فرادة الحلاج
من لم يقف على إشاراتنا ، لم ترشده عباراتنا
سمير السعيدي
الجمال ، هو الشيء الوحيد الذي يستحقّ الثناء . به يستضيء القلب وتسمو قيم الروح في طريق صلاحها الى معانقة الحق . قد يبدو مثل هذا الكلام تعبديّاً لاغير ، ولكن عمومية التهمة بالمثاليّة ، تجعلنا نفصح بانّ التصوف منذ الحلاّج ، أصبح بين طريقين : الأول منشغل بالزهد والتقشّف والتعبّد فقط ، والثاني مأخوذ بالكشف عن الحقائق المعرفيّة والاصلاحيّة الشاملة .
فاذا كان الاول مثاليّاً كسلوك تديّني ، تعمّق الثاني في علوم الفلسفة ، وتطوّر واختلف بين بيئةٍ واخرى ، بين زمنٍ وآخر ، رغم ان الاثنين يشتركان في السمات العامّة للمتصوّف ، التي منها الزهد وتهذيب النفس وصقل الروح بالمعرفة .
خصوصيّة الحلاّج تكمن في خصوصيّة رؤيته للوجود ، الذي اعتبر كلّ شيء فيه متصلاً بغيره ، كوحدة واحدة ، مهما تباينت الأشياء والمظاهر والاوصاف . وهو بهذه الرؤية النظريّة والسلوكيّة ، جعل من الله الذي هو الحق حاضراً في كلّ شيء ، وخلّصه بذلك من المفاهيم الغيبيّة التخيّلية ، وجعله كائناً على الارض ، وفي التفاصيل المحيطة بنا ، يتحمّل الانسان تحقيق رسالته ، لانّه ظلّه وصورته على الارض . لم يعتكف الحسين بن منصور في بيته ، وكانت نظريّته التوحيديّة تتقصّد العلوم والحياة معاً .
وكانت لآرائه في السياسة والمجتمع ، كما في الطب والفلسفة وسواها ، شأن مؤثر وحضور متميّز ، ما أثار خصومه من فقهاء السلطة والمتصوّفة وضغينة رجال الحكم . وفُسرت دعوته باتصال الانسان بالله ، على انها تجاوز معلن وصريح لعرش الخلافة وهيمنتها . فيما بعد قال ابن عربي - حامل لواء وحدة الوجود بعد الحلاّج - عن صورة الله في الانسان ( ان الانسان هو الكائن الوحيد الذي صاغه الله على مثاله ، وجعله في الوقت نفسه مختصراً دقيقاً لكلّ ما في العالم من حقائق )اذاً ، لم يكن تصوّف الحسين وزهده الاّ شكلاً من اشكال الرفض الروحي لاساليب السلطة في بغداد ، وما ابتعاده عن المؤسسة الدينية الرسمية سوى علانيّة موقفه من ضرورة تحقيق المفاهيم والتصورات المتعمّقة عن معاني العدالة والحق والحريّة . فشغل الحلاّج عبر خطبه واقواله في جوامع بغداد موقع القدوة الروحية والاجتماعية ، التي سرعان ما التفّ من حولها الناس ، وتحمّسوا لها ، كردة فعل لتردّي الاوضاع السياسية في البلاد ، وتفشي التحللّ والفساد
اختصر الحلاج صورة التذمّر الشعبي العام في شخصيته ضد السلطة ، وزاد من سخط العامّة انتشار الاضطرابات السياسية والاجتماعية ، واقترن ذلك بالعديد من الانفجارات والانتفاضات الشعبية ضد حكّام بغداد .
و في هذا المسار الاحتجاجي ، شغل الحلاج مساحة الخلل بين سخط الناس الباحثين عن البديل ، وبين طغيان السلطة ، وكانت أفكاره عن سلطان العدالة والحقوق ، حافزاً قويّاً لمريديه وللعامّة في إشهار البدائل الصوفية السياسية ، لانّها محصّنة بالسلاح الفكري والروحي معاً .
لم يتعصّب الحسين بن منصور لمذهبٍ ما ، أو لطائفةٍ ، أو لفكرة أو مقولة ، بل رأى في تهذيب النفس وإنكار الذات وإشراق القلب سبيل وغاية الوحدة الانسانية ، التي تتلاشى فيها كل الاديان ازاء الحق .
