ما هو مفهوم الخيال أو البرزخ عند ابن عربي ؟
يرفض ابن عربي أي تصور يؤدي إلى وجود أي تعدد في مفهوم البرزخ أو الخيال .
إنه من حيث ذاته يجب أن يكون واحداً .
ومن حيث توسطه بين طرفين متقابلين يجب أن يقابل كلا منهما بذاته لا بوجهين مختلفين متوحدين
، إذ لو كان للبرزخ وجهان يقابل بكل واحد منهما جانباً من جانبي الطرفين اللذين يتوسط بينهما
لكان هناك فاصل بين وجهيه أو جانبيه .
وكان هذا الفاصل بدوره برزخاً داخل البرزخ ، أو وسيطاً داخل الوسيط ،
مما يؤدي إلى تعدد مفهوم البرزخ ،
أو يؤدي إلى التسلسل إلى مالا نهاية .
إن البرزخ يجب أن يكون واحداً في ذاته غير منقسم .
ويجب أن يقابل الطرفين اللذين يتوسط بذاته الواحدة ، ولذلك فهو يجمع بينهما بذاته ، أو لنقل يوحد بينهما .
ومعنى ذلك أن البرزخ يؤدي وظيفة التوحيد بين المتقابلات ،
وهو لا يفعل ذلك بطريقة صناعية تمزج بينهما كما يمزج اللون الرمادي بين الأبيض والأسود ،
بل يفعل ذلك بذاته ، فهو الأبيض بذاته والأسود في ذاته .
إن البرزخ كما يمثله ابن عربي ... بالبياض والإنسانية
هو الكليات المعقولة التي تستدعي إلى الذهن حقيقة الحقائق أحد مراتب هذا البرزخ كما سنرى .
إنه موجود عقلي وليس موجوداً حسياً عينياً ،
ولذلك فهو يُعقل ولا يُشهد ويُعلم ولا يُدرك ،
أنه حضرة تتوسط بين حضرتين بالمعنى العقلي لا بالمعنى المكاني المحسوس ،
وهذه هي طبيعته الخاصة . أما وظيفته فهي الفصل بين الأمرين والتوسط بينهما في نفس الوقت ،
الفصل بينهما باعتبار وحدته الخاصة ، ووجوده بذاته - في كل من الطرفين المتقابلين .
البرزخ بهذا المفهوم مجرد تصور ذهني واحد في ذاته يقوم بوظيفتي الوصل والفصل .
وهذا المفهوم يجعل ابن عربي قادراً على إعطاء البرزخ - أو الخيال - بعداً وجودياً - بالمعنى العقلي -
دون أن يقع في أي كثرة حقيقية بالمعنى الحسي العيني .
إن الخيال هو الفاصل بين الذات الإلهية والعالم ،
فهو بذلك يؤكد التمايز والثنائية ،
وهو من جانب آخر يتوسط بينهما بذاته ، ويلتقي بكل منهما بذاته فيوحد بينهما .
إن الخيال أو البرزخ قابل لكل الصفات المتقابلة ، وجامع لكل الثنائيات المتعارضة .
وإذا كان ابن عربي - كما قلنا - ينطلق من ثنائية أولية بين الذات الإلهية والعالم ،
فإن الوسيط القادر على تلقي طرفي هذه الثنائية بذاته هو الخيال .
والخيال بهذا الفهم حقيقة كلية معقولة تتوسط بين كل ما يتفرع عن هذه الثنائية الأولية من ثنائيات ثانوية أو فرعية .
وإذا كان الخيال باعتبار حقيقته العقلية يتحد بحقيقة الحقائق فهو من حيث وظيفته البرزخية من الجمع بين الأضداد والقابلية للوصف بكل المتعارضات يتوحد بالألوهة التي هي جماع الأسماء الإلهية .
ومن السهل - كما سنرى - أن يلتقي مفهوم الخيال أيضاً بحقيقة العماء وبالحقيقة المحمدية .
وهذه هي الحقيقة المعقولة - الخيال - يمكن أن تسمى بهذه الأسماء كلها .
وتعدد الأسماء عليها إنما يدل على جوانب مختلفة لذات الحقيقة الواحدة التي لا تكثر فيها بأي حال من الأحوال .
وإلى جانب الأسماء السابقة يمكن أن يطلق عليها اسم عالم الجبروت أي العالم الفاصل بين عالم الملك وعالم الملكوت ،
أو عالم الشهادة وعالم الغيب
( فإن قلت وما عالم البرزخ قلنا عالم الخيال ويسميه أهل الطريق عالم الجبروت . وهكذا هو عندي ) .
ومعنى ذلك أن مفهوم الخيال لا يقتصر على الوسائط الأربع التي يطلق عليها ابن عربي الخيال المطلق ،
بل يمتد ليشمل كل الوسائط ابتداءً من عالم الخيال المطلق وانتهاءً إلى عالم الحس المدرك .
ويمكننا أن نميز مع ابن عربي بين جانبين لهذه الحقيقة المعقولة التي يطلق عليها اسم الخيال أو البرزخ أو عالم الجبروت .
الجانب الأول يتصل بالخيال بالمعنى السيكولوجي ، باعتباره أداة إنسانية للإدراك والمعرفة .
والجانب الثاني ما يمكن أن نطلق عليه الخيال الوجودي بجانبه الفيزيقي والميتافيزيقي .
هذان الجانبان يطلق عليهما ابن عربي الخيال المتصل والخيال المنفصل .
والعلاقة بينهما ليست علاقة انفصال أو تميز ، بل الأحرى القول إنهما جانبان لحقيقة واحدة ،
وأن العلاقة بينهما هي علاقة الجزء ( المتصل ) بالكل ( المنفصل ) .
وإذا كان أبو العلا عفيفي قد أدرج كلاً من الخيال المفصل والمتصل تحت نوع الخيال السيكولوجي رغم انتباهه لوجود الخيال الميتافيزيقي .
فإننا من جانبنا نوحد مع ابن عربي بين الخيال المنفصل والخيال الوجودي بجانبه الفيزيقي والميتافيزيقي ،
ونعتبر أن الخيال المتصل وحده ما يمكن أن نطلق عليه الخيال بالمعنى السيكولوجي .
يقول ابن عربي :
( إن المتصل يذهب بذهاب المتخيل والمنفصل حضرة ذاتية قابلة دائماً للمعاني والأرواح فتجسدها بخاصيتها ،
لا يكون غير ذلك . ومن هذا الخيال المنفصل يكون الخيال المتصل .
والخيال المتصل على نوعين : منه ما يوجد عن تخيل ،
ومنه مالا يوجد عن تخيل كالنائم ما هو عن تخيل ما يراه من الصور في نومه والذي يوجد ما يمسكه الإنسان في نفسه من مثل ما أحس به أو صورته القوة المصورة إنشاء لصورة لم يدركها الحس من حيث مجموعها ،
لكن جميع آحاد المجموع لا بد أن يكون محسوساً ) .
إن الخيال المتصل يرتبط بالمتخيل ويذهب بذهابه .
والمتخيل في هذه الحالة هو الإنسان ،
والخيال المتصل هو الخيال بالمعنى السيكولوجي .
هذا الخيال قد يكون عن غير تخيل ، مثل الصور التي يراها الإنسان في حالة النوم .
هذه الصور لا تتشكل بفعل إرادي بل تتم بطريقة عفوية حين تسكن الحواس وتنشط هذه القوة في الإنسان بفعل النوم .
أما الخيال الناتج عن تخيل فهو فعل إرادي قادر على الاحتفاظ بالصور المدركة بالحس ، أو التأليف بينها ،
وإبداع صور جديدة ليس لها وجود حسي ، وإن انتزعت عناصرها المختلفة من الصور الحسية .
ويمتد مفهوم الخيال المنفصل - كما قلنا - ليشمل كل مراتب الوجود من أعلاها وهو الخيال المطلق أو الخيال الميتافيزيقي إلى أدناها وهو العالم الحسي .
هو الحضرة الذاتية القابلة للمعاني والأرواح فتجسدها بخاصيتها كما يقول ابن عربي في النص السابق .
وإذا كان الوجود في تصور ابن عربي في خلق دائم جديد نحن في لَبس منه