دارت الأفلاك فأعجب لقطبها الـ
محيط والقطب مركز نقطة
ولا قطب قبلي عن ثلاث خلقــــته
وقطبية الأوتاد عن بدلـية (51)
هذه الأبيات يتضح أنه يتحدث عن الحقيقة المحمدية التي سماها بالقطب إذ يرى أن هذا الأخير – محمد لا قطب قبله وهو محيط الأقطاب ومركز نقطة بداية الخلق. و مركز النقطة التي انطلق منها النور النبوي ليصل إلى نفس النقطة وهي نقطة ختام الرسالة على يد نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم. فبدأ بنوره وختم باسمه وجسده ولنستمع لابن الفارض وهو يتحدث عن هذه الحقيقة متغنيا بها في تائيته المشهورة:
جاءني مني رسول علـــيه ما
عنت عزيز بي حريص لرأفة
ومن عهد عهدي قبل عصر عناصري
إلى دار بعث قبل إنذار بعثة
إلي رسولا كنت مـني مرســــلا
و ذاتي بآياتي علي استدلت (52)
يؤكد في هذه الأبيات أن النبي محمد صلى عليه وسلم بعث قبل أي بعثة وهو ما يؤكد نورانيته الأزلية. وقد وصفه بما نعته رب العرش " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم "(53).
ويؤكد ابن الفارض قدم النور المحمدي وأن الأنبياء قد أخذوا من مشكاته قائلا:
تحسـبن الأمر عنى خارجا
فما ساد إلا داخل في عبـودتي
و لولاي لم يوجد وجود ولم يكن
شهود ولم تعهد عهود بذمــتي
فلا حـي إلا عن حياتي حياته
وطوع مرادي كل نفس مريـدة
و لا قائل بلفــظي مــحدث
ولا ناظر إلا بناظر مقـــلتي
ولا ناطق غـيري ولا ناظر ولا
سميع سوائي من جميع الخليقة(54)
الأنبياء آخذون من شريعته مستنيرون بنوره بل إن الوجود لولاه ما كان. فهو السابق إليه وكل الأرواح منه استمدت روحها كما يقول:
وروحي للأرواح روح وكل ما
ترى حسنا في الكون من فيض طينتي (55)
ويؤكد ابن الفارض أن الأنبياء على اختلافهم إنما صدروا عن النور المحمدي واستمدوا شرائعهم من شريعته قائلا:
وكلهم عن سبق معناي دائــــر
بدائرتي أو وارد من شريعتي (56)
وقوله :
و لا فلك إلا ومن نور باطـــني
به ملك يهدي الهدى بمشــيئتي
ولا قطر إلا حل من فيض ظاهري
به قطرة عنها السحائب سحت(57)
وإذا ما اعتبرنا أن الحبيب الذي ذكره في خمريته يقصد به الحضرة المحمدية فإننا نجد شاعرنا يتغنى فيها بالحقيقة المحمدية الأزلية فيقول:
صفاء و لاما ء ولطف ولا هوا
ونور ولا حار وروح ولا جسم
فهو يشبه هذه الحقيقة بالخمرة الصافية ثم يقول في تقدم الروح المحمدي على كل الكائنات وعلى أن كل شيء عليه قائم.
م كل الكائنات وجــودها
قديما ولا شكل هناك ولا رسم
وقامت بها الأشياء ثم لحكـمه
بها احتجبت عن كل من له فهم
فخمر ولا كرم وآدم لـي أب
وكرم ولا خمر ولي أمــها أم
وقد وقع التفريق والكـل واحد
فأرواحنا خمر وأشباحـنا كرم
فلا قبلها قبل ولا بعــدها بعد
وقبلية الأبعاد فهي لــها ختم
وهكذا وبعد هذه الوقفة مع الحقيقة المحمدية عند هؤلاء الأعلام الثلاثة : الحلاج ابن عربي وابن الفارض نجد أن كلا منهم قد تغنى بها حسب طريقته فالحلاج يرى أن لمحمد حقيقتين نورانية أزلية وحقيقته الإنسانية أي روحانية وجدت قبل الأكوان وقبل الأنبياء ومنها استمدوا أنوارهم ونبوءاتهم ثم مادية وهي محمد الإنسان الذي وجد في زمان ومكان محددين.
وهي نفس الحقيقة التي تغنى بها ابن عربي الحاتمي إلا أنه ربطها بالإنسان الكامل وبفكرته الفلسفية " وحدة الوجود" ولا يختلف عن الحلاج في أزلية النور المحمدي.
أما عمر بن الفارض فقد ربطها بالقطبية ولا يختلف عن سابقيه في أزلية النور المحمدي وقدم خلقه" وآدم بين الماء والطين" إلا أننا لم نجد له تصريحا بذلك.
و قد تغنى الشعراء بهذه الحقيقة متأثرين بمن سبقهم من المتصوفة كالسيد أحمد البدوي ( ت 675 هـ) الذي نقرأ له هذه الأبيات:
من قبل قبل وجــــودي
كنت غوثا في نطـــفة الآباء
أنا بحر بلا قرار وبـــــر
شرب العارفون من بعض مائي
سائر الأرض كلها تحت حكمي
وهي عندي كخردل في فلاء(58)
ويربطها صاحبنا بالغوث كما ربطها ابن الفارض بالقطب الذي تأثر به إبراهيم الدسوقي (ت676هـ) إذ ربطها بالقطب الذي ما قبله قطب سابق للوجود و به قامت الأنبياء:
أنا ذلك القطب المبــارك أمره
فإن مدار الكل من حـول ذروتي
أنا شمس إشراق العقول ولم أفل
ولا غبت إلا عن قلوب عمـــية
و بي قامت الأنبياء وفي كل أمة
بمختلف الآراء والكل أمـــتي
نعم نشأتي في الحب من قبل آدم
وسري في الأكوان من قبل نشأتي
أنا كنت في العلياء مع نور أحمد
على الدرة البيضاء في خلوتي (59)
و قال مصطفى البكري الصديقي ( ت 1162هـ) من آهل دمشق , متغنيا بها:
و أن خير الخلق طه أحمد
من هو من كل الأنام أحمد
رسوله صفيه المقـــدم
لمن أراد قربه مـــقدم
بحر البحور نور كل النور
أول باد من تجلي النــور[60]
كما نجد عبد الكريم الجيلي وهو الذي استوت عنده نظرية الحقيقة المحمدية وربطها بالإنسان الكامل فهو يرى أن سيدنا محمد " عبد الله ورسوله المعظم ونبيه المكرم وسابقه الأقدم وصراطه الأقوم مجلى مرآة الذات ومنتهى الأسماء والصفات، مهبط أنوار الجبروت ومنزل أسرار الملكوت ومجمع حقائق اللاهوت ومنبع دقائق الناسوت" (61).
كما تحدث عن هذه النظرية الشيخ أحمد علوان وتصوره لهذه النظرية يقترب من تصور الحلاج إذ يرى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم صورتين مختلفتين ظاهرية وباطنية فهو كائن محدث من ناحية وأزلي من جهة أخرى(62).
وهكذا فإن المتصوفة تغنوا بنظرية الحقيقة المحمدية في أشعارهم وتطرقوا لها في فلسفاتهم ولم يختلفوا حول أزلية النور المحمدي الذي خلق و" آدم بين الماء والطين" في نظرهم إلا أن كل واحد من هؤلاء المتصوفة يحاول أن يربطها بنظريته وطريقته في التصوف.
خاتـمة
يبدو من تتبع شريط الحقيقة المحمدية في الدراسات الصوفية و عند المتصوفة أنفسهم أنها تأخذ تعاريف متعددة و ألوان كثيرة إلا أن القاسم المشترك بين كل هؤلاء هو اعتبار النبي محمد صلوات ربي عليه و سلامه أول مخلوق في الوجود ومنه انفلقت الأكوان و منه كذلك استقى باقي الأنبياء سر وجودهم فهو الإنسان الكامل و نور الوجود و سره.