يقبض على ما كان عليه.
والمحتضر ما يكون إلا صاحب شهود، فهو صاحب إيمان بما ثمة.
فلا يقبض إلا على ما كان عليه، لأن «كان» حرف وجودي لا ينجر معه الزمان إلا بقرائن الأحوال: فيفرق بين الكافر المحتضر في الموت وبين الكافر المقتول غفلة أو الميت فجاءة كما قلنا في حد الفجاءة. وأما حكمة التجلي والكلام في صورة النار، فلأنها كانت بغية موسى .
فتجلى له في مطلوبه ليقبل عليه ولا يعرض عنه.
فإنه لو تجلى له في غير صورة مطلوبه أعرض عنه لاجتماع همه على مطلوب خاص .
ولو أعرض لعاد عمله عليه وأعرض عنه الحق، وهو مصطفى مقرب.
فمن قربه أنه تجلى له في مطلوبه وهو لا يعلم.
كنار موسى رآها عين حاجته ... وهو الإله ولكن ليس يدريه
 
 
قلت: قال، رضي الله عنه: حكمة قتل الأبناء هو من أجل موسی، عليه السلام، ليجوز حياتهم كلهم وذواتهم وعلومهم وبالجملة جميع ما يقبله استعدادهم من مراتب الحياة الشريفة، فكان فرعون في قتل أبناء بني اسرائيل خادما لموسى عليه السلام وهو لا يشعر على ما قرره الشيخ رضي الله عنه. 
قال: وهذا اختصاص إلهي لموسى لم يكن لأحد ممن هو قبله. 
قال: وحكم موسی كثيرة ووعد أن يذكر منها ما يتيسر. 
وقوله: على قدر ما يرد به الأمر فيه الخاطر.
قال فما ولد موسى إلا وهو مجموع الأرواح ثم بين أن من كان أقرب إلى الله كان أعظم تأثيرا ممن هو أبعد، 
وهو رضي الله عنه يقول في غير هذا: إن من كان أعلى مقاما عند الله كان أبعد من التأثير، ولكل مقام مقال
ثم ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل من المطر رسالة الماء الذي جعل منه كل شيء حيا. 
ثم بين أن التابوت هو جسم موسی، والیم وهو العلم المكتسب بطريق الجسم، فصورة الجسم خضر طبيعي وباطنه حياة أبدية بالعلم الذي يتحصل بواسطة الجسم.
ثم بين أن موسی قرة عين لامرأة فرعون بما حصل لها من الكمال بطريق موسى وقرة عين لفرعون الايمان فرعون عند خوف الغرق 
 
بقوله: وامن أنه لا إله إلا الذي آمنت به بثوا إسرائيل وأنا من المسلمين [یونس: 90] ثم تمادي  
في كلامه الواضح إلى قوله: إن بالعلم الحادث كمل العلم الإلهي، فإن بهما حصل الكمال
ثم ذكر قصة موسی علیه السلام، مع فرعون ومضى على عادته، فإن حروفه مقلوبة وقد نسب إلى فرعون ما نسب وإلی موسی ما نسب ولفظه واف بمقصوده فلا حاجة إلى شرح.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:22 pm

26 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني 

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   

الفص الخالدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
26 - فص حكمة صمدية في كلمة خالدية
وأما حكمة خالد بن سنان فإنه أظهر بدعواه النبوة البرزخية، فإنه ما ادعى الإخبار بما هنالك إلا بعد الموت : فأمر أن ينبش عليه ويسأل فيخبر أن الحكم في البرزخ على صورة الحياة الدنيا، فيعلم بذلك صدق الرسل كلهم فيما أخبروا به في حياتهم الدنيا.
فكان غرض خالد صلى الله عليه وسلم إيمان العالم كله بما جاءت به الرسل ليكون رحمة للجميع: فإنه تشرف بقرب نبوته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم أن الله أرسله رحمة للعالمين.
ولم يكن خالد برسول، فأراد أن يحصل من هذه الرحمة في الرسالة المحمدية على حظ وافر.
ولم يؤمر بالتبليغ، فأراد أن يحظى بذلك في البرزخ ليكون أقوى في العلم في حق الخلق. فأضاعه قومه.
ولم يصف النبي صلى الله عليه و سلم قومه بأنهم ضاعوا وإنما وصفهم بأنهم أضاعوا نبيهم حيث لم يبلغوه مراده، فهل بلغه الله أجر أمنيته؟
فلا شك ولا خلاف أن له أجر الأمنية ، وإنما الشك والخلاف في أجر المطلوب: هل يساوي تمني وقوعه عدم وقوعه بالوجود أم لا.
فإن في الشرع ما يؤيد التساوي في مواضع كثيرة: كالآتي للصلاة في الجماعة فتفوته الجماعة فله أجر من حضر الجماعة، وكالمتني مع فقره ما هم عليه أصحاب الثروة والمال من فعل الخيرات فله مثل أجورهم.
ولكن مثل أجورهم في نياتهم أو في عملهم فإنهم جمعوا بين العمل والنية؟
ولم ينص النبي عليهما ولا على واحد منهما.
فالظاهر أنه لا تساوي بينهما.
ولذلك طلب خالد بن سنان الإبلاغ حتى يصح له مقام الجمع بين الأمرين فيحصل على الأجرين والله أعلم .
 
