صورة البيعة في طريقتنا
وكبقية الطرق الصوفية كان للمدرسة الكسنـزانية وسيلة خاصة في التسجيل والانتماء إلى صفوفها الدراسية نسميها بـ( اللمسة الروحية ) ، وهي عبارة عن التلقين بالمشافهة والمصافحة وخلاصتها :
أن يجلس المريد أمام شيخ الطريقة أو أحد خلفائه (1) ، ويضع يده بيده بأسلوب المصافحة ، ثم يغمض عينيه ويردد خلفه سند التلقين ، أي : كلمات العهد . وابتداءً من هذه المعاهدة أو المبايعة يعدّ الطالب نفسه قد تم تسجيله ضمن طلاب أو مريدي المدرسة الكسنـزانية .
ونؤكد على حتمية أن تكون مبايعة المريد يداً بيد تطبيقاً لقوله تعالى : إِنَّ الَّذينَ يُبايِعونَكَ إِنَّما يُبايِعونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْديهِمْ ( الفتح : 10 ) ، ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : من صافحني أو صافح من صافحني إلى يوم القيامة دخل الجنة(2) ، ولذلك نقول : إن المبايعة باليد هي فرض للدخول في طريقتنا .
أسلوب المبايعة في الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية
ترجع أصول الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية إلى أستاذ الوصول إلى الله سبحانه وتعالى ومدينة علومه اللدنية الرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، ويرجع اسم هذه الطريقة إلى أسماء ثلاثة من كبار أساتذة الطريقة ، فهي ( عليّة ) نسبة إلى باب مدينة العلوم اللدنية ووريث العلوم المحمدية الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، ( قادرية ) نسبة إلى الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره ، و( كسنـزانية ) نسبة إلى الشيخ عبد الكريم الشاه الكسنـزان .
لسلسلة مشايخ الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية جناحان يتفرعان عن الإمام علي ، فعن طريق الجناح الأول للطريقة ( الجناح الذهبي ) انتقلت أستاذية الطريقة إلى الأئمة الأطهار من آل بيت النبوة بدءاً بالإمام الحسين الشهيد عليه السلام ، فيما انتقلت علوم الطريقة عن طريق الجناح الثاني بواسطة أحد تلامذة الإمام علي كرم الله وجهه وهو الحسن البصري قدس سره ، ويلتقي جناحا الطريقة عند الشيخ معروف الكرخي الذي كان من طلاب الإمام علي الرضا عليه السلام ، أحد أساتذة الجناح الذهبي ، وتستمر سلسلة الطريقة من بعده من دون انقطاع إلى يومنا هذا ، وإلى قيام الساعة . وقد انتقلت مشيخة الطريقة من شيخ إلى خلفه بأسلوب المبايعة باليد .
بعد أن يضع المريد يده في يد الخليفة يقوم الخليفة بتلقينه صيغة عهد الطريقة الأتي ليردده المريد جملة فجملة بعد الخليفة :
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم . آمنت بالله وحده وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، وباليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى ، وآمنت بأن سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم هو خاتم النبيين وسيد المرسلين . يا ربَّ توبة .
أستغفر الله العظيم من كل ذنب . تبت وبايعت وعاهدت على يد قدرتك يا رب العالمين .
أستغفر الله العظيم من كل ذنب . تبت وبايعت وعاهدت على يد سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم .
أستغفر الله العظيم من كل ذنب . تبت وبايعت وعاهدت على يد سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .
أستغفر الله العظيم من كل ذنب. تبت وبايعت وعاهدت على يد سيدنا الإمام الحسين
أستغفر الله العظيم من كل ذنب . تبت وبايعت وعاهدت على يد سيدنا الشيخ عبد القادر الكيلاني .
أستغفر الله العظيم من كل ذنب . تبت وبايعت وعاهدت على يد سيدنا الشيخ إسماعيل الولياني .
أستغفر الله العظيم من كل ذنب . تبت وبايعت وعاهدت على يد سيدنا الشيخ عبد الكريم الشاه الكسنـزان .
أستغفر الله العظيم من كل ذنب . تبت وبايعت وعاهدت على يد سيدنا الشيخ عبد القادر الكسنـزان .
أستغفر الله العظيم من كل ذنب . تبت وبايعت وعاهدت على يد سيدنا الشيخ حسين الكسنـزان .
أستغفر الله العظيم من كل ذنب . تبت وبايعت وعاهدت على يد سيدنا الشيخ عبد الكريم الكسنـزان .
أستغفر الله العظيم من كل ذنب . تبت وبايعت وعاهدت يداً بيد على يد أستاذ الطريقة الحاضر حضرة السيد الشيخ محمد الكسنـزان ، وقبلته أستاذي ومرشدي في الدنيا والآخرة ، والله على ما أقول شهيد .
بعد انتهاء الخليفة والمريد من ترديد عهد الطريقة يقول الخليفة : أعطيتك هذه البيعة وكالة عن حضرة الشيخ محمد الكسنـزان .. قبلت ؟
فيجيب المريد : نعم قبلت . ثم تقرأ سورة الفاتحة .
كما يمكن أخذ عهد الطريقة من المريد الجديد من خلال جناح الطريقة الثاني . فبعد ترديد فقرات العهد الأولى يردد المريد بعد الخليفة العهد كما يأتي :
أستغفر الله العظيم من كل ذنب . تبت وبايعت وعاهدت على يد قدرتك يا رب العالمين
أستغفر الله العظيم من كل ذنب . تبت وبايعت وعاهدت على يد سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم .
أستغفر الله العظيم من كل ذنب . تبت وبايعت وعاهدت على يد سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .
أستغفر الله العظيم من كل ذنب.تبت وبايعت وعاهدت على يد الشيخ الحسن البصري
أستغفر الله العظيم من كل ذنب . تبت وبايعت وعاهدت على يد سيدنا الشيخ عبد القادر الكيلاني .
ثم يتم ترديد العهد كما مر ذكره .
مكانة المبايعة في طريقتنا
تعدّ المبايعة في طريقتنا بمثابة التوبة الكاملة للمريد ، تطهره من كل ما تقدم من
الذنوب ، وتحققه فعلياً بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لخواص أصحابه عندما رفعوا أيديهم إلى البيعة : قوموا فقد غفر الله لكم (3) .
وحقيقة هذه التوبة ومغفرة الذنوب تبينها كرامة ظهرت على يد الشيخ إسماعيل الولياني ، فقد كانت تُرى كفه وقد اسودت من ذنوب المريد كلما أخذ بيده البيعة من أحد المريدين فيرسلها في الهواء ، فتعود بيضاء من جديد .
وهذه الحالة الروحية هي حقيقة نورانية سارية في سلسلة مشايخ الطريقة من أولهم وهو حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم الذي كان يقول : الإسلام يجب عما قبله (4) ، وإلى آخرهم لحين قيام الساعة .
العمق الروحي للمبايعة
نحن نسمي المبايعة : باللمسة الروحية ، وذلك لعمق معناها ودلالاتها الروحية ، رغم ما هي عليه من بساطة في المظهر . وحقيقة العمق الروحي في اللمسة الروحية تكمن ، في أن وضع المريد الجديد ليده في يد الخليفة يمثل وضعها في يد شيخ الطريقة الحاضر نفسه ، ويد الشيخ الحاضر هي في يد شيخ الطريقة قبله ، وهكذا يد كل شيخ من مشايخ السلسة هي بيد شيخه من مشايخ الطريقة إلى الرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، لذلك فإن مبايعة شيخ الطريقة هي مبايعة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم نفسه .
البيعة والعلوم الروحية
إن التأريخ الإسلامي ليكشف وبكل وضوح أن حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم كما اختص الإمام علي كرم الله وجهه بفضيلة التربية الجسمية قبل النبوة وبعدها ، قد اختصه أيضا بفضيلة التلقين للعلوم الروحية الخاصة التي لم يعلمها لأي من بقية صحبه الكرام ، فكان الإمام كرم الله وجهه جامعاً في علومه بين ما أخذه من حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم مع بقية الصحابة من العلوم الظاهرية ، من خلال سماعهم لأقواله الشريفة ، ومشاهدتهم لأفعاله الكريمة صلى الله تعالى عليه وسلم ، وبين علوم أخرى سترد الإشارة إليها .
إن العلوم الظاهرية التي أتاحها للصحابة الكرام القرب المكاني من الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم تتجسد في حقيقة أن هؤلاء الصحب ، أصبحوا رواة الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي سمعوها من الفم النبوي الطاهر مباشرةً ، إلا أن علوم الصحب هذه لم تكن في واقع الحال إلا جزء بسيط مما علّم الله تعالى رسوله الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم ، فبالإضافة إلى العلوم الكثيرة التي آتاها الله عز وجل لرسوله الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم والتي علمها للناس ، كالذي ورد في أحاديثه الشريفة من تفاسير لآيات القرآن العظيم وشروحات لأوامر الشريعة ، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل من خلال الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم علوماً أخرى غير ما كشف منها لعامة الصحابة والناس .
ولقد أشارت بعض الأحاديث النبوية الشريفة إلى هذه العلوم الروحية الخاصة ، ومن ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الصعدات ولما تقاررتم على الفراش (5) .
وعلى هذا الحديث يعلق الشيخ الطوسي قائلاً : « لو أن علم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان من العلوم التي أنزل الله تعالى وأمره بإبلاغه لبلغهم ذلك ، ولو علموا ذلك لم يقل : لو تعلمون ما اعلم ، ولو علم أنهم يطيقون ذلك لعلمهم كساير العلوم » .
وفي هذه العلوم الروحية الخاصة جاء الحديث النبوي الشريف : علم الباطن سر من أسرار الله عز وجل وحكم من حكم الله يقذفه في قلوب من يشاء من عباده (6) .
وكذلك الحديث : إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله (7) .
ويصف الشيخ القرشي العلوم الروحية قائلاً : « هي أسرار الله تعالى يبديها إلى أمناء أوليائه وسادات النبلاء من غير سماع ولا دراسة ، وهي من الأسرار التي لم يطلع الله عليها الا الخواص » .
مثل هذه الأسرار لا يجوز أن يطلع عليها إلا من هو أهل ، لأن يحملها في قلبه ، ويوضح الإمام علي ضرورة عدم وضع العلم في غير أهله فيقول :
« حدثوا الناس على قدر عقولهم أتحبون أن يكذب الله ورسوله » .
وهذا هو أيضا جوهر قول حفيده الإمام زين العابدين عليه السلام شعراً :
يا رب جوهر علم لو أبوح بـه لقيل لي : أنت ممن يعبد الوثنـا
ولاستحل رجال صالحون دمي يرون أقبـح ما يأتـون حسنـا
هذه العلوم الروحية التي أشير إليها اختص الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم بها مولانا الإمام علي كرم الله وجهه من بين صحبه الكرام ، والتي ما كان لأحد أن يتلقاها إلا من اختاره لها صاحبها صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقد أكد حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم على هذه الحقيقة في أحاديث عديدة منها الحديث المعروف : أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب (8) ، والإمام نفسه أشار في الكثير من أقواله إلى هذه العلوم الروحية الخاصة التي لقنه إياها أستاذه الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم فقال في موعظة لتلميذه كميل بن زياد : « إن ها هنا لعلماً جماً – وأشار إلى صدره – لو وجدت له حملة » .
ويفسر ابن أبي الحديد مقولة الإمام علي كرم الله وجهه فيقول : « هذا عندي إشارة إلى العرفان والوصول إلى المقام الأشرف الذي لا يصل إليه أحد الا الواحد الفذ من العالم ، ممن لله تعالى فيه سر ، وله به اتصال » .
وفي اختصاص حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم للإمام علي كرم الله وجهه بالعلوم الروحية يقول الشيخ أبو نصر الطوسي : « ولأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه خصوصية من بين جميع أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمعاني جليلة ، وإشارات لطيفة ، وألفاظ مفردة ، وعبارات ، وبيان للتوحيد والمعرفة والإيمان والعلم وغير ذلك ، وخصال شريفة تعلق وتخلق به أهل الحقايق من الصوفية » .
والحديث في اختصاص الإمام بهذه العلوم يطول ، وهو أوضح من أن يحتاج إلى إيضاح ، أبين من أن يحتاج إلى بيان ، ولكن سنستعرض الكيفية التي بواسطتها انتقلت العلوم الروحية إلى مولانا الإمام علي كرم الله وجهه .
إن انتقال العلوم الروحية كان بواسطة اللمسة الروحية ، فقد صافح الإمام علي كرم الله وجهه سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يداً بيد وردد بعده سند التلقين الذي اختاره حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم آنذاك ، ومن خلال هذه المصافحة أو اللمسة الروحية انتقلت الإشعاعات النورانية المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم حاملة معها العلم المحمدي الخاص بالطرق الموصلة إلى الله تعالى ، والتي عبر عنها الإمام علي فيما بعد بقوله : لأنا أعلم بطرق السماء مني بطرق الأرض . فانتقال الأنوار المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم إلى مولانا الإمام علي وتشبعه بها وإشعاعه لها إنما كان بواسطة المبايعة يداً بيد .
ولكي يجعل حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم المسلمين كلهم على بينة من أمر دينهم ، والمرشد الرباني الذي ملأه بأنواره ، والذي بجب أن يسلكوا على يديه ، أبلغ صلى الله تعالى عليه وسلم حشد المسلمين المجتمع عند غدير خم – قبل انتقاله صلى الله تعالى عليه وسلم بشهرين – بأن الإمام علي كرم الله وجهه هو مرشدهم الروحي الذي سيقوم بينهم مقامه بعد أن يتركهم ، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعادي من عاداه (9) ، فجعل صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك ولاية الإمام علي كرم الله وجهه عامة ، شاملة ، مطلقة على كل المسلمين .
وبإبلاغ الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم المسلمين أن الإمام علي كرم الله وجهه هو باب لمدينة علمه ، وهو الباب الأوحد للوصول إليه صلى الله تعالى عليه وسلم ، يكون قد جعل اتباع الإمام فرضاً على كل من أراد اتباعه صلى الله تعالى عليه وسلم ، كما أنه بتسميته صلى الله تعالى عليه وسلم للإمام علي كرم الله وجهه نائباً يخلفه في المسلمين فإنه شرع سنة سار عليها الإمام علي كرم الله وجهه وكل اتباعه في الطريقة ، حيث قام الإمام علي كرم الله وجهه بتسمية وراث علومه الروحية وأحواله الزكية وخلفائه بإرشاد الناس ، وكذلك فعل من جاء بعدهم .
إن هذه المنـزلة العظيمة التي ورثها الإمام علي كرم الله وجهه من أستاذه صلى الله تعالى عليه وسلم قد ورثها من بعده أولاده وأحفاده آل بيت النبوة الأبرار ، فكانوا بهذا يقومون مقام الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بين المسلمين بعد انتقاله صلى الله تعالى عليه وسلم من دار الفناء .
وإن هذا التعاقب المستمر في النيابة الروحية عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم شكل أحد أهم أعمدة الطريقة وهو ما يعرف في مصطلحاتنا بـ( سلسلة مشايخ الطريقة ) . والأساس الروحي في هذا كله هي البيعة أو اللمسة الروحية .
إذاً فالبيعة أو اللمسة الروحية هي الوسيلة التي تربط المسلم روحياً بنور الرسول
الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم ، لأنها سبب انتقال الإشعاعات النورانية المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم إلى القلب ، وهي الباب للحصول على العلوم اللدنية التي تجعل العبد قريباً من ربه أقرب ما يكون .
وجدير بالذكر أن نورد هنا كلاما مهما ذكره الأستاذ الندوي في كتابه ( رجال الفكر والدعوة في الإسلام ) ص248 إذ قال : ( إن الشيخ عبد القادر الجيلاني فتح باب البيعة والتوبة على مصراعيه ، يدخل فيه المسلمون من كل نواحي العالم الإسلامي ، يجددون العهد والميثاق مع الله ، ويعاهدون على ألا يشركوا ولا يكفروا ، ولا يفسقوا ، ولا يبتدعوا ، ولا يظلموا ، ولا يستحلوا ما حرم الله ، ولا يتركوا ما فرض الله ، ولا يتفانوا في الدنيا، ولا يتناسوا الآخرة .
وقد دخل في هذا الباب وقد فتحه الله على يد الشيخ عبد القادر الجيلاني خلق لا يحصيهم إلا الله ، وصلحت أحوالهم ، وحسن إسلامهم ، وظل الشيخ يربيهم ويحاسبهم ، ويشرف عليهم ، وعلى تقدمهم .
فأصبح هؤلاء التلاميذ الروحيون يشعرون بالمسؤولية بعد البيعة والتوبة وتجديد الإيمان).
فكان للبيعات الإسلامية الصوفية الخاصة من الأثر في التزكية والإصلاح الفردي والجماعي أقوى شأن وأوفر نصيب .
قبس من التفسير الصوفي لآية المبايعة
قال تعالى : إِنَّ الَّذينَ يُبايِعونَكَ إِنَّما يُبايِعونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْديهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فإنما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أوفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيؤْتيهِ أَجْراً عَظيماً (الفتح : 10 ) .
1. جاء الحق تعالى بلفظة ( يبايعونك ) بصيغة الفعل المضارع الدال على الحال والاستقبال ، وهذا يشير إلى أمور :
أ . إن المشمولين بالبيعة هم المسلمون كافة ، أي من زمن ظهوره صلى الله تعالى عليه وسلم وإلى يوم القيامة فكل من بايع حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في أي زمن كان دخل ضمن كلمة ( الذين ) وشملته بركة هذه الآية الكريمة التي أشير إليها بالفوز العظيم .
ب. إن هذا الإطلاق والشمول في استمرار البيعة ليشير إلى حقيقة خلودها و بقائها إلى قيام الساعة .
ج. إن بقاء البيعة وخلودها يؤكد بشكل قطعي حقيقة خلود صاحب البيعة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وبقائه حياً بيننا إلى يوم الدين ، وهذا الأمر مما لاشك فيه عند المؤمنين ، إذ إن الشهداء وهم من أتباع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهى الحق تعالى عن حسبانهم من الأموات فقال جل جلاله : وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلوا في سَبيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقونَ ( آل عمران : 169 ) وفي آية أخرى : بَلْ أَحْياءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرونَ ( البقرة : 154 ) ، فكيف بحضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم الذي وصفه الحق تعالى بأنه شهيد الشهداء ، حيث قال سبحانه وتعالى : فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهيداً ( النساء : 41 ) .
ومن خلود البيعة وصاحبها ، ومن شمول المسلمين كافة بها تفهم الإشارة في قوله
تعالى : إِنَّ الَّذينَ يُبايِعونَكَ .
2. قال تعالى : إِنَّما يُبايِعونَ اللَّهَ ، فاستخدم سبحانه وتعالى أداة الحصر ( إنما ) وفي ذلك من الإشارات ما لا يسمح بتسطيره على الورق نشير منه إلى أن هذا قريب من قوله تعالى : مَنْ يُطِعِ الرَّسولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ( النساء : 80 ) وقوله : وَما رَمَيْتَ إذ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمى ( الأنفال : 17 ). وما يمكن قوله : أن الله تعالى اتخذ من حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وسيطاً أعظماً بينه وبين خلقه ، فمن رآه فقد رأى الحق ومن أطاعه فقد أطاع الحق ومن أحبه فقد أحب الحق ومن بايعه فقد بايع الحق ، فبحضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وبحضور الناس بين يديه يكونون أقرب ما يكون من الحضرة الإلهية ، إذ أنهم بين يدي نوره الذي أنزله رحمة بهم .
3. قال تعالى : يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْديهِمْ وهذه الآية تشير إلى حقيقتين مهمتين :
الأولى : تشير إلى يد الله والمراد بها يد الرحمة الإلهية ، ولما كان حضرة الرسول
الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم هو عين الرحمة الإلهية لقوله تعالى : وَما أَرْسَلْناكَ إِلّا رَحْمَةً لِلْعالَمينَ ( الأنبياء : 107 ) فإن يد الرحمة الإلهية تكون من وجه هي يد الحقيقة المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم المطلقة ، ويكون المراد : أن النور المحمدي صلى الله تعالى عليه وسلم المنـزل من الله تعالى يعم ببركاته المبايعين ، وليست لفظة ( فوق ) إلا للإشارة إلى الشمول والاستغراق والإحاطة ، فمن يأت للحق شبراً يأتيه الحق باعاً ، ومن يأت مشياً يأتيه الحق هرولة ، ومن يمدد يداً للمبايعة يمدد الحق له يداً فوق يده ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
الثانية : تشير إلى أيدي المبايعين ، وهذا يعني أن المبايعة يجب ان تتم بواسطة المصافحة يداً بيد
إ