بسم الله الحمن الرحيم
قال تعالى (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ), وقال (أُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فان من عباد الله من لا يصل إليهم الشيطان ولا يمكنه أن يخطر في عرصاتهم, ولكن هذه الآيات كسيف ذي حدين إذ تعطي من وجه آخر أن ما ثم خالص من النار التي هي مسرح إبليس إلا العباد المخلصين, الذين خرجوا من مزجة الخيال, أو الخالصين الذين وردوها وقد كانت هامدة أصحاب العهد الذين لم ينسوا عهدهم, إذ النسيان هو سر ظهور الوسوسة وأوّل بعضهم (رب الناس), بالرب الناسي, وهو الانسان الذاتي في عينه الذي نسي أصله فظهر في الخيال صورا ملتبسة وسبلا متفرقه, فكانت الاستعاذة من شر الوسواس الخناس, فبالنسيان كان ظهور الإنسان ملتبسا عن نفسه وتحكم فيه سلطان التخييل, والحديث هنا عن بعض معاني الحقيقة الإبليسية وعن علاقتها بالظهور الآدمي, وعن حقيقة التلبيس وحده.
وقد تراكمت الرموز في هذا الموضوع بالذات في تراث الأمم والشعوب, وفي كلمات الأنبياء والأولياء, كأنه جدار أقيم بنيانه من دون أجر لغلامين يتيمين, فمن يتأمل في تراث الأمم دياناتها وفلسفاتها يجد انه قائم على ركائز متشابهه وهو الأمر الذي لم تخرج عنه الفلسفة الإسلامية, بل وكذا كلمات الكثير من العرفاء المسلمين, فان هناك ثنائية الخير والشر أو الظلمة والنور, التي يفترض انها تشكل بوجودها, المفتاح للإنسان أن يبلغ حقيقته وان يستظهر كل فعالياته, وان قيمة الحياة إنما تكون بهذا الاستظهار والسمو على تلك الثنائية, ليكون الإنسان هو الباب بل هو المعنى, وانفرد ألأكابر من أهل الله ببيان أن إبليس هو تنزل من تنزلات آدم وعضو من أعضائه فلم يقابلوه به, فضلا عن الحديث عن مقامات محمد صلى الله عليه وآله.
وإذا تحدثنا عن آدم الجامع والصورة الكاملة فما ثم شئ خارج منه فيكون حواره مع إبليس وإضلال إبليس له رمزا أيضا وتقريبا للأفهام وتصويرا لقوى الإنسان الجامع فانه وجد ان كل ما فيه طائع منيب مشفق على حده المشار إليه بقوله تعالى وأشفقن منها, فلما نظر وجد أن فيه بضعة تأبى الاندراج في صورة, وتأبى السجود وسائر أعضائه وحقائقه سيماهم في وجوههم من أثر السجود, وانه بهذه البضعة امتاز على الأملاك والأفلاك والسماوات والأرض والجبال وغيرها من المسخرات, فالتفت آدم فوجد في نفسه تلك البضعة بمثابة ركن به يتم سائر جهاته, ليخرج عن رسمها, لأن آدم حقيقة تنظر لعينها فلا يمكن أن يرسمها اللوح ولا القلم, ومن مانعية تلك البضعة فيه يتم له التجرد من كل رسم ويتبرء من الانطواء في صبغته, فلا يبقى إلا مع سره فيجد وجهه الخاص مع الله, والله ليس بمقابلة مع شئ, فينفرد بذاته, فيريد إبليس ان يضله فينفعه, فهو ممكور به مستدرجا, في كل أحيانه, فقد دعا إلى معنى لم يبلغه, فيبقي حبيس حده, فاندرج في الرحمة الواجبة، وهو ما لا يمكن لإبليس معرفته، وإلا لكان كالإنسان عارفاً بنفسه، وهو ما لا تحتمله الطبيعة الجنية المستبطنة في مساحة الخيال.
وكلما أرادت وجوه النور الإلهي أن تدرجه في الرحمة الإلهية المبسوطة, لترحمه وتظهره بها أبى ذلك وكان من الكافرين, فكان لعينا مطرودا أن يشرق بنور من أنوار الظهور, فترى وجهه مسودا لا نور فيه في حين ان الملائكة الذين هم دونه في ما علموه مشرقي الوجوه تعلوهم سيماء السجود, وصار اللعين يدور بدائرة نفسه التي لا مخرج منها, فكلما تكلمت معه عما آل إليه أمره قال ذاك إبليس الحال وهو لا يعول عليه, فلم يبال بالطارئ من التغيير ونظر إلى الأصل من وحدة العين, في زعمه, وهو قوله على لسان الأكابر: (فان سقطت من العين فقد وقعت في عين العين), وقيل انه لما قال (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) قال له الحق: يا لعين تقسم بعزتي وأنا ألعنك, فقال ليس عندك شئ اعز ممن عبدك, ولولا حبي لعزتك ما رضيتك معبودا, وأنا متعزز بعزتك, فهذا تمسكه بما علمه من التوحيد والمعنى في نفسه, وقد ورد في بعض الروايات انه ينسيه الله ذلك العلم في يوم القيامة, وقوله ِنِّي (أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) يكون حجة عليه, فيبقى قابعا فيه فيكون مسخرا للإنسان من حيث لا يدري فهو من جنود الله فينفع من حيث يريد أن يضر, بل هو رسول الهي في قوله اذهب, وله أمته التي يريد أن يضلها, ويحزن لامته كسائر الرسل يريد أن يبلغها ما علمه الملعون من الحق, ولكن علمه من حيث ما هو عليه من الإضلال الذي يفضي إلى الطرد والبعد, وقد زين لسليمان جنة في الخيال, فكانت بحق سليمان جنة في الحس فحزن ابليس وشكر سليمان الله, وإنما حزن لان مقصوده كان الإضلال عن السبيل فلا يريد لسليمان أن يقف على نعم تلك الجنة وسعاداتها, ومع انه يعلم أن القضاء والقدر حاكم على كل شئ, وقد جف القلم, ولكنه تمسك بما لديه من الدعوى والمعنى, فقد علم من نفسه أن كاف كفره سابقة على كاف تكوينه, فثم حقيقة أزلية سابقة على التكوين قائمة في علم الحق هي التي يقصدها في إضلاله وضلاله, ولذا تراه حين عاتبه موسى عليه السلام في إضلاله آدم عليه السلام قال إن كنت أنا إبليس ادم, فمن إبليسي؟.
ومما يدلك على قصور علم إبليس -على سعته- عن علم الإنسان الكامل انه افتخر بالنار بحكم ما هو عليه في نفسه وما لديه من علم التوحيد, وهي تحيل كل شئ إلى مثلها فهي متوحدة في عنصرها تأبى غيرها فرأى أنها الصفاء, وهي وجه من أين ما جئتها فلها وجه إلى كل وجه, وهي في تبعضها لا تفقد معناها وحقيقتها, فتلك نشأته التي هي علمه لان نشأته عين علمه ومعناه, ولكن لو تأملت لوجدت أن ما يقع في النار يتلاشى, ولا تبقى إلا النار, فهذه تعمية للحقائق وضلال لها, وليس ذلك في التراب ولا الماء, اللذان تنحفظ فيهما الأشياء, فما يذكر حول عبادة إبليس مع الملائكة وانه كان لهم معلما وعلى الكروبيين مقدما ولم يك ثم مخلوق اعرف منه واعبد منه واصدق دعوى ومعنى, كل ذلك جاء على سبيل الرمز والإشارة إلى سعة حضرة الخيال, وشمولها لكل شئ, وتعليمه لهم هو إظهار أمثلتهم معلمة مثلما تقول علمت الطريق إذا وضعت فيه علامات تشير إليه, فكانت علاماتهم متفرقة في الخيال وانتشت عنهم الكثرة المتقابلة, وهو عين التلبيس.
ومن التلبيس تنشأ معاني القرب والبعد وكذا كل المعاني المتقابلة الظاهرة في هذا الوجود, وأهل الله يشيرون بالأهل والنساء إلى الأسماء الإلهية وقد ورد أن النساء حبائله, مما يعني ان ظهور اقتداره هو في دولة الأسماء الظاهرة, لا يجاوزها, وهي منشأ الكثرة, ومحل التفرقة والخيال, وليس له وراء ذلك مرمى, والى ذلك أشار الجيلي ان لإبليس تسعا وتسعين اسما, يعني أن كل ما ظهر في الوجود المنفرق عن الرتق فإنما ظهر بعد أن تلبس بالخيال فأمكن ظهوره في صورة التقابل, وقال الجيلي ان منها سبعا امهات, يشير إلى محتد الخيال وانه يمتد إلى الأسماء المحيطة التي هي ظل الذات, والصحيح ان له ثمان وتسعون اسما وليس كما قال الجيلي لان إبليس إنما هو خيال ادم, وادم هو صاحب التسعة والتسعين, التي من أحصاها دخل جنة الذات فقد فات إبليس الباب الثامنة التي خاف من دخولها, والتي ليس لها مقابلا من أبواب النار السبعة المفرقة عن الذات.
وقبل بضعة أيام كان يسألني بعض الأحبة عن التلبيس فقلت له ان الله الواحد جل وعلا ظهر بصور متقابلة في الخيال ولم يخرج بذلك الظهور المتفرق عن وحدته, فاذا نظرت بحدك ترى مغايرتها وإذا رجعت إلى عينك التي لا يشوبها غين ترى وحدتها في التفصيل, وفصلت له الحديث, وبينما كان هو منصت للكلام تماما قلت له ناولني ذلك القدح الذي فيه ماء فقام فأعطاني القدح متعجبا من قطعي لذلك الموضوع الدقيق فقلت له هذا مثال للتلبيس انت تظن ان حديثي في المعاني الدقيقة يختلف عن حديثي عن القدح, فقد لبس عليك الخبيث, في الجهات, فاستعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, وارجع إلى الأصل في كل جهة الموصول بالله.
وذكر أهل الله غرق إبليس ولمته في بحر العارف, فان صاحب العين لا تلتبس عليه الأمور لأنه يأخذ علم الأشياء من أنفسها, فمن رأى ان الحق هو الظاهر في هذا الوجود, فان وسوسة الرجيم, لا تعدو أن تكون خطابا إلهيا, يأخذه العارف عن الله لا عنه, وأما عدم الأخذ من الجهات فهو اضمحلال التفصيل وهو الموت, وقد جعله تعالى من الرسل في قوله : (قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً) بل الجهات وخطابها هي رسل الله وخطاباته, وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) , وحين أراد اللعين ان يخدع عيسى عليه السلام فيدخله في طاعته, قال له قل لا اله إلا الله, فقال أقولها لا لقولك, فقد قلب عين المخاطب, ونظر إلى معناه وحقيقته, فلم ير إلا الله, فلا حكم للوسوسة فيه, وأما حديث إبليس عن أبي مدين وان مثله معه مثل صبي يبول في البحر لينجسه, فلك ان تحمله على هذا, أو انه لم يكن يأخذ خطابه عن الجهات, بل يرجع إلى عين العلم فيأخذ العلم عن الله لا عن الجهات, نعم الذوق الأتم في ذلك أن لا يقلب له عينا, بل كما قال محمد صلى الله عليه وآله: (اللهم أرنا الأشياء كما هي), فلا يقلب عينا بل يأخذ علم الأشياء من أنفسها, فمن احتاج إلى قلب العين عليه أن يستعيذ بالله من الشيطان, فقد وقع في تلبيس آخر وهو المندرج حتى في نظره للجامع للجهات, كما في قوله تعالى: (فإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ), لان القرآن جامع لكل ما ظهر في قراءته فيندس في ضمنه تخييل الرجيم.
وأما اليثربيون الذين لا مقام لهم والذين هم كل مقام فلا مسرح لإبليس فيهم, وأين محل (وَإِن تُصِبْهُمْ) (وَإِن تُصِبْهُمْ) في قوله (قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ) فالخلصاء لا يصل إليهم ولا يجول في عرصاتهم الا مضاما منضما, فان ظهور المحمدي نفسه بنفسه, فانه هو الذي يقيم القرآن فرقانا فيتلو القرآن الذي يقطع به الأرض, ويسير به الجبال, ويكلم به الموتى, فيقيم الفصل من وصله والفصل وهو الخشية المختصة بالعلماء, يقيمها مع الأنفاس, من آدم إلى إبليس إلى الذرة إلى المجرة, فمن أقام تلك المظاهر لا يستعيذ بالله من شئ يباينه لأنه إنما ظهر نفسه بنفسه فيقول أعوذ بك منك, وهي الاستعاذة المختصة بالمحمديين من أولياء هذه الأمة, الذين لا مجال فيهم لتخلل غير فانهم لم يتخذوا غير الله خليلا, فانه صلى الله عليه واله لا مجال فيه للهوى حتى يكون فيه مجال للإضلال والهداية.
وقد ظهر مما تقدم ان حديثنا ان كان في مرامي أهل الله فالحديث في الحقائق لا يحتمل ذات فوقية خارجة عن الذات, وهل ثم خارج عن الذات بل يكون إبليس بضعة من ظهورهم, وهو قوله (يجري في ابن آدم ...)فهو جزء متخلل سار في ضمن الجسد الكبير الذي هو العالم كسريان الخيال في كل فكرة, وهذا يختلف في الإشارة بقوله (ونحن اقرب إليه ....)لأنه قرب الذات, فانه يشير إلى ان غاية ما يتصوره الإنسان هو قرب حبل الوريد فما ثم أقرب, فإذا قال الحق إنا اقرب إليك من اقرب شئ تتصوره إليك, فهو يعني إني أنا ذاتك.
وإذا تبين ان لهذا الحديث الذي نحن بصدده مقامات مختلفة فلنشر إلى حقيقة الإنسان الكامل الحقيقي وبرزخيته, فانه لو تأمل متأمل بان الذات التي لا تعلق لغير فيها بحال من الأحوال كيف يمكن أن تظهر وان تتنزل, مع أنها لا مناسبة بينها وبين شئ أصلا, لعرف لابدية وجود وسط له التقاء بالطرفين فمن جهة, يكون عين ذاته من دون أي إضافة كانت ما كانت مما يضيف اعتبارا بل هو تجرد تام لا بوصف التجرد وإلا لكان سلبا, وليس ثم تلق أو مقابلة وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : (لي وقت لا يسعني إلا ربي) مشيرا إلى ذلك الوجه. ومن جهة أخرى يشهد نفسه فيرتسم فيه علمه بذاته, ثم يشهد الأسماء والصفات قائمة بنسبها في علمه.
فهذا الوسط هو الإنسان الكامل الحقيقي الذي لولاه ما كان ثم ظهور, واليه الإشارة في الأحاديث الشريفة التي تشير إلى انه لولا محمد صلى الله عليه واله لما عرف الله, ويشار له في لسان أهل التحقيق بالميزان, وفي خطبة علي عليه السلام: قال: ( انا الميزان), فان نظرت إلى الميزان من حيث حقيقته فهو الإنسان الكامل الحقيقي الذي لم يتصور ظهور الذات إلا به, والسين في قلبه هي لسان الميزان التي ما زاغ بصرها وما طغى إذ أن زبرها يساوي بينتها ما أعظمك ياسين, وقد تطابق طرفي السين مطابقة تامة فأوله ألف نون وآخره ألف نون, ولم يكن آخره نون ألف وإلا لكان عكسا للأول , والعكس تنقلب فيه الصورة كالصورة في الماء, فلو كانت السين مرآة الأول لكان انسنا ولم يكن إنسان ولكن لأنه أنما اظهر نفسه فيكون هو هو ليس بينهما إلا الامتياز النسبي, فألف نون ظهرت ألف نون, والنون تشبه الدواة التي فيها المداد المظلم الذي لم يتنور بعد بتسطير القلم والانبساط على اللوح, رغم أن ما ينسطر ليس غير ما كان معمى في الدواة يخرج من نقطة القلم البسيطه إلى لقاءه مع النفس وهي نقطة بسيطة أيضا ليظهر عنهما ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.