قلت : هذا خالد بن سنان كان في الفترة التي بين عيسى، عليه السلام، وبين محمد صلی الله عليه وسلم، وأنه ليس برسول بل نبي،
فذكر الشيخ رضي الله عنه، أنه من أنبياء البرزخ وهو عالم الخيال المطلق وهي حضرة من الحضرات الإلهية شريفة المقام بين الحضرات الإلهية .
وقد أخبر بمراده وأن قومه أضاعوه وما ضاع بل كان له أجر على قدر رتبته ، فما حصل له التبليغ بل نية التبليغ.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني   شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني Emptyالخميس مايو 14, 2020 1:23 pm

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني 

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
إنما كانت حكمته فردية لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني، ولهذا بدئ به الأمر وختم: فكان نبيا وآدم بين الماء و الطين، ثم كان بنشأته العنصرية خاتم النبيين.
وأول الأفراد الثلاثة، وما زاد على هذه الأولية من الأفراد فإنها عنها.
فكان عليه السلام أدل دليل على ربه، فإنه أوتي جوامع الكلم التي هي مسميات أسماء آدم، فأشبه الدليل في تثليثه، و الدليل دليل لنفسه.
ولما كانت حقيقته تعطي الفردية الأولى بما هو مثلث النشأة ، لذلك قال في باب المحبة التي هي أصل الموجودات «حبب إلي من دنياكم ثلاث» بما فيه من التثليث، ثم ذكر النساء والطيب وجعلت قرة عينه في الصلاة.
فابتدأ بذكر النساء و أخر الصلاة، وذلك لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها.
ومعرفة الإنسان بنفسه مقدمة على معرفته بربه، فإن معرفته بربه نتيجة عن معرفته بنفسه. لذلك قال عليه السلام «من عرف نفسه عرف ربه».
فإن شئت قلت بمنع المعرفة في هذا الخبر و العجز عن الوصول فإنه سائغ فيه، وإن شئت قلت بثبوت المعرفة.
فالأول أن تعرف أن نفسك لا تعرفها فلا تعرف ربك: والثاني أن تعرفها فتعرف ربك.
فكان محمد صلى الله عليه وسلم أوضح دليل على ربه، فإن كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربه فافهم.
فإنما حبب إليه النساء فحن إليهن لأنه من باب حنين الكل إلى جزئه، فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحق في قوله في هذه النشأة الإنسانية العنصرية «و نفخت فيه من روحي».
ثم وصف نفسه بشدة الشوق إلى لقائه فقال للمشتاقين «يا داود إني أشد شوقا إليهم» يعني المشتاقين إليه.
وهو لقاء خاص: فإنه قال في حديث الدجال إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت، فلا بد من الشوق لمن هذه صفته.
فشوق الحق لهؤلاء المقربين مع كونه يراهم فيحب أن يروه و يأبى المقام ذلك. فأشبه قوله «حتى نعلم» مع كونه عالما.
فهو يشتاق لهذه الصفة الخاصة التي لا وجود لها إلا عند الموت، فيبل بها شوقهم إليه كما قال تعالى في حديث التردد و هو من هذا الباب «ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت و أكره مساءته و لا بد له من لقائي».
فبشره وما قال له لا بد له من الموت لئلا يغمه بذكر الموت.
و لما كان لا يلقى الحق إلا بعد الموت كما قال عليه السلام «إن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت» لذلك قال تعالى «ولا بد له من لقائي».
فاشتياق الحق لوجود هذه النسبة:
يحن الحبيب إلى رؤيتي ... و إني إليه أشد حنينا
و تهفو النفوس و يأبى القضا ... فأشكو الأنين و يشكو الأنينا
فلما أبان أنه نفخ فيه من روحه، فما اشتاق إلا لنفسه.
ألا تراه خلقه على صورته لأنه من روحه؟
ولما كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسماة في جسده أخلاطا، حدث عن نفخه اشتعال  بما في جسده من الرطوبة، فكان روح الإنسان نارا لأجل نشأته.
ولهذا ما كلم الله موسى إلا في صورة النار وجعل حاجته فيها.
فلو كانت نشأته طبيعية لكان روحه نورا.
وكنى عنه بالنفخ يشير إلى أنه من نفس الرحمن، فإنه بهذا النفس الذي هو النفخة ظهر عينه، وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال نارا لا نورا.
فبطن نفس الرحمن فيما كان به الإنسان إنسانا.
ثم اشتق له منه شخصا على صورته سماه امرأة، فظهرت بصورته فحن إليها حنين الشيء إلى نفسه، و حنت إليه حنين الشيء إلى وطنه.
فحببت إليه النساء، فإن الله أحب من خلقه على صورته و أسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم و منزلتهم و علو نشأتهم الطبيعية. فمن هناك وقعت المناسبة.
والصورة أعظم مناسبة وأجلها و أكملها: فإنها زوج أي شفعت وجود الحق ، كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرجل فصيرته زوجا.
فظهرت الثلاثة حق ورجل و امرأة، فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه. فحبب إليه ربه النساء كما أحب الله من هو على صورته.
فما وقع الحب إلا لمن تكون عنه، و قد كان حبه لمن تكون منه و هو الحق.
فلهذا قال «حبب» و لم يقل أحببت من نفسه لتعلق حبه بربه الذي هو على صورته حتى في محبته لامرأته، فإنه أحبها بحب الله إياه تخلقا إلهيا.
ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة، فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح، و لهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها، و لذلك أمر بالاغتسال منه، فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة.
فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره، فطهره بالغسل ليرجع بالنظر إليه فيمن فني فيه، إذ لا يكون إلا ذلك.
فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهودا في منفعل، و إذا شاهده في نفسه- من حيث ظهور المرأة عنه شاهده في فاعل، و إذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكون عنه كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة.
فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل، و من نفسه من حيث هو منفعل خاصة.
فلهذا أحب صلى الله عليه و سلم النساء لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا، فإن الله بالذات غني عن العالمين.
وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا، ولم تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود و أكمله.
وأعظم الوصلة النكاح و هو نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته ليخلفه فيرى فيه نفسه فسواه وعدله و نفخ فيه من روحه الذي هو نفسه، فظاهره خلق وباطنه حق.
ولهذا وصفه بالتدبير لهذا الهيكل، فإنه تعالى به «يدبر الأمر من السماء» وهو العلو، «إلى الأرض»، و هو أسفل سافلين، لأنها أسفل الأركان كلها.
وسماهن بالنساء وهو جمع لا واحد له من لفظه، ولذلك قال عليه السلام «حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء» ولم يقل المرأة، فراعى تأخرهن في في الوجود عنه ، فإن النسأة هي التأخير قال تعالى «إنما النسيء زيادة في الكفر».
والبيع بنسيئة يقول بتأخير، ولذلك ذكر النساء.
فما أحبهن إلا بالمرتبة و أنهن محل الانفعال فهن له كالطبيعة للحق التي فتح فيها صور العالم بالتوجه الإرادي و الأمر الإلهي الذي هو نكاح في عالم الصور العنصرية، و همة في عالم الأرواح النورية، و ترتيب مقدمات في المعاني للإنتاج.
و كل ذلك نكاح الفردية الأولى في كل وجه من هذه الوجوه.
فمن أحب النساء على هذا الحد فهو حب إلهي، و من أحبهن على جهة الشهوة الطبيعية خاصة نقصه علم هذه الشهوة، فكان صورة بلا روح عنده، وإن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذات روح و لكنها غير مشهودة لمن جاء لامرأته أو لأنثى حيث كانت- لمجرد الالتذاذ، ولكن لا يدري لمن.
فجهل من نفسه ما يجهل الغير منه ما لم يسمه هو بلسانه حتى يعلم كما قال بعضهم:
صح عند الناس أني عاشق ... غير أن لم يعرفوا عشقي
لمن كذلك هذا أحب الالتذاذ فأحب المحل الذي يكون فيه وهو المرأة، ولكن غاب عنه روح المسألة. فلو علمها لعلم بمن التذ ومن التذ وكان كاملا.
و كما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله «وللرجال عليهن درجة» نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته.
فبتلك الدرجة التي تميز بها عنه، بها كان غنيا عن العالمين وفاعلا أولا، فإن الصورة فاعل ثان.
فما له الأولية التي للحق. فتميزت الأعيان بالمراتب: فأعطى كل ذي حق حقه كل عارف.
فلهذا كان حب النساء لمحمد صلى الله عليه و سلم عن تحبب إلهي وأن الله «أعطى كل شيء خلقه» و هو عين حقه.
فما أعطاه إلا باستحقاق استحقه بمسماه: أي بذات ذلك المستحق.
وإنما قدم النساء لأنهن محل الانفعال، كما تقدمت الطبيعة على من وجد منها بالصورة.
وليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفس الرحماني، فإنه فيه انفتحت صور العالم أعلاه و أسفله لسريان النفخة في الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام خاصة.
وأما سريانها لوجود الأرواح النورية و الأعراض فذلك سريان آخر.
ثم إنه عليه السلام غلب في هذا الخبر التأنيث على التذكير لأنه قصد التهمم بالنساء فقال «ثلاث» ولم يقل «ثلاثة» بالهاء الذي هو لعدد الذكران، إذ وفيها ذكر الطيب وهو مذكر، وعادة العرب أن تغلب التذكير على التأنيث فتقول «الفواطم وزيد خرجوا» ولا تقول خرجن. فغلبوا التذكير وإن كان واحدا- على التأنيث وإن كن جماعة.
وهو العربي، فراعى صلى الله عليه و سلم المعنى الذي قصد به في التحبب إليه ما لم يكن يؤثر حبه.
فعلمه الله ما لم يكن يعلم و كان فضل الله عليه عظيما.
فغلب التأنيث على التذكير بقوله ثلاث بغير هاء. فما أعلمه صلى الله عليه و سلم بالحقائق، وما أشد رعايته للحقوق! ثم إنه جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث وأدرج بينهما المذكر.
فبدأ بالنساء و ختم بالصلاة و كلتاهما تأنيث، و الطيب بينهما كهو في وجوده، فإن الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها و بين امرأة ظهرت عنه، فهو بين مؤنثين: تأنيث ذات و تأنيث حقيقي.
كذلك النساء تأنيث حقيقي و الصلاة تأنيث غير حقيقي، والطيب مذكر بينهما كآدم بين الذات الموجود عنها و بين حواء الموجودة عنه و إن شئت قلت الصفة فمؤنثة أيضا، و إن شئت قلت القدرة فمؤنثة أيضا.
فكن على أي مذهب شئت، فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدم حتى عند أصحاب العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم. والعلة مؤنثة.
وأما حكمة الطيب و جعله بعد النساء، فلما في النساء من روائح التكوين، فإنه أطيب الطيب عناق الحبيب.
كذا قالوا في المثل السائر. و لما خلق عبدا بالاصالة لم يرفع رأسه قط إلى السيادة، بل لم يزل ساجدا واقفا مع كونه منفعلا حتى كون الله عنه ما كون.
فأعطاه رتبة الفاعلية في عالم الأنفاس التي هي الأعراف الطيبة.
فحبب إليه الطيب: فلذلك جعله بعد النساء. فراعى الدرجات التي للحق في قوله «رفيع الدرجات ذو العرش» لاستوائه عليه باسمه الرحمن.
فلا يبقى فيمن حوى عليه العرش من لا تصيبه الرحمة الإلهية: و هو قوله تعالى «ورحمتي وسعت كل شيء»: والعرش وسع كل شيء، والمستوي الرحمن.
فبحقيقته يكون سريان الرحمة في العالم كما بيناه في غير موضع من هذا الكتاب، وفي الفتوح المكي.
وقد جعل الطيب- تعالى في هذا الالتحام النكاحي في براءة عائشة فقال «الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين  والطيبون للطيبات، أولئك مبرؤن مما يقولون».
فجعل روائحهم طيبة: لأن القول نفس، وهو عين الرائحة فيخرج بالطيب والخبيث على حسب ما يظهر به في صورة النطق. فمن حيث هو إلهي بالأصالة كله طيب:
فهو طيب، ومن حيث ما يحمد و يذم فهو طيب وخبيث.
فقال في خبث الثوم هي شجرة أكره ريحها ولم يقل أكرهها.
فالعين لا تكره، و إنما يكره ما يظهر منها. والكراهة لذلك إما عرفا بملاءمة طبع أو غرض، أو شرع، أو نقص عن كمال مطلوب و ما ثم غير ما ذكرناه.
ولما انقسم الأمر إلى خبيث و طيب كما قررناه، حبب إليه الطيب دون الخبيث و وصف الملائكة بأنها تتأذى بالروائح الخبيثة لما في هذه النشأة العنصرية من التعفن ، فإنه مخلوق من صلصال من حمإ مسنون أي متغير الريح.
فتكرهه الملائكة بالذات، كما أن مزاج الجعل يتضرر برائحة الورد و هي من الروائح الطيبة.
فليس الورد عند الجعل بريح طيبة.
و من كان على مثل هذا المزاج معنى و صورة أضر به الحق إذا سمعه و سر بالباطل: و هو قوله «و الذين آمنوا بالباطل و كفروا بالله»، و وصفهم بالخسران فقال «أولئك هم الخاسرون ... الذين خسروا أنفسهم» *. فإن من لم يدرك الطيب من الخبيث فلا إدراك له.
فما حبب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا الطيب من كل شيء و ما ثم إلا هو.
وهل يتصور أن يكون في العالم مزاج لا يجد إلا الطيب من كل شيء، لا يعرف الخبيث، أم لا؟ قلنا هذا لا يكون:
فإنا ما وجدناه في الأصل الذي ظهر العالم منه و هو الحق ، فوجدناه يكره و يحب، و ليس الخبيث إلا ما يكره و لا الطيب إلا ما يحب.
والعالم على صورة الحق، والإنسان على الصورتين فلا يكون ثم مزاج لا يدرك إلا الأمر الواحد من كل شيء، بل ثم مزاج يدرك الطيب من الخبيث، مع علمه بأنه خبيث بالذوق طيب بغير الذوق، فيشغله إدراك الطيب منه عن الإحساس بخبثه. هذا قد يكون.
وأما رفع الخبث من العالم- أي من الكون- فإنه لا يصح.
ورحمة الله في الخبيث و الطيب. والخبيث عند نفسه طيب والطيب عنده خبيث.
فما ثم شيء طيب إلا و هو من وجه في حق مزاج ما خبيث:
وكذلك بالعكس. وأما الثالث الذي به كملت الفردية فالصلاة.
فقال «وجعلت قرة عيني في الصلاة» لأنها مشاهدة: وذلك لأنها مناجاة بين الله و بين عبده كما قال: «فاذكروني أذكركم».
وهي عبادة مقسومة بين الله و بين عبده بنصفين:
فنصفها لله ونصفها للعبد كما ورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى أنه قال «قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين: فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل.
يقول العبد بسم الله الرحمن الرحيم: يقول الله ذكرني عبدي.
يقول العبد الحمد لله رب العالمين: يقول الله حمدني عبدي.
يقول العبد الرحمن الرحيم: يقول الله أثنى علي عبدي.
يقول العبد مالك يوم الدين: يقول الله مجدني عبدي: فوض إلي عبدي.
فهذا النصف كله له تعالى خالص.
ثم يقول العبد إياك نعبد و إياك نستعين : يقول الله هذه بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل. فأوقع الاشتراك في هذه الآية.
يقول العبد اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين: يقول الله فهؤلاء لعبدي و لعبدي ما سأل.
فخلص هؤلاء لعبده كما خلص الأول له تعالى.
فعلم من هذا وجوب قراءة الحمد لله رب العالمين. فمن لم يقرأها فما صلى الصلاة المقسومة بين الله و بين عبده.
ولما كانت مناجاة فهي ذكر، ومن ذكر الحق فقد جالس الحق وجالسه الحق، فإنه صح في الخبر الإلهي أنه تعالى قال أنا جليس من ذكرني.
ومن جالس من ذكره وهو ذو بصر رأى جليسه. فهذه مشاهدة ورؤية.
فإن لم يكن ذا بصر لم يره. فمن هنا يعلم المصلي رتبته هل يرى الحق هذه الرؤية في هذه الصلاة أم لا.
فإن لم يره فليعبده بالإيمان كأنه يراه فيخيله في قبلته عند مناجاته، و يلقي السمع لما يرد به عليه الحق . فإن كان إماما لعالمه الخاص به وللملائكة المصلين معه فإن كل مصل فهو إمام بلا شك، فإن الملائكة تصلي خلف العبد إذا صلى وحده كما ورد في الخبر فقد حصل له رتبة الرسل في الصلاة وهي النيابة عن الله.
إذا قال سمع الله لمن حمده، فيخبر نفسه ومن خلفه بأن الله قد سمعه فتقول الملائكة والحاضرون ربنا ولك الحمد.
فإن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده. فانظر علو رتبة الصلاة وإلى أين تنتهي بصاحبها.
فمن لم يحصل درجة الرؤية في الصلاة فما بلغ غايتها و لا كان له فيها قرة عين، لأنه لم ير من يناجيه. فإن لم يسمع ما يرد من الحق عليه فيها فما هو ممن ألقى سمعه.
ومن لم يحضر فيها مع ربه مع كونه لم يسمع و لم ير، فليس بمصل أصلا، ولا هو ممن ألقى السمع و هو شهيد.
وما ثم عبادة تمنع من التصرف في غيرها- ما دامت- سوى الصلاة.
وذكر الله فيها أكبر ما فيها لما تشتمل عليه من أقوال وأفعال وقد ذكرنا صفة الرجل الكامل في الصلاة في الفتوحات المكية كيف يكون لأن الله تعالى يقول «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر»، لأنه شرع للمصلي ألا يتصرف في غير هذه العبادة ما دام فيها و يقال له مصل.
«و لذكر الله أكبر» يعني فيها: أي الذكر الذي يكون من الله لعبده حين يجيبه في سؤاله.
والثناء عليه أكبر من ذكر العبد ربه فيها، لأن الكبرياء لله تعالى.
ولذلك قال: «والله يعلم ما تصنعون» وقال «أو ألقى السمع وهو شهيد».
فإلقاؤه السمع هو لما يكون من ذكر الله إياه فيها.
ومن ذلك أن الوجود لما كان عن حركة معقولة نقلت العالم من العدم إلى الوجود عمت الصلاة جميع الحركات وهي ثلاث: حركة مستقيمة وهي حال قيام المصلي، وحركة أفقية وهي حال ركوع المصلي، وحركة منكوسة وهي حال سجوده.
فحركة الإنسان مستقيمة، وحركة الحيوان أفقية، وحركة النبات منكوسة، وليس للجماد حركة من ذاته: فإذا تحرك حجر فإنما يتحرك بغيره.
وأما قوله «وجعلت قرة عيني في الصلاة ولم ينسب الجعل إلى نفسه فإن تجلي الحق للمصلي إنما هو راجع إليه تعالى لا إلى المصلي: فإنه لو لم يذكر هذه الصفة عن نفسه لأمره بالصلاة على غير تجل منه له.
فلما كان منه ذلك بطريق الامتنان، كانت المشاهدة بطريق الامتنان. فقال وجعلت قرة عيني في الصلاة.
وليس إلا مشاهدة المحبوب التي تقر بها عين المحب، من الاستقرار: فتستقر العين عند رؤيته فلا تنظر معه إلى شيء غيره في شيء و في غير شيء.
ولذلك نهي عن الالتفات في الصلاة، وأن الالتفات شيء يختلسه الشيطان من صلاة العبد فيحرمه مشاهدة محبوبه.
بل لو كان محبوب هذا الملتفت، ما التفت في صلاته إلى غير قبلته بوجهه.
والإنسان يعلم حاله في نفسه هل هو بهذه المثابة في هذه العبادة الخاصة أم لا، فإن «الإنسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره».
فهو يعرف كذبه من صدقه في نفسه، لأن الشيء لا يجهل حاله فإن حاله له ذوقي.
ثم إن مسمى الصلاة له قسمة أخرى، فإنه تعالى أمرنا أن نصلي له وأخبرنا أنه يصلي علينا. فالصلاة منا ومنه.
فإذا كان هو المصلي فإنما يصلي باسمه الآخر، فيتأخر عن وجود العبد: وهو عين الحق الذي يخلقه العبد في قلبه بنظره الفكري أو بتقليده و هو الإله المعتقد.
ويتنوع بحسب ما قام بذلك المحل من الاستعداد كما قال الجنيد حين سئل عن المعرفة بالله و العارف فقال لون الماء لون إنائه. وهو جواب ساد خبر عن الأمر بما هو عليه. فهذا هو الله الذي يصلي علينا.
وإذا صلينا نحن كان لنا الاسم الآخر فكنا فيه كما ذكرنا في حال من له هذا الاسم، فنكون عنده  بحسب حالنا، فلا ينظر إلينا إلا بصورة ما جئناه بها فإن المصلي هو المتأخر عن السابق في الحلبة.
وقوله «كل قد علم صلاته وتسبيحه» أي رتبته في التأخر في عبادته ربه، و تسبيحه الذي يعطيه من التنزيه استعداده، فما من شيء إلا وهو يسبح بحمد ربه الحليم  الغفور.
ولذلك لا يفقه تسبيح العالم على التفصيل واحدا واحدا.
وثم مرتبة يعود الضمير على العبد المسبح فيها في قوله «وإن من شيء إلا يسبح بحمده» أي بحمد ذلك الشيء.
فالضمير الذي في قوله «بحمده» يعود على الشيء أي بالثناء الذي يكون عليه كما قلنا في المعتقد إنه إنما يثني على الإله الذي في معتقده وربط به نفسه.
وما كان من عمله فهو راجع إليه، فما أثنى إلا على نفسه، فإنه من مدح الصنعة فإنما مدح الصانع بلا شك، فإن حسنها و عدم حسنها راجع إلى صانعها.
وإله المعتقد مصنوع للناظر فيه، فهو صنعه: فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه.
ولهذا يذم معتقد غيره، ولو أنصف لم يكن له ذلك.
إلا أن صاحب هذا المعبود الخاص جاهل بلا شك في ذلك لاعتراضه على غيره فيما اعتقده في الله، إذ لو عرف ما قال الجنيد لون الماء لون إنائه لسلم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده، وعرف الله في كل صورة وكل معتقد.
فهو ظان ليس بعالم، ولذلك قال «انا عند ظن عبدي بي» لا أظهر له إلا في صورة معتقده: فإن شاء أطلق و إن شاء قيد.
فإله المعتقدات تأخذه الحدود وهو الإله الذي وسعه قلب عبده، فإن الإله المطلق لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء وعين نفسه: والشيء لا يقال فيه يسع نفسه ولا لا يسعها فافهم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
تم بحمد الله و عونه وحسن توفيقه، والحمد لله وحده و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه وسلم تسليما كثيرا.
وكان الفراغ منه في عاشر شهر جمادي الآخرة سنة تسع و ثلاثين و ثمانمائة أحسن الله عاقبتها بمحمد و آله آمين.
 
قلت: أراد بالفردية انفراده، علیه السلام، بالمقام المحمود.
قوله: أول الأفراد الثلاثة يعني أن الواحد وإن كان أصل العدد، فإنه ليس من العدد "، فإن التعدد ما يعقل إلا من الثاني فصاعدا، فالاثنان هما أول أزواج العدد وأول العدد کله أيضا، وأما الثلاثة فهي كما ذكر الشيخ، رضي الله عنه، أول أفراد العدد، وأما الخمسة والسبعة وسائر الأفراد فهي ناشئة بعد رتبة الاثنين، فكأنه، رضي الله عنه، أشار إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم، هو الفرد الأول فأشبه الثلاثة، 
فكأن قائلا قال له: فلم لا أشبه الواحد فإنه أصل ومحمد، عليه السلام، أصل؟
فأجاب: بأنه، عليه السلام، هو الدليل على ربه، عز وجل، ومن شأن الدليل أن يكون مثلث الكيان يعني مقدمتين ونتيجة، فهو ثلاثة أركان أو ثلاثة حدود وهو الأصغر والأوسط والأكبر.
 
قال: وإنما حبب إليه من الدنيا ثلاث، لأن حقيقة التثليث موجودة بالذات فيه.
قال: وقدم النساء، اشارة إلى ظهور حواء من آدم، عليه السلام، من ضلعه فهي جزء من آدم فقدمت فقدم النساء من أجل ذلك.
 
قال رضي الله عنه: فإن شئت منعت أن أحدا يعرف ربه من نفس هذا الخبر حتى كأنك قلت: من عرف نفسه فقد عرف ربه؛ لكنه لا يعرف أحد نفسه فإذن لا يعرف أحد ربه. 
وهو معنى قوله: فإنه سائغ" فيه أي قد يفهم من هذا الحديث تعذر المعرفة بالعجز عن درکها.
قال: وإن شئت قلت: بثبوت المعرفة من ظاهر هذا الحديث،
فكأنك قلت: من عرف نفسه فقد عرف ربه، لكن كل أحد يعرف نفسه فإذن كل أحد يعرف ربه وهو معنى قول: وإن شئت قلت: بثبوت المعرفة.
ثم ذكر أن شوق العباد إلى ربهم هو من حنين الفرع إلى أصله وشوق الحق تعالى إلى المشتاقين إليه هو بالعكس.
من هذا وقد ورد على بعض الفقراء خطاب صورته: «يا عبد أنا أشوق إليك منك إلي، تطلبني بطلبي وأنا أطلبك بطلبك وبطلبي»، 
وذكر البيتين الشعر ثم ذكر التثليث الذي في محمد صلی الله عليه وسلم: 
أنه حق ورجل وامرأة فحن الرجل إلى أصله الذي هو ربه کحنين المرأة إليه، إذ هو أصلها. فمحبته، عليه السلام، للنساء محبة الأصل الفرعه كما أحب الله تعالى عبده.
 
ثم ذكر أن المحبة أوجبت عموم الشهوة بجميع البدن قال: ولذلك وجب الغسل من الانزال.
قال: وسر وجوبه أن لذة الانزال في الجماع تغمر قلب العبد حتى يغيب غالبا عن حضوره مع الله تعالى، والغيبة نجاسة عمت جميع أجزاء العبد"، فوجب أن يتطهر في جميعه ويرجع بالنظر الاعتباري إلى أن يرى كل ما فني فيه قلب العبد بالغيبة عن ربه تعالى، فهي نجاسة ولا يكون إلا ذلك، فإن الأنانية نجاسة واضمحلال الرسم باب الشهود الإلهي وفي هذا الكلام أسرار شريفة يقال مشافهة إن شاء الله تعالی.
 
قوله: فقال للمشتاقين يا داود إني أشد شوقا إليهم يعني للمشتاقين إليه وهو لقاء خاص، 
فإنه قال في حديث الدجال: «إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت» (29) فلا بد من الشوق لمن هذه صفته.
 
قلت: يعني أن من لا يرى ربه حتى يموت كيف لا يشتاق إلى لقاء ربه ثم أن ربه تعالی أشوق إليه. فإن قال قائل: فكيف يشتاق الحق إليهم وهم عنده وهو عندهم. 
فالجواب: أنه مثل قوله حتى نعلم وهو يعلم ثم انشاده؟: 
يحن الحبيب إلى رؤيتي وإني إليه أشد حنينا 
وتهفو النفوس ويأبي القضا فأشكو الأنين ويشكو الأنينا
الحق تعالی أشد حنينا إلى الإنسان من الإنسان إليه في هذين البيتين. 
قال: إني إليه أشد حنين، فإذن الناطق بهذين البيتين جعلهما على لسان الحق، لأنه هو الذي هو أشد حنین.
 
قال: وإنما اشتاق الحق تعالى إلى نفسه لأنه تعالی نفخ فيه من روحه فإلى روحه اشتاق. وقد ذكر، رضي الله عنه، أن الروح المنفوخة في الإنسان هي نار أي حار يابسة وهو الحق ولولا طول الكلام لشرحت كيف ذلك ومنه الخطاب الموسوي في النار.
قال: ثم اشتق له أي للإنسان من ذاته شخصا هو حواء خلقت من ضلع آدم، عليه السلام، فالمرأة خلقت من الرجل، فحنينه إليها حنينه إلى ذاته وهو لها وطن، فحنينها إليه حنين إلى الوطن والحق تعالى هو الوطن فلذلك تحن إليه قلوب العارفين.
 
قاله رضي الله عنه: ولا يشاهد الحق تعالی مجردا عن المواد آبدا.
 
ثم قال: فلو علمها أي علم مرتبة الأنوثة حقيقة لعلم بمن التذ؟ ومن التذ؟ 
وهذا كلام يتضمن التوحيد الذي به الكمال وهو حاصل للنشأة المحمدية وعن ذلك عبر، عليه السلام، بقوله: "حبب إلي النساء."
وباقي الفص ظاهر من كلام الشيخ، رضي الله عنه، وهذا آخر الكتاب والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. 
تم الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين.
 
تمت فصوص الحكم وخصوص الكلم مع شرحها بحمد الله وعونه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراء يوم الجمعة في الخامس من شهر شوال سنة ثمان ماية هجرية؛
 تمت فصوص الحكم وخصوص الكلم مع شرحها بحمد الله وحسن توفيقه الحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين؛ 

 تمت الكتاب بعون الملك الوهاب.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
» شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» كتاب الشيخ نور الدين عبد الرحمن الجامي نقد النصوص فى شرح نقش فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: