منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 10:50 am

فهرس موضوعات كتاب شرح فصوص الحكم .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفهرس على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

فهرس الموضوعات والتعرف بالشارح الشيخ مؤيد الدين الجندي تلميذ صدر الدين القنوي 

الفهرس  .
مقدمة الناشر .. 
مقدمة الشارح … 
مقدمة الكتاب ..  
البحث الأول من مباحث خطبة الكتاب . 
البحث الثاني من مباحث خطبة الكتاب تحقيق في وجوه تسمية اسم الله . 
البحث الثالث من مباحث خطبة الكتاب .  
البحث الخامس من المباحث الكلية التي تحويها خطبة الكتاب 
البحث السادس من مباحث الخطبة سر الكلم. 
البحث السابع من مباحث خطبة الكتاب . 
البحث الثامن منها أي من المباحث الكلية الستة عشر . 
البحث التاسع منها أي من المباحث الكلية الستة عشر. 
البحث العاشر من الستة عشر: في إمداد الهمم القابلة للترقي . 
البحث الحادي عشر من الستة عشر : في الهمم. 
البحث الثاني عشر من الستة عشر .  
البحث الثالث عشر من الستة عشر. 
البحث الرابع عشر من الستة عشر .
البحث الخامس عشر من الستة عشر. 
البحث السادس عشر من الستة عشر 
آخر شرح الخطبة 
01. فص حكمة إلهية في كلمة آدمية . 
فهرسة الشيخ الأكبر لكتاب فصوص الحكم  .. 
02. فص حكمة فنية في كلمة شيثية ..
03. فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية . 
04. فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية. 
05. فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية .
06. فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية. 
07. فص حكمة علنية في كلمة إسماعيلية . 
08. فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية.
09. فص حكمة نورية في كلمة يوسفية. 
10. فص حكمة أحدية في كلمة هودية.
11. فص حكمة فاتحية في كلمة صالحية. 
12. فص حكمة قلبية في كلمة شعبية .
13. فص حكمة ملكية في كلمة لوطية.
14. فص حكمة قدرية في كلمة نميرية.
15. فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية.
16.  فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .
17. فص حكمة وجودية في كلمة داوودية .
18. فص حكمة نفسية في كلمة يونسية.
19. قص حكمة غيبية في كلمة أيوبية.
20.  فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية .
21. فص حكمة مالكية في كلمة زگریاوية.
22. فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية.
23. فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية.
24. فص حكمة إمامية في كلمة هارونية.
25. فص حكمة علوية في كلمة موسوية.
26. فص حكمة صمدية في كلمة خالدية . 
27. فص حكمة فردية في كلمة محمدية .
مقدّمة الناشر للتعريف بالشارح الشيخ مؤيد الدين الجندي 
من الأمور التي لا تخفى على العرفاء وسالكي هذا الطريق أهمية وموقع كتاب فصوص الحكم وتفرّده في مجال العرفان النظري . 
فقد ترك مؤلفه العارف الكبير محيي الدين بن عربى أثرا كبيرا على العرفاء الذين تلوه ، فلا يوجد عارف إلَّا واغترف من هذا المنهل العذب وتزوّد من هذه المائدة الشهيّة .
ويعتبر العذب استيعاب هذا الكتاب وفهم مضامينه من الأمور المشكلة من دون الاستعانة بأستاذ ماهر وملازمة شخص كالخضر عليه السلام يبيّن له مرامي الكلام ومقاصده .
وبهذا الشأن يقول الشهيد مرتضى المطهّري ما مضمونه : إنّ هذا الكتاب رغم صغر حجمه فإنّه يعتبر من أدقّ وأعمق المتون العرفانية ، وربّما وجد في كلّ عصر شخصان أو ثلاثة يقدرون على فهم وتحليل مضامينه العميقة .
ويعدّ صدر الدين محمد بن إسحاق القونوي من أبرز تلاميذ محيي الدين ابن العربي الذين شرحوا هذا الكتاب ، نتيجة لحضوره درس أستاذه وتقريره له .
أمّا مؤيد الدين جندي الذي هو من ألمع تلامذه صدر الدين القونوي فهو يذكر بأنّه درس متون فصوص الحكم بحضرة أستاذه القونوي ، وما إن أتمّ ذلك حتى شرع بشرح فصوص الحكم .
وربّما كان السبب في التطويل والإطناب في شرح مقدمة الفصوص هو اعتقاد القونوي أنّ كلّ مطالب الكتاب قد اجتمعت في المقدمة بشكل مركز . 
وكلّ من قرأ الفصوص على يد القونوي كان أقرب إلى معرفة نظريات ابن عربي في هذا المجال .
والسمات الرئيسية في « شرح فصوص الحكم » يمكن تلخيصها في شيئين :
الأول : أنّ هذا الكتاب هو الأول من نوعه الذي كتب حول فصوص الحكم ، فقد اختصّ بالسبق التأريخي دون غيره من الشروح .
الثاني : استفادة مؤلَّفه واستيعابه لكلّ محتويات الكتاب بسبب تتلمذه على أوثق وأدقّ تلامذة محيي الدين بن عربي ، صدر الدين القونوي الذي عرف نكات هذا الكتاب ودقائق الأمور فيه .
وفي شرح مقدمة هذا الكتاب التي شغلت الحيّز الأكبر فيه تناول المؤلَّف المباحث العرفانية المتعددة ، التي منها مبحث الحمد ، الاسم الحقيقي والاسم الأعظم ، اللطائف الإنسانية السبعة ، الرؤيا ، الوراثة ، التعيّن الأول . . . إلى آخر ما هنالك .
في خدمة علوم آل محمد صلَّى الله عليه وسلم ونشر ثقافتهم الإسلامية الأصيلة ، إنّه حسبنا ، عليه توكَّلنا ، وهو نعم المولى ونعم النصير .
.

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي 2210

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Y_ai_a10
.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة أغسطس 02, 2019 3:47 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: مقدّمة الشارح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 10:55 am

مقدّمة الشارح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

مقدمة الشارح على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
مقدّمة الشارح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي
بسم الله الرحمن الرحيم ابتدأت ، وعليه توكَّلت في جميع أموري .
حمد الحمد أحقّ محامد الحق ، وأحمدها في مجامع الصدق ، وأجمع مناهج المحقّق المحقّ . وحق الحقّ أن يحمد بالأحرى والأحقّ ، ويصدّق في الأعلى والأشقّ ، ويعبد بخالص العبودية والرقّ ، عن شائبة الربوبية وشانئة الحرّية والعتق .
هو الحامد ذاته بذاته في ذاته وحقائق ذاته ، برقائق أسمائه وصفاته ، في حدائق حضرات تجلَّياته ، ودقائق نسب درجاته .
يحمد هويّته الكبرى وإنّيّته العظمى ، بتعيّنات باطن هويّاته ، وتنوّعات ظاهر إنّيّاته ، حمدا جامعا بين التسبيح والتحميد ، مطلقا عن التسريح والتقييد ، بالتجريد وتشبيه التحديد والتجديد ، محيطا بكثرة التوحيد وأحدية التعديد .
هو الحامد الحميد ، والماجد المجيد ، باطن هويّته ظاهر بإنانيّته ، أوّل في غيب غيبه ، آخر في عين غيبه  ، مطلق التعيّن في كلّ متعيّن بأنّه متبيّن بإنّيّته .
أوّليته ، وآخريته وباطنيته وظاهريته وأزليته وأبديته وأحديته وصمديته نسبه الذاتيّة لا ذاتيته ، فغيب غيبه هويته ، وتعيّن عينه إنّيّته ، وباطن باطنه ذاتيته ، وظاهر باطنه  إنائيّته .
 وظاهر ظاهره إلهيته ، وشهادة ظاهره ربوبيته وحقيقته ، وظاهر مظهره مربوبيته وخلقيته ، وجميع هذه النسب تقتضيها حقيقته .
فسبحان الله الواحد الأحد ، الذي لا يقدح في أحديته كثرة ما يتعدّد ، ولا يمدح أبدا بوحدانيته الخاصّة أحد ، وهو يتعالى أن يوحّد بوحدة محدودة يداخل حد العدّ ، وخارج العدد .
في الأزل والأبد ، حوله لا بأحد ، قوّته لا بعدد ، دوامه ممد المدد ، وبقاؤه يفني المدد ، وسرمديّته لا باعتبار أمد إطلاقه لا يتقيّد بالمطلق والمقيّد ، ووجوده قيّوم ما وجد ويوجد ، أبدا الأبد ، وسرمد السرمد .
والصلاة على السيد العبد ، حامل لواء الحمد ، صاحب المطلع والحدّ .
معدّ نون المدّ ، وممدّ ألف القدّ ، ومحيط حدّ خاء الخدّ ، يعيّن ، أحدية المحبّة والودّ ، وغير غيرية العدّ ، منزّل أحدية جمع الحكم والأسرار ، ومحصّل جمع جميع الكلم والأنوار .
ومفصّل جوامع الجمل في عيون مجامع الأعيان والأغيار ، حامي حريم السرّ بحكمة الستر ، ما حي أثر الشرك وعين الكفر ، حاشر حروف المعاني الشهودية ، من قبور الكلمات الوجودية ، إلى أرض حشر الرشح بالرشحات الجودية ، والنفحات النفسية الودودية .
عين أعيان العناية ، وحرف حروف الهداية ، وكلمة كلم الخصوص ، وحكمة حكم النصوص ، مسمّى الأسماء واسم الذات ، والمثل المنزّه عن مثليّة المتماثلات ، رفات "كاسر" الخرافات المتقابلات المتخالفات ، وأشكال "الزينة" أشكال المتشاكلات المؤتلفات .
محمد المصطفى لفتح أبواب الشفاعة الكبرى ، وختم نبوّات الشريعة المثلى ، سيد الأنبياء والمرسلين ، وسند الأولياء الكاملين المكمّلين ، أحد جمع حقائق الكمّل ، زبدة خلاصة المفصّل والمجمل ، وعلى آله وأهله الأطهار ، وإخوانه الكاملين الأخيار .
مراكز أفلاك المحيط الأشمل ، وعلى سائر صحابته وأتباعه نقطة دوائر العلم والعمل.
خصوصا على وارثه الأكمل ، ومظهره الأتمّ الأجمع الأفضل ، شيخ الكمّل ، الإمام العلَّام ، المخصوص بالوراثة الآخريّة  وختمية الخصوص ، والمنصوص على أكملية وراثته عن خاتم نبوّة الشريعة والنصوص ، واضع أوضاع الحكم في مواضعها من نقوش الفصوص .
مبرّز صفوف عبيد الاختصاص الإلهي بين يدي الحقّ كأنّهم بنيان مرصوص .
علم العالمين بالله في العالمين ، عمدة الورثة الكاملين المكمّلين ، أبي الأولاد الإلهيّين ، خاتم الأولياء المحمّديّين ، محيي الحق والدين ، أبي عبد الله ، محمد بن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن العربيّ الطائيّ الأندلسيّ رضي الله عنه وأرضاه به منه وعلى إخوانه وأولاده الإلهيّين أجمعين إلى يوم الدين .
أمّا بعد :
فإنّ كتاب « فصوص الحكم في خصوص الكلم » من منشآت هذا الكامل الخاتم ، مفخر بني طيّئ وآل حاتم جليل القدر ، عظيم الشأن والأمر .
يروي غليل الصدر ، ويشفي عليل الطلب والشوق لاستجلاء هذا النور ، واستحلاء ما فيه من الذوق والسرور ، يحتوي على كلمات أذواق الحضرات الأسمائية ، وينطوي على أمّهات أسرار الحرم النبوية الاصطفائية ، وأنوار الحصص والنسب الأحدية الجمعية الكمالية .
ويتضمّن نصوص مشارب الكمّل من الأنبياء والمرسلين ، وخصوص مآخذهم من التوحيد ومواجيد الأفاضل منهم والكاملين.
وهو مخصوص بيان ذوق كلّ نبي كامل من الخلفاء الإلهيّين ، ولكن من الوارث المحمدي الختمي ومشرب خاتم النبيّين ، على التخصيص والتعيين ، لا من ورثة غيره من كمّل الأنبياء المذكورين ، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين .
وليس كذلك ذوق سائر أولياء الورثة المقرّبين على ما سيرد عليك في متن هذا الكتاب ، وضمن ما يحوي من الصفاوة واللباب ، إن شاء الله ربّ العالمين .
ولهذا السرّ نهى الشيخ رضي الله عنه أن يجمع بين هذا الكتاب وبين غيره من الكتب في جلد واحد .
سواء كان من مصنّفاته أو مؤلَّفات غيره من أفاضل أصحاب التحقيق ، وأما جد أرباب الطريق ، لأنّ مشرب مقام النبوّة وحماها ، يجلّ ويعلو ويعظم وينبو عمّا سواه .
والأنسب أن تكون أذواقها الخصيصة بمشاربها ، وعلومها المسيسة بمآربها مرفوعة ومعزّزة ، ولا يخلط بينها وبين غيرها ، فتبقى محفوظة ومحرزة مميّزة .
فمن فهم ما أودع مضمونه ، علم من علم النبوة مكنونه ، وفهم من سرّها مضمونة ومصونة . 
ومن تدبّر من أهل حكمه وحكمه أنواعه وفنونه ، فجر الله من سرّه وقلبه ينابيع الذوق وعيونه ، وحصّل من مشربه الخاصّ به ميزانه وقانونه ، وكشف الله له من كلّ مقام من المقامات النبوية الكمالية والدعوة الحقّة إلى الله مشهوره ومخزونه .
ولطالما تطاولت أعناق الهمم المتعالية المتغالبة إلى أسوار ، أسرارها وحسرت عن سواعدها ، وحدقت بابصارها ، فتقاصرت عند تطاولها ، عن تناولها بأيد قصيرة ، وانقلبت بأبصارها عن استجلاء أنوارها حسيرة .
فقنعت عن غور فوائدها ر ممّا تحت بحث معاني كلامه ، ومغاني بديع نظامه ، من حقائق كثيرة ، ومعان خطيرة ، ودقائق خفيّة حفيّة ومستنيرة ، لا يظفر بها إلَّا من كان من أمرها على بصيرة ، فإنّها لا تنال إلَّا بالكشف والإلهام ، وتجلَّي التعريف والإعلام .
ولقد ندبنى إلى شرح معضلاتها وحلّ معقّدتها أكابر علماء الأعلام ، ورغب إليّ في كشف مشكلاتها ، وتفصيل مجملاتها ، وتحصيل محتملات إشاراتها أقوام بعد أقوام .
وطلب إيضاحها واستشراحها من الأصحاب والأقران الكرام ، والأحباب والإخوان الأماجد العظام كلّ إمام علام .
فكنت أكل في كلّ ذلك أمره إلى الله ، وأقدّم الاستخارة والاستجازة على سنّة أهل الله ، عارفا بصعوبة اطَّلاع كلّ سالك على مسالك طريقه ، عالما بضيق عطف كلّ ذي مقام ووطن عن اتّساع ممالك تحقيقه .
لارتفاع مآخذها ومشاربها عن أوكار الأفكار والأفهام ، وامتناع مداركها ومآربها عن أكثر العقول والأوهام.
وربما استصغرني عن هذا الشأو كلّ مستكبر ، واستعظم ذلك عن قدري كلّ مستحقر مستهتر ، ويجلّ  منزلته عن رواية مثله عنّي كلّ معجب بنفسه متكبّر .
ولا سيّما وأهل الزمان في هذا الطور الكشفي ، والتحقيق الشهودي الوهبي بين جاهل بقدرة وبحقّه جاحد ، وبين مستشعر بعلوّ مكانته من وراء حجاب الفكر وعليه حاسد ، فيستنكف في زعمه أن يصعب عليه حلَّه ، أو يرتفع عن حلّ مثله محلَّه .
ويغمض عليه كثره وقلَّه ، ويدقّ عن فهمه دقّه وجلَّه لأنّه في زعمه علم في علم العربية بالموازين النظرية ، والقوانين المنطقية الحكمية .
وعليه مدار العلوم الطبيعية والرياضية ، مشار اليه في الأصول الإلهية وسائر الفصول الحكمية .
وعليه مدار العلوم الكلامية والفقهية ، عالي الرواية في الأحاديث والأخبار النبوية والآثار المصطفوية ، جامع دقائق التفاسير المأثورة ، حاوي حقائقها المشهورة والمستورة .
وهذه هي أصول العلوم الكافية الوافية ، وعن أمراض أنواع الجهالات والضلالات هي الشافية ، ولجميع الشكوك والشبه نافية .
فأنّى يخفى عليه ويبقى لديه من علوم الحقائق وإشارات الصوفيّة خافية باقية ؟
ثمّ النفوس مع هذا مغراة بمعاداة ما تجهل ، مضرّاة بمناواة من ترى أنّه أفضل .
وهي مجبولة على مماراة من تتحقّق الفضيلة في مباراته ، لا بمداراة من تتبيّن الشرف في مجاراته بالجدل.
وقد ظنّت الكمال في المنافسة في الأعلى والأكمل ، والمناقشة في الأولى والأمثل .
فكبّر كلّ كل أحد بما عنده من المعتقد ، الذي أول أوّلا برأيه ، وعوّل عليه ثانيا واعتمد فحجب إمّا بالعجب عمّا لم يجد ، أو بالعجب بما أدرك في زعمه ووجد .
فهؤلاء ينكرون عليّ ما ينكرون ، أو يستكثرون ويتوهّمون عدم صحّة ما لا يفهمون .
" كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ "آية 14 سورة المطففين.
 ثم يوم القيامة  " بَدا لَهُمْ من الله ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " آية 47 سورة الزمر.
" بَلْ قُلُوبُهُمْ في غَمْرَةٍ من هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ من دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ " آية 63 سورة المؤمنون .
"  كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ " آية 53 سورة المؤمنون .
فكلّ منهم على عبادة هواه عاكف ومقيم ، قد اتّخذ إلهه هواه وهو مليم ، يرغب عن الصحيح القويم ، إلى المعتلّ السقيم ، وينكب عن الرجيح المستقيم ، إلى المختلّ العقيم .
ويجنح إلى ما يرجّح في زعمه ومبلغ علمه ، فيهتمّ به وفيه يهيم ، ويحتجّ بما يختلج في وهمه وغاية فهمه بتسهيل  شيطانه الرجيم ، ولا يتذكَّر أنّ " فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ " آية 76 سورة يوسف.
" وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا به فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ " آية 11 سورة الأحقاف .
هذا ، وإنّ لكلّ ذي فهم صحيح ، وصاحب بحث رجيح ، من ذوي القلوب وأرباب الألباب ، في ظاهر عبارات هذا الكتاب .
وسائر إشاراته إلى سائر ما يحويه من اللباب فوائد كثيرة ، وزوائد عزيزة غريزة ، يتوهّم بذلك أنّه على أوفر حظَّ ونصيب .
وأنّ سهمه في حقيقة الأمر مصيب ، وأنّ شعبه في شعب هذا المرتع المريع خصيب .
ولو رزق الاتّصاف بالإنصاف ، ورفق على الاستشراح والاستكشاف ، وجانب طريق المجادلة والاعتساف ، ولم يصدفه عن التعلَّم بتعليم العلم صادف الاستنكاف ، ولم يصرفه عن التسلَّم والتسليم صارف الخفّة والاستخفاف .
لفاز بالاطَّلاع والاستشراف على أشرف الأوصاف وأوصاف كلّ الأشراف ، وحاز جواهر عوارف المعارف بالاعتراف ، عند الاغتراف عن بحور نحور معارف رجال الأعراف .
وتحقّق أنّ الوقوف على حقيقة المراد والفحوى ، بعيد والله عن مرمى أهل الرعونة والدعوى ، وأنّ العثور على المعنى المعنيّ من كلّ لفظ ومعنى ، هو المقصد الأسهمى والغاية القصوى .
فلمّا كان الأمر على ما ذكرت ، بكَّرت وفكَّرت في الإقدام على ملتمسهم ، والإحجام على مقترحهم ، ونكَّرت وأقبلت وأدبرت وذكَّرت كلَّا منهم صعوبة ذلك .
وأنكرت واستكبرت ، وأخبرت إلى بعد ما خبرت الأمر ، واختبرت وتخيّرت تحيّرت ، فكلّ منهم رماني بسهام ملامه ، وادّعى أنّه استعلم الأمر من عند علَّامه ، وأنّي آثم عند الله إن أقصرت عن تعليمه أو قصّرت في إعلامه ، وأعرضت عن إيصاله إلى بغيته ومرامه .
فلمّا ألحّوا عليّ كلّ الإلحاح ، وأقبلوا عليّ بوجوه الحق الصراح ، في هذا الاقتراح بالاستشراح ، فلم أجد مساغا ولا سبيلا إلى التصدّي للصدود والانتزاح ، ولا مجالا ودليلا في تعدّي حدود الصلاح والاستصلاح.
فاستجرت بالله تعالى واستنجزت واستبصرت واستنصرت ، فأيّدت بروح منه ونصرت ، فشرعت بحمد الله  في بيانه بعد تبيانه .
ورشحت بشرحه في أوانه وإبّانه ، وسمحت بتعيين المقصود بعد عيانه ، واستفتحت الكلام بلسان الفتّاح العلَّام ، واستنجحت كشّاف المشكلات على أتمّ نهج وأحسن نظام .
وهو وليّ التعليم والإعلام ، والمليّ بحقائق الأفهام للإفهام ، بتجلَّي التعريف والإلهام ، والموفّق لإتمام الكلام على أتمّ ختام .
والحمد لله أوّلا وآخرا وباطنا وظاهرا ، وعلى أكمل رسله أفضل صلاة وسلام .
تمهيد  ذكر ألقاب شيخه صدر الدين القونوي 
ولقد كان سيّدي وسندي وقدوتي إلى الله تعالى ، الإمام العلَّام ، علم العلماء الأعلام ، شيخ مشايخ الإسلام ، حجّة الله في الأنام ، سلطان المحقّقين ، كهف العارفين الواصلين.
ذخر العالمين بالله في العالمين ، إمام الورثة المحمدّيين ، مكمّل الأفراد والندر من الأولاد الإلهيّين ، أبو المعالي ، صدر الحق والدين ، محيي الإسلام والمسلمين ، محمد بن إسحاق بن محمد بن يوسف القونوي  رضي الله عنه وأرضاه به منه .
شرح لي خطبة الكتاب وقد أظهر وارد الغيب عليه آياته ، ونفح النفس الرحمانيّ بنفحاته ، واستغرق ظاهري وباطنى روح نسماته ، وفوح نفائس أنفاسه ونفثاته .
وتصرّف بباطنه الكريم تصرّفا عجيبا حاليا في باطني ، وأثّر تأثيرا كماليا في راحلي وقاطني ، فأفهمني الله من ذلك مضمون الكتاب كلَّه في شرح الخطبة ، وألهمني مصون مضمون أسراره عند هذه القربة .
فلمّا تحقّق الشيخ رضي الله عنه منّي ذلك .
وأنّ الأمر الإلهي وقع بموقعه من هنالك ، ذكر لي أنّه استشرح شيخنا المصنّف رضي الله عنه هذا الكتاب ، فشرح له في خطبته لباب ما في الباب ، الأولي الألباب .
وأنّه رضي الله عنه تصرّف فيه تصرّفا غريبا علم بذلك مضمون الكتاب ، فسررت بهذه الإشارة ، وعلمت أنّ لي أوفر حظَّ من تلك البشارة .
ثم أشار إليّ بشرحه ، وأمرني برعاية الطالب في ذلك ونصحه .
فكتبت عن أمره بمحضر منه شرح الخطبة في الحال ، على ما شرح بالمقال ، ورشح بالوقت والحال ، امتثالا لأمره ، وإجلالا لقدره ، وفعالا بنفسه المبارك وحكمه ، وتيمّنا بلطفه المتبرّك ، مستمدّا من علمه وسرّه ، وأودعت في ذلك مجملات القواعد والضوابط الكلَّية ، وأمّهات الحكم والأسرار العلَّية الإلَّيّة ، وتفصّل المجمل في سرّي .
ثم أشغلني عن إتمام الشرح تفرّغي لأمره لا عن أمري ، وفجئتني أوامر الحق التي لا رادّ لها من حيث أدري ومن حيث لا أدري ووكلت إليه أمر ذلك إلى أن يعيّن لذلك صفاء وقت وحال من خلاصة عمري ، حتى توفّي الشيخ رضي الله عنه في بلاد الروم .
وانتقلت بعده إلى دار السلام ، وهجم الحقّ عليّ فيها كلّ الهجوم ، ولزمت باب الانقطاع إلى الله والخلوة أيّ لزوم ! .
وفتح الله لي أبواب رحمته فيها أطلب وأروم ، ووفّقت على شرح بعضه بإلحاح بعض الأفاضل ، ممّن له عليّ بذلك حقّ الفواضل .
ثم سافرنا من دار السلام ، قبل الإتمام ، ولم يرد بعد ذلك ، الوارد عليّ بالإلهام للتمام والختام ، إلى أن آن أوانه ، وحان من عند الله إبّانه ، وأذن الله بإتمامه على أكمل نظامه ، وأتمّ ختامه .
القصيدة الدالية :  
مؤيّد لا يقنع بمشهود شاهد        .......        ففي غيبه أقصى مقاصد قاصد
ولست بتال إن تجده بكلّ ما        .......        فقدت ، فقد حصّلت كلّ المقاصد
وكن صمديّ القصد أقصد مقصد        .......        إلى الصمد القيّوم عزمة صامد
وشاهد تشاهد ، فالمشاهد جاهد        .......        مشاهده مشهودة في المجاهد
فإن جذبة جدتك عن كل جاذب        .......        وجادت بوصل فوق طوق المجاهد
 فلا تكن وازن لما فوق طورها         .......         ولا تتركن الجد واجهد وجاهد 
وكن جامعا بين الوصولين واصلا         .......        بجذبة مجذوب مجاهد جاهد 
وحاقق  وحقق - إن تحققت شاهدة         .......        لعينك من غیب۔ جميع الشواهد   
فإن  تتبين  أن  حقا  حقيقة         .......        تعيين في مجلاك، فأثبت وشاهد
وأي تجل كان من أي حضرة        .......        إلهية أو باطن الذات وارد 
فحق لحق أن  يقوم  بحقه         .......        أحق قیام قائما بالقواعد 
وإن كان روحا، روح القلب ریحه        .......        بروح وريحان وعين الفوائد 
ونفس عن النفس النفيسة كربها         .......        بأنفس أنفاس الوجود وساعد 
فما النفس إلا أنفس النفس الذي         .......        تنفسها الرحمن من نفس واجد 
وإن هي أهوت للهوى يد بيعة         .......        فعظها وتهنهها وخذ بالمراشد 
وإن أولت من أول الأمر، سولت         ....... كوعد لوعده في المواعد واعد       
فلا تطمعن أو طمعن أن تطيعها         .......  وتعطيها منك انقياد المعاضد     
وإن كان روحاني أهل طريقنا         .......      فصدق وصادقه و واعد وعاود   
وكن أنت نورا إن تروحت بينهم         .......    وخل خلال الأنس وأنس وصاعد     
وإن كان خدنا تابعا فمبایع         .......        وإن كان شيطانا عنيدا، فعاند 
فلا تله في لهو وله متألها         .......        وباللهو لا توله ولا تتبالد 
فكل تجل في تجل، وكل ما         .......       تراه تحل في تحل فشاهد 
ولاته بالأشكال عن مشكل بها         .......        فهي للاشكال تشكیل واحد 
نقوش واشكال تراءت كما ترى        .......       على سطح وجه البحر كالمشاهد 
وقل : موجد الأعدام وجدا بجوده !        .......       ومظهر أعيان الغيوب لشاهد !
أعذني وعدلي بالعناية واعدلي        .......       عدوّ عدوّ راصد لي مراصد
وكن لك بي كونا وكن في كناية        .......       وكنني بلا كوني كما كنت واعدى
وكن ظاهرا بي ، باطنا لي بلا أنا        .......       أكن لك عين الكلّ والكلّ فاقدي
فإنّي امرؤ قد خمّر الله طينتي        .......       بسرّ هواه قبل أوّل والدي
ألفت هواه قبل تأليف تالف        .......       وخلَّد في خلد الحقائق خالدي
ولبي له قلبي ولبّى قبل أن        .......      ينادى يناديه طريفي  وتالدي 
ومالي محيد عنه عذرا ولست عن        .......       طريق الهوى العذريّ عمري بحائد
وعهدي به أنّي أهيم بحبّه        .......       وفيّ وفى لي بعهد معاهد
عصيت عذولي طاعة لغرامه        .......       فأسلم " شيطانى " وآمن "ماردي "
وعشق جرى في عرق روحي بقاصد        .......       لقتلي ومن عرق بعينيّ قاصد
حشى في الحشى حاشاك يا جنّة المنى        .......       جهنّم شوق للمواقد واقد
تنهّدت من شوق الذي أبدا معي        .......       تنهّد مثلي ، لا لأجل النواهد
حضوري به حيّ وصبري ميّت        .......       بشاهد طرف باهت غير راقد
حياتي بحيّ لا يموت ، وإن أمت ،        .......       أمت بهواه وهو عيشى بحاشد
ومالي فداء بعد ما قد أفادني        .......       فؤادا فئيدا فيه إن فاد فائدي
وإذ بحياة الحيّ حيّ حقيقتي        .......       فلا بأس إن في حبّه باد بائدي
ولي غوص في الله عن كلّ مطلب        .......       وما فاتني منّي به منه عائدي
تنهّدت لمّا انهدّ طوري بطوره        .......       وينهدّ من أجلي ، أجل كلّ ناهد
سقى بعهاد الأنس معهد عهدنا        .......       ولم آنس إنسا بين تلك المعاهد
يقظت لإدراك النباهة لا ترى        .......       لها أثرا عين غفت في المراقد
لئن طاف بي طيف الحبيب وعادني        .......       فمن عادتي أنّ الوصيد وسائدي
فلو أرم  وصلي بالتنزّل فجأة        .......       فذلك مأمولي وأنهى مقاصدي
يصادفني عما سوى الحق صادف          .......        بجانب صدقي كاذبات المواعد  
وإن عرج الإسراء نحو حماه بي           .......       عرجت ولم أرجع رجوع القواعد
فإني إذا أزمعت في السير نحوه           .......      أسر لم أعرج بالنجوم الرواكد   
فلو ساقني الإقبال نحو فنائه           .......          وصلت إليه بقطع الفدافد   
فشوقي إلى من كان بالأصل شائقي         .......   وشوقي إليه سائقي وهو قائدي
وإن يتفق قصدي إليه وقصده           .......        إلي لأصل الباعث المتوارد     
فقد عاد عيدي جمعة والتقيته           .......        منازله الأوساط للموافد  
وإن القه فوق المواسط إنها          .......         حتي تدلي الرب أكرم وافد  
وإن القه دون المواسط إنها           .......       تدان لدان بعد وهم التباعد 
فخذها مقامات اللقاء مرتبا           .......       عليها تلقى ما يلقى لرائد   
أخذت من العلام علمي، فماله           .......      نفاد وما من عنده غير نافد  
فرائد نفسي من فرائده وما           .......       فرائد قوم من نفوس فرائد   
فهم أخذوا عن ميت ميتا فلا           .......      صفاء ولا ماء مكاء لسامد 
وعيدي جديد كل آن وإن أبت           .......     عناكب ذبان أتت بقدائد     
ومن عنده للعبد في كل لحظة           .......     عوائد أنعام عليه عوائد     
بقلبي ورأسي من گراس نوره           .......   كراسي جبال راسخ غير مائد     
وبصرني بالحق كل محقق           .......      بصیر بأسرار الحقائق ناقد      
وقيدت بالشرع المطهر حكمتي           .......    وأطلقت عقلي عن عقال العقائد     
ورضت سباع النفس علما فما طغت          .......  وأمست أسارى في قيود القائد     
بيت على علم الحقائق فهي لي           ....... وبي إن أجادل دونه أو أجالد         
وفي مهدها نيطت علي تمائمي          .......        وعني بأيديها أميطت معاضدي        
وإن أنا بالتحقيق ناضلت أمة          .......       وناظرتهم فالكل فيد الطرائد  
يناقض علمي جاهل بي بناقص        .......       من الرأي في الرابي بما لم يضادد
فيجهل علمي أني عالم به          .......         ويجهل جهلا عنده في التزايد       
فاركب من علمي براق مشاهدي          .......     ويركب في جهل ترب فاسد        
تجاهلت للجهال علما بجهلهم          .......        علي وعلم في ذوي الجهل كاسد  
وناسبت اضدادي بودي وضد ما          .......    اتوا؛ إذ أبوا فضلي بفضل زوائد        
بعيني أرى في ضد عيني مناسبا          .......   العيني وأنفي فيه عين مضاددي       
وأشهد في الأضداد سر تماثل          .......       وضدية لم تبد فيمن يواددي   
ففي كل شيء كل شيء كما أرى          .......    سرى الكل في كل بكل فوائد      
ومن كادني ما كادني كاد أن          .......       يعود إليه بي  مكائد  كائدي    
فقد شد أزري الحق بالحق دونهم         .......    وركني شديد عند شد الشدائد       
لي العزة العظمی بربي، وذلتي          .......    الذاتي بعيدا نيتي  في المعائد      
وإن يرض أرضا نور عيني لوطئه      .......  سما في سماء العين أسماء صاعدي         
ولي نفس خاف هو من الخوف خافت       .......    على رمق من خشية الصد حامد          
بماء حياة الوصل حادت سماؤه          .......       على میت كالأرض بالذل هامد   
أذلل نفسي لا لذلي؛ فإنني          .......           مشاهد عز في أعز مشاهد 
جميع الأماني من وصالي واصلي          .......      وكل مراد من م رادي رائد    
وأعطى سرير الملك قوما وإن أرد         .......      سلبتهم تيجانهم بالمعاقد      
مناهل س ري بالتجلي أواهل          .......      صفت أو ضفت منها موارد وارد  
يريد بأني لا أريد وإن أرد     ……        يرد مرادي من جميع الموارد 
روي عطاش الكشف فيض صبابتي     ……    ويشبع غرثى العلم فضل مزاود 
أقيد بالتقييد أيدي تصرفي      ……        وأطلق بالإطلاق ألن حامدي
فشف آذان الزمان قصائدي      ……      وشرف أجياد الوجود قلائدي  
بطبع كماء السلسبيل سلاسة      ……     وفكر كفعل النار للماء عاقد   
جريدة قد جردتها لخرائد      ……        وأبكار أفكار تزین جرائدي 
وإن حنت بالحسن كل خريدة      ……  لقد حست حسن الحسان خرائدي      
وواسطة للعقد كل فريدة      ……       فرادى لأفراد الورى من فرائدي 
وشاد بإنشاد تشيدي يشدد      ……      لأركان بنيان المعارف شائد  
ومن صادر مني إلي و وارد      ……        برائد غیب نحو عيني برائد 
ورأس برأسي أن بين حقائقي      ……      دقائق فرق راودتها مراودي  
فلو صورتاژوح شريف منور      ……      وجسم نحیف كاسف اللون كامد  
ومن حيث إني برزخ لحقائقي      ……      على طرفي شطري لست بزائد  
ومطرد مي انعكاس أشعتي      ……        علي بنور للضلالات طارد
لأني بإنسانيتي وحقيقتي      ……        مع أعيان الشهود الشواهد 
وإني لذات الذات إنسان عينها      ……   وناظر عين العالم المتوالد     
ولدت أبي من قبل أمي وأمها      ……   وأنكحتها إياه حين توالدي     
وقد خال عمي أنني ابن أخ له      ……     ألم يدر أني جد ام الموالد؟    
وإني أبو الآباء قبل بوتي      ……      لهم وهم في نشأة لي ولائدي   
وكنت أبا للأمهات وجدها      ……      وبعلي وعرسي  إن فهمت مقاصدي   
وأرضعني الرحمن من ضرع نوره     ……   وتربيتي في حجره ومقاعدي    
وإذ قمت بالفيوم قامت قيامتي     ……      وقل بحد الجد عقد تقاعدي
وهل يغلب الورقاء مني عقابها       ….        وعنقاء قافي في شراك المصائد؟
ومن يتفكير في عواقب أمره        ….        بدافي مباديه بوادي المراشد
أردت ارتياد الاصطياد وإنني       ….      أرى الصيد في جوف المصائد صائدي 
ضنيت فأغناني الضني عن مراقبي    ….   فليس يراني مدبرا في عيون حواسدي     
فأخفي مكاني خلف ع حجابه        ….      فلم اتبين في عيون حواسدي  
محا اسمي ورسمي والمسمى هو اسمه   ….   وذا الرسم وسم في أصح المواجد     
وقد فنيت إني في هوية        ….        إحاطية ذاتية لم تشاهد 
هويته بقي فناء هويتي        ….        فإني به فيه عدیم الواجد 
فكلي كقلب للتجلي مؤهل        ….        بكل تحل للتحلي معاقد
يسمع لأقوال الحقائق منصت        ….      وطرف لآيات الوجود مشاهد  
حضوري بقلب فيه عني غائب        ….     وشاهد طرف شاخص فيه شاهد   
بعيني حمدت الحق من حيث حمده        ….   له مطلقا من كل حمد وحامد     
وكل مديحي في سواه فإنه        ….        له وهو أبهی مقصدي في قصائدي
هداي ضلالي فيه عني وغيره        ….     فلا يهتدي نحوي مدارك ناشدي    
يصل إليه بي بعين صلاته        ….        علي فمعبودي له عين عابدي 
قيامي به عين الركوع وإنه        ….     تشهد مسجودي على عين ساجدي   
فيشهدني فيه بعيني عينه        ….      ويشهده بي عين غيبي وشاهدي  
وأشهده عين الشهادة شاهدا        ….     وعين عيون الغيب فانظر شاهد   
وأجمع بين المشهدين بجمعه        ….     وإطلاقه عن قيد إطلاق عاقد   
وإن ينحصرني أمهات مشاهدي        ….   فلا يتناهی فیضه بالزوائد     
كاني وإياه بجمع حقيقة       ….        إحاطية في واحد ضرب واحد
سلالة سلسال من الماء سال في        ….    إناء من النور المجد جامد    
ومتحد أبصارنا ببصائر        ….        الإبصار وجه الحق حقا حدائد 
وإني ونور لاری متبرقع        ….       بسبعين ألفا من حجاب و زائد 
سوى أنه قد أخرقت سبحاته       ….     فلا شيء منها عن شهود بزائد   
وليس لنا لبس للبس ملابس    …..         يلابس لبس بعد لبس جدائد 
فمالي حجاب عنه وهو مواجهي  …….     بوجه محيط بالجهات مراود 
فكلي عيون شاهدات وكله      ……       وجوه تجل لايغيب وشاهد 
يحدثني طول النهار وإنه        ……      سيأمرني طول الليالي الخوالد 
وكلي له عند الحديث مسامع   …..        بكل قلوب في تلقي الموارد 
وكلي لسان إن اقل عنه أو به    …..       بكل ثناء فيه كل المحامد 
وقدر علينا كل ليل بوجهه    ……       ولي كل يوم منه بالعيد عائد
 فحمدا له دوا وعودا وعائدا   …..       إليه جميع الحمد من كل حامد
هذه الغراء الدالية، صدرتها في هذا الشرح كالعلاوة.
وفيها من غرائب المعاني ولطائف الإشارات والعبارات البديعة ما لا يخفى على المتأمل المحقق والمستبصر المدقق.
وتتضمن أحوال أذواق التوحيد المذكورة في هذا الكتاب من مشارب مخمل الأنبياء المذكورين .
وغير ذلك مما يختص بالمشرب الكمالي الجمعي الأحدي المحمدي الختمي.
وتستكشف ما أشكل منها من الحواشي التي ربما أومأنا إليها بها، إن شاء الله تعالى.
وقد حان أن نشرع في شرح خطبة الكتاب ، وما تحويه من الخلاصة واللباب.
وقد ذكرت في كل كلمة كلمة من متن الخطبة مباحث كثيرة، وعلومة عزيزة خطيرة، وقواعد مهمة جليلة علمية، وضوابط كلية جلية.
وذلك في نفسه بمفرده كتاب جامع ، وبحر واسع، والله الموفق للطالب المؤمل، والراغب في التدبر والتأمل.
على ما دسست في خباياه، وضمنت مطاويه من الأسرار، لأولي الأيدي والأبصار، وأرباب الاعتبار والاستبصار . 
والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا وجامعا محيطا حاصرا.
وصلى الله على الصفوة من عباده كافة، وعلى محمد خاتم الرسل، وفاتح الأبواب والسبل، وآله الطيبين الطاهرين، وإخوانه الكاملین، والصحابة أجمعين، والتابعين لهم في السنة المحمدية المطهرة إلى يوم الدين خاصة .

.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الأحد يوليو 21, 2019 9:08 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث الأوّل من مباحث خطبة الكتاب "في الحمد" للشارح مؤيد الدين قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 11:51 am

البحث الأوّل من مباحث خطبة الكتاب "في الحمد" للشارح مؤيد الدين قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث الأول على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
بحوث للشارح مؤيد الدين الجندي يراها لازمة لتدبر أسرار الكتاب بإرشاد شيخه صدر الدين القنوي
قال الشيخ رضي الله عنه « الحمد لله منزل الحكم ، على قلوب الكلم ، بأحديّة الطريق الأمم ، من المقام الأقدم ، وإن اختلفت النحل والملل لاختلاف الأمم ، وصلَّى الله على ممدّ الهمم ، من خزائن الجود والكرم ، بالقيل الأقوم ، محمّد وآله وسلَّم » .
قال المؤيّد رحمه الله :
 في خطبة الكتاب ستّ عشرة كلمة تحتوي على مثلها مباحث كلَّية .
وإن استلزمت مباحث أخر ضمنيّة تفصيليّة على ما سيرد عليك ذكرها ، وينكشف عند التدبّر والتأمّل سرّها .
التفصيل في مباحث خطبة الكتاب
البحث الأوّل من مباحث خطبة الكتاب في الحمد
الأوّل منها في الحمد وفيه عشرة أبحاث - يتضمّن العاشر منها عشرة - :
البحث الأوّل : في حقيقة الحمد وتعريفه
اعلم أيّدك الله بروح منه : أنّ الحمد في عرف التحقيق تعريف المحمود بنعوت الكمال ، وذكره للمخاطب بما هو عليه من الفضائل ومحاسن الخصال ، فكلّ حمد من كلّ حامد على كلّ محمود تعريف للحامد من المحمود بما يستحقّه ، وذكر له بفضائل هي خلقه وحقّه .
كقولك : « إنّ زيدا عالم ، عادل ، حكيم ، جواد ، كريم » . فعرّفته بالعلم والحكمة والعدل والجود والكرم ، عند المخاطب .
البحث الثاني : في تقاسيم الحمد
وهو ينقسم بالقسمة الأولى إلى قسمين :
أحدهما : أن يكون الحامد هو الحقّ .
والثاني : أن يكون الحامد هو الخلق .
ثمّ إنّ كلّ واحد من القسمين ينقسم إلى قسمين
بأن يكون المحمود في كلّ واحد منهما أيضا هو الحقّ أو الخلق كذلك .
فإن كان الحامد والمحمود هو الحقّ ، فهو سبحانه يحمد نفسه لنفسه من حيثيّتين أو حيثيات ، فيكون معرّفا في حضرة أو مرتبة لنفسه من حيث ظهوره في أخرى.
فهو يحمد نفسه ويعرّفها بما يستحقّه من الكمالات الذاتية والإلهية والأسمائية وغيرها .
وفي هذا القسم مباحث :
البحث الثالث
وهو أن يحمد نفسه من حيث هويّته العينيّة واللاتعيّنيّة ، وإطلاقه وغيب ذاته غيبة الغيبيّة ، ويتّحد الحمد والحامد والمحمود في هذا المقام .
ويستحيل تعقّل تميّز الحامد عن الحمد والمحمود ، إذ لا لسان فيه ، ولا وصف ولا نعت ولا حكم أصلا ، لقهر الأحدية الذاتية كثرة في تميّز الحمد عن الحامد والمحمود ، وغاية العبارة الإشارة إلى التعريف .
والحمد الخاصّ بهذه المرتبة هو بكمال الإطلاق عن كلّ تعيّن ونسبة ، وأنّه الكامل بالذات على الإطلاق .
وقد يقال :
إنّه لأحمد من هذه المرتبة ، والمراد نفي النعت ، وسلب تميّز الحمد عن الحامد والمحمود .
والحقّ أنّه يعرّف ويحمد بإطلاق حمد الحمد الذاتي المطلق مجملا كما مرّ بلا تفصيل ، فافهم .
البحث الرابع
حمده -سبحانه نفسه من حيث تعيّنه الأوّل ، المحيط بجميع التعيّنات .
فحمده له فيه تعريف وحمد مستغرق جميع المحامد ، ويستوعب جميع المحاسن والكمالات ، ويحيط بسائر الفضائل والنعوت تماما ، وأنّه منه تنبعث الكمالات والمحامد ، وينفصل آخر ما يتحصّل ، وفيه يتّحد في الأوّل ويتأصّل .
وهو تعريف وحمد ذاتي للذات ، في أعلى مراتب حمد الحمد القائم بالذات ، تعالت وتقدّست فهو يحمد ذاته المطلقة بعين تعيّنه أوّلا .
ويعرّفها بأنّها أصله لأنّ التعيّن بحقيقته يدلّ على أنّه مسبوق باللاتعيّن ، وأنّ وراءه ما لا يتعيّن ، ويعظم أن تعيّن أو تبيّن .
ومنه ظهر المتعيّن ويعيّن ويميّز من وجه عن ذلك الأصل وتبيّن فيعرّف ذاته المطلقة في هذا المقام بمحامد سلبية وكمالات تنزيهية ، ويعرّف ذاته المتعيّنة بالتعيّن الأوّل بأحديّة جمع جميع الكمالات الثبوتية والسلبية ، فافهم .
البحث الخامس
هو حمده سبحانه ذاته بعلمه الذاتي بأنّ جميع الكمالات والنعوت والأسماء والصفات والنسب والإضافات  على التعيين والتفصيل ثابتة له كلّ الإثبات .
والمحامد من هذه المرتبة صفاتية ، وفيما فوقها ذاتية ، في تعرّف نفسه بكشفه وإحاطته بجميع التعيّنات العلمية على التمييز والتعيين حسب المعلومات .
وأنّه هو المعلوم الحقيقي المتعيّن في أعيان المعلومات ، فيعرّف ويحمد ذاته بأنّه محيط بعلمه الذاتي بما يعلم منه ، ومحيط إحاطة ذاتية بعلم ما لا يعلم ولا يحاط به بأنّه كذلك لا يعلم ولا يحاط به .
البحث السادس
هو أن يحمد الحقّ ويعرّف ذاته ، بحقائق ذاته ، ويعرّف أيضا حقائق ذاته بذاته جمعا وفرادى بأنّ ذاته أحدية جمعها ، وأنّها شؤونه الذاتية وحقائق تفاصيل كمالاته الذاتية .
وأنّها في الذات عينها ، فهي هي فيها على الأحدية .
وأنّه فيها أي في حقائق ذاته أو شؤون ذاته متكثّر الأسماء والصفات والنعوت والإضافات ، وأنّ جميعها ثابتة له على أكمل وجوه الإثبات عند العلماء الأثبات .
البحث السابع
حمد الحقّ حقائقه المؤثّرة الفعّالة الوجوبية - وهي أسماء الألوهية والربوبية – بأنّها هي المؤثّرة في الكائنات ، وأنّ الألوهية والربوبية تثبت للذات بحقائق هذه النسب والصفات .
فهي أركان الألوهية وقواعد بنيان الربوبية وربّات الحقائق الانفعالية الإمكانية .
وكذا يعرّف ويحمد أيضا بحقائق الوجوب والفعل والتأثير حقائق الانفعال والتأثّرات الكيانية بأنّها مجال تجلَّياتها ، ومحالّ تنزّلاتها ، ومظاهر تعيّناتها ، وحقائق متعلَّقاتها ، وأنّ تحقّق جميع هذه النسب الربانية يتوقّف على هذه الحقائق الكيانية .
البحث الثامن
أن يحمد الحقّ هذه الحقائق كلَّها بأنّها أحواله الذاتية ، وشئونه العينية النفسية ، ونسبه الغيبية الإنّيّة ، وهي فيه عينه لا تتميّز عنه ولا تغايره ولا توجب كثرة منافية لأحدية الذات .
ولا ظهور ولا تعيّن للذات إلَّا بها وفيها وبحسبها أزلا وأبدا ، وأنّ ظهور الذات بها متنوّع التعيّن ، وتجلَّي الوجود فيها مختلف التميّز والتبيّن .
وكذلك توحّدها في الذات واستهلاكها في أحديتها ذاتيّ للذات ، اقتضت بحقيقتها الأمرين معا ، فهما ثابتان له أزلا وأبدا عند التفات الأثبات .
البحث التاسع
هو حمد الحقّ من كونه عين الوجود الظاهر المشهود نفسه من كونه باطنا لأنّه عين الظاهر والباطن فهو  سبحانه يحمد بظاهريته ومظهريته التي هي مجلى لغيبه فهو بإنّيّته الظاهرة التفصيلية المتعيّنة بإنّيّات الموجودات .
يعرّف ويحمد هويّاته الباطنة الغيبية العينيّة ، وكذلك يعرّف ويحمد بكلّ عين عين من الأعيان - الغيبية المعنوية الثابتة في عرصة العلم الذاتي الأزلي .
مظاهره ومرائيه ومناظره ومجاليه الخصيصة بها في الوجود بأنّها صور أنانيّاتها ، وأنّ الأعيان وإن كانت معاني هويّات تلك الأنانيّات فإنّها صور إنّيّات الذات الغيبيّة ، فافهم .
وافرق بين التاسع والثامن ، ولا يعسر عليك إن شاء الله تعالى .
البحث العاشر
مشتمل على أقسام حمد الخلق للحق ، وحمد الحق خلقه من كونه خلقا و « سوى » بثبوت ما به امتياز مرتبة الخلقية عن مرتبة الحقّيّة الواجبيّة الربّانية .
بثبوت الافتقار الذاتي للخلق ، وثبوت وجوب الوجود بالذات لمرتبة الألوهية ، وهو القسم الثاني من التقسيم الأوّل ، أخّرناه ليتمّ أقسام القسم الأوّل .
والتقسيم الكلَّي الحاصر للحمد في هذا التقسيم من خمسة أوجه في جانب الحقّ ، وجانب الخلق كذلك بمثلها  وهي أمّهات الحضرات الخمس الأخر - :
الأوّل : من حيث عالم المعاني وهي صور معلوميّات الأشياء لله تعالى ومعنويّاتها أزلا ، ويسمّيها أهل الله الأعيان الثابتة .
ومحامد هذه المعاني والحقائق للحق تكون بألسنتها الغيبية واستعداداتها غير المجعولة وخصوصياتها الحقيقية بأنّها شؤونه المعنوية .
وأنّ الحق مسمّى بها وظاهر فيها بحسبه كما مرّ وأنّها معيّنات الأسماء الإلهيّة الوجوبية ، ونسب الربوبية ، ويختلف هذا القسم بمقتضى خصوصيات الأعيان .
الثاني : حمد الحق لعالم الأرواح وتعريفها وحمدها للحق يكون بالتنزيه والتسبيح والتقديس والطهارة والوحدة والبساطة والشرف والنورية طردا وعكسا ، جمعا وفرادى ، كقوله : سبحان الله ، وسبّوح قدّوس ، ربّ الملائكة والروح . ومثله .
الثالث : من حيث عالم المثال وصوره ومحامده للحق ومحامد الحق لها فيه إنّما تكون بتجسيد التجلَّيات ، وتشخيص الأعيان المعنويات ، وتصوير الأسماء والصفات ، وإظهار المعاني والأرواح متمثّلات في الأشكال والهيئات بأنّ لها قوّة التجسّد والتشكَّل والتمثّل محسوسة كالجسمانيات والتحيّزات وإن لم يكن كذلك في الذوات .
الرابع : محامد الأرواح والمعاني للحق ، ومحامد الحق لها أيضا بتمثيلها وتشكيلها
المشاهد بأنّها أشكال شئوناتها ، وصورها المعنوية العقلية بحسب اللوازم ولوازم اللوازم بما بينها من المناسبات والمباينات والنسب والإضافات وصور الجمعيات ، ولكنّها مقيّدة بالقوّة المتخيّلة في الحسّ المشترك من كلّ حيوان له قوّة التخيّل والتصوّر .
والفرق بين الأوّل والثاني أنّ الأوّل صور تمثيلية وأشكال وهيئات أول يتمثّل ويتنزّل فيها الأرواح والمعاني والتجلَّيات بحقائقها وبأنفسها هي لها قوالب وهياكل روحانية ونورانية بخصوص مقتضياتها ، لا بالنسبة إلى الشاهد ، وفي حسّه المشترك .
وفي الثاني بحسب المتخيّل ومرتبته وشهوده .
الخامس : عالم الأجسام والجسمانيات ، وهي جمعا وفرادى تحمد الحقّ بذواتها ووجوداتها ومراتبها وأرواحها وقواها وألسنة أحوالها واستعداداتها بموجب علوم ومعارف آتاها الله وتعريفاتها للحق بالكمالات الثبوتية الوجودية الخصيصة بالجسمية الكلَّية وبكلّ جسم جسم منها وبكلّ موجود موجود من المتحيّزات الجسمانية .
والوجودات الخلقية الكيانية من حيث حقائقها ومعانيها ، ومن حيث أرواحها ومثانيها روحيّها وعقليّها ونفسيّها ونوريّة معانيها .
ومن حيث تمثّلاتها وتشخّصاتها وتجسّداتها الروحانية ومبانيها المثالية العقلية النورانية والمثالية والخيالية والجسمانية طبيعيّها وعنصريّها تحمد الحقّ وتعرّفه بذواتها ومراتبها وأفعالها وأحوالها ونسبها وإضافاتها دائما .
والنوع الإنساني بأنواع لغاتها وتسبيحاتها وتحميداتها وتمجيداتها وتهليلاتها وتكبيراتها أيضا يعرّف الحق ويحمده على ما عرفت وقد دوّن في ذلك الكتب .
وتعريف ذواتها وحمدها للحق يكون من وجهين :
أحدهما : بتنزيه الحق وتقديسه عن خصائص النقائص التي هي عليها من حيث كونه غنيّا عن العالمين ، وسلبها عنه .
والثاني : تعريفه ونعته تعالى بما هي عليه من أنفسها وأعيانها من الكمالات الخصيصة بأنّها ثابتة له من حيث هي على الوجه الأكمل .
فهذه أمّهات تحميدات الموجودات بألسنة مراتبها الكلية الوجودية للحق ، وتعريف الحق لهم بأنّها ملابس نوره ومرايا ترائي وجهه وشعوره وقصور حوره.
ولو شرعت في التعديد والتفصيل ، لأدّي إلى التطويل .
وهذه إشارات كلَّية إجمالية إلى أقسام الحمد وأنواع المحامد مشحونة في مطاوي الكتب المنزلة كالصحف والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان .
وفي الأحاديث والأخبار والقصص والآثار ، وفي الدعوات المأثورة ، والأقسام والكمالات النبوية المنقولة المشهورة ، وذلك أمر لو سكتّ عنه كيفيّته فسكتنا عن إيرادها في هذا الكتاب وتعدادها .
ومن جملة هذا القسم حمد الخلائق بعضها للبعض وتعريفها عرفا بالمدح والثناء .
وذلك أيضا تعريف لذلك المثنى عليه بفضائل خصيصة به ، وأقسامها أيضا مع كثرتها وعدم تناهيها مشهورة مذكورة ولا حاجة بنا إلى تحديدها وتعديدها .
وفي مشرب الكمال كلّ ذلك حمد للحق من الحق من حيث كون الحق باعتبار الوجود الظاهر بالكلّ في الكلّ - عين الكلّ -فافهم .
كما قلنا شعر :
وكلّ مديح في سواه فإنّه له   ...... وهو أنهى مقصدي في قصائدي
وقد تمّت المباحث العشرة التي يتضمّن العاشر منها عشرة ولم يذكره .
وذلك أنّ المحامد الكلَّية الخلقية تنضاف إلى الخلق من كون الخلق حامدا للحق ولبعضه من البعض من حيث هذه الحضرات الخمس .
فمن قبل الخلق خمس مراتب حمدية ، ومن جهة الحق المتعيّن بالوجود الخلق في كلّ عين عين من الأعيان الخلقية - لها خمس أخرى .
فكل واحدة من حقيقتي الحق والخلق الظاهر كلّ منهما بكلّ منهما تحمد الأخرى وتعرّفها بما هي عليه من المحامد .
وأمّا العاشر المحيط بالعشرة فهو حمد الحمد القائم بالحق والإنسان الكامل في كلّ عصر .
وبيان ذلك :
أنّ كلّ كمال ظاهر وقائم بالحق أو الخلق والإنسان الكامل في الذات والأسماء والصفات والأحوال والأخلاق والنسب والإضافات في جميع المواطن والمراتب والمقامات يحمد ويعرّف من قام به بنفس قيامه به .
وليس كلّ ذلك بأمر زائد على سرّ التجلَّي الإلهي الجمعي الأحدي ، الذي ظهر بالإنسان الكامل الجامع الواحد جمعا أحديّا وتفصيلا جمعيّا قرآنيا .
وبالإنسان المفصّل الفرقاني ، الذي هو العالم جمعا وفرادى بموجب الحضرات الأسمائية وبمقتضى النسب العلمية والشؤون التي هي الأعيان الثابتة .
فيكون كل واحد من الإنسان الكامل الجامع والعالم حامدا ومثنيا على الحق وعلى كل واحد منهما جمعا وفرادى ، إجمالا وتفصيلا من كل واحد وبكل اعتبار بنفس الدلالة على أصل منبعه ومنبعث مهيعه من الجناب الإلهي .
ومعرّفا للحق من تلك الجهة وذلك الاعتبار إمّا تفصيلا وجوديا في العالم من مفردات الوجود وفي كلّ عين عين من أعيان العالم ، وإمّا باعتبار أحدية جمع الجمع الكمالي الإنساني في الإنسان الكامل مدّة في مقامات المضاهاة العظمى والمثليّة المثلى.
من حيث ظهوره بالصورة الإلهية ، وهي أمانة الله عنده ، حملها الإنسان حيث قصر وعجز عن حملها غيره من الموجودات الكونية ، كما قال عزّ من قائل" إِنَّا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ " وهي كلّ من له سموّ من المراتب الكلية " وَالأَرْضِ " وهي السفلى " وَالْجِبالِ " وهي التعيّنات العالية " فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الإِنْسانُ "  .
وثانيا كرّة أخرى عن مقام المباهاة الكبرى ، التي ظهر بها الإنسان الكامل أيضا من حيث ظهوره بكل كمال ونعت وصفة وحكم تعيّن في العالم في الفرق .
فإنّه ظهر به وفيه على الوجه الأكمل الأجمع ، ومن حيث ظهوره بنقائص أيضا هي نقائض الكمالات المذكورة آنفا .
فحمده التفصيلي هو أنّ كلّ حقيقة حقيقة من حقائق ذاته روحا ونفسا وقلبا وسرّا وجسما وكلّ لازم وقوّة ونعت وحكم لكلّ من ذلك .
بما ينطوي عليها ذاته ويحتوي عليها نشأته يحمد الحقّ ويعرّفه من حيث الاسم الإلهي ، الذي تستند إليه تلك الحقيقة أو القوّة أو الصفة وغيرها ، وترتبط به من خشيته وبه ظهر فيه وتعيّن الوجود الحق .
وحمده وتعريفه له بكل منها بالألسنة الخمسة المذكورة وهي :
لسان الذات ، ولسان المرتبة ، ولسان الحال ، ولسان الاستعداد ، ولسان أحدية جمعه الكمالي ، فمحيط وجامع بجميع دلالات الأسماء والصفات والعوالم والحضرات والنسب المرتبيّة والإضافات بمحامد لا تتناهى ، ويسمّى حمد الحمد من مقام أحدية جمع الجمع الكمالي الإنساني ، فافهم .
وذلك أنّه لمّا كانت التجلَّيات الذاتيّة والإلهية والرحمانية دائمة الوصول بأجناس النعم وأنواع العطايا وأصناف المواهب إلى الإنسان الكامل من جميع المراتب الذاتية والأسمائية .
تعيّنت هذه النعم والآلاء من لسان أحدية جمع الجمع الكمالي الذي للإنسان الكامل حمدا كلَّيا إحاطيّا كماليّا جامعا لجميع المحامد بنفس قيامها وظهورها به وفيه في مقابلة تلك النعم والمواهب المحيطة الأحدية الجمعية ، من حيث إنّه بالذات والمرتبة والوجود محمد ويعرّف الحق ويعرفه بالحق والعالم وبه معرفة وحمدا وتعريفا جامعا بين الحمدين دائما في كل حالة ، لا في حالتين ، وعن هذا الحمد يعبّر بحمد الحمد .
فافهم والله الموفّق.  
تتمّة للمباحث الحمدية
منها : أنّ جميع هذه المحامد إن كان - مقيّدا أو متعيّنا من المحامد في مقابلة ما وصل إليه ومجازاة ما أنعم الله عليه من النعماء والآلاء بالمشار إليها من حيث كليات مراتبها ، فإنّه يخصّ ب « الشكر » .
وإن لم يكن في مقابلة شيء منها ولا معاوضة ولا مجازاة - كما مرّ - بل حمدا وتعريفا بما هو عليه من الكمالات والفضائل والاستحقاق والأهلية ، فإنّه يخصّ بلفظ « الحمد » .
وإن كان من خلق ثناء وتعريفا لخلق آخر من حيث خلقيته ، يسمّى « مدحا » إن كان بما هو فيه من الكمالات ، وإن كان بما ليس فيه ، فذلك « مده » بالهاء .
ومنها : 
أنّ تعريف كلّ معرّف وحمد كل حامد باللسان والقلب قصدا لكلّ من يحمده ويعرّفه إنّما يكون بحسب معرفته به أوّلا ، حتى يتأتّى له التعريف به عند من لا معرفة له بالمحمود ، وتعريفا بمعرفته بالمحمود ثانيا .
فكلّ من كانت معرفته بالله أتمّ وأكمل ، كان حمده له أتمّ وأفضل وأعمّ وأشمل ، وتفاضل الحامدين المعرّفين لله في محامدهم وتعريفاتهم بحسب تفاوت معرفتهم بالله .
فحامد له تعالى من حضرة أو حضرتين أو أكثر بحسب جمعيّته الإنسانية .
والحمد الأكمل المحيط الأشمل هو لأكمل الناس من حيث الحق وبه ، أو حمد الحق لنفسه من حيث هذا الكامل جمعا وفرادى ، كما مرّ . فتذكَّر .
ومنها أنّ الحمد على أنحاء ثلاثة :
فإن كان بصفة تنزيه ، فهو « تسبيح » .
وإن كان بصفة ثبوت ، فهو « الحمد » .
وإن كان بصفة فعل ، فهو « شكر » .
فإنّ حمد كل حامد وتعريفه للمحمود إمّا أن يكون بصفة تنزيه ، أو صفة ثبوتية قائمة بالمحمود يستحسنها الحامد فيعرّف المحمود بها .
أو يحمده بصفة فعل ، وعلى أيّ نحو كان فإنّه لسان من ألسنة الكمال ، يشير إلى كمال في المحمود قصد الحامد إظهاره أوّلا ، وإلى معرفة الحامد به كما مرّ ثانيا .
وفي الآخر إلى كمال غايتي قصد الحامد والإخبار به ، فيقع التصديق بصحّة ما أخبر ، ببرهان وحجّة .
ومنها :
أنّ الحمد من حيث إطلاقه لا لسان له إلَّا لسان الذات من كون كل واحد من الحامد والمحمود والحمد عين الآخر .
كما مرّ فلا يقع حمد مطلق من حامد إلَّا لفظا ، وإن أضيف الحمد المطلق إلى الاسم الجامع وهو « الله »  فلا يكون ذلك إلَّا من حيث حضرة خاصّة من حضرات الأسماء .
وذلك لأنّ الإطلاق الحقيقيّ هو الذي لأحدية جمع الجمع ، والإطلاق يقتضي سقوط النسب والإضافات ، ويفضي إلى استهلاك الأسماء والصفات .
واضمحلال سائر الإشارات والعبارات الثبوتية والسلبية ، فلا حمد فيه ولا اسم ولا صفة ولا رسم ، بل الذات مطلقة عن جميع الاعتبارات الثبوتية والسلبية .
وهذا وإن كان معرفة وتعريفا فإنّه آخر مراتب العلم والمعرفة بالله إجمالا كما مرّ ، فافهم .
وإن قلنا : « الحمد لله » مطلقا من غير تقييد ، فإنّ حال الحامد حين الحمد يقيّد الحمد ولا بدّ ، فلا يبقى إلَّا إطلاق اللفظ .
ومنها :
أنّ تعريف الحامد بحمد لله يكون بذاته ، أو بمرتبته ، أو بوجوده ، أو بأحدية جمع المرتبة والوجود ، وأحدية جمع الجمع .
فمرتبة الحق : الألوهية ووجوب الوجود الذاتي والفعل والتأثير والسلطان .
ومرتبة الخلق : العبودية والافتقار والانفعال والتأثّر وامتثال الأوامر والنواهي ، وتعيّن الوجود في كل مرتبة بحسبها .
فهي حامدة ومعرّفة لأصلها الذي منه انبعثت وهو التعيّن الأوّل وحقيقة الحقائق الكبرى ، فافهم .
ونختم الكلام على أسرار الحمد ، وكلّ هذه المباحث في لفظ « الحمد » .
وحان لنا أن نشرع الآن في العلوم والأسرار والمباحث التي يحتوي عليها البحث الثاني من المباحث الستّة عشر على ما بنينا عليه .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث الثاني من مباحث خطبة الكتاب تحقيق في وجوه تسمية اسم "الله" الجزء الأول .للشارح مؤيد الدين قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 12:21 pm

 البحث الثاني من مباحث خطبة الكتاب تحقيق في وجوه تسمية اسم "الله" الجزء الأول .للشارح مؤيد الدين قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث الثاني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
البحث الثاني من مباحث خطبة الكتاب تحقيق في وجوه تسمية اسم "الله" 
الجزء الأول
فنقول : الاسم « الله » ويكنى عنه في عرف أهل الطريق بـ « الجلالة » ، تعظيما لذكره فيه من أمّهات القواعد وكلَّيات الضوابط والأصول التي نذكر ها هنا أبحاث عشرة :
الأوّل : في الاختلاف الوارد بين علماء الرسوم
ذهب الخليل وسيبويه والمبرّد من علماء العربية إلى أنّه اسم علم للذات .
ومن علماء الشريعة أبو حنيفة والشافعي والغزّالي والإمام محمّد بن عمر الخطيب الرازي وأبو زيد البلخيّ والقفّال الشاشيّ والخطَّابي من المتكلَّمة والنظَّار - رحمة الله عليهم - إلى أنّه علم .
وكلَّهم اختاروا القول بعلميّته .
ثم اختلفوا في أنّه عربي أو عبري فذهب أبو زيد وجماعة من المتكلَّمين إلى أنّه مأخوذ من اللغة العبرانية لأنّ اليهود والنصارى يقولون في الاسم العلم « إلها » فحذفت العرب الألف التي بعد الهاء طلبا للتخفيف ، كما فعلوا في " اليوم " و " النور " و " الروح " فإنّها أيضا منقولة من اللغة العبرانية وكانت " نورا " و " يوما " و " روحا "
فحذفوا الألفات من هذه الكلمات ، فقالوا فيها : " يوم " و " نور " و " روح .
وبطلان ما ذهبوا إليه بيّن لأنّا نقول :
لا نسلَّم أنّ هذه الكلمات عبرية ، بل عربية في أصل الوضع ، وليست مأخوذة للغة العرب من لغة أخرى .
بل هي ممّا تواطأت فيه اللغتان ، وكثيرا ما يقع مثل ذلك من التواطؤ بين اللغات ، والتواطؤ فيها بين اللغتين لا يوجب الجزم بكونها مأخوذة من إحداهما للأخرى ، ولا كون إحداهما أقدم من الأخرى ، وإن أوهم احتمال ذلك ، فلا يوجب الجزم ، بل المواطأة وقعت فيها بينها لسرّ نذكره .
وأيضا :
لأنّ الواضع الحقيقي  وهو الله وضع هذا الاسم علما للموجد لما علم في حروفها وتركيبها من الحقائق والأسرار الدالَّة عليه سبحانه ، ثم أوحى إلى واضعي اللغات من قدماء البشر .
أو ألهمهم وضع هذه الألفاظ لهذه المعاني على التواطؤ من غير مواضعه ولا مشاورة بين الواضعين ، ولا سيّما وهذا الاسم مخصوص عند العرب بالموجد الخالق للعالمين .
قال تعالى : " وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ من خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله " .آية 61 سورة العنكبوت
وأيضا : لو قلنا : إنّه مأخوذ من لغة غير لغة العرب ، لكان غير عربي وقد أخبر الله بأنّ القرآن عربي قال الله تعالى : " إِنَّا أَنْزَلْناه ُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ". آية 2 سورة يوسف.
وقال الله تعالى : " إِنَّا جَعَلْناه ُ قُرْآناً عَرَبِيًّا " آية 3 سورة الزخرف.
ولو كان عبريا ، لما كان عربيا ، هذا باطل وكفر بالله لما فيه من التكذيب .
وأيضا :  فإنّ لغة العرب أوسع وأكمل من سائر اللغات ، فإن كانت في الاسم " الله " الذي هو أوّل الأسماء والمسمّيات مفتقرة إلى غيرها من اللغات ، لكان فيها من النقص والضيق ما لا يخفى ، ولا سيّما وقد ذكر الله كونه عربيا في مقام مدح القرآن ، فيجب أن يكون عربيا .
والأصحّ الأرجح أنّه اسم عربي وقعت المواطأة فيه بين اللغتين لشدّة مناسبة الحقائق الحرفية التركيبية وحقائق مسمّاه على ما سيأتيك نبؤه - إن شاء الله - عن قريب .
البحث الثاني : في حجج القائلين بعلميّته
وما يرد عليها من الردّ والمنع وهي من وجوه :
منها :  أنّ الله تعالى أقام هذا الاسم مقام الذات موضوعا لسائر الأسماء والصفات ، وحمل سائر الأسماء عليه ، فقال : " وَلِلَّه ِ الأَسْماءُ الْحُسْنى " آية 180 سورة الأعراف .
فأضاف جميع الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم ، ووضعه موضع المسمّى .
وقال أيضا : " هُوَ الله الَّذِي لا إِله َ إِلَّا هُوَ " .  " لَه ُ الأَسْماءُ الْحُسْنى " آبة 22-24 سورة الحشر .
فقدّمه على سائر الأسماء ، وحمله على هويّته الذاتية المقدّسة ، ثم بعد نفي الألوهية عن غيره أثبتها له بالاستثناء ، ووصفه بسائر الأسماء وسمّاه بها فكان هذا الاسم مسمّى لجميعها وهي أسماء له ، فلو لم يكن علما للذات لم يكن كذلك .
ويجاب عن هذا :
بأنّه إنّما يلزم بما ذكرتم أنّه سمّي بسائر الأسماء وأقيم مقام المسمّى ، ولا يلزم أن يكون علما للذات .
وممّا احتجّ به مثبتو علميّته :
أنّ المشتقّ عبارة عن اسم موصوف بصفة يدلّ عليها الاشتقاق اللفظي ، وتفهم منه ، وحينئذ يكون المفهوم منه كلَّيا لا يمنع نفس تصوّره عن وقوع الشركة فيه ، وعلى هذا تكون لفظة « الله » كلَّية غير ممتنعة عن وقوع الشركة فيه ، وذلك باطل لما فيه من الشركة .
ويجاب عنه :
بأنّه لو كانت الألوهية صفة كلَّية يشترك فيها كثيرون ، لكان ما ذكرتم واردا ، ولكنّا لا نسلَّم ذلك ، بل هي صفة أحدية جمعية جامعة لحقائق هي مخصوصة بذات الموجد .
ولا نسلَّم أيضا أنّ دلالته جزئية مخصوصة بصفة معيّنة ، بل يدلّ على عدّة معان بالاشتقاق اللفظي وكلَّها موجودة لذات واجب الوجود ، فلا تقع فيها الشركة لعدم وجود تلك المعاني في ذات غيره .
وأيضا : لا نسلَّم أنّ كلّ مشتقّ كلَّيّ كما ذكرتم غير مانع عن وقوع الشركة ، بل إذا كان بحقيقته يقتضي الاشتراك في الوضع والدلالة كلفظة " العين " ، بل هو مخصوص بحقيقة الموجد .
كالشمس مخصوصة بالنيّر الأعظم مع دلالتها على الشموس وهو الارتفاع والعلوّ والإباء وشدّة التسخين وهي معان مخصوصة الجمعية في الشمس .
وإن كان كل واحد منها موجودا في غير النيّر الأعظم ، ولكن أحديّة جمع جميع هذه المعاني في النيّر الأعظم ، فكذلك دلالة هذا الاسم دلالة أحدية جمع جميع ما في قوّة دلالة اسم « الله » من المعاني .
وممّا احتجّ به مثبتو العلميّة أيضا :
أنّه لو كان مشتقّا ، لكان من أسماء الصفات ، وحينئذ لم تكن إقامته مقام الموصوف أولى من غيره ، ولكن هذا الاسم موصوف ومنعوت بسائر الأسماء دون غيره ، فهو اسم علم للمسمّى .
والجواب :
أنّه لا تلزم من هذا علميّته فقد يكون بعض الأسماء والصفات أجمع وأعمّ وأكمل وأتمّ في معناه لحقائق الموجدية .
فيندرج سائره تحت حيطته ، فيقام مقام المسمّى ويوصف بالجمع ، ولا يكون علما للذات ، ونحن ما نعني بالعلم إلَّا الاسم الدالّ على حقيقة الذات ، وذاته تعالى لا تنحصر في مدلول معيّن ، فلا يجوز أن يكون لها اسم علم ، بل هو اسم مقدّم على جميع الأسماء ، جامع لمعاني الكلّ وهو الاسم « الله » ومع هذا فغير ممتنع أيضا أن يحمل هذا الاسم على غيره من الأسماء .

وقد قيل :
إنّ كل واحد من الأسماء الإلهيّة يقام مقام المسمّى موضوعا ، ويحمل عليه هذا الاسم ، كما ذهب إليه ابن قسيّ رضي الله عنه فيقال مثلا : " الرحمن الله " ، و الرحيم الله " ، و " الكريم الله " ، وهذا صحيح ، غير ممتنع شرعا وعقلا وكشفا ، وقد ورد هذا النمط في الأدعية المأثورة ، وأصله في القرآن كثير وإن لم يهتد إليه إلَّا أهله .
كما يقع في جواب الاستفهام مثل قوله : " قُلْ من رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ "  "فَسَيَقُولُونَ الله آية 86 – 87 سورة المؤمنون .
معناه : ربّ السماوات السبع وربّ العرش العظيم الله ، فافهم .
فهذه محصول كلَّيات أقوال المثبتين لعلميته ، وجوابها بلسان التحقيق والإيجاز .
البحث الثالث : في حجج مثبتي الاشتقاق
ذهب جمع كثير من العلماء بالعربية ، والأشاعرة ، وجمهور المعتزلة إلى أنّ هذا الاسم مشتقّ . 
واحتجّوا بحجج :

منها : أنّ وضع الاسم العلم يتوقّف على معرفة حقيقة الذات ، وذاته - تعالى - غير معلومة للخلق ، فوضع العلم لها محال .
وقد أجيب عنه : 
بأنّه وإن لم تكن ذاته معلومة للخلق ، وليس لهم أن يضعوا لها اسما علما ، لكن ذاته - تعالى - معلومة له فلا يمتنع عليه أن يضع اسما علما لذاته تعالى .

والجواب عن هذا : 
أنّ الهوية الذاتية مطلقة بالإطلاق الحقيقي وهي تقتضي بحقيقتها أن لا تعلم ولا تنحصر ولا تعرف ولا تتناهى ولا تحدّ ، وحقيقة العلم الإحاطة بالمعلوم وكشفه على سبيل التمييز عن غيره فحقيقة العلم لا تتعلَّق بها وحقيقة الذات تقتضي أن لا تعلم ، والشيء إذا اقتضى أمرا لذاته ، فإنّه لا يزال عليه ما دامت ذاته ، فلو وضع الحق لنفسه اسما علما لا يفهم منه إلَّا خصوص الذات ، لكان محصورا في دلالة ذلك الاسم ، وصارت الذات المطلقة مقيّدة به ، وهذا محال .

وأيضا : ليس في قوّة لفظ من الألفاظ أن يدلّ على الذات المطلقة دلالة إطلاقية .
لكون أيّ لفظ فرض مقيّدا بتركيب خاصّ وليس في قوّة المقيّد أن يعطي غير ما في حقيقته ، ولا في قوّة حقيقة العلمية أن تحيط بما لا يقتضي الإحاطة به لذاته.
لأنّ العلم سواء أضيف إلى الخلق أو إلى الحق فإنّ الإضافة لا تخرجه عن حقيقته .
والحقائق لا تتبدّل فلا تطلق حقيقة مقيّدة بالحقيقة ولا تتقيّد حقيقة مطلقة من كونها كذلك .
والعلم على كل حال نسبة من نسب الذات ، متميّزة عن غيرها وهي وإن كانت نسبة محيطة بالمعلوم فإنّها محيطة بالذات المنضبطة المحصورة المقيّدة المتميّزة عن غيرها بحدّها .
وليس في قوّة نسبة من نسب الذات أن تحيط بالذات غير المحاطة ، وإلَّا لزم قلب الحقائق ، وخرجت الذات عن مقتضياتها الذاتية ، وذلك بيّن البطلان .
فإن قيل :
العلم الذاتي عين الذات ، فلا يكون من هذا الوجه غيرها ، فلا يمتنع على العلم الذاتي الإحاطة بالذات .
قلنا : فعلى هذا لا تكون الإحاطة للنسبة العلمية من حيث هي كذلك ، بل تكون الإحاطة للذات ، ومرادنا قصور النسبة العلمية في حقيقتها من كونها نسبة من النسب الإلهية عن الإحاطة بكنه الذات المطلقة .
وعلى كل تقدير فإنّ الإحاطة بالذات المطلقة محال ، فلا تعلم أصلا ، فليس لها اسم علم لفظي ، فافهم .
وممّا احتجّ به مثبتو الاشتقاق :
أنّ العلم يقوم مقام الإشارة إلى ذات المسمّى وحقيقته ، وحقيقته - تعالى - لا يشار إليها ، لما في الإشارة من التعيين والتمييز والتحديد فوضع الاسم عليه محال .
وأجيب عن هذا :
بأنّه وإن امتنعت الإشارة الحسيّة إليه تعالى لامتناع انحصاره في جهة حسّيّة ، ولكن لا تمتنع الإشارة العقلية إليه .
كما قال تعالى : " قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ " آية 1 سورة الإخلاص.
وقال : " فَذلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الْحَقُّ " آية 32 سورة يونس.
وقال : " ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ " آية 9 سورة فصلت .
و « هو » و « ذلك » و « ذلكم » إشارات عقلية ، فلا يمتنع وضع الاسم العلم عليه بهذا الاعتبار .
والجواب :
أنّا لا نسلَّم عدم امتناع الإشارة العقلية إلى الذات المطلقة ، وإلَّا لكانت متعيّنة غير مطلقة ، وهي غير متعيّنة من جميع الوجوه.
فلا تتعيّن الإشارة إليها ، وإن قيل بالإشارة المطلقة العقلية ، فليست إلَّا إلى إطلاق الذات لا إليها.
وجميع ما وردت من الإشارات المذكورة سواء كانت من الحق أو الخلق إشارات إلى نسبه الذاتية وحقائق أسمائه ومسمّياته وحيثيات صفاته ، كالأحدية والربوبيّة والهويّة .
وليست إلى حقيقة ذاته تعالى فإنّ حقيقة ذاته تعالى لا يشار إليها ، ولا تعلم ، ولا يحاط بها .
ولا تتعيّن تعيّنا تنحصر فيه لكون كلّ متعيّن متميّزا عن غيره وكلّ متميز عن شيء أو أشياء .
فإنّه محدود مخصوص مقيد بكونه متميزا عن غيره ، وخارجا عنه ، وعدم كونه عين غيره ، وما لا يتعيّن ولا يعلم ولا يجهل ولا يشار إليه على سبيل الحصر.
فلا يوضع اسم علم له ، سواء كان الواضع خلقا أو فرض حقّا فإنّ الحقيقة تأباه .
ولا يقال : يوضع لفظ إذا ذكر يفهم تلك الذات المطلقة من غير دلالة اشتقاقية على سبيل الإجمال والإيماء ، فيكون علما لها .
فإنّا نقول : لا فائدة في وضع ما لا يدلّ على الذات التي لا تعلم به ولا تسمّى ، وما لا دلالة فيه فلا يفهم إذا الفهم مبنيّ على الدلالة ، فما لا يدلّ لا يفهم منه ، وما لا يستدلّ عليه لا دلالة عليه ، فلا يفهم كذلك بوضع ما لا يدلّ عليه ، فافهم .
وهذا تمام البحث في هذا الاختلاف الوارد ، وسيتحقّق لك سرّه إن شاء الله عن قريب بلسان غريب .
البحث الرابع : في وجوه الاشتقاق على قول القائلين
وهي من عشرة أوجه صحّحت من حيث اللغة العربية :
أحدها : أنّه مأخوذ من أله يأله : إذا فزع ولجأ ، وأصله « إلاه » على وزن فعال بمعنى مفعول لكونه مفزع كلّ فزع وملجأ كل جزع .
فلمّا أدخلت لام التعريف ، حذفت الهمزة طلبا للتخفيف ، وأدغمت لام التعريف في لام الأصل وفخّمت للتعظيم ، فقيل : الله .
والثاني : من الوله وهو شدّة المحبّة ، بمعنى أنّه تعالى هو المحبوب بأشدّ ما يكون من المحبّة .
كما قال تعالى : "وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّه " آية 165 سورة البقرة .
وقد وصف الله -تعالى بالمحبّيّة والمحبوبية في قوله : " يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه ُ " آية 54 سورة المائدة.
وقد روّينا في الأحاديث الإلهية عن الله تعالى أنّه قال : " كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف ".
وفي رواية أخرى : « أردت » عوض " أحببت " والإرادة طلب حبّي .
والأصل فيه « ولاه » فأبدل الواو همزة ، كما في " إشاح " و " إساد ط ، فإنّهما " وشاح " و " وساد " فاستثقلوا الابتداء بحرف العلَّة ، فأبدلوا الواو بالهمزة ، ثم عرّفت الكلمة وأدغمت وفخّمت كما مرّ .
والوجه الثالث : أنّه مشتق من « لاه يلوه » : إذا احتجب لأنّه تعالى محتجب -برداء كبريائه وإزار عظمته  عن إدراك أبصار العيون ، وإبصار أعين البصائر " لا تُدْرِكُه ُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ " آية 103 سورة الأنعام  .
الرابع : أنّه مأخوذ من « لاه » : إذا ارتفع وذلك لأنّ الرفعة الحقيقية لله ، وهو الرفيع الرافع ، ولكن رفعته لا بالمكان ولا بالمكانة ، بل بالذات وإطلاقه عن التقييد برفعة المكان والمكانة ، وبكونه معطيا للرفعة .
الخامس : أنّه مأخوذ من قولهم : « ألهت بالمكان » : إذا أقام بالمكان .
قال الشاعر :
ألهت بدار ما ..... بين رسومها
ويكون هذا المعنى بالنسبة إليه تعالى كناية عن الدوام والثبات والبقاء الذاتية له ، وفيها معنى اللزوم والإقامة على مقتضى ذاته .
وأيضا : لأنّ الألوهية ملزومة العالم فلا يتصوّر وجود الألوهية بلا مألوه ، ولا وجود الربوبية بلا مربوب وجودا وتقديرا ، فهو إشارة إلى اللزوم الذي بين الإله والمألوه والربّ والمربوب .
السادس : أنّه مشتق من الإلهيّة ، وهي القدرة على الإيجاد والاختراع ، وهي ذاتية لله تعالى .
ولم ترد الإلهية بهذا المعنى ، والاشتقاق ماض لا مستقبل ، وهذه الحقيقة خصوص ذات الموجد .
وقيل : هي أحقّ هذه الوجوه بالحق . فافهم .
السابع : من أله يأله : إذا تحيّر لأنّ ذاته محيّرة - اسم فاعل - ومقام الحيرة الكبرى حضرته فقد حيّرت عقول أولي الألباب ، والحيرة في الله أعلى درجات العلماء به .
قال بعض العارفين : « يا حيرة يا دهشة يا خوفا لا تتقرّي » .
الثامن :  أنّه مشتق من الإلاهة وهي العبادة من أله يأله : إذا عبد .
وقرأ ابن عبّاس "ويذرك وإلهتك" آية 127 سورة الأعراف  ، أي عبادتك .
وتألَّه : إذا تعبّد ، والله تعالى هو المعبود على الحقيقة في نفس الأمر ، سواء عرفه العارف أو لم يعرف ، وقصده أو لم يقصده . " أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه ُ " آبة 40 سورة يوسف .
وهو المعبود أيضا في كلّ ما عبد من الأصنام ، والكفر في الحصر وستر وجه الحق الموجد في شيء معيّن ، ليس له ذلك ، وهو هواه وخياله .
التاسع : من وله الفصيل بأمّه : إذا أولع ، والمعنى أنّ الخلق مولهون ومولعون بالله في التضرّع إليه ، والسؤال عنه على كل حال .
العاشر : أنّ الأصل في هذا الاسم هو هاء الكناية عن غيب ذاته وهويّته غير المتعيّنة إذ الهاء - كناية الغائب - إشارة إلى غيب هويته ، ثم زيد فيه لام الملك أو لام التخصيص إذ الكلّ له تعالى وهو مالك الكلّ بالتخصيص.
فاللام إشارة إلى أنّ ملكية الكلّ من عالمي الملك والملكوت له تعالى ثم زيد فيه على لام الملك لام التعريف نفيا لتوهّم إمكان وقوع الشركة في كناية الغائب وفي الملكية عرفا شرعيا لا حقيقة .
لأنّ كل ما هو مشهود من العالم ملك لذات غيبية إلهية حقيقة .
وإن ظهر بعضها في العرف الشرعي ملكا للعبد ،وتلك الذات الغيبيّة لا يحاط بها علما وشهودا ومعرفة ووجودا ثم فخّموه تعظيما ، فصار « الله » على ما ترى.
فهذه هي الوجوه العشرة الاشتقاقية المشهورة ، التي ذهب إليها القائلون بأنّ « الله » اسم مشتق من أهل العربية والكلام .
ذهب إلى كل واحد من هذه الوجوه طائفة من علماء الرسوم ، وأوردت في ذلك على كل وجه منها شبه وشكوك ، وأجيب عنها .
إنّنا لسنا بصدد التعرّض لذكر تفصيلها من الطرفين في هذا الموضع بأكثر ممّا ذكرنا ، " وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ " آية 4 سورة الأحزاب.
البحث الخامس : في إشارة جمليّة إلى العلمية يقتضيها هذا الاسم بما فيه من الاختصاص .
اعلم : أنّ هذا الاسم في مشرب التحقيق علم للذات الموجدة الموصوفة بالألوهية والربوبية وسائر النعوت والصفات الوجوبية ، لا مطلقا من حيث إطلاق الذات بل من حيث إنّه يدلّ بموجب اشتقاقاتها على أحد جمع جميع هذه المعاني .
فإنّ ذات الإله الموجد من كونها إلها تستحقّ هذه الحقائق بالذات ، كما يستقصى فيها الكلام فيما بعد
إن شاء الله تعالى فهو علم للإله الموجد ، لا للذات الغيبية الغنيّة عن العالمين .
فإنّ الذات من حيث إطلاقها عن الموجدية والموصوفية بالأسماء والصفات لا تتعيّن إليها إشارة ، ولا تعلم.
ولا يكون لها اسم معيّن علم لا يفهم منه غير الخصوصية الذاتية .
فليس « الله » علما للذات من كونها لا تعلم ولا يحاط بها ، بل علم للموجد من حيث ارتباط العالم به وارتباطه بالعالم .
ولأنّ الدالّ على ذاته الأحدية وهويّته الغيبية وبساطته الحقيقية لا يكون اسما مركَّبا تركيبا خاصّا من حروف متعدّدة ، بل الدالّ على البسيط الحقيقي يجب أن يكون بسيطا كذلك .
وأحقّ الحروف البسيطة التي يشاربها إلى غيب ذات الله حرف الهاء .
فإنّه ضمير الغائب في الدلالة بالوضع الأصلي ، وكذلك الهاء شكل الإحاطة لفظا وخطَّا في الوضع العربي . أمّا خطَّا فظاهر .
وأمّا لفظا فإنّها تبتدئ من وسط الصدر ، فتمرّ على جميع المخارج ، فتحيط بخواصّ سائر الحروف كإحاطة غيب الذات على مراتب تعيّناتها إحاطة ذاتية أحدية جمعية .
فيتعين من حضرة العلم الذاتي ويمتدّ على الملكوت وملكوت الملكوت والجبروت إلى عالم الملك والشهادة ثم ترجع بعد مرورها عليها في امتدادها بكرورها راجعة .
كذلك إلى مخرج الهمزة في الوضع العربي الكامل مكمّلة لدورية الروحانية الإحاطية ، فافهم .
وعلى هذا فعلميّة « الله » الجلالة جلَّت وتعالت ليست لكنه الذات المطلقة من حيث لا تعيّنها وإطلاقها.
ولكن من كون هذا الاسم اسما لواجب الوجود بالذات ، موجد الذوات الكائنات ، والنسب والإضافات ، مبدع العلويات الروحانيات ، خالق السفليات الجسمانيات ، مفيض الوجود على الماهيات الكيانيات فهو اسم علم للمرتبة الأحدية الجمعية الموجدة الجامعة للمعاني المذكورة في وجوه الاشتقاق كلَّها .
لا للذات المطلقة باعتبار تجرّدها وإطلاقها عن النسب والإضافات ، وسائر الأسماء والصفات فإنّ اعتبار الذات المطلقة تعالى سابق على اعتبار كونه موصوفا بالألوهيّة .
مسمّى بأسماء الربوبية والنسب الوجوبية ، كالموجدية والعلَّيّة والمبدئيّة والإلهيّة ، فافهم .
فإن قيل : على ما ذكرتم يكون مشتقّا لكونه دالَّا على هذه المعاني ، وهي معان زائدة على الذات .
قلنا : الذات الموجدة حقيقة واحدة أحدية جامعة لهذه المعاني والنسب بالذات فهي فيها هي ، ليست زائدة عليها ، وإن تعقّلت كذلك فليس ذلك إلَّا في التعقّل ، وكذلك الذات المطلقة أيضا تتعقّل مطلقة عنها ، وليست في الوجود مجرّدة عن هذه النسب ، ولا هي زائدة عليها .
ولكنّ العقل ينتزع الحقائق الجمعية الأحدية ، ويتعقّل كلّ واحدة على حدتها ويتعقّلها مجموعة وأحديّة ، بمعنى استهلاك الكثرة التي انتزعت عن الوجود تعقّليّتها فرادى ولكن ليس للعقل أن يحكم عليها أنّها زائدة على الذات في الوجود فليس كذلك إلَّا في التعقّل ، ولكنّ العقول الضعيفة تغلط وهو موضع الغلط المضرّ في علوم الحقيقة ، فتحفّظ إن شاء الله العزيز .
فالاسم « الله » وإن كان مشتقّا باعتبار ، فهو علم باعتبار آخر لذات ذات أحدية جمعية لجميع هذه المعاني ، فالله - تعالى - مفيض الوجود على كل موجود ، فالكلّ مستند إليه ، مستمدّ منه ، مفتقر إليه ، في حضرة الجود يقتضي الشهود .
فله الرفعة الذاتية بالذات بالمرتبة والشرف والوجود الذاتي ، على ما دونه من الموجودات ، وهو محتجب بكنه كبريائه وكمال عظمته عن العقول البشرية ، والمدارك الفكرية النظرية ، والإحاطة العلمية الفكرية وهو ملجأ الكلّ ، ومفزع الفرع والأصل ، في حالتي الصدع والفصل ، والجمع والوصل .
[right]وهو المستجار والمجير ، الذي يستجير إليه الفزع الفقير ، والجزع الحقير ، ومنه الفزع ، وإليه المهرب والمفزع الصغير والكبير .
وكذلك هو تعالى إله يوله به ويتولَّه فيه العالمون العالمون ، فيشتدّ ولههم به أو ولهه به منهم وفيهم وبهم ، فهم به ولهون ، وفيه والهون ، وبه مولهون ، وهو المحبّ المحبوب ، والطالب المطلوب ، والموجودات بالالتجاء إليه مولعون .
وكذلك توله وتحار فيه العقول ، ويذهب فيه إليه منه كلّ مذهب في الفروع والأصول ، والوصول بلا حصول محصول .
وكذلك يتولَّع الكلّ بالتضرّع إليه ، والسؤال منه وممّا بيديه وعنده ولديه ،والتعويل عليه .
وكذلك إله معبود بكلّ مكان في كل ما عبد ويعبد ، مسجود له كلّ أوان وزمان في كل ما إليه يسجد ، ممّا يتخيّل ويتمثّل ويعقل ويشهد .
وكذلك إله قادر بالذات ، قدير على الاختراع وإبداع المبدعات ، مقتدر على إيجاد الذوات واختراع المخترعات ، من الأجناس والأنواع والشخصيات ، إلى ما لا يتناهي من الممكنات لعدم تناهي التجلَّيات .
وكذلك هو إله ، له ما في الأرضين والسماوات ، وما بينهما وما فوقهما وتحتهما من الأفلاك المحيطات ، والنفوس الروحانيات ، والأرواح النورانيات ، والتجلَّيات الجليّات والخفيّات ، والحقائق العلَّية العلمية المعنوّيات ، والأعيان الثابتات ، والنسب والإضافات.

فعلميّة هذا الاسم لذات ذات أسماء وصفات ، ونسب و اعتبارات ، لا للذات المطلقة عن جميع هذه القيود والسمات ، وعن السلب والإثبات .
البحث السادس : في تتمّة هذا الأصل بالتنصيص على صريح الحق .
قد علمت - أيّدك الله بروح منه - فيما سلف أنّ للذات في ذاتيّتها « 2 » اعتبارين هي أحديّة جمعها :
أحدهما : اعتبار إطلاقها عن كل حكم ، وتجرّدها عن كل صفة واسم ، وعدم انحصارها ولا تعيّنها في إحاطة كل علم ، وتنزيهها عن كل نسبة ورسم ، وعن دخولها تحت إشارة أو عبارة ووسم  فليس له سبحانه لهذا الاعتبار اسم دالّ عليه دلالة مطابقة إطلاقية للحقيقة المطلقة عن الألفاظ المركَّبة من الحروف .
ولا عن الحروف البسائط الخالية عن التركيب .
والذي ذكرنا من دلالة بعض الحروف البسيطة عليه كدلالة هاء كناية الغائب وألف الوحدانية على ما سيذكر.  إنّما هي دلالة على نسب الذات ، لا على الذات من حيث هي هي .
فدلالة الهاء بمعناها على غيب الذات وبصورتها اللفظية والرقمية على إحاطتها بالغيب والشهادة .
ودلالة الألف على لا تعيّنه بمرتبة من المراتب على التعيين والتقييد ، كلا تعيّن الألف في مخرج من المخارج ، فافهم .
والاعتبار الثاني للذات : اعتبار النسبة والإضافة والارتباط ، أي ذات ذات أسماء وصفات ، ونسب وإضافات ، وحيثيات وتعيّنات وتجلَّيات وعلميّة الجلالة - أعني الاسم « الله » - بهذا الاعتبار الثاني ، فهو علم لذات الألوهية ، لا للذات المطلقة عن الاعتبارات وسائر النسب والإضافات ، فافهم .
البحث السابع : في سبب اختصاص هذا الاسم بالتقدّم والموصوفية على غيره وكونه مسمّى بما عداه من الأسماء والصفات والنسب والإضافات .
اعلم : أنّه لمّا كان كل اسم اسم من الأسماء - مع اشتراك الكلّ في الدلالة على العين الواحدة المسمّاة بالجميع - دالَّا على مفهوم ومدلول مخصوص دلالة تميّزه عن مدلول اسم آخر مفهوم منه ، كدلالة « العليم » على ذات الألوهية من حيث إحاطته بالمعلومات كشفا وتمييزا .
ودلالة « القدير » عليها من حيث الإيجاد وإيقاع الأثر ، ودلالة « المريد » على تخصيص بعض المعلومات بأمر دون أمر بموجب التعيين والتمييز العلمي .
وذلك المعنى هو حقيقة تلك النسبة بموجب الاشتقاق اللفظي من السلب والإثبات ، ولم يكن في اسم منها دلالة جمعية أحدية على خصوصيات سائر الأسماء بالاستلزام والتضمّن ، بخلاف اسم " الله " فإنّ له أحدية جمع جميعها باشتمال الألوهية على حقائق كليّة هي أمّهات الجميع .
وهي : الحياة ، والعلم ، والإرادة ، والقدرة لعدم تحقّق حقيقة الألوهية إلَّا لذات ذات حياة وعلم وإرادة وقدرة ولعدم تصوّرنا الإله إلَّا كذلك ولاستيعاب هذه الحقائق الأربع لسائر الأسماء والصفات والنسب والإضافات ، فاستحقّ لما هذا الاسم دون غيره التقدّم والموصوفية لأنّ ما عداه نسبه وأسماؤه وصفاته ، ولم يقو غيره على ذلك .
فإن قيل : قد ورد النصّ بدلالة المساواة بين سائر الأسماء معه من حيث الاسمية في قوله - تعالى - : "قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَه ُ الأَسْماءُ الْحُسْنى " 110آية  سورة الاسراء .
فإنّ الضمير في « له » عائد إلى هويّته -تعالى المسمّاة بالجميع ، الزائدة على مدلول الاشتقاق بأحدية الجمع ، ولهذا ألزم الله بحجّته البالغة الغالبة عبدة الأصنام من المشركين الذين نسبوا الإلهية إلى غير هذه الهوية الأحدية الجمعية بقوله تعالى: " قُلْ سَمُّوهُمْ " آبة 33 سورة الرعد .
لعلمه بأنّهم إذا سمّوا ما يعبدون ، سمّوها بأسمائها الخصيصة بها ، كالشمس والقمر والخشب والحجر ، فيتحقّق عندهم إذ ذاك أنّ ما يعبدون غير الله .
ومن جمعية هذا الاسم أيضا أنّه جامع بين العلمية والاشتقاق ، لكونه علما لذات مسمّاة بجميع الأسماء من كونه جامعا لخصائص جميع المدلولات المختلفة الكثيرة المتماثلة منها والمتقابلة .
كما قيل لأبي سعيد الخرّاز  رحمه الله « بم عرفت الله ؟ »
قال : " بجمعه بين الأضداد ".
فإنّ كون الهوية الواحدة من جميع الوجوه مسمّاة بالأسماء الكثيرة المتقابلة المتماثلة يقتضي عجز العقول فيها عن إدراكها .
فلمّا دلّ هذا الاسم دون ما عداه من الأسماء على الأحدية الجمعية الكليّة الحاصرة لحقائق الربوبية المتقابلة منها والمتماثلة كما يدلّ الأسماء الأعلام على مسمّياتها استحقّ التقدّم عليها ، فافهم .
البحث الثامن : في إشارات كشفية إلى حقائق حرفية يعطيها هذا الاسم من حروفها وتركيبها في طور التحقيق
ويشتمل على أبحاث عشرة :
أحدها : أنّ هذا الاسم في قاعدة المشرب الكمالي الختمي مركَّب من ستّة أحرف :
الهمزة ، واللامين ، وألف بعدهما ، وهاء ، وواو بعدها ، وهذه صورته « ال ل اه و » .
فالهمزة : إشارة إلى التعيّن الأوّل ، والقطع - دون الاتّصال - إشارة إلى انفصال التعيّن الأوّل عن اللاتعيّن بامتياز الاسم « الظاهر » محيطا بما احتواه من التعيّنات العينية والشؤون المظهرية .
والألف الخفيّة في الهمزة لفظا كخفاء الهمزة في الألف رقما إشارة إلى أحدية نفس النفس المتعيّن بالتعيّن الأوّل لأنّ العين المتعيّنة بالتعيّن الأوّل - .
من حيث هي كذلك متميّزة عن العين غير المتعيّنة في التعيّن الأوّل باللَّاتعيّن من حيث لا تعيّنها الذاتي إذ العين من حيث هي تقتضي اللاتعيّن في مرتبة إطلاقها وبطونها العيني الحقيقي .
والتعيّن أيضا في مرتبة الظهور وهي المتعيّنة في المرتبتين معا .
وهي في كلّ من المرتبتين أو النسبتين كيف قلت عينهما فهما حرف واحد.
ولكنّ العين المتعيّنة بالتعيّن الأوّل باطنة ، والتعيّن ظاهر ، فظهرت الهمزة في اللفظ وخفيت الألف فيها ولأنّ الألف صورة العين المتعينة بالتعين .
وغير المتعينة في اللاتعين ، لم يظهر لها عين في المخرج اللفظي تمتاز به عن حرف آخر لأنّه لا مخرج للألف أصلا إذ هي أخت الفتحة ونفس النفس الممتدّ من أيّ مخرج حرفيّ فرض .
ومشاركة الألف لباقي الحروف إنّما هي بحسب المرتبة ، وهو التعين الأوّل فيما نحن بصدده ، فتعيّن الألف لأجل ذلك إنّما هو بالهمزة في اللفظ .
ولأنّ المرتبة حقيقة معقولة لا تعيّن لها في الحسّ ، ولا تحقّق لها بدون المتعين به وفيه ، كان وجود الهمزة بوجود الألف رقما كوجود المرتبة بوجود ذي المرتبة والتعيّن بوجود المتعيّن .

ولهذا السرّ وما ذكر لم يظهر للألف في النفس الرحماني ومراتبه ، وفي النفس الإنساني ومخارجه .
تعيّن تميّز به عن غيرها من الحروف لأنّها عين النفس الممتدّ من باطن القلب لمخرج الهمزة التي هي نظيرة التعيّن الأوّل الجامع لجميع التعيّنات ولأنّ الألف عين النفس المتعيّن في جميع المخارج الحرفية ظاهرا  بصور الحروف كلَّها .
كان قيامها به وهو قيوم ، والحروف في مشرب التحقيق هو فيها عينها وهي صور تفصيله ، كما أنّ الحروف في أحدية النفس عينه ، فهي فيه هو ، كما أنّه فيها هي .
تكملة : ولأنّ التعيّن الأوّل من حيث قطع النظر عمّا تعيّن به وفيه - وهو الوجود الحق ليس إلَّا نسبة لا تحقّق لها بدون المتعيّن به وفيه ، لم يظهر للهمزة التي هي إشارة إليه في عالم الرقم الإنساني .
الذي هو نظير عالم الملك والشهادة وجود ، وكذلك المراتب من حيث هي مراتب لا وجود لها إلَّا بالتعينات المترتّبة فيها وجودا يتميّز به عن المتعين بها وفيها .
وكما أنّ الألف لا تعيّن لها في عالم اللفظ الذي هو نظير العالم الروحاني الكلامي القولي .
كما قال تعالى : "إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناه ُ أَنْ نَقُولَ لَه ُ كُنْ فَيَكُونُ " آية 40 سورة النحل.
وذلك لأنّ الألف عين الكلّ كالنفس الرحماني عين كلّ من نفّس عنه ، والكلّ من كونه كلَّا لا تعيّن له يشار إليه .
كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : " وإنّ الملأ الأعلى " وهم الروحانيون " ليطلبونه كما تطلبونه أنتم " ، يعني الملأ الأسفل وهم الجسمانيون وذلك لأنّ الألف وهو النفس الواحد عين الحروف العلوية والسفلية ، والحروف لا يجدونه و " هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا " آية 7 سورة المجادلة .
" وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه ِ من حَبْلِ الْوَرِيدِ " آية 16 سورة ق .
فالهمزة ظاهرة في اللفظ ولها تعيّن مخرجي من أعلى الصدر ممّا يلي القلب عندنا .
وعند القرّاء : 
هي من الحروف الحلقية ، والألف باطنة فيها وهي الظاهرة في الرقم وإن خفيت في اللفظ ، ككون النفس الرحماني عين الأرواح المروّحة بالنفس الرحماني المحمول في أعيانهم .

ككون الكلمة محمولة في الروح الأمين كذلك الألف عين كل حرف في كل مخرج وهي المسمّاة بأسماء الحروف الظاهرة بأعيانها ، فهي لها كالقوالب والظروف.
وكذلك الواحد الذي هو روح الألف في العدد - ليس له وجود في العدد لكونه غير معدود ، فما هو داخل من كونه واحدا في مراتب العدد إذ لا يصحّ إطلاق اسم العدد إلَّا على ما يتعدّد .
والواحد له الأوّلية والقبلية الذاتية والمرتبيّة على مرتبة العدد .
البحث الثاني من الثامن : اعلم : أنّ التعيّن صورة في المتعين بذلك التعين وفيه
فما له وجود بلا أمر متعيّن فيه ، وذلك الأمر فيما نحن بصدده النفس ، والنفس مادّة وهيولى للصور الحرفية .
والحروف إنّما هي تعيّنات نفسية في المراتب المخرجية ، كما أنّ صور الموجودات الكونية إنّما هي تنوّعات تجلَّيات النفس الرحماني .
وكما أنّ نفس الإنسان إنّما ينبعث من القلب ، فله تعيّن في القلب غير متميّز عن المتعيّن ، وهو فيه عين المتعين .
وهذا الاعتبار سابق على اعتبار امتداده إلى المخارج ، وتعيّنه فيها يوجب تلك المدارج في التنزّلات والمعارج ، وهو اعتبار إجمال الألف وأحديّتها الجمعية النفسية .
وذلك لأنّ الألف وهو الواحد ، أو النفس الإنساني ، أو النفس الرحماني ، أو الوجود الحق الساري في حقائق الموجودات له ثلاثة مراتب :
إحداها : قبل امتداده ، وهو مرتبة إجماله واندماجه وانجماده وأحديّته قبل تعيّن آحاده ، فالحروف والأعداد والموجودات والمعدودات فيها مندمجة وفيها مضمّنة ومندرجة مجملة متّحدة ، وهي مرتبة استهلاكها فيها استهلاكا لا تظهر أعيانها ولا تتميّز فيتأتّى تبيانها ولا يتأتّى بيانها .
وفي هذه المرتبة لا يمكن لممكن شهودها وعيانها كاعتبارنا للنفس الإنساني والنفس الرحماني والواحد الأحد في تعيّنه الكياني ، أو غيب القلب الإنساني ، أو غيب عين التعين الأوّل الكمالي الذاتي الإلهي الإنساني .
قبل التنفّس وامتداد النفس من قبل المتنفّس ، وقبل تفصيل مجملات التعينات من التعين الأوّل فإنّ النفس للمتنفّس واجب التحقّق - والعين المتعيّنة بالتعين الأوّل ثابتة له فيه ، والواحد في أحديته أصل للواحد الذي هو مبدأ العدد - وإن لم يتنفّس بالفعل أدنى زمان .
والواحد بهذا الاعتبار أحد تنتفي عنه الكثرة الوجودية والنسبية ، وهو مقام « كان الله ولا شيء معه » .
ومقام استهلاك الكثرة الأسمائية في الأحدية الذاتية .
ومقام كون النفس في قبضة قلب المتنفّس ، ولا معيّة لأعيان الحروف بالنفس لاستهلاكها فيه كاستهلاك النفس أيضا في نفس المتنفّس لعدم النفس قبل الامتداد إلى الإيجاد ، وبهذا الاعتبار تكون الألف في عالم الرقم عين النقطة في النقطة ، ككون الحروف في الألف التي في النقطة ، فافهم .
والاعتبار الثاني : اعتبار مرتبة امتداد النفس الإنساني والرحماني بالإيجاد إلى أعيان الحروف ، وحروف الأعيان حال تعيّناتها في مخارجها وتنزّلاتها في مدارجها ورجوعها إلى الباطن في مراجع معارجها .
وفي هذه المرتبة تحقّق وجود عين الألف.
وهو نفس ممتدّ ، له من حيث امتداده اعتبارات ثلاثة أيضا لأنّه:
إمّا عارج من أسفل سافلين إلى أعلى علَّيّين
أو هابط من الأعلى إلى الأسفل
أو جامع بين النزول والعروج ، والدروج والخروج.
وهو باعتبار طلوعه وعروجه يكون أخت الفتحة في العرف العربي .
وباعتبار هبوطه يكون أخت الكسرة كذلك ، ويسمّى ياء .
وبالاعتبار الجمعي أخت الضمّة ، ويسمّى واوا فالألف والواو والياء صور الألف ، الذاتية الوجودية النفسية في مراتبها الكلَّية .
فهي ألفات كلَّها في طور التحقيق لأنّها أنفاس ممتدّة ، وليست الاعتبارات المخرجية وتعيّناتها من وجه مخرجة لها عن الحقيقة الألفيّة حين امتدادها إلى العلو والسفل والجمع . فهي كتعيّن الألف من مخرج الهمزة .
وفي التحقيق لا مخرج لهذه الحروف أعني حروف المدّ واللَّين ، وهذا الاعتبار اعتبار واحدية الواحد " وَإِلهُكُمْ إِله ٌ واحِدٌ " آية 163 سورة البقرة.
فهو نصف الاثنين وثلث الثلاثة وربع الأربعة وخمس الخمسة ، جزء من أيّ عدد فرضنا وبهذا الاعتبار يكون الواحد مبدأ للعدد ولا يتنزّه عن الكثرة النسبية .
ويستلزم الربّ المربوب والإله المألوه ، وينشئ الواحد من نسب ذاته تعيّنات تجلَّياته وتنوّعات تعدّداته ، وإنّما لا يتنزّه الواحد من هذا الوجه عن الكثرة النسبية لأنّه مبدأ النسب والإضافات ومسمى الأسماء وموصوف الذات .
فلو تنزّه وترفّع عنها ، لما كان مبدأ لها ولا مبدئا منشئا بذاته إيّاها .
وهو بهذا الاعتبار داخل بالقوّة في العدد لا بالفعل ، فهو بالقوّة والصلاحية نصف وثلث وربع وخمس وغيرها .
وإذا شاء إنشاء العدد بالفعل ، تعيّن بذاته في مراتب تعيّناته وتعدّداته ، فكان مع كونه عين الكلّ نصفا وثلثا وربعا وغيرها بالفعل ، وهذه النسب ونسب النسب إلى ما لا يتناهى معقولة التحقّق في ذات الواحد .
والواحد بهذا الاعتبار من كونه مبدأ للعدد سابق على مرتبة التعين العددي ، مسبوق بالإطلاق الذاتي الأحدى ، وهو اعتبار « الله » من حيث قيام الألوهية به متجلَّيا للموجدية والربوبية ، فافهم .
فهو الواحد الأحد ، الذي أظهر بوجوده أعيان الموجودات في مراتب العدد .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث الثاني من مباحث خطبة الكتاب تحقيق في وجوه تسمية اسم الله الجزء الثاني .للشارح مؤيد الدين قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 12:23 pm

البحث الثاني من مباحث خطبة الكتاب تحقيق في وجوه تسمية اسم الله الجزء الثاني .للشارح مؤيد الدين قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث الثاني من مباحث خطبة الكتاب تحقيق في وجوه تسمية اسم "الله"  الجزء الثاني
الاعتبار الثالث : اعتبار مرتبة تعيّن النفس في المخارج وصور الحروف ، وتشكلَّه بأشكال هذه المعاني والظروف ، وتجلَّيات الواحد في أعيان الآحاد ، وتعدّداته في عقود مراتب الأعداد ومسمّياتها بأسمائها ، التي لا تحصى ولا تتناهى ، ظاهرا بإنّيّاتها ومظهرا ومظهرا لأنبائها وآياتها .
وهي أيضا مراتب تعيّنات التجلَّي النفسي الرحماني الإلهي الوجودي والفيض الذاتي الجودي ، المنبعث من غيب باطن القلب وهو التعيّن الأوّل إلى حضرة أحدية جمع الجمع والوجود ، على ظاهرية الاسم الظاهر المشهود المعهود الموجود .
فما ثمّ إلَّا هو ، هو الأوّل الأحد ، والآخر أبد الأبد ، والظاهر بالعدد ، والباطن عمّا تعدّد ، والجامع بين ما تأحّد وتوحّد وتجدّد ، فتعدّد وتقيّد وتحدّد فالوجود الواحد الحق في هذه المرتبة لاتّصافه بالمحدثات المتجدّدة والتعينات المتكثّرة المتعدّدة يظهر بأوصافها ونعوتها متكثّر التعدّد والتعيّن .
متجدّد التجلَّي والتّبين فإنّه في كلّ ماهية ماهية بحسبها لا بحسبه ، خارجا عنها في حقيقته المطلقة لكون كلّ مطلق في كلّ مقيّد متقيّدا كذلك ، ككون اللون في الأبيض أبيض ، وفي الأسود أسود ، وفي الحمرة حمرة ، وفي الخضرة خضرة على التعيين والتقييد ، مع إطلاقه في عينه لا في أينه ، فافهم .
البحث الثالث منه أي من البحث الثامن :
ولأنّ مبدأ الانبعاث النفسيّ الرحماني الذي انفتحت فيه صور الحروف الشهودية والكلمات والسور والآيات الوجودية ، وهو الهيولى لهذه الصور الحرفية ، كما أومأنا إلى ذلك إنّما هو التعيّن الأوّل.
الذي هو نظير القلب من النشأة الإنسانية للنفس الإنساني ، ومخارجه مخرج الهمزة من قربه .
وقبل حصول الامتداد النفسي الرحماني والإنساني معا في المراتب والمخارج لا ظهور لعينه ، فهو خفيّ الحكم لاستهلاك إحدى نسبتي الواحد وهي واحديّته ومبدئيته في أخراهما ، وهي أحدية الأحد .
لهذه الإشارة لم يظهر للألف في التلفّظ بـ « الله » عين وقامت الهمزة مقامها ونابت منابها ، كقيام المظهر مقام الظاهر ، وظهور الخليفة بصورة المستخلف .
بحيث لا يظهر للمنوب عين يمتاز بها عن عين النائب إذ هو فيه عينه ، فالأثر والحكم منه فيه ، فافهم . وصورة الفتحة التي في همزة « الله » إشارة إلى أنّ التعيّن الأوّل مفتاح مفاتيح الغيب .
وبه ومنه فتح باب التعيّنات النفسية والصور الوجودية الأنفسية والتجلَّيات الشؤونية الشهودية الأقدسية .
ولأنّ ألف النفس ، له ثلاثة أوجه :
أحدها : نزاهتها ولا تعيّنها في كل مخرج مخرج له عن إطلاقه وأحديته .
والثاني : اعتبار تعيّنه بحسب المبدئية والأوّلية للتعينات .
والثالث : اعتبار برزخيّته وجمعيته بهويته بين التعين واللا تعين ، من كونه عينهما وعين الظاهر والباطن ، والأوّل والآخر .
وهذه الوجوه غير الاعتبارات الثلاثة الأول المذكورة ، فلا يشتبه عليك .
لا جرم ظهر مثالا لهذا السرّ في عالم الرقم الرسمي في الوضع الكامل العربي الأحدي الجمعي ، شكل الألف أحدية جمع نقط ثلاث وهو الخطَّ إذ النقطة أصل الخطَّ والسطح والسمك .
وهي إشارة إلى معقولية نسبة التعين ومع قطع النظر عن النقطة ، فلا خطَّ وإذ لا خطَّ فلا سطح فلا سمك ، وما ثمّ إلَّا بياض مطلق لا تعيّن فيه ، فنفس التعين حقيقة النقطة وهي صورته ومثاله في الرقم ، وهو عالم الحسّ والمحسوس .
ثمّ إن كلّ نقطة رقمتها بالأسود مثلا أو بأيّ لو كان ، إذا وضعت في سطح البياض ، فلا بدّ أن تقع على مثلها من جرم البياض المطلق ،
فتكون نقطتين :
نقطة ذات لون
ونقطة لا لون لها

فذات اللون منهما إشارة إلى التعيّن وهي الحجابية الظاهرية المظهرية ، والبياض مثلا في النقطة التي لا لون لها إشارة إلى النور الحق المتعين بالتعين الأوّل من البياض الإطلاقي اللاتعيّني.
وباتّصال النقطتين يتحقّق الوجود الثالث البرزخي الذي أوجب أحديّتهما وهو عينهما وأحدية جمعهما .
والخطَّ وهو الألف عبارة عن الهيئة الاجتماعية من مجموع النقط الثلاث ، وكذلك الخطَّ ، له في وضع الرسم ورسم الخط والرقم حركات ثلاث واعتبارات كذلك بحسبها لازمة لوجود الخطَّ :
أحدها : الحركة المستقيمة باعتبار التعالي والرفعة الذاتية وهي مرتبة النزاهة والقدس والغنى وانقطاع النسبة من الغير كما أشرنا إليه في الحركات النفسية الألفية الروحانية .
وبهذا الاعتبار لا يتّصل الألف بحرف أصلا إلَّا من حيث أوليّته لأنّه آخر كل آخر فلا آخر بعده إذ الوجود الحق هو الباقي الدائم بعد فناء كل تعين وتجدّد سرّ " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ " آية 88 سورة القصص .
والاعتبار الثاني : اعتبار التنزّل والتجلَّي وتعيّن الفيض الإيجادي بصورة التدلَّي والارتباط المرتبي ، كالعلَّة مع المعلول ، والألوهة مع المألوه ، والربوبية مع المربوب ، وبهذا الاعتبار يرفع الألف من اتّصل به ، فإنّ الألف وإن لم يتّصل هو بغيره ، فإنّه يوصل من اتّصل به ويصله ويطلقه بالفتح ألا ترى اتّصال جميع الحروف بالألف بهذا الاعتبار من العلو إلى السفل .
ثم الحركة المستقيمة إمّا من الفوق إلى التحت أو من التحت إلى الفوق ، فإنّ الربّ سبحانه على الصراط المستقيم ، ونسبة الفوق والتحت إليه على السواء .
كما أشار إلى ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله : " لو دلَّيتم بحبل ، لهبط على الله " هذا في نسبة التحت إلى الله .
وأمّا نسبة الفوق إليه بقوله - تعالى - : " يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ " آية 10 سورة الفتح .
وقوله : " وَهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إِله ٌ وَفي الأَرْضِ إِله ٌ " آية 84 سورة الزخرف.
واكتفى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الخرساء بإشارتها إلى السماء في الجواب عن سؤاله عنها : " أين ربّنا ؟ " فهذا نسبة الفوق إليه تعالى .
واعتبار الحركة الألفيّة من الفوق إلى التحت إشارة إلى تنزّل المطلق بالتجلَّي تحقيقا لارتباط المطلق بالمقيّد ولإيجاد أعيان الحروف .
واعتبار حركته من التحت إلى الفوق إشارة إلى عود التجلَّي المقيّد إلى إطلاقه الأوّل بعد التقيد بخصوص القابل وعروجه من الظاهر إلى الباطن ، ورجوعه من السفل إلى العلو ، وذلك بثلاثة أوجه :
أحدها : بالمعراج والانسلاخ على قانون طريق أهل هذا الشأن .
والثاني : بالموت ومفارقة الجوهر النفساني عن هذا الجوهر الكثيف الظلماني " من كانَ يَرْجُوا لِقاءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لَآتٍ " آية 8 سورة العنكبوت .
والثالث : بطريق النوم " الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها " آية 42 سورة الزمر .
والحركة الثالثة الألفيّة في العرض ، وهي على ثلاثة أنحاء أيضا :
أحدها : دورية إحاطية ، وفي هذه الحركة تتّصل نقطته الآخرية بنقطته الأوّلية وتكون عينها فإنّ المحيط أوّل وآخر بعين ما به أوّل ، وذلك عند كمال الدائرة فإن لم تكمل ، فهو في درجات الهلالية القمرية الارتقائية - إن كان في مراتب الخروج والدروج - أو في درجات الأهلَّة السرارية في مراتب الرجوع والعروج ، كما سنستقصي القول في ذلك عند ذكرنا أسرار هاء الله .
والثاني : حركته من اليمين إلى اليسار ، وهو إشارة إلى تمثّل الأرواح وتجسّد الملائكة وتشخّص التجلَّي .
والثالث :  من اليمين وذلك عند رجوع النفوس الروحانية عن القوالب والقوابل الجسمانية إلى عالم الأرواح بالموت في العموم ، وتروحن البشر وانحلال الصور التركيبية الثقلية إلى الصور الروحانية .
البرزخية والمثالية والنورانية والعقلية والعلمية الإلهية في الخصوص .
وكل هذه الحركات الألفيّة في هذه المرتبة الثالثة لنسبة بيان مراتب العدد والحروف والموجودات العينية ، فافهم .
البحث الرابع من البحث الثامن : الألف الممتدّة في العرض باء
وهو أوّل معلول ظهر من الحضرة الوحدانية الألفية ، كذلك روح الباء وهو عدده أوّل معلول الواحد وهو أوّل الأعداد باء بيان مراتب العدد الأصالة المطلق الواحد الأحد .
وإبانة المتعين المقيد بعين تعيّنه وتقيّده إنّه عن سابق مطلق لا يتقيد ، غير متعين بالأزل والأبد عن كل أمد . وإذا اتّصل ألف « الله » المتنزّل بالتجلَّي والتدلَّي بباء عبدانيّة التعين المظهري الكمالي ، ظهرت صورة لام الملكوت الأعلى .
وعند التحقيق يتحقّق أنّه لا يتّصل الألف المتجلَّي بسرّ التدلَّي والتولَّي إلَّا بالألف المعترّض للتعرّض والتلقّي بحقائق التجلَّي بعد التجلَّي .
فما ثمّ إلَّا نفس رحماني جوديّ ، وفيض تجلّ وجودي من امتداد ألف شهودي ، بتعيّن في لام لوح قابلية القابل ، وبعد التعين يكون قابلا مبيّنا مبيّنا للتجلَّي الثاني معيّنا معيّنا ، فالأوّل بهذا الاعتبار هو الظاهر ، والباطن هو الآخر لتأخّر تعيّنه في قابلية الأوّل .
ولهذا السرّ كانت صورة اللام في الخطَّ العربي الكامل مركَّبا من ألف نازل متّصل تعريضه بألف معترض ، وهو الباء في ثاني المرتبة الألفية الإلهية المتجلَّية سرّ التدلَّي متعرّضا للتلقّي .
واللام لأمان : لام الملكوت الذي بيده ، ولام الملك الذي " لِلَّه ِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ " آية 16 سورة المؤمنون .
وكذلك « اللام » يتضمّن ألفا من بسائطه ، وكذلك في " الألف " لام إشارة إلى استلزام الربّ للمربوب والإله للمألوه .
والألف الذي في « اللام » إشارة إلى الوجود الحق المتعيّن في قابلية الباء الذي هو العقل الأوّل القابل لمجملات العلوم الحقّية الملكوتية في ألواح المظاهر الخلقية.
فاللام الأوّل من « الله » لام لوح تفصيل الملكوت .
والثاني الذي في ألف لام الملكوت هو لام لوح تفصيل الملك الذي هو مظاهر ومجال لتفصيل الملكوت .
فلام الملكوت لام لوح تفصيل الألف الإلهي .
ولام الملك لام لوح تفصيل الملكوت و  فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) سورة يس.
والألف ملكوت الملكوت وملك الملك والملك والملكوت وملكوت الملكوت أو ملك ملكوت ملكوت لله ، وهو هو هو هو المليك والملك الملكوت للملك والمالك للملك.
فاللامان إشارتان إلى أنّ الملك والملكوت له تعالى بالاعتبارات الثلاثة المعتبرة عند أهل العربية ، يعني لام الملك والتخصيص والإضافة ، واللام في هذه الاعتبارات الثلاثة مجال ظهور آثار الملك وإحكام أحكام قدرة المالك .
وإشارة إلى تفصيل ما كان مجملا في الألف من عوالم الحروف والكلمات .
فاللام لام لوح تفصيل الألف الواحد الأحد في سائر مراتب العدد والكثرة الحرفية ، منفصلة ومتّصلة في الكلمات والسور والآيات والكتب المنزلة بمداد المدد ولأنّ لوح هذا التفصيل على وجهين : ظاهر وباطن .
وإن شئت فقل : غيب وشهادة ، أو صورة ومعنى أو ملك وملكوت كيف قلت فكل هذه العبارات والاعتبارات سائغة .
فاللام الأولى الملكيّة من وجه بالنسبة إلينا ، الساكنة المدغمة هي لام لوح التفصيل الملكي العيني الظاهر ، المدغمة في لام لوح التفصيل الملكوتي العيني الباطن ، وسكون لام الملك الظاهر القابل إلى لام الملكوت  الباطن المقبول مدغمة .
إشارة إلى أنّ القابل الذي هو الظاهر أو الشهادة أو الملك مدرج من وجه في الباطن ، والغيب محيط بالشهادة.
وإن كان اعتبارنا من وجه آخر بالعكس فإنّ الظاهر يستلزم الباطن ، والباطن مدرج  في الظاهر ، والغيب محمول في الشهادة ، والملك حامل للملكوت .
فلام لوح تفصيل الملكوت مدغم في لام لوح تفصيل الملك ، وهذا ظاهر تعرفه العقول .
والوجه الأوّل أولى وأوجه فإنّ الظاهر والشهادة والملك ظهرت عن باطن سابق ، وغيب متقدّم ، وملكوت محيط أوّل .
فافهم سرّ إدغام أحد اللامين في الآخر ، طردا وعكسا ، إن كنت ممّن له قلب ، أو ألقى السمع وأنت شهيد وهو غايتك .
وكما أنّ مرتبة الغني الذاتي تقتضي الارتباط ، وتقضي بعدم التجلَّي وانقطاع النسبة وما للتراب وربّ الأرباب من النسبة .
فكذلك ألف « الله » لم يتّصل بلامي الملك والملكوت لعدم الرابطة وانقطاع المناسبة بين المطلق من حيث إطلاقه وبين المقيد من كونه مقيدا ، ولانقطاع اللاتعيّن عن التعين .
وانفراد « الله » مستقلَّا بكماله الذاتي عن الاتّصال بالتعيّن الأسمائي والصفاتي ، وبما دونه من تعيّنات صور الجلال والجمال ، اللذين هما لوحا تفصيل الألف الذاتي الإلهي المطلق النزيه المنزّه المقدّس تعالى .
وكما أنّه لا ارتباط بين الوجود والعدم ، ولا اجتماع بين الإطلاق والتقييد من وجه واحد وبين التعيّن واللاتعيّن .
فكذلك لا ارتباط بين الألف واللام الأوّل ، ولكنّ اللام إذا اتّصل بالألف رفعه الألف إلى مقام الإطلاق بالفتح الغيبي .
كما هو لفظ « اللام » في الوضع العربي المعتبر عندنا ، وفيما نحن بصدده فإنّه بهذا الاعتبار لام وألف وميم ، فالألف منقطع عن الميم ساكن قد اتّصل اللام به ، ففتحه للرفع ورفعه بالفتح إلى إطلاقه ، فلم يبق له حظَّا في اتّصال ميمه .
واللام الثاني هو لام لوح تفصيل الملكوت متّصل بالتجلَّي الوجودي بالنسبة الأولى لقبول حقائق لام لوح تفصيل الملكوت نور الفيض النفسي الوجودي ، وتجلَّي التعيّن الجودي .
في مقام العيني العياني الشهودي قبل عوالم الملك فإنّ عوالم الملكوت والمجرّدات في زعم من يقول به من الأرواح والعقول والنفوس ، قبلت الوجود الفائض الواصل بالتجلَّي الألفي النازل .
والتدلَّي النفسيّ الحاصل في الروح القابل من الموجد المتجلَّي أوّلا قبولا أحديا جمليّا كلَّيا بلا واسطة وجودية عين نور التجلَّي النفسي الألفي الرحماني .
ثم فاض منها على ما أدغم فيها ، فلمّا سرى فيها ، كمّلها ورفعها وحملها وأوصلها إلى إطلاقه ، فافهم .
البحث الخامس من البحث الثامن : في وصل هذا الأصل
اعلم  أنّ الملكوت ، له نسبتان : نسبة إلى الملك ، وأخرى إلى المالك .
فبنسبته إلى الملك تظهر آثار المالك في الملك ، والملك في الملك ، ومن حيث نسبته إلى المالك يتّصل به ويوصل من اتّصل به ويكمل من استكمل به ومنه .
فسكون لام الملك بهذا الاعتبار في تابوت سكينة لام الملكوت تحت إلقاء ألف التعيّن الأوّل الإلهي المتلقّى من ألف النفس ، وبسكون القابل المتجلَّى له تحت حكم الملقي الملقى نزل ألف التجلَّي سرّ التدلَّي ، ويحصل القبول والتلقّي لأسرار الترقّي والتولَّي .
وفي هذا المقام يكون المطلق عين المقيد وبحسبه ، ويكون الألف عين اللام الأوّل الساكن باتّصال الألف بتعريفيه إلى رأس الباء ووجود حقيقة لام لوح الملك.
لأنّ الألف المتجلَّى له ينقل بوجوده المقيّد وبماله ونفسه وبهويته ، فغني عنها ، وخرج عن جميع ما يلزم الوجود من الحياة والعلم والإرادة والقدرة ونسبها ولوازمها وعوارضها ولواحقها وعن نفسه وعينه وهويته وإنّيّته .
فأحبّ الله التجلَّي إذ ذاك ، وحمله على عرش الألف الأوّل الذي لا يوصل إليه ، وهو منقطع النسبة بالغني عن لوحي لامي تفصيلي الملك والملكوت .
فكان سمعه وبصره ويده ورجله وجميع جوارحه وقواه وعينه ، ككون الظاهر عين المظهر ، ولا حظَّ للَّام إذ ذاك من الحركة إلَّا السكون وهو الجزم فإنّ الوجه القابل من المظهر ، للصورة الظاهرة فيه لا يظهر لاستهلاكه في عين الظاهر .
واعلم : أنّه لمّا وقع نور التجلَّي الألفي الخفيّ في همزة التعيّن الأوّل من مطلق مرتبة التعين ، ولم يكن قابل ، فرجع في نفسه وانثنى ودار دورة نفسية وتثنّى على حاقّ مركزه الأسنى ، وثنى إلى طلب القابل عنان عنايته وعيانه وثنّى .
ولمّا كان التجلَّي حبّيّا ، ودار بنفسه في نفسه دورا إحاطيا ، على جميع الأعيان النّفسية والنسب العلمية والشؤون الذاتية التعينية .
حصلت بالعروج إلى أقصى مراتب الشهود ، والرجوع إلى منبعث التجلَّي من حضرة الجمع والوجود دورة تامّة إحاطيّة في نفسه .
وانبعث بسراية أنوار التجلَّي الألفي الخفيّ حركة عشقية بين الحقائق التي للكثرة النسبية المستهلكة قبل التجلَّي في قهر أحدية الواحد الأحد .
وهي نسب الملك والإضافة والتخصيص المذكورة في بيان الحركات الثلاث اللاميّة فارتبط الإله بالمألوه والربّ بالمربوب والملك بالملك والملكوت بالمالك ، فوجدت اللام الساكنة وهو لام الملك والشهادة مدغمة في لام الملكوت بهذا الاعتبار ، فلمّا حصل الارتباط وظهر للألف لاتّصال اللام به الجمعية والانضباط.
رفع الألف واللام الثاني ، فارتفع بارتفاعه ، واعتلى وانطلق باعتلائه واتّساعه إلى العلوّ الذاتي الألفي فإنّ الألف أخت الفتحة وأوصله بحركة الفتح إلى ألف « الله » المتجلَّي .
وفي مقام شهود الألف وشهادته لا يظهر له بعد اللام الملكي المدغم في اللام الملكوتي المفتوح بالألف الذي اتّصل به عين ولا حظَّ في الخطَّ .
والرقم الأحدية شكل اللام لأنّه أفناه عنه بالكليّة ولم يبق منه بقية ، حتى يظهر وجود الألف لفظا لعدم ظهور سطح المرآة عند شهود الصورة فيها لأنّ الألف النفسي في اللامين عينهما ومع كونه عينهما فإنّه غير متعيّن في عين تعيّنهما به وتعيّنه بهما وفيهما تعيّنا يميّزه عنهما .
فلا يظهر له وجود في الرقم ، ولكن اعتبار اندغام لام الملك في لام الملكوت بتغليب القوى والحقائق الروحانية الملكوتية على أحكام حقائق الملك والشهادة .
وبكمال تبعيّة الظاهر للباطن وانفتاح لام الملكوت القلبي إلى فوقيّته المطلقة يظهر عين الألف غير المتعيّن في أعيان اللامين ، فيتّصلان به ويرفعهما بحركة الفتح إلى العلو وإلى الفوقية الألفية ، فافهم قوله تعالى على لسان الكامل :
" من اتّصل بي رفعته ، ومن تقرّب إليّ شبرا ، تقرّبت منه ذراعا ، ومن تقرّب إليّ ذراعا ، تقرّبت إليه باعا ، ومن أتاني يمشي ، أتيته هرولة ".
" وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ " آية 4 سورة الأحزاب.
البحث السادس من البحث الثامن : في أسرار هاء « الله » تعالى وهي الكناية عن الغيب الذاتي الإلهي
والهوية المحيطة بالملك والملكوت ، والظاهر والباطن ، والغيب والشهادة .
وبيانه :  أنّ الخطَّ الألفيّ النفسيّ ، إذا كان دوريا إحاطيا ، فإنّه تتّصل نقطته الآخرية بنقطته الأوّلية إشارة إلى أنّ التجلَّي النفسي المستجنّ في الروح الإضافي .
والألف الإلهية المستوية على عرش القلب الإنساني المؤمني التقويّ متّصل بالألف الإلهية الذاتية الأوّلية الغيبيّة آخرا في صورة اللام المتّصل بالألف أحد الألفين ظاهر والآخر باطن .
فتتحصّل للألف إحاطته بالظاهر والباطن ، والغيب والشهادة ، والملك والملكوت .
وهذه صورة الهاء التي للهوية الغيبيّة والعينية ، فهو الأوّل الخفيّ في اللفظ ، الجليّ في الرقم ، وهو الباطن في همزة عين التعيّن الأوّل لفظا والآخر الظاهر بعد اللامين لفظا لا خطَّا .
وهذا مقام اضمحلال أحوال السائرين واستهلاك مقامات السالكين وفناء أعيان الإنّيّة الوجودية في الهوية الأحدية الجمعيّة الإحاطية بالأوّلية والآخرية والظاهرية والباطنية .
حتى فني ما لم يكن ، وبقي من لم يزل ، كما قلنا في هذا المشهد : شعر :
هويّته أبقت فناء هويّتي       ...... وإنّي به فيه عديم لواجد
وقد فنيت إنّيّتي في هويّة        ...... إحاطية ذاتية لم تشاهد
ولأحدية العين الواحدة - التي لا عين غيرها - أنفة وغيرة من مقام الغيرية ، فلا غير يثبت ، لظهورها ، ولا ظلام يقوم ، لنورها .
عطس رجل بحضرة الجنيد قدّس سرّه فقال : « الحمد لله » .
قال الجنيد : « قل كما قال الله تعالى : " الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ " * آية 2 سورة الفاتحة .
فقال الرجل : « ومن العالم حتى يذكر مع الله ؟ ! »
فقال الجنيد : " الآن يا أخي فقل فإنّ المحدث إذا قرن بالقديم ، لم يبق له أثر ".
وهذا مقام الوله الذي لأهل الفناء في الله تعالى .
ولكنّ الفاني إذا تحقّق بعد تعدّي مراتب فنائه وهي سبع على ما عرف وتحقّق فناء فنائه ، تحقّق ببقاء الحق في هاء هوية الوجه الباقي في قوله : " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ " آية 88 سورة الفرقان .
حينئذ قال : " الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ ".
كما قال الله تعالى وأشار إليه الجنيد رضي الله عنه -هو الأستاد المحقّق .
وهذا مقام الورثة في اللامقام وهو أعلى من مقام الأوّل بدرجات كثيرة ومراتب خطيرة أثيرة لأنّه شهود محض ، لا يتحرّك معه لسان ولا يضطرب فيه جنان ، ولا يبلغه بيان ، فافهم .

ثم نرجع إلى ما كنّا بصدده فنقول :
اللام الثاني لام عرش الألف ، والعرش ظلّ الله كما قال تعالى : " أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ " آية 45 سورة الفرقان .
وبامتداد الظلّ الإلهي الذي هو لام لوح تفصيل الملكوت إلى الفوقية الإطلاقية والعلوّ الألفي يظهر نون عين الألف .
والنون نونان ، قوسان لدائرة الهاء المحيطة باللامين ويتّصل الألف الآخر بالألف الأوّل لكون النهاية منعطفة على البداية بعد انتهائه إلى الغاية والآخريّة متّصلة بالأوّلية .
ويبقى لاما لوحي الملك والملكوت والظاهر والباطن متّصلتين ، فظهرت صورة الهاء المحيطة بواوها الباطن .
وجزء الاتّصال بين اللام والهاء إشارة إلى سنّة الارتباط الذي به تقع المشاهدة وهو مركز ألف لام العلم ، ومقام اضمحلال العدد في الواحد الأحد .
وفناء عين العبد فيمن أوجد « كان الله ولا شيء معه » وهو الآن على ما عليه كان .
والجزء الموصل بين لام الملك والشهادة ولام الغيب والملكوت مركز العالم الأوسط ، ومحيط البسيط الأوسط ، وهو عالم الجبروت ، الثالث .
البحث السابع من البحث الثامن  : في التتمّة انقطاع الألف الإلهي ظهور سرّ "كان الله ولا شيء معه "
وتحقيقه في عالم الرقم والحروف المشاكلة للألف في عدم الاتّصال بما بعدها بعدد الحقائق العالية العامّة لأنّها هي السلطان في وجودها .
وهي مظاهر التجليات الألفية المتدلَّية ياء ، ومناظر الهويات اليائية وهو فيها وهي
الدال ، والذال ، والراء ، والزاي ، والواو .
فالدال حقيقة الجسم الكلَّي .
والذال المتغذّي .
والراء هو الحسّاس المتحرّك .
والزاي الناطق .
والواو لحقيقة المرتبة الإنسانية .
وانحصرت حقائق حقائق عالم الملك والشهادة الظاهرة بعالم الكون والفساد في هذه الحروف ، وهي لا تتصل بغيرها لأنّها حقائق الأجناس العالية .
فهي لا تتصل بغيرها -لكنّ الأشخاص تتّصل بها أجزاء ولكن يتّصل بها غيرها من غيبها وما قبلها لأنّ العلم بالملك والشهادة من العالم متقدّم بالنسبة إلى العالم من العالم على العلم بالملكوت وألواح الأرواح .
فلمّا تمّمت الهوية الأوّلية والآخرية والظاهرية والباطنية أراد الله تعالى أن يظهر في المنتهى صورة المبتدأ في تقديم ألفه الأزليّ الأوّل المنقطع المنزّه عن الاتّصال بما بعده من الحروف من كلّ وجه .
فأوجد هاء « الهو » متّصلا بواوه منقطعا عن ألف لام لوح الملكوت لفظا المتّصل بلامه رقما وخطَّا ، فبقيت الهاء بواوها مستقلَّة في اللفظ ، منقطعة عن اللام .
ولأنّ مركز ألف العلم بالملكوت ولامه متّصل بألف الآخرية المنقطعة عن ألف الأوّلية ، لظهور الحقيقة الإحاطية الهائية الغيبية وجد في عالم التخطيط لام لوحي تفصيلي الملكوت المفتوحة لوجود الألف اللفظي النفسي متّصلة بصورة الهاء خطَّا منقطعة بألفها عن الهاء لفظا .
وعن عالم الأنفاس تحقيقا لانفصال الحقّيّة عن الخلقية ، ففني المحدث بظهور القديم .
فبقي ألفان : ألف الذات وألف العلم لأنّ الأوّلية والآخرية ، والظاهرية والباطنية فنيت بفناء لام الملك في لام الملكوت ، كفناء لام الملكوت في ألف العلم المحيط .
فلم يبق إلَّا ألفان على أنفسهما منقطعتان بقيامهما عن رقدتهما وانحلالهما عن عقدتهما ، فلمّا اتّصلتا ، فني كلّ منهما في الآخر وكذلك فنيت الأوّلية في الآخرية والآخرية في الأوّلية .
وكذلك الظاهرية في الباطنية والباطنية في الظاهرية التي كان وجودها بألفي لامي لوحي تفصيلي الملك والملكوت ، فحصل ألف واحد محيط بما بين بدايته ونهايته على شكل الهاء ، وبظهور شكل الهاء المحيط الكلي الأحدي الجمعي علم أنّ الله أحاط بكلّ شيء علما .
وأحصى كلّ شيء عددا ، فعاد الأمر آخرا ، كما كان أوّلا فإنّ التجلَّي الحبّي الإلهي في بدء التجلي الإيجادي خرج من باطن قلب التعيّن الأوّل ودرج في الألف النفسي ومرّ على حضرة أحدية الجمع في العلم الذاتي على جميع حقائق الشؤون الذاتية والحقائق الفعلية الإلهية إلى أن يبلغ غاية حضرة الإمكان .
فلم يجد محلّ تعيّن التجلَّي تماما ، فرجع قهقرى إلى باطن القلب ، فتمّت دورة التجلَّي ، فتنفّس بألف النفس المحيط كإحاطة التجلَّي الحبّي ، فلمّا كان ما كان ، وبان ما بان ، بسرّ هذا الشأن ، عاد الأمر دوريا كما كان ، فما في الوجود إلَّا الله العظيم الشأن " كُلُّ من عَلَيْها فانٍ . وَيَبْقى وَجْه ُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرامِ"آية 26-27 سورة الرخمن.
البحث الثامن من البحث الثامن في تكملة هذه التتمّة
أعلم : أنّ الحركات الإعرابية إشارات إلى النعوت والأحكام والصفات والنسب والإضافات ، وإلى اللوازم
ولوازم اللوازم والتوابع واللواحق والعارضات . وكما أنّ الذوات تتميّز بالصفات ، فكذلك بالحركات الإعرابية  تتميّز الكلمات .
ولأنّ الأصل في هاء الله الذي هو ضمير الهوية الذاتية الإلهية إنّما هو الرفع لكون الرفعة ذاتية لها ، وتوارد النصب والجرّ عليها إنّما هو بحسب القوابل .
فيستلزم الهاء وجود الواو بالضرورة لأنّ الواو أخت الضمّة ، والهاء محلّ التعيين وحروف الاسم « الله » على عموم وجوهها من وصل وقطع هي الهمزة الأولى والهاء الأخرى مخرجها من قرب القلب عندنا .
ثم إنّ اللام مخرجه اللسان الذي هو ترجمان القلب بين الهمزة والهاء لأنّ لام لوح التفصيل ترجمان تعيّن الألف النفسي ولكون اللسان ترجمان القلب .
لا ما التفصيلين بين حرفي القلب كحصول مخرج اللام - وهو اللسان - بين الهمزة والهاء ومخرجهما من حوالي القلب .
وواو « الهو » إشارة إلى الجمعية الأحدية الإنسانية الأخيرة التي للمرتبة وجودها بالهاء المتّصل بها من غيبها وما قبلها .
ولمّا أفنت اللام اللوحية التفصيلية الملكوتية اللام اللوحية الملكية وأخذتها عنها ، وأوصلها بحركتها الفتحية إلى الألف ، فوهبها الإطلاق الألفيّ والإحاطية الهائية ، فظهرت مرتبة الحقيقة الأحدية الجمعية الإنسانية في واو الهاء ، فافهم .
البحث التاسع من البحث الثامن في واو الهوية
اعلم : أنّ الواو للمرتبة الإنسانية الكمالية الجمعية الأحدية من جهتين كلَّيتين :
إحداهما : أنّ الواو ضمير الجمع في علم العربية .
والثانية : أنّ الواو ، لها الإحاطة والشمول بخصوصيات الحروف المترتّبة في المراتب المخرجية إذ الواو تبتدئ ممّا بين الشفتين ابتداء جميعا في النفس .
ثم تمتدّ كذلك عارجة من الشفتين إلى الصدر ، ثم تعود إلى ما منه بدأت ، فتمرّ على مخارج الحروف كلَّها في دورتها الإحاطية الجمعية ، فتنصبغ بأحكامها في تلك الدورة .
وأيضا : الواو أخت الضمّة وهي الجمع ، وكما أنّ للواو الإحاطة والجمعية الباطنة المعنوية ، فكذلك الهاء ، لها الإحاطة الظاهرة .
والواو باطن الهاء ، وابتداء حركة الهاء ومخرجها من باطن الصدر يمتدّ بها النفس إلى ظاهر الشفتين ، ثم يعود إلى ما منه بدأ ، وتتمّ دورته محيطا بما مرّ عليه من خصائص المخارج الحرفية ، فالهاء ظاهر الواو وحركة الواو من عالم الشهادة والملك إلى غيب النفس .
ثم العود كذلك إلى ما بدأ منه ، فالهاء خارج في عروجه ، دارج في رجوعه ودروجه ، والواو دارج في عروجه ، خارج في رجوعه بعد دروجه ، وعروجه بخروجه ، فهما منطبقان أحدهما على الآخر انطباقا لا ينفكّ أحدهما عن الآخر كاعتناق اللام بالألف ، لا يقتضي الانفكاك والطلاق عبوديّة لا تقبل الحرّيّة والعتاق .
ثم اعلم : أنّ الواو والهاء والألف والياء ، كلَّها مراتب تعيّنات الألف في ألفيّته ، من كونه تعيّنا ممتدّا لا من حيث تعيّنه في المخارج ومناصب تبيّناته ومخارج تجلياته ومدارج تنوّعات تعيناته ، فالألف المستقيم لعلوّه وفتحه وخروجه عن القيود المخرجية الحرفية بعروجه ، والياء لانكساره وانخفاضه بتدلَّيه وتنزّله وتجلَّيه بدروجه ، والواو لجمعه الباطن الجامع بين دخوله وخروجه ، والهاء لجمعه وأحدية جمعه برجوعه وعروجه .
وفي تركيب هذه الحروف المقدّسة المحيطة الجامعة بعضها مع بعض على اختلاف أوضاعها تكون الأسماء الإلهية المتصرّفة في الكون لأصحاب العلوم الروحانية في العوالم العلوية والسفلية الجسمانية ، ولها معان في اللغة السريانية والعبرانية القديمتين .
وإذا عرفت هذا فاعلم : أنّ الوجود ظاهر النفس الرحماني ، والجمعية المرتبيّة باطنته ، والنفس الرّحمانيّ مادّة الحروف الوجودية كلَّها وهو الألف وأوّل مبدئيّة التعين الأوّل الموجب لانفصال الظاهرية والشهادة بالتعيّن عن الغيب المطلق كتعيّن ألف "الله " في الهمزة ، واللام الأوّل للملك والثاني للملكوت.
إشارة إلى أنّ عالمي الملك  والملكوت لوحان تفصّل فيهما الألف المجمل في الأزل ، وبعد تفصيل الصورة الألفيّة في الظاهر والباطن والغيب والشهادة ، فلا بدّ من الجمع والإحاطة الألفية الأولى أن يظهر آخرا بعد التفصيل وهو الإنسان الكامل .
وكما أنّه لا يكتفى من الإنسان بالنسبة إلى مراد الحق الذي هو كمال الجلاء والاستجلاء على الصورة الظاهرة ، بل المراد جمعيّته الباطنة المرتبيّة التي هي أحدية الجمع الكمالي .
بمعنى أنّ الإنسان الكامل يتحقّق بالبرزخيّة بين حضرة الوجوب وحضرة الإمكان آخرا كما أنّ التعين الأوّل في الأوّل جامع بين حقائق الوجوب الحقّيّة وبين حقائق الإمكان الخلقية جمعا أحديا قبل التفصيل فكذلك بعد تفصيل ارتباط حقائق الوجوب بحقائق الكيان في مرتبة الإمكان .
فلا بدّ من جمع أحديّ يجمع جميع الحقّيات الألوهية الوجوبية الحقّيّة والجمعيّات الكونية الخلقية ، وصورة هذه الجمعية هو الإنسان الكامل بالفعل ، فافهم .
البحث العاشر من البحث الثامن :
اعلم أيّدك الله بروحه ، وأمدّك بفتح لوحه وفتوحه من نور يوحيه : أنّ نفس الحقيقة المطلقة - التي هي حقيقة الحقائق الكبرى
التي نظيرها النقطة في مطلق البياض إذا جاش بنفسها في نفسها فامتدّ للتفصيل بحقيقة النفس ، كان في مبدأ الامتداد وحدانيا جمعيّا مشتملا على حقيقتي الظاهرية والباطنية ، والفعل والانفعال .
ولأنّ القابل غير خارج عنه ينعطف الفيض النفسي على نفسه ، فيحصل بالعروج والرجوع صورة الإحاطة بحقيقة فلك الإشارة .
والنصف الأعلى من هذا الفلك المحيط لعماء الربّ ، وفيه صور الربوبية وأشخاص الحقائق الإلهية النورية الوجوبية ، كما أشار إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عند سؤال أبي رزين العقيلي منه عليه السّلام : " أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه ؟ "
قال : " كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء " .
على ما سيأتيك نبؤه إن شاء الله تعالى .
والنصف الأسفل عماء الكون ، وأسميّه « غماء » بالغين المعجمة ويشتمل على الصور الكيانية وموجودات الحقيقة الإمكانية ما بين المعنويّات الشأنية والكيانية.
ومجرّداتها العقلية والنفسية الروحانية ، وطبيعتها الجسمانية وعنصريّتها الأركانية ، وسماويّها العلويّ وأرضيّها السفليّ وروحانيّتها الملكية والجنّيّة .
وغير ذلك من الصور المثالية المطلقة والخيالية المقيدة الحيوانية ، والصور الذهنية واللفظية والرقمية ، فافهم . وما أظنّك تفهم ولكن تتخيّل وتتوهّم ، والله الملهم والمعلم .
فالهمزة للتعيّن الأوّل ، والألف المنبعثة من التعيّن الأوّل هو النفس الممتدّ وحدانيا قبل انفصال أحد العماءين عن الآخر .
وحكم هذه الحكمة يظهر فيمن يظهر الألف بالمدّتين :
الألف واللام من الله ، وذلك عند تلقين الشيخ ، وهكذا تلقّنت الذكر بالجلالة جلَّت وعزّت من الشيخ رضي الله عنه ولنا في المدّات النفسية الإنسانية عند الغناء وفي مدّات أصوات الشابّات وانعقادات الأنفاس بحسب الألحان والنغمات ، أسرار وتجلَّيات وإلقاءات وتلقّيات لطيفة من حضرة اللطيف الخبير ، وسرّه ما ذكرت من سريان سرّ النفس الرحماني في عالم الأنفاس ، فتذكَّر .
فاللامان لهذا الاعتبار عماء الربّ وغماء المربوب ، ولا شكّ أنّ غماء العبد مدغم في عماء الربّ ، إذ الأرباب تستلزم المربوبين من وجه وتتضمّنهم من وجه.
وكذلك الإله المألوه ، والعلَّة المعلول ، والخالق المخلوق ، والرازق والمرزوق وجودا وتقديرا إذ المتضايفان لا يعقل أحدهما بدون الآخر أصلا ورأسا ، ولا تحقّق لأحدهما إلَّا مع الآخر وجودا وتقديرا .
فاللام الأوّل مدغم في الثاني لهذا السّر ، وباجتماع بحري العماءين في عين بحر النفس المحيط بالكلّ تتحقّق أحدية جمع بحري الوجوب والإمكان بالصورة الإلهية التي حذيت صورة آدم عليها ، فهي مجمع البحرين : بحر الغيب وبحر الشهادة ، وبحر الإمكان وبحر الوجوب .
وإذا تعيّنت هذه الصورة الإلهية الجمعية إحاطيّة ، تعيّنت مرتبة الإنسان الكامل في برزخ الجمع بين الحضرتين ، فيتحقّق للمحقّق المحقّ والمدقّق المدقّ أنّ الوجود من مبدئه إلى منتهاه مراتب تجلَّيات الله فما في الوجود على الحقيقة إلَّا الله ، كما قلنا : شعر :
هو الواحد الموجود في الكلّ وحدة      ..... سوى أنّه في الوهم سمّي بالسوى
فإذا قلنا « الله » نشهد التعيّن الأوّل من الهمزة ، ومن المدّ النفسي الألفي - الذي بعد الهمزة في صورة من يقول به - النفس الرحمانيّ وامتداده إلى أقصى مراتب الجمع
والوجود ، ومن اللام الأوّل المدغم لوح تفصيل الملك .
ومن اللام الثاني المفتوح لوح تفصيل الملكوت ، ومن فتحه فتح باب الفتوحات الإلهية والتجلَّيات النفسية الألفية الرحمانية من لوح التفصيل في أحد العالمين :
الملكي أو الملكوتي بأحد الاعتبارين المذكورين إن تذكَّرت .
ومن الألف الثاني الذي يظهر بعد اللام الثاني  تحقّق وجود الحق وبقائه الدائم الأزلي الإلهي ، بعد فناء حجابية العالمين : بـ " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ " آية 88 سورة القصص.


.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث الثاني من مباحث خطبة الكتاب تحقيق في وجوه تسمية اسم الله الجزء الثالث .للشارح مؤيد الدين قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 12:23 pm

البحث الثاني من مباحث خطبة الكتاب تحقيق في وجوه تسمية اسم الله الجزء الثالث .للشارح مؤيد الدين قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث الثاني من مباحث خطبة الكتاب تحقيق في وجوه تسمية اسم "الله"  الجزء الثالث
كما أشار إليه أيضا في ظهور وجود الله بعد تحقّق فناء عين السراب في شهود العطشان "كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُه ُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَه ُ لَمْ يَجِدْه ُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِنْدَه ُ فَوَفَّاه ُ حِسابَه ُ " آية 39 سورة النور .
وشهدنا أيضا من هاء الله إحاطة أحدية جمع الجمع الإلهي والعبدانيّ الملكي والملكوتي بالإحاطة الكلية المشار إليها بقوله : " أَلا إِنَّه ُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ " آية 54 سورة فصلت .
بجميع الإنّيّات الشأنية والكائنة ، ربّانيّها وكيانيّها .
ونشهد من الواو المتّصل بالهاء أحديّ جمع الجمع المرتبي الإنساني الكمالي .
فمجموع ما في الوجود ظاهر بالله ومظهره ، ناطق به ، وهو قوله وكلامه وفيه مسكه وختامه ، ومنه فتحه ونظامه وبه قوامه وقيامه ، وهو قيّامه ، هو هو لا إله إلَّا هو ، سبحانه أن يكون معه غيره في الوجود وهو العزيز الحكيم .


وصل متمّم للبحث السابع في الإشارة إلى الاسم
العلم الحقيقي الوجودي المركَّب من الحروف النفسية الرحمانية ، وهو الاسم الأعظم الذي به يكون التصرّف والتصريف في الأكوان والعوالم .
اعلم : أنّ الاسم  كما قيل كلمة مفردة دالَّة على معنى مفرد بالوضع غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة .
من خواصّ الاسم أن يخبر عنه ويخبر به ، ويدخله لام التعريف وتنوين التنكير .
والعلم من ذلك ما لا يدخله التعريف لاستغنائه عن ذلك .
ولمّا لم يوجد دالّ على الذات المطلقة تباركت من لفظ مفرد في النفس الإنساني إلَّا هذا الاسم ، بدلالة الأحدية الجمعية والتركيبية الحرفية على ما تقدّم ووجدنا في النفس الرحماني والوضع الإلهي كلمة تامّة الدلالة بحقيقتها وذاتها ووجودها ومرتبتها وأحدية جمعها الكمالية على الذات المطلقة الإلهية .
دلالة مفردة أحدية جمعية غير مقترنة بالحدوث الزماني وهو الإنسان الكامل لكمال دلالة ذاته على الذات ، وكمال دلالة أسمائه وصفاته على الأسماء والصفات.
أمّا ذاته فلأنّها جامعة لخصوصيات الذوات جميعها ، بل هي أحدية جمع جمعها الأوّل والآخر ، على ما نذكره إن شاء الله في الفصّ الآدمي .
وأمّا صفاته فلأنّ الإنسان الكامل مسمّى بأحدية جمع جميع الأسماء الربانية الحقّيّة والأسماء الكيانية الخلقية ، وموصوف منعوت بسائر الأسماء والنعوت الوجوبية والإمكانية .
وأمّا مرتبته فأحدية جمع جميع المراتب الفعلية والانفعالية والوجودية والمظهرية فإنّه البرزخ بين بحري الوجوب والإمكان ، والحدّ الفاصل بين التعين واللا تعين ، والتقييد والإطلاق . والإنسان الكامل من حيث كماله ، له أحدية جمع جميع هذه الجمعيات كلَّها بالفعل .
فلمّا دلّ بذاته ومرتبته وجمعيته على الجمعية الإلهية الكمالية ، دلالة جمعية أحدية مطابقة لأحدية جمع جميع التعين الأوّل ، والحقيقة المطلقة الجامعة لجميع الحقائق الكلَّية ، واستوعبت دلالته لجميع الحقائق الذاتية.
وأحاطت جمعيّته بالإطلاق والتعين والوحدة والأحدية والكثرة النسبية والوجودية ، ولم يكن من الموجودات العينية موجود تكون له هذه الدلالة المحيطة الكلية المطابقة للإحاطة والإطلاق الذاتيين .
تعيّنت علميّته الاسمية ، وقام هذا الاسم الأعظم مقام الإشارة إلى الذات المطلقة الإلهية وأخّر بحقيقته من حقيقة الله ، فهو الاسم العلم للذات الموجدة للعوالم كلَّها ، وهو الاسم الأعظم الذي هو مطلق التصرّف والتحكَّم على العوالم ، فافهم .

البحث الكلَّيّ : في المتمّمات والمكمّلات والخواتيم لهذه الأصول .
اعلم : أنّ فلك الحقيقة الإنسانية الكمالية كمرآة كريّة مجلوّة مسوّاة متمكَّنة في مركزية دائرة الوجود المطلق العامّ ، وهي فلك الإشارة المحيطة بالموجودات كلَّها ، وحقيقتها هاء الهوية الكبرى التي تنقطع دونها الإشارات وتنتهي إليها الكنايات .
وهذا الفلك الأعظم محيط بفلكين عظيمين :
أحدهما : فلك حضرة الوجوب والإلهية والربوبية .
والثاني : فلك الحضرة الخلقية والحقائق الكونية .
وكلّ واحد من فلكي حضرة الوجوب والإمكان مركز دائرته ، وفلكه في أحد ربعي النصف الواحد من قوسي دائرة الهوية الكبرى المشار إليها ، والنصف الآخر منه مطلق أبدا إطلاقا فعليا حقيقيا لا حصر فيه .
ولا ينبغي أن يتصوّر من قولنا : « فلك » أو « دائرة » معنى الانحصار والتناهي والتقيّد ، كما في محيط كلّ دائرة أو فلك جسماني .
فإنّ ذلك التناهي والانحصار بالنسبة إلى ما في ضمن المحيط لا للمحيط ، ولا يلزم أن يكون كلّ محيط متناهيا أو واجهة مخصوصة .
فإنّ ذلك إنّما يكون في محيط غير مطلق الإحاطة ، ونحن لا نعني بهذه الدائرة وفلكها إلَّا الوجود الحق المطلق غير المضاف المحيط الذي لا يتعقّل تناهيه من جهة أصلا ورأسا ، فافهم .
وهذا الفلك المحيط أحد شطريه عالم الإطلاق واللاتعيّن وغيب الغيب والبياض المطلق .
والشطر الآخر وهو نون القوس الثاني محيط على حضرتي الوجوب والإمكان وفلكيهما .


فنون هذا القوس من هذا الكتاب المحيط الأعظم نونان :
أحدهما : نون قوس دائرة الوجوب .
والثاني : نون قوس دائرة الإمكان .
ونسبة هذين القوسين أو النونين معا من الدائرة الكبرى نسبة النصف ونسبة كل واحد من فلكي الوجوب والإمكان إلى الفلك الأعظم المحيط نسبة الربع إلى الكلّ.
وقد اشتملت دائرة فلك الوجوب في أحد الأرباع الأربعة من الفلك الأعظم على جميع نسب الربوبية وحقائق الألوهية وأحاطت بصفات الذات الكلَّية ، وهذه الدائرة في سطح عماء الربّ الذي ما فوقه هواء ولا تحته هواء .
وفي ضمن هذه الدائرة دائرة الإمكان محيطة على الحقائق الكيانية ، ومشتملة على الأعيان والموجودات الإمكانية ، وكلّ واحدة من الدائرتين مرتبطة بالأخرى.
ومنضبطة بحيث إنّ كلّ نقطة في محيط دائرة كلّ واحد من مركزي فلك حضرة الوجوب وحضرة الإمكان تحت نقطة من نقط محيط الآخر ، وذلك باعتبار تلازم إحداهما الأخرى .
ولكن بالنسبة إلى محيط الدائرة العظمى كلّ منهما في ربع يحاذي ويقابل الأخرى ، وتلازم هذين الفلكين - محيطا أحدهما بالآخر تلازم ذاتي لا يقبل الانفكاك ، كما بين حقيقتي الربّ والمربوب والإله والمألوه فإنّ الرازقية بلا مرزوق والخالقية بلا مخلوق وجودا وتقديرا لا تحقّق لهما .
ودائرة كلّ واحدة من حضرتي الوجوب والإمكان تتحرّك إلى الأخرى بحركة عشقية غير الحركة المتطابقة لحركة الأخرى فإنّ حركة فلك الوجوب والإلهية إلى حضرة الإمكان للإحداث والإيجاد بالفعل والاقتدار والتأثير والإحاطة .
وحركة الفلك الخلقية إلى مركز فلك الوجوب والربوبية بالانفعال والانكسار والافتقار والذلَّة والعجز والتأثّر والحدوث والتجدّد والانحصار .
وكلّ واحدة واحدة من الحقائق الكلَّية الكيانية والحروف الانفعالية الإمكانية متوجّهة بافتقارها الذاتي إلى حقيقة كلَّية ربّانية وصورة إلهية حقّانية .
كتوجّهها إليها كذلك باقتدارها وتأثيرها وفيضها الجوديّ وانبعاث تجلَّيها الوجودي إلى كل حقيقة حقيقة هي محاذيتها وربّها ، والفلك المحيط بالكلّ الذي هو فلك الأفلاك الإلهية دائرة هاء الهوية الكبرى التي تتحرّك حركة محيطة كلية أحدية جمعية قهرية دائمة ، يندرج في حركتها الحركتان المذكورتان لفلكي الوجوب والإمكان .
وكواكب هذه الأفلاك وأنوارها صور حقائق الربوبية ، وأنوار النسب الإلهية الوجوبية ، ونقط حقائق محيط فلك الذات الإلهية .
ولكل حقيقة كلية فلك يدور على مركز حقيقتها وبحركتها تتعيّن نقط محيط فلكها وهي حقائق النسب الفرعية ، وهذه الأفلاك متداخل بعضها في البعض بحسب حقائقها ، ودرج مراتبها ودقائقها ، وبحسب توجّهاتها إلى مظاهرها وامتداد دقائقها لإمدادها من خلائقها .
وبتفصيل عظيم ليس هاهنا موضع تشكيلها ورسمها على تفصيلها ، نذكرها بإذن الله في كتاب الألوهية ، إن شاء الله تعالى وهو الموفّق .
وصل في وصل
وإذا تقرّر ما ذكرنا ، فاعلم : أنّ المرآة - الكلَّية الكريّة الإنسانية المجلوّة المذكورة أوّلا - هي في حاقّ المركزية التي للدائرة العظمى ، ومالها حركة أصلا ، بل على تمكَّنها المركزي القطبي .
ولكنّ الدائرة المحيطة الهائية الكلَّية تقابل في حركتها الكلية المحيطة بكل حقيقة حقيقة من حقائق العالمين في كل آن من الزمان كلّ جزء جزء فرضناه من هذه الأكرة المذكورة .
فتظهر بالضرورة في ذلك الجزء من المرآة صورة الحقيقة المقابلة من دائرة الهوية فيكون أحد طرفي الكرة المجلوّة - دائما - جامعا محيطا بجميع النقوش والصور والنقط ، الذي يحاذيه من دائرة الهاء الكبرى .
فأحد شطري أحد شطريه وسع جميع ما في حضرة الوجوب من الحقائق الأسمائية والنسب الربانية ، وكذلك وسع ثانيهما جميع ما في حضرة الإمكان من صور الأكوان ، فهو من هذا الوجه حق خلق دائما ، واجب ممكن ، جامع بين الحقّية والخلقية ،
وهو من جهة أحد شطرية الآخر مطلق على جميع هذه الأمور الربانية والنقوش الكيانية في محاذاة الإطلاق الذاتية ، ولا إحاطة ولا جمعية فوق هذه الإحاطة والجمعية.
فاستحقّ الإنسان الكامل لهذه الأسرار بهذا الاعتبار أن يكون دالَّا على ذات الموجد دلالة مطابقة علميّة يقوم مقام الإشارة إليها لعموم نشأته وإحاطة حقيقته وكمال جمعيته ، فهو قائم - لحقيقته في حاقّ مركزية فلك الكمال وبرزخ البحرين - مقام العلمية ، وأغنى عن دخول لام التعريف . فافهم .
تتمّة للوصل
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حكاية عن الله تعالى : « ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن »
وقال : « المؤمن مرآة المؤمن » ، فالعبد المؤمن هو المرآة المجلوّة التي تعطي بسعتها لصورة الناظر الإلهي فيها الأمان عن التغيّر والتحريف .
فالصورة الظاهرة فيها ظاهرة في مرآة قلبه القابلة للصور والحقائق الإلهية الوجودية ، وأمّهات أسماء الربوبية ، فقلبه نظير التعين الأوّل ، وحقيقة الحقائق الإلهية والكيانية ، وحرف الحروف الخلقية والحقّانية.
ونفسه نظير النفس الرحماني الذي هو مادّة صور حروف الحقائق كلَّها ، كما أنّ نفس الإنسان مادّة الحروف الإنسانية جميعها .
فهو إشارة إلى ألف الله ، والتعيّن النفسي من قلبه بالهمزة يشير إلى التعين الأوّل ، وباطن قلبه يشير إلى لام لوح تفصيل الملكوت ، وظاهر صورته يشير إلى لام تفصيل الملك .
وسرّه الوحداني وحقّه المستجنّ في قلبه وحقيقته ومظهريته الكاملة إشارة إلى الألف الإلهي الذي بعد لام لوح التفصيل الملكوتي ، وهو  بهويته الكلَّية الجامعة بين جميع الجمعيات.
إشارة إلى الهاء التي هي آخر حروف الاسم « الله » فافهم .
فإذا فهمت هذا ، علمت أنّ الله قد نظم كليات نشأة الإنسان الكامل على مطابقة حروف الاسم « الله » فهو إذن عرش الله ، كما أنّ محدّد الجهات عرش الاسم « الرحمن » والكرسيّ الكريم عرش الاسم « الرحيم » إذ لكلّ واحدة من الحقائق الكلَّية الربانية عرش كلي من الحقائق الكلية الخلقية الكيانية .
وهي حقائق الأجناس والأنواع العالية والمتوسّطة والسافلة بحسب عموم حيطتها وسعة فلكها ، وعرش الاسم « الله » هو قلب الإنسان الكامل الذي وسعه حين ضاق عنه فسيح عالم السماوات والأرض .
فهو الاسم العلم المشاربة إلى الله في الكشف الأتمّ والشهود الأعمّ ، كما قلنا في مدح كامل عصره : شعر
لو كان فينا للألوهة صورة   ...... هي أنت لا أكني ولا أتردّد
ولهذا لم يظهر دعوى الربوبية والألوهية إلَّا في هذا النوع ، وظهر أيضا فيه ضدّ ذلك ، حتى لم يبق من الموجودات ما لم يعبده هذا النوع من العلويات والسفليات . فافهم .
تكملة
المراد من وضع الاسم العلم هو الإشارة بذكره إلى المسمّى ، لا الإشارة إلى الاسم أنّه هو هو ، فلا تكون الإشارة إلى هذا المذكور الكامل - لأنّه الاسم الأعظم العلم إشارة إلى الله سبحانه فلا تغلط ، وافهم ، ما المراد ؟ -
بل وجوده في العالم إشارة من الله إلى الله ، فهو المثل المضروب بوجوده للمثل المقدّس المنزّه عن الشبه 
والمثل في قوله تعالى : 
" لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " آية 11 سورة الشورى .
"وَلِلَّه ِ الْمَثَلُ الأَعْلى " آية 60 سورة النحل .
ولمّا كان المراد من وضع الاسم العلم هو الإشارة بذكره إلى المسمّى .
فلو كان للذات المطلقة اسم علم لفظيّ ، لكان المراد من ذكره مع غيره تعريفها وتعيينها فكل تعريف فإنّه مسبوق بالمعرفة .
والثابت أنّ الذات المطلقة لا تعرف ولا تعرّف ، فليس في وضع الاسم العلم من حيث هذا الوجه فائدة ولأنّ تعريف ما من شأنه أن لا يعرف ، والإشارة إلى ما لا يتعيّن للإشارة محال .
وأيضا : وضع الاسم العلم إنّما يكون فيما يدرك بالحواسّ ، أو يتصوّر في الوهم أو ينضبط في العقل ، والذات المطلقة - تباركت وتعالت - لذاتها تقتضي عدم الانضباط في المدرك ، وتمتنع عن إدراك الحواسّ وتصوّر الأوهام ، فوضع الاسم العلم لها من ألفاظ النفس الإنساني ممتنع .
وأيضا : لمّا كانت العلَّة الغائيّة من وضع الاسم العلم هو أن يتميّز المسمّى عمّا يشاركه في نوعه أو جنسه أو صنعه وفنّه ، ويتعالى الجناب الإلهي عن الدخول تحت جنس أو نوع أو يشاركه شيء ، فيتعالى أن يوضع له اسم علم من عالم الكلمات والحروف النفسية الإنسانية ، ولا سيّما والاسم العلم لا يوضع إلَّا لما كان معلوما وهو من حيث هو هو لا يعلم - كما مرّ مرارا - فيمنع عن وضع الاسم العلم عليه .
وأيضا : الأسماء والألفاظ دالَّات على المشخّصات الذهنية لا على أعيان الموجودات العينية لأنّها تدلّ على المعاني ، وهي أمور ذهنية عناها العاني .
والذات المنزّهة تجلّ وتعظم عن جميع التشخّصات والتصوّرات والتعينات الخارجية والذهنية والعقلية ، وليس من عالم اللفظ اسم مفرد مركَّب من حروف يسيرة تركيبا جزئيا تقييديا ، له دلالة تامّة على الذات المطلقة على سبيل المطابقة .
فليس لها منه اسم علم ، وإنّما الممكن للعارفين به - سبحانه - والعالمين أن يعرّفوه بالألفاظ الدالَّة على نسبته الذاتية وحقائقه الصفاتية لا غير .
خاتمة للتكملة في الاسم الأعظم
اعلم : أنّ الاسم الأعظم الذي اشتهر ذكره ، وطاب خبره ونشره ، ووجب طيّه عن علوم الخلق ، وحرم تعريفه ونشره - من عالم الحقائق والمعاني حقيقة ومعنى ، ومن عالم الصور والألفاظ صورة ومعنى .
أمّا حقيقته فهي أحدية جمع جمع الحقائق الجمعية الكمالية .
وأمّا معناه فهو الإنسان الكامل في كل عصر ، وهو قطب الأقطاب ، حامل الأمانة الإلهية ، خليفة الله ونائبه الظاهر بصورته التي خلق عليها آدم عليه السّلام .
وأمّا صورته حسّا فهي صورة كامل ذلك العصر .
وهذا العلم الذي ذكرناه كان محرّما على جميع الأمم قبل نبيّنا صلَّى الله عليه وسلَّم ، وأنّه كان محرّما على سائر الأمم قبلنا لأنّ الحقيقة الإنسانية الكمالية لم تكن ظهرت بعد في أكمل صورتها .
بل كانت في ظهورها بحسب قابلية كامل ذلك العصر فحسب ، فلمّا وجد معنى الاسم وصورته حقيقة بوجود رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أباح الله العلم به أعني بمعنى الاسم الأعظم  في أمّته التي هي خير أمّة
"كنتم خير أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " آية 110 سورة آل عمران. كرامة لنبيّنا صلَّى الله عليه وسلَّم  .
وأمّا صورته اللفظية فإنّها مركَّبة من أسماء وحروف تركيبا خاصّا على وضع خصيص به يعلمه من أعلمه الله به إمّا بلا واسطة :   رؤيا أو كشفا أو تجلَّيا ، أو بواسطة مظهره الكامل .
وقد اختلف العلماء الظاهرية فيه اختلافا لا يتدارك ولا يتلافى .
والصحيح أنّ الله تعالى طوى علم ذلك عن أكثر هذه الأمّة لما يعلم سبحانه في طيّه من الحكم والمصالح ، ولم يأذن للكمّل والأقطاب الذين تحقّقوا بهذا الاسم حقيقة .
ومعنى وصورة أن يعرّفوا الخلق من هذا الاسم الأعظم إلَّا بعض أسمائه وحروفه التي يشتمل عليها هيئاته التركيبية ويحتوي عليها وضعها وتركيبها الخاصّ المنتج لأنواع التسخيرات والتأثيرات .
وأصناف التصريفات والتصرّفات في الكون من الولاية والعزل والإحياء والقتل والشفاء والتمريض وغير ذلك .
فمن أسماء الله هذا الاسم هو " الله " و " المحيط " و " القدير " و " الحيّ " و "القيّوم " ،
ومن حروفه « ا ، د ، ذ ، ر ، ز ، و ، لا » .
كما ذكره الشيخ رضي الله عنه في جواب مسائل سألها الحكيم محمد بن علي الترمذي ، صاحب النوادر رضي الله عنه من جملتها قوله :
« ما الاسم الأعظم ؟
وما حروفه ؟
وما كلماته ؟ » فافهم ، والله الموفّق .
وهذا آخر كلامنا في هذا الاسم وهي الجلالة جلَّت وتباركت وتعالت في هذا الكتاب .

" وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ " آية 4 سورة الأحزاب .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث الثالث من مباحث خطبة الكتاب في سرّ " إنزال الحكم ".للشارح مؤيد الدين قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 12:58 pm

البحث الثالث من مباحث خطبة الكتاب في سرّ " إنزال الحكم ".للشارح مؤيد الدين قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث الثالث على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

البحث الثالث من مباحث خطبة الكتاب في سرّ " إنزال الحكم "

اعلم : أنّ « الإنزال » إنّما يتعقّل تحقّقه من علو إلى سفل . والعلوّ قد يكون بالمكان وقد يكون بالمكانة ، فإنّ علوّ كلّ حقيقة اتّصفت بالعلوّ إنّما يكون بما يليق بها ، وكذلك الإنزال والنزول والعروج حقائق نسبية لا تتصوّر إلَّا بحسب النازل والعارج والعالي والدارج .
فإنزال الحكم من الحضرات العالية الإلهية المطلقة إلى مرتبة التعيّن والتقيّد في حقائق القلوب الإنسانية الكمالية لأنّ العلوّ الحقيقي للإطلاق الذاتي وحضرة الربوبية الفعّالية ، والتقييد والانفعال والنزول والانتقال للمرتبة العبدانية القابلة للأثر .
وإن اعتبرنا الإنزال والنزول فيما نحن بصدده وهو" إنزال الحكم"  من علو المكان ، كان من السماوات وما فوقها من العرش والكرسيّ .
والحقيقة تقبل الاعتبارين جميعا على كثرة أنحائها وجهاتها واختلاف درجاتها وطبقاتها فإنّ الحكم الإلهية تنزل من الحضرات الأسمائية المتعينة في أفلاكها وسماواتها ، وأنّ لكلّ اسم أو أسماء فلكا وسماء فيها عرشه ، وهو يتجلَّى فيها وينزل حكمته الخاصّة به من تلك السماء .
وذلك الفلك الخصيص به على أيدي سدنته الروحانية الملكية والنورية الكوكبية على قلب "قلوب" الكلم
الكاملة المحمولة في الروح الإضافي الخاصّ المنفوخ في صورة النبيّ الكامل أو الوليّ الذي هو مظهر ذلك الاسم ، وقلبه عرش الله المتعيّن في تلك الحضرة ، فافهم .
و " الحكمة " عبارة عن العلم بحقائق المراتب وترتيب المعلومات المترتّبة فيها .
فهو خصوص مرتبة في العلم ، كما أنّ « المعرفة » خصوص علم بالذوات والحقائق المجرّدة من جهة حقّيّتها وتجرّدها عن اللوازم والعوارض واللواحق لا غير .
و « العلم » عبارة عن الإحاطة بحقيقة المعلوم كما هو ، مع لوازمها وعوارضها ولواحقها ومراتبها فعلم أنّ الحكمة علم خاصّ بترتيب الحقائق في مراتبها الوجودية الأزليّة الأبدية حسب تعيّنها في أعيان مراتبها العلمية الأزلية ، ووضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها ، فافهم .
فهذه حقائق العلم ، والمعرفة ، والحكمة من حيث هي هي ، سواء اعتبرت مضافة إلى الحق أو الخلق ، ولها باعتبار الإضافة إلى حضرة الحق خصائص ، وكذلك بحسب الإضافة إلى المرتبة الخلقية خصائص تقتضيها الإضافة لا بحسب الحقائق ، ليست كالأخرى فهي في الحضرة الإلهية الوجوبية مطلقة ، محيطة ، قديمة ، دائمة ، فعلية ، غير متغيّرة ولا متجدّدة ، كاملة ، مكمّلة . وهي بالنسبة إلى العالم مقيّدة ، محدثة ، مستفادة ، انفعالية ، قابلة للتغيّر والنفاد والفناء والذهاب بحسب المرتبة التي أضيفت إليها ، فافهم .
وإذا تحقّقت هذا فاعلم :
أنّ الحكيم الرحيم تجلَّى بحكمته الكلية الرحمانية السارية سرّ أحدية الجمع في حقائق الأسماء وحضرات المسمّيات .
فلكلّ حضرة من حضرات الأسماء الكلية الكمالية وحضرات الأسماء التالية الفرعية والنسب الحرفية أيضا حكمة خصيصة بها .
يقبض الله لها أهلا يفيض تلك الحكمة عليه ولكل حضرة من الحضرات عالم خصيص بها يظهر آثارها وأفعالها وعلومها وحكمها وأحكامها وتجلَّياتها إتماما في عالمه .
وجميع الأسماء والحضرات أعوانها وأتباعها في كل ذلك ، ولا تستغني حضرة عن حضرة ، ولا تنفرد بالاستبداد في الإمداد عن الاستمداد بالكلّ .
ولكنّ الغالب في كل عالم حكم حضرة خاصّة به على ما سواه ، وللكل في الكلّ بالكل تعيّن كمالي ، فافهم
ولكل حضرة من هذه الحضرات إنسان كامل في كل عصر هو حامل حكمتها .
فكانت كمّل الأنبياء من آدم إلى محمد صلَّى الله عليه وسلَّم في دورة فلك النبوّة ، حملة أحكام هذه الحكم ، والحكم الجامع لجميع الأحكام الحكمية كلَّها .
والحكمة الأحدية الجمعية الكمالية لجميع الحكم إنّما هي في كلمة خاتم النبيين على ما يأتي إن شاء الله .
ولمّا كانت الأفلاك الإلهية محيطة بأفلاك النبوّة ، وأفلاك النبوّة ظاهريّات أفلاك الولاية ، كانت لهذه الحكم مظاهر وحملة من الأولياء بعد انقراض نبوّة التشريع بخاتم النبيين ، محمد بن عبد الله المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم فلكل نبيّ وليّ من هذه الأمّة كامل محمديّ قائم بمقامه وعلمه وحاله.
وحكم ذلك النبي المنزلة عليه من حضرة اسم « المتولَّي » إيجاده و « المفيض » بتجلَّياته ، عليه عند ذلك الوليّ .
ويعرف بين أهل التحقيق مثلا بأنّه محمديّ المقام ، أو موسوي المقام والعلم والحال ، أو غيرهما كذلك .
ثم الأولياء والأقطاب الذين هم حملة تلك الحكم على أصناف :
صنف يأخذون الحكم عن أرواح أولئك الأنبياء الأوّل ولا يتعدّونهم أصلا ، وهؤلاء هم ورثة الأنبياء المسمّون بأسمائهم والقائمون بأحوالهم وأعمالهم وعلومهم من حيث هم .
وصنف أعلى وهم يأخذون الحكم من الحضرات الأسمائية ، كما أخذتها الأنبياء بكمال الاستعداد وقدم الصدق والعناية الإلهية .
وصنف لهم الجمع ، وهم المحمديّون الآخذون حكمة كل حضرة ونبيّ من الحضرة المحمدية الجمعية الكمالية ،ويعرفون بالمحمديّين بعد نبيّهم إلى سائر الأنبياء.
فيقال : فلان موسوي ومحمدي وعيسوي  كذلك عيسى بن محمد ، أو محمد بن عيسى مثلا وذلك لأنّ سرّ أحدية الجمع المحمدي الإلهي سار في كل حضرة ومقام وحكمة ، فافهم .
وصل : في تتمّة هذا الأصل
اعلم :  أنّ الحقّ تعالى و أولياؤه الذين آتاهم الله علوما وكتبا أمرهم بتصنيفها وأملى على قلوبهم بألسنة الإلهام والإعلام مسائل تأليفها .
أجرى الله سبحانه سنّته وسنّتهم في كتبهم أن يحمدوا الله وينعتوه بالمحامد والأوصاف الكمالية الخصيصة بعلوم ذلك الكتاب .
والمطابقة لمضمون ما فيه من فصل الخطاب لا بغيرها من المحامد بما لا يناسب حال المصنّف الحامد فيما هو بصدده من الوارد والشاهد .
وذلك مثل ما نعت الله نفسه في مقام تعريف ربوبيّته العامّة المطلقة بربّ العالمين .
فقال : " الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ"آية 2 سورة الفاتحة .
ولمّا كان في مقام بيان إيجاد الذوات والصفات العلوية السمائية والسفلية الأرضيّة ، قيّد حمد الله بنعت « الخلق » و « الجعل » لكون الخلق إيجاد الذوات ، والجعل إيجاد الصفات.
فقال : " الْحَمْدُ لِلَّه ِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ " آية 41 سورة الأنعام.
ولمّا كان في بيان أنّ القرآن منزل على محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الله ، قال : "الْحَمْدُ لِلَّه ِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِه ِ الْكِتابَ " آية 1  سورة الكهف.
وكذلك المحقّقون من مشايخنا يتّخذون هذا الأصل في تصانيفهم ويتأسّون بسنّة الله في كتبه المنزلة على الرسل وعلى الخصوص ، شيخنا وإمامنا مصنّف الفصوص ، وأولاده الإلهيون من ورثة ختمية الخصوص.
ولهذا وصف الله تعالى بعد الحمد بأنّه منزل الحكم لكونه رضي الله عنه بصدد بيان الحكم المنزلة على كمّل الأنبياء لأنّه تعالى أنزل الحكم من إطلاقها الإلهي من الحضرات العالية إلى قلوب الأنبياء والأولياء وأرواحهم وأسرارهم .
فتعيّنت الحكم في مظاهرها وتبيّنت مقيّدة بخصوص مجاليها ومنازلها .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث الخامس من مباحث خطبة الكتاب في ما وقع على "قلوب الكلم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 1:12 pm

البحث الخامس من مباحث خطبة الكتاب في ما وقع على "قلوب الكلم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث الخامس على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
البحث الخامس من المباحث الكلَّية التي تحويها خطبة الكتاب ما وقع على "قلوب الكلم"
البحث الرابع مفقود فى الكتاب والمخطوطات فلنمضي بالبحث الخامس من المباحث الكلَّية التي تحويها خطبة الكتاب
قال الشيخ - رضي الله عنه - : " على قلوب الكلم " .
يقال : أنزل إليه وأنزل عليه ، قال الله تعالى : " إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ " آية 105 سورة النساء.
وقال : " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ " آية 7 سورة آل عمران.
قال العبد : العلم بحقيقة القلب من أغمض العلوم الحقيقية ، وقد وقع خبط عظيم قبلنا في تعريف المتقدّمين لحقيقة القلب وحقيقة الروح وحقيقة السرّ والنفس .
فمذهب الجمهور من المشايخ والحكماء والعارفين من أصحاب الرسوم والمترامين إلى طور التحقيق - أنّ هذه العبارات والألفاظ مترادفة على حقيقة واحدة ، سمّيت بهذه الأسماء في مراتبها ومقاماتها فسمّيت تارة روحا ، وأخرى نفسا ، ومرّة قلبا .
والكشف والتحقيق يقضيان بأنّها حقائق متمايزة بخصوصيات تميّز كلَّا منها عن الآخر ، ونحن نشير إلى حقائق هذه الأسماء والألفاظ ومدلولاتها بما يقضي به حقّ التحقيق ويقتضيه الكشف  والله وليّ التوفيق .
ونقدّم لذلك مقدّمة نافعة :
في سعة عالم المعاني وإحاطتها
فنقول : عالم المعاني والحقائق أوسع وأعظم من سائر العوالم لعدم خلوّ عالم من العوالم العلوية والسفلية  جمليّا كان أو تفصيليا عن معان كثيرة قائمة .
بل التحقيق الأتمّ هو أنّ « العالم » عبارة عن معان قائمة بالوجود الظاهر بها وعالم المعاني عبارة عن صور علم الحق بحقائق الأشياء .
ولا خفاء في سعة الحضرة العلمية وهي حضرة تعيّن معنويات الأشياء فكان عالم المعاني أعظم سعة وأوسع فلكا وحيطة .
ثم العوالم بعدها في الوجود بعضها أوسع من البعض ممّا دونه في عالم الملكوت وهو عالم الأرواح أوسع فلكا وأعظم حيطة من عالم الخلق والملك والشهادة .
ثم من عالم الخلق أيضا العرش والكرسي والأفلاك والسماوات أعظم وأوسع من عالم الكون والفساد وبعض عالم الكون والفساد أيضا كذلك أوسع وأعظم ممّا دونه ، وهذا بيّن بين أهل النظر .
ولمّا كان الأعلى أوسع وأعظم ممّا دونه ، فبالأولى والأحقّ والأخرى أن يكون عالم الألفاظ والعبارات أقلّ وأضيق فلكا من عالم المعاني والحقائق . الذي هو أوسع العوالم وأعلاها وأوّلها وأولاها.
فلو كانت هذه الألفاظ والعبارات أوسع فلكا وأعظم حيطة من عالم المعاني وذلك بيّن البطلان على ما مرّ لكانت الألفاظ والعبارات أكثر من المعاني ووجدت ألفاظ لا معاني لها ، وليس الأمر كذلك .
ولا يقال : قد يركَّب من الحروف ألفاظ لا معاني لها لكوننا لم نضعها لمعان .
لأنّا نقول : هب أنّكم لم تضعوها لمعان في زعمكم ومبلغ علمكم ، ولكن لم قلتم بأنّ حروفها والتركيبات الخاصّة الواقعة فيها ممّا ركَّبتموها وما لم تركَّبوها .
وهي محتملة الوقوع فيها على اختلاف أنواع الأوضاع وكثرة أنحائها ليس في صلاحيتها الدلالة على معان علمها الحقّ الذي هو الواضع الأصل الأوّل ، الذي يضع منها ما شاء في نفوسكم وأذهانكم أن يضعوها على معان يعنونها .
فإنّ المعاني تعقّلات عناها العاني ؟
بل المعاني والحقائق في علم البارئ وعلم أرباب علم الحروف موضوعات بإزاء الألفاظ والعبارات .
وهي بحقائقها وبسائط حقائقها تطلب أنواع الأوضاع والتراكيب الواقعة فيها ..
وفيها دلالات ذاتية على المعاني والحقائق واللوازم والعوارض واللواحق عرفها الواضع منّا أو لم يعرف وعدم علومكم بها لا يدلّ على عدم دلالتها على المعاني .
وأنّها غير ذوات المعاني إذ لا تعيّن لها في عرصة العلم الإلهي فإنّا نجد تراكيب حرفية وهيئات فيها اجتماعية تعطي خواصّ غريبة وآثارا عجيبة في التكوينات والتصريفات والتسخيرات .
كما تحقّق عند علماء علوم الأسرار والروحانيات والطَّلسمات ، ممّا لا يشكَّكنا في آثارها المشهودة مشكَّك .
فتحقّق لنا بهذا وغيره أنّ أنواع التراكيب الواقعة والمحتملة الوقوع في الحروف ، لها معان ومدلولات وإن لم نعلمها ولم نعثر عليها علمها الخلَّاق العليم بها .
فأنزل منها البعض في التعقلات والأذهان ووضع لها أن تضعها لمعان بعينها وتعقّلات تعتبرها وتدبّر بها ،فيضعها الواضعون المصطلحون كذلك.
ويظنّون أنّها أوضاع أول لعدم علمها وكشفها في عالم المعاني التي هي صور معلومات الحق ومعاني نسب علمه الأزلي القديم بالأشياء.
بل أوضاعنا لهذه الألفاظ بإزاء ما نعني من المعاني إنّما هي أوضاع ثوان وقعت بحسب تلك الأوضاع الأول المعنوية العلمية الأزلية الأوّلية ،بموجب الحقائق الحرفية. 
عرف ذلك العارف المحقّق ، وكشفه الكاشف المدقّق ، وتحقّق بحقيّة ذلك ، المحقّق المحقّ ، وجهلها أهل الحجاب ، فلم يعثروا عليها وهم معذورون من وجه .
ولهذا السرّ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : « الألقاب تنزل من السماء » .
وفي هذا المقام وجميع الألفاظ المترادفة في زعم القائلين بذلك وفي الألفاظ المتواطئة والمشتركة أيضا لنا مع عامّة علم المعاني والبيان وظاهرية المنطقيين خلاف قديم ، ونظر قويم ، وبحث مستقيم .
ليس هذا موضع تفصيله ، وفيما ذكرنا غنية لمؤهّل الكشف . فينحلّ بما ذكر أنّ هذه الألفاظ المذكورة كالروح والقلب والنفس وغيرها هي ألفاظ دالَّات على حقائق متمايزة ومعان متغايرة .
ولا يتحقّق الترادف والتواطؤ حقيقة إلَّا مجازا ، وبعد تقرير هذا الأصل نرجع إلى ما كنّا بصدد بيانه .
بيان وجوه الفرق بين اللطائف السبعة الإنسانية
فنقول : اعلم : أنّ الإنسان في حقيقته وهيئته جمعية أحدية من جوهرين هما جسمه وروحه :
أحدهما وهو الجسم :
جوهر ، متحيّز ، مظلم ، كثيف ، مركَّب ، عنصريّ ، ثقيل ، ميّت ، منفعل ، سافل ، حادث ، متغيّر .
والثاني  وهو الروح :
جوهر غير متحيّز يروّح الجوهر - المظلم الكثيف الميّت - عن ظلمته وكثافته وموته بنوره الذاتي وحياته الحقيقية وبساطته الوحدانية وحركته وخفّته .
وهذا الجوهر الثاني غير المتحيّز لا يفتقر إلى متحيّز في تقوّم حقيقته وتحقّق وجوده في عينه ، ويسمّى هذا الجوهر روحا مروّحا لجسمه عن خصائصه العدمية .
وبين الجوهرين تباين كلَّي في الحقائق ، فلا جامع غير الوجود والجوهر .
فأوجد الله من هذا الجوهر بهذه الحيثية والاعتبار جوهرا ثالثا هو النفس ، وهي جوهر غير متحيّز وغير متقوّم بالمتحيّز ، له تعلَّق التدبير والتعمير والتسخير بالمتحيّز ، وهو الجسم .
وذلك لأنّ النفوس الناطقة وإن كانت جواهر وحدانية نورانية فإنّها مشتملة على قوى كثيرة وخصائص وحقائق كذلك .
ظهورها متوقّف على تعلَّق التدبير والتسخير والتعمير والتنوير بجعل الله تعالى هذه الجواهر النفسانية الإنسانية وسائط بين الجوهر النيّر الحيّ الشريف الوحداني القدسي الروحي ، وبين الجوهر الآخر المظلم الميّت المركَّب.
الكثير لمناسبتها الجوهرين بجهتيه :
الوحدانية المطلقة والكثرة النسبية.
والتقيّد بالتعلَّق بالمتعلَّق .
فأوصلت فضائلها القدسية وأنوارها الكمالية الروحية إلى الجوهر الآخر يحيا بها ، وتنوّر وتروحن واكتسب الفضائل كلَّها .
فالنفس جوهر غير متحيّز ، له تعلَّق التدبير بالمتحيّز للتعمير ، والتشريف بالتسخير والتصريف .
فحقيقة روح الإنسان نور التجلَّي النفسي الرحماني المتعيّن في ماهية القابل الإنساني يروّحه بنسيم القدس ، وينفّس عنه كرب الطمس والليس ، فافهم .
وأمّا النفس فنفس رحماني متعيّن من روح نوراني في مزاج جسماني إنساني وغيره .
فهذا الجوهر هو المدبّر للبدن والمتصرّف فيه أنواعا من التصرّف بقواها الذاتية لها ،كالقوّة العلمية والقوّة العملية اللتين هما ذاتيتان للنفوس.
وبهما تدبّر أجسامها وهياكلها ، وتظهر أحكامها وآثارها وقواها ، فبالقوّة العلمية تعلم ما فيه مصالحها ومصالحه .
وتدبّر في موجبات ما به قوام جسدها وبقاؤه ، وبالقوّة العملية تعمل الأعمال والصور .
ولها قوى كثيرة جزئية لازمة لهاتين القوّتين تظهر منها إذا تعيّنت في المزاج العنصري بالإشراف عليه ، وفي قواه .
وهذه المباحث معلومة في الحكمة الحقيقة الكشفية لا الوهمية الرسمية .
وهي أعني النفس متعيّنة من النفوس الكلَّية المتعينة بالأفلاك وفيها ، متعيّنة في الأمزجة القابلة لتعيّنها فيها من عالم الكون والفساد .
فبعد تعينها في المزاج وامتزاج الخواصّ والحقائق والقوى البدنية المزاجية بالحقائق والقوى والخواصّ النفسانية وتفاعل بعضها في البعض ، تحصل منها هيئة اجتماعية هي أحدية جمع حقائق الجوهرين جميعا .
وذلك لأنّ لكلّ واحدة من حقيقتي النفس والبدن خصوصيات وحقائق ليست في الأخرى .
وكما أنّ كل واحدة منهما متميّزة عن الأخرى بخصوصياتها الذاتية الجوهرية .
فكذلك بينهما وبين حقائقهما الذاتية ولوازمهما العرضية مناسبات هي ما به الاشتراك والإيجاد والجمع ، كالإمكان والحدوث والوجودية والجوهرية والافتقار إلى أحدية الجمع والوجود في ظهور آثارهما وأحكامهما وخواصّهما .
فكذلك لكل واحدة منهما قابلية واستعداد خاصّ تقبل به فيضا خاصّا وتجلَّيا معيّنا من الحق يتعين في مظهريته وقابليته من الحضرات الأسمائية الخصيصة به فإنّه ما استعدّ قابل كياني لتجلّ ربّاني إلَّا وفاض عليه من الرحمة الفائضة الوجودية الجودية ما يخصّه ويناسبه .
ولا يحجبك ما يحصل في زعمك أنّ الجواهر الروحانية والنفسانية إنّما قبلت الفيض الوجودي الذي وجدت به وقبلت الكمال الخاصّ بها كاملة دفعة واحدة في أوّل الإبداع . واستقلَّت بذلك أبدا فإنّ هذا وهم من القائلين به .
بل هذه الموجودات وإن قبلت الوجود على الوجه الأكمل وصارت بذلك واجبة الوجود .
ولكن ذلك لم يخرجها عن الحقائق الإمكانية ونسبها العدمية فإنّ كلَّا منها مع قطع النظر عن الوجود الفائض عليه وترجيح الموجد لجانب وجوده معدومة لأعيانها فإنّ نسبتها العدمية الإمكانية تطلبها ، ولكنّ الله يوالي ويتابع عليها التجلَّيات مع الآنات ، والتجلَّي الدائم بالوجود على ماهيات العقل والنفس والروح هو الذي يوجب دوامها لا غير .
فهي بوجوداتها التي قبلت أوّلا تستعدّ لتجلَّيات أخر أبدا دائما ، وكل ما دخل في الوجود لا يقبل العدم .
ولمّا تعيّنت الأرواح الجزئية والنفوس البشرية والملكية وغيرهما في أمزجتهما الخصيصة بهما ، وتداخلت خصائص الكلّ في الكلّ ، وتمازجت الحقائق الروحانية والعقلية بالحقائق والأحكام البدنية المزاجية بأحدية جمع الخصوصيات والأحكام التي للحقيقة الروحية والحقائق والقوى والخواصّ والنسب الجسمانية ، فإنّ الهيئة الاجتماعية بين خصائص الجوهرين الجمع بين حقائق الطرفين .
ثم إنّ لها بحسب كل نسبة وحكم من أحكام الجانبين نسبة وحكما خصوصيا جميعا أحديا ، ليست في كل واحد من الطرفين ، تستهلك فيها صور الخصوصيات ، مع بقاء خواصّها في الحكم القلبي الجمعي .
فالقلب حقيقة جامعة بين الحقائق الجسمانية والقوى المزاجية الجسمانية وبين الحقائق الروحانية والخصائص والأحكام النفسانية .
والتجلَّي الخصيص بحقائق الجوهر النفساني والروحاني تجلّ متعيّن من حضرة القدس والنزاهة والوحدة والعلوّ والفعل والشرف والحياة والنورية .
والتجلَّي المخصوص بالجسم متعيّن بأضداد ما للروح والنفس ، وذلك كتعين التجلَّي في كل قابل بحسبه .
فلمّا ظهرت الحقيقة القلبية بأحدية الجمع ، استعدّت لقبول تجلّ إلهي وفيض جمعي كمالي إحاطي ثالث لا يمكن تعيّنه في كلّ واحد من الجوهرين ولا في خصائص كلّ منهما وحقائقهما على الانفراد .
وهذا الفيض المخصوص بالقلب الإنساني إنّما يكون تعيّنه من الحضرة الإلهية الكمالية الجمعية وأصل حقيقة التعيّن الأوّل وهو المتعين بذلك التعين من كونه مروّحا له عن نسبه العدمية ولأنّ المتعيّن بالتعين عن الحقيقة المتحققة في الإطلاق واللا تعين .
وفي التعين كذلك ، كان للروح نسبة الأحدية والبساطة والحياة والنور والشرف والنزاهة من جهة إطلاق التعين ، وحقيقة الجسمية من حقيقة الحقائق الإمكانية المظهرية ، ولهذا غلب عليها التركيب والكثرة والظلمة .
والحقيقة القلبية الكمالية ، لها الجمع بين البسيط الشريف العالي النزيه المنيف وبين المركَّب السافل الكثيف السخيف .
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : « قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ».
الإصبع الواحدة نعمة التجلَّي المتعين من حضرة الجلال والقهر والوحشة والستر و " هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيه " آيه 76 سورة يونس . إذ عيب العين ستر على نور السرّ .
والإصبع الأخرى نعمة التجلي المتعين من حضرة الجمال واللطف والأنس والنور والحياة والنشر .
والأوّل يختصّ بجسمانيته . والثاني يتعلَّق بروحانيته .
والإصبع في اللغة العربية هي النعمة.
فقلب المؤمن بين نعم التجلَّيات الجلالية الجمالية الظلمانية الموجبة لسكون النورية الروحية فيها وبين نعم التجلَّيات الجمالية الروحانية النورانية.
ولتحقّق الحقيقة القلبية بأحدية جمع الطرفين تختصّ بأحدية جمع النعمتين والتجلَّيين فلها التجلَّي الكماليّ الجمعي الأحدي الإلهي الإنساني من كمالات الإصبعين .
وهذا التجلَّي الثالث القلبي المتعين بسرّ الأحدية الجمعية الإلهية الكمالية من الله المستوي على عرش أحدية جمعه القلبي الذي وسعه قلب المؤمن حين لم تسعه السماوات والأرض .
وهو من حيث تعيّنه بالقلب يسمّى في عرف القوم بالحق المستجنّ في مظهرية الإنسان الكامل ، كما أشار إليه الكامل - صلَّى الله عليه وسلَّم حكاية عن الله تعالى أنّه قال : « ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقيّ المتّقي الوداع » .
يعني ما وسعه أرض الجسمانيات سماؤها وأرضها ، ولا سماء العلويات ، يعني الموجودات الروحانية العالية لاختصاص كلّ واحد من الطرفين بما يضادّ الآخر في التجلَّي ، وانحصاره في خصوصيته ينافي خصوصية الآخر ، ووسعني قلب عبدي المؤمن ، القابل المصدّق لأخبار التجلَّيين ، فله الجمع بين الحسنيين ، والفوز بالجمع بين الكمالين .
ويسمّى هذا التجلَّي الحاصل لأهل القلوب في عرفهم بالسرّ الإلهي .
وسمّاه بعض المتأخّرين من محقّقيهم بالسرّ الوحدانيّ الذات .
ويسمّى في مشرب الكمال بالحق المستجنّ كما قلنا أي الباطن المستتر بمظهرية القلب ، لاستجنانه واستتاره بباطن القلب الإنساني الكمالي ، فافهم .
وإذا فهمت فقد علمت :
حقيقة الجوهر الجسماني 
 وحقيقة الجوهر الروحاني النفساني 
 وحقيقة القلب 
 وحقيقة السرّ 

والحقيقة الإنسانية المتحققة بالكلّ
والفرق بينها ، وما به يختصّ كلّ حقيقة وتمتاز عن الأخرى ، وما به تشترك وتتّحد .
وأمّا الروح فهو نفس رحماني يروّح ماهية الممكن وحقيقة المظهر الكياني القابل ، وينفّس عنها كرب العدم وحرج الصدر وضيق الفطن .
فالروح نور من الحق ينفّر ظلمة عدم الكون ، ويروّح القابل ، وينفّس عنه ، وذلك النور نور التجلَّي الوجودي والفيض الجودي المتعين في القابل والمقترن عن أمر الله ماهية الممكن أزلا .
فعلى هذا الروحيّة مرتبة تعمّ العقل والنفس والروح لأنّ حقيقة كل منها من نفس الرحمن وبعد تعيّن الفيض الجودي النوري في القابل أوّل مرّة يصدق اسم الروح عليه .
ثم الروح وهو أوّل وجود القابل إمّا أن يقبل ويضبط التجلَّي المتوالي عليه لإبقاء عينه ، ويعقل المتجلَّى عليه بذلك النور .
ويعقل ذاته وإمكانه وهو العقل ، وإمّا أن لا يعقل ذاته وإمكانه ، واستهلكه شهود التجلَّي ، وأخذه التجلَّي عنه ، فهو الروح المهيّم .
وتقرير هذا التقسيم بوجه آخر :
هو أنّ التجلَّي النفسيّ الفائض من النور : إمّا أن يغلب العين القابلة ، ويقهر الحقيقة الممكنة ، فلا تقوى على ضبطه ، فتستهلك في التجلَّي ماهيّة المتجلَّي له.
أو يكون القابل أغلب ، فلا يستهلك التجلَّي عينه ويقاومه بل يتعين التجلَّي فيه بحسبه ، فيكون الغالب على التجلَّي حكم المحلّ القابل ، أو لا يغلب حكم أحدهما على الآخر .
فالأوّل : عالم الأرواح المهيّمة تجلَّى لهم الله في جلال جماله ، فهاموا فيه ، فلا يعرفون أنفسهم لكون التجلَّي أفناهم منهم .
والقسم الثاني : وهو ما غلب فيه حكم المحلّ والمظهر على حكم التجلَّي هم على درجات :
فمنهم : من لم يغلب فيه حكم كثرة الإمكان على وحدة النور الفائض ، ولكنّه توحّد به لكمال مناسبة القابل للتجلَّي ، وهذا شأن العقل الأوّل .
ومنهم : من غلب فيه حكم كثرة الممكن على وحدة التجلَّي ، فتعيّن النور فيه مفصّلا تفصيلا لا يغلب فيه حكم الكدر على حكم النور ، بل يكون النور والروحيّة غالبا على الظلمة العدمية الإمكانية ، وهذا شأن النفس الكليّ وهو اللوح المحفوظ .
ومنهم : من غلبت حجابية الكثرة على نورية التجلَّي وهو عالم الجسم ، فالروحية إذن مرتبة محيطة بالعقول والنفوس والأرواح ، والعقل والنفس ، لهما خصوص مقام في الروح وقد قال بعض المحقّقين عن العقل : إنّه الروح الأعظم .
وهذا المقدار الذي ذكرنا في بيان هذه الحقائق وضّح للمستبصر المنوّر الفهم حقيقة القلب والعقل والنفس والروح والفرق المميّز بينها ، فلا يقع له خبط بين الحقائق والمراتب إذ لا خبط في التحقيق .
وإذا تحقّقت ذلك فاعلم :
أنّ إنزال الحكم من حضرة الأحدية الجمعية الإلهية إنّما يكون على القلوب الأحدية الجمعية الكمالية الإنسانية بين حقائق الروح والنفس والجسم .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث السادس من مباحث الخطبة سرّ" الكلم " .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 1:19 pm

البحث السادس من مباحث الخطبة سرّ" الكلم " .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث السادس على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

البحث السادس من مباحث الخطبة سرّ" الكلم "

وهي جمع كلمة ، والكلمة في عرف التحقيق هيئة اجتماعية حرفية من حروف النفس الرحماني .
والكلم هاهنا فيما نحن بصدده عبارة عن الأرواح الإنسانية الكمالية الأحدية الجمعية المتعينة من التجلَّيات النفسية الرحمانية بأحديّات الجمعيات الحرفية الكمالية الإلهية .
قال الله - تعالى ” :إِلَيْه ِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ “ آية 10 سورة فاطر.
أي الأرواح الطاهرة ، إمّا بالمعارج والانسلاخ من قانون الطريقة الخاصّة بخلاصة خاصّة الأولياء ، أو على مدرجة العامّة في الموت أو النوم " الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ " آية 42 سورة الزمر.
أي الأرواح الناطقة " حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ "آية 42 سورة الزمر.
» يتوفّاها في منامها .
وقال الله تعالى في المسيح عليه السّلام : إنّه "كلمة "
" إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ "آية 45 سورة آل عمران.
" إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ " آية 171 سورة النساء
 لكونه روح الله .
ولمّا كانت محالّ تنزّلات الحكم الإلهية هي أحدية جمع قابلية الكلم الجامعة بين حروف عالم الطبيعة وبين حروف عالم الأرواح ، جعل إنزال الحكم على قلوب الكلم .
لأنّ الكلم في عرف العربية ثلاث يصحّ إطلاقها على الاسم .
والاسم " يقصد هنا الكلمة الأولى" في طور التحقيق هو الفاعل أو القابل فإنّ كلَّا منهما يخبر به ويخبر عنه ،
وهو لفظ مفرد من الألفاظ النفسية الرحمانية ، دالّ على معنى مفرد بالوضع الإلهي أو الذاتي ، غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة .
إذ الفاعل هو الحق المتعين في أيّ مظهر وقابل من الأعيان الثابتة فرض .
وهو فرد أزلي ليس تعيّنه باقتران الزمان لكون كلّ اسم اسم إلهي متعيّنا في العين الثابتة أزلا قبل وجود جزئيات الأزمنة .
وكذلك القابل لفظ أوّل ذاتيّ مفرد بعينه ليس بالزمان الشخصي ، وكل منهما يخبر به ويخبر عنه ويعرّفان وينكَّران أحدهما بالآخر بأنّ كلَّا منهما لا يستغني عن الآخر في تحقّق وجودهما ، لا في تحقّق أعيانهما .
الكلمة الثانية هو الفعل ، فيخبر به إذا التجلَّي وهو فعل المتجلَّي يخبر به عن الفاعل المتجلَّي بموجب التجلَّي ، وعن القابل أنّه على خصوصيّة قضت بهذا الحكم والتعيّن والتجلَّي ، ولا يخبر عنه من كونه فعلا ، وهو اعتبار التعين فقط مع قطع النظر عن المتجلَّي .
فإن أخبر عنه كما يخبر عن الأفعال أنّها ماضية أو غيرها فذلك باعتبار المتجلَّي وكون التجلَّي عينه .
والثالثة الحرف وهو الرابط ، وهو في طور التحقيق إشارة إلى النسب التي لا تحقّق لها في أعيانها إلَّا بطرفيها .
والحكم لا تنزل ولا تتعيّن إلَّا في الأحدية الجمعية الكمالية ، ولا تظهر إلَّا بها وفيها ، لا على مفرد مفرد لفظا ومعنى فافهم .
فلهذا أضاف إنزال الحكم وأسندها إلى « قلوب الكلم » لا على الكلم لما في القلوب من الأحدية الجمعية الإلهية القابلة للحكم الجمعية الكمالية الأحدية لاختصاص هذا الكتاب بذكر خصوص مشارب أهل الكمال .
" وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ " آية 33 سورة الأحزاب
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث السابع من مباحث خطبة الكتاب "أحديّة الطريق الأمم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 1:28 pm

البحث السابع من مباحث خطبة الكتاب "أحديّة الطريق الأمم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث السابع على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

البحث السابع من مباحث خطبة الكتاب "أحديّة الطريق الأمم"

قال الشيخ رضي الله عنه" بأحديّة الطريق الأمم " .
قال العبد أيّده الله : الطرق إلى الله كما قيل بعدد أنفاس الخلائق ، كثرة الطرائق إنّما هي بحسب الطارقين والمتطرّقين من السالكين والسائرين والطائرين والصائرين من الحقائق فإنّه ما من حقيقة كيانية أو ربّانية إلَّا وهي سالكة على طريق خاصّة ونهج خصيص بها من عموم.
قوله - تعالى - " لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً " آية 45 سورة المائدة.
وهي التي منها جاء ، وهي مؤدّية لها إلى كمالها الخصوصي ، والطرق وإن كانت كما ذكرنا فإنّها ترجع إلى طريقين كلَّيّين مشتملين على طرق لا تتناهى بعدد الأنفاس غير المتناهية إلى الأبد :
يسمّى أحدهما في عرف التحقيق طريق سلسلة الترتيب ، والوسائط التي في مراتب الوجود من العقل إلى القلم إلى اللوح إلى الطبيعة إلى الهباء إلى الجسم إلى العرش والكرسيّ والفلك والسماوات والأرضين والأركان والمولَّدات إلى مرتبة الإنسان الذي هو آخر الأنواع .
والثاني يسمّى طريق الوجه الخاصّ في عرف القوم ، ويسمّى أيضا طريق السرّ ، ولا مدخل فيه بواسطة أصلا فإنّ الوجه الذي يرتبط كل موجود بالحق تعالى منه ارتباطا ذاتيا لا بتوسّط واسطة ، فإنّ حقيقة المربوب مرتبطة بحقيقة الربّ ارتباطا لا يقبل الانفكاك .
والارتباط أيضا على وجهين :
ارتباط من حيث الوجود العامّ ، وذلك في طريق سلسلة الترتيب ، وارتباط من حيث العين الثابتة التي لكل موجود ، والتجلَّيات الحاصلة للعبد من هذا الوجه ذاتية إلهية تقرب الأين ، ويقربها العين ، وترفع من البين البين ، وتجلو عن عين العبد الغين والرين .
ومن هذا الطريق تكون الجذبة لأهلها وهو الطريق الأقرب الأمم .
والطريق الأوّل هو الطريق العامّ ، الذي تكون فيه الحجب والعقبات ، والوسائط التي أشار إليها رسول الله  صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله : " إنّ لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة ، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدرك بصره " .
فالحجب الظلمانية مراتب عوالم الأجسام ووسائطها .
والحجب النورية مراتب عالم الأرواح النورية .
وهذه مراتب الخلقية الكيانية التي ذكرنا أصولها من كونها وسائط وأسبابا خلقية بين الحق وبين السالكين إليه بقطع المقامات وطيّ المنازل والمسافات المعنوية المعقولة والمحسوسة الصورية .
والعوالم الروحانية من الجواهر المجرّدة العقلية والأرواح والنفوس التي بين العبد والحق ، فهي مراتب الحجب .
ما لم يتجاوزها السالك إلى الحق ، لم يصل إلى الحق فإنّه تعالى كما قال تعالى : " وَالله من وَرائِهِمْ مُحِيطٌ "آية 20 سورة البروج  وهذا هو الطريق الأبعد .
والقاصدون من هذا الطريق وإن كثروا ، فالواصل منهم قليل جدّا ، وبالنادر يكون الوصول .
وبعد حصول الوصول المتوهّم يحتاج إلى الرجوع في طلب الحق الذي رحل عنه في المنزل الأوّل وجهله ولم يعرف ، كما قال بعض التراجمة :
ربّ امرئ نحو الحقيقة ناظر ..... برزت له فيرى ويجهل ما يرى
لأنّ الحق المحيط بكلّ شيء " وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ " آية 4 سورة الحديد .
وأمّا طريق السرّ من جهة الوجه الخاصّ فهو الذي يحصل منه التجلَّي لأهل الجذبات وهو الطريق الأقصد - أي الأقرب - للقصّد ، والأمم الموصل لمن أمّه من الأمم .
والسالك على هذين الطريقين :
إمّا حق أو خلق
والحق سلك على الطريق الأوّل إلى عبده الأكمل في الفضاء الأوسع الأشمل بالتجلَّي الوجودي والفيض الجودي ، وسلوك الحق عليه إنّما يكون بتجلَّيه النفسي الرحماني الأحدي الجمعي من حضرة العلم الذاتي بالتعين الأوّل إلى العين .
وأوّل منازله الكونية العقل الأوّل وهو القلم الأعلى والأرواح المهيّمة في فلك الإشارة المشار إليها آنفا .
ثم النفس الكلية وهو اللوح المحفوظ .
ثم الهباء وهو الهيولى .
ثم الصورة .
ثم الجسم الكلّ إلى آخر الأنواع كما ذكر .
ثم الإنسان الكامل ، وله أحدية جمع جميع الكمالات كلَّها .
والمرتبة الأولى أحدية جمع جمع الحقائق كلَّها ، والتجلَّي الإلهيّ الوجودي يسلك من التعين الأوّل إلى الإنسان الكامل بحصول كمال الجلاء والاستجلاء في غاية هذا الطريق .
والحكم العامّة الظاهرة تنزل فيها وتتعين في كلّ مرتبة مرتبة وتنصبغ بكيفية محلَّها وتتكيّف بحكمها إلى أن تصل إلى الإنسان الكامل.
والسالكون هنا إلى حضرة القدس واللاهوت إنّما يسلكون في معاريجهم على هذا الطريق ، وهو مترتّب بحسب حضرات الأسماء .
والضرب الثاني طريق الوجه الخاصّ الذي لا مدخل فيه لواسطة أصلا ، كما ذكره .
وهو الوجه الذي به يكون الحق في سلوكه عين العبد وسمعه وبصره وجوارحه وقواه الروحانية .
ثم يكون العبد عين الحق وسمعه وبصره ولسانه ويده ورجله ، ثم يجمع له بين التحقيقين ، ثم يكون له مقام جمع الجمع والإطلاق .
والعبد السالك إلى الله على الطريق الأوّل"
إنّما يسلك على المقامات والمنازل بتسليك المرشد الكامل .
وهو وإن كان شاقّا وبعيدا وفيها من العقبات والحجب والمجاهدات ما لا يحصى ، ولكنّه إذا وصل ، واصل إلى الله عليها كان كاملا يقتدى به.
وفيه من المعارف والفوائد والمنافع ما لا يعدّ ولا يحدّ ، وقليل ما هم مع كثرة الخائضين فيه والسالكين عليه.
وذلك لأنّ السالك يحتاج إلى التحقّق بحقائق جميع الوسائط وتعدّيها إلى حضرة الله الذي هو "
" من وَرائِهِمْ مُحِيطٌ " آية 20 سورة البروج.   وهو طريق المعراج .
كما قال تعالى "سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِه ِ لَيْلًا " آية 1 سورة الإسراء.
أي في ليل الغيب الذي في سرّ كل عبد " من الْمَسْجِدِ الْحَرامِ " وهو قلب العبد الكامل الذي حرّمه الله على غيره ، فلا موضع للغير في قلب العبد الكامل لكون الحق ملأه.
" إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى " وهو الحضرة الألوهة الذاتية ، لا الألوهيّة السارية في الحقائق بسراية الصورة.
" لِنُرِيَه ُ من آياتِنا " وهي حقائق العوالم والوسائط وصورها ورقائق نسب الأسماء والروابط وآثارها.
" إِنَّه ُ هُوَ السَّمِيعُ بعبده ما يوحي إليه من هذه الآيات و " الْبَصِيرُ " بكمال استعداد العبد الذي به يسمع خطابه في الطريق ويبصر آياته.
فهو سمع الحق وبصره ، في عين كون الحق سمعا وبصرا له في كل ذلك .
وإذا سلك العبد بالحق على الطريق ، أو سلك الحق بعبده جمعا وفرادى على طريق الجذبة من جهة رفع الوسائط والحجب كما أشار إليه صلَّى الله عليه وسلَّم : " زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها " عنى طويت لي أرض عالم الإمكان وحجابيات وسائط الأكوان ، فأريت مشارقها التي تطلع منها الأنوار الأسمائية ، ومغاربها التي تغرب فيها تجليات السبحات الوجهية ، فافهم .
تجلَّى الحقّ للعبد في هذا الوجه من عين العبد .
فإذا أشرقت سبحات وجهه عنه عليه ، أحرقت حجابية العين ، واستوى على عرش العرش .
وفي هذا السلوك يكون عين العبد طريقا للحق في سلوكه إليه ، وفي سلوك العبد إلى الحق يكون عين الطريق وعين السالك ورجله التي يمشي عليها ، فافهم .
ففيه مباحث الطريق وأقسامه ، والسالكين على اختلاف طبقاتهم ، وغير ذلك .

والله الموفّق .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 1:41 pm

البحث الثامن من مباحث خطبة الكتاب "من المقام الأقدم وإختلفت النحل والملل لاختلاف الأمم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث الثامن على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
البحث الثامن من المباحث الكلية الستّة عشر "من المقام الأقدم وإن اختلفت النحل والملل لاختلاف الأمم "
قال الشيخ رضي الله عنه : « من المقام الأقدم وإن اختلفت النحل والملل لاختلاف الأمم » 
قال العبد : إنزال الحكم على وجهين كما ذكر من مقامين أحدهما أقدم من الآخر ، لأقدم الزمان ، المعلوم لعلماء الرسوم ، بل تقدّم المرتبة والذات :
المقام الواحد : مقام حضرة الألوهية والربوبية ، ويكون إنزال الحكم من حيث هذا المقام تفصيليا متعدّدا بحسب تعدّدات الحضرات الإلهية .
فحكمة حضرة : اللطيف ، والجميل ، والمحسن ، والعطوف ، والرؤوف ، وأخواتهم تباين حكمة حضرات : القاهر ، والجليل ، والشديد العقاب ، والمعذّب ، والمنتقم ، المتكبّر .
والمقام الثاني : هي حضرة الأحدية الذاتية ، ويكون إنزال الحكم من حيث هذا المقام حكمة واحدة ينتفي عنها الكثرة الوجودية الأسمائية .
ولهذا قال رضي الله عنه  :" بأحدية الطريق الأمم " ، يعني طريق الوجه الخاصّ .
وإنزالها من المقام المذكور أوّلا وهو الأخير رتبة من حضرات الأسماء على طريقة سلسلة الترتيب والوسائط إلى قلوب الأنبياء والأولياء الذين هم مظاهرها الخصيصة بها اختصاصا يقيّدهم بها .
وإنزالها من المقام الثاني في الذكر وهو المقام الأقدم في الرتبة ، مقام الحضرة الذاتية الإلهية المسمّاة بأحدية جمع جميع الحضرات الأسمائية والمتجلَّية بأحدية الجمع الثاني الإلهي منها وعليها بأحدية الطريق الأمم إلى قلوب الكلم من الحضرة المحمدية الجمعية الأحدية الكمالية الختمية خاصّة .
فالحضرات الأسمائية الإلهية من كونها ذاتية للذات اللاهوتية وإن كانت كلَّها قديمة ولكن اعتبار أحدية الذات أقدم بالرتبة وذلك لأنّ الأحدية والواحدية ذاتيّتان للواحد للذات 
فأمّا أحديّتهما فمقام انقطاع الكثرة النسبية والوجودية واستهلاكها في أحدية الذات " قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ " فنفى العدد ونعت بهاء الهوية " الله الصَّمَدُ " ، لأنّه المبدأ ، وإليه يقصد ويصمد ، وعليه المعتمد .
وأمّا واحديّتها وإن انتفت عنه الكثرة الوجودية ، ولكنّ الكثرة النسبيّة متعلَّقة التحقّق فيها إذا الواحد من كونه مبدأ للعدد نصف الاثنين وثلث الثلاثة وربع الأربعة ، وجزء من أيّ عدد فرضت .
وهذه النسب ذاتيّة التحقيق للواحد ، ولكن ظهورها مشروط بتعدّد الواحد بذاته في تفاصيل مراتب العدد وجودا وعلما .
فافهم تفهم تقدّم مقام الأحدية على مقام الواحدية والحضرات الأسمائية ، إن شاء الله تعالى .
والحكم الإلهية الأحدية الجمعية وإن كانت منزلة على قلوب الكلم الكمالية بأحدية الطريق الأمم ، ولكنّ الشرائع والمذاهب والأديان والملل مختلفة جدّا .
كما قال الشيخ رضي الله عنه  : " وإن اختلفت النحل والملل لاختلاف الأمم " وذلك لأنّ المتديّنين والمتشرّعين من الأمم مختلفون في أمزجتهم وأحوالهم ومراتبهم وعرفهم وعاداتهم ومآخذ نظرهم ومعتقداتهم ، فتختلف الحكمة الواحدة والكلمة إلى حكم كثيرة في كلمة كثيرة كذلك .
والحكمة في حقيقتها الأحدية واحدة ، والكلمة واحدة ، والدين واحدة ، والأنبياء مع كثرتهم دعوتهم إلى ربّ واحد ، وهم على إلّ واحد .
قال الله تعالى - : " شَرَعَ لَكُمْ من الدِّينِ ما وَصَّى به نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا به إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه " آبة 13 سورة الشورى.
فصرّح أنّ دعوة الكلّ إلى إقامة الدين الواحد والأمر بأخذه والنهي عن التفرّق فيه ، وهو سرّ التوحيد ، ولكن ظهور هذا السرّ الواحد في الكثيرين إنّما يكون بحسب الكثيرين .
وذلك لأنّ أهل كل عصر يختصّون في الأحوال والأعمال والعلوم والأخلاق والعرف والعادات والاعتقادات بأمور لا يشاركهم فيها أهل عصر آخر.
وإن اشتراك أكثرهم بعضهم من البعض في أمور أخر ، ولكنّ الخصوصيات تقتضي تعيّن الدين الواحد الإلهي والحكمة الإلهية المنزلة إلى قلب كامل ذلك العصر بحسب ما تقتضي استعدادات أمّته وأحوالهم وعاداتهم وعلومهم واعتقاداتهم .
وتستدعي من تلك الحكمة المنزلة حكما مناسبا إصلاحها دنيا وآخرة وتكون معجزات ذلك الكامل وكراماته بفضائل خارقة لما اعتادوا من الكمالات والفضائل الحاصلة لهم .
خارجة عن قوّة إدراك أفاضلهم سواه ، كما كانت معجزات موسى في زمان السحرة بأمر خارق العادات السحرة وعرفهم فيما أتى به موسى على نبيّنا وعليه السلام خارج عن مداركهم وعلومهم ، مع كونها موهمة بأنّها من قبيل ما علموا وعملوا وعرفوا من علم التصريف و التكوين في رأي العين .
كما كانت معجزات عيسى عليه السّلام في زمان الحكماء والأطبّاء والطبيعيّين من الفلاسفة كجالينوس وغيره ، خارقة لعاداتهم وخارجة عن إدراكاتهم وعلومهم ومفهوماتهم .
مع كون ذلك من قبيل ذلك كإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، التي ليس في قوّة الطبيب الإبراء عنها بالأدوية والأشربة والمعاجين التي في عرفهم ومعرفتهم .
وغير ذلك من المعالجات المنتجة للبرء والشفاء عنها ، فلمّا جاء عيسى بما ليس في قوّة الطبيب الإتيان به في علاج ما ليس عندهم الشفاء عنها كالموت وهو الداء العضال وإحياء الموتى وإبراء الأبرص ، فآمنت أفاضل الحكماء الطبيعيّين ، ومن لم يؤمن به غلبت حجة الله عليه بذلك .
وكذلك لمّا كان الغالب في زمان محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم الفصاحة والبلاغة والخطابة والكهانة والشعر ، نزل القرآن بالفصاحة المعجزة للمفوّهين من الفصحاء المعلَّقين والبلغاء ، فأعجزهم عن الإتيان بمثله قال تعالى : " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه ِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً " آية 88 سورة الإسراء.
فتكاثرت الكلمات والآيات والحكم والعلوم والأذواق والمفهومات والأديان والملل والنحل لاختلاف الأمم المختلفة والأشخاص والأحوال والصفات والذوات والمدارك والعرف والعادات والعلوم والاعتقادات ، فافهم . 
ففي هذا البحث من العلوم والمباحث أكثر ممّا التزمت في هذه الخطبة .

" وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ "
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث التاسع من مباحث خطبة الكتاب وصلَّى الله على "ممدّ الهمم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 1:53 pm

البحث التاسع من مباحث خطبة الكتاب وصلَّى الله على "ممدّ الهمم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث التاسع على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
البحث التاسع من المباحث الكلية الستة عشر وصلَّى الله على "ممدّ الهمم"
قال الشيخ رضي الله عنه : " وصلَّى الله على ممدّ الهمم " .
قال العبد الصلاة لغة هي الدعاء والذكر ، وفي عرف التحقيق حقيقة إضافية رابطة بين الداعي والمدعوّ ، والعبد والربّ .
وتجوز إضافتها إلى العبد باعتبار ، وتجوز إضافتها إلى الله باعتبار فهي من قبل الحق رحمة وحنان ، وتجلّ ولطف وامتنان ، وعطف ورأفة وإحسان ، وغفران ورضوان ، ومن قبل الخلق دعاء وخضوع ، واستكانة وخشوع ،واتّباع لمحابّه ومراضيه وإلى قربه ومناجاته رغبة وتروّع.
وينتظم من حروفها باعتبار الاشتقاق الكبير الذي يعتبرها المحقّقون في علم الحروف حقائق الارتباط وهي :
الوصلة ، والصلة ، والوصل ، والوصال ، والصولة والصلا .
وهذه الحقائق حقائق الارتباط والجمع والمناسبة ، والمعنى المشترك الجامع المعتبر في هذه التراكيب هو الجمع والتقريب والاتّباع والتوحيد .
فأمّا الوصلة : فاتّصال مجتمعين واجتماع متّصلين بعد الانفصال .
والصلة : إيصال عطاء مرغوب مطلوب من المعطي إلى المعطى له .
والصولة : اتّصال إيصال حركة قهرية استيصالية ممّن يصول إلى من يصول عليه .
والصلو أن تحني الصلا - وهو الظهر - للخشوع .
والدعاء : طلب لوصول ما يدعو فيه ممّن يدعوه .
ووصلة الحق بعبده الكامل إنّما هي بالتجلَّي والتنزّل والتدلَّي رحمة وحنانا ونعمة وإنعاما وإفضالا وإحسانا وامتنانا ، وفي صلاته يوصل العبد الكامل به ، ويجعله خليفة له على الخليقة ومصلَّيا .
أي تابعا للحق المستخلف في الظهور بصورته والمظهرية الكاملة في الذات والصفات والأسماء والإخبار عنه والإنباء .
وكذلك صلته تعالى له بالتجليّات الاختصاصية الذاتية والتجليات الأسمائية لحقائق الاصطفاء والاجتباء ، ويعطيه الصولة من حوله وقوّته على الأعداء ، فهذا بيان الصلاة التي نحن بصدد بيانه .
وأمّا صلاة العبد لله تعالى فإيصال منه لحقيقة نشأته الإنسانيّة الكمالية الكليّة الأحدية الجمعية ، وربطها بالحضرة التي منها ظهرت حاملة لصورتها ، ومنها بدت وانتشأت .
وهي خمسة كلية بحسب الحضرات الخمس الإلهية التي هو أحدية جمعها رتبة ووجودا :
الأولى : حقيقته ، وهي عينه الثابتة في العلم الإلهي ، وهي صورة معلوميّته لله أوّلا أزلا وآخرا أبدا .
والثانية : روحه وحقيقته النفس الرحماني المتعيّن بعينه الثابتة وحقيقتها وفيها وبحسبها لترويحها وللتنفيس عنها من ضيق قائم بها إذ ذاك لاندماج حقائقها ونسبها وأحكامها الكائنة الكامنة فيها ولعدم ظهور آثارها في أعيانها لعدميّتها في عينها أزلا فنفّس الله بنفسه الرحماني عنها ، وروّحها .
والحقيقة الثالثة : جسمه ، وهو صورته وشخصيّته الجسمانية ، وهيئته الهيكلية الجسمانية ، والحقيقة الجثمانية .
والحقيقة الرابعة : هي الحقيقة القلبية أحدية جمع روحانيّته وطبيعته .
والخامسة : عقله ، وهو القوّة التي بها يضبط الحقائق ويتعقّلها ، ويجمل العلوم والحكم ويفصّلها .
وللإنسان الكامل حقيقة سادسة غيبية ولها الوتر فقد يكون وحدانيا وقد يكون فردانيّا ثلاثيّا أو أكثر خماسيا وسباعيا إلى خمسة عشر ،وهي سرّه الإلهي.
وواجب على كل إنسان فريضة من الله أن يوصل هذه الحقائق إلى الحق في أصولها التي منها تعيّنت وانبعثت ، فتحصل لسرّه الذي هو العلَّة الغائيّة من وجوده ونشأته وهو حقّه المستجنّ في جنّة جنانه وحنّة قلبه - وصلة إلى الحق المحبوب المطلوب بالعبادة والصلاة له ، وصلة منه تعالى إليه ، وله بالتحيّات والطيّبات والتجلَّيات الجليّات الخاصّة بها .
فتقوم نشأة صلاة العبد لله تعالى بصلاة الله عليه ، ولهذا السرّ والحكمة كانت كلَّيات الصلوات خمسة وهي خمسون في المجازاة الإلهية لكون الحسنة بعشر أمثالها.
إذ الآحاد في المرتبة الثانية العددية التابعة وهي مرتبة المجازاة عشرة ، وفي مرتبة التضعيف مائة ، وفي مرتبة الغايات والكمال ألف " وَالله يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَالله واسِعٌ عَلِيمٌ " آية 261 سورة البقرة .
وهاهنا أسرار نذكرها إن شاء الله تعالى .
ثم اعلم : أنّ الله تعالى يصلَّي على عبده الكامل من حضرة أحدية جمع جمع الحضرات كلَّها ، وكذلك يصلَّي جميع الحضرات إلى الحضرة الإلهية ، وصلوات الله على جمهور المؤمنين من الحضرات الخصيصة بمظهريّاتهم ، وصلوات سائر الحضرات إلى حضرة الله لكونها تابعة لها ومنتهية منها .
وهي صور تفصيلها ، والحضرة الإلهية أحدية جمعها ، كما أشار إلى سرّ ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما حكي ممّا جرى له ليلة المعراج .
إنّه لمّا كان في الترقيّات والمعاريج العرشية ، زجّ به في النور من التجليات العرشية ، فاستوحش ، فنودي  بصوت أبي بكر : أن قف ، إنّ ربّك يصلَّي .
يعني : ربّ صورتك الشخصية التعيّنية العنصرية ، ووجودك المتعيّن في حقيقتك وهو الرحمن المستوي على المستوي الأعلى العرشي الذي وصلت إليه يصلَّي إلى قبليّة الحقيقة الخاصّة بصلاته .
وهو أنت الذي هو مستو على عرش قلبك .
وهو الله تعالى فإنّ الله والرحمن إذا تجلَّيا بصورهما التعيّنية النفسية الرحمانية ، صلَّى الرحمن إلى الله لأنّه تابع له فإنّ الله يقوم له مقام الموصوف والمسمّى .
ويكون الرحمن تبعا له ونعتا ، ولهذا يصلَّي إلى الله فإنّ المصلَّي هو التابع .
لمّا كان القلب المحمدي عرش الاسم "الله " والمقام الذي زجّ به صلَّى الله عليه وسلَّم في النور عرش الاسم "الرحمن" ، لهذا أمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالوقوف كالقبلة وصلَّى عليه ربّه .
وصلَّى الاسم « الرحمن » إلى الاسم " الله " باندراج حضرته في حضرة الله وهي قلبه صلَّى الله عليه وسلَّم  فلم يحسّ به .
كما قال أبو يزيد رحمه الله : " لو أنّ العرش وما حواه مائة ألف مرّة في زاوية من زوايا قلب العارف ، ما أحسّ به " .
وقال خاتم الأولياء في هذا المقام : « لو أنّ ما لا يتناهى وجوده قدّر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارف ، ما أحسّ بذلك " .
والعرش في هذا المشهد الختمي مجموع العوالم المعلوم لله تعالى وجودها ، فلمّا تجلَّى الرحمن برحمانيته حين زجّ به في نوره ، تحقّق صلَّى الله عليه وسلَّم إذ ذاك بحقائق الرحمانية وبعث من هذا المقام رحمة للعالمين ، ووصف بأنّه رؤوف رحيم ، فافهم .
فهاهنا علوم وأسرار ستنفتح لك أبوابها إن فهّمك الله ما أشرنا إليه .
ثم نرجع ونقول : صلاة الله على عبده الكامل من حضرة أحدية جمع الجمع والإطلاق تفيده إمداد الهمم المترقّية إلى ذروة العروج ، المتلقّية أسرار الولوج ، والخروج عن القيود من الأنبياء والأولياء .
كما قال الشيخ رضي الله عنه : « إنّه – صلى الله عليه وسلم- ممدّ الهمم » .

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث العاشر من مباحث خطبة الكتاب "في إمداد الهمم القابلة للترقي" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 2:04 pm

البحث العاشر من مباحث خطبة الكتاب "في إمداد الهمم القابلة للترقي" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث العاشر على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

البحث العاشر من الستة عشر : "في إمداد الهمم القابلة للترقي"

وذلك لأنّ الحقيقة المحمدية بأحدية جمعها وبرزخيّتها تمدّها من جميع الحضرات ، حتى تقبل أسرارها ، وتعدّها للتجلَّي التنزّلي بإسرار تلك الحكم إلى قلوب الكلم ، الكلَّية الجامعة النبوية من صور تفصيل النشأة المحمدية .
وإمداد الهمم على وجهين :
أحدهما بترتيب المقام الذي تعشّقت به الهمم  ، والحال التي تخلَّقت بها ، والكمال الذي تعلَّقت به .
فيبيّن للمستعدّين وجوه النقض الوارد عليه والنقص الواقع فيه والفساد الذي في التقيّد بذلك المقام والتعشّق بتلك الحال ، حتى ينقلع تعلَّق همّته عمّا تقيّدت به ، وطيّة الغاية والنهاية .
فإذا انقلع وانقطع عمّا يعشق به ، عالجه المرشد بالوجه الثاني .
الُثاني : وهو التعريف بما هو أعلى وأشرف وأفضل من المقامات ، وبيان الحالة التي هي أعزّ وأكمل وأجمع وأشمل من حالتها الأولى .
وتعليم العلم الذي هو أتمّ وأعظم وأعمّ وأجمع وأنفع من علمه بالمقام الأوّل ، وترقية همّته إلى الاتّصال بذلك والاتّصاف به ، وهذا في مقام البيان ، والإرشاد بالكلام واللسان .
وأمّا إمداده صلَّى الله عليه وسلَّم بالهمّة :
فإنّ همّة الحقيقة المحمدية الكمالية سارية بسرّ الملإ من حضرة أحدية جمع الجمع والعدد ، ونون مدّات المداد النفسي الرحماني أبدا لأبد .
في جميع الهمم المتعلَّقة بجميع الكمالات ما انطلق منها وما تقيّد ، وما تكثّر وتعدّد فتجدّد فتحدّد ، وما توجد وتأبّد إلى أبد الأبد .
منتهى الأمد وغاية السرمد وذلك لأنّ الإمداد إنّما تصل وتتعيّن مرتبته الأزلية الأبدية ، وهي برزخيّته الكبرى الجامعة بين الإطلاق والتعيين الذاتيين .
وأحدية جمعه بين الغيب الذاتي الباطن أبدا وبين الشهادة المتعيّنة بالتعيّن الأوّل المحيط بجميع التعينات الوجودية والذاتية الشهودية .
والنون الأوّل: الجمعي الذاتي الذي منه جميع المدّات المدادية ، وانبعاث الأنفاس الرحمانية الإمدادية ، فمن حقيقته صلَّى الله عليه وسلَّم يتعين الإمداد ، ولكن ظهورها من حضرة الرحمن بالنفس الرحماني .
فالنون وهو الدواة لغة ها هنا مجتمع المدّات المدادية ، ومنبعث إمداد التجليات الإمدادية .
وللنون الذي هو مجتمع مداد الموادّ الحرفية النفسية الرحمانية من كونه أمّ الكتاب خمس مراتب :
أحدها : التعيّن الأوّل الذي هو جمع جميع الحقائق الكيانية والربّانية ، والحروف الفعلية المؤثّرة الوجوبية ، والمنفعلة المتأثّرة الإمكانية ، وهو أمّ الكتاب الأكبر .
والنون الثاني : دواة المدّات المدادية التي هي مادّة الحروف الإلهية النورية ، وهيولى الصور الفعلية الوجوبية ، وعماء الربوبية .
والنون الثالث : هو حقيقة الحقائق الكونية التي هي أحدية جمع جميع الكائنات المشار إليها بـ « أوّل ما خلق الله الدرّة » وفي رواية " البرّة " .
وهو مجتمع مدّات الحروف الكونية ، وهو أمّ الكتاب المسطور في الرقّ الوجودي المنشور .
و الرابع : أمّ الكتاب المبين وهو اللوح المحفوظ المصون ، ويسمّيها أهل الحكمة العرفية النفس الكلَّية ، ومحلّ تعيّنه من عالم الأجسام في الفلك الثامن من فلك الكرسيّ الكريم ، وفيه تفاصيل تعيّنات المظاهر الكاملات من الكلمات والآيات والسور والكتب كلَّها .
والخامس : نور الأقدار وهو أمّ الكتاب الموضوع في روحانية القمر روحانيات فلكه .
فهو مجتمع الأضواء والأنوار والأشعّة والاتّصالات والانفصالات ، فهذه مراتب النونات التي منها الإمداد ، وهي المرآة لصور الآحاد والأعداد والاستعداد ، والإعداد لأهل الاسترشاد .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث الحادي عشر من مباحث خطبة الكتاب "في الهمم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 2:13 pm

البحث الحادي عشر من مباحث خطبة الكتاب "في الهمم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث الحادي عشر على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
البحث الحادي عشر من الستة عشر: "في الهمم"
وهي جمع « الهمّة » من همّ : إذا اندفع في القصد .
والهمم هي البواعث الطلبية  المنبعثة من النفوس والأرواح لمطالب كمالية ومقاصد غائيّة جمالية أو جلالية.
وتتفرّع الهمم وتختلف بحسب تنوّع أهلها واختلافهم واختلاف مداركهم وعلومهم ومراتبهم ودرجاتهم وطبقاتهم :
فمنهم : من يهتمّ ويتهمّم بالمهمّات الدنياوية وغايات متعلَّقات هذه الهمم والكمالات الدنياوية المنحصرة أحوالها في الملابس والمآكل والمشارب والمناكح والبنين والأموال والجاه الدنياوي .
وعلوّ هذه الهمم عند أهلها بالتكاثر ممّا ذكر والتفاخر فيها فالأكثر مالا وبنين وجاها وملكا ، فهمّته أعلى فيما توهّمه كمالا .
ومنهم : من همّته متعلَّقة بالكمالات الروحانية الأخراوية المترتّبة بين أهلها .
كما قال تعالى : " وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا " آية 21 سورة الأسراء . لأنّها أكثر كمالات وأكثر تفصيلا .
وهؤلاء من قبلهم من أهل الدنيا وأهل الآخرة .
ومنهم : من تتعلَّق هممهم بالله وبما عند الله ، والتفاوت بالتفاضل بين هؤلاء الرجال في حظوظهم من الله ، وهم أضعاف ما تقدّم منهم على كثرة بين الصنفين  الأوّلين.
قال تعالى : " وَفي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ " آية 26 سورة المطففين.
و " لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ " آية 61 سورة الصافات .
وهؤلاء هم أهل الحظوظ من الله ، وأرباب الحظوة منه بحسب علوّ متعلَّقات هممهم من العلم والمعرفة والكشف والشهود والتجلَّي والقربات والمقامات والمراتب الكمالية الاختصاصيّة .
كالولاية والنبوّة والرسالة والخلافة والكمال ودرجات الأكملية .
ومن تعلَّقت همّته من هؤلاء بأمر منها ، فهو مطلبه الغائي وإليه غايته وغاية همّته إن قدّر له الوصول إليه ، وإلَّا فهو سالك فيه وإليه .
والأكمل منهم من لا تعلَّق لهمّته بغير الحق الصرف الخالص من غير نظر والتفات عشقي إلى أمر ممّا ذكر . والواصلون إلى ما ذكر من قبل هم من هؤلاء الذين لا تعلَّق لهممهم إلَّا بالله ، وهو أهل الله خاصّة .
وإمداد جميع هذه الهمم إنّما هو من الحضرة المحمدية الكمالية الكلَّية ، كما قال الله تعالى: " كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ من عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً " ىية 20 سورة الإسراء.
فافهم ، وتدبّر ، واعتبر من أيّ صنف أنت ؟
ولا تتعشّق بأمر متعيّن غير الحق المطلق من كونه فوق الحظوظ المتعيّنة لأربابها ، والله الموفّق .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث الثاني عشر من مباحث خطبة الكتاب "خزائن الجود والكرم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 2:21 pm

البحث الثاني عشر من مباحث خطبة الكتاب "خزائن الجود والكرم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث الثاني عشر على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
البحث الثاني عشر من الستة عشر "خزائن الجود والكرم"
قال الشيخ رضي الله عنه : « من خزائن الجود والكرم » وهي الحضرات الأسمائية الإلهية .
مع أنّ الحضرات وأرباب الحضرات إنّما تصل إليهم وإليها الموادّ الإمدادية من المراتب النونية المذكورة ، فإنّها متعيّنة في الحضرات بحسبها .
وبعد تعيّنها في الحضرات تنبعث وتندفق في رقائق متّصلة بحقائق المستمدّين فإنّ تعيّن النفس الرحماني بالإمداد ، والإمداد من الحضرات ، فافهم ذلك لئلَّا يشتبه عليك .
وأمّا خزائن هذه الحضرات والحقائق فهي الحقائق المرتبيّة المقتضية لتعيّنات الحضرات وتجلَّياتها ونعمها وهيئاتها ، وهي حقائق الحروف والشؤون الكلَّية ، وكلّ ما في جميع العوالم من النعماء والآلاء والتجليات والأعطيات والهبات إنّما هي من حضرات الأسماء والذات .
وتختلف بحسب اختلاف خصوصيات الحضرات من المنعم الواحد الأحد في العين والذات ، على كثرة في حضرات الأسماء والصفات .
ولهذه الخزائن الأسمائية خزائن منها تتعيّن وبها تتحقّق وتبيّن ، وهي حقائق الحروف والكلمات الكيانية .
لأنّ الأسماء تتعين عن إطلاق أحدية المسمّى الذاتي لها بمعيّناتها .
والمعيّن هو القابل للفيض المطلق بعينه بخصوص ماهيته واستعداده .
فالمعيّن وهو حرف حقيقة القابل  يسمّى الوجود الحقّ الفائض من ينبوع الهوية اللاهوتية الرحموتية.
والوجود هوية المسمّى باسم خاصّ يعطيه القابل فإنّ المخلوق لمخلوقيته يعيّن خالقية الخالق.
والمنفعل بانفعاله يبيّن فاعلية الفاعل فكل واحدة من الفاعلية والمنفعلية إذا أنعمت النظر متوقّفة التحقّق على الآخر .
فافهم تفهم أنّ حقائق العالم وماهياتها هي المؤثّرة للتعيّن والنعت والوصف في الوجود الواحد الفائض ، والتجلَّي النفسيّ الساري في جميع الحروف والحقائق .
وأنّها هي خزائن الأسماء والحضرات والصفات ، ثم الأسماء وحضراتها خزائن للنعم الفائضة من منبع الجود والكرم .


واعلم : أنّ الجود ذاتي للجواد ، وعطاؤه لا يكون باعتبار استحقاق القابل ولا عن سؤال.
والكرم هو ما يكون عن سؤال وباعتبار استحقاق .
والهبة قد تكون لعوض أو عن عوض وقد لا تكون كذلك .
والسماح ما يكون عن طيبة نفس وبشاشة وجه .
والسخاوة ما يكون لمصلحة ورعاية حالة .
فافهم .


.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث الثالث عشر من مباحث خطبة الكتاب "القيل الأقوم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 2:29 pm

البحث الثالث عشر من مباحث خطبة الكتاب "القيل الأقوم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث الثالث عشر على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

البحث الثالث عشر من الستة عشر "القيل الأقوم"

قال الشيخ رضي الله عنه : " بالقيل الأقوم " .
قال العبد : القيل الأقوم هو ما يكون أعدل الأقوال بين تعريض وتصريح .
وكتم وإفشاء ، جامعا بين إيجاز وإسهاب ، محيطا بالأغراض والمقاصد .
وآخذا بالقلوب والألباب ، حاويا لبشارة بشير وإنذار نذير ، بين تيسير وتحذير .
وفصاحة في تحرير ، وبلاغة في تقرير .
كما كان قول محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم "بجوامع الكلم" على نهج قول الله ، فهو أقوم الأقوال ، الدالّ على الاعتداد والكمال.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث الرابع عشر من مباحث خطبة الكتاب "محمّد وآله وسلَّم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 2:42 pm

البحث الرابع عشر من مباحث خطبة الكتاب "محمّد وآله وسلَّم" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم 

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث الرابع عشر على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
البحث الرابع عشر من الستة عشر "محمّد وآله وسلَّم"
قال الشيخ رضي الله عنه : " محمّد وآله وسلَّم " .
وأمّا " محمّد " فاسمه مبالغة في التحميد لكون الحقيقة الإنسانية الكمالية أحدية جمع جميع المحامد .
في حميد المجامع والمشاهد ، بإيجاد الله المحمود الحامد في ذاته من ذاته جميع كمالاته وممّا جعله صلَّى الله عليه وسلَّم حاملا لواء حمد الحمد .
فقامت المحاسن والمحامد الإلهية والكونية كلَّها بذات محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وقامت الحقيقة المحمدية أيضا بجميع المحامد التفصيلية القائمة في صور تفصيل نشأته النبوية.
فحمدت به المحامد وحمدت الحقّ بعين قيامها بذات محمد وحمدت أيضا محمدا بالحق الظاهر به فيها .
ثم محمد حمد الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وأنبائه ، وبأحواله واختلافه في عوالم أرضه وسمائه بجميع هذه المحامد جمعا وتفصيلا.
فبهذا الاعتبار والأسرار سمّيت الحقيقة الإنسانية الكمالية محمدا صلَّى الله عليه وسلَّم.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث الخامس عشر من مباحث خطبة الكتاب في " الآل " .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 2:52 pm

البحث الخامس عشر من مباحث خطبة الكتاب في " الآل " .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم  

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث الخامس عشر على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
البحث الخامس عشر من الستة عشر في " الآل "
وأمّا " الآل " فعبارة عن الأقارب الذين يؤول إليهم أموره صلَّى الله عليه وسلَّم ومواريثه العلمية والمقامية والحاليّة ، 
وهم على أقسام أربعة كليّة :

منهم : من هو آله في الصورة والمعنى تماما ، وهو الخليفة والإمام القائم مقامه حقيقة .
ومنهم : من يكون آله في المعنى دون الصورة ، كسائر الأولياء الذين هم محمديّون في الكشف والشهود والجمع والوجود ، وإن لم يكونوا شرفاء صورة ، ومنهم الخلفاء والأمناء الكمّل أيضا .
ومنهم : من يكون آله صلَّى الله عليه وسلَّم في الصورة دون المعنى ، بأن صحّت نسبته إليه صلَّى الله عليه وسلَّم من حيث الطينة العنصرية ، ولكنّهم اشتغلوا عن الوراثة المعنوية الروحانية العلمية ، والكشفية الشهودية والحالية والمقامية ، وعن الإقبال على الله بحطام الدنيا .
ومنهم : من يكون له حظَّ يسير في المعنى والخلق ، وهو من السادات والشرفاء ، والكلّ آل ، وذلك لأنّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - له صورة طينية عنصرية ، وله صورة دينية شرعية وصورة نورية روحية ، وحقيقة معقولة معنوية .
فمن قام بصورته الدينية ، وصحّت نسبته إلى صورته النورية الروحية ، وتحقّق بحقيقته المعنوية ، ورثه علما ومقاما وحالا ، وهو له كالولد الصلبيّ حقيقة.
 وفي هذه القرابة والنسبة تفاوت المقامات والدرجات ، وفيها ترتيب الأولياء المحمديّين ، وهم أنبياء الأولياء بالنبوّة العامّة ، لا بالنبوّة الخاصّة التشريعية المنقطعة المختومة برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وإذا انضاف إلى هذه القرابة الدينية قرابة طينته الطيّبة الطاهر كالمهديّ عليه السّلام والأئمّة الكاملين الطيّبين الطاهرين ، فذلك أكمل وأجمل وأفضل .
وإن انفردت القرابة الطينية ، وصحّت النسبة من صورته العنصرية صلَّى الله عليه وسلَّم تخلَّعت النسبة الروحانية والمعنوية ، فسوف يؤول إلى ذلك ولا بدّ لأنّ الولد على كل حال سرّ أبيه .
وإذا صحّت النسبة ، فلا بدّ أن يكون معها من أخلاقه وعلومه وأحواله سرّ معنوي ، وإن وقعت منهم مخالفة في الصورة الدينية الشرعية ، فلا يجوز لمؤمن أن ينظر إليهم إلَّا بنظر التعظيم والتبجيل والسيادة ، وإن كانوا على خلاف الشريعة ظاهرا ، فقد يكون منهم أهل الابتلاء بحالة المخالفة .
ثم الأحوال لا بدّ لها أن تحول ، وللحقيقة أن ترجع إلى طهارتها الأصلية وتئول ، فافهم واعمل بذلك تعلم أسرارا في هذا المقام مكتّمة ، وتلمح أنوارا على أهل الحجاب محرّمة ، وقد استقصينا القول في ذلك في شرح مواقع النجوم ، وفيما ذكرنا مقنع .
" وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ".
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: البحث السادس عشر من مباحث خطبة الكتاب "التسليم على رسول الله" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم    شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 3:03 pm

البحث السادس عشر من مباحث خطبة الكتاب "التسليم على رسول الله" .الشارح مؤيد الدين الجندي قبل البدء بشرح خطبة كتاب فصوص الحكم  

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

البحث السادس عشر على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
البحث السادس عشر من الستة عشر "التسليم على رسول الله" آخر شرح الخطبة
وأمّا التسليم على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو طلب التحيّة استدعاء بالسلام من الله له .
فهو من الله تجلّ مخصوص من حضرة الاسم "السلام ".
يسلَّم إليه فيه حقائق الكمال ، ويعطيه السلامة عن سطوات تجليات الجلال ، ويظهره بصورة الخلافة والإمامة والشفاعة الكلية ، ويعطيه لواء حمد الحمد ومجامع المحامد الإلهية الكمالية ، ويهبه السلامة عن الانحرافات والتحقّق بحقائق المرتبة الاعتدالية .
وهو من الأمّة عبارة عن التسليم الكليّ والاستسلام للأمر الوارد في شرعه صلَّى الله عليه وسلَّم .
كما قال الله تعالى : " فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً " آية 65 سورة النساء.
قال تعالى :  " وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ " آيه 4 سورة الأحزاب.
قال العبد مؤيد بن محمود بن صاعد بن محمد بن محمود بن محمد بن سليمان أصلحه الله واستصلحه له :
 نجّز بحمد الله شرح الخطبة على ما التزمته ، وقد دسست للمستبصر ، فيها أسرارا عزيزة غريزة  .

 ونشرت في مطاويها للمتدبّر المعتبر علوما وحكما كثيرة أثيرة توصيلا للطالبين إلى ما سيذكر.
 وتسهيلا لسبيل التحقيق لمن يتأمّل ويتفكَّر .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي خطبة الجزء الأول لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 3:33 pm

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي خطبة الجزء الأول لخطبة كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح خطبة الكتاب على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

شرح الشيخ مؤيد الدين لخطبة الكتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي الجزء الأول

ولنشرع الآن - بعد حمد الله أوّلا وآخرا وباطنا وظاهرا ،
والصلاة والسلام على الختوم الكمّل ، وعلى إخوانهم من كل إمام مكمّل وهمام مؤمّل .
ولا سيّما على سيّدهم محمد المصطفى ، وعلى عباده الذين اصطفى .
في شرح باقي الكتاب ، والله الموفّق للصواب .
قال الشيخ - رضي الله عنه -: " أمّا بعد ، فإنّي رأيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مبشّرة أريتها في العشر الأخير من محرّم سنة سبع عشر وستّمائة [ 617 ] بمحروسة دمشق " .
قال العبد أيّده الله له : صحّ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنّه قال : « من رآني فقد رآني فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي »
وفي رواية « لا يتكوّنني » أي ليس في قوّته أن يتظاهر بصورتي ، ولا يتمكَّن في الترائي للأمّة بها . والتكوّن هو التكلَّف في الشخص أن يكون على صورته التي كان عليها حال حياة الدنيا .
فمن رآه في تلك الصورة كامل الخلقة ، فقد رآه حقيقة ، وليس للشيطان أن يظهر بها أبدا .
مع أنّ الشيطان قد يتظاهر بصورة الربوبية ودعوى الإلهية ، وذلك لسعة الحضرة والصورة الإلهية المحيطة بصورة الاسم الهادي المرشد .
وصورة الاسم المضلّ فإنّ الله - تعالى - كما هو ربّ للمهتدين والمؤمنين والهادين ، فكذلك هو ربّ الضالَّين والمضلَّين والكافرين والمشركين ، لا إله إلَّا هو ، ولذلك جعله من المنظرين ، وأعطاه التمكين في الإضلال والإغواء .
فقال : " وَاسْتَفْزِزْ من اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ في الأَمْوالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً " آية 17 سورة الإسراء .
والشيطان يظهر للضالَّين والكفرة والمشركين والفجرة والملحدين بصورة الاسم المضلّ وهو اسم
من أسماء الله تعالى قال الله تعالى : " يُضِلُّ من يَشاءُ وَيَهْدِي من يَشاءُ " آية 8 سورة فاطر.
- وسائر الأسماء في حضرة المضلّ بحسبها كما هو الأمر في غيرها من الحضرات ، ولكن ليس للشيطان أن يظهر بصورة الاسم الهادي ولا بصورة الاسم الجامع المحيط المتجلَّي بصورة الهادي الذي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على صورته قال الله - تعالى - :
"وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ . صِراطِ الله الَّذِي لَه ُ ما في السَّماواتِ وَما في الأَرْضِ " آية 52-53 سورة الشوري.
فإنّ الضدّ لا يظهر بصورة الضدّ أبدا ، هذا ما لا يكون .
وكذلك النقيض لا يظهر بصورة نقيضه عصمة من الله في حقّ الرائي ، وإلَّا لجاز انقلاب الحقائق ، وتغيّرت الفصول ، وانخرمت الأصول ، وانحرفت العقول ، فافهم هذا السرّ فإنّه من لباب التحقيق . وفي هذا المقام أسرار أخر غامضة جدّا ليس لعقول البشر ، وأرباب الفكر والنظر أن يحيطوا بها إلَّا بنور الوهب والكشف والتأييد ، والله وليّ التوفيق والتسديد .
وأمّا من رأى صورة في الرؤيا ، وتيقّن في تلك الحالة أنّه رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أو يقال : إنّه هو ، ولا يطابق ما رآه صورته الأصلية صلَّى الله عليه وسلَّم في الصور ، وسلَّم الثابتة في الصحيح من الأحاديث ، أو يكون مخالفا ، أو مطابقا من وجه ومخالفا من وجه ، فذلك صورة نسبة الرائي من الصورة الشرعية المحمدية .
فمن كان مقتديا به صلَّى الله عليه وسلَّم من كلّ وجه ، مهتديا بهديه  صلَّى الله عليه وسلَّم على الوجه الأكمل ، واتّبعه حقّ المتابعة في العلم والعمل ، وكان له ورث تامّ من حاله ومقامه .
يكون ما يرى في وقائعه يقظة ومناما وما بينهما أكمل في المطابقة وأبين وأوضح في الشخص والتمثّل في شهوده ورؤيته لكمال اتّباع الرائي الوارث له في جميع الأخلاق والأوصاف والأحوال والسير والأعمال .
ويصحّ من مثله أن يقول : رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم  .
وأمّا من رآه على صورته الخصيصة به فما رآه ، وما رأى إلَّا صورة نسبية لا غير .
ثم اعلم : أنّ الرؤية أعمّ من الإبصار لأنّه شهود المبصرات بحاسّة البصر ، والرؤية شهود المشهودات كلَّها - سواء كان مبصرا أو متخيّلا أو ممثّلا أو معقولا أو معلوما رؤية غير متقيّدة بحاسّة البصر .
بل بعين البصيرة والعلم والقلب ، ويصدق الإبصار في المتخيّلات والمتمثّلات لكونها مدركة بقوّة الإبصار ، وإن كان بصره مكفوفا عن ملاقاة سطح المبصر .
فلمّا قال رضي الله عنه  : « رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم » وهو أعلم القوم بالحقائق علمنا أنّه رآه حقيقة .
فرآه بعين البصيرة ما منه صلَّى الله عليه وسلَّم مشهود بعين البصيرة والقلب ، وهو صورته الحقيقية والمعنوية .
ورآه  بعين روحه رضي الله عنه صورته الروحانية .
ورآه بعينه النورانية الإلهية صورته النورانية الإلهية ، ورأى بباطن بصره صورته المتمثّلة المحسوسة المبصرة فإنّ له ذلك على التعيين.
ولرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يظهر لمن كملت درايته منه - محسوسا مبصرا في عالم الحسّ لأنّه لا يتقيّد في عالم وليس محبوسا في برزخ من البرازخ.
وكذلك وارثه وكلّ من كملت وراثته منهما ، وصحّت نسبته معهما في العلم والحال والمقام والخلق والعمل ، وتوجّه إلى أرواحهما ولم يعرج إلى برازخهما ، نزلا إليه لطفا وعطفا ، وفي هذه الرواية والتنزّل تتفاوت مراتب الورثة .
سمعت سيّدي الشيخ صدر الدين محمد بن يوسف رضي الله عنه :
أنّه اجتمع هو والشيخ إسماعيل بن سودكين تلميذ الشيخ خاتم الأولياء مع شيخ الشيوخ سعد الدين محمد بن المؤيّد الحموي بمحروسة دمشق في سماع .
فقام الشيخ سعد الدين رضي الله عنه في أثناء السماع والناس في مواجيدهم إلى صفّة في ذلك البيت .
وبقي واقفا واضعا يديه على نحره مطرقا إطراق إجلال وتعظيم ، متأدّبا إلى أن انقضى السماع وقد سرى سرّ جمعيته وحاله في ذلك الجمع.
ثم قال في آخر المشهد وقد غمّض عينه :
"أين صدر الدين ؟ أين شمس الدين إسماعيل ؟ "
قال الشيخ رضي الله عنه فبادرنا إليه أنا والشيخ شمس الدين إسماعيل فتعانقنا وضمّنا إلى صدره .
ثم فتح عينه في وجوهنا ولحظنا مليّا ، وقال : "حضر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فوقعت بين يديه كما رأيتموني الآن فلمّا انصرف ، أحببت أن أفتح عيني في وجوهكما ، فقد كانت في شهود وجه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم " .
وأمّا خاتم الأولياء الخصوصي فقد رأته بعد وفاته رضي الله عنه من بان له رضي الله عنه  بها عناية من بعض سراريه وهي على الباب .
فلمّا رأته ، قالت : سيّدي ، سيّدي .
فقال لها الشيخ : كيف أنت ؟
وعبّر عنها ، فصاحت ، واجتمع أهل البيت عليها .
فقالت : عبر سيّدي عليّ إلى هذا الصوب فنسبها من لا تحقيق له إلى الجنون .
وأمّا أنا فكنت في دار السلام بغداد حرسها الله تعالى ، وكان نزيلي شخصا ادّعى أنّه المهديّ عليه السّلام وقال لي : اشهد لي .
فقلت : أشهد عند الله أنّك غيره ولست إلَّا كذّابا ، فعاداني وجمع عليّ الملاحدة والنصرية ، وآثار عليّ جماعة منهم وقصد إيذائي.
فلجأت إلى روحانية خاتم الأولياء ، وتوجّهت إليه رضي الله عنه بجمعية كاملة ، وراقبته في ذلك ، فرأيته رضي الله عنه وقد أخذ بيديه يدي ذلك المدّعي ورجله اليمنى وشماله:
وقال : أضربه على الأرض ؟
فقلت : يا سيّدي لك الأمر والحكم ، فانصرف عنّي وقمت وخرجت إلى المسجد ، فإذا المدّعي مع أتباعه مجتمعين مجمعين على ما نووا ، فلم أتلفت إليهم وجزت إلى المحراب وصلَّيت صلاتي ، ثم لم يقدروا عليّ ، ودفع الله عنّي شرّه ، ثم تاب على يدي وسافر عنّي ، والحمد لله .
فهؤلاء الكمّل يظهرون في عالم الحسّ مهما شاؤوا بأمر الله ، وقد أقدرهم الله على ذلك ، وليس غيرهم من النفوس البشرية ، المفارقة كذلك فإنّ الأكثر الأغلب محبوسون في برازخهم ، لا يظهرون ولا يتشخّصون إلَّا في المنام أو يوم القيامة ، فافهم هذا إن كان لك قلب ، أو ألق السمع وأنت شهيد ، وآمن فلا تكن من الممترين والمفترين .
واعلم : أنّ هذه الرؤية الأحدية الجمعية الكمالية الجامعة لجميع مقامات الرؤية بالنسبة إلى الحق وأكمل الخلق - صلَّى الله عليه وسلَّم وسائر الكمّل وغيرهم مخصوصة بالختمين وورثتهما من الأولاد الإلهيين والندّر من الأفراد المكمّلين ، والحمد لله ربّ العالمين .
قال الشيخ رضي الله عنه : « في مبشّرة أريتها في العشر الآخر من المحرّم سنة سبع وعشرين وستّمائة [ 627 ] ".
قال العبد : « المبشّرة » فيما عرفها الناس وتعارفوها هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو يرى لغيره .
كما نطقت به النبوّة الختمية للجمهور ، ومشرب التحقيق الختمي الكمالي الخاصّ يقضي بأنّها أعمّ.
فقد يبشّر الله أولياءه بغير الرؤيا يقظة وإلقاء وإعلاما وتجلَّيا كفاحا وواردا إلهيّا روحانيّا ملكيّا وغير ذلك على ما يعرفها أهلها ويتعارفونها بينهم .
وقوله : « أريتها » دالّ على أنّ الله أراها قصدا خاصّا اختصّه الله بذلك .
والمحرّم من المشهور اختصّ بهذه المبشّرة لأنّه - رضي الله عنه - فتح له في أوائل فتحه في المحرّم أيضا على ما روّيناه عن الشيخ رضي الله عنه بالخلوة  الخلق أوّل مبشّرة في إشبيليّة من بلاد أندلس تسعة أشهر لم يظهر فيها ، دخل في غرّة المحرّم ، وأمر بالخروج يوم عيد الفطر ، وبشّر بأنّه خاتم الولاية المحمدية ، وأنّه وارثه الأكمل في العلم والحال والمقام .
قال رضي الله عنه : « وبيده كتاب ، فقال لي : هذا كتاب فصوص الحكم ، خذه واخرج به إلى الناس ، ينتفعون به " .
قال العبد : « اليد » مظهر العطاء والمنع والقبض والبسط والأعمال الصالحة ، وهي صورة القدرة .
وكون الكتاب بيده إشارة إلى أنّ هذه العلوم والحكم التي يتضمّنها هذا الكتاب من خصوص أذواق كمّل الأنبياء - صلَّى الله عليه وسلَّم - بيده وقبضه من كون أحدية جمع جمع الختمية النبويّة جامعة ومحيطة بها جميعا على التخصيص .
و " الكتاب" فعال - بكسر الفاء - يعني به المكتوب من الكتب وهو الجمع لكون كلّ كتاب جامعا بين جمل وفصول ، وفروع وأصول ، ومعان وعبارات ، وسور وآيات ، وحروف وكلمات ، وحقائق ودقائق وإشارات .
وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم : « هذا كتاب فصوص الحكم » المنزلة على الكمّل المذكورين .
وفيه إجمال مضمون الكتاب لمن عقل عن الله وذلك أنّ الفصوص تدلّ على معان وحقائق معلومة للخاصّة.
ككون الفصوص محالّ النقوش والعلامات الاسمية التي يختم بها على الخزانة .
وأنّ النقوش التي في هذه الفصوص إنّما هي نقوش الحكم الإلهية الكلَّية الكمالية الأحدية الجمعية الختمية المحمدية المتفصّلة في قابليّات قلوب كمّل الأنبياء المذكورين في الكتاب .
فإنّ هذه النقوش الحكمية وإن نزلت على قلوبهم من الحضرات الإلهية الأسمائية بحسب استعداداتهم الخصيصة بكل حضرة حضرة منها .
ولكن أحدية جمع هذه الحكم والنقوش من حيث الأصل والمحتد في قبضة خاتم الرسل صلَّى الله عليه وسلَّم ، وتفصيلها وتبيينها وتوصيلها وتعيّنها .
إنّما يكون على يدي خاتم الأولياء المحمدي الخاصّ خاصّة .
لكون هذه الحكم إنّما تؤخذ من الوراثة الخاصّة المحمدية الختميّة ، وكونه رضي الله عنه هو وارثه صلَّى الله عليه وسلَّم في هذه الختمية الخصوصية .
وإن كان الكاملون جميعا ورثته في المقامات الكلَّية المحمدية المتفصّلة في جميع الأنبياء والأولياء لكن هذه الوراثة الختمية وارثة خاصّة ، لها ذوق خاصّ ، منه يعرف أذواق جميع الأنبياء والأولياء.
ولا يعرف من ذوق أحدهم ولا من أذواق الكلّ ، ويوجد في ذوقه مزيد أسرار وحكم على أذواق أهل المقامات .
يعرف ما أشرت إليه المحيط بأذواقهم ومشاربهم أوّلا ، الجامع لزوائد ما جاء به هذا الخاتم رضي الله عنه ثانيا ، والله الموفّق .
قال الشيخ رضي الله عنه : « خذه واخرج به إلى الناس ، ينتفعون به  ".
قال العبد : أمره عليه السّلام بأخذ هذا الكتاب إشارة إلى أنّه رضي الله عنه هو الخاتم المخصوص بختمية ولأنّه المخصوص .
وذلك لأنّ الحكم التي في ضمن " فصوص الحكم " المخصوصة بمقامات الختمية المحمدية المتعيّنة في كل مقام من مقامات الكمالات الخصيصة بالحضرات الأسمائية الإلهية التي هي لهؤلاء الأنبياء المذكورين فيه  جملة تجلَّياتها وعلومها وأحكامها ، فأمر خاتم الأنبياء بإخراج هذه الحكم الختمية يجب أن يكون لوارثه الأكمل في الختمية الجمعية إذ حقائق الختمية وعلومها لا تكون إلَّا للمتحقّق بالختمية ، فافهم الإشارة فإنّها لطيفة .
وهو مثل قوله تعالى لموسى بن عمران " فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها " .
يعني في زعمهم ومبلغ علمهم ، وإلَّا فكلّ ما فيها أحاسن ومنها تنبعث المحامد والمحاسن .
وقوله : « واخرج به إلى الناس ينتفعون به »
إشارة إلى أنّ هذه الحكم الأحدية الجمعية الكمالية المحمدية الختمية إنّما يظهرها الله به وعلى يديه ولسانه  صلَّى الله عليه وسلَّم .
وسياق الكلام يقتضي ظاهرا أن يكون قوله : « ينتفعون به » مجزوما بإسقاط نون " ينتفعون " لكونه جواب الأمر ، وهو ظاهر ، ولكنّه صلَّى الله عليه وسلَّم بشّر الشيخ رضي الله عنه بأنّ الناس أي المتحقّقين بالإنسانية إلى يوم القيامة ينتفعون به، ويخرّج على أنّه ليس جواب الأمر ، ولكنّه إخبار ابتدائي منه صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك .
أي بصورة الحال الجارية لمزيد إعلام وبشارة .
فهو جواب سؤال مقدّر لو سئل صلَّى الله عليه وسلَّم : إنّ هذه الحكم تعلو وتجلّ عن فهم الناس الحيوانيين  بأنّ فيهم ناسا مؤهّلين للكمال ينتفعون به .
قال الشيخ رضي الله عنه : "فقلنا السمع والطاعة لله ورسوله ولأولي الأمر منّا ، كما أمرنا ".
المفهوم الظاهر ظاهر ، وهو امتثال أمر الله ورسوله وأولي الأمر بعد الرسل من المؤمنين والخلفاء والأئمة الذين يلون الأمر وباطنه وسرّه .
إنّه رضي الله عنه أشار في كلّ ذلك إلى طاعة الله الظاهر المتجلَّي في المظهر المحمدي الأكمليّ ، وإلى طاعته أيضا من حيث إنّه رسول الله.
ثم من كونه صلَّى الله عليه وسلَّم وليّ الأمر على جميع الكمّل ، فيخرّج أنّ طاعته رضي الله عنه أيضا في هذه الوجوه الثلاثة كلَّها لله في أكمل مظاهره وهو رسول الله من ثلاث حسنات كلَّية ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : "فحقّقت الأمنيّة وأخلصت النيّة " .
قال العبد : تحقيق كلّ شيء إدراك حقيقته ، والبلوغ إلى حقّيّته ، وإظهار حقيقته وحقّيّته عند الغير وله .
وقد يكون بمعنى أن يجعله حقّا ، كما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السّلام : " هذا تَأْوِيلُ رُؤيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " آية 100 سورة يوسف .
أي كانت رؤيا مشهودة في حضرة الخيال ، فجعلها ربّي موجودة في الحسّ يقظة .
وحقّيّة كلّ رؤيا وصورة ممثّلة أن توجد في العين وتتحقّق في الحسّ .
فمعنى قوله : « حقّقت الأمنية » أظهرتها في الحسّ .
وتسوغ إضافة الأمنيّة إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وإلى الشيخ رضي الله عنه فبمعنى أنّ الرؤيا له ، وأنّه هو المتكفّل ببيانها والمتفرّد بتبيانها وعيانها ، وهي أمنيّته فحقّقها .
أي أظهرها على ما أمر به في رؤياه ، فالأمنية على هذا ذات جهتين حقيقيّتين :
جهة إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالأصالة ومن كونه آمرا بذلك .
وجهة إلى الشيخ رضي الله عنه لكونه هو المحقّق لها في الوجود الحسّي .
قال رضي الله عنه : "وجرّدت القصد والهمّة إلى إبراز هذا الكتاب " .
قال العبد : تجريد القصد والهمّة هو أن يكون أحديّ التوجّه والعزيمة فيما همّ به ونوى من غير أن يتخلَّله متخلَّل في ذلك .
قال رضي الله عنه  : " كما حدّه لي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من غير زيادة ولا نقصان » لكونه ممتثلا أمره على ما أمره ، وعلى الوجه الذي أراده والحدّ الذي عيّنه ورسم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنّ مقام الأمانة لا يحتمل الزيادة والنقصان ".
قال رضي الله عنه : "وسألت الله أن يجعلني فيه و في جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ، وأن يخصّني في جميع ما يرقمه بناني ، وينطق به لساني ، وينطوي عليه جناني بالإلقاء السبّوحي والنفث الروحي في الروع النفسي بالتأييد الاعتصامي " .
يشير رضي الله عنه إلى قوله تعالى : " وَما أَرْسَلْنا من قَبْلِكَ من رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِه ِ فَيَنْسَخُ الله ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياتِه ِ "آية 22 سورة الحج .
يعني رضي الله عنه : لمّا تمنّيت ما منّاني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم فإنّي أرجو من الله أن لا يكون للشيطان عليّ سلطان .
وقوله : « أرجو » لسان أدب مع الله فإنّه على اليقين ممّن قال الله فيهم : " إِنَّه ُ لَيْسَ لَه ُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " آية 99 سورة النحل .
لكونه رضي الله عنه مستكملا درجات الإيمان ، فحائز منه إلى حقيقة الشهود والإحسان ، متحقّقا على مقامات التوكَّل على الإيقان والإتقان .
فيخرج قوله : « أرجو » مخرج قوله : إنّ في الحقيقة درجة واحدة لا يصلح أن تكون إلَّا لرجل واحد ، وأرجو أن أكون ذلك الرجل فإنّه محقّق عند المحقّقين أنّه - صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك الرجل على التعيين ، ولكنّ الأدب مع الله أعلى مقامات المحقّقين ، وأكمل درجات الكمّل المقرّبين .
ولأنّ مواضع إلقاء الشياطين - التي يستعيذ بالله منها جميع العائذين - إنّما تكون في النطق عند التلاوة ، أو حال كتابة إلقاء الله ووحيه إلى أهل وحيه ، أو في الخاطر والهاجس ، وذلك في الجنان وهو محلّ الضمائر من القلب في ظاهره ، لأجل ذلك .
قال رضي الله عنه: « في جميع ما يرقمه بناني » .
يعني عند الكتابة « وينطق به لساني » في الكلام « وينطوي عليه جناني » حتى يعمّ مواضع الإلقاء أجمع.
فلم يترك محلَّا مخلَّى يتخلَّل منه شيطان ولكن هذا أيضا لسان أدب في العموم من أهل الإلقاءات ، وإلَّا فإنّ الكامل الملقى إليه من الله قد وسع الله قلبه ووسعه فأملأه ، فليس لغيره فيه موضع أو مطمع .
والهواجس إنّما تهجس في ظاهرية القلب ممّن لم يطهّر محلّ الإلقاء .
ولكنّه رضي الله عنه  محفوظ معصوم في أعلى درجات الحفظ والعصمة من مبدأ أمره وفتحه فقد بقي سبعة أشهر بلا خاطر كونيّ ، فلم يخطر له في هذه المدّة المديدة ولم يرو عن غيره من المتقدّمين والمتأخّرين مثل ذلك - على ما سيتلى عليك في موضعه .
ولكن هذا سرّ للخواصّ ، وهو أنّه لمّا كان الكامل بحيث ليس شيء إلَّا وله نسبة إليه ورقيقة منه رابطة في جميع العوالم .
ومن تلك الرقيقة تصل إليه المادّة من الفيض الإلهي ، وإلَّا لانعدم ذلك الشيء ، والشيطنة مرتبة كلَّية عامّة لمظاهر الاسم « المضلّ » ، فلا بدّ من نسبة ورقيقة بها تجيء حقائقهم في وجودهم ، فطردها رضي الله عنه بأمر الله الذي لا يردّ عن مواضع إلقاء الله التي للشيطان فيها مدخل .
فلهذا ولأنّه بصدد كتابة ما يلقي الله إلى قلبه وينطلق به ويكتبه ، سأل الله تعالى أن يخصّه في كلّ ذلك بالإلقاء السبّوحي.
أي من حضرة الطهارة والنزاهة فإنّ الإلقاء يكون من جميع الحضرات الأسمائية ، فسأل أن يخصّه الله في كل ذلك بالإلقاء الذي يكون من حضرة السبّوح ، فيخلص لله طاهرا مقدّسا عن كلّ شرب .
وأمّا النفث فهو إرسال النفس بجمعية الباطن والعزيمة ظاهرا عند الدعوات ، وهاهنا هو صورة كلام روحاني يظهر في باطن النفس من الأرواح الكلَّية العالية .
أشار إلى ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : « إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ أحدا لن يموت ، حتى يستكمل رزقه » وقد يكون الوحي والإلقاء والنفث من الأرواح الخبيثة الشيطانية في النفوس الملوّثة بالأغراض النفسية .
وقد استعاذ من ذلك وأمر بالاستعاذة منه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله : « ومن همزة ولمزة ونفثه ونفخه » .
ولولا صحّة ثبوت تلك الرقيقة والنسبة التي منها تصل المادّة الوجودية إلى هذه الصور الشيطانية الانحرافية  وتحقّقها من الإنسان الكامل ، لما استعاذ ، و لما أمر بالاستعاذة لتحقّق التنافي والتضادّ وعدم الاحتياج لعدم الجامع ، كما في الملائكة مع الشياطين ، فافهم .
فنفث الشيطان كإلقائه إلى أوليائه ، كما قال تعالى : " وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ "
ولمّا اختصّ رضي الله عنه بالإلقاء السبّوحي ، فكان جميع ما ألقي إليه مدّة عمره في جميع تصانيفه من حضرة الله السبّوح القدّوس .
أو من التجلَّيات الذاتية الاختصاصية وإن لم يكن سند الإلقاء العلمي للذات المطلقة من حيث هي هي ، ولكنّ القدس الذاتي والتنزيه الإطلاقي سار في جميع الحضرات التي منها يلقي الله إليه .
والنفث الروحي إشارة إلى روح الله الملقى في صورة روحانية محمّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - .
قال  رضي الله عنه : « في الروع النفسي » يعني في محلّ نفث الروح ، وهو باطن النفس وظاهر القلب ، فيكون نفث الروح من باطن القلب إلى ظاهره في باطن النفس حتى يردعها عن الرذائل وينزعها ويروعها ، ويودعها الرغبة في الفضائل ، ويضعها فيها فتنفعها .
فيكون من الله العاصم للمعتصمين به بالعصمة الإلهية الفرقانية من علم الهداية عن الإلقاءات النفسانية والشيطانية .
كما قال الله تعالى: " وَمن يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ".
قال رضي الله عنه : "حتى أكون مترجما لا متحكَّما ليتحقّق من يقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب " .
يعني  رضي الله عنه مترجما عن المقامات بموجب الشهود والعيان ، أو عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم  بمقتضى نصّ القرآن .
لا متحكَّما عن مأخذه الرسول بالزيادة أو بالنقصان إذ لو زاد أو نقص على ذلك ، لكان متحكَّما من تلقاء نفسه أو بإلقاء رأيه وحدسه ، ولم يكن قد وفي حقّ مقام الوراثة وهو وارث ممتثل أمر نبيّه في إخراج هذه الحكم من الغيب إلى الشهادة ، فهو ترجمان رسول الله ، خاتم النبيّين . " من أهل الله أصحاب القلوب " .
قال العبد : يريد بأهل الله من له مشرب الكمال الأحدي الجمعي الإلهي ، لا المتقدّرين بالمشارب والأذواق الجزئية التقييدية الأسمائية ، فمن كان له قلب ينقلب مع الحقّ كيف تجلَّى ، ووسعه ، فما أنكره ولا أعرض عنه في تنوّعات ظهوره بشؤونه ، ولا يولَّي .
قال رضي الله عنه : "أنّه من مقام التقديس المنزّه عن الأعراض النفسية التي يدخلها التلبيس"  أي يتحقّق أنّه كذلك .
قال  رضي الله عنه : " وأرجو أن يكون الحقّ لمّا سمع دعائي قد أجاب ندائي فما ألقي إلَّا ما يلقي إليّ ، ولا أنزل في هذا المسطور إلَّا ما ينزّل به عليّ . ولست بنبيّ ولا رسول ، ولكنّي وارث ، ولآخرتي حارث " .
قال العبد : يشير رضي الله عنه إلى ما سبق ذكره من سؤاله العصمة عن إلقاء الشيطان ، وقد صرّح أيضا بأنّ « أرجو » من مثله لسان أدب في عين الإخبار المحقّق عن إجابة الحق نداءه بقوله : "فما ألقي إلَّا ما يلقي إليّ " .
وفي إضافة السمع إلى الدعاء ، والإجابة إلى النداء ، قد يقع لبعض الناس أنّ العكس أنسب عرفا لكون المراد من النداء الإسماع ، ومن الدعاء الإجابة .
كما قال الله تعالى : "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " .
ولكنّه رضي الله عنه مقيّد في جميع أحواله وأقواله بالله ورسوله .
فاعتبر فيما قال قوله  تعالى : " إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ " .
ولمّا تحقّق الإجابة من الله تعالى قال : « فما ألقي إلَّا ما يلقي إليّ » من علوم ما تضمّنه هذا الكتاب.
والله الملقي إليّ من الحضرة المحمدية الختمية الكمالية الإلهية « ولا أنزل في هذا المسطور » يعني بالتدريج في كلّ فصّ فصّ وحكمة حكمة.
« إلَّا ما ينزّل » الله الظاهر في الصورة المحمدية الكمالية الختمية " به عليّ "  
ولمّا علم رضي الله عنه سبق الأوهام إلى أنّ في قوله : " ينزّل به عليّ " تراميا إلى النبوّة أو الوحي لضعف الأفهام ، أو تقييدهم بظاهر الكلام ، أعقب بقوله : « ولست بنبيّ ولا رسول ، ولكنّي وارث ، ولآخرتي حارث » نفيا لأوهامهم ، وتوصيلا إلى مراده أوهامهم لإفهامهم .
وتأصيلا لأهل التحصيل أنّ الإنزال من الله إلى العبيد الكمّل مطلقا غير محجور ولا مهجور ، بل ذلك إنزال خاصّ يتعلَّق بتشريع وتأصيل للأوامر والنواهي والأحكام ، وتفصيل وتفريع ، فافهم .
و « الوارث » هو الذي يرث من قبله من الأنبياء علومه وأحواله ومقاماته ، فيقوم بمقاماته ، وتظهر عليه أحواله بآياته ، ويظهر هو حقائق علوم الله التي أظهرها بذلك النبيّ في زمانه بتجلَّياته .
وهاهنا مباحث شريفة متعلَّقة بتحقيق قوله : « العلماء ورثة الأنبياء ، ما ورّثوا دينارا ولا درهما ، وإنّما ورّثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظَّ وافر » يعني أخذه عن الله وذلك لأنّ الوراثة لا تتحقق إلَّا في عين مال المورّث أو عوضه ، وكانت علوم الأنبياء إلهية وهبية وكشفية بالتجلَّي لا بالكسب والتعمّل.
فوجب أن تكون الوراثة الحقيقية كذلك وهبية لا نقلية ولا عقلية كذلك ، فيرث الوارث منّا العلم من المعدن الذي أخذ عنه النبيّ أو الرسول .
فليس العلم ما يتناقله الرواة بأسانيدهم الطويلة فإنّ ذلك منقول يتضمّن علوما لا يصل إلى حقيقتها وفحواها إلَّا أهل الكشف والشهود .
والنبيّ الرسول إنّما أخذ العلم عن الله لا عن المنقول فالوارث الحقيقي إنّما هو في الأخذ عن الله لا عن المنقول  كما أشار إلى ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله : « ربّ مبلَّغ - بفتح اللام - أوعى من سامع ».
وبقوله : « ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه » والناقل إنّما ينقل ألفاظا وعبارات حاملة معاني متشبّثة بها فحواها ، والمعنيّ بها العلم ، والمبلَّغ إليه منّا يفقه باطن المعنى المعنيّ .
والفحوى المطويّ في المنقول المرويّ ، والأكثر لا يفقهون ولا يعلمون ، والأقلّ الذي يفقه ذلك فهو منّا ، وداخل عنّا بحكم التوسّع والمجاز لا بالتحقيق ذاته إنّما أخذ العلم الحاصل له من الألفاظ لا من الحق ، فافهم.
ودقّق النظر فيه ، حتى لا يشتبه عليك ، وهذا فيمن يفقه والكلام في الحامل الذي لم يفقه ما يفقه وإن تقدّمنا بأزمنة متطاولة ، وإن لم يخل عن فهم وفقه بحسبه وبحسب استعداده .
وبعد هذا التحقيق والتدقيق والمحاقّة فإنّ علم الأفقه المذكور في نصّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مأخوذ من المنقول المحمول في عبارة الرسول ، وبهذا صدق عليه أنّه وارثه توسّعا ومجازا .
فإنّ الوراثة إنّما هي في العلم المأخوذ عن الله والحال والمقام ، وعلم الأفقه المذكور بعد المسامحة إنّما هو وراثة في العلم المودع في المنقول لا في حال الآخذ ومقامه .
وإنّما خصّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم العلم في قوله : « وإنّما ورّثوا العلم » بالعلم بالله وبمضمون النبوّات وفحواها لعلمه صلَّى الله عليه وسلَّم بعدم علوم عموم المخاطبين سرّ الحال والمقام ذوقا إلَّا خواصّهم فراعى الأغلب.
ولأنّ العلم إذا كان مأخوذا عن الله ، فإنّه يتضمّن الحال والمقام ، فما كان مراده صلَّى الله عليه وسلَّم إلَّا العلم
المأخوذ عن الله ، كما صرّح بذلك نصّ القرآن قال الله تعالى : " بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ في صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ".
فالعلم المذكور في نصّ الحديث هو العلم المؤتى والمأخوذ عن الله ، وهو المراد في فهم خواصّ أهل الله ، قال الأستاد أبو يزيد البسطاميّ قدّس سرّه لبعض علماء الرسوم ونقلة الأخبار والأحكام والآثار : « أخذتم علمكم ميّتا عن ميّت ، وأخذنا علمنا عن الحيّ الذي لا يموت » واعلم ذلك إن شاء الله .
في ذكر مباحث أخر ضمنية تفصيلية
البحث الأول الوراثة في التحقيق ليست إلَّا لله تعالى
بحث آخر
اعلم : أنّ الوراثة في التحقيق ليست إلَّا لله تعالى فإنّ الله هو خير الوارثين فإنّه وارث المورّثين والورثة أجمعين .
ثم يأخذ الوارثون الآخرون العلم والمقام عن الله تعالى ، وهذا من جوده الذاتي وعطائه الأسمائي ، فأهل الله الآخرون إنّما أخذوا العلوم عن الله تعالى ، فقاموا بالعلوم المختصّة بكلّ مقام من حيث مقامهم بإقامة الله إيّاهم في ذلك المقام ، كما أقام من قبله من المورّثين وأعطاه العلم الخصيص بذلك المقام والحال .
والآخذ والوارث منهم إنّما يأخذ ما يأخذ عن الله لا عن غيره ، فيورّثه الله ذلك العلم والمقام والحال عن ذلك النبيّ الذي قد قبلها قبله أي يعطيه إيّاها ويهبه كما أعطاها من قبله .
فنسبة ذلك العلم والحال والمقام إلى هذا الآخر كنسبته إلى الأوّل ، فافهم فإنّه غامض ويتضمّن أغمض منه ، والله الموفّق .
البحث الثاني الحقائق الثلاث للوراثة
بحث آخر
لمّا كنّا في بيان حقيقة الوراثة وهي تشتمل على المقام والعلم والحال
أردنا أن نتكلَّم في هذه الحقائق الثلاث :
أمّا العلم:
فقد ذكرنا حقيقته بتعريف ذوقي بلسان التقحيق الكشفي ، وسنزيد ذلك تتمّة وتكملة في الموضع الأليق به .
وأمّا الحال :
فحالة حالة بذي الحال تحيله عن الحالة التي قبلها ، وتحول بينها وبين ما ينافيها ، ويغيّره عن غيرها إلى ما فيها ، ثم تحول وتئول كحال العلَّة .
وحال الوصل والفصل ، والتخلَّي بالخاء المعجمة - والتحلَّي بالحاء المهملة - والتجلَّي - بالجيم - ، والانسلاخ والاستغراق والانزعاج ، والقبض والبسط وغيرها .
وأمّا المقام :
فمرتبة عبدانيّة للعبد السالك في مظهرية حضرة من الحضرات الإلهية الأسمائية ، وكلَّيات المقام ألف وواحد على عدد الحضرات الأسمائية الكلَّية في مظهريّاتها ، وهي منقولة مشهورة بين أهلها ليس هذا موضع تفصيلها .
وقد اختلف الجمهور من الصوفية في التفضيل بين الحال والمقام ، فمن مفضّل للحال على المقام ، ومن قائل بالعكس .
وكان الحقّ أن يحقّقوا النظر في الحقيقتين أوّلا ، ثم يتكلَّموا في الأفضلية ، والرافع للخلاف هو بيان الفرق بين الحال والمقام .
فنقول : كلّ ما حال وتغيّر من الواردات على السالكين يخصّ باسم « الحال ».
وكلّ ما يوجب الثبات والإقامة فهو المقام .
ويسمّى مقاما - بفتح الميم - بالنسبة إلى المحمديين الذين لا يقيمون فيما أقاموا فيه منها وإن ثبتوا فيه .
والمقام - بضمّها - بالنسبة إلى من أقام فيه وانحصر ووقف .
ثم الأحوال تبدو في كلّ مقام للسالك حال قيامه وثباته فيه ، ثم إذا جاوزه ظهر حال آخر بحسب ما فوقه من المقام .
فلا يخلو السالك من الحال والمقام ، والحال يوجب المقام وبحسبه .
وليس المقام بحسب الحال ، ومتحقّق عند التحقّق بالمقام صاحب المقام بالحال الخصيص به ، فإذا ظهر عليه حال خصيص بمقام ، عرف أنّه أهل ذلك المقام .
وبهذا الاشتباه وقع الخلاف ، ولا خلاف عند التحقيق ، فافهم والله الموفّق .
فإذا أقام الله أحدا في مقام آتاه حالا وعلما يتعلَّقان به ، وهذه المقامات معمورة دائما بأربابها فلا بدّ
فيقال في الآخرين القائمين فيها وبها من حيث إنّ أمّة قبلهم كانوا غمّاز تلك المقامات والعلوم والأحوال - : إنّ الآخرين ورثة الأوّلين ، فإن لم يأخذوها عن الله كما أخذ الأوّلون عنه .
بل حفظوا كلماتهم ومقاماتهم ورووها عنهم ، فليسوا وارثين على الحقيقة ولكن بالمجاز .
ومثل الأفقه منهم كالوارث عوض ما ضاع وتبدّل من مال المورّث لا عين المال ، ولكنّ الحافظ الفقيه إذا عمل بموجب ما علم من المحفوظ المنقول ، فقد يورّثه الله الأخذ عنه بعد ذلك ، فيكون وارثا حقيقة ، فافهم .
تتمّة في الباب
ثم الوراثة في العلم والحال والمقام ، إمّا أن تكون محمدية أو غير محمدية .
فغير المحمدي كمن يرث عن موسى وعيسى وإبراهيم وغيرهم في العلم والحال والمقام .
أو في العلم دون الحال والمقام ، أو في العلم والحال دون المقام ، كذي مقام آخر ينصبغ  بحال ذي حال في مقام يوجب ذلك .
العلم والحال إمّا بتأثير الروحاني أو بكلامه وإرشاده ، فسرى فيه العلم والحال ، ثم إذا سرى عنه انصبغ بحال مقام هو فيه .
فهؤلاء الوارثون يأخذون هذه العلوم والأحوال والمقامات عن أرواح الأنبياء الذين كانوا فيها قبلهم ، ووصل إمداد هؤلاء من أرواحهم .
ومنهم من يأخذها كما ذكرنا عن الله ، إمّا في موادّ تلك الرسل والأنبياء ، أو في الحضرات الإلهية ممّن قبلهم .
والوارث المحمدي يأخذ العلوم النبويّة عن روح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بحسب نسبته منه في صورة نسبية كذلك .
والأعلى يأخذ عن الله في الصورة المحمدية النورانية أو الروحانية ، أو عن روح خاتم الولاية الخاصّة المحمدية ، أو عن الله فيه كذلك .
فالمقامات الإلهية والأحوال والعلوم مغمورة  أبدا بعد الأنبياء بالورثة المحمديين وغير المحمديين .
ويسمّيهم المحقّق أنبياء الأولياء ، كما أشار إلى ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله : « علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل » وفي رواية " أنبياء بني إسرائيل " بلا كاف التشبيه ، والروايتان صحيحتان فالآخذون عن أرواح الرسل من كونهم رسلا ليست علومهم وأحوالهم ومقاماتهم جمعية أحدية محيطة .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي الجزء الثاني لخطبة كتاب فصوص الحكم الجزء الثاني .الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 3:35 pm

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي الجزء الثاني لخطبة كتاب فصوص الحكم الجزء الثاني .الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح خطبة الكتاب على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

شرح الشيخ مؤيد الدين لخطبة الكتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي :  الجزء الثاني

والآخذون علومهم عن الله في الصورة المحمدية والختمية هم الكمّل من أقطاب المقامات ، وأكمل الكمّل وراثة أجمعهم وأوسعهم إحاطة بالمقامات والعلوم والأحوال والمشاهد .
وهو خاتم الولاية الخاصّة المحمدية في مقامه الختمي ، فوراثته أكمل الوراثات في الكمال والسعة والجمع والإحاطة بعلوم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأحواله ومقاماته وأخلاقه يقظة ومناما.
ويطابقه في الجميع حذو القذّة بالقذّة ، حتى أنّه جرى عليه ومنه رضي الله عنه مندوحة ، فما جرى على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومنه كما سيأتيك في الفصّ الشيثي ، فافهم إن شاء الله تعالى .

ثم الوراثة قد تكون كلَّية ، وقد تكون جزئية ، فالكلَّية لأقطاب المقامات المحمدية ، والجزئية لأقطاب المقامات الأسمائية ، والجامع للوراثات كلَّها هو الأكمل .
وآخر مقامات الوراثة الأدب والأمانة ، ولهذا قال رضي الله عنه : إنّه لا يزيد ولا ينقص عمّا نصّ عليه مورّثه صلَّى الله عليه وسلَّم .
قال الشيخ رضي الله عنه :
فمن الله فاسمعوا    ....... وإلى الله فارجعوا
يعني : لمّا لم يكن لي تصرّف في ذكر ما أذكره في هذا الكتاب ، فلا تسمعوا منّي واسمعوا من الله الذي فنيت فيه فناء لا ظهور لي أبدا ، وإذا اشتبه عليكم شيء منه ، فارجعوا فيه إلى الله .
قال :" فإذا ما سمعتم " أي من الله  " ما أتيت به " أو ما أتيتم " فعوا " أي احفظوه في وعاء القلوب .

قال : ثم بالفهم فصّلوا      ..... مجمل القول واجمعوا
يعني : أنّي أجملت القول في المقامات الكمالية ، وذكرت في أثناء ذوق كل نبيّ بحقيقة الأمر على ما هو عليه في نفسه ، وهو أعلى مراتب الرحمة وأكملها وأفضلها .

قال الشيخ رضي الله عنه  « ومن الله أرجو أن أكون ممّن أيّد ، فتأيّد ، وأيّد ، وقيّد بالشرع المطهّر المحمدي ، فتقيّد ، وقيّد " .
قيّد رجاءه رضي الله عنه بالله بعد تقديمه تعالى على رجائه إيثارا لجنابة وتخصيصا بالحقّ أن يقيّده الله بالتأييد الاعتصامي .
فهو مؤيّد من الله ومؤيّد من آمن بالله وبما جاء ، فيقوى وتأيّد ، وأيّدنا وتأيّدنا ، فنحن المؤيّدون معاشر الأولاد الإلهيّين ، وتقيّد بالشرع المحمدي المطهّر بما قيّده به الله .

وقيّدنا بذلك كذلك وإنّ الأمر إطلاق التقييد المحمدي ، فهو أكمل الأمّة أبدا ، فتقيّد وقيّدنا - من حيث النفس والطبيعة - بهذه الشريعة الكاملة المحمدية التي لا أكمل منها أبدا ، على ما سيفضي القول فيه .
فانطلقت عقولنا و أسرارنا و أحوالنا وقلوبنا عن قيود التعشّق بالعقائد الجزئية التقييدية ، وأسرحت في فسح فيحاء فضاء الكشف والشهود ، و أحدية الجمع والوجود ، عن علوم الرسوم التقليدية ، مقتضيات المدارك والأفكار النظرية البشرية التحديدية .

قال رضي الله عنه : " وأن يحشرنا في زمرته كما جعلنا من أمّته " .
يعني رضي الله عنه الحشر في الأنبياء فإنّ زمرة النبيّ الأنبياء والأولياء الكاملون ، كما جعلنا من أمّته .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة الجزء الأول .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 5:07 pm

01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة الجزء الأول .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم 

01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة الجزء الأول

قال رضي الله عنه : ( وأوّل ما ألقاه المالك على العبد من ذلك ) .
خصّص رضي الله عنه إضافة الإلقاء إلى المالك إشارة إلى أنّه محكوم مأمور أمين على ما يذكره ، فقد ملَّكه الله المالك في الصور المحمدية ، فهو يتلقّى ما يلقى إليه .
ويلقي ، ويلقى منه وإليه وعليه : يملي ويملى ، فأوّل ما تعيّن من النقوش الحكميّة نقش الحكمة الإلهية الأحدية الجمعية .
قال رضي الله عنه : ( فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة ).
قد سبق الكلام في الفصّ والحكمة ، وأمّا اختصاصها بآدم فهو أنّ كلّ واحدة من " الحكمة " و "الكلمة " حقيقة ظاهر الأحدية الجمعية الكمالية الكلَّية في مرتبتي الفاعل والقابل .
فالحكمة الإلهية ظاهرية أحدية جمع الحكم الكمالية الأسمائية الكلَّية في الحقائق العقلية المؤثّرة.
والكلمة الآدمية ظاهرية جمع المظهريات الجمعية الكمالية الإنسانية البشرية فإنّه أبو البشر ، والبشر منسوبون موصوفون ببنوّته وهو منعوت بأبوّتهم ، وكلَّهم أولاده ، وجميع هذه الأشخاص البشرية صور تفصيل بشريّته وآدميّته .
وهو أحديّة جمعهم قبل التفصيل إذ للأحدية الجمعية الكمالية مرتبتان إحداهما قبل التفصيل لكون كلّ كثرة مسبوقة بواحد هي فيه بالقوّة ، هو يذكَّر قوله تعالى :
"وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بَنِي آدَمَ من ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ " آية 172 سورة الأعراف.
فإنّه لسان من ألسنة شهود المفصّل في المجمل مفصّلا ، ليس كشهود العالم من الخلق في النواة الواحدة النخيل الكامنة الكائنة فيها بالقوّة فإنّه شهود المفصّل في المجمل مجملا لا مفصّلا .
وشهود المفصّل في المجمل مفصّلا يختصّ بالحقّ وبمن شاء الحقّ أن يشهد من الكمّل ، وهو خاتم الأولياء وخاتم الأنبياء وورثتهما ، فافهم .
فكما أنّ الإلهية في حقائق الأسماء عينها آخرا ، والأسماء فيها عين الإلهية كذلك أوّلا قبل التفصيل الوجودي وبعده هو فيهم هم ، كما قال تعالى : " خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ " آية 1 سورة النساء.
وقد ذكر سرّ أحدية الجمع في مواضع من هذا الشرح على ما سيأتيك في شرح الفصّ الشيثي إن شاء الله تعالى .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لمّا شاء الحقّ سبحانه) أضاف المشيّة إلى الاسم « الحقّ » لكون هذه المشيّة متعلَّقة بالإيجاد ، حتى تتحقّق الأسماء في مظهريته موجودة في أعيانها ، وتظهر في مظاهرها ، وتظهر آثارها محقّقة مشهودة في محالّ مناظرها ومجالي محالَّها ومظاهرها لأنّ الاسم " الحق " يعطي الحقّيّة بالتحقيق والوجود ، والأسماء الإلهية كانت في قبضة قهر الأحدية الجمعية الإلهية الذاتية أحدية لا ظهور لها لعدم مظاهرها في أعيانها .
وهي العوالم « و كان الله ولا شيء معه غيره » وكانت كثرة الأسماء " كنت كنزا مخفيّا " أشار إلى عينه من حيث تعيّنه بكناية حرف التاء وهو تعيّنه بذات اللاهوت كنزا جامعا لجواهر حقائق الأسماء والمسمّيات.
إذ الكنز ذهب وفضّة وجواهر مجتمعة في الغيب .
والكنز مخفيّ عن الأغيار وإن كان ظاهر التحقّق والتعيّن في عينه « فأردت أن أعرف ».
أي يعرفني كلّ تعيّن تعيّن من تعيّناتي في مظاهري ومرائيّ ومجاليّ التي ليست ذات الألوهية بل نسبتها ، فهذه المشيّئة تجلّ من الله من حيث حقائق التعيّنات الأسمائية المستهلكة للأعيان.
فشاء الحقّ من حيث الأسماء أن يعطيها التحقّق في أعيانها بالوجود والإيجاد ، والتحقّق في حاقّ حقائقها للشهود والإشهاد على رؤوس الأشهاد ولأنّ تحقّق هذه المشيّة مسبوق بتحقّق الذوات في نفسها ، وتحقّق المشيّة المطلقة مطلق للذات وعينها .
ولهذا أشار بقوله : " لمّا شاء "  فإنّ هذه العبارة دالَّة على المسبوقية في الرتبة والحقيقة والعين ، لا في الزمان والوجود الظاهر ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( من حيث أسمائه الحسني التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها وإن شئت قلت : أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كلَّه لكونه متّصفا بالوجود) .
فصرّح أنّ هذه المشيّة من قبل الأسماء وحقائقها من كونها فيه هو .
وفي قوله : " لا يبلغها الإحصاء " يشير إلى أنّ شخصيات الأسماء لا تحصى فإنّها لا تتناهى لكون الأسماء تعيّنات إلهية في حقائق الممكنات التي لا تتناهى على ما يأتيك إن شاء الله تعالى وإن كانت أمّهات الأسماء محصاة من حيث تعيّناتها الكلَّية.
وهي مائة إلَّا واحدا هو عين الكلّ ، أو ألف وواحد فأضاف المشيّة إلى الاسم « الحق » من حيث أسمائه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء لأنّ هذه الإضافة إلى الاسم « الحق » أحقّ إذ هو حق كلّ اسم ، وبه حقيقة ذلك الاسم وتحقّقه .
والاسم هو الحق المتعيّن في أيّة مرتبة إلهية كان بالوجود .
ثم الاسم يستدعي تسمية ومسمّى ومسمّيا .
والمسمّى اسم مفعول هو الحق ، والمسمّي اسم فاعل هو القابل المعيّن للوجود الواحد المطلق عن قيد التعيّن من حيث ما فيه صلاحية قبول التعيّن لا من حيث اللاتعين والإطلاق مطلقا .
والتسمية هي التعيين لفعل القابل وتأثيره في الوجود المطلق والفيض الخالص الحقّ بالتعيين والتقييد ، فالاسم علامة على المسمّى بخصوص حقيقته التي بها يمتاز عن غيرها من الحقائق .
ولكل اسم اعتباران :
اعتبار من حيث الذات المسمّاة ، واعتبار من حيث ما به يمتاز كل اسم عن الآخر وهو حجابية الاسمية .
فإن اعتبرنا المسمّى ، فهو الحق المتعيّن في مرتبة ما من المراتب التعيّنية ، وإن اعتبرنا الاسمية ، فعلامة خاصّة ودلالة معيّنة معيّنة للمدلول المطلق بخصوص مرتبتها ، فنفس تعيّن الوجود الحقّ بالإلهية في كل قابل قابل هو الاسم .
ولمّا كانت تعيّنات الوجود الحقّ وتنوّعات تجلَّيه وظهوره في قابليات الممكنات غير المتناهية غير متناهية .
لذلك  قال رضي الله عنه: « لا يبلغها الإحصاء » لأنّ الذي يبلغها الإحصاء متناه ، والتعيّنات الوجودية بالنفس الرحماني لا تتناهى ، فلا تحصى فلا يبلغها الإحصاء .
وأمّا أسماء الإحصاء ، فهي كلَّيات حقائق الوجوب والفعل والتأثير ، فهي مائة إلَّا واحدا .
وبيان سرّ ذلك أنّ الأسماء في حقائقها تنقسم إلى أسماء ذاتية ، وإلى أسماء صفاتية ، وإلى أسماء فعلية.
فإذا ضربنا الثلاثة الفردية في نفسها للتفصيل والبسط ، خرجت تسعة ، وهي آخر عقود الآحاد في مرتبة الأعداد .
والتسعة في مرتبة العشرات تسعون ، وهي مرتبة المجازاة الثانية ، فإنّ الواحدة بعشر أمثالها .
كما قال تعالى :"من جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه ُعَشْرُ أَمْثالِها " لكون المجازاة لها المرتبة الثانية من عمل الإحصاء.
إذ المجازاة إنّما تقع من الأسماء الإلهية المحصاة في أعيان أعمال العباد ، والعشرة نظير الواحد في المجازاة .
ونسبة الواحد إلى العشرة كنسبة العشرة إلى المائة ونسبة المائة إلى الألف كذلك نسبة الواحد إلى العشرة .
فالواحد في الحقيقة هو العشرة والمائة والألف في مراتب العشرات والمئات والألوف ، ولهذا وقع في الواقع في الأعداد الهندسيّة إشارة من باب الإشارات .
فلمّا كانت أسماء الإحصاء هي المجازية للعبيد المتخلَّقين والمتحقّقين بها ، والعشرة هي الكاملة في المجازاة ، ظهرت التسعة في مرتبة العشرة تسعين ، وأضيفت إلى الأصل وهي التسعة الحاصلة من ضرب الثلاثة المرتبيّة في نفسها كما مرّ فكانت تسعة وتسعين ، فافهم .
ولأنّ هذه الأسماء من وجه عين المسمّى بها ، ومن وجه غيرها ، كان المسمّى وهو الحقّ الظاهر في مراتب وجوده ، والمتعيّن بالتجلَّي في عين القابل المتجلَّى له وتعديده وتعيينه وتقييده وتكييفه وتحديده.
كان المسمّى بهذه الأسماء التي هو مدلولها تمام المائة من حيث كونها غيرها ، وغير محصى بالتعيين لكونها عينها .
فلهذا قال : « إنّ لله تعالى مائة اسم إلَّا واحدا » ، فهذا الواحد هو عين التسعة والتسعين ، وعين الألف والواحد على ما روي في مرتبة الإحصاء أنّها ألف وواحد ، ظهر في آخر كلَّيات مراتب العدد ، كما خفي في أوّلها وأوسطها .
وهو أيضا كذلك عين الأسماء التي لا يبلغها الإحصاء فإنّها التعينات الوجودية النورية ، وتنوّعات التجلَّيات النفسية الجودية ، والكمالات الإلهية لا تنفد ، ولا يبلغها الإحصاء ، ولا يحصرها تعديد النعماء والآلاء ، فافهم .
واعلم : أنّ الحقّ من حيث هذه التجلَّيات والتعينات الذاتية أزلا وأبدا يريد أن يرى أعيانها في كون جامع يحصر الأمر ، فإنّه كان ظاهرا قبل ظهورها لأنفسها له تعالى ، ورؤيتها إيّاها أيضا في مظاهر غير جامعة ولا حاصرة لحقائق السرّ والجهر ودقائق البطن والظهر .
وتجلَّيه تعالى في المظاهر النورية الجمالية يخالف تجلَّيه في المجالي الظلالية الجلالية .
وظهوره في القوالب السفلية ، وجميع هذه المظاهر غير جامع لرؤيته نفسه ولا حاصر للأمر .
ولهذا قال رضي الله عنه : " لمّا شاء الحق " على صيغة تقتضي المسبوقية بعدم هذه المشيّة المقتضية لظهوره له في الكون الجامع ، بعد ظهوره في الأكوان غير الجامعة وإن كانت مشيّته في رؤيته.
ورؤيته لأسمائه وصفاته ونسب ذاته سابقة التعلَّق على الظهور الأسمائي في العالم قبل الكون الجامع.
ولكن من حيث ظهور الإنسان من حيث الصورة العنصرية لمظهريّتها .
فإنّ تعلَّق المشية آخر بموجب الترتيب الحكمي الوجودي .
فإنّ الإنسان أوّل بالحقيقة ، والآية في البداية ، آخر في الغاية والنهاية ، ظاهر بالصورة ، باطن بالسرّ والصورة جامع بين الأوّلية والآخرية ، والباطنية والظاهرية .
وجمعيّته لكونه برزخا جامعا بين بحري الوجوب والإمكان والحقّية والخلقية .
وأمّا حصره الأمر فلكونه موجودا بالرتبة الكلَّية الجامعة بين المراتب ، ولكون الأمر محصورا في نفسه بين الوجود والمرتبة .
فلمّا كانت مرتبته كلية جامعة بين مرتبتي الحقّية والخلقية ، والربانية والعبدانية ، تمّ بعين الوجود الحق في مظهريته بحسبها كليا جمعيا أحديا ، والمرتبة منحصرة بين الحق الواجب والخلق الممكن ، معمورة  بهما ، فالحق أبدا حق ، والخلق أبدا خلق .
والوجود في مرتبة الحقية حق ، وفي مرتبة الخلقية خلق ، وفي النشأة الجامعة حق خلق جامع بينهما مطلقا عن الجمع بينهما أيضا ، فالدائرة الوجودية كما سبق محيطة بقوسين ، ومنقسمة بقسمين ، ومنصّفة بشطرين على قطرين :
فالشطر الأعلى للحقيّة والوجوب ، فإنّ الفوقية والعلوّ حق الحق.
والشطر الأدنى للكون والخلق .
والبرزخ يظهر بالنعتين ، ويصدق عليه إطلاق الحكمين ، وله الجمع بين البحرين ، وليس له نعت ذاتي سوى الجمعية والإطلاق فله أن يظهر مظهرية الