عبد الغني النابلسي بين العدمية والحياة
- هدى النعماني
-1-
"قال تعالى: " وأسجد واقترب ". هما سجدتان.
الأولى أن تسجد بك فيه. الثانية أن تسجد به فيك.
والثانية سميت باسم الاقتراب. ولم تسمى باسم السجدة.
مع أنها سجدة في الحقيقة. لأنها معها بُدلت الأرض غير الأرض والسماوات، وهي حقيقة قاب قوسين.
وعندما تذهب نقطة الغين عن العين والله الهادي والموفق".
النابلسي(1)
بهذا التيقظ للتيقظ والفهم، اشتعل بعض الأئمة ومنهم العلامة الشيخ عبد الغني النابلسي باطناً وظاهراً .
ومالت أهدابهم نحو الضوء، حتى أعظم الذنوب.
بهذا التيقظ للغفلة عن هذه الغفلة، كتبوا الأراجيز بذنب "كان الثاني منه أشد من الأول، ولم يرفعوا شعرة بيضاء عن شعرة سوداء
بل لم يرفعوا البصر عن صبوة كانت أقرب إلى الجنون، وقلوبهم حنطة ترقص وتدور، حسب إيقاعات أشبه بالغرور في الأكوان .
وجزموا ونفوا أن كل شيء "هو" حتى هم، وسكروا وأذنبوا وغمروا الفجر وهتفوا، وهتكوا الفجر، واستتروا
ودكوا الجبل عن المظهر الناري، وسجنوا تحت ا سم الرحمن عشبة تطلب الري مقام الذنب..
مستعينة عن المطر بالطاعة والتجلي ووضع العرش إن قبُلت حروفه، وسموا بالمتصوفة.
ومازالوا حتى اليوم عبر نفح السنين ورقائقها، بتصانيعهم ودراساتهم، بأشعارهم ونفحاتهم البسمة اللغز على ثغر الإسلام
فيما كان الإسلام ملتهباً تارة بيد الغزاة والجبر، أو ممزقاً تارة بيد العصبية والجهل، وما فتئوا، مهما فاضت الأرض دراً وندى، باصفرارهم وعقاقيرهم واشتياقهم وصبواتهم، المغفرة الطاهرة على شموس الحب.
-2-"إن من بعض ماهي الأطوار
لي مقام فيه اسمه الأغيار
وهو زيد كذا وعمرو وبكر
وبهم فيه تنشد الأشعار
فإذا قلت فيه قال فلان
وفلان فإنها استار
نعم القائل الذي قد ذكرنا
لكن الكنز نحن وهو الجدار
وهو جفن من الجفون لعيني
وأنا الجسم منه وهو الشعار
وأنا اللب والبرية قشر
وأنا الوجه والجميع خمار
كلهم في مدار روحي حروف
وأنا الشمس والسوى أقمار
والذي عندهم من العلم طلّ
والذي منه عندنا فبحار
بانةٌ غردت عليها طيور
أنا وحدي من بينهن الهذار
أنا عبد الغني مع من معي في
هذه الحال والغنى افتقار
ربنا الله في جميع المجالي
ما على وجهنا الجميل غبار
والأحباء حضرة البسط تجلّى
من هوانا عليهم الأسرار"
النابلسي(2)
(هو الشيخ عبد الغني ابن اسماعيل بن عبد الغني بن اسماعيل بن أحمد بن إبراهيم
المعروف كأسلافه بالنابلسي الحنفي الدمشقي النقشبندي القادري أستاذ الأساتذة وجهبذ الجهابذة
ولد في دمشق في الخامس من ذي الحجة سنة خمسين وألف
وكان والده مسافراً إلى بلاد الروم، فبشر والدته به المجذوب الصالح الشيخ محمود وقال سميه عبد الغني فإنه منصور...
شغله والده بقراءة القرآن ثم بطلب العلم.
فقرأ الفقه وأصوله على الشيخ أحمد القلعي الحنفي، والنحو والمعاني والبيان والصرف على الشيخ محمود الكردي نزيل دمشق
والحديث ومصطلحه على الشيخ عبد الباقي الحنبلي، وحضر دروس والده في التفسير بالمدرسة السليمية
وفي شرح الدر بالجامع الأموي، ودخل في عموم إجازته، وحضر دروس النجم الغزي ودخل في عموم إجازته
وقرأ أيضاً وأخذ على الشيخ محمد الأسطواني والشيخ إبراهيم الفتال، وأجاز له من مصر الشيخ علي الشبراملسي
وأخذ الطريقة القادرية عن الشيخ عبد الرزاق الكيلاني، وأخذ طريق النقشبندية عن الشيخ سعيد البلحي..
وابتدأ في قراءة الدروس وإلقائها والتصنيف لما بلغ عشرين عاماً
وأدمن المطالعة في كتب الشيخ محي الدين بن عربي وكتب السارة الصوفية كابن سبعين والعفيفي
فعادت عليه بركة أنفاسهم فأتاه الفتح اللدنيّ..
تآليفه ومصنفاته كثيرة وكلها حسنة ومتداولة مفيدة ونظمه لا يحصى لكثرته...
كان عالماً مالكاً أزمّة البراعة واليراعة فقيهاً متبحراً، يدري الفقه ويقرره، والتفسير ويحرره، غواصاً في المسائل
خبيراً بكيفية الاستدلال والدلائل، ذا طيعٍ منقاد وبديهة مطواعة.
هذا مع إقبال الناس عليه ومحبتهم له واعتقادهم فيه، ورأى في أواخر عمره من العز والجاه ورفعة القدر مالا يوصف
متعة الله بقوته وعقله حتى بعد أن جاوز التسعين...)(3).
بمثل هذا التقريظ الذي أورده المرادي في "مسلك الدرر" يضيف المؤرخون الشرقيون والغربيون(4) كالجابرتي، والمحبي، وهرثمان
وبروكلمان، وجلدميستر وغيرهم...
الشيخ الكبير عبد الغني النابلسي الذي يجثو اليوم بجوار أستاذه الشيخ الأكبر ابن عربي
تحت قبة خضراء في مسجد بناه لنفسه في المهاجرين.
طاوياً بخط دقيق كان يعشقه، سنيناً من الجهد والإثارة والعكوف والاعتزال والانسلاخ والرهبة والوله وبسط الأعين والنشوة
تاركاً مايزيد عن مئتي مؤلف من جنة ونار، وبركة وقناديل وزيت يفيض، ورفعة قوافي وتجريد وتفريد
في مدائح ورياض ومسالك وتراجم وقصور وبلدان ورسائل وألحان وكؤوس رحيق، فتميز برأي الجميع في الأدب أديباً، وفي الفقه فقيهاً
وفي التفسير إماماً، وفي التصوف قطباً، حتى ليحسبه المرء أكثر من رجل، وأكثر من مسلك، وأكثر من نسائم وأكثر من عاصفة.
وهكذا في غوصٍ ليس بالغوص، وقبضٍ ليس بالقبض، يصل النابلسي بين نقطة البدء والعناصر الأربعة في أعينه السالكة إلى المحجة:
الخلق؟الأرض والسماوات؟ ويطفئها. ماذا عن؟ ماذا عن؟..
وتأتي أجوبته قيدٌ يعار، لكماته أثواب تشف، والحقيقة أحجية تتمثل في العشق والذات الأخرى
شجرة تظل الدل والدوح والجدول والحلم والمدام والجارية والغلام والكأس والطير والبرق
بينما التيه ضوءٌ في العقل وشموس في الورى، لا بينه في بنية إلا إذا خرج هو وخرجوا به عنهم وعنه...
وفي هذه المثابة، من الغيب المطلق عن سائر العقول، تتأصل وتتعاظم لديه.
الكيف:
كيف أمكن للعقل أن يؤمن؟، وحقيقة الذنب بحسب الباطن بعد وصول التبليغ عن نفسه بنفسه عن نفسه؟، ومن امتثل ثم خالف الأمر..
وكلام العلماء من أهل الرسوم؟ وأقسام الذنب وحدّ الإصرار والتوبة التي تجب على الفور؟ والتي هي خلقه؟ كذلك النفس التي هي الروح... باعتبارها كيفية بسبب اتصالها المخصوص؟ ثم التوبة من التوبة؟
فينهمر:
"بل ليصدق الوعيد. مقام التوبة هو الدخول في هذا السير مع هؤلاء السائرين.
وما ثُمّ إلا رفعٌ حجاب ومصادفة حجب أخرى.
وكل تجليّ رفعٌ لحجاب وسدلٌ لحجاب آخر" يقول في كتابه الفتح الرباني والفيض الرحماني..
ثم ماذا؟ ماذا عن ابن غانم المقدسي، وزين العابدين الكبري، والشيخ الأكبر قدس الله سره، ومحمد البكري، والساقي في التائية؟
ثم ماذا؟ ماذا عن حرف الصاد، وعلام عن حرف اللام؟
والحلم؟ ماذا عن الدقيق والشمس والعشب والبحر... تسائله دمشق، وتسائله مكة، وتسائله بغداد، وتسائله القدس.
فينهمر:
"إن تيأس من رحمة ربك إياك... وإياك!" وينجلي، لكأن مرآته من الذهب المقنطر.
وينازل، ويتكبر، ويتحدى:
ونظمتُ ديوان التغزل كله
فيهم بلفظ معجب ونظام
وأتيت فيه بكل معنى رائق
في كل جارية وكل غلام
والقصد أنتم بالجميع وذكرهم
هو ذكركم عندي على الإبهام
فأسير سير الغافلين بقولهم
أبداً وأقصد مقصد الأقوام
وأنا الذي في ظاهري متمسكٌ
بشريعتي في سائر الأحكام
وأنا الذي في باطني متحقق
بحقائق التوحيد والإبهام
أنا مجمع البحرين موسى ظاهر
والباطن الخضر الأجلّ السامي
هيهات أن تنجو فراعين العدا
مني وبحري بالمعارف طامي
وعليّ من أعين السرادق أعينٌ
للحق تحفظني مدى الأيام
وأنا لأطيار الحقيقة مخرس
وأنا الإمام بها لكل إمام
والعارفون رعيتي في قبضتي
والغوث والأقطار من خدامي
نحن الشموس وما خفافيش الورى
تستطيع تبصر غير محض ظلام
النابلسي(6)
ثم يكسر الطوق في صورٍ رشيقةٍ وملتحمةٍ حيناً:
أشعاع شمس من قرارة ماء
أم جسم نار في قميص هواء
وقضيب بانٍ فوق غصنٍ من نقا
أم بدر ثمَّ طالعٍ بسماء(7)
مسترسلةٍ وحنونةٍ حيناً بمداعبه وأنس...
جفونك ثم خصرك ثم جسمي
نحيلٌ في نحيل في نحيلِ
وردفك والعذول وشوق قلبي
ثقيلٌ في ثقيل في ثقيلِ(8)
جائيةٍ مرة برقة وخفر،
لاحظتُ خالاً تحت صفحة خده
متوارياً خلف اللهيب النافذ
فسألته ماذا المقام، فقال لي
هذا المقام المستجير العائذ(9)
متهافتةٍ مرة في عدو نحو العطر..
من لي بظبي وما للظبي لفتة
تقاسم الحسن في خَلوق وفي خُلُق
كأنما الورد منثورٌ بوجنته
والدرّ من فيه منظومٌ على نسق(10)
منصرفةٍ كالدخان مراراً حتى اللانهاية،
تراك الله ما في الدار ديار
إنما هي نيران وأنوار
قد أماطت سليمى عن براقعها
فوجهها مشرق والطرف سحّار
وما الجميع سوى إشراق بهجتها
دوائر كلهم عنها وأدوار
إذ أومأت كانت الأكوان ظاهرة
عنها وإلاّ ففيها الكل أسرار(11)
عائدةٍ كأنهار عسل إلى راحاتنا،
قف على باب حانتي يا نديمي
علّ يرضى دخولك الخمّار
واستمع صوت قينتي وتتغنّى
حيث جسمي في كفّها مزمار
وجميع الوجود ليل لقومٍ
جهلوا وهو عند قوم نهار
وجنان النعيم عند أناس
وأناس "ذا" عندهم هو نار(12)
ضاربةٍ يداً بيد، همساً بهمس..
إن السماع سماع الناي والوتر
يسقي أراضي نفوس الناس كالمطر(13)
حلقية السقم والشجا والأحشاء إلى الهاوية،
هلاّ غنيتم بما غنّى به الوتر
فتسمعوا منه يا عشاقه وتروا
فإن في نفحة الطنبور بارقةٌ
من البروق التي في القلب تستعرُ
واستنطقوا الدف ينطق بالإشارة عن
معنى بدا وهو في الأكوان مستتر
وهي المعاني تراءت في السماع لنا
عنها لقد كان محجوباً بها البصر
وأخبرتنا إشارات الصنوج بها
نهيم القلب منّا ذلك الخبر(14)
جائشةٍ مع طيب غيث الجوهر كفجر كصارم تجرّد عن غمد،
كما يقول، بين شمس ضحى كدّس من العسل يحوي المجد والطيب والأجناس
بين لقاءات في الفقه والشعر والنحو تقر كنوز العطاء في غليل لا ينضب
بين نفحات تاريخ من أعاجيب الوجود هي ميراث وأيما ميراث...
ويقرر أن يرحل...
فيرحل للتبرك والنفع العام. ويرحل. كي يعود بشاشة "ورواية".
أشرق بدر السما على البحر
كمثل عقد الميح على النحر
تصقله الريح وهو يصقلها
تجري به وهو تحتها يجري
والبحر أمواجه ترددها
وسوسة المستهام في الصدر
أو درجات إلى علا شرف
أو عقد النافثات في السحر
زهت بمينائها (طرابلس)
زهو رداح برقة الخصر
والزهر فينا يبث نفحته
مع النسيم الذي أتى يسري
ونحن في الأنس والسرور بلا
أسامع الصخب بهجة العصر(15)
كذلك دقة وتصنيفاً.
وقد رأينا على حافة المينا أنواع المراكب والسفن وقد ذكر لنا أسماءها صديقنا الحاج نور الدين الطرابلسي المذكور...
لا بأس بذكر ذلك لتتم الفائدة. فاعلم أن أنواع المراكب وأسماءها كثيرة بلغت عدتها عشرين نوعاً: