رسالة الانتصار .كتاب التنزلات الموصلية الشيخ الأكبر محيي الدين محمد ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي
كتاب التنزلات الموصلية الشيخ الأكبر محمد ابن علي ابن محمد ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي رضي الله عنه
رسالة الانتصار من كتاب التنزلات الموصلية
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وحده هذه رسالة الانتصار في جواب ما سأل عنه عبد اللطيف بن أحمد بن محمد بن هبة الله كتب بها إليه الشيخ الإمام العالم العارف المحقق محيي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن العربي الطائي الحاتمي رضي الله عنه.
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وعلى عبد اللطيف ابن أحمد ابن البغدادي سلام عليك ورحمة الله وبركاته .
أما بعد فإني أحمد الله على ما ألهم وأن علمني ما لم أكن أعلمه وكان فضل الله عظيما، وأصلي على الموروثة أسراره وعلى آله الطيبين وسلم تسليما.
وقد أنهى إلي بعض الإخوان ممن يوثق بنقله ما جرى بينكم وبين الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الشريف أنفاسي المعروف بالصيقال .
من السؤالات في طريق التصوف ابقى الله رسمه وتمم علينا نعمه فيه، فأخبرني أنه ما سألكم أبو عبد الله الشريف في مسألة إلا أجبتموه على غاية الاستيفاء و الايضاح من طريقة القوم وكلامهم رضي الله عنهم .
ثم أخبرني أنكم سألتموه عن أسولة "أسئلة" متعددة فما أجابكم عن واحد منها ثم رغب إليكم في الجواب عنها .
فما أدري هل تكلمتم عليها أم لا وهنا انتهى الخبر عندي.
وأنا أعزكم الله وإن كنت لم ألق الشريف أبا عبد الله المذكور مجالسه ولاخبرته ممارسة لكن أخبرني غير واحد ممن أثق بنقله إن لأبي عبد الله المذكور باعة متسعة ومجالا رحبا ولا أدري هل ذلك من ذوق أو نقل .
لكن والله أعلم على ما وصل إلى من شاهد حاله أنه من أهل النقل وعجز الناقل في هذا الطريق لا ينظر فإن المسائل ذوقية والناقل حال ومع هذا فإنه يحتمل وقوفه عندي لا حد أربع موانع .
المانع الأول
من طريق الوقت والمكان وذلك المسائل في أنفسها عظيمة القدر إذ هي واردة من الحضرات الإلهية على قلوب أهل الصفاء والوجود، الكلام عليها لا يصلح في كل موطن على ما في علمكم حتى يوجد لذلك وقت وإخوان فربما حضر المجلس من لا يعرف طريقة القوم واشاراتهم لعدم الذوق ومطالعة أغراضهم ومواظبة مجالسة شيوخهم في أوقات ميعادهم فخاف على نفسه وعلى منكر يحضر المجلس فأمسك رحمة به لئلا ينكر فبهت .
ولولا ما اتبع موسى الخضر على شرط عن أمر إلهي لعاقبه على فعله كما تقرر حكمه في شريعته.
ألا تراه لما نسي الشرط وقع الإنكار والسؤال فلما نبهه عليه سكت موسى صلی الله عليهما حتى كان من أمرهما ما كان .
والخضر رأس أهل الطريق وسيد الطائفة فمبنى الطريق في القول والفعل على التسليم وهو قليل.
المانع الثاني
أراد التأدب معكم والتبرك بكلامكم وأخذ الفائدة منكم لسر تخيله فيكم أو علمه فتحصل الفائدة وتكون لنفسه مجاهدة إذ السكوت عن العلم مع القدرة على الكلام من أشق ما يجري على النفس .
اما المانع الثالث
إن الكلام في هذا الطريق إنما هو على الفتح الموهوب اللدني لا على النظر والبحث والتفتيش وإنما هي مراي الهمم مجلوة مهيأة لتجلي الحكم وحصول المشاهدات.
فالقلوب إذا قامت بها الهمم صفت ونطفت فعلت فوصلت فأدركت فملكت فإن شاء تعالی وصلت وإن شاء أمسكت.
والصفاء أكرمكم الله يتفاضل على حسب الطريق فقد يوجد في هذا الطريق صاف وأصفى.
فإذا اجتمع رجلان من هذا الصنف في محل واحد صافية وأصفى بحيث أن يكون الواحد مثلا عنده من نور الصفا قدر نور الشمس وعند الآخر قدر نور بصر الخفاش فلا شك في مذهبنا أنه يغطى عليه بقوته ويمنعه من الكشف.
إذ النور عندنا حجاب لمن ضعف بصره والضعف نفس الوقوف معه.
اللهم إلا أن يحتجب عنه له بسحابة الرحمة والجود فيأتيه من حيث هو ويقتضي إدراكه عنه فحينئذ تقع بينهما المحادثة وهذا من الموانع العظيمة فقد يمكن أن يكون صمت الشريف من هنا .
المانع الرابع
أن يكون صمته من عجز وحصر فرب صاحب علم قد يعجز في مسائل من فروع علمه.
الذي هو سبيله وإذا كان هذا على هذا الحد فأراد العبد الفقير إلى الله تعالى وهو أحقر صوفي في المغرب وأقله سلوكا و أنقصه فتحا واكثفه حجابا مجاوبتكم فيما وصل إليه من سؤالاتكم لأبي عبد الله المذكور .
فوالله لو رأيت الواصلين منا إلى عين الحقيقة لفنيت في أول لمحة فنائك في الحق ففتح المغرب لا يجاريه فتح إذ حظه من الزمان الوجودي الليل وهو المقدم في الكتاب العزيز على النهار في كل موضع .
وفيه كان الإسراء للأنبياء وفيه تحصل الفوائد وفيه يكون تجلي الحق لعباده وهو زمان السكون تحت مجاري الأقدار وهي الغاية إذا السكون عدم الدعوى.
لا يبقى وجودا ولا رسما فالحمد لله الذي جعل فتح هذا المغرب فتح أسرار وغيره فلا تفتض أبكار الأسرار إلا عندنا .
ثم تطلع عليكم في مشرقكم ثيبات قد فرضن عدتهن فنكحتموهن بأفق المشرق فتساوينا في لذة النكاح وفزنا بلذة الافتضاض .
فارتفعت همة العبد الضعيف إلى إجابتكم عند ما دخل أحرار طريقتنا في خدور الصور والتقديس عن ملاحظات الخطاب ومحاورات الكلام وإن كنت عاصيا في الجواب على أصل الطريق فالسائل بدأ بذلك وجوابنا غيره على مغربنا .
ولذلك ركبت هذا الصعب المهم حتى لا أقعد في مقعد العين .
قال العبد فلنقدم ما يجب أن يقدم بين يدي جوابنا
فنقول والله يقول الحق وهو يهدي السبيل:
السؤال في هذا الطريق عند القوم رضي الله عنهم في معاني الأسرار على حد ما سألت لا يتصور أصلا .
وإنما يتصور السؤال عنهم في المعاملات ونتائج المقامات على حد ما نوجهه عليكم من السؤالات في آخر المسألتين إن شاء الله .
وإنما قلنا لا يتصور السؤال في معاني الأسرار لما نذكره إن شاء الله .
وذلك أن شخصين من أهل هذا الطريق أهل الأذواق جمعهما محل واحد فلا يخلو أن يكونا في مقام واحد أو لا في مقام واحد .
وإذا لم يكونا في مقام واحد فلا يخلو أن يكون أحدهما دون الآخر أو فوقه وليس ثم قسم رابع .
وفي كل قسم ندعي أنه لا يتصور سؤال وعليه أتينا الطريق .
وذلك أنهما إذا كانا في مقام واحد فلا فائدة فيه لأنهما شربا من عين واحدة بكأس واحد .
وإذا قد تقرر هذا وكشف كل واحد منهما على صاحبه فلا يتصور أن يسأل أحدهما الآخر مع حصول العلم عند كل واحد منهما ذوقا.
فسؤال أحدهما صاحبه عن أسرار ذلك المقام مع شهوده له فيه هذيان وفضول.
إذ الصوفي ابن وقته فلا يشتغل فيه إلا بما هو أولى به لأن الوقت عزيز إذا فات لا يدرك.
وصاحب الهمة يريد أن يكون الوقت له وتحت ملكه فلا يتصور سؤال بين المتكافيين إلا على ما سنذكره فيما يأتي إن شاء الله.
فإذا لم يكونا في مقام واحد وعدم التكافؤ فلا بد أن يكون أحدهما في دون الآخر أو فوقه فإن كان دونه وسأله.
فهو عندنا سوء أدب الطريق الأشياء يعرفها كل من دخله ولهذا نرى الشيوخ الراسخة أقدامهم فيها لا سبيل أن يتكلموا السائل على سر أصلا .
لأن السائل لا يخلوا ما أن يكون مبتدئا أميا أو قد مارس العلوم وأخذ منها بطرف أعني علوم الدرس والبحث والاجتهاد لا علوم الأذواق فكشفه إياها للمبتدي
العامي حرام لأنه وضع الحكمة عند غير أهلها وأنها تزیده عمي وجهالة.
وتحصل لها في نفسه فائدة فإن أخذها بتحسين في يوم ما فربما ارتد فشنع عليك بها ورماك بأحجارك والطريق مجهولة والإنكار أسرع إليها من السهم إلى منتهاه .
وإن كان السائل كما ذكرنا فهو لا يقبل شيئا على التسليم إلا بدليل ولما كانت علوم أذواق وعسر الدليل عليها لم يبق إلا أن يدل على أن القائل بهذه العلوم ولي قداوتي الحكمة.
وإقامة الدليل على تصحيح مسألة من مسائل الطريق أقرب وأيسر من إثبات الولاية الشخص على التعيين.
إذ المخبر عن الحق بالعصمة المقطوع بها على صدقه قد فقد وهو الرسول عليه السلام فما بقي لنا إلا تحسين الظن بالله في عباده عند ظهور الطاعة منهم ولزوم التقوى وتخيل الولاية فيمن هو على هذا الوصف من غير قطع بها .
فلا دليل لهم رضي الله عنهم في مسائلهم على التعيين إلا على العموم مثل قوله تعالى: "واتقوا الله ويعلمكم الله " سورة البقرة : 282 . " يؤتي الحكمة من يشاء " سورة البقرة : 299 .
لكن من هو هذا من أو بأي دليل أخرجه من التنكير إلى التعريف مع أنا نعلم أن الله أولياء يلهمهم أسراره و يهبهم حكمه.
ولكن متى ادعاها إنسان اتهم ويتهمه الخارج عن طريقته أصلا ومقامه فرعا فتعين الشخص عسير جد أو لو انخرقت له العادات .
فما ظنك بشیخ ربما قد ارتقى عن منازل خرق العادات البشرية الحسية وانتقل إلى خرق عوائد الأسرار التي لا يعرفها إلا من هو في حزبه كيف يكون حاله مع هذا السائل له .
وأكثر تبیین مسائلهم بالأمثلة أو الاسترواح من الكتاب والسنة على صناعة التأويل والاعتبار وأما إن كان فوقه فسؤاله من دونه عناء ولا يتصور هذا منه.
لأن الأعلى عندنا متى ادعي له من دونه تحصل أسرار مقام ما فشاهد حاله يكذبه عنده أو يصدقه على هذا جرت الطريقة .
فسؤال من ذاق من لم يذق من سؤال العنيين لذة النكاح .
اعتراض والانفكاك عنه
فإن قلت وفقك الله ينتقض عليك هذا بأنا وجدناهم يتكلمون بالأسرار السئية ويخاطب بها بعضهم بعضا .
فنقول هذا لا يلزمني إلا إذا اعترضت بأن يقول يتصور الأسرار وتقيمون عليها الأدلة ثم تأخذ سرا من أسرار التصوف وتقول دليل هذا السر من العلم كذا وكذا ونبين به حقيقة السر عند السامع الخارج عن طريقك وحينئذ كان يصح اعتراضك.
وأما التحدث بالأسرار بينهم لا أنكره وأنه من باب التحدث بالنعم كرجلين أحضرهما الملك في بساط مشاهدته و ارتاعا في رياض أنسه ثم انصرفا من عنده و قعدا يتحدثان بما شهده في ذلك المجلس من محادثاتهما للملك ومحادثته لهما وما عايناه في تلك الروضة من اطراد الأنهار وسمعاه من نغمات الأطيار واستنشقاه من نفحات طيب الأزهار وطعماه من فنون فواكه الثمار، فعلى هذا الوجه يكون التحدث بالأسرار بينهم لا على طلب وجه الدليل فهذا وفق الله الولي أنبتنا عليه الطريق على ما في كریم علمه.
تذكرة
ثم أذكر وليي بعد هذا فإن الذكرى تنفع المؤمنين . وهو أن السؤال في هذا الطريق له شرط عظيم أعني في موضع السؤال وحيث يجب كما تقدم وهو أن يكون السائل عارفا بمقام المسألة وقدرها ومن أين صدرت؟
و من حظها من الحضرات الوجودية ؟
وعارفا بقدر المسؤول عنها ومقامه منها . فإن شهد للسائل حال المسؤول بمسألته حينئذ يسأله ليجمع بين قوله إن أمكن من النطق وبين حاله إذ قد تقرر في طريقتنا أنه متى ذاق الرجل شيئا من مقامات هذا الطريق وحصل عنده تخلقا فلا بد له من تأثير على ظاهره أصلا .
فيسمون ذلك التأثير شاهد الحال وهو الصحيح الذي يعول عليه لا الفصاحة ولا الجعجعة .
ألسنا نشاهدهم عند قطع الأسباب والسكون تحت مجاري الأقدار والفرح بما يرد عليهم من الله تعالى من أنواع الآلام والعذاب لا يتغيرون .
هذا هو شاهد الحال لهم على قوة اليقين والرضاء والتسليم لمراد الله تعالی.
سواء ساء ذلك أم سر نفع أو ضر إنما هم يشاهدون القائل في الفعال فلا يرون إلا حسنة .
ولهذا نرى كل إنسان في هذه الطريقة يتكلم وليس كل إنسان يتصف .
فكان ينبغي لك أيها الولي الحميم، وإن كان سوء أدب مني في حقك لكنها معاتبة وغيرة مني عليك أن تنظر إلى شاهد حال من سألته.
فإن شهد لك حاله برسوخه في تلك المقامات التي سألته عنها ولم يكن من النطق فعذره مقبول وشاهد حاله فصيح .
وإن كان على غير ذلك وسألت من لا يحب سؤاله فقد لزمك الندم والاستغفار ووجبت لك التوبة مما أتيت به والتضرع بالإقالة مما عثرت فيه.
وعرف الولي عرفه الله ذنبه وجعل ممن أثر ربه إنما أنهي إلى من أسولتكم للشيخ أبي عبد الله سوى مسألتين المسألة الواحدة كيف يجمع بين قول رسول الله ؟
من طلب الله وجده وبين قول أبي يزيد رضي الله عنه "السالك مردود والطريق مسدود" ؟.
وهذا كما لا يخفى عليكم فإن القائل بالوجه الواحد ليس هو القائل بالوجه الآخر ولا يصح تعارض كلامین ويطلب وجه الجمع بينهما أو بإبطال أحدهما حتى يكون القائل لهما واحدة .
أو يكون من شخصين تكلما عن مقام واحد في مسألة واحدة فيكون عين ما ثبته الأول عين ما نفاه الآخر أو يوهم اللفظ ذلك مسألتنا ليس فيها من هذه الشروط شيء.
والمسألة الثانية قول الحسين بن منصور :
سقاني مثل ما يسقي ..... كفعل الضيف بالضيف
ما معنى هذا البيت ؟.
فتعين لي أن أجيبكم عن هاتين المسألتين اللتين صحتا عندي في مقام يرتضيه الوقت ويسلمه السامع .
وأعرج عن المراد في تحقيقها إلا لو وقعت المشافهة ثم بعد كلامي عليهما إن شاء الله أوجه على الولي في هاتين المسألتين خمسين سؤالا أطلب جوابه عنها تبركا بكلامه وتيمنا بخطه والله يمد الجميع من خزائن لطائفه بالإصابة إن شاء.
المسألة الأولى
سأل الولي تولاه الله كيف يجمع بين قول الحبيب رسول الله ؟
"من طلب الله وجده" وبين قول أبي يزيد رضي الله عنه "السالك مردود الطريق مسدود".
قد تقدم ما وقفت عليه فنقول ينبغي أن لا يسأل عنه من شم من طريقة القوم رائحة، ولا من بدت له لائحة لقربه على الأفهام ، فإنه متى أمكن الجمع بين شيئين يظهر بينهما التعارض بوجه ما وبين حصل الغرض والمراد .
وقد يجتمعان من وجه ووجوه آخر خلاف ذلك لا يعرفها إلا من مارس العلوم ورسخ قدمه فيها .
ونحن الآن نجمع بينهما إن شاء الله بأيسر شيء في الطريق وستر ما فوقه وما هو أعلى منه وأغمض لعلو منصب أبي يزيد لا غير رضي الله عنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم ليس لنا سبيل إليه إلا بحكم الاتباع خاصة.
وأما غير ذلك من المقامات فلا، ونوجه على الولي وفقه الله بعد فراغنا من الكلام على هذه المسألة يتبين سؤالا ولو شئنا بلغنا بها أكثر من ذلك لكن اقتصرنا على السؤالات التي تتعلق ببعض الظاهر منها وتركنا ما عدا ذلك لئلا يتعسر على الأفهام ويقال لنا من أين يلزم هذا السؤال وليس في ظاهر اللفظ ما يعطيه ولا ما شهد له فلذلك تركناها.
ووجه الجمع بينهما بالاستفصال وذلك أنا نقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلب الله وجده هذا صحيح لكن قوله صلى الله عليه وسلم من طلب الله يعني بالله أو بغيره إن كان بالله فضرورة أن يجده ومن طلبه بغيره كيف يصح أن يجده ومعنى وجوده إثبات التوحيد له في ذاته وفي صفاته وأفعاله .
والطالب له تعالى بنفسه لا يصح له هذا التوحيد فإن الاكتساب وإن أضيف له فهو مجاز فإنه لا يصح أن يطلب الله ويجده .
إلا الذي يطلب معرفته تعالى بفعله لأن طلب العبد الله تعالى إنما هو فعل من أفعال الله خلافا لما يدعيه مخالفوا أهل الحق .
فإن وجود الحق في حق من طلبه به يجعل الواحد له كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف شاء .
ومن تكون له إرادة فليس بميت ولا خرج من رق الدعوى والطالب له بنفسه من هذا القبيل نعوذ بالله لا أشرك به أحدا.
فإذا تقرر مفهوم هذا اللفظ فقول أبي يزيد رضي الله عنه السالك مردود والطريق مسدود
يجتمع مع هذا الخبر الصدق ويكون هذا الكلام في حق الطالب نفسه لأنه لا يصح له وجود أبدأ .
ونفس السلوك هو الطلب فلا فرق بين أن يقول طلب أو سلك فما دام السالك يثبت لنفسه سلوكا من نفسه ومعنى هذا أنه يشاهد في سلوكه نفس سالكه بإرادتها اختيارة منها وغاب عنه في ذلك المقام أن الله آخذ بناصيته كما دل عليه النص والعقل فهو مردود.
وعين سد الطريق دونه فقده لوجود التوحيد الذي ذكرناه لأنه كيف يصح أن يجده فاعلا على الإطلاق والكمال وهو يجعل معه في ملكه فاعلا غيره .
مثل المعتزلي وإن كان مسلمة مؤمنا فإنه طالب لله تعالى ومع كونه طالبا بضيف الطلب لنفسه حقيقة وجميع أفعاله التي تحت اختياره، فانظر هل وجد الله من يكون سلوكه على هذا المنهج قط.
فإنما أراد أبو يزيد في ظاهر التصوف ما ذكرناه آنفا، وأما في باطن التصوف عند التحقيق وفي أي مقام نطق بهذا الكلام وأي شيء كان المتجلى له في ذلك الوقت فليس هذا موضعه وقد اعتذرنا عنه .
وقد ظهرت المسألة بحمد الله تعالی وجمع بينها وبين كلام رسول الله ؟
وبعدما تقرر هذا فإني أوجه على الولي وفقه الله في هذه المسألة ثلاثين سؤالا.
الأول : لم خصص اسم الله في قوله من طلب الله دون غيره من الأسماء؟ .
الثاني : هذا الطلب كيف يكون مقيد المعنى أولا مقيدا ؟ كقوله :"ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما" [النساء: 110].
الثالث: ما سبب هذا الطلب .؟
الرابع : هل هذا الطلب من المقامات المستصحبة أم لا.؟
الخامس: الطلب في أي مقام يكون. ؟
السادس: قوله من طلب هل هو على حده من العموم أو يراد به الخصوص ؟.
السابع : الكلام في هذا الطلب هل هو من لوح المحو والإثبات أو من أم الكتاب.؟
الثامن : هل هو على الشرط أو على الخير . ؟
التاسع : هذا الوجود هل هو وجود الذات نفسها أو غيرها؟.
العاشر : هذا الطلب هل هو بالجسم أو بالهمة أو بهما معا؟ .
الحادي عشر : هذا الوجود هل هو من الوجود الذي يصح بعده الرجوع. ؟
الثاني عشر : هذا الوجود هل يبقى معه رسم أم لا؟.
الثالث عشر : هذا الوجود هل هو وجود مكاشفة أو وجود مشاهدة .؟
الرابع عشر : هذا الوجود هل هو من مدركات السر خاصة أم لا.؟
الخامس عشر : هذا السالك ما هو. ؟
السادس عشر: متى كان هذا السالك سالكة. ؟
السابع عشر : إذا رد هل يزول عنه اسم السالك أم لا.؟
الثامن عشر : الطريق ما هو. ؟
التاسع عشر: هل أراد طريقة معينة أو جميع الطرق التي للتصوف.؟
العشرون: كيف يكون السر. ؟
الحادي والعشرون: كيف يكون هذا الرد. ؟
الثاني والعشرون: اين يصل هذا السالك وحينئذ يرد؟.
الثالث والعشرون: هل هذا الكلام حال أو نقل. ؟
الرابع والعشرون: السالك هل أراد به الجنس أو العهد.؟
الخامس والعشرون: بما يرد.؟
السادس والعشرون: بماذا يسد.
السابع والعشرون : لأي شيء يرد.؟
الثامن والعشرون: لأي شيء يسد.؟
التاسع والعشرون: هل هذا السلوك يصح معه وصول أم لا وإنما منع ذلك أبو يزيد لعله .؟
الثلاثون: كيف يجمع بين الحديث وكلام أبي يزيد من غير هذا الوجه الذي ذكرناه؟ فهذه وفق الله الولي ثلاثون سؤالا على الاختصار .
وتركنا من الأسئلة التي تتعلق بظاهر المسألة جملة .
المسألة الثانية
وهي قول الحسين "بن منصور الحلاج" رضي الله عنه :
سقاني مثل ما يشرب ….. كفعل الضيف بالضيف
الصوفية وفق الله وليي، أضياف الله تعالى في الأرض وردوا عليه من الأغيار ونزلوا بحضرته فأضافهم بمعرفته ولهذا قيل لشيخ الشيوخ جعفر بن أبي مدين رضي الله عنه كان بتجانة رحمه الله في قطعه الأسباب وجلوسه مع الحق تعالى في بساط مشاهدته .
فقال شيخ الشيوخ الضيف إذا ورد على أحدكم فإنه في كنفه وتحت كرامته ثلاثة أيام.
بعد ذلك يقال له احترف في تلك الثلاثة الأيام فهو غير عارف بالسنة .
وإن تركه صاحب المنزل فهو عارية.
قيل له: صدقت
فقال رضي الله عنه فإن كانت الضيافة ثلاث والصوفية أضياف الله تعالى على ما قدمنا فليس لنا أن نحترف حتى تكمل لي ضيافتي بكمال الثلاثة الأيام .
وأيام الله كما قال تعالى : "وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون" [الحج: 47]. فيأخذ ضيافته على حسب أيامه فإذا كمل لي في بساط حضرته ثلاثة آلاف سنة ثم لا أحترف بعدها حينئذ يقول لي ترك السنة قم فاحترف.
فانظر هذا النور الإلهي ما أسناه وإنما سقنا هذا القول تمهيدا القوله كفعل الضيف بالضيف.
ثم نقول الجواب وفقك الله عن هذه المسألة:
من وجوه على حسب المقامات حتى لو نطق الرجل بهذا الكلام من غير هذا المقام الذي يعرفه فيه لكان شرحه على وجه آخر غير الوجه الذي نورده في شرحه إن شاء الله.
ولقد رأيته في النوم فسألته ما معنى قولك سقاني مثل ما يشرب.
فأجابني: ليس كمثله شيء .
والكلام عندي فيه من صفات الجلال ومن صفات الكمال ومن السبع المثاني ومن قوله يحبهم ويحبونه ومن أشياء أخر لكن اضطرني حال الرجل إلى الكلام عليه من مقام شهد الله أنه لا إله إلا هو لقوله:
ما قد لي عضو ولا مفصل ….. إلا وفيه لكم ذكر
وليس يريد الذكر الذي يكون معه الحجاب فإنه قد نبه عليه بقوله ولو وقعت المشافهة بيننا لكان الكلام أبسط وأتم .
ولكن أجيبك إن شاء الله على أني في حال قبض وهيبة فأقول والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
نطق الرجل رضي الله عن ذوقه وأعرب عن حاله وصرح بما وصل إليه وذلك أن رب العزة لما أقعده في بساط المنادمة وهو أول مقامات الأنس أدار عليه كأس راح الارتياح إليه لشراب .
"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم" [آل عمران: 18] الممزوج بماء العناية فلما تحساه وسرى في أعضائه أخذته أريحة الطرب وسكر ذلك المقام فكشف له عن سره .
فرأى توحید رب العزة وقد تقرر في سره في توحيده في ذاته وصفاته وأفعاله ثم نظر إلى عالم الله تعالی فوجد أن رب العزة توحيده في علمه القديم القائم به علي فصاح لما عاين ذلك منشدة (سقاني مثل ما يشرب) فكني بالشرب عن العلم القديم وكنی بالمثل حملا على نفسه و تجوزا في لفظه.
إذ الشرب بعد عدم سابق وشرك حاصل والقديم منزه عن هذا كله والشعر موضع تجوز.
فلما صدر منه هذا القول جرد رب العزة سيف العين وضرب عنقه بيد ليس كمثله شيء على نطع الفناء الكلي عند دور كأس معرفة المشاهدة.
فعند ذلك قال:
فلما دارت الكأس ….. دعا بالنطع والسيف
ثم قيل له ناد عليك بلسانك وصف الحالة ونزه قاتلك ونديمك عن الحيف فإني سأظهر فيك عجبا فنادى بلسانه على نفسه قبل أن يؤخذ من تركيبه ومحبيه وقال : نديمي غير منسوب …. إلى شيء من الحيف
سقاني مثل مايشرب …. كفعل الضيف بالضيف
"فلما دارت الكأس دعا بالنطع والسيف.كذا من يشرب الراح مع التنين في الصيف) ثم رده إلى وجوده بسكره كما ذكر فصلب كما شهر .
اعتراض: فإن قلت وفقك الله أن المقام الذي أشرت إليه في المسألة من التوحيد هذا هو اعتقاد أهل السنة وفيه أفنت الأشعرية أعمارها حتى علمته فأي غريبة أتي هذا الصوفي أو بأي صفة زائدة ورد علينا.
انفصال: قلنا صدقت وفقك الله فيما قلت لكن بين الصوفي والأشعري في هذه المسألة ما بين علمت وعاينت هو المعنى اللطيف الذي يفضل به الشاهد الغائب.
إن علمنا قطعة أن الخليفة في الوجود لسنا كمن شاهده وشاهد حضرته فقلد في مشاهده صفة واحدة من صفات جلال الله عند فنائك عن نفسك نعني كل أشعري على البسيطة ليس بصوفي .
ولهذا قيل:
ولكن للعيان لطيف معنى …. لذا سأل المعاينة الكليم
وهذا هو عين اليقين الذي يفضل علم اليقين.
ودليلي على ذلك أن أهل السنة وإن كان هذا هو اعتقادهم فإنهم يتغيرون عندما تجري أمور الله تعالى عليهم على غير مرادهم مخالفة لأغراضهم .
فكيف عند حلول البلايا العظيمة وهذا لعدم مشاهدة المعذب في العذاب أو المنعم في النعمة.
وهذا الرجل صاحب البيت وكل من حصل في مقامه لا يتغير لذلك بل يلهج فرحا بمراد الله تعالی فيلحظه ساكن تحت مجاري الأقدار.
وسكونه عبارة عن ترك الاعتراض في فعله فيه .
فبهذا فضلت هذه الطائفة غيرها وقد شوركوا في العلم وهذا القدر كاف في الجواب عن هذه المسألة .
وأنا أوجه على الولي وفقه الله في هذا البيت عشرين سؤالا على التحرير كما تقدم في المسألة الأولى.
السؤال الأول: من أي مقام نطق صاحب هذا البيت بهذا الكلام هل من مقام الجمع أم من مقام الفرق ؟
ويتوجه عليك في أي مقام أدعيته منهما سؤالان .
السؤال الأول: إن كان في مقام جمع ففي أي جمع، في جمع الهمم؟ أو في جمع الأسرار؟.
وإن ادعيت أنه كان في الفرق ففي أي فرق في فرق السلوك؟ أو في فرق الرجوع؟.
الثاني : هذا السقي ما هو. ؟
الثالث : كيف يكون هذا السقي . ؟
الرابع : بماذا يكون. ؟
الخامس: في أي مقام يصح.؟
ولا السادس : هل هو من السقي الذي يكون عنه السكر أم لا. ؟
السابع : هل يصح بعد هذا السقي صحو أم لا إن كان يولد السكر .؟
الثامن : هل يستصحب هذا السقي المقامات أم لا.؟
التاسع: هل روي بهذا السقي أم لا. النهاية العين . ؟
العاشر: هل هذا السقي سقي فناء أو سقى بقاء.؟
اما الحادي عشر : الساقي المضمر في سقاني من هو.؟
الثاني عشر : المثلية لغوية هي أم عقلية. ؟
الثالث عشر : هذا الشرب ما هو.؟
اما الرابع عشر: الشارب المضمر في شرب من هو.؟
الخامس عشر : كاف الصفة من فعل هل هي ومثليه الشرب على حدوا حد أم لا؟.
السادس عشر: الضيف بالضيف هل أراد ضيفين في بساط مستضاف غيرهما أو كنی بالضيف الواحد عن المستضاف تجوزا.؟
السابع عشر: هل حكم الضيف هنا حكم ضيف العامة أم لا.؟
الثامن عشر: هل خاطب وجوده بوجوده أو هل خاطب موجده ؟
فهذه ثمانية عشر سؤالا، والسؤالان اللذان في الجمع والفرق في أول سؤالات هذه المسألة فهذه عشرون سؤالا .
ومثل الولي وفقه الله من يتفضل بجواب وليه في الخمسين سؤالا مع حامل ويفيض عليكم بمواده العلية الكتاب لا زال الحق يمدكم بأنواره من الحضرة الربانية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
تمت الرسالة بحمد الله ومنه والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا
محمد وآله وصحبه وسلم.
السلام
.