السفر الثامن فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
موسوعة فتوح الكلم في شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي جامعها عبدالله المسافر بالله
08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية
الفقرة الأولي:
متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر محمد ابن العربي الطائي الحاتمي 638 هـ :
08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية
الدين دينان، دين عند الله وعند من عرفه الحق تعالى ومن عرف من عرفه الحق. ودين عند الحق، وقد اعتبره الله.
فالدين الذي عند الله هو الذي اصطفاه الله وأعطاه الرتبة العليا على دين الخلق فقال تعالى «ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون»: أي منقادون إليه.
وجاء الدين بالألف واللام للتعريف والعهد، فهو دين معلوم معروف وهو قوله تعالى «إن الدين عند الله الإسلام» وهو الانقياد. فالدين عبارة عن انقيادك.
والذي من عند الله تعالى هو الشرع الذي انقدت أنت إليه.
فالدين الانقياد ، والناموس هو الشرع الذي شرعه الله تعالى.
فمن اتصف بالانقياد لما شرعه الله له فذلك الذي قام بالدين وأقامه، أي أنشأه كما يقيم الصلاة.
فالعبد هو المنشئ للدين والحق هو الواضع للأحكام. فالانقياد هو عين فعلك، فالدين من فعلك.
فما سعدت إلا بما كان منك. فكما أثبت للسعادة لك ما كان فعلك كذلك ما أثبت الأسماء الإلهية إلا أفعاله وهي أنت وهي المحدثات.
فبآثاره سمي إلها وبآثارك سميت سعيدا.
فأنزلك الله تعالى منزلته إذا أقمت الدين وانقدت إلى ما شرعه لك.
وسأبسط في ذلك إن شاء الله ما تقع به الفائدة بعد أن نبين الدين الذي عند الخلق الذي اعتبره الله.
فالدين كله لله وكله منك لا منه إلا بحكم الأصالة.
قال الله تعالى «ورهبانية ابتدعوها» وهي النواميس الحكمية التي لم يجيء الرسول المعلوم بها في العامة من عند الله بالطريقة الخاصة المعلومة في العرف.
فلما وافقت الحكمة والمصلحة الظاهرة فيها الحكم الإلهي في المقصود بالوضع المشروع الإلهي، اعتبرها الله اعتبار ما شرعه من عنده تعالى، «و ما كتبها الله عليهم».
ولم فتح الله بينه وبين قلوبهم باب العناية والرحمة من حيث لا يشعرون جعل في قلوبهم تعظيم ما شرعوه يطلبون بذلك رضوان الله على غير الطريقة النبوية المعروفة بالتعريف الإلهي.
فقال: «فما رعوها»: هؤلاء الذين شرعوها وشرعت لهم: «حق رعايتها» «إلا ابتغاء رضوان الله» وكذلك اعتقدوا، «فآتينا الذين آمنوا» بها «منهم أجرهم» «وكثير منهم»:
أي من هؤلاء الذين شرع فيهم هذه العبادة «فاسقون» أي خارجون عن الانقياد إليها والقيام بحقها. ومن لم ينقد إليها لم ينقد مشرعه بما يرضيه.
لكن الأمر يقتضي الانقياد: وبيانه أن المكلف إما منقاد بالموافقة وإما مخالف، فالموافق المطيع لا كلام فيه لبيانه، وأما المخالف فإنه يطلب بخلافه الحاكم عليه من الله أحد أمرين إما التجاوز والعفو، وإما الأخذ على ذلك، ولا بد من أحدهما لأن الأمر حق في نفسه.
فعلى كل حال قد صح انقياد الحق إلى عبده لأفعاله وما هو عليه من الحال. فالحال هو المؤثر.
فمن هنا كان الدين جزاء أي معاوضة بما يسر وبما لا يسر: فبما يسر «رضي الله عنهم ورضوا عنه» هذا جزاء بما يسر، «ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا» هذا جزاء بما لا يسر. «ونتجاوز عن سيئاتهم» هذا جزاء.
فصح أن الدين هو الجزاء، وكما أن الدين هو الإسلام والإسلام عين الانقياد فقد انقاد إلى ما يسر وإلى ما لا يسر و هو الجزاء.
هذا لسان الظاهر في هذا الباب. وأما سره وباطنه فإنه تجلي في مرآة وجود الحق: فلا يعود على الممكنات من الحق إلا ما تعطيه ذواتهم في أحوالها، فإن لهم في كل حال صورة، فتختلف صورهم لاختلاف أحوالهم، فيختلف التجلي لاختلاف الحال، فيقع الأثر في العبد بحسب ما يكون.
فما أعطاه الخير سواه ولا أعطاه ضد الخير غيره، بل هو منعم ذاته ومعذبها. فلا يذمن إلا نفسه ولا يحمدن إلا نفسه. «فلله الحجة البالغة» في علمه بهم إذ العلم يتبع المعلوم.
ثم السر الذي فوق هذا في مثل هذه المسألة أن الممكنات على أصلها من العدم، وليس وجود إلا وجود الحق بصور أحوال ما هي عليه الممكنات في أنفسها وأعيانها.
فقد علمت من يلتذ ومن يتألم وما يعقب كل حال من الأحوال وبه سمي عقوبة وعقابا وهو سائغ في الخير والشر غير أن العرف سماه في الخير ثوابا وفي الشر عقابا، وبهذا سمى أو شرح الدين بالعادة، لأنه عاد عليه ما يقتضيه ويطلبه حاله.
فالدين العادة قال الشاعر: كدينك من أم الحويرث قبلها أي عادتك.
ومعقول العادة أن يعود الأمر بعينه إلى حاله: وهذا ليس ثم فإن العادة تكرار.
لكن العادة حقيقة معقولة، والتشابه في الصور موجود: فنحن نعلم أن زيدا عين عمرو في الإنسانية وما عادت الإنسانية، إذ لو عادت تكثرت وهي حقيقة واحدة والواحد لا يتكثر في نفسه.
ونعلم أن زيدا ليس عين عمرو في الشخصية: فشخص زيد ليس شخص عمرو مع تحقيق وجود الشخصية بما هي شخصية في الاثنين.
فنقول في الحس عادت لهذا الشبه، ونقول في الحكم الصحيح لم تعد.
فما ثم عادة بوجه وثم عادة بوجه، كما أن ثم جزاء بوجه وما ثم جزاء بوجه فإن الجزاء أيضا حال في الممكن من أحوال الممكن.
وهذه مسألة أغفلها علماء هذا الشأن، أي أغفلوا إيضاحها على ما ينبغي لا أنهم جهلوها فإنها من سر القدر المتحكم في الخلائق.
واعلم أنه كما يقال في الطبيب إنه خادم الطبيعة كذلك يقال في الرسل والورثة إنهم خادمو الأمر الإلهي في العموم، وهم في نفس الأمر خادمو أحوال الممكنات.
وخدمتهم من جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم.
فانظر ما أعجب هذا! إلا أن الخادم المطلوب هنا إنما هو واقف عند مرسوم مخدومه إما بالحال أو بالقول، فإن الطبيب إنما يصح أن يقال فيه خادم الطبيعة لو مشى بحكم المساعدة لها، فإن الطبيعة قد أعطت في جسم المريض مزاجا خاصا به سمي مريضا، فلو ساعدها الطبيب خدمة لزاد في كمية المرض بها أيضا، وإنما يردعها طلبا الصحة والصحة من الطبيعة أيضا بإنشاء مزاج آخر يخالف هذا المزاج.
فإذن ليس الطبيب بخادم للطبيعة، وإنما هو خادم لها من حيث إنه لا يصلح جسم المريض ولا يغير ذلك المزاج إلا بالطبيعة أيضا.
ففي حقها يسعى من وجه خاص غير عام لأن العموم لا يصح في مثل هذه المسألة. فالطبيب خادم لا خادم أعني للطبيعة، وكذلك الرسل والورثة في خدمة الحق.
والحق على وجهين في الحكم في أحوال المكلفين، فيجري الأمر من العبد بحسب ما تقتضيه إرادة الحق، وتتعلق إرادة الحق به بحسب ما يقتضي به علم الحق، ويتعلق علم الحق به على حسب ما أعطاه المعلوم من ذاته: فما ظهر إلا بصورته.
فالرسول والوارث خادم الأمر الإلهي بالإرادة، لا خادم الإرادة.
فهو يرد عليه به طلبا لسعادة المكلف فلو خدم الإرادة الإلهية ما نصح وما نصح إلا بها أعني بالإرادة.
فالرسول والوارث طبيب أخروي للنفوس منقاد لأمر الله حين أمره، فينظر في أمره تعالى وينظر في إرادته تعالى، فيراه قد أمره بما يخالف إرادته ولا يكون إلا ما يريد، ولهذا كان الأمر.
فأراد الأمر فوقع، وما أراد وقوع ما أمر به بالمأمور فلم يقع من المأمور، فسمي مخالفة ومعصية.
فالرسول مبلغ: ولهذا قال شيبتني «هود» وأخواتها لما تحوي عليه من قوله «فاستقم كما أمرت» فشيبه «كما أمرت فإنه لا يدري هل أمرت بما يوافق الإرادة فيقع، أو بما يخالف الإرادة فلا يقع.
ولا يعرف أحد حكم الإرادة إلا بعد وقوع المراد إلا من كشف الله عن بصيرته فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها على ما هي عليه، فيحكم عند ذلك بما يراه.
وهذا قد يكون لآحاد الناس في أوقات لا يكون مستصحبا.
قال: «ما أدري ما يفعل بي ولا بكم» فصرح بالحجاب، وليس المقصود إلا أن يطلع في أمر خاص لا غير.
متن نقش فصوص الحكم للشيخ الأكبر محمد ابن العربي الطائي الحاتمي 638 هـ :
08 – نقش فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية:
الدين عند الله الإسلام. ومعناه الإنقياد.
ومن طلب منه أمراً فانقاد إلى الطالب فيما يطلب فهو مسلم. فافهم.
فإنه لا يسري والدين دينان:
* دينٌ مامورٌ به. وهو ما جاءت به الرسل.
* ودينٌ معتبر وهو الإبداع الذي فيه تعظيم الحق فمن رعاه حق رعايته ابتغاء رضوان الله فقد أفلج.
والأمر الإلهي أمران:
* أمرٌ بواسطة فما فيه من الأمر الإلهي إلا صيغته واسطة وهو الذي لا يتصور مخالفته وبالواسطة قد يخالف وليس.
* وأمرٌ بلا واسطة وإلا لكان خاصة لا الموجود.
الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص صدر الدين القونوي 673 هـ :
08 - فك ختم الفص اليعقوبي
1 / 8 اعلم ان اقران الشيخ رضى الله عنه هذا الفص بالصفة الروحية وبناء الكلام فيه على ذكر الدين وأحكامه اسرار عظيمة ما لم تعلم لم تفهم مقصوده مما ذكره فالسر الواحد الجامع بين الصفة الروحية والدين هو التدبير وهو على قسمين :
1- ذاتى
2 - وكسبى تعملي.
والنسخة الانسانية مشتملة على التدبيرين وبهما بقاء الإنسان وصلاح حاله عاجلا وآجلا فالتدبير الذاتي هو كتدبير الطبيعة المزاجية بموجب ما يشتمل عليه من القوى الذاتية والقوى المستفادة من العالم العلوي الحاصلة في طبيعة مزاج الإنسان ، فإنها ايضا فائضة من الفيض دون تعمل ، كما هو قبول الطبيعة المزاجية لها وتصرفها الذاتي بذاتها وبموجب ما قبلته من تلك الآثار العلوية دون تعمل .
2 / 8 والتدبير الاخر تدبير الروح وهو على قسمين : تدبيره العقلي طلبا للاستكمال والتخلق بأخلاق الله والتجلي بصفاته وقصد التشبه بجنابه – دون التهمم بأحوال المزاج وتدقق النظر في مراعاة مصالحه - والقسم الاخر من التدبير للبدن والنظر لمصالحه ، وهو تدبير جامع بين الدبيرين : الروحي والطبيعي فان التدبير للبدن والنظر في مصالحه تدبير يتوقع منه البقاء على الوجه الأصلح ويتضمن ايضا بالنسبة الى بعض النفوس ان يكون هذا التدبير والتهمم لطب البقاء على الوجه الأصلح مقصودا بعينه ، بمعنى انه الغاية ، بل يهتم بذلك ويراعيه لأمر أخر ومطلب اعلى منه ، وهو التخلق والتحلي والتشبه ونحو ذلك كما مر .
3 / 8 ولا شك ان هذا التدبير مخالف للتدبير الأول ولتدبير من لا يعتقد بقاء النفوس ولا يعتقد المعاد الروحاني والجسماني المحقق الذي جاءت به الشرائع فان من هذا شأنه يهتم من حيث نفسه تدبير المزاج ومراعاته لعينه ، لا لأمر أخر ورائه.
4 / 8 والسر الاخر في اقران الصفة الروحية بيعقوب عليه السلام هو ما أشرت اليه فيما قبل من ان يعقوب عليه السلام كالمظهر والمثال للفلك الأول المسمى بالعرش ، فهو اول صورة جسمية دبرها روح ، فناسب ذكر الصفة الروحية هاهنا وأقرانها بيعقوب عليه السلام.
5 / 8 ثم أقول : وهكذا هو امر الدين ، فالدين دينان : عقلى وشرعي كما ذكره الشيخ رضى الله عنه ولكل منهما معنيان :
أحدهما الطاعة والانقياد ، كما قال تعالى : " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ " [ آل عمران / 19 ] والانقياد والطاعة على قسمين : ظاهر وباطن.
وكل واحد من القسمين ينقسم الى قسمين :
انقياد وطاعة بالطبع والذات .
وانقياد وطاعة بتعمل .
والمعنى الاخر الاجزاء ويترتب على ذلك من وجهين : ذاتى ايضا وارادى
، فالذاتى يكون بالعدل والموازنة ومعرفته من اجلّ المعارف.
والإرادي يظهر على وجه يظن ان فيه مزيدا على الموازنة ، وليس الامر كذلك .
6 / 8 وتدبير الدين ايضا على وجهين : أحدهما سياسة المتضمنة حفظ مصلحة العالم في الحالة الراهنة عموما وخصوصا ، واليه الإشارة بقولى :
عاجلا والتدبير الاخر هو النظر في امر المعاد وعواقب الأمور .
7 / 8 وإذا صح هذا فأقول : كل ما ذكر الشيخ رضى الله عنه من اسرار الأنبياء ومحتد أحوالهم من اول الكتاب الى هنا راعى فيه التنبيه على سر اولية كل مرتبة من مراتبهم ، ولقد نبهنا على ذلك فلا يغفل عنه المتأمل لهذا الكلام فحق لنا بعد ان نبهنا على سر الصفة الروحية واختصاصها من حيث هذه الإضافة بيعقوب عليه السلام واقران ذلك بالدين ان ننبه على اصل المجازاة وبما يلائم وبما لا يلائم ومحتدها.
8 / 8 فنقول : اعلم ان المجازاة الاولى الكلية تعينت باعتبار الرحمة العامة الايجادية التي وسعت كل شيء بمطلق قابلية الممكنات المخلوقة ، وقيامها مقام المرايا لظهور الوجود فيها ، وظهور آثاره وتنوعاته ظهوراته بها .
ومن حيث انها لما كانت شرطا في ظهور احكام الأسماء وتعيناتها - كما مر - عوضت بالتجلى الوجودي الذاتي الذي ظهر به عينها لها ونفذ حكم بعضها في البعض ، فظهر بذلك ايضا شرف بعضها على البعض بمزيد الاستعداد وقبول الوجود على وجه أتم ووضوح حجة الحق على القوابل الناقصة والموجودات الموصوفة بالشقاء .
ان ذلك لم يوجبه الحق عليها من حيث هو ، بل ذلك منها لا من سواها . والذي للحق إظهارها بالتجلى الوجودي على نحو ما علمها ، وهذا السر هو مفتاح سر القضاء والقدر ايضا . فاعلم ذلك .
9 / 8 فهذا اصل المجازاة بالموافق ، واما اصل المجازاة بما لا يوافق :
فذلك راجع الى القيود والتغير العارض للتجلى الوجودي من القوابل وحسن المواتاة لما يراد من القابل وعدمه ، فالتكليفات من مقابلة تلك التقيدات الغير المرضية ، ففي اى قابل تقل القيود والتغيرات في التجلي المقبول وظهرت فيه مواتاة مرضية ، كان تكليفه اقل وكان ما لا مندوحة عنه من التقيدات مما هو ضرورى الوقوع معفوا عنه ومغفورا لصاحبه ومستهلك الحكم في جنب باقى الصفات والاحكام التي ظهر القابل بها على الوجه المراد.
10 / 8 فافهم هذا فإنه من اغمض العلوم ، ومن علم سره علم سر الوجوب والتكليف وسر الاباحة والتقييد المسمى بالمحرم والحلال المطلق ، والعفو والمغفرة ، وسبب الشقاء والسعادة والرضاء الحق وسخطه .
وسر عدم تكليف الصغار من الأناسي وعدم تكليف الحيوانات ، وان ذلك راجع كما بينا الى المطاوعة الذاتية والانقياد بالطبع والظهور بما أريد منه ، بخلاف الإنسان ، فإنه ادعى بحاله من حيث قابليته الصورة الانسانية ان يكون مرآة لحقيقتها تماما ، بحيث يظهر أحكامها بالفعل ، فقوبل بالامتحان مقابلة ذاتية بموازنة حقيقة عدلية كما سبقت الإشارة اليه وكما أخبر الله سبحانه عن ذلك بلسان بعض المقامات التي يشتمل عليها الحقيقة الانسانية وهو قوله تعالى : " الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ . . . " الى أخر الاية والى قوله : " ولَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ " [ العنكبوت / 1 - 3 ] .
11 / 8 ويعلم من هذا الفصل ايضا سر الرحمة العامة الذاتية والفيض الجودي وانه في مقابلة مطلق القبول للتجلى الوجودي ، فيدرك الفرق بين مطلق القبول وبين القبول على وجه مخصوص ، ويعلم غير ذلك مما يطول ذكره .
12 / 8 وهذا المقام يحتوي على علوم جمة كلية أضربت عن إيرادها طلبا للاختصار ، وما سوى ما أشرت اليه من اصول هذا الفص فقد نبه شيخنا رضى الله عنه عليه فلنقتصر على ذلك.
13 / 8 لكن بقي تتمة لطيفة من اسرار هذا الفص اليعقوبي اذكرها واختم الكلام عليها ان شاء الله تعالى وهو ان يعقوب عليه السلام ظهر بوصف الدينين فجوزى بالجزائين ، فكان من جزائه بما لا يلائم ما قاساه من فراق يوسف عليه السلام ووقع ذلك في مقابلة فعل صدر منه.
14 / 8 فإنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال ما هذا معناه وهو ان يعقوب عليه السلام ناجى ربه بعد فراق يوسف فقال : يا رب أخذت ولدى وريحانة قلبى فرده على أشم شمة ثم افعل بى ما شئت ، فأوحى الله اليه :
ألم تعلم لم كان ذلك ؟
قال : لا !
قيل له : انك كنت تأكل في بعض الأيام طعاما شهيا فمر ببابك سائل جائع فلم تعطه من ذلك الطعام ، فكما احرمته ما يشتهي حرمناك ما تشتهي ، فتاب يعقوب عليه السلام .
قال: وكان بعد ذلك إذا أراد ان يتغذى يقيم شخصا بباب بيته ينادى : الا ان يعقوب اسرائيل الله يتغذى ، فمن شاء ان يتغذى معه فليأت ولما أخذ يوسف أخاه بحجة الصواع كتب الى يوسف قبل ان يعلم من هو صاحب مصر .
15 / 8 بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب اسرائيل الله الى عزيز مصر ! سلام عليك ! اما بعد : فانا اهل بيت خص بنا البلاء.
فاما جدى : فإنه ألقي في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما وأما أبي فابتلي بالذبح ففداه الله بذبح عظيم وأما أنا فكان لي ولد أحبه وآنس به ، فأخذ مني ، وقد بلغني أنك أخذت لي أيضا ولدا لأنه سارق ، فاللَّه الله في بني فإني لم أسرق ولم ألد سارقا ، والسلام .
16 / 8 فاجابه يوسف : سلام عليك ! من عزيز مصر الى اسرائيل الله !
اما بعد : فإنه وصل كتابك الذي ذكرت فيه شأنك وشأن آبائك ، وقد عرفنا ذلك ، فاصبر كما صبروا تظفر بما ظفروا ، فوطن نفسك على الصبر والرضاء فجازاه الله بما يلائم وجمع بينه وبين أولاده على ما يحب ويرضى .
17 / 8 والسر الاخر في ذلك هو ان القلوب التي شاء الحق منها ان يتجلى له ليصير مستواه ومنصة تجليه ، لا يرضى ان يشارك فيها ، فلما أخذ يوسف من قلب أبيه مكانا لبقية مناسبة ثابتة بين يعقوب وبين ما سوى الحق .
أخذ الحق يوسف عنه بيد الغيرة وصقل بالحزن والم الفراق قلبه فلما آيس وانفرد للحق وتطهر من حكم السوي ، رد الله اليه أولاده على احسن حال وهو الجزاء بما يلائم ، وهذه معالجة الربانية وطب الهى قل من يعرف سره وهذا مقام شريف في طريق الله جربت له بركات لا تحصى وشاهدت صحة هذا الحكم والمجازاة في نفسى وفي جماعة من اهل الله.
والحمد لله .
.
كلمات و مصطلحات وردت في فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية:
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي عن إله المعتقدات:
هو ظهور الله تعالى في صورة معتقد العبد، فهو الإله المحدد الذي وسعه قلب عبده .
ونورد فيما يلي نصوص الشيخ ابن العربي التي تثبت تعريف (إله المعتقدات) الذي ابتدرنا به كلامنا:
" إن الناظر في الله خالق في نفسه بنظره ما يعتقد، فما عبد إلا إلها خلقه بنظره، وقال له كن فكان.
ولهذا امرنا الناس أن يعبدوا الله الذي جاء به الرسول ونطق به الكتاب، فإنك إذا عبدت ذلك الإله، عبدت ما لم تخلق بل عبدت خالقك ... فإن العلم بالله لا يصح أن يكون علما إلا عن تقليد ...
" ... قال كل صاحب نظر بما أداه إليه نظره، فتقرر عنده أن الإله هو الذي له هذا الحكم وما علم أن ذلك عين جعله، فما عبد إلا إلها خلقه في نفسه واعتقده ... فما ترى أحدا يعبد إلها غير مجعول فيخلق الإنسان في نفسه ما يعبده وما يحكم عليه والله هو الحاكم .
""المقصود بـ صاحب النظر هنا اهل الفلسفة والنظريات والمنطق والتفكير العقلي واهل العقلانية بعيدا على الشرائع الإلهية وما أوتى الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم جميعا . فـ إبليس من أصحاب النظر "إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) " سورة البقرة ، " إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)" سورة ص ""
" الحق الذي يخلقه العبد في قلبه بنظره الفكري أو بتقليده الإله المعتقد .
" فكان موسى أعلم بالأمر من هارون، لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن الله قد قضى إلا يعبد إلا إياه، وما حكم الله بشي إلا وقع ... فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء .
في النص الأخير يبين الشيخ ابن العربي أن العلم هو الفيصل الدقيق بين الكفر والإيمان، فعبادة أصحاب العجل للعجل كفر، لأنهم غير عارفين بما يعبدون، أما العارف فهو من يرى الحق في كل شيء، حتى في العجل.
ثم يختتم ابن العربي الطائي الحاتمي فصوص الحكم بجملة فيها مكانة الإله المطلق من إله المعتقدات، يقول: " إله المعتقدات تأخذه الحدود وهو الإله الذي وسعه قلب عبده، فإن الإله المطلق لا يسعه شيء، لأنه عين الأشياء وعين نفسه، والشيء لا يقال فيه نفسه ولا لا يسعها.
تقول الدكتورة سعاد الحكيم " إله المعتقدات عند ابن العربي الطائي الحاتمي :
هو صورة أو فكرة الله التي يخلقها عقل العبد أو تقليده، فيسعها قلبه، إنها صورة صفاتية لله يسعها كل إنسان قدر طاقته وعلمه .
تقول الدكتورة سعاد الحكيم عن إله المعتقدات في اصطلاح ابن العربي :
" إن فكرة (إله المعتقدات) ليست استنباطا جديدا وإنما هي في الواقع عملية عزل وتسمية.
لقد لاحظ الشيخ ابن العربي أنه لابد لكل إنسان من عقيدة في ربه يرجع بها إليه ويطلبه فيها.
كما لاحظ تعدد هذه العقائد بعدد معتقديها، وإذ لا يمكن أن يتعدد (الله) حقيقة بعدد عبيده، فليس للعبد منه إلا صورة، وهكذا بعدما عزل عملية خلق الإنسان لصورة إلهه الذي يعبده، سمي هذا الإله أو بالأحرى هذه الصورة بـ (إله المعتقدات).
فالله حقيقة لا يصل إلى أعتاب إطلاقه مخلوق، فهو المجهول، ولا يزيد نصيب العبد منه عن صورة مخلوقه، فالإنسان لم يعبد في الحقيقة سوى نفسه، لأن الصورة من خلقه هو، فما ثمة إلا عابد وثنا.
ويؤكد ما ذهب إليه بهذا الحديث الشريف الذي يردده في أكثر من نص:" إن الحق يتجلى يوم القيامة للخلق في صورة منكرة، فيقول: أنا ربكم الأعلى، فيقولون: نعوذ بالله منك، فيتجلى في صورة عقائدهم فيسجدون له ".
ولكن الشيخ ابن العربي لا يترك المخلوق أمام هذه النتيجة، يدور في حلقة ذاته، لا يخرج منها بفعل الإيمان إلى الخالق، وإلا قضى على الإنسان بعزلة أبدية، بل نجده بما أوتي من عبقرية في قمة البعد بين الحق والخلق، يخرج من مأزق الفصل، هذا بجانب من جوانب نظريته في وحدة الوجود.
إذ أن (إله المعتقدات) هو مخلوق من جملة المخلوقات، إذن تجل من جملة التجليات الإلهية التي رحمها الله أي أوجدها.
وإذن، كل صورة أو معبود عبد، هو مجلى من المجالي الإلهية، علم العابد من ذلك أم لم يعلمه، فلا يخرج شيء عن الدائرة، فما ثمة إلا ذات وتجلياتها، فكل من عبد شجرة أو نجما أو صنما فهو في الحقيقة لم يعبد سوى الله في مجلى من مجاليه، وهكذا يفسر ابن العربي الطائي الحاتمي الآية:" وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ".
ولكن ابن العربي الطائي الحاتمي ليس من عداد الذين يكتفون بصورة أو مجلى من مجالي الألوهية يتعبدون الله فيه، بل يحاول من خلال تجربته الخاصة ومراقبته لما توصل إليه السالكون إلى الحق، أن يضع يده على العقبات، ويطرح حلولا مناسبة.
فأبرز خطأ وقع به عبدة الإله المخلوق هو أنهم أصحاب عقل، فالعقل للحصر والتقييد ليس من طاقته أن يتقلب في أنواع الصور، أي يتقلب مع تجليات الحق، على حين أن القلب يتقلب مع تجليات الحق.
وبذلك يخالف الشيخ ابن العربي الطائي الحاتمي كل من سبقه من المتصوفة الذين يثبتون أن: الحق يتجلى لقلب العبد بقدر طاقته واستعداده، فالقلب عنده هو الذي يتقلب مع تجليات الحق.
إذن الخطوة الأولى هي استبدال العقل بالقلب ، والوصول به إلى مرتبة الكمال، أي القابلية المحضة كما يشير إلى ذلك قائلا:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ .... فمرعى لغزلانٍ وديرٍ لرهبانٍ
وبيتٍ لأوثانٍ وكعبةَ طائفٍ .... وألواح توراةٍ ومصحف قرآن
وعندما يصل القلب إلى مرتبة الكمال لا يتقيد بعقد مخصوص، بل يصبح هيولي لصور المعتقدات كلها.
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي عن الإله المخلوق:
هو الإله الذي يعتقده ويعبده صاحب النظر، وليس في الحقيقة إلا ما أوجده هو بنظره في المحل واعتقده، وما أوجده في محله وقلبه إلا مخلوق وليس هو الإله الحق .
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي عن الإله المجهول :
هو الإله المطلق، وإنما كان مجهولا، لأنه ما عبده أحد عن الإضافة .
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي " الإله الحق:
هو الذي لا يكون بالاتخاذ والجعل، إذ ألوهيته محققة في نفس الأمر .
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي " الإله المطلق:
هو من لا يسعه شيء، لأنه عين الأشياء وعين نفسه، والشيء لا يقال فيه يسع نفسه ولا يسعها ".
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي في الفرق بين الرب والإله:
" إن الرب له الثبوت، والإله يتنوع بالأسماء فهو كل يوم في شأن ".
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي عن الإلهيون:
هم أعلى الطوائف الذين لا مقام لهم، وذلك لأن المقامات حاكمة على من كان فيها، وهم من لهم الحكم لا من يحكم عليهم، وهم المحمديون.
يقول الشيخ الأكبر ابن العربي " لا يسمى الشخص إلهيا:
إلا أن يكون أخذه العلوم عن الله من فتوح المكاشفة بالحق .
يقول الغوث الأعظم عبد القادر الجيلاني :
" كل من اعتمدت عليه: فهو إلهك. وكل من خفته ورجوته: فهو إلهك.
كل من رأيته في الضر والنفع ولم تر أن الحق ـ عز وجل ـ مجري ذلك على يديه: فهو إلهك ".
يقول الشيخ عبد الكريم الجيلي سفر المكر والابتلاء :
هو سفر يعقوب ويوسف عليهما السلام ، وهو سفر الابتلاء بالرق تحت القهر الإلهي لمن كمل فيه العز والراحة والحسن .
يقول الشريف الجرجاني : " القرب ... هو قرب العبد من الله تعالى بكل ما يعطيه السعادة لا قرب الحق من العبد ، فإنه من حيث الدلالة " وهو معكم أين ما كنتم " قرب عام سواء كان العبد سعيدا أو شقيا " .
يقول الشيخ عبد الكريم الجيلي في الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل :
لأن الحق قديم والخلق حادث، والعبارة الفهوانية لا تحمل المعاني الذوقية إلاَّ لمن سبقه الذوق.
فهي مطية له لأنها لا تطيق أن تحمل الأمر على ما هو عليه، ولكنها تأخذ منه طرفاً.
فمن كان يعقوبي الحزن جلى عن بصره العمى بطرح البشير إليه قميص يوسف، ومن لم يكن له ذوق سابق فلا يكاد يقع على المطلوب.
" لحاجة في نفس يعقوب قضاها وأنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون"
ولكن من مراتب الشرف " فمنهم من كلم الله " وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس .
فمنهم من فضل بان خلقه بيده وأسجد له الملائكة .
ومنهم من فضل بالكلام القديم الإلهي بارتفاع الوسائط .
ومنهم من فضل بالخلة .
ومنهم من فضل بالصفوة وهو اسرائيل يعقوب .
فهذه كلها صفات شرف ومجد لا يقال ان خلته أشرف من كلامه ولا ان كلامه أفضل من خلقه بيديه بل كل ذلك راجع إلى ذات واحدة لا تقبل الكثرة ولا العدد.
فهي بالنسبة إلى كذا خالقة وبالنسبة إلى كذا مالكة وبالنسبة إلى كذا عالمة إلى ما نسبت من صفات الشرف والعين واحدة .
وأما المسئلة الطفولية التي بين الناس واختلافهم في فضل الملائكة على البشر فانى سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الواقعة:
فقال لي ان الملائكة أفضل !
فقلت له يا رسول الله فان سئلت ما الدليل على ذلك فما أقول؟
فأشار إلى ان قد علمتم انى أفضل الناس وقد صح عندكم وثبت وهو صحيح انى قلت عن الله تعالى انه قال " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم "
وكم ذاكر لله تعالى ذكره في ملأ خير من ذلك الملأ الذي انا فيهم .
فذكره الله في ملأ خير من ذلك الملأ الذي أنا فيهم .
فما سررت بشئ سروري بهذه المسئلة فانه كان على قلبي منها كثير وان تدبرت قوله تعالى " هو الذي يصلي عليكم وملائكته ".
وهذا كله بلسان التفصيل وأما جهة الحقائق فلا مفاضلة ولا أفضل لأرتباط الأشخاص بالمراتب وارتباط المراتب بالاسماء الإلهية وان كان لها الابتهاج بذاتها وكمالها فابتهاجا بظهور آثارها في أعيان المظاهر أتم ابتهاجا لظهور سلطانها كما تعطي الأشارة ."
.