"السماع بالطريقة البودشيشية: أذواق وآفاق"
الدكتور محمد بنيعيش
كلية أصول الدين
جامعة القرويين - المغرب
أ
:
أولا: سؤال الأذواق"لماذا السماع؟"سؤال قد يفرض نفسه في بوتقة التفاعل النفسي والاجتماعي والضغوطات الاقتصادية والسياسية والبيئية والمنافسات الفنية والجمالية التي تعرفها البشرية منذ وجودها وخاصة في عصرنا الحالي من أجل تأسيس نموذج تواصلها وعناصره الإيجابية.
فالسماع مشتق من السمع وهو يمثل إحدى أهم الحواس الخمسة وأقواها في الإدراك والوعي،بل هو المدخل الرئيسي لكل المعارف الإنسانية والسبيل إلى تحقيق استقرارها في الوجدان الشعوري واللاشعوري معا.
كما أن السماع قد يكون هو الوسيلة الدقيقة والمحققة في مجال الجمال والمحبة والعشق وتناسق الفعل الخيالي المؤدي إلى الإبداع والسبح في عالم المعاني التي تحدد لنا شكل المباني.
ولهذا فلقد كان السمع وسيبقى أقوى من البصر بكثير وأكثر دلالة معرفية وذوقية وجمالية من كل الحواس دونه.بحيث كنموذج قد ترى بعينك الشخص جميل الملامح ومتناسق القسمات والأطراف ثم تعحب به وتميل إلى قبوله في باحة تواصلك، لكن ما أن يبدأ بالكلام كتصويت وتعبير وتوصيف حتى يتحدد لديك هل هذا الجمال ثابت أم مزيف جوهري أم عرضي .وبالتالي فتجد الكثيرين ممن يبدون جميلين عند النظر ومؤهلين للمحبة والتواصل الحميمي أو المندمج قد يتحولون إلى أناس مستثقلين ومنفرين وأكثر مدعاة إلى القطيعة والابتعاد ،والسبب في هذا قد يكون هو صوتهم ومحتواه وموسيقى ألفاظهم.
من هنا فقد جاء التنبيه من القرآن الكريم على خطورة المظهر العيني في تزييف الحقائق والذي تكشفه حاسة السمع بعد الإنصات كما في قول الله تعالى :"وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة"الآية،وأيضا جاء الذم صريحا لصوت الحمير كتربية للإنسانية حتى تجمل إيقاعات صوتها ولا تزعج الآخرين فيكون التنافر والتناكر كما في سورة لقمان:"واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ".
هذا المعنى قد يجرنا إلى التنبيه على تفاعل الكائنات سواء منها الحيوانية أو الإنسانية مع السماع وتفاضلها بحسبه.
فإذا كان صوت الحمير مستنكرا ومستنفرا منه وهو ما يؤشر شرعا على ضرورة الابتعاد عن تقليده أو تعلم موسيقاه فإن صوت الطيور سيكون على العكس من ذلك مرتعا للمعرفة والإدراك والتواصل والحوار والتمثيل الغزلي والروحي المعرفي كهديل الحمام ورمزيته في الحب والألفة والألاف كما دون له ابن حزم في كتابه "طوق الحمامة"،وهو ما تدل عليه قصة سيدنا سليمان عليه السلام وقبله فقد كان داود عليه السلام يسبح وتسبح معه الجبال والطيور كما في قول الله تعالى:"وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء،إن هذا لهو الفضل المبين"[1]
بحيث ستصبح تلك الطيور ذات تجاوب كبير مع النبيين داود وسليمان عليهما السلام وبالتالي ستتأسس مجموعة المزامير الداودية ذات الترانيم الجميلة والإيقاعات الموسيقية الشيقة عن طريق الصوت المجرد التي تتحرك معه الحيوانات والجمادات وبالأحرى الإنسان ذي الروح الشفافة والوجدان المرهف الحي،حتى إن نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيمدح أبا موسى الأشعري كما في الصحيح بقياس صوته بتلك المزامير:"لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود"الحديث.
هذا التفاعل الكوني بالسماع والإيقاع الموسيقي للأصوات قد حدا ببعض الفلاسفة اليونان-ربما أفلاطون أو فيثاغوراس-إلى اعتبار أو إدراك وجدانيا أن دورات الأفلاك الكونية قد تدور بإيقاعات موسيقية متناغمة،وبالتالي فستكون الدرجات السبع الموظفة في السلم الموسيقي ذات ارتباط موضوعي أو عضوي بالدورة الأسبوعية للأيام والدورة العامة الفلكية،وكذلك قد يمكن ربطها بالأشواط السبعة في الطواف حول الكعبة المشرفة التي تجسد لنا شعوريا ولاشعوريا التناغم التام في حركة الحجاج عند الطواف على نموذج دورة المجرات وإيقاعاتها وخاصة المجرة التي يوجد بها كوكبنا الأرضي.
إذ من نموذج الحيوانات التي تتفاعل مع السماع وموسيقاه بالتواتر والتجربة المتكررة قد نجد علاقة الجمال بالحداء عند العرب،وكيف يؤثر النغم وصوت الحادي في نشاط الجمال التي قد تقطع المسافات الطوال من دون كلل أو إعياء مما يسهل على السراة سفرهم وترحالهم.
قد نجد هذا التكريس والتشبيه بين سير الروح وسير الركبان بالحداء مما ينشده بكثرة مسمعو الطريقة البودشيشية حينما تنتعش الأرواح وتتشوق إلى اللحاق بالمعاني المسترسلة في حضرة الذكر وصحبة الشيخ سيدي حمزة كنموذج:
يا حاد سر رويدا | | وانشد أمام الركب |
في الركب لي iiعريب | | أخذوا معهم قلبي |
من لي إذا أخذوا قلبي... |
رفقا بي ياحاد | | رفقا رفقا بفؤادي |
من لي إذا أخذوا لي قلبي |
أو
يا حادي الركبان متى وصلت iiالبان | | أرح هناك العيس وبشر الولهان |
أرواحنا راحت و باللقا ارتاحت | | شمس الحمى لاحت فضاءت الأكوان |
يا ساكني رامة النار ضرامة | | والروح حوامة لكم عن الأكوان |
فتفاعل الجمال بالحداء أشهر من نار على علم عند العرب،وقد بقي عند المسلمين من الوسائل المسهلة لقطع المسافات بالسماع كما يذكر أبو حامد الغزالي هذا الحديث الصحيح في البخاري مع التعليق عليه:"عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدى له في السفر، وأن أنجشة كان يحدو بالنساء والبراء بن مالك كان يحدو بالرجال،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير"، ولم يزل الحداء وراء الجمال من عادة العرب في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان الصحابة رضي الله عنهم، وما هو إلا أشعار تؤدى بأصوات طيبة وألحان موزونة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة إنكاره، بل ربما كانوا يلتمسون ذلك تارة لتحريك الجمال وتارة للاستلذاذ.فلا يجوز أن يحرم من حيث إنه كلام مفهوم مستلذ مؤدى بأصوات طيبة والحان موزونة"[2].
والتفاعل مع الموسيقى قد اعتبر لدى الأطباء والحكماء والصوفية معا عنوانا على سلامة الوجدان وصحة المزاج واعتداله حتى إن بعض الأطباء قد كانوا يداوون في الماضي ولا يزالون في الحاضر مرضاهم من خلال الصوت الموسيقي الجميل كما يذكر الشيخ محيي الدين ابن عربي في كتابه الفتوحات المكية للدلالة على دور السماع والأصوات العذبة في تهذيب النفوس وتشكيلها وترقيقها قائلا:"من لم يطربه تغريد الطيور ويحركه خرير المياه فاستدل بذلك على سوء مزاجه"الذي قد يكون سوداويا قاتما أو يعاني من خلط بلغمي كما يعبر عنه في الطب القديم.
إذ الأصوات الموزونة المطربة باعتبار مخارجها ثلاثة كما يقسمها أبو حامد الغزالي :"فإنها إما تخرج من جماد كصوت المزامير والأوتار وضرب القضيب والطبل وغيره ،وإما أن تخرج من حنجرة حيوان وذلك الحيوان إما إنسان أو غيره كصوت العنادل والقمارى وذات السجع من الطيور فهي طيبة موزونة متناسبة المطالع فلذلك يستلذ سماعها"[3] .
كما يذهب إلى أن الأصل في الأصوات حناجر الحيوانات، وإنما وضعت المزامير على أصوات الحناجر وهو تشبيه للصنعة بالخلقة، وما من شيء توصل أهل الصناعات بصناعتهم إلى تصويره إلا وله مثال في الخلقة التي استأثر الله تعالى باختراعها منه تعلم الصناع وبه قصدوا الاقتداء وشرح ذلك يطول ، فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيبة أو موزونة ،فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب وسائر الطيور، ولا فرق بين حنجرة وحنجرة ولا بين جماد وحيوان،فينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمي كالذي يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدف وغيره"[4].
[
يتبع