أبو يزيد البسطامي
فليعذرنا صاحب هذا المقام لكثرة ما نقلنا من قيل وقال ...
ولتعذرنا ثناء درويش وليعذرنا سمير عبد الحي وذو العين وعلى عبد العزيز ..
وكل من قال : هم رجال ونحن رجال وكفانا قال فلان .
وعذرا للذين يرددون مقولة أبي يزيد : لا نأخذ علمنا من ميت عن ميت وإنما نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت ...
عذرا لكل هؤلاء فلأمثالي ممن اختاروا نقل علوم القوم للحاضر والآتي ألف عذر ...
قال الشيخ الحافظ أبو نعيم رحمه الله: ومنهم التائه الوحيد، الهائم الفريد، البسطامي أبو يزيد.
تاه فغاب، وهام فآب، غاب عن المحدودات إلى موجد المحسوسات والمعدومات .
فارق الخلق ووافق الحق.
فأيد بأخلاء الخير، وأمد باستيلاء البر، إشارته هانئة، وعبارته كامنة. لعارفيها ضامنة، ولمنكريها فاتنة.
قال أبو يزيد : ليس العجب من حبي لك وأنا عبد فقير، إنما العجب، من حبك لي وأنت ملك قدير .
قال أبو يزيد : غلطت في ابتدائي في أربعة أشياء: توهمت أني أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه، فلما انتهيت رأيت ذكره سبق ذكري ومعرفته سبقت معرفتي ومحبته أقدم من محبتي وطلبه لي أولاً حتى طلبته.
قال أبو يزيد : اللهم إنك خلقت هذا الخلق بغير علمهم وقلدتهم أمانة من غير إرادتهم فإن لم تعنهم فمن يعينهم .
قال أبو يزيد : إن لله خواص من عباده لو حجبهم في الجنة لاستغاثوا بالخروج من الجنة كما يستغيث أهل النار بالخروج من النار.
جلس قوم إلى أبي يزيد فأطرق ملياً ثم رفع رأسه إليهم ،
فقال : منذ أجلستم إلي هو ذا أجيل فكري ألتمس حبة عفنة أخرجها إليكم تطيقون حملها فلم أجد .
وقال أبو يزيد: غبت عن الله ثلاثين سنة فكانت غيبتي عنه ذكري إياه فلما خنست عنه وجدته في كل حال فقال لي رجل: ما لك لا تسافر، قال: لأن صاحبي لا يسافر، وأنا معه مقيم فعارضه السائل بمثل فقال: إن الماء القائم قد كره الوضوء منه لم يروا بماء البحر بأساً هو الطهور ماؤه الحل ميتته، ثم قال: قد ترى الأنهار تجري لها روي وخرير حتى إذا دنت من البحر وامتزجت به سكن خريرها وحدتها ولم يحس بها ماء البحر ولا ظهر فيه زيادة ولا إن خرجت منه استبان فيه نقص .
قال أبو يزيد : لم أزل ثلاثين سنة كلما أردت أن أذكر الله أتمضمض وأغسل لساني إجلالاً لله أن أذكره.
قال أبو يزيد البسطامي : لم أزل أجول في ميدان التوحيد حتى خرجت إلى دار التفريد ، ثم لم أزل أجول في دار التفريد حتى خرجت إلى الديمومة فشربت بكأسه شربة لا أظمأن من ذكره بعدها أبداً.
قال يوسف: وكنت أسمع هذا الكلام على غير هذا اللفظ من ذي النون وفيه زيادة. كان ذو النون لا يبديها إلا في وقت نشاطه وغلبة حاله عليه فيقول ذلك ويقول بعده: لك الجلال والجمال ولك الكمال سبحانك سبحانك قدستك ألسن التماديح وأفواه التسابيح، أنت أنت أزلي أزلي. حبه لي أزلي.
قال أبو يزيد: غبت عن الله ثلاثين سنة وكانت غيبتي عنه ذكري إياه فلما خنست عنه وجدته في كل حال حتى كأنه أنا.
جاء رجل إلى أبي يزيد فقال: أوصني. فقال له: انظر إلى السماء فنظر صاحبه إلى السماء فقال له أبو يزيد أتدري من خلق هذا؟ قال: الله. قال أبو يزيد إن من خلقها لمطلع عليك حيث كنت فاحذره.
جاء رجل إلى أبي يزيد فقال: بلغني أنك تمر في الهواء. قال: وأي أعجوبة في هذه؟ طير يأكل الميتة يمر في الهواء، والمؤمن أشرف من الطير؟ قال: ووجه إليه أحمد بن خرب حصيراً وكتب معه إليه: صل عليه بالليل . فكتب أبو يزيد إليه: إني جمعت عبادات أهل السماوات والأرضين السبع فجعلتها في مخدة ووضعتها تحت خدي.
قال أبو يزيد: طلقت الدنيا ثلاثاً ثلاثاً بتاتاً لا رجعة فيها، وصرت إلى ربي وحدي فناديته بالاستغاثة إلهي أدعوك دعاء لم يبق له غيرك.
فلما عرف صدق الدعاء من قلبي والاياس من نفسي كان أول ما ورد على من إجابة هذا الدعاء أن أنساني نفسي بالكلية ونصب الخلائق بين يدي مع إعراضي عنهم .
قال أبو يزيد : إن في الطاعات من الآفات مالا تحتاجون إلى أن تطلبوا المعاصي .
قال أبو يزيد : ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر .
قال أبو يزيد : علمت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاً أشد علي من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لتعبت، واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد.
وقال أبو يزيد : لا يعرف نفسه من صحبته شهوته.
وقال أبو يزيد : الجنة لا خطر لها عند المحبين وأهل المحبة محجوبون بمحبتهم.
قال أبو يزيد : عالجت كل شيء فما عالجت أصعب من معالجة نفسي وما شيء أهون علي منها.
قال أبو يزيد : دعوت نفسي إلى الله فأبت علي واستصعبت فتركتها ومضيت إلى الله .
قال أبو يزيد : أشد المحجوبين عن الله ثلاثة بثلاثة، فأولهم الزاهد بزهده، والثاني العابد بعبادته، والثالث العالم بعلمه...
ثم قال: مسكين الزاهد قد ألبس زهده وجرى به في ميدان الزهاد ولو علم المسكين أن الدنيا كلها سماها الله قليلاً فكم ملك من القليل وفي كم زهد مما ملك؟ ...
ثم قال : إن الزاهد هو الذي يلحظ إليه بلحظة فيبقى عنده ثم لا ترجع نظرته إلى غيره ولا إلى نفسه.
وأما العابد فهو الذي يرى منه الله عليه في العبادة أكثر من العبادة، حتى تعرف عبادته في المنة.
وأما العالم فلو علم أن جميع ما أبدى الله من العلم سطر واحد من اللوح المحفوظ، فكم علم هذا العالم من ذلك السطر وكم عمل فيما علم؟ .
قال أبو يزيد: المعرفة في ذات الحق جهل، والعلم في حقيقة المعرفة جناية، والإشارة من المشير شرك في الإشارة.
وقال: العارف همه ما يأمله والزاهد همه ما يأكله.
وقال: طوبى لمن كان همه هماً واحداً، ولم يشغل قلبه بما رأت عيناه، وسمعت أذناه.
ومن عرف الله فإنه يزهد في كل شيء يشغله عنه.
قال أبو يزيد -
أو سئل - ما علامة العارف؟ فقال : " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها " . " النمل 34 " . الآية .
وقال: عجبت لمن عرف الله كيف يعبده.
وقيل له: إنك من الأبدال السبعة الذين هم أوتاد الأرض ، فقال: أنا كل السبعة.
وسئل: متى يبلغ الرجل حد الرجال في هذا الأمر؟ قال : إذا عرف عيوب نفسه فحينئذ يبلغ مبلغ الرجال.
وقال: إن لله عباداً لو حجبوا عنه طرفة عين ثم أعطوا الجنان كلها ما كان لهم إليها حاجة وكيف يركنون إلى الدنيا وزينتها.
قال أبو يزيد البسطامي: إن الله تعالى ليرزق عبده الحلاوة فمن أجل فرحه يمنعه من حقائق القرب.
وسئل عن درجة العارف. فقال: ليس هناك درجة بل أعلى فائدة العارف وجوده ربه.
وقال: عرفت الله بالله وعرفت ما دون الله بنور الله .
وسئل: بماذا يستعان على العبادة؟
فقال: بالله إن كنت تعرفه .
وقال: أدل عليك بك وبك أصل إليك .
وقال: نسيان النفس ذكر بارئ النسم .
وقال: من تكلم في الأزل يحتاج أن يكون معه سراج الأزل .
وقال: ما وجد الواجدون شيئاً من الحضور إلا كانوا غائبين في حضورهم، وكنت أنا المخبر عنهم في حضورهم .
قال أبو يزيد : ما ذكروه إلا بالغفلة، ولا خدموه إلا بالفترة.
وقال : لا تقطعني بك عنك.
وقال : أكثر الناس إشارة أبعدهم منه.
وسأله رجل من أصحب؟
فقال: من لا يحتاج أن تكتمه شيئاً مما يعلمه الله منك.
وسمعوه يوماً يقول: أقربهم من الله أوسعهم على خلقه.
وسمعوه يوماً وهو يقول: لا يحمل عطاياه إلا مطاياه المذللة المروضة.
وسأله رجل: من أصاحب؟
فقال: من إذا مرضت عادك وإذا أذنبت تاب عليك .
حدثنا أحمد بن أبي عمران، حدثنا منصور بن عبد الله، قال: سمعت موسى يقول: سمعت أبي يقول: بينا أنا قاعد خلف أبي يزيد يوماً إذ شهق شهقة فرأيت أن شهقته تخرق الحجب بينه وبين الله، فقلت: يا أبا يزيد رأيت عجباً.
فقال: يا مسكين وما ذلك العجب؟ فقلت: رأيت شهقتك تخرق الحجب حتى وصلت إلى الله تعالى.
فقال: يا مسكين إن الشهقة الجيدة هي التي إذا بدت لم يكن لها حجاب تخرقه.
وسأله رجل فقال: يا أبا يزيد العارف يحجبه شيء عن ربه؟
فقال: يا مسكين من كان هو حجابه أي شيء يحجبه.
قال أبو يزيد: من سمع الكلام ليتكلم مع الناس رزقه الله فهماً يكلم به الناس ، ومن سمعه ليعامل الله رزقه الله فهماً يناجي به ربه.
قال أبو يزيد : هذا فرحي بك وأنا أخافك فكيف فرحي بك إذا أمنتك.
قال أبو يزيد : رب أفهمني عنك فإني لا أفهم عنك إلا بك.
قال أبو يزيد: كفر أهل الهمة أسلم من إيمان أهل المنة.
وقال: ليت الخلق عرفوني فكفاهم من ذلك معرفتهم بأنفسهم.
وسئل أبو يزيد: بم نالوا المعرفة؟ قال: بتضييع مالهم والوقوف على ماله.
وقال: اطلع الله على قلوب أوليائه، فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة صرفاً فشغلهم بالعبادة .
وسئل: ما علامة العارف؟
قال: ألا يفتر من ذكره، ولا يمل من حقه، ولا يستأنس بغيره.
وقال: إن الله تعالى أمر العباد ونهاهم فأطاعوه فخلع عليهم خلعة من خلعه فاشتغلوا بالخلع عنه وإني لا أريد من الله إلا الله.
قال أبو زيد: العارف فوق ما يقول والعالم دون ما يقول ، والعارف ما فرح بشيء قط ولا خاف من شيء قط ،
والعارف يلاحظ ربه والعالم يلاحظ نفسه بعلمه والعابد يعبده بالحال، والعارف يعبده في الحال ،
وثواب العارف من ربه هو ، وكمال العارف احترافه فيه له.
وقال رجل لأبي زيد: علمني اسم الله الأعظم.
قال: ليس له حد محدود إنما هو فراغ قلبك لوحدانيته فإذا كنت كذلك فارفع إلي أي اسم شئت فإنك تصير به إلى المشرق والمغرب ثم تجيء وتصف.
قال أبو يزيد: انظر أن يأتي عليك ساعة لا ترى من السماء غيره ولا في الأرض غيرك. وقال: إن الصادق من الزاهدين إذا رأيته وإذا فارقته هان عليك أمره. والعارف إذا رأيته هبته وإذا فارقته هبته.
قال وسمعت أبا يزيد يقول: لأن يقال لي لم لا تفعل أحب إلي من أن يقال لي لم فعلت.
وقال: الذي يمشي على الماء ليس بعجب، لله خلق كثير يمشون على الماء ليس لهم عند الله قيمة.
وقال: الجوع سحاب فإذا جاع العبد مطر القلب الحكمة.
وسئل عن قوله: " إنا لله وإنا إليه راجعون " . " البقرة 156 " قال: إنا لله إقرار لله بالملك، وإنا إليه راجعون إقرار على اليقين بالملك.
قال أبو يزيد : من لم ينظر إلى شاهد بعين الاضطرار وإلى أوقاتي بعين الاغترار وإلى أحوالي بعين الاستدراج وإلى كلامي بعين الافتراء وإلى عبارتي بعين الاجتراء وإلى نفسي بعين الازدراء، فقد أخطأ النظر في .
قال أبو يزيد : لو: صفت لي تهليلة ما باليت بعدها بشيء.
كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد: سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته.
فكتب أبو يزيد في جوابه: سكرت وما شربت من الدرر وغيري قد شرب بحور السماوات والأرض وما روي بعد ، ولسانه مطروح من العطش ويقول هل من مزيد .
قال أبو يزيد: لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة .
وقال : إذا وقفت بين يدي الله فاجعل نفسك كأنك مجوسي تريد أن تقطع الزنار بين يديه .
و اجتمع عليه الناس فقال: يا رب كنت سألتك ألا تحجبهم بك عنك فحجبتهم بي عنك .
وحكى عنه أنه قال: نوديت في سري فقيل لي خزائننا مملوءة من الخدمة فإن أردتنا فعليك بالذلة والافتقار .
قال أبو يزيد : أولياء الله مخدرون معه في حجال الأنس له، لا يراهم أحد في الدنيا والآخرة إلا من كان محرماً لهم . وأما غيرهم فلا منتقبين من وراء حجبهم .
وقرئ عند أبي يزيد يوماً: " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " . " مريم 85 " . قال: فهاج ثم قال: من كان عنده فلا يحتاج أن يحشر لأنه جليسه أبدا .
وقيل لأبي يزيد: أيصل العبد إليه في ساعة واحدة؟ قال: نعم ولكن يرد بالفائدة والربح على قدر السفر .
قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله تعالى: اقتصرنا على هذا القدر من كلامه (
يعني أبي يزيد رحمه الله ) لما فيه من الإشارات العميقة التي لا يصل إلى الوقوف على مودعها إلا من غاص في بحره وشرب من صافي أمواج صدره وفهم نافثات سره المتولدة المنتشرة من سكره.