لقد غالي الكثيرون في وصم المتصوفة بالسلبية والبعد عن الواقع السياسي بصفة خاصة، مؤكدين أن الفهم الإسلامي انحصر بين طرفين متناقضين، الأول: ثوري خروجي، والآخر: صوفي انكفائي، مع ما يبدو للعيان من تجذر الديني في السياسي والعكس، فالدين - حتى في جانبه التعبدي البحت - يشكل في الإنسان مجموعة من القيم التي يتشربها عقله ونفسه وتصبح جزءا من ذاته، وتصيغ إدراكه وتصوراته عن الواقع الاجتماعي بشتى مكوناته، وعلى هذا الأساس يصبح الباب مفتوحا على مصراعيه بين ما هو ديني وما هو سياسي. يتهم البعض التصوف بالانهزامية والانسحاب من الواقع، وبحسبهم فإن الإنسان يتصوف حين ينهزم؛ لأنه حين يفقد سنده في عالم المادة يذهب فيلتمس الغوث في عالم الروح. ونسي هؤلاء أن الحقائق التاريخية تثبت أن نشأة الزهد والتصوف كانت سياسية من ناحية ما، كما أن التصوف كاتجاه ديني يفرز - على الأقل - معطيات معرفية وقيما أخلاقية لا يمكن إنكار انعكاساتها على حقل السياسة بصفة خاصة من ناحية ثانية. في كتابه "الصوفية والسياسة في مصر"، - الصادر عن دار شرقيات للطباعة والنشر، القاهرة، 2007 - يؤكد الدكتور عمار علي حسن أنه بعد الحادي عشر من سبتمبر بدأ الأمريكيون - في ثنايا حملتهم الشاملة على "الإرهاب" - يدرسون إمكانية تعميم "الصوفية" لتصبح الشكل المستقبلي للإسلام، أو على الأقل تقوية شوكتها وشد ساعدها على الساحة الإسلامية، لتخصم من رصيد الجماعات والتنظيمات المتطرفة التي ترفع الإسلام شعارا سياسيا لها، والتي أنتج بعضها "تنظيم القاعدة" وما على شاكلته. المستقبل للصوفية يراهن الكثيرون حاليا على قدرة المتصوفة في التعبير عن الشكل المستقبلي للإسلام، وهذا الرهان وتلك الرؤية الاستراتيجية لا تنبع من فراغ، بل تتأسس على جدل طويل دائر حول ما إذا كان التصوف الإسلامي ينطوي على حلول للأزمات السياسية المعاصرة أم لا؟ وما إن كان فيه ما يقرب بين الإسلام والليبرالية؟ وما إذا كانت قيمه تساهم في التواصل الحضاري ونبذ العنف والتطرف والإرهاب؟ وبغض النظر عن الأيدولوجيا التي تحرك هؤلاء، فإن التصوف يعد بحق بمثابة قلب الإسلام، مادام تحقيقا للعقيدة الإسلامية الحقة الجامعة بين العقل والروح، السياسية والدين، الحق والخلق. بل نجد أحد أهم المختصين بالتصوف الإسلامي بجامعة لوكسمبورج، وهو إريك جيوفري، يؤكد أن مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتماً للتيار الصوفي، وإذا كانت مرجعية السلفي المعاصر في تبني موقف ما إزاء الأحداث الجارية هي فعل السلف الصالح، فعلى المتصوف المعاصر أن يستلهم دور مرجعيته الصوفية في اتخاذ موقف معارض ومقاطع ومناهض لكافة أشكال الظلم والتسلط والاستبداد، بدل أن يتماهى مع السلطة القائمة، وينسحب من خضم الحراك السياسي مستبدلا مرجعيته الأولى بمشيخة طرق لا تنهض بدورها في مقاومة الاستبداد والتسلط. ويعول الأمريكيون في تصورهم هذا على ما جادت به تجربة النقشبندية في تركيا، حيث استوعب المتصوفة قيم العلمانية، وطوروا رؤيتهم الدينية لتواكب العصر، وتتماشى مع النهج الديموقراطي على مستوى القيم والإجراءات. تصوف راقٍ وآخر هزلي كما أن هناك من بين فقهاء المسلمين أنفسهم من يؤكد أن حل مشكلاتنا الحياتية المعاصرة في يد التصوف، وهنا يقول الداعية اليمني علي زين العابدين بن عبد الرحمن الجعفري، الملقب بالحبيب علي:
"الحقيقة أنني أرى أن لب القضية التي تعيشها الأمة ومصيبتها الكبرى يرجع إلى حب الدنيا وكراهية الموت. والذي يعالج هاتين الخصلتين هو علم التصوف بمعناه الراقي وليس التصوف الهزلي الذي يمارسه البعض اليوم. فالتصوف الراقي هو الذي يعتني بتطهير القلوب وصفاتها، ويخلصها من حب الدنيا وكراهية الموت، ويربطها بالله عز وجل، فالتصوف بهذا المعنى هو القادر على حل جميع مشكلاتنا وأزماتنا الاقتصادية والاجتماعية والسلوكية؛ لأن هذا المعنى من التصوف هو الذي أخرج لنا صلاح الدين الأيوبي، ونور الدين زنكي، والذي يقرأ تاريخ الاثنين يجدهما نتاج مدرسة التصوف".
فيما يقرر محمد يتيم ما هو أبعد من ذلك، حين يرى أن التصوف هو الذي يقي السياسة من الفساد، حين يوفر لها ثوابت نقية، ويسمح بالجمع بين معانقة الحق ومخالطة الخلق، أو الرباط الروحي والممارسة السياسية. وينطلق يتيم من هذا التصور ليرد على من ينادون بفصل الدين عن السياسة، فيقول: "إن فساد السياسة راجع إلى فساد في التجربة الصوفية، ونقصد بذلك إخفاقا في حمل النفس على مراد الله وفشل في تجربة التخلية والتحلية، إما بسبب راجع إلى السالك نفسه، أو إلى النهج أو الطريقة التي اختارها ... وأساس الفساد في التجربة السياسية أيضا هو أن تكون مقطوعة الصلة بتجربة صوفية من الأساس، أو مقطوعة عنها بعد وصل كان في البداية، إذ يقل رجوع السياسي لذاته من حين لآخر لتعهدها، والرجوع بها إلى العهد الأول أي إلى عهد الترويض. إن التجارب القريبة والبعيدة تدل على أن فساد السياسة والبنيات الحزبية لم ينتج من نقص في البرامج والمؤسسات والقوانين فقط، بل إنه راجع في الجزء الأعظم منه إلى فساد السياسيين وافتقارهم إلى تجربة صوفية حقيقية سابقة، أو توقفهم عن ترويض النفس ومجاهدتها حتى لا تقع في أمراض السياسة، والتي على رأسها هوى متبع وإعجاب بالرأي ودنيا مؤثرة، وسقوط في المفسدات الكبرى للسياسة وعلى رأسها حب الجاه والتسلط". لكن هذه التصورات تتعامل مع التصوف في بعده الحركي على أساس إما أنه نمط واحد إيجابي يمكن تعميمه، أو أنه حالة جوانية فريدة تعلي من تقدير طوية الإنسان وحريته، وتزيد من تسامحه في التعامل مع الآخرين، وإيمانه بحقوق الإنسان، وبذلك يمكن استخدامه في محاربة التطرف، واستخدامه على أنه الإطار الديني لثقافة سياسية إسلامية ذات سمت ديمقراطي. إلا أن التصوف في حقيقة الأمر لم يعد حالة من الزهد والتعبد الفردي كما بدأ، فقد صار مؤسسات ضخمة لها امتداد عابر للقارات كافة، بعضها يجتهد في أن يلعب دورا تنمويا وسياسيا واجتماعيا، وبعضها تماهى في الفولكلور وتم اختزاله إلى ظاهرة احتفالية، بعضها متسامح في التعامل مع الآخرين، بما في ذلك أتباع الطرق الصوفية المنافسة، وبعضها يدخل في تناحر مع الآخر ويعاديه، بعضها تعاون مع الاستعمار - وربما هو ما تريده الولايات المتحدة في الوقت الراهن - لكن أغلبها حارب المستعمر بضراوة، وجزء منها ساهم في التنمية بأبعادها الشاملة، وجزء كان عالة على المجتمع. الصوفية المصرية يبد أن الصوفية المصرية، وإن كانت قد أفرزت في عصورها الغابرة، ولمرات قليلة، شيوخا ناطحوا السلاطين باستنادهم إلى التفاف جماهيري منقطع النظير، ينساق حول أعمال باراسيكولوجية وأسطورية ومنافع مادية، إلا أنها تحولت في الوقت المعاصر إلى مجرد خادم للحكام، وهي مسألة لا تخطئها عين من يتابع الاحتفالات الصوفية، ولا يهملها عقل من يفكر في خطاب المتصوفة تجاه النظام من جهة، والحبل السري الذي يربط تنظيمهم بشقيه الإداري والروحي بجهاز الدولة الأمني والديني من جهة ثانية. وفي تركيا، على سبيل المثال، فبدءا من نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه، وأحد رموز الطريقة النقشبندية، وصولاً إلى أحد مريديه، وهو الطيب رجب أردوغان، زعيم حزب العدالة والتنمية، تغالب الطرق الصوفية تقليديتها وتستغل الفضاء الواسع الذي يتيحه الفكر الصوفي من تسامح واعتراف بالآخر في وضع أطر ووسائط سياسية تجعلها متناغمة مع الحياة الديمقراطية التي تعتمد على التعددية، كما تستخدم ما في الصوفية من حض على التراحم والتماسك والصبر على المكاره في سبيل تعزيز ثقافة الإيجابية والإنجاز، ومن ثم السير قدما على درب التنمية. فمحض النظرة المتيقظة تنبئ صاحبها بأهمية الدور السياسي للطرق الصوفية، سواء كان محدودا خافتا، مثل ما عليه الحال في مصر، أو متسعاً ظاهرا، مثل ما قامت به المهدية في السودان، والسنوسية والقادرية والتيجانية في وسط وغرب أفريقيا، والنقشبندية والمولوية في آسيا الوسطى والقوقاز وشبه القارة الهندية وغيرها. وفي الواقع، فإن تناول دور الطرق الصوفية في إحداث النمو الاقتصادي على مستوى العالم الإسلامي برمته، أو حتى داخل كل دولة على حدة، لا يبدو عملاً يسيرا بأي حال من الأحوال، لأنه إما دور ضئيل غامض لا يشار إليه بالبنان ولا يذكر في بعض الدول، أو غير مباشر يصعب تتبعه أو التيقن من حجمه في دول أخرى، وحتى لو كانت الصوفية تحكم من خلال حزب، مثلما هو الحال في تركيا، فإنها لا تعدو هنا كونها عنصرا من عناصر عدة تسهم في النمو الاقتصادي، من الصعب استخلاصه وتحديد معالمه؛ لأنه ذائب في الجهود الأخرى التي تجد على هذا الدرب. الصوفية وتشكيل الثقافة إن الإشكالية الرئيسة التي يعالجها هذا الكتاب تكمن في محاولة تحليل الدور الذي تلعبه الطرق الصوفية في تشكيل الثقافة السياسية المصرية، وذلك بتناول أساليب التنشئة السياسية لديها باعتبارها أداة نقل وخلق وعامل تغيير للثقافة السياسية، وكونها ضرورة لكل عضو في المجتمع كي يستطيع أن يتكيف مع البيئة السياسية التي تحيط به. وهذا يتطلب فحص جملة "القيم" و"المعارف" التي تغرسها الطرق الصوفية في نفوس وعقول أتباعها، لمعرفة ما إذا كانت تدعو إلى الانخراط والمشاركة أم السلبية والانسحاب؟ وما إذا كانت تقود بالفعل إلى التغيير أم ترتكن إلى تكريس الوضع القائم؟ وما نوع الحكم الذي تتبناه حال وصولها إلى السلطة: هل هو "ديمقراطي"، أم "استبدادي"؟ وما مدى ترسيخها لقيم عامة لها دلالالتها السياسية، من مثل: "العدالة الاجتماعية" و "الحرية" و "المساواة"... وما إلى ذلك؟ وما هو تصور المتصوفة عن "الصديق" و"العدو" داخليا وخارجيا؟ وما علاقة الطرق الصوفية المباشرة وغير المباشرة بالنظام السياسي القائم؟ باعتبار أن كل نظام سياسي يحتاج إلى ثقافة سياسية معينة تغذيه وتحافظ عليه وتضمن استقراره. فالحكم الفردي تلائمه ثقافة سياسية تتمحور عناصرها حول الخوف من السلطة وطاعتها، مع ضعف الميل للمشاركة السياسية وفتور الإيمان بكرامة وذاتية الإنسان وعدم السماح بمعارضته، وفي المقابل فإن الحكم الديمقراطي يتطلب ثقافة ديمقراطية تؤكد على حرية الفرد وذاتيته وكرامته وصيانة حقوقه حتى لا يمكن لسلطة الحاكم أن تنال منها، فضلاً عن الشعور بالثقة والاقتدار السياسي لدى الأفراد.
إن التساؤل يصبح مبررا في نظر الباحث حول إمكانية مساهمة التصوف في الحقل السياسي في إطار المشروع النهضوي المتواصل، فهل يمكن تحويل أيديولوجيا الصراع الداخلي "التصوف" إلى أيديولوجيا للمقاومة الخارجية؟ وهل يمكن الانتقال من الفرد إلى المجتمع ومن النفس إلى العالم؟ وإذا كان التصوف طريقا يمر بمراحل ثلاثة: "أخلاقية" و"نفسية" و"ميتافيزيقية"، فهل يمكن إعادة بناء كل مرحلة لتنمية ثقافة سياسية أكثر فاعلية؟ أم من المجدي استبعاد "الطرح الصوفي" تماماً؟ وما مدى صدق وواقعية "الرؤى" التي ترى في الصوفية معادلاً دينيا للديمقراطية السياسية بما تحض عليه من تسامح وتحرر وانفتاح؟ وما الدور الذي قامت به الصوفية كإحدى مؤسسات المجتمع المدني في مصر؟ وهل يساعد هذا على خلق ثقافة سياسية مستقلة عن السلطة أم لا؟. عوامل اندثار وروافد انتشار وبالرغم من أن العديدين قد راهنوا على تراجع الطرق الصوفية أو اندثارها في المستقبل مستندين في ذلك إلى عوامل ثلاثة: أولها موجة التحديث التي تتسرب رويدا رويدا إلى عقل المجتمع المصري، والتي من شأنها أنها ستضع ظاهرة تقليدية مثل "الطرقية" في موقف حرج، وثانيها ظهور وترعرع أشكال أخرى للتدين تتمثل في جماعات شتى تستتر فوق خريطة مصر راحت تزاحم الصوفية، تنتقدها أحيانا وتجلدها أحيانا أخرى، وتضربها في مقتل اعتقادها الخاص بكرامات الأولياء والتضرع للأضرحة، وثالثها غياب الهدف السياسي الواضح للصوفية بينما تمتلكه القوى الإسلامية الأخرى، فمثل هذا الانسحاب من الواقع السياسي قد يؤدي إلى انصراف الناس عن الطرق الصوفية بقدر انصرافها عن قضية تمس حياة كل إنسان، وهي السياسة. ومع ذلك، سارت الصوفية المصرية في اتجاه مخالف للرسم البياني الذي بشر به هؤلاء، واستطاعت أن تضم بين مريديها من ينتسبون إلى أشد الفئات حداثة. كما أن النظام الحاكم أيقن أن من مصلحته دائماً أن تكون الصوفية واقفة إلى جانبه في مواجهة القوى الإسلامية المناوئة له، ولذا عمل طوال الوقت على إلهاب وقودها ليظل مشتعلاً، ثم دخل الأمريكيون على الخط فزادوا هذا التوجه عمقا، وأعطوه بعدا دوليا واستراتيجيا كبيرا. لكن بغض النظر عن استراتيجية النظام ورؤية الأمريكان، يبقى التساؤل مشروعا وقائما حول الموقف العام من "الطرقية"، فهل من الصواب هدم هذه التجمعات والمؤسسات التقليدية وتقويضها بحجة أنها تقف عائقا أمام موجة التحديث؟ أم أن الأصح هو تطويرها من الداخل بحيث تستطيع أن تجاري المعطيات الحداثية؟ وما حجم الصعوبات المتوقعة إزاء هذه الرغبة؟ وهل سيستمر في المستقبل المنظور مسلسل اتكاء النظام على الصوفية لكسب الشرعية؟ أم سيعمد إلى القيام بعملية جراحية شاملة للطرقية بحيث يتلافى المجتمع عيوبها ويستفيد من إيجابيتها؟. وبالطبع فإن هذه التساؤلات وغيرها ستبقى محل نقاش مستمر ومطروح في المستقبل القريب، مع الإقرار بأن أية عملية تنمية للمجتمع المصري، خاصة على المستويين السياسي والاقتصادي، ستظل ناقصة حال تجاهلها الطرح الصوفي، والذي بمقدوره أن يشكل على الأقل إطارا عاما لمشروع سياسي ناجع لمعظم أدواء السياسة، بتقاطعه وملئه الفراغ الكائن ما بين الجسد والروح، وتهذيب النفس والحد من غلوائها وأطماعها. وإن كان على المتصوفة أن يستلهموا العبر من مواقف أسلافهم، وخاصة ما يتعلق بالموقف من السلطة ومجابهتها، وأن يبتعدوا عن التماهي المطلق مع السلطة الزمنية القائمة، بدل أن ينضووا تحت لواء مشيخة طرق لا تنهض بدورها السياسي. |