تنبئَة الغبي بتبرئَة ابن عربي
للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي
هي رسالة قيمة كان قد الفها الإمام الحافظ السيوطي رحمه الله ( 849 - 911 هجرية) ردا على من سأله عن " ابن عربي":
ما حالُه ؟
و ما الحكم في رجل أمر بإحراق كتبه وقال: { إنه أكفر من اليهود، والنصارى، ومن أدعى لله ولدا } ؟
و عنوان الرسالة وما تضمنته من أقوال الحفاظ والأئمة والعلماء يجد أن الإمام السيوطي يرد فيها على "برهان الدين البقاعي " صاحب كتاب ( تنبيه الغبي بتكفير ابن عربي ) والله أسأل أن ينفع بنشر هذه الرسالة وأن يتقبل منا أعمالنا خالصة مخلصة لوجهه الكريم.
______________________
تنبئَة الغبي بتبرئَة ابن عربي
للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى..
و سلام على عباده الذين اصطفى..
وبعد ...
فقدا سئلتُ: في " ابن عربي، ما حاله ؟ وفي رجل أمر بإحراق كتبه وقال: إنه عربي:ن اليهود، والنصارى، ومن أدعى لله ولدا " ؟ فما يلزمه في ذلك ؟
قد اختلف الناس قديما وحديثا في ابن عربي:
1 - ففرقة تعتقد ولايته. وهي المصيبة .
و من هذه الفرقة الشيخ تاج الدين بن عطاء الله من أئمة المالكية والشيخ عفيف الدين اليافعي من أئمة الشافعية.فإنهما بالغا في الثناء عليه،
و وصفاه بالمعرفة.
2 - وفرقة تعتقد ضلاله ومنهم طائفة كبيرة من الفقهاء
3 - وفرقة شكت في أمره ومنهم الحافظ الذهبي في الميزان .
4 - وعن الشيخ عز الدين بن عبد السلام:
أ - الحط عليه.
ب -و وصفه بأنه القطب.
و الجمع بينهما:
ما أشار إليه تاج الدين بن عطاء الله في " لطائف المنن ":
أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام كان في أول أمره على طريقة الفقهاء من المسارعة إلى الإنكار على الصوفية.
فلما حج الشيخ أبو الحسن الشاذلي ورجع، جاء إلى الشيخ عز الدين قبل أن يدخل بيته، وأقراه السلام من النبي صلى الله عليه وسلم، فخضع الشيخ عز الدين لذلك، ولزم مجلس الشاذلي من حينئذ، وصار يبالغ في الثناء على الصوفية لمَّا فهم طريقتهم على وجهها.
و صار يحضر معهم مجالس السماع.
و قد سئل شيخنا شيخ الإسلام، بقية المجتهدين شرف الدين المناوي عن ابن عربي، فأجاب بما حاصله:
إن السكوتَ عنه أسلم؛ وهذا هو اللائق بكل وَرِع يخشى على نفسه.
و القول الفصل عندي في ابن عربي طريقه لا يرضاها فِرْقَتَا أهل العصر: لا من يعتقده، ولا من يحط ّ عليه.
و هي: اعتقادُ وِلايَته ، وتحريم النظر في كُتُبِه .
فقد نُقِلَ عنه هو أنه قال:
{ نحن قوم يحرم النظر في كتبنا. وذلك أن الصوفية تواطئوا على ألفاظ اصطلحوا عليها، وأرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة منها.
فمن حمل ألفاظهم على معانيها المتعارفة بين أهل العلم الظاهر كفَر وكفَّرهم.}
نص على ذلك الغزالي في بعض كتبه وقال : إنه شبيه بالمتشابه بالقرآن والسنة.
و من حمله على ظاهره كفر، وله معنى سوى المتعارَف عليه منه.
فمن حمل آيات الوجه، واليدين، والعين، والاستواء، على معانيها المتعارفة كفر قطعاً.
و المتصدي لكتبه تدل أن ابن عربي لم يخفْ من سوء الحساب، وأن يقال له:
هل ثبت عندك في نص أنه كافر ؟ فإن قال: { كتبه تدل على كفره }. أَلأول: أن يُقالَ له: هل ثبت عندك بالطريق المقبول في نقل الأخبار أنه قال هذه الكلمة بعينها ؟ وأنه قصد بها معناها المتعارف ؟
والأول: لا سبيل إليه؛ لعدم مُستَنَدٍ يُعْتمد عليه في ذلك. ولا عبرة بالاستفاضة الآن.
و على تقدير ثبوت أصل الكتاب عنه؛ فلا بدّ من ثبوت كلِّ كلمة كلمة؛ لاحتمال أن يُدَسَّ في الكتاب ما ليس من كلامه من عَدُوٍّ أو مُلْحِد.
و هذا " شرح التنبيه " للجيلي ، مشحون بغرائب لا تعرف في المذهب. وقد اعْتُذِرَ عنه؛ بأنه لعلَّ بعض الأعداء دسَّ فيه ما أفسده حسدا.
والثاني: وهو أنه قصد بهذه الكلمة ( كذا ) لا سبيل إليه أيضا.
و من ادعاه كفر؛ لأنه من أمور القلب، التي لا يطَّلع عليها إلا الله.
و قد سال بعض أكابر العلماء بعض الصوفية في عصره: ما حملكم على أن اصطلحتم على هذه الألفاظ التي يُسْتَبْشَعُ ظاهرُها ؟
فقال: غيرةً على طريقنا هذا أن يَدَّعيه من لا يحسنه، ويدخل فيه من ليس من أهله.
و المتصدي للنظر في كتب ابن عربي، أو أقرأها غيره..لم ينصح نفسه، ولا غيره؛ بل ضرَّ نفسه، وضرَّ المسلمين كل الضرر، لا سيما إن كان من القاصرين في علوم الشرع، والعلوم الظاهرة؛ فإنه يَضِل، ويُضِل..
و على تقدير أن يكون المُقرىء عارفا؛ فليس من طريق القوم إقراء المريدين كتب الصوفية. ولا يؤخذ هذا العلم من الكتب.
و ما أحسن قول بعض الأولياء لرجل - وقد سأله أن يقرأ عليه " تائية ابن الفارض " - فقال له:
دع عنك هذا..
مَن جاع جُوعَ القوم، وسهر سهرَهم، رأى ما رأَوْا..
و الواجب على الشاب المستَفْتَى عنه: التوبة، والاستغفار..والخضوع لله تعالى، والإنابة إليه؛ حذراً من أن يكون آذى وليًّا لله، فيؤذِن الله بحرب.
فإن امتنع من ذلك، وصمَّم َ، فكفاه عقوبة الله تعالى عن عقوبة المخلوقين.
و ماذا عسى أن يصنع فيه الحاكم أو غيره..
هذا جوابي في ذلك. والله أعلم.
و قد أثنى عليه جماعة منهم:
قال الشيخ العارف صفي الدين بن أبي المنصور في " رسالته ": رأيت بدمشق الشيخ الإمام الوحيد، العالم العامل: مُحْيِي الدين بن عربي.
و كان من أكبر علماء الطريق، جمع بين سائر العلوم الكَسْبِيَّة، وما قرأ من العلوم الوهبية.و شهرته عظيمة، وتصانيفه كثيرة. وكان غلب عليه التوحيد علما وخلقا..
لا يكترث الوجود مقبلا كان أو مُعرضًا، وله أتباع علماء، أرباب مواجيد، وتصانيف، وكان بينه وبين سيدي أبي العباس الحرار إخاء ورفقة في السياحات - رضي الله عنهما - آمين.
و قال في موضع آخر من " الرسالة ":
كتب الشيخ محيي الدين بن عربي كتابا من دمشق إلى أبي العباس الحرار قال فيه:
يا أخي أخبرني بما تجده لك من الفتح.
فقال لي الشيخ: اكتب: جرت أمور غريبة النظر، عجيبة الخبر.
فكتب إليه ابن عربي: توجه إليَّ بها بباطنك أُجبْك عنها بباطني. فعزَّ ذلك على الشيخ منه، وقال لي: اكتب له: أُشْهدت الأولياء دائرة مستديرة في وسطها اثنان: أحدهما - الشيخ أبو الحسن بن الصباغ. والآخر - رجل أندلسي.فقيل لي: أحد هذين هو " الغوث "، فرفع الأندلسي رأسه أولا فتحقَّقته، فوقفت إليه، وسألته سؤالا بغير حرف ولا صوت، فأجابني بنفثة نفثَها، فأخذت منه جوابي، وسرت لسائر دائرة الأولياء، أخذ منها كل ولي بقسطه.
فإن كنت يا أخي بهذه المثابة، تحدثت معك عن مصر. فلم يعد يكتب له من ذلك شيئا.
و قال الشيخ عبد الغفار القوصي في كتابه " الوحيد ".
قال: حدثني الشيخ عبد الغفار المنوفي خادم الشيخ محيي الدين بن عربي قال:كان الشيخ يمشي، وإنسان يسبهُ، وهو سلكت لا يرد عليه.
فقفقال: سيدي، ما تنظر إلى هذا ؟ ، فققلت: لمن يقول ؟ ، فقال:قول لك. فقال: ما يسبني أنا، قلت: كيف ؟
قال: هذا تصوَّرت له صفات ذميمة؛ فهو يسب تلك الصفات، وما أنا موصوف بها.
قال الشيخ عبد الغفار:
و لقد حكى لي الشيخ عبد العزيز عن ابن عربي حكايات من هذا الجنس وغيره، مع ما يتكلم الناس فيه، ونسبوه إلى الكفر بألفاظ وجدوها في الكتب وما تأولوها.
قال: وحكى لي الشيخ عبد العزيز: أن شخصاً كان بدمشق، فرض على نفسه أن يلعن ابن عربي كل يوم عَقب كل صلاة عشر مرات، فاتفق لأنه مات، وحضر ابن عربي مع الناس جنازته، ثم رجع وجلس في بيت بعض أصحابه، وتوجه إلى القبلة، فلما جاء وقط الغداء أُحْضِرَ إليه الغداء، فلم يأكل، ولم يزل على حاله متوجها، يصلي الصلوات، ويتوجه إلى ما بعد العشاء الآخرة، فالتفت وهو مسرور، وطلب الطعام، فقيل له في ذلك، فقال: الْتزمت مع الله ألاَّ آكل ولا أشرب حتى يغفر لهذا الرجل الذي كان يلعنني، فبقيت كذلك، وذكرت له سبعين ألف << لا إله إلا الله >>، ورأيته وقد غفر له.
قال الشيخ عبد الغفار:
و حكى لي الشيخ عبد العزيز عنه حكايات ٍ تدل على عظم شأنه، وكشف إطلاعه قال: وحكى الإمام محب الدين الطبري شيخ الحرم بمكة عن والدته - وكانت من الصالحات - أنها ربما أنكرت على ابن عربي كلاماً قاله في معنى " الكعبة ".
قالت : فرأيت الكعبة تطوف بابن عربي .
و قال: وقد كان وقع بين الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وبين الشيخ محيي الدين بن عربي.
أخبر الشيخ عبد العزيز ذلك؛ لأن الشيخ عز الدين كان ينكر ظاهر الحكم.
و حكى عن خادم الشيخ عز الدين أنه دخل إلى الجامع بدمشق، فقال "الخادم" للشيخ عز الدين: أنت وعدتني أن تُرِيَنِي << القطب >>.
فقال له: ذلك هو << القطب >>، وأشار إلى ابن عربي وهو جالس، والحلقة عليه.
فقال له: يا سيدي وأنت تقول فيه ما تقول ؟
فقال: هو << القطب >>.
فكرر عليه القول، وهو يقول ذلك.
فإن لم يكن << القطب >> فلا معارضة في قول الشيخ عز الدين؛ لأنه إنما يحكم عليه بما يبدو من أموره الظاهرة، وحفظ سياج الشر ع.
و السرائر أمرها إلى الله تعالى يفعل فيها ما يشاء، فقد يطَّلع على محله ورتبته، فلا ينكرهما.
و إذا بدا في الظاهر شيء مما لا بعهده الناس في الظاهر أنكره حفظا ً لقلوب الضعفاء، ووقوفاً مع ظاهر الشر ع، وما كلف به، فيعطي هذا المقامَ حقًّهُ، وهذا حقَّهُ، والله أعلم.
هذا كلام الشيخ عبد الغفار في جمعه بين مقالتي الشيخ عز الدين في حق ابن عربي.
و عندي في الجمع أحسن من ذلك، وهو ما أشار إليه الشيخ تاج الدين بن عطاء الله- نفعنا الله به -:
أن الشيخ عز الدين كان أوَّلا على طريقة غالب الفقهاء من المسارعة إلى الإنكار على << الصوفية >>.
فلما حج الشيخ أبو الحسن الشاذلي ورجع، وأقرأه السلام من النبي صلى الله عليه وسلم حسُن اعتقاده في الصوفية، ولزم مجالسهم بعد ذلك؛ فالظاهر أن إنكاره على ابن عربي كان في أول أمره لما كان الشيخ عز الدين أولاً بدمشق.
و ثناؤه عليه كان بعد ذلك في آخر أمره.