عرفتْ منطق الطير شهرةً واسعة تخطَّتْ بسرعة حدود العالم الفارسي، ونُقِلَتْ إلى الأُردية والتركية، قبل أن تُترجَم إلى الفرنسية والأسوجية والإنكليزية[4]. وقد وصل هذا الأثر في مرحلة متأخرة إلى العالم العربي في ترجمة متقنة بقلم بديع محمد جمعة، صدرت في القاهرة (1975)، ثم في بيروت (1979)[5]. تبدأ الحكاية باجتماع الطيور التي رغبت في اختيار ملك عليها. وينبري الهدهد ليخبرها أنْ ليس لها من ملك سوى ذلك المقيم خلف جبل قاف:
[...] اسمه السيمُرغ ملك الطيور، وهو منَّا قريب، ونحن منه جد بعيدين. مقرُّه يعلو شجرةً عظيمة الارتفاع، ولا يكف أي لسان عن ترداد اسمه. تكتنفه مئات الألوف من الحُجُب، بعضها من نور، وبعضها من ظلمة، وليس لفرد في كلا العالمَين مقدرة حتى يحيط بشيء من كنهه. إنه الملك المطلق، المستغرق دائمًا في كمال العزة. ولكن كيف يطير الفهم إلى حيث يوجد؟ وكيف يصل العلم والعقل إلى حيث يقيم؟ لا طريق إليه، حتى وإنْ كَثُرَ المشتاقون من الخلق إليه. وإذا كان وصفه بعيدًا عن فعل الروح الطاهرة نفسها، فليس للعقل قدرةٌ على إدراكه. فلا جرم أن يحار العقل، كما أن الروح تحار عن إدراك صفاته، وهكذا تعمى الأبصار [...]. (ص 185-186)
يشدِّد الهدهد الحكيم على صعوبة الوصول إلى السيمُرغ، وينذر الطيور بأنها ستعاني مشقاتٍ قاسيةً ومكابداتٍ عسيرةً قبل الوصول إلى الجمال المطلق والحقيقة التي لا زيف فيها. وعند سماعها حديث الهدهد عن أهوال الرحلة، تحاول بعض الطيور أن تنسحب، وينبري كلٌّ من البلبل والببغاء والطاووس والبطة والحجلة والهما والصقر ومالك الحزين والبومة والصعوة لذكر أعذاره للعدول عن المضيِّ قُدُمًا في هذا الطريق. وتجتمع الأصوات كلُّها في المقالة الثالثة عشرة لتسأل الهدهد:
يا مَن له السبَق في سلوك الطريق، ويا مَن بلغ أوج العظمة والتوفيق، نحن حفنة من الضعفاء والعجزة، وقد عدمنا الريش والجناح والجسد والمقدرة. أنَّى لنا أن نصل إلى السيمُرغ ذي القَدْر الرفيع؟ (ص 211)
ويجيبهم الطائر الحكيم:
[...] أيها المساكين، إلامَ هذا الجهل؟ حقًّا، لا يستقيم العشق وسوء النية! كلُّ مَن له في الطريق عينٌ مبصرة قد أقبل فرحًا وللروح ناثرًا. ولتعلم أنه عندما رفع السيمُرغ النقابَ بدا وجهُه كالشمس مشرقًا، وألقى بمئات الألوف من ظلال الأرض. وهنا أدرك البصر ظلاً محضًا. وما إن نثر ظلَّه على العالم حتى كانت تلك الطيور العديدة التي تبدو كلَّ لحظة. فصورة طير العالم جميعها ما هي إلا ظلُّه [...]. (ص 212)
الأودية السبعة
تختار الطيور الهدهدَ مرشدًا لها، وتطرح عليه السؤال تلو السؤال حول الرحلة العرفانية وأحوالها. وتبدو إجابات الطائر العارف أشبه بالإرشادات الروحية في التجرد من كلِّ ما هو دنيوي ومادي. وتأخذ هذه الإرشادات طابعًا حيًّا عِبْرَ قصص كثيرة تتحدث عمَّن ذاق حلاوة الوصال وبات شهيدًا للعشق الإلهي. يبلغ هذا الإرشاد الذروة في نهاية المقالة الثامنة والثلاثين، حيث يذكر الشاعر، على لسان طائره، الأودية السبعة التي تفصل بين الطيور والأعتاب العليَّة، وهي: وادي الطلب، وادي العشق، وادي المعرفة، وادي الاستغناء عن الصفة، وادي التوحيد المحض، وادي الحيرة الصعب، ووادي الفقر والفناء:
[...] وبعد ذلك لن يكون لك سلوكٌ بالطريق. فإن تدركْ نهايتَه، يتلاشَ مسيرُك، وإن تكن لك قطرةُ ماء، فإنها تصبح بحرًا خضمًّا. (ص 358)
أصغت الطيور إلى الهدهد، ومضت في المسير والطيران نحو ملكها. وقضى عدد كبير منها في هذا الطريق الشاق: منها مَن غرق، ومنها مَن أسلم الروح عطشًا، ومنها مَن اختنق حَرًّا، ومنها مَن أحرقه وهجُ الشمس. وتوقف الكثير ممَّن دهمه التخلف والهجران في طريقه، فلزم كلٌّ منهم مكانَه وكفَّ عن الطلب. ولم ينجح في الوصول إلى الجبل المنشود إلا ثلاثون طائرًا، فقدوا ريشهم وباتوا "محطَّمي القلوب، فاقدي الأرواح، سقيمي الأجساد" (ص 416).
ولعدد 30 في منطق الطير دلالة عميقة: فهو، بلغة النصِّ الفارسي، سي مُرغ، واسم الملك سيمُرغ. وفي هذا الجناس تعبير عن مبدأ وحدة الشهود الذي تقوم عليه تحفةُ العطار.
لم ترَ الطيور الثلاثون المنهكة شيئًا من جلال الحضرة الإلهية في بادئ الأمر، تمامًا كما لم يتعرف أبناء يعقوب إلى أخيهم يوسف الحَسَن حين جاؤوا إلى مصر طلبًا للخبز. وحين استولى اليأس والحسرة على نفوسهم، هتف بهم حاجبُ الحضرة، فاشتعلت نارُ الشوق في قلوبهم من جديد، فعادوا عبيدًا للروح، وتملَّكتْهم حيرةٌ لم يعرفوها من قبل. وحين أضاءت شمسُ القربة من جباههم، رأوا أن السيمُرغ هو الثلاثون طائرًا، كلما نظروا في اتجاهه
[...] كان نفسه الثلاثين طائرًا في ذلك المكان، وكلما نظروا إلى أنفسهم، كان الثلاثون طائرًا هم ذلك الشيء الآخر. فإذا نظروا إلى كلا الطرفين، كان كلٌّ منهما هو السيمُرغ بلا زيادة ولا نقصان. فهذا هو ذاك، وذاك هو هذا. وما سمع أحدٌ قط في العالم بمثل هذا. (ص 421)
فعلى عكس طيور ابن سينا التي عادت أدراجها بعدما حظيت بلقاء الملك، لم تعد طيور العطار من رحلتها بعدما تجلَّتْ بنور الحضرة: فقد فنيت في الذات الإلهية، ولم يعد لها من وجود خارج هذا الفناء، وامَّحت فيه على الدوام "كما ينمحي الظل في الشمس" (ص 422).
ويقول العطار في الخاتمة:
كنت أتكلم ماداموا يسلكون. ولكن ما إن وصلوا، حتى لم يعد للقول بداية ولا نهاية. فلا جرم أنْ نَضَبَ معينُ الكلام هنا، حيث فني السالكُ والمرشدُ والطريق. (ص 422)
الفناء والبقاء
ألهمتْ منظومةُ منطق الطير الكثير من الفنانين على كرِّ العصور. إلا أن المنمنمات التي رافقت بعضًا من نُسَخِها تبقى أقرب هذه الأعمال الفنية إلى هذا الأثر الخالد. ففي منمنمة من مخطوطة أُنجِزَت في العام 1456 – وهي من محفوظات مكتبة برلين – يظهر الهدهد أمام جَمْع مؤلَّف من عشرة طيور في صورة تختزل المقالة الأولى من منطق الطير.