ولو أردنا جمع جميع ما يتعلق بطريق الصوفية لطال بنا الكتاب ولنكتف بما أوردنا وفيه كفاية ان شاء الله من الدلالة على صحة أهل الطريقة .
ففي الحديث الأول بيان مبدأ نهج الطريقة ونهايته وذلك لان سالكي هذا النهج يـبدؤون بالمجاهدة ولا يزالون يجاهدون أنفسهم ويجتهدون في تطهير قلوبهم من كل ما يـباعد عن الله وتزيـينها بكل ما يقرب إليه من الأموال والأقوال والأعمال ولزوم الإقبال والمثول بين يديه في كل وقت من الأوقات وحال من الأحوال على حسب الامكان حتى يصلوا إلى مقام الفناء ، والواصل إلى مقام الفناء هو المحبوب الملحوظ والمربوب المحفوظ .
وفي الحديث الثاني تنويه عظيم بقدر أهل الطريقة وذلك لأن الخصال التي ذكرت فيه كلها من الأخلاق التي يتخلق بها أهل الطريقة ويحثون على التخلق بها .
وفي الحديث الثالث بيان مبدأ أهل الطريقة ونهايته فأن حارثة
اخبر انه جاهد نفسه بالقيام والصيام والتجافي عن دار الغرور حتى مَنّ الله عليه بالوصول إلى عين اليقين .
وفي الحديث الرابع تنويه بقدر كل سالك صادق وذلك لان من أخلاق أهل الطريقة محاسبة النفس وتعمير كل وقت بما يليق ، قال الشافعي صحبت الصوفية واستفدت منهم ثلاث كلمات: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ، نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر ، الندم عصمة .
وفي الحديث الخامس الحث على التخلق بأخلاق أهل الطريقة إذ هم المنقطعون إلى ربهم المتخلقون بأخلاق نبيهم
.
وفي الحديث السادس فيه إشارة جامعة لمنهج أهل الطريقة لأن اصل هذه الطريقة الخاصة كمال المعرفة ودوام المراقبة للحق سبحانه في الحركات والسكنات .
وفي الحديث السابع الحث على صحبة الصوفية ومجالستهم ، إذ الفقير الكامل هو الصوفي الصادق يتلذذ بفقره ويشهد فيه المنة لربه ويحمده عليه كما يحمده الغير على الغنى .
مما تقدم من الأحاديث الشريفة ودلالتها تبين لنا إن الطريقة هي روح الإسلام ولبه وأساسه وان كان اسمها ظهر فيما بعد فذلك لا يعني أنها ظهرت متأخرة وقال ابن خلدون في مقدمته :
( إن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين وَمَنْ بعدهم طريقة الحق والهداية ، وأهلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله
والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق والخلوة للعبادة ، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف ، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وضج الناس إلى مخالطة الدنيا إختص المقبلون على العبادة بأسم الصوفية والمتصوفة ) (15) ، أي أهل الطريقة .
من ذلك يتبين إن إطلاق اسم معين أو حالة كالطريقة ليس كأطلاق اسم معين على مولود جديد من بني آدم بل يمر ذلك الإطلاق بتطورات تبعا لتطور ذلك المفهوم كما هو الحال في مصطلح (القراء والفقهاء والمحدثين) ذلك إن أناسا ظهروا فاختصوا بقراءة القرآن الكريم من الرعيل الأول فسموا بالقراء وظهرت جماعة تعنى بالحديث فسميت بالمحدثين وتكونت جماعة تعنى ببيان الرأي والفتوى في الأحكام الشرعية سميت بالفقهاء ثم اعترت هذه المصطلحات تطورت معروفة في الدلالة على معانيها كما هو الحال في المستحدثات الجديدة كالميكانيكي والكهربائي وغيرها من التسميات ، وكذلك أطلق اسم المريد أو الصوفي على المرء الذي اعتزل مباهج الدنيا والحياة ، وتوجه بقلب خاشع ولسان ذاكر وأدب جم إلى محراب العبادة قائم الليل صائم النهار يـبتغي رضوان الله وحده ، جمع بين طهارة الجوارح وزكاة النفس وكان ممن وقفوا موقف الاستجابة للأمر الإلهي
وَذَروا ظاهِرَ ألإثْمِ وَباطِنَهُ(16) ، ويواظب على ذكر لا إله إلا الله ، أو ذكر الله ألله ، مع حضور القلب . فالرسول الكريم
حامل راية الإسلام كان التصوف ديدنه قبل البعثة فما ورد عنه في اعتزال الناس وانقطاعه إلى الله
في غار (حراء) فبل البعثة لا اختلاف فيه .
ومما تجد به الإشارة ذهاب البعض إلى إن الفلسفة مصدر للطريقة وأساس لها وهذا غير صائب لاختلاف الطريق والمنحى لكل منها ، وللمعنى ذاته لا يجوز اعتبار التصوف الهندي أو الصيني من المؤثرات التي تأثرت بها الطريقة ذلك إن الطريقة ، ذلك لأن نهج أهل الطريقة (أصيل نابع من الكتاب والسنة) .
إن حقائق الفلسفة اليونانية وأخبار حكماء الهند والصين وفارس نُقلت إلى العربية في القرنين الثاني والثالث الهجريين حيث ترجمت كتب الفلسفة اليونانية إلى العربية في عهد هارون الرشيد (766- 809م) وفي عهد الخليفة المأمون (786- 833م) فلا الفلسفة اليونانية القديمة ولا الفلسفة الجديدة لأفلوطين المشهورة (بفلسفة الاسكندراني) أو فلسفة أفلوطون الجديدة المنسوبة إلى أفلوطين (203- 270م) بذات اثر في التصوف الإسلامي ، ويبدو إن السبب الذي دفع المستشرقين إلى هذا الوهم ، هو وجود بعض التشابه في منطلقات بعض من رجال الطريقة ورجال الفلسفة لا سيما في نطاق فلسفة أفلوطين ، وهو في الحقيقة استقراء ناقص لا يُحتج به ، وان الحكم بمقتضى التشابه يتطلب في الأقل مقارنة علمية بين عدد من الفلاسفة وعدد من كبار مشايخ الطريقة (يكون الحد الأدنى للرؤية المشتركة) يجري فيها التحليل الفكري بشكل موضوعي لأرائهم في الفلسفة والطريقة دون الركون إلى بعض المواقف او الأقوال النادرة لبعض المشايخ ليس إلا .
والحقيقة إن أهداف الطريقة وغايتها لا تلتقي مع أهداف الفلسفة وغايتها ، ذلك إن الإسلام هو أساس الطريقة ، وغايتها هو الأيمان بوحدانية الله سبحانه والالتزام بشريعة القرآن في العقيدة والتعامل والسلوك الذاتي والاجتماعي في ضوء السيرة النبوية المطهرة ، وقد أجمع كبار مشايخ الطريقة على أن الطريقة هي الوقوف عند حدود الإسلام ولكنه وقوف لا يكتفي بالظاهر بل يتعدى الى القلب حتى يحقق تعاليم القرآن الكريم في سلوكه ويبلغ حق اليقين (مقام الإحسان) .
إن الإنسان لا ينفك في التأمل عما وراء الطبيعة والتساؤل عن حقيقتها وقد أختلف أفراده في هذه النـزعة فمنهم من كرَّس كل حياته للبحث عن هذا السر واختار العزلة عن الناس من أجله وأطلق على هؤلاء في الديانة المسيحية (الرهبان) ، ووصف الإسلام المؤمنين المتصوفين بأنهم:
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (17) .
لذلك نستطيع القول إن الإنسان كان دائم البحث لمعرفة الطبيعة وما ورائها وان تشابه نهج الطريقة في هذه النزعة مع الاتجاه العبادي التنسكي للانسان قبل الإسلام ذلك لا يعني تأثرها بنهج غير إسلامي في هذا المجال فهو تشابه في نزعة طبيعية لا تشابه في نهج مقصود وان الطريقة كما بينّا هي سلوك طريق سيدنا محمد
في العبادة والتأمل والحياة .
ولو تأملنا في الحياة لوجدنا تشابها غريبا في كثير من ميادينها سببه تجانس الغريزة ، أو توارد الخاطر او تماثل الحاجات وطرق إشباعها وتشابه الظروف وعواملها ولم يتأثر اللاحق بالسابق ، وعلى سبيل المثال نذكر قصة العشق الذي ربط قيسا بليلى وهي قصة عرفت بقصة (مجنون ليلى) في الأدب العربي ، وهي نفسها تتكرر في قصة (روميو وجوليت) في الأدب الإنكليزي ، وفي قصة (مم وزين) في الأدب الكردي ، و(شيرين وفرهاد) في الأدب الفارسي .
في علم القانون شواهد عديدة على تشابه الأعراف القانونية في بلاد تتشابه الظروف الاجتماعية والاقتصادية فيها .
فاذا كان نهج الطريقة فيه بعض الشبه مع اتجاه في السلوك الإنساني قد ظهر بشكل أو بآخر قبله فان هذا لا يعني علاقة امتداد في الوجود بل يعني علاقة تشابه في تطلع الإنسان ذاته .
فالطريقة: هي سلوك حددت الشريعة الإسلامية مقامها ووضع كبار مشايخ الطريقة حقائقها .
الهوامش :
[1] - سورة الفاتحة - الآيات 6- 7.
[2] - سورة الجن - الآية 16.
[3] - سورة الأحزاب - الآية 21.
[4] - رواه مسلم
[5] - رواه مسلم
[6] - جزء من حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الأيمان عن عمر بن الخطاب .
[7] - رواه مسلم .
[8] - الانتصار لطريق الصوفية ص6 ، للمحدث محمد صديق الغماري .
[9] - كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون لحاجي خليفة ، ج1 ص414.
[10]- الحديث رواه البخاري ومتفق عليه .
[11] - رواه مسلم .
[12] - المصدر نفسه .
[13] - المصدر نفسه .
[14] - في المستدرك .
[15]- المقدمة لابن خلدون .
[16] - سورة الأنعام - الآية 120.
[17]- سورة آل عمران - الآية 191.
المصدر - السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسيني - كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنزانية - ص 73.