"رمز وراءه رمز، وإشارة فوقها إشارة"
ويلتهم هذا العجز المعرفي، والسقوط اللاواعي في عمق المحدود والجزئي حضور الذات ويستنفد إمكاناتها،
و ينعكس بدوره على إدراك الذات للأصل الإلهي الواحد المطلق الكامن وراء الكثرة المتجلية بحقائقه وصفاته اللانهائية، التي لا تتكرر ولا تتماثل،
حيث تنحصر علاقتها به في حدود الضرورة التشريعية بالمعنى السلبي لها، كعبد السوء،
يرجو مباهج الربوبية ونعيمها، ويضيق بأوامرها ونواهيها، ويتحايل عليها مساوما بالعبادة الزائفة،
مقايضا على الآخرة، مقايضة عبيد الدرهم والدينار فيما يطلق عليهم ابن عربي.
ناهيك عن حصره المعنى الربوبي في صورة معتقده أو لنقل صورة احتياجه إن سلبا أو إيجابا،
إن وعيدا أو وعدا.
ومن اللافت حقا، أن ينطوي فضاء الغفلة على مفارقة أساسية تكمن في كونه فضاء للانتهاك.
وفضاءات الانتهاك عادة ما تكون فضاءات لممارسة الحرية والانفلات
والتمرد خارج حدود المعايير والقيم والقوانين السائدة بمستوياتها المختلفة.
وهو ما يجعلها فضاءات خلاقة وساحرة ومغوية بصورة ما،
رغم احتمالات التهديد والعقاب القائمة من قبل الآخر الذي تُنتهك قيمه ومعاييره أيا كان.
غير أن الأمر في هذا السياق قد يكون سلبيا أكثر منه إيجابيا،
لأن وضعية الغفلة، وضعية لا واعية، لا إرادية عبثية إلى حد كبير، أو بعبارة أخرى،
فإن لذة الانتهاك هنا لذة وهمية زائفة قد تحول من يمارسها أضحوكة ومثارا للتهكم والسخرية،
أكثر مما تجعله مصدرا للتهديد الفعلي للآخر وقيمه ومعاييره المستقرة الثابتة.
يحكى لنا إخوان الصفا في رسالتهم ما يلي:
ذكروا أنه كان رجل من أرباب النعم متدين، وكان له ابن متجاهر بالسكر، وكان الرجل كارها لذلك منه، فقال له يوما، يا بني انته عن السكر، حتى أعطيك شطرا من مالي وعقاري، وأفرد لك دارا،
وأزوجك بحسناء إحدى بنات أرباب النعم.
فقال ابنه: يا أبت، ماذا يكون؟
فقال الأب: تعيش فرحا مسرورا ملتذا إما بقيت.
فقال ابنه: إن كان الغرض هو هذا، فهو حاصل لي.
فقال له أبوه : كيف ذلك؟
قال الابن : لأني إذا سكرت، وجدت نفسي من الفرح واللذة والسرور، حتى أظن معه أن ملك كسرى كله لي،
وأتخيل في نفسي من العظمة والجلال حتى أرى العصفور مثلا قدر البعير.
فقال له أبوه: ولكن إذا صحوت لا ترى ذلك حقيقة.
قال الابن: أعود فأشرب ثانية، حتى أسكر، فأرى مثل ذلك".
وهكذا تمارس الذات سقوطها، بل غيابها بلا توقف، مندفعة اندفاعا عبثيا نحو الهاوية المظلمة،
وتحيى غفلتها ملتذة بالوهم الذي هيمن عليها، فأصبحت أسيرة في قبضته، يستلبها كيفما يشاء،
وإن بدا أنها تسقط بإرادتها واختيارها. لقد قادت ممارسة انتهاك الذات إلى نقيض ما كان يُتوقع منها،
إذ تحول فضاء الانتهاك الغافل إلى فضاء يكرس لمزيد من عبودية الذات وقمعها وتغييبها لا لحريتها وتمردها الخلاق. ولعل هذا يرجع إلى كون الذات مارست تجربتها ممارسة لا واعية بإمكانات الفعل ذاته وحدوده ،
حيث قامت الذات بفعلها داخل فضاء الوهم الذي ابتلع حضورها واستمتعت به عوضا عن الحقيقة الواقعية القائمة. ذلك أن الذات فرت من مواجهة مسئوليتها المنوطة بها كذات إنسانية عاقلة مكلفة،
وأسست حضورها في عمق الغياب عبر انتهاك معناها الوجودي الأصيل، ذاتها المتفردة،
لتندرج في أوهام الحشد أو القطيع، وتُستنفد داخل فضاءاتها المدمرة لحضور الوعي ويقظته.
حقا إن وعود السكر وعود باهرة، فيما يخبرنا النص، خاصة أن ما نتوهمه هو دوما ملك خاص لنا،
لا يملك أحد حرماننا منه أو سلبنا القدرة على استعادته والاستمتاع به مرارا وتكرارا،
ناهيك أنه يأتينا دون مجهود، ولا يحملنا مسئولية من أي نوع، بل يمكننا تجاهله وإقصاؤه حين نشاء.
أضف إلى ذلك أن مخلوقات الوهم المنفلت خارج إطار القوانين الواقعية والعقلية،
هي إمكانية مفتوحة لا نهائية الحضور، لا قيود تحدها، إنها رهن إرادتنا الجموح، وشططنا المستحيل،
حيث تتحقق كل أشواقنا بيسر شديد داخل هذا العالم السحري اللذيذ.