الباب الثامن عشر في معرفة علم المتهجدين .كتاب الفتوحات المكية في معرفة أسرار المالكية والملكية المجلد الأول
الشيخ الأكبر محيي الدين أبو عبد الله محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي قدس الله روحه
الباب الثامن عشر في معرفة علم المتهجدين
وما يتعلق به من المسائل ومقداره في مراتب العلوم وما يظهر منه من العلوم في الوجودعلم التهجد علم الغيب ليس له ..... في منزل العين إحساس ولا نظرإن التنزل يعطيه وإن له ..... في عينه سورا تعلو به صورفإن دعاه إلى المعراج خالقه ..... بدت له بين أعلام العلى سورفكل منزلة تعطيه منزلة ..... إذا تحكم في أجفانه السهرما لم ينم هذه في الليل حالته ..... أو يدرك الفجر في آفاقه البصرنوافج الزهر لا تعطيك رائحة ..... ما لم يجد بالنسيم اللين السحرإن الملوك وإن جلت مناصبها ..... لها مع السوقة الأسرار والسمر[المتهجد: من هو؟ ما له من الأسماء الإلهية؟]اعلم أيدك الله أن المتهجدين ليس لهم اسم خاص إلهي يعطيهم التهجد ويقيمهم فيه كما لمن يقوم الليل كله فإن قائم الليل كله له اسم إلهي يدعوه إليه ويحركه .فإن التهجد عبارة عمن يقوم وينام ويقوم وينام ويقوم فمن لم يقطع الليل في مناجاة ربه هكذا فليس بمتهجد. قال تعالى ومن اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ به نافِلَةً لَكَ وقال "إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى من ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ونِصْفَهُ وثُلُثَهُ"[المتهجد: ما مستنده من الأسماء الإلهية]وله علم خاص من جانب الحق غير أن هذه الحالة لما لم نجد في الأسماء الإلهية من تستند إليه ولم نر أقرب نسبة إليها من الاسم الحق فاستندت إلى الاسم الحق وقبلها هذا الاسم فكل علم يأتي به المتهجد إنما هو من الاسم الحقفإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن يصوم الدهر ويقوم الليل إن لنفسك عليك حقا ولعينك عليك حقا فصم وأفطر وقم ونمفجمع له بين القيام والنوم لأداء حق النفس من أجل العين ولا داء حق النفس من جانب الله ولا تؤدي الحقوق إلا بالاسم الحق ومنه لا من غيره فلهذا استند المتهجدون لهذا الاسم[المتهجد: ما خصوصيته]ثم إنه للمتهجد أمر آخر لا يعلمه كل أحد وذلك أنه لا يجني ثمرة مناجاة التهجد ويحصل علومه إلا من كانت صلاة الليل له نافلة وأما من كانت فريضته من الصلاة ناقصة فإنها تكمل من نوافله فإن استغرقت الفرائض نوافل العبد المتهجد لم يبق له نافلة وليس بمتهجد ولا صاحب نافلة فهذا لا يحصل له حال النوافل ولا علومها ولا تجلياتها فاعلم ذلك[المتهجد: في نومه وقيامه]فنوم المتهجد لحق عينه وقيامه لحق ربه فيكون ما يعطيه الحق من العلم والتجلي في نومه ثمرة قيامه وما يعطيه من النشاط والقوة وتجليهما وعلومهما في قيامه ثمرة نومه وهكذا جميع أعمال العبد مما افترض عليه فتتداخل علوم المتهجدين كتداخل ضفيرة الشعر وهي من العلوم المعشوقة للنفوس حيث تلتف هذا الالتفاف فيظهر لهذا الالتفاف أسرار العالم الأعلى والأسفل والأسماء الدالة على الأفعال والتنزيه وهو قوله تعالى والْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي اجتمع أمر الدنيا بأمر الآخرة وما ثم إلا دنيا وآخرة وهو المقام المحمود الذي ينتجه التهجد قال تعالى ومن اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ به نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وعسى من الله واجبة والمقام المحمود هو الذي له عواقب الثناء أي إليه يرجع كل ثناء[المتهجد: ما قدر علمه؟]وأما قدر علم التهجد فهو عزيز المقدار وذلك أنه لما لم يكن له اسم إلهي يستند إليه كسائر الآثار عرف من حيث الجملة إن ثم أمرا غاب عنه أصحاب الآثار والآثار فطلب ما هو فأداه النظر إلى أن يستكشف عن الأسماء الإلهية هل لها أعيان أو هل هي نسب حتى يرى رجوع الآثار هل ترجع إلى أمر وجودي أو عدمي فلما نظر رأى أنه ليس الأسماء أعيانا موجودة وإنما هي نسب فرأى مستند الآثار إلى أمر عدمي فقال المتهجد قصارى الأمر أن يكون رجوعي إلى أمر عدمي فأمعن النظر في ذلك ورأى نفسه مولدا من قيام ونوم ورأى النوم رجوع النفس إلى ذاتها وما تطلبه ورأى القيام حق الله عليه فلما كانت ذاته مركبة من هذين الأمرين نظر إلى الحق من حيث ذات الحق فلاح له إن الحق إذا انفرد بذاته لذاته لم يكن العالم وإذا توجه إلى العالم ظهر عين العالم لذلك التوجه فرأى إن العالم كله موجود عن ذلك التوجه المختلف النسب ورأى المتهجد ذاته مركبة من نظر الحق لنفسه دون العالم وهو حالة النوم للنائم ومن نظره إلى العالم وهو حالة القيام لأداء حق الحق عليه فعلم إن سبب وجود عينه أشرف الأسباب حيث استند من وجه إلى الذات معراة عن نسب الأسماء التي تطلب العالم إليه فتحقق إن وجوده أعظم الوجود وأن علمه أسنى العلوم وحصل له مطلوبه وهو كان غرضه وكان سبب ذلك انكساره وفقره فقال في قضاء وطره من ذلك متمثلارب ليل بتة ما أتى ..... فجره حتى انقضى وطريمن مقام كنت أعشقه ..... بحديث طيب الخبروقال في الأسماءلم أجد للاسم مدلولا ..... غير من قد كان مفعولاثم أعطتنا حقيقته ..... كونه للعقل معقولافتلفظنا به أدبا ..... واعتقدنا الأمر مجهولاوكان قدر علمه في العلوم قدر معلومه وهو الذات في المعلومات فيتعلق بعلم التهجد علم جميع الأسماء كلها وأحقها به الاسم القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم وهو العبد في حال مناجاته فيعلم الأسماء على التفصيل أي كل اسم جاء علم ما يحوي عليه من الأسرار الوجودية وغير الوجودية على حسب ما تعطيه حقيقة ذلك الاسم ومما يتعلق بهذه الحالة من العلوم علم البرزخ وعلم التجلي الإلهي في الصور وعلم سوق الجنة وعلم تعبير الرؤيا لا نفس الرؤيا من جهة من يراها وإنما هي من جانب من ترى له فقد يكون الرائي هو الذي رآها لنفسه وقد يراها له غيره والعابر لها هو الذي له جزء من أجزاء النبوة حيث علم ما أريد بتلك الصورة ومن هو صاحب ذلك المقام[المتهجد: حظه من المقام المحمود]واعلم أن المقام المحمود الذي للمتهجد يكون لصاحبه دعاء معين وهو قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يأمره به وقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ يعني لهذا المقام فإنه موقف خاص بمحمد يحمد الله فيه بمحامد لا يعرفها إلا إذا دخل ذلك المقام وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ أي إذا انتقل عنه إلى غيره من المقامات والمواقف أن تكون العناية به معه في خروجه منه كما كانت معه في دخوله إليه واجْعَلْ لِي من لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً من أجل المنازعين فيه فإن المقام الشريف لا يزال صاحبه محسودا ولما كانت النفوس لا تصل إليه رجعت تطلب وجها من وجوه القدح فيه تعظيما لحالهم التي هم عليها حتى لا ينسب النقص إليهم عن هذا المقام الشريف فطلب صاحب هذا المقام النصرة بالحجة التي هي السلطان على الجاحدين شرف هذه المرتبةوقُلْ جاءَ الْحَقُّ وزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ...والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ
.