ميثم التّمّار
لا نعرف عن طفولة « ميثم » شيئاً يُذكَر، سوى أنّه وُلِد في « النّهروان » في أُسرة فارسيّة، ثمّ أصبح في صباه غلاماً لامرأةٍ من « بني أسد ». ومن ثَمّ فقد منّ الله عليّ هذا الغلام بالحرّيّة عليّ يدَي الإمام علّيٍّ عليه السّلام الذي اشتراه ثمّ أعتقه قائلاً له:
ـ اذهب، فأنت حُرٌّ لوجه الله تعإلى ! ..
ويشتغل « ميثم » ببيع التّمر في « الكوفة »
فُلقِّب « بالتّمّار » وأصبح هذا اللّقب تكملةً لاسمه الّذي صار « ميثم التّمار »..! ...
ويُعلّم الإمام فتاه ماشاء الله له أن يتعلّم، كيف لا ؟ .. وقد عَهِد النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى ابن عمّه بشأن هذا الفتى، عهداً، فأوصاه به خيراً، كما يُستفاد من حديث « أمّ سلمة » إحدى زوجات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وهكذا تشتدّ هذه العلاقة الروحيّة بين ميثم التّمار وأمير المؤمنين، وتزداد رسوخاً حتّى لَيُصبح ميثم مِن أقرب أصفياء الإمام عليه السّلام.
وكثيراً ما كان يصحب ميثم سيّدَه الإمام في جوف الصّحراء وقد أرخى اللّيل سدوله وهدأت العيون، فيحدّث الإمام فتاه أحاديثَ شتّى، ويُلقي إليه علوماً اختصّ اللهُ بها النبىَّ وآله،
ومنها: « علم البلايا والمنايا ».
ويستمع ميثم إلى سيّده الإمام يناجي إلهَ السماوات والأرض، ويدعوه من عميق أَعماق قلبه، ويتوسّل إِليه مستعطفاً، ويستعين به مستغيثاً، فيحفظ الكثير ممَّا يسمع، ويُفعَم قلبه بإِيمانٍ حارّ!..
وعندما يزور الإمام عليّ عليه السّلام ميثمَ في دكّانه حيث يبيع التَّمر، فيخلوبه ، ويتابع تعليمه وتدريبه الرُّوحيّ.
فليس لمن توخَّى العلم زمان محدَّد، ومكانٌ معيَّن.
وكان الإمام عليّ عليه السّلام، ينتدب فتاه لبعض المهمّات والأمور، فَيُغَادرُ ميثمٌ دكّانه، مُبْقياً الإمامَ فيه يبيع التّمر في غيابه.
ومِن الرّواياتِ الطَّريفة في هذه المناسبةِ، أَنَّ بعضَ المشترين نقد الإمامَ ثمنَ ما اشتراه من تمرٍ، دراهمَ مزوَّرةً، ويعود ميثمٌ، فيخبرهُ الإمام بذلك. ويعجب ميثمٌ لهذا الأمر وكيف لم يفطن الإمام له!
وينظر الإمام عليه السّلام إلى فتاه ميثم، وقد علم ما يجول بخاطره وما تحدِّثه به نفسه، فينبّئه بعودة الشّاري هذا بعد قليلٍ، بحجَّة أنَّ التمر الذي اشتراه مُرُّ، وما هي إلاَّ برهة وجيزةٌ، حتّى يقطع حديثهما هذا الرَّجلُ الّذي اشترى من الإمام عليٍّ عليه السّلام تمراً، مطالباً بردّ التَّمر المرِّ الذي اشتراهُ، وباسترداد ما دفع ثمنه نقداً.
ويقول الرّجل متعجِّباً: كيف يكونُ تمرُكما مُرّاً ؟!..
فيُجاب: كما تكون دراهمك مزيَّفةً.
فتجحظ عينا الرَّجُل دهشةً واستغراباً، وما كان ميثمٌ بأَقلَّ منه دهشةً واستغراباً! ..
ذَكَرْنا علماً اختصَّ اللهُ به نبيَّه وآله، هو « عِلمُ البَلاَيا والمَنايَا ».
كما ذكرنا أنَّ الإمام علياً عليه السّلام علَّم طَرَفاً من هذا العلم خاصَّةَ أصفيائه، وقد ذكرنا بعضهم، فكان كلُّ هؤلاءِ الّذين مرَّت أسماؤهم يعرفون الكثيرَ الكثير من أسرار موتهم ونهايتهم، وعمَّا يحلُّ بهم وبغيرهم من أصحابهم من البلاءِ، وبشكلٍ مفصَّل.
وكان ميثمٌ في طليعة هؤلاءِ الصَّفوةِ من حواريِّي الإمام عليٍّ عليه السّلام!.
وإليك هذه الحادثة الَّتي شهدها خلقٌ كثيرٌ:
في ضحى نهارٍ يلتقي ميثمٌ التمَّار بصاحبه حبيب بن مظاهرٍ عند مجلسٍ لبني أسد.
وكان كلاهُما عليّ فرسه.. فيتحدَّثان، وتقترب الفرسان الواحدةُ من الأخرى، حتَّى لَيكاد يلتصق الرِّكاب بالرِّكابِ؛ ويتناجيانِ، ثمَّ يسمعُ أصحاب المجلس منهما حديثاً عجباً:
حبيبُ بن مظاهر: لكأَنّي بشيخ أصلع ضخم البطن، يبيع البطّيخ عند دار الزُّرقِ، قد صُلِب في حبِّ أهل نبيّه، ويُبقر بطنه عليّ الخشبةِ
( يقصد بذلك ميثماً ).
ميثم التمَّار: وإنيّ لأعرف رجلاً أحمر له ضفيرتان، يخرج لينصر ابنَ بنت نبيِّهِ فيُقتل، ويُجال برأسه في الكوفة ( يقصد حبيباً بن مظاهر ).
وهكذا يحدِّث تلميذا الإمامِ عليُّ عليه السّلام، كلٌّ صاحبَه، فيخبره عن سبب موته، وكيفيَّةِ ذلك، وما سيلقى من بلاءٍ.
إنَّه علم « البلايا والمنايا » الذي هو من خصوصيَّات علم أهل بيت النبوَّة، وموضع الرِّسالةِ، ومُختلَف الملائكة، ومَهْبِطِ الوحي، ومَعدِن العلم ( أي: أصله ).
ولم تنتهِ القصَّةُ ! .. فيفترق الرَّجلانِ ! .. وينظر أصحاب المجلس بعضٌ إلى بعضٍ قائلين:
ـ ما رأينا أحداً أَكذبَ مِن هذين ! ..
وإذا برجلٍ مُقبل، إنَّه رُشَيدٌ الهَجَريُّ، يسألُ عن صاحبَيه: ميثمٍ وحبيب.
فقال له أهل المجلس: افترقا بعد أن سمعناهما يقولان كذا وكذا.
فقال رشيد: رحم الله ميثماً، نسي: ويزاد في عطاءِ الَّذي يجيءُ بالرَّأس مئةُ درهم.
فبُهت القوم وقالوا: هذا ـ واللهِ ـ أكذبهم !
إنَّهُ تلميذٌ ثالثٌ من تلامذةٍ الإمام عليٍّ عليه السّلام، يعقِّب عليّ ما قاله صاحباه، مضيفاً بعض التفصيلات! ..
ولم تنته القصَّة بعد ...
يقول أَهل المجلسِ: فواللهِ ما ذهبت الأيَّام واللَّيالي، حتى رأَينا ميثماً مصلوباً عليّ باب دار عمرو بن حُرَيث، وجِيءَ برأس حبيب بن مظاهرٍ قد قُتل مع الحسين عليه السلام.
ورأينا كلَّ ما قالوا ! ...
...
وهذه حادثةٌ أخرى تُرينا عبدالله بن عبَّاس.. جالساً أمام ميثم التمَّار مجلسَ التلميذ من أستاذه، يأخذ عنه، ويتعلَّم منه.
قال له ميثم: يا ابن عبَّاس، سَلْني ما شئت من تفسير القرآن؛ فإنّي قرأت تنزيله على أمير المؤمنين و علَّمني تأويلَه ( والتأويل معرفة باطن القرآن وفهم أسراره وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إلاَّ اللهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ، يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، كُلُّ مِنْ عندِ رَبِّنا .. ).
ويُقْبل عبد الله بن عبَّاس يكتب، ويُقْبل عليه ميثمٌ مملياً! .. ثمَّ يتوقَّفُ ميثم هُنَيهةً، ويُقْبل بوجهه عليّ ابن عبَّاس، ويبادره قائلاً:
يا ابن عباس، كيف بك إِذا رأَيتني مصلوباً، تاسعَ تسعةٍ، أقصرهم خشبةً، وأقربهم إلى المطهرة ؟!...:
عن يوسف بن عِمران الميثميِّ قال: سمعت ميثم النَّهروانيَّ يقول:
دعاني أمير المؤمنين عليه السّلام وقال: كيف أنت يا ميثم إِذا دعاك دعيُّ بني أُميَّةَ ( أي الذي لم يُعرَف أبوه فألحقه بنو أُمية بهم )، وابنُ دَعِيِّها عبيدُالله بن زياد، إلى البراءَ ةِ منّي ؟!! ... ].
ويجيب ميثم: يا أمير المؤمنين، أنا واللهِ لا أبرأُ منكَ ! .
قال له الإمام عليه السّلام: إذاً، واللهِ يقتلك ويَصلبك! ..
قال: إصبر، فذاك في الله قليل.
قال له الإمام عليه السّلام: يا ميثم، إذاً تكون معي في درجتي! ...
وفي لقاءٍ آخر، يذكر الإمام عليه السّلام لصفيِّه ميثم مزيداً من التفصيلات حول مقتله، إذْ يقول له :
ـ « أنتَ والله، لَتُقْطَعنَّ يداك ورِجلاك ولسانك، ولَتُقطَعنَّ النخلةُ التي بالكناسة ( محلةٍ في الكوفةِ ) فتُشَقُّ أَربع قطعٍ، فتُصلب أنت عليّ رُبعها، وحِجرُ بنُ عَدِيّ عليّ ربعها، وخالد بن مسعودٍ عليّ ربعها، ومحمد بن أَكثم عليّ ربعها .. ».
قال ميثم: فشككت في نفسي، وقلتُ: إنَّ عليّاً ليُخبر بالغيبِ ! ..
فقلت له: أَوَ كائنٌ ذلك يا أَمير المؤمنين ؟ ..
قال: إي وربِّ الكعبةِ! .. كذا عَهِده إليَّ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم. ويُصلَب ميثم عليّ دار عمرو بن حُرَيث.
لذلك، كان ميثم عندما يمرُّ بعمرو بن حريثٍ هذا، يقول له مداعباً:
ـ يا عمرو، إذا جاورتك، فأَحِسنْ جِواري. ( وما يقصد المجاورةَ هنا إلاَّ صلبَه أَمام داره. بينما يظُنُّ عمرو بذلك جوار دارٍ أو بستانٍ ).
فيجيبه عمرو، دون أن يفطن إلى ما يقصده ميثم: لبيَّك، قد فعلتُ ! ..
* * *
أ عبيد الله بن زياد طلب ميثم التمَّار من عريف قومه
فقال له: إن ميثم بمكّة.
فقال له عبيد الله بن زيادٍ: لئن لم تأتِني به لأَقتُلَنَّك.
وأَمْهلَهُ ...
وخرج العريف إلى القادسيّة ينتظر عودةَ ميثم، فلما قدم ساقه أَمامه إلى مجلس عبيد الله بن زياد حيث دار بين ابن زيادٍ وميثمٍ هذا الحوار السَّاخن:
ـ أَأَنت ميثم ؟
ـ نعم ! . أَنا ميثم !.
ـ تبرَّأْ من أَبي ترابٍ ! .
[ وأبو تراب: لقبٌ أَطلقه النبيُّ صلّى الله عليه وآله عليّ الإمام عليٍّ عليه السّلام عندما افتقده يوماً فوجده نائماً في الصَّحراءِ وقد توسَّد يمينه، وسال العرقُ عليّ جبينه، وأَصاب وجهَه شيءٌ من التُّراب.
فربَّت النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلاً: قم يا أبا تراب! .. فعُرِف بهذا اللَّقب. وكان أَحَّبَّ الأَلقاب إلى نفسه ].
ـ لا أعرف أَبا تراب!
ـ تبرَّأ من عليِّ بن أبي طالبٍ!
ـ فإن لم أفعل ؟
ـ إذاً واللهِ لأَقتُلنَّك! ..
ـ أَما والله لقد كان يقول لي أنك ستقتلني وتصلبني على باب عمرو بن حُرَيث ! ..
قيل: وأمَرَ ابن زيادٍ بميثم، فأُخرج من المجلس، وأَمر بصلبه عليّ النَّخلة أَمام دار عمرو بن حريث.
وينظر إِليه ساعتئذٍ رجلٌ، قائلاً: ـ يا ميثمُ! .. لقد كنتَ عن هذا غنيّاً ! ...
فيلتفت إليه ميثمٌ قائِلاً: واللهِ، ما نبتَتْ هذه النَّخلةُ إِلاَّ لي، ولا اغتذيتُ إِلاَّ لها.
ويُصلَب ميثمٌ عليّ جذع النَّخلة!
ولكنَّ وليَّ الله، لا يهوله هذا الموقفُ الرَّهيب، وقد صُلب، وقُطعت يداه ورِجلاه، ...
بل أَخذ يصرخ بأَعليّ صوته: ـ أيُّها النَّاس، مَن أَراد أن يسمع الحديث المكنون عن عليِ بن أبي طالبٍ، فواللهِ لأُخبرنَّكُم بعلمِ ما يكون إلى أَن تقوم السَّاعة، وما يكون من الفتن ! ..
وأَخذ يحدِّث النَّاسَ بالعجائب!
ويعلم عبيدُالله بنُ زيادٍ بذلك، فيأمُرُ بلجمه ( فكان ميثمٌ أَوَّلَ مصلوبٍ لُجِم في الإسلام ).
ثم يأمُرُ به، فيُقطع لسانُه.
وفي اليوم الثاني، شُوهد الَّذي جاءَ ليقتله، وقد سدَّد إِليه الحربةَ وطعنه في خاصرته، وهو يقول: ـ أما واللهِ، لقد كنتَ ما علمتك إلاَّ قوَّاماً. ( يقصد قيامَ الليلِ بالصَّلاة، وقراءةِ القرآنِ، والدُّعاءِ ).! ...
ودفن بين النَّجف والكوفة له ضريحٌ تعلوه قُبَّة، في المكانِ المشهور بجامع مُراد.:
فَأُولئِكَ مَعَ الَّذينَ أَنعَمَ اللهُ عليهم من النَّبِيّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفيقاً ..
صدق الله العليّ العظيمُ
إختصره الفنان قدرى