قرأت لك هذه الفصول من كتاب: (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض، وننقله لكم بتصرف يسير.
وهذه الفصول هامة في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وتبين حال السلف في محبتهم له وشوقهم إليه، والحُبُّ يَجْذِبُ أهْلَه.
في لزوم محبته صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [سورة التوبة: 24]، فكفى بهذا حضًا وتنبيهًا ودلالةً وحجةً على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قَرَّعَ تعالى مَنْ كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى: (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره)، ثم فسّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممّن ضل ولم يهده الله.
وفي حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وعن أنس عنه صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لأنت أحب إلي من كل شئ إلا نفسي التي بين جنبيّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه) فقال عمر والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبيّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر).
قال سهل: من لم ير ولاية الرسول عليه في جميع الأحوال، ويرى نفسه في مِلْكِهِ صلى الله عليه وسلم لا يذوق حلاوةَ سُنَتِهِ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحب إليه من نفسه) الحديث.
فصل في ثواب محبّته صلى الله عليه وسلم
عن أنس رضى الله عنه أن رجلا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة يا رسول الله ؟ قال: (ما أعددت لها ؟) قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: (أنتَ مع مَنْ أحببت)،
وعن صفوان ابن قدامة قال: هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته فقلت: يا رسول الله ناولنى يدك أبايعك، فناولني يده فقلت: يا رسول الله إنى أحبك، قال (المَرْءُ مع مَنْ أحب)، وروى هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله ابن مسعود وأبو موسى وأنس، وعن أبي ذر بمعناه، وعن عليّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذ بيد حسن وحسين فقال (من أحبّنى وأحبّ هذين وأباهما وأمهما كان معى في درجتي يوم القيامة)
وروى أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لأنتَ أحبّ إليّ من أهلي ومالي، وإني لأذكرك فما أصبر حتى أجيء فأنظر إليك، وإني ذكرتُ موتي وموتك، فعرفت أنك إذا دخلتَ الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلتُها لا أراك، فأنزل الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [سورة النساء: 69]، فدعا به فقرأها عليه، وفي حديث آخر كان رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه لا يطرف، فقال (ما بالك ؟) قال بأبي أنت وأمي أتمتع من النظر إليك، فإذا كان يوم القيامة رفعك الله بتفضيله، فأنزل الله الآية، وفي حديث أنس رضي الله عنه (من أحبني كان معي في الجنة).
فصل فيما رُوي عن السلف والأئمة (من محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وشوقهم له)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ) ومثله عن أبي ذر، وتقدم حديث عمر رضي الله عنه، وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: (لأنت أحبَّ إلي من نفسي) وما تقدم عن الصحابة في مثله.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (ما كان أحد أحبّ إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وعن عبدة بنت خالد بن معدان قالت: ما كان خالد يأوي إلى فراش إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار يسميهم ويقول: (هم أصلي وفصلي، وإليهم يحنُّ قلبي، طال شوقي إليهم فعجل ربِّ قبضي إليك) حتى يغلبَه النوم.
وَرُوِيَ عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (والذي بعثك بالحق لإسلامُ أبي طالب كان أقرَّ لعيني من إسلامِه – يعني أباه أبا قحافة – وذلك أن إسلام أبي طالب كان أقرَّ لِعِيْنِكَ)، ونحوه عن عمر بن الخطاب قال للعباس رضي الله عنه: (أَنْ تُسْلِمَ أحبُّ إليَّ مِنْ أَنْ يُسْلِمَ الخطاب لأن ذلك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وعن ابن إسحاق أنّ امرأة من الأنصار قُتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟) قالوا: خيرا هو بحمد الله كما تحبين قالت: (أرنيه حتى أنظر إليه) فلما رأته قالت: (كلُّ مصيبة بعدك جلل).
وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ).
وعن زيد بن أسلم خرج عمر رضي الله عنه ليلة يحرس الناس فرأى مصباحا في بيت وإذا عجوز تنقش صوفا وتقول:
على محمد صلاة الأبرار * صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواما بكا بالأسحار * يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل تجمعني وحبيبي الدار؟
تعني النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس عمر رضي الله عنه يبكي
فما زال يبكي حتى قرع الباب عليها ، فقالت: من هذا ؟ قال: (عمر بن الخطاب)، قالت: ما لي ولعمر؟ وما يأتي بعمر هذه الساعة؟ قال: (افتحي رحمك الله، ولا بأس عليك، ففتحت له: فدخل، فقال : ردي علي الكلمات التي قلتِ آنفا، فردته عليه، فلما بلغت آخره، قال: (أسألك أن تدخليني معكما)، قالت : وعمر، فاغفر له يا غفار، فرضي عمر ورجع.
وروي أن عبد الله بن عمر خَدَرت رجلُه فقيل له: اذكر أحبّ الناس إليك يزل عنك فصاح: (يا محمداه) فانتشرت.
ولما احتضر بلال رضي الله عنه نادت امرأته: واحزناه فقال: (واطرباه غدا ألقى الأحبة محمّدا وحزبه).
ويُروى أنّ امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها: اكشفي لي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشفته لها، فبكت حتى ماتت.
ولمّا أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان بن حرب: أنشدك الله يا زيد أتحبُّ أن محمدًا الآن عندنا مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال زيد: (والله ما أحبُّ أنَّ محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإني جالس في أهلي)، فقال أبو سفيان: ما رأيتُ من النَّاس أحدًا يحبُّ أحدًا كَحُبِّ أصحاب محمد محمدًا.
وعن ابن عباس كانت المرأةُ إذا أتت النبي صلى الله عليه وسلم حلفها بالله ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة بأرض عن أرض وما خرجت إلا حبا لله ورسوله.
ووقف ابن عمر على ابن الزبير رضي الله عنهما بعد قتله فاستغفر له، وقال: كنتَ والله ما علمتُ صوامًا قوامًا تحبُّ اللهَ ورسولَه. انتهى من الشفاء للقاضي عياض.
فيا إخوتي: هل نحبُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ونشتاقُ إليه كما أحبُّوه واشتاقوا إليه، إنَّه صلى الله عليه وسلم يشتاق إلينا، فحريٌ بنا أن نشتاق إليه ويعرف من قلوبنا المحبة كما عرفها من قلوب أصحابه ومحبيه، والله الموفق.
منقول