فقير الاسكندرية
عدد الرسائل : 192 تاريخ التسجيل : 14/10/2007
| موضوع: مجلس فى تدبر قوله تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ الجمعة ديسمبر 03, 2010 6:03 pm | |
| اللــه بسم اللـه الرحمن الرحيم الحمد للـه فاتق الأرض والسموات والصلاة والسلام على فاتق أبكار الحقائق والعلوم الثيبات وآله وصحبه ما تفتق كنز عن المكنونات. أما بعد... سلام اللـه على أمة الإسلام حيث كانوا وأينما كانوا ورحمته وبركاته. ثم أما بعد ..
مجلس فى تدبر قوله تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ فقد كان أحد مجالس الأحباب. ودارت الكاسات فى المذاكرة حول قول اللـه تعالى " وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) فكان أول ما خطر للأحباب علاقة رفع القواعد بسيدنا إبراهيم واسماعيل عليهما السلام. بل على الأشد بسيدنا إبراهيم لأنه الذى ذكر مع جملة الرفع كاملة ثم عطف عليه إسماعيل عليهما السلام. فكان مما قيل أن قواعد البيت أساسه "ابن فارس". ولا بد أن لقواعد البيت علاقة بأمور معنوية فضلا عن القواعد الحسية. أفلا ترون إلى قوله تعالى فى أساس مسجد قباء "لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة : 108]" مع قوله تعالى فى الآية بعدها: "أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة : 109]" ولا بد أن لهذه الأمور المعنوية التى هى من أساس البيت المعنوى علاقة بالأخلاق والخصائص والشمائل الإبراهيمية فحصلت المناسبة فى الإختيار للرفع. فقال أحد الأحباب أن التسليم هو أحد أخص الخصائص الإبراهيمية ويشترك معه فيها سيدنا إسماعيل من بركات أبيه عليه وراثة حنيفية قال تعالى " وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة/130. 131] " وقال تعالى عن سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما السلام " فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات/103] " . ومن أهم الخصائص الإبراهيمية الحلم وهو ما ورثه عنه إسماعيل عليهما السلام. قال تعالى فى حق إبراهيم "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة/114]" وقال فى حق سيدنا إسماعيل "فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات/101]" فَبَشَّرْنَاهُ – أى إبراهيم - بِغُلامٍ حَلِيمٍ أى إسماعيل. أما سيدنا إسحق فهو الغلام العليم قال تعالى: "قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات : 28]" هذا وقد وردت صفة حليم فى القرآن أربعة عشرة مرة كلها كإسم إلهى إلا فى ثلاث مواضع وصف بها أنبياء هم هذان السابقان سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل ثم الآية التى وصف فيها قوم شعيب نبيهم قائلين له "قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود/87]" أما نعت اللـه لأحد بها فلم يرد إلا فى الموضعين المذكورين فى حق سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما السلام. والحلم هنا إشارة إلى حسن الخلق إذ أن الحلم سيد الأخلاق. وقال آخر من الأحباب - وكان من أخص خصائص سيدنا إبراهيم صفاء الرؤية وهو أحد المعانى التى تحصل معنويا بالسعى بين الصفا (صفاء) والمروة (الرؤية). وقد تكلمنا عن هذه المسألة مع سيدنا إبراهيم فى مشاركة سابقة باسم "من مظاهر تجليات الأنبياء الوجودية فى القرآن الكريم" فليراجعها من شاء وخلاصتها أننا نعتقد أن سيدنا إبراهيم كان صاحب رؤية بأرقى معانيها الحسية والمعنوية. من نظر وإبصار وتأمل ومعاينة وقصد إلى الحق وتوجيه وجه إليه. واستدللنا على ذلك بكم من الآيات . كما أن سيدنا إبراهيم له علاقة وثيقة بفعل (حج) واستدللنا بجمع من الآيات . إن الحج بمعنى القصد يظهر فى أعلى مظاهره فى التوجه الإبراهيمى فى قوله تعالى على لسان إبراهيم " إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام/79]" وينضاف إلى ذلك الخُلة "بضم الخاء" وهى أعلى درجات العشق الإلهى كما قيل في مقام الخلة قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمى الخليل خليلا قال الله تعالى: "وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء : 125]" ومن الأخلاق الإبراهيمة الفتوة قال تعالى: "قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء : 60]" ومن الأخلاق الإبراهيمية الحنيفية وردت فى عدة آيات منها "قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران : 95]" وقال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا [النساء : 125]" وقال تعالى: "ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل : 123]" قال الإمام القشيرى رحمه الله فى تفسيره: الحنيف المستقيم على الحق ، والأحنف هو المستقيم في حلقة الرِّجْل ، ويسمى مائل القَدَم بذلك على التفاؤل وإبراهيم عليه السلام كان حنيفاً لا مائلاً عن الحق ، ولا زائغاً عن الشرع ، ولا مُعَرِّجاً على شيء وفيه نصيب للنفس ، فقد سَلَّم مَالَه ونَفْسَه ووَلدَه ، وما كان له به جملةً - إلى حكم الله وانتظار أمره . انتهى. وفى تفسير حقي - { فاتبعوا ملة ابراهيم حنيفا } وكان ملته انفاق المال على الضيفان وبذل الروح عند الامتحان وتسليم القربان وهذه ملة الخلة { وما كان من المشركين } الذين يتخذون مع الله خليلا آخر ويجعلون الشركة فى الخلة. انتهى وفى البحر المديد قال فى تفسير إحدى الآيات المذكورة: و { حنيفاً } : حال ، أي : مائلاً عن الأديان إلا دين الإسلام . انتهى وقال فى موضع آخر: الملة الحنيفية : وهي الانقطاع إلى الله بالكلية. انتهى
هذا ومن المراتب الإبراهيمية الصديقية قال تعالى: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [مريم : 41]"، ومنها الإحسان قال تعالى: "وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات : 104 ، 105]" ومن الأخلاق الإبراهيمية الرشد قال تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء : 51 ، 52]" ومن الأخلاق الإبراهيمية اليقين والتوكل والرضا والتسليم قال ابن عجيبة فى بحره: وقوله : { ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع } فيه : تعليم اليقين لمن طلب تربية اليقين . قال الورتجبي : فيه إشارة إلى تربية أهله بحقائق التوكل والرضا والتسليم ، ونِعْم التربية ذلك فأعلمنا بسنته القائمة الحنيفية السمحة السهلة ، الخليلية الحبيبية ، الأحمدية المصطفوية صلوات الله عليهما أن العارف الصادق ينبغي له ألا يكون معوله على الأملاك والأسباب في حياته وبعد وفاته لتربية عياله ، فإنه تعالى حسبه ، وزاد في تربيتهم بأن يؤدبِّهم بإقامة الصلاة إظهاراً للعبودية ، وإخلاصاً في المعرفة ، وطلباً للمشاهدة ، ومناجاة في القربة بقوله : { ربنا ليقيموا الصلاة } الخ . انتهى ومنها كونه أواباً وكونه منيباً قال تعالى مؤكداً الجملة الإسمية بإنَّ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة : 114]" وقال تعالى مؤكدا: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود : 75]" قال البقلى فى عرائس البيان: وتأوهه زفرة قلبه مع عبره عينه من الشوق إلى جمال ربه وهكذا وصف العاشقين: التأوه والزفرات والشهقة والغلبات والصحية والعبرات، منيب حيث أناب الى كنف قِدَمِه وقدام خطا قدسه ومجالس أنسه من رؤية شواهد ملكوته حيث قال انى برئ مما تشركون انى وجهت وجهى. انتهى
ونقول وما أجمل ما جمع البقلى فى عرائس البيان من الصفات الإبراهيمية حيث قال فى قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} ملة ابراهيم والعشق والمحبة والخلة والفتوة والمروة والشجاعة والسخاوة والحلم والامانة والديانة والكرامة واكرم الضيف والصبر فى البلاء والشكر فى النعماء والهجرة والخروج عما سوى الله بالكلية والعبرة والتأوه والصدق والاخلاص والتوحيد والتجريد والتفريد والسماع والوجد والاتصاف بصفات الحق من حيث رسوم البشرية بهذه الخصال صار اماما للعارفين والعالمين امر الله تعالى احب عباده متابعته وموافقته فى جميع احواله ومن زاغ عن طريقه ولو ذرة فيكون النفس له صنما قال الله تعالى {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ}انتهى. وهذا آخر ما وافاتنا به المذاكرة فى هذا الأمر فى ذلك المجلس الزمانى والمكانى وما لحقه من نقل من كلام سادتنا سادات المعانى.
ولما امتد المجلس خارج الزمان والمكان ليشمل من الأحباب من وقتها قد غاب أسفر الكلام عن مزيد البيان من الإشارات. فقال قائلهم إن الله قد اختص أهل البيت بما اختصهم من الإكرام، فكان التسليم وحسن الخلق وصفاء الرؤية واستنارة البصيرة والخلة من القواعد التى أسس بها بيتهم رضى الله عنهم. قال تعالى: " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب : 33]" وقال تعالى: " رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود : 73]". قال الفتى الغريب البعيد القريب: وما لنا لا نتأمل فى أن البيت يشير إلى القلب الذى هو بيت الرب وقد صح الحديث القدسى كشفاً عند العارفين: " ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن". قلت له صدقت فقد قال سيدى الشيخ عبد القادر الجزائرى: "أهل البيت الإلهي : هم أهل القلوب المشار إليهم بقوله : "إِنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ" ، المعنيون بقوله تعالى في الحديث القدسي : "ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن". قال الفتى الغريب القريب البعيد: فهذه القواعد الإبراهيمية هى الأساس الذى ينبنى عليها صحة المضغة التى لو صلحت صلح الجسد كله ألا وهى القلب. ثم أردف الفتى قائلاً: أريدك أن تتأمل فى قوله تعالى: "مِنَ الْبَيْتِ" فى الآية الشريفة وتكررها فإنك ستدرك أن البيت كان موجوداً، ومن ثم فإن البيت كان موجوداً قبل القواعد ولكن لا بد أن تكون القواعد قبل البيت. إنه الفتى الذى ولد أبيه. وهذا أيضاً هو معنى خليل الله إنه ذاك الفتى الذى يتخلل الإسم الله وفى ذات الوقت يتخلله الإسم الله. وهذا يماثل نوعى القرب: قرب النوافل وقرب الفرائض. فبنفس الطريقة التى بها يجعل الإسم القلب ما هو عليه فإن القلب يظهر الاسم، ففى حين يأتى الاسم أولاً من جانب فإن القلب يأتى أولا من الجانب الآخر. فمن ناحية يكون البيت قبل القواعد ومن ناحية تكون القواعد قبل البيت. ثم لِمَنْ كان سيدنا إبراهيم يرفع القواعد من البيت ويهيأه؟ إنه لمن يأتى بعده ولكنه لا يزال فى الحقيقة قبله والذى فقط يمكن أن يكون الختم (خاتم النبيين) صلى الله عليه وسلم. ولذا نرى سيدنا إبراهيم عليه السلام يقول بعد هذه الآية بآيتين: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ" صلى الله عليهما وسلم. هذا والباب مفتوح للمتأملين. وصلى اللـه على خير المرسلين وآله وصحبه أجمعين والحمد للـه رب العالمين. | |
|