وهو عين قول علي عليه السلام في الإنسان انه الكتاب المبين الذي لم تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا فيه فهذا ما انسطر عن نون الإنسان.
والحقيقة فان كل ما دار من حديث هنا لا أجده خارجا عن حديث العارفين من أول الكلام إلى آخره , ولكن حديث العارفين يظهر بمقامات وألسنة, وما رأيناه من كلامهم في الأمم التي سبقتنا انهم لم يخرجوا من تلك المقابلة بين النور والظلمة أو الخير والشر أو يزدان واهرمن أو رمز الطاو المقدس الذي تتعانق فيه الظلمة والنور في الدائرة الكاملة ليكون النور هو لب الظلمة وتكون الظلمة هي لب النور, وكذا معنى الضد عند الكثير من العارفين الموحدين من المسلمين بفكرة الضد الظاهر في كل زمان بصور مختلفة, وقد قال تعالى كذلك يضرب الله الحق والباطل, فلم ينحاز, انتهاءا بالواحد الذي هو النور وهو الظلمة وهو لا نور ولا ظلمة المسمى بأسماء مختلفة عند كل فريق, وهو خلاصة مجملة لعنوان ما تركته تلك الفلسفات والنبوات من معاني الإنسان القابع وراء الخير والشر كظل تام لله فارغ عنهما معا وساريان فيه معا.
ولكن ذلك كله لا يبلغ البعد الذاتي الذي فصله علماء هذه الأمة التي هي امة أخرجت للناس, ومن يلتفت إلى نكات حديثنا المتقدم يعرف جانبا من عظمة هذه الأمة المحمدية وما كشفه ورثتها من علوم النبي الأمي الذي ما نطق إلا عن ذاته من دون تخلل لهوى, لأنه نفس المعنى. وأعرف في هذه الأمة من أهل هذا الزمان, رجلا لم يقرأ في حياته كتابا ومع ذلك انطبعت فيه الكتب, انطبع فيه ابن عربي والرومي وثناء, بعيدا حتى عن حكم العقل والقلب, فإذا قيل له قال فلان أكمل لك ما تريد وماذا يقصد وما الذي دعاه لما قال وكل نكتة يضمرها أو يبديها في كل سطر, وتظن أن المسالة انتهت فإذا عدت إليه وسألتة فصّل لك تفصيلا يستظهره من بين السطور لا يراه حتى مؤلفه وكاتبه ويربط ذلك بكل ما هو مكتوب فتعلم كيف أن هذا الإنسان قران له بطن ولبطنه بطن وهكذا, فإذا ما أراد الاستشهاد بقول عارف فانه إنما يستشهد به من نفسه, فيعطيه من حياته ويحي لمته.
نعم رأيت بين السطور هنا صوراً مشوقة فرأيت بلقيس تحولت من وجه إلى وجه, ولم تغادر اللبس, ورأيت نونا لم تنفرد بذاتها عن التلبيس حين انكسرت, ورأيت حواء مبتهجة بحياتها, ولم تبال بانفعالها, وها أنا أواصل نظري إلى جمالها علي أرى فيها آدم الفاعل, الذي عنه انشقت حياتها, ورأيت قلبا نابضا سليما كسر الأصنام, وترك كبيرهم.
وسلام على حبيبتي الغالية ثناء
والسلام على أخي وحبيبي أمير جاد الذي لم أنساه وسعيد بإشراقك من جديد, وأتمنى أن تفرد للشيخ عدلان حقلا تذكر فيه حكاياه وأقواله, فقد أحببناه مما نقلته هنا وفي التعزية.
وسلامي الى أحبتي الذين معك.