تعدد العشاق والحب واحدٌ لأن المحبوب واحد وإن تعددت أسماءه .. وإن تباينت مظاهرة وتجلياته ..
ودولة أهل الغرام .. يهيج فيها القلب فيفيض بأمواج الهيام على صفحات أنهار الشوق فيركب مراكب الوجد للوصول إلى وجه الحبيب الساري .... فتسري باسم الله مجريها ومرساها .. لترسو على شواطئ الشغاف المذكور في قرآن ربنا لحكيا النبي الجميل يوسف عليه السلام قد شغفها حبا ....
وكأن يعقوب النبي عليه السلام وصل الوجد بجسده إلى أعلى الأعالي .. فصادف عينه فأخذ نورها فقال إني لأجد ريح يوسف .. فما أعاد له نورها غير قميص الحبيب ..
هو الحب .. رئيس الدولة وسلطان الكرسي وفص تاج المملكة ..
وكما ابن عربي محي الدين قد ترجم أشواقه في حب النظام .. لحب سيد النظام ...
ها هو الوارث المحمدي سلامة ابن حسن الراضي .. وكفى بهذا الاسم لمن أراد أن يعلمُ
وكل لبيب بالإشارة يفهمُ .. سلامة .. وحسن .. وراضي ..
نراه يرسل لإبنه إبراهيم .. وقد زاد شوقه وجرى ترجمانه على لسانه الشريف .. وقد قال سيده وسيدنا صدر العالم وإمامه : " إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ... " ..
وما الجد الأكرم إلا مشكاة نور يخرج منها الأحفاد والأبناء بالضياء ذرية بعضها من بعض ... ليعم الأرجاء البهاء ....
وكان قد خرج إبراهيم ابن سلامة الراضي رضي الله عنهما في رحلته إلى ( مونسه ) من ريف أعمال الفيوم المصرية في ضيافة إخوانه في أرض الله الواسعة الرحبة .. و ضيافة عمدتها .. فزاد وجد الشيخ الراضي سلامه .. وتفجرت الحكمة من بين حروفه وأقلامه ..
وكتب رسائل منها هذه الرسالة وكانت الرابعة من بين الرسائل الستة .....
فكتب الراضي رضي الله عنه لولده إبراهيم ... بلسان العربي الفصيح الحكيم ...
وكأن ابن عربي محي الدين الذي كتب فانظروا لقماننا لمّا وعظ ابنه ماذا كتب :
* * * * * * * * * *
الخطاب الرابع :
حضرة المحترم إبراهيم أفندي سلامه
تباينت المشارب والكل واحدٌ ، ومن واحد فرد إلى واحد متعدد ، فالواحد عين الإثنين ، والواحد في ذاته واحدٌ لا يتعدد ، وهكذا ترى الواحد سارياً في مراتب الأعداد ، فمن شهد المراتب حكم بتعدد الواحد ، ومن شهد الواحد لذاته لم ير إلا واحداً ، وكما أن الواحد يسري في مراتب الأعداد والوحدانية صفته .
فكذلك وحدة الأمكنة فإنها وإن تعددت في نظر الرائين فإن الوحدة تستوعبها وتستغرقها ، وتسودها وتشملها ، والفروق الظاهرة في مراتبها لا تتنافى مع وحدتها ..
فإن رحلت من مكان إلى آخر فما رحلت إلا من مرتبة إلى مرتبة ، والمرتبتان متنافيتان من حيث مرتبة التعدد مع كونهما مظهرين لوحدة لا تتعدد ، ويلحق الزمان بالمكان ، ثم إن الزمان والمكان والأعداد مظاهر رتبية ولكنها غارقة في الوحدة العامة لا من حيث كونها زماناً أو مكاناً أو أعدداً .
وإذا نظرت إلى بقية رتب الأسماء والصفات وجدت الوحدة تشملها ، والوحدة ليست من الأعداد لأنها ليست نصف الإثنين ، ولأن وحدة الواحد الذي لا يتعدد في ذاته تمنع الإنقسام ....
على هذه الإعتبارات تكون رحلتكم من مصر إلى " مونسه " إنما هي في الحقيقة رحلة من مرتبة إلى مرتبة ، وفي الواقع ما خرجتم عن وحدة المكان الحقيقية .. فما انتقلتم منها إلا إليها.. وتكون مصر ومونسه مرتبتين في وحدة غير متعددة وهما اسمان لمسمى واحد في الحقيقة ، وقد وقع التفريق والكل واحدٌ ، وكذلك القرب والبعد والشوق والحب متباينة ومتخالفة ، فإن ردت إلى وحدتها العامة تاهت في بيداء ميدان إطلاقها ..
رحلتم عنّا وأنتم معنا .. فكن معنا وافهم المعنى ..
وقل للعاذل دعنا ما دمت لم تسعنا ..
فالواحدة تنوعت منها المراتب وكل العلوم من سر نقطة وحدتها فمن تحقق بسرها سرى في مظاهر رتبها فكان أولها وآخرها وآخرها وأولها ، ولا أول ولا آخر والتعدد رمز فكن ذكياً ، والرمز سترٌ على الأشاير ، فمصر هي مونستي ، وهما مرتبتان في حضرتي لمن فهم سر إشارتي ..
أما من حجب بمظهر رتبتي ، عن توحد سر حقيقتي ، فقد تفرق وما اجتمع في نظر رتبته وإن كانت حقيقة الجمع قد شملت تفرقة من حيث لا يشعر " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " .
ولولا المراتب لما تنزهت في تنزلات مظاهرك ، ولكنت باقياً على كنزيتك لا تعرف ، حيث يدركك سر حب الظهور ، فتبدت المراتب التي تحمل سر الوحدة المطلقة ، عن الإطلاق والتقييد .
فشوقي إليك بل شوقي إليّ ، فمني وإليّ ، فما ظهرت إلا بما به بطنت ، وفي الوحدة لا ظهرت ولا بطنت ، ولا علمت ولا جهلت ، ولا عُرفّت ولا تنكرت ..
والحق سبحانه عليمٌ حكيم ، وبنا رؤفٌ رحيم ، تنزه عن كل ما يخطر بالبال ، وكل ما خطر في بالك فالله بخلاف ذلك ، والعجز عن الإدراك إدراك ، والبحث عن الحقيقة إشراك ، سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون ، وفوق كل ذي علمٍ عليم ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ..
والحقائق كلما ظهرت زادت غموضاً وإبهاماً ، فمصر ومونسه وما بينهما من مراتب ، وكذلك الرمل والبحر والمراكب ، وسر فيض القيومية سار في الجميع ومن تخلف عنه فليس بشيء ، وكل شيءٍ كأس إن رآه القلب يسكر ، والخمر سريان الأسرار الغيبية في مظاهر كؤوس المراتب الكونية ، فتسري فيها وفق استعدادها ، والاستعداد موهوب ، من فيض علاّم الغيوب ، وهو الوهّاب الحكيم جل شأنه ، وتعالى وصفه .
وإلى هنا نمسك العنان ، إذ مرادنا الإقتصار ، فإن فاض الكريم ، من فضله العميم ، وكان لكم شيء من الإستعداد ، زدناكم من هذا التحقيق ، وبالله التوفيق ، وهو المستعان ، وهو حسبي ونعم الوكيل .
بلغوا سلامي وسلام من عندنا إليكم ولمن معكم ومن يُجالسكم ويحبكم ويلوذ بكم ، سيّما حضرة العمدة ، خُلاصة الأحباب ، سيدي محمود أفندي عبد التواب ، والسلام ختام ، وإلى لقاء قريب إن شاء الله .
والدكم
سلامة حسن الراضي
* * * * * * * * * * * *
إنتهى الخطاب ... الذي فاض بتحقيق حق الحقيقة وحسن الجواب ... وكان لنا منه طيفاً من نسائم ألطاف سيدي سلامه .. صاحب الهمة والشرف والعمامة .. وأريج روائح ورود الشوق إلى الواحد ورحماته .. بمداد ظهور تعدد مظاهر تجلياته .. ونبه أنه لا حيلة لنا في ذاته .. فيكفينا أسماءه وصفاته .. وبهذا تتم النعمة ويحصل الرشاد .. ونكون قد تزودنا بخير الزاد ... لنُشهد رب العباد .. أن العين و القلب والفؤاد ... يحن إلى الصالحين .. عسى أن تكون لنا بهم شفاعة ... وهذا دعائنا ... وهذه ضراعة ... اللهم ربنا الذي هو هو ربهم .. نشهدك أننا نحبهم ونلوذ بهم .. فلهم منّا التحية والإحترام .. وصلوات ربى العلاّم .. على السيد المُشرّف خير الأنام .. سيدنا محمد الأفخم الأنور الأزهى الأقدس الأعظم ... عليه وآله وأصحابه وأحبابه أفضل الصلاة وأزكى السلام ...
الدرويش