فانتشرت شعبيّته في اصقاع الارض ، ليس لانّه مؤمن صالح، أو شيخ نبيل فحسب ، بل لفرادته في التصريح بافكاره العلميّة والدينية والسياسية ، وامتدت شعبيته لتشمل العديد من رموز الثورات والانتفاضات في زمنه ، ما زاد من ضغينة السلطة ضده . وبات ذلك الاجماع الشعبي من حوله ، يشكل خطراً في اذهان فقهاء القصر ، تحسباً من فقدان نفوذهم وسلطتهم ، وباتت صورته الايمانية الفكرية الاجتماعية السياسية الراسخة الحضور ، تشكّل تهديداً لكل هؤلاء ، الذين سعوا بكلّ السبل للإيقاع به ، ومحاكمته وقتله .
ليس من الضروري القول بانّه لم تكن شطحات الحلاج الصوفية من الاسباب المباشرة لقتله ، بدليل شيوع شطحات صوفية اخرى في عصره ، لم يتعرّض اصحابها الى القتل او المبالغة في التعذيب والعقاب ، كما جرى له ، مثل شطحات الشبلي والجنيد والبسطامي وغيرهم . بل كانت الدلالات التثويرية والاصلاحية في خطابه ، التي يمتزج فيها الصوفي بالسياسي ، الزاهد بالثوري ، الفكري بالنقدي ، وبوعي حاد مرتبط بتغيير شامل لجميع أوجه الحياة ، تشير الى ارتباطه بقضية كبرى ، متعلّقة بقضايا الناس وهمومهم ، وهي التي أودت الى نهايته المفجعة .
وخلافاً لما اعتاد عليه المتصوفة الذين يؤثرون السلامة بالكتمان والتقيّة ، خاض الحلاج غمار تجربته من دون فصل لجانب عن آخر ، وكانت دعوته الاصلاحية ، تمزج بين الفقه والسياسة لانشاء دولة تقوم على اساس العدل والمساواة والمحبّة . فكان - كما يقول ابن الاثير - رمزاً للصوفية الثائرة . وكانت معرفته بالدين ، تعني التحريض على التطوّر والتغيير .
ان المشاهد المأساوية الاخيرة من حياة الحلاّج ، صاغت النصّ الختامي لعالمٍ عربي عراقي ، شغل ابناء زمنه والذين سبقوه والذين من بعده ، بمدى ايمانه بافكاره واقواله وسلوكه وتطابقها . وكانت عملية قتله التدريجيّة البطيئة ، تمثل اقصى حالات الانتهاك لما يمكن ان يتحمّله جسد انسان،
وكان فيها ايضاً مثالاً على تطابق الطموح بالواقع ، النص والسلوك ، الفكر والممارسة وهو الوحيد الذي أعطى مفردة ( الكشف ) بعداً سلوكيّاً ، تجلى عبر مراحل التعذيب والتنكيل التي مورست عليه . مهما يكن موقف العداء لهذا الفكر الصوفي الذي قاده الحلاّج ، الاّ انه استطاع ان يقدم خدمة عظيمة للثقافة العربية والاسلامية ، بنشرهم الافكار الاصلاحية الانسانية الشاملة ، فانجذب الناس اليهم عبر اشاعة السلوك الصالح والمتسامح ، واحترام حقوق الفرد وكرامته ، بتعزيز الرابطة المعنوية والروحيّة في التراث ، وذلك بنوع من التواصل بين العرب وعموم الأمم الاخرى . فكانت ثورة روحية سلوكية بحق ، اشاعت قيماً جديدة من التطلّع الى الحياة الافضل ، بدءاً من التمرد على نوازع الذات ، ومن ثم صقل النفوس ، وتصليب العزائم ، والتسلح بالعلوم والمعارف ، لمواجهة كلّ ما من شأنه إعاقة تطوّر الفرد والمجتمع .
سمير السعيدي
*تنويه : للكاتب مطبوعان في تجربة الحلاّج : الحسين بن منصور الحلاّج ( شعره ونثره ) - دار علاء الدين - دمشق 1993
كتاب الحلاّج - دار الملتقى - بيروت - 2004 ( طبعة ثانية )