إلا أن من الفهم بالإشارة ما يصح أن نقول فيه أنه تفسير:
قال الطوسي في "اللمع":
" ... فقال عز وجل: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون}. واستفاد أهل الفهم من هذه الآية أن أول المسارعة إلى الخيرات هو التقلل من الدنيا، وترك الاهتمام بالرزق .... والزهد في الدنيا."
ومثال ذلك أيضا ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال:
"كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُدْخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وَجَد في نفسه، فدعاهم ذات يوم، فأدخله معهم. قال ابن عباس: فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نَصَرنا وفتَح علينا، وسكت بعضهم، فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت: لا. فقال: ما تقول ؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فذلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول".
وإضافة إلى ما ذُكر، أنقل فيما يلي رأي واحد من كبار المفسرين، وهو الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور صاحب تفسير "التحرير والتنوير" الذي يعد بحق جوهرة نفيسة من جواهر التفسير:
جاء في مقدمة "التحرير والتنوير":
أما ما تكلم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معانٍ لا تجري على ألفاظ القرآن ظاهرا ولكن بتأويل ونحوه، فينبغي أن تعلموا أنهم ما كانوا يدّعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن، بل يعنون أن الآية تصلح للتمثّل بها في الغرض المتكلّم فيه. وحسبهم في ذلك أنهم سموها إشارات ولم يسموها معاني، فبذلك فارق قولهم قول الباطنية.
ثم استشهد ابن عاشور برأي الغزالي في الإحياء فقال:
" ..إذا قلنا في قوله: لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة"؛ فهذا ظاهره أو إشارته أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقر آثارهم، والصفات الرديئة كالغضب والشهوة والحسد والحقد والعجب كلاب نابحة في القلب، فلا تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب، ونور الله لا يقذفه في القلب إلا بواسطة الملائكة. فقلب كهذا لا يقذف فيه النور. وقال: ولست أقول إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب وبالكلب الصفة المذمومة ولكن أقول هو تنبيه عليه. وفرق كبير بين تغيير الظاهر وبين التنبيه على البواطن من ذكر الظواهر"أ هـ.
فبهذه الدقيقة فارق النزعة الباطنية. ومثل هذا قريب من تفسير لفظ عامّ في آية بخاصّ من جزئياته؛ كما وقع في كتاب المغازي من صحيح البخاري عن عمرو بن عطاء في قوله تعالى {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} قال هم كفّار قريش، ومحمد نعمة الله، {وأحلّوا قومهم دار البوار} قال يوم بدر."
ثم فصّل رأيه في هذا النوع من التفسير بقوله:
"وعندي أن هذه الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء:
الأول:
ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك المعنى، كما يقولون مثلا {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} أنه إشارة للقلوب، لأنها مواضع الخضوع لله، إذ بها يُعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس. ومنعها من ذكره هو الحيلولة بينها وبين المعارف اللدنية. {وسعى في خرابها} بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى. فهذا يشبه ضرب المثل لحال من لا يزكي نفسه بالمعرفة ويمنع قلبه أن تدخله صفات الكمال الناشئة عنها بحال مانع المساجد أن يذكر فيها اسم الله، وذكر الآية عند تلك الحالة كالنطق بلفظ (المَثَل)، ومن هذا قولهم في حديث "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب" كما تقدم عن الغزالي.
الثاني:
ما كان من نحو التفاؤل. فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع، وهو غير معناها المراد، وذلك من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده، والذي يجول في خاطره. وهذا كمن قال في قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع} (من ذلَّ ذي) إشارة للنفس يصير من المقربين الشفعاء، فهذا يأخذ صدى موقع الكلام في السمع ويتأوله على ما شُغل به قلبه. ورأيت الشيخ محي الدين يسمي هذا النوع سماعا ولقد أبدع.
الثالث:
عِبر ومواعظ. وشأن أهل النفوس اليقظة أن ينتفعوا من كل شيء، ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها، فما ظنك بهم إذا قرؤوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظه. فإذا أخذوا من قوله تعالى {فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا} اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسولَ المعارف العليا تكون عاقبته وبالا. ومن حكاياتهم في غير باب التفسير أن بعضهم مر برجل يقول لآخر: "هذه العود لا ثمرة فيه فلم يعد صالحا إلا للنار، فجعل يبكي ويقول: إذن فالقلب غير المثمر لا يصلح إلا للنار"."
ثم أضاف:
"فنسبة الإشارة إلى لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدت عقولهم وتدبرهم في حال من الأحوال الثلاثة. ولا ينتفع بها غير أولئك. فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية. فليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين."
حول كتب التفسير بالإشارة
ورغم أنني لم أطلع على كل ما كتب في التفسير الإشاري للقرآن الكريم إلا أنني وبعد إطلاع على ما توفر لي منها، وجدت تفسير القشيري رحمه الله أجودها وألطفها وأقربها إلى معاني أهل الله وأحراها بتحريك همة وحال السالك.
أما تفسير ابن عربي رحمه الله فوجدته جامدا تتسع الهوة فيه بين الإشارة والدلالة اللفظية نفسها حتى يجعل ذلك القارىء في بعض الإشارات لا يرى أي مناسبة بعيدة أو قريبة بين الاستعمال الأصلي والإشارة. اللهم إلا إن كانت المناسبة في بعض إشاراته تدخل في باب الرمز البعيد الخفي، وهذا ما لا ينتفع بجله القارىء العادي أو حتى مريد التصوف المبتدئ.
وأما تفسير "البحر المديد" لابن عجيبة فلقد كنت أنتظره بصبر نافد مطبوعا طباعة جيدة تصلح للقراءة والاستفادة ولكنني وجدته دون ما ألفه ابن عجيبة رحمه الله من حيث الغوص والفهم النادر العجيب والمتمثل في أكثر كتبه الأخرى وعلى رأسها شرحه على حكم ابن عطاء الله؛ المسمى ب "إيقاظ الهمم في شرح الحكم". ووجدت الفارق كبيرا بينه وبين تفسير القشيري، إلا أن ما يميزه هو جمعه بين التفسير والإشارة مما يجمع للقارئ بين نوعين عظيمين من الفوائد في آن واحد. وهو قريب في ذلك من تفسير الألوسي "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني".
وفي ختام هذه العجالة أرجو أن أكون قد وفقت في توضيح المراد بالتفسير الإشاري بما يزيل الغشاوة عن العيون ويجنّب الخائضين إساءة الظن بأهل الله وأوليائه، ويكفيهم عناء تجميع "الإشارات" التي (لا تعجبهم) في كتب تكفيرية يعكفون على تأليفها فيضيعون أعمارهم بالباطل، ظانّين أن مراد القائلين بها التفسير بالمعنى المعروف أو إبطال الظاهر كما هو شأن الباطنية وغيرهم من أصحاب الأهواء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين