شَرْحُ أَبْيَاتٍ فِي التَّصَوُّفِ
للإمام أبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي الحسني
( 832 ـ 895هـ)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
قال الشيخ السنوسي رحمه الله تعالى
هذا تعليق على قول بعض السادات ـ رضي الله تعالى عنهم أجمعين ـ
رَأَيْتُ رَبِّي بِعَيْنِ قَلْــبِي ::: فَقُلْتُ لاَ شَكَّ أَنْتَ أَنْـتَ
أَنْتَ الَّذِي حُزْتَ كُلَّ أَيْنٍ ::: فَحَيْثُ لاَ أَيْنَ ثَمَّ أَنْــتَ
وَلَيْسَ لِلْأَيْنِ مِنْكَ أَيْــنٌ ::: فَيَعْلَمُ الأَيْــنُ أَيْنَ أَنْتَ
وَلَيْسَ لِلْوَهْمِ فِيكَ وَهْـمٌ ::: فَيَعْلَمُ الوَهْـمُ كَيْفَ أَنْتَ
أَحَطْتَ عِلْمًا بِكُلِّ شَيْءٍ ::: وَكُلَّ شَيْءٍ تَــرَاهُ أَنْتَ
فَمُنَّ بِالعَفْوِ يَا إِلَــهِي ::: فَلَيْسَ أَرْجُو سِوَاكَ أَنْـتَ
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله .
قوله: (رَأَيْتُ رَبِّي بِعَيْنِ قَلْبِي)
يعني: عرفته بوجوده وما يَجِبُ له وما يَسْتَحِيلُ وما يَجُوزُ ببصيرة قَلْبِي التي هي عَيْنُ القَلْبِ،
وهو الجُزْءُ منه الذي يَقُومُ به العِلمُ والفِكرَةُ المُضيئةُ الصَّحيحة .
وقوله: (فَقُلْتُ لاَ شَكَّ أَنْتَ أَنْتَ)
يعني: فقلت بقلبي لمّا أن عَرفْتُه بالبرهان القاطع ، وتميَّزَ لي عن كل ما سواه: لا شكَّ ولا رَيْبَ أنت يا مولاي هو الموصوفُ
بهذه المحاسن التي أبْصَرَتْهَا بالبرهان عَيْنُ قَلبِي.
وإنما رَتَّبَ القَوْلَ على رؤية القلب ـ وهي معرفتُه بالله تعالى ـ تنبيهًا على أنّ حصول الإيمان هو عند حصول المعرفة؛
لأنّ الإيمانَ ـ على الأصح ـ هو حَدِيثُ النَّفْسِ التابِعِ للمعرفة، لا نَفْسُ المعرِفَة خلافًا للشيخ الأشعري.
ويحتمل أن يكون مرادُه برؤية عَيْنِ القَلْبِ المَعرِفَةُ الذوقِيَّةُ التي هي آخر مَقامَاتِ السالكين، فيكون حينئذ معنى قوله
: "أَنْتَ أَنْتَ" أي: أنتَ الآن بحَسَبِ المَعرِفة الذوقية هو أنْتَ أوَّلاً بحسب المَعرِفَة الرسمية التي أنتجتها البراهين العقلية؛
إذ علامةُ صِحَّةِ الذَّوْقِ أن يَجْرِيَ على وِفْقِ ما شَهِدَ به العِلْمُ الرَّسْمِي،
ولهذا يستعيذُ المؤمنون في الآخرة من الصورة التي تظهر لهم في الموقف على صفة الحوادث فتقول أنا ربُّكم،
فيقولون: هذا مكانُنا حتى يأتينا ربُّنَا أو حتى يظهر لنا على الصفة التي عرفناه بها من التنزُّهِ عن سمات الحوادث
كلها ، ولهذا لمّا رأوه على ما يَجِبُ له تعالى خَرُّوا سُجَّدًا،
وتلك الفتنةُ في الآخرة هي آخر الفِتَنِ التي يَظْهَرُ بها المُؤمن العارِفُ بما يَجِبُ لمولانَا وما يَجُوزُ وما يَسْتَحِيلُ من غيره ،
ولا يَسْلَمُ من ضَرَرِ تلك الفتنة إلا من أتْقَنَ عقائِدَهُ في هذه الدار قبل موته وأُسْعِدَ بالممات على ذلك،
نسأل الله سبحانه السلامَةَ من شرِّ كل مِحنَةٍ دُنيَا وأُخرَى بجاهِ سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: (أَنْتَ الَّذِي حُزْتَ كُلَّ أَيْنٍ)
أي: أنت الذي أحطت بكل مكانٍ من العوالم عِلْمًا ومُلْكًا وتَدبِيرًا، أي كُلُّ العوالِم
وكل جزءٍ منها لا يشارِكُك في مُلْكِهَا ولا تدبِيرِها أَحَدٌ عُمومًا؛
لأن كل جُزْءٍ من أجزاء العوالم يَصْلُحُ أن يكون مَكانًا لجُزءٍ آخر ليستَقِرَّ عليه ،
فالأَيْنُ إذًا صادِقٌ بكل جُزءٍ من أجزاء العوالِم،
فحَوْزُهُ لكلِّ أَيْنٍ بالمُلْكِ والتدبير والعِلْمِ والقَهْرِ، وهو معنى مُلْكِهِ لكل العوالم وتدبيره لشؤونها، والله تعالى أعلم.
قوله: (فَحَيْثُ لاَ أَيْنَ ثَمَّ أَنْتَ.)
أشار بـ"ثَمَّ" إلى المرتبة التي تُنَزَّهُ عن الأَيْنِ، وهي مَرتَبَةُ الإلَهِ الحَقِّ الذي يستحيل عليه الجِرْمِيَّةُ والعَرَضِيَّةُ الملزومين لقبول الأَيْنِ،
وهي التي أراد أيضا بقوله: "حَيْثُ"، أي: أنت يا مولاي في المَرتبة التي تُنَزَّهُ عن الجِرْمِيَّة والعَرَضِيَّة وقَبُولِ الأَيْنِ
الذي هو من خواصِّ العوالِم الحادِثة التي حُزْتَ جميعَها خَلْقًا ومُلْكًا وتَدبِيرًا،
فكيف يمكن أن تكون يا مولاي في مرتبة تُشْبِهُ مُلكَك؟! فأنت إذًا يا مولاي في مرتبة لا يَصِحُّ فيها أَيْن،
وهي مَرتَبَةُ كونِكَ الواحِدُ الأحد الفَرْدُ الصَّمَد الذي لم يلد ولم يُولَد ولم يكن له كُفؤًا أحد،
ولهذا أشار إلى هذه المنزلة العديمة المثال.
قوله: (وَلَيْسَ لِلْأَيْنِ مِنْكَ أَيْنٌ.)
يعني: إنك يا مولاي لمّا تنزَّهْتَ عن التَّحَيُّزِ وصفات الأَجْرَامِ من قَبُول الأَيْن والجِهَات، لم يَكُن للأَيْنِ منك أَيْن،
أي: لم يَكُن للفظ الأين منك أينٌ ولا لمعناه، والسؤال به من جهة جلالك مُحال، ولا يُسَلَّمُ الكلامُ الذي يُقَالُ فيه: أين أنت؟
بل يُعتَرَضُ ذلك الكلام ويُبْطَل، إلا أن يريد به صاحبُه غير معنى الأين الحقيقي،
وينصب قرينةً على مراده، كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ للسوداء: «أين الله؟» ،
فإنه قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذلك اختبارًا لها هل هي من المشركات والمشركين
الذين يعبدون الأصنام التي محلُّهَا في الأرض ووُجِدَ تعظيمُها فيها فقط، فأجابت هي
بأنّ معبودها ليس الذي يُعظَّمُ في الأرض فقط ـ وهي الأصنام ـ،
وإنما معبودُها الله، في السماء لا يعظَّمُ فيها غيره، بخلاف الأرض فإنه قد عُبِدَ فيها مولانا ـ جَلَّ وَعَلاَ ـ
وعُبِدَ فيها غَيرُه، ولهذا لم تُشِرْ إلى الأرض لِمَا في ذلك من اللَّبْسِ
لاختلاط المعبود الحَقِّ فيها بالمعبودات الباطلة في العبادة، ولا كذلك السماء،
فكأنها أجابت بأنَّ معبودَها اللهُ الذي تَعبُدُه الملائكةُ في السماء وَحدَه، كما قال تعالى:
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾[الزخرف:84] أي معبودٌ فيهما،
وقدَّمَ السماءَ لشَرَفِها وعَدَمِ الاشتراك فيها.
ويحتمل أن يكون مرادُه بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ «أين الله؟» أي: أَيْنَ منزِلَتُه في قلبك؟ هل هو مثل منزلته
في قلوب المشركين من تسويتهم له تعالى مع مخلوقاته في الألوهية، فأهانوا منصب الألوهية الأعلى
وتلاعبوا به حيث أثبتوه لمن لا يستحِقُّهُ عقلاً ولا نَقْلاً من بعض الحيوانات والجمادات،
كما قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ
وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام:1]،
فذَكَرَ ـ سُبْحَانَهُ ـ أفعالَه التي يَعجُزُ عنها كل ما سواه فلا يفعلها لا بالحقيقة ولا بالمجاز،
ثم الذين كفروا بأنعم المولى العظيم وجَحَدُوا دلائِلَ وحدانيته
وتنزُّهِه تعالى عن الشريك في ذاته وصفاته وأفعاله يَعْدِلُون به غيرَه،
أي: يُساوُونَ به غيرَه، وأتى بـ"ثُمَّ" لاستبعاد صُدور هذه الرذيلة من العقلاء،
فأجابت تلك السوداءُ لتعذُّر النطق منها بأنّ منزلة الله تعالى عندها ليس كمثل منزلته في قلوب المشركين من عدم التعظيم،
بل هو عندها في الرفعة والجلالة في السماء الأعلى لا يَصِلُ أحَدٌ إلى قَدْرِه
ولا إلى التشبيه به لأنّ الناس إذا عظَّمُوا أحدا في غاية التعظيم قالوا في التعبير في ذلك:
فُلانٌ أراه في السماء الأعلى ونجمًا في السماء وما أشبه ذلك.
قوله: (فيَعْلَمُ الأَيْنُ أَيْنَ أَنْتَ.)
هذا كلام مُرتَّب على نَفْيٍ، ولهذا يُنصَبُ المضارِع، أي: لا أَيْنَ لَكَ لا بالقَبُولِ ولا بالحُصُولِ فيَعْلَمَ ذلك الأينُ بكُنْهِ ذاتِك،
إذ الأَيْنُ يَعْلَمُ بأنَّ كل ما حَلَّ فيه فهو من الأجرام الكثيرة الأمثال، فلا خفاء إذًا لذاتٍ لها أين.
قوله: (وَلَيْسَ لِلْوَهْمِ مِنْكَ وَهْمٌ.)
مرادُه بالوَهْمِ هنا إدراكٌ يُقدِّرُ أمورًا من الأجرام والأعراض منها ما كان ومنها ما لم يكن،
وبالجملة فهو إدراكٌ لا يخوض إلا في جنس الأجرام وجنس أعراضها،
ولمّا تنزَّهَ المولى العظيم أن يُماثِل شيئًا مما سواه من أجناس الأجرام وأجناس الأعراض عمومًا قُصَّتْ أجنحةُ الوَهْمِ ورَجَعَ خاسِئًا
لا يَقْدِرُ أن يَلْمَحَ الذاتَ العَلِيَّة ولا صفاتها لأنّ ذلك الجلال العديم المثال خارج وبعيد غايةَ البُعد عن جنس عِشِّه الذي يتحرَّك فيه.
قوله: (فيَعْلَمُ الوَهْمُ كَيْفَ أَنْتَ)
هذا أيضا مُرتَّبٌ على النَّفْيِ الذي قبله، يعني أنه لمّا استحالَ ارتسامُ ذاتك العلية
وصفاتك الجليلة المُرَفَّعَة في وَهْمٍ من الأوهام لم يكن للوَهْمِ عِلْمٌ بذلك الجلال،
وإنما العَقْلُ وَحْدَهُ أدرَك من ذلك الجلال على الجملة ما شَهِدت به العوالِمُ، وغَضَّ الطَّرْفَ عَجْزًا عمَّا وراءَ ذلك.
قوله: (أَحَطْتَ عِلْمًا بِكُلِّ شَيْءٍ.)
يعني أنّ المولى العظيم أحاطَ عِلْمًا بكل ما سواه، لا يحيطون عِلْمًا بكُنْهِ ذاتِه،
وإنما تفضَّلَ عليهم بنَزْرٍ يسير من العِلْم ينتفعون معه في أمر دنياهم وآخرتهم.
قوله: (وَكُلَّ شَيْءٍ تَرَاهُ أَنْتَ.)
أي: كل موجود فأنت تراه، وسائر الموجودات حَجَبْتَهُم عن رؤية ذلك الجلال،
إلا أن تَفْتَحَ لمن شئت فيما شئت من غير تكييفٍ ولا تحديدٍ، فهذا كله تحقيقٌ لعظيم مُلْكِه وقهره كل ما سواه،
وعبودية كل ما سواه له.
قوله: (فَمُنَّ بالعَفْوِ يَا إِلَهِي، فَلَيْسَ أَرْجُو سِوَاكَ أَنْتَ)
هذا مُرتَّبٌ على العلم والرؤية لكل موجود، ومن جملة الموجودات المعاصي التي تقع من العبيد،
وقد علمت أن الجاني إذا لم يَرَ المَلِكُ جنايته بِبَصرِه وإنما شُهِد عليه بذلك ربما يحتال عليه بإنكارٍ وتجريح للشاهد ونحو ذلك،
أمّا إذا علم أن الملك قد رأى جنايته ببصره، والفَرْضُ أنه في قَبْضَةِ المَلِكِ، انقطعت عنه الحِيَلُ كلّها ولم يُمْكِنْهُ إلا النداء
بالويل والثبور والتضرّع بين يدي الملك والتشفع إليه بخواص عبيده وبذاته المنزَّهة في طلب العفو،
فهذا وجه ترتيب هذا الكلام بالفاء،
على ما قبله، والله أعلم، وبه التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه.
اللهم اختم لنا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والمغفرة لجميع الذنوب بلا محنة يا غفور
بجاه سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وكان الفراغ منه وقت الإهاب من يوم الجمعة التاسع من صفر الخير سنة 1182 هـ على يد عثمان بن أحمد الورغي غفر الله له آمين.
ووافق الفراغ من الاعتناء به على يد الفقير إلى ربه الهادي نزار بن علي
حمادي في السادس من رجب الأصب سنة 1428 هجرية الموافق لـ21 جويلية سنة 2007 ميلادية
__________________
لا غالب إلا الله
http://www.daraleman.org/forum/forum_posts.asp?TID=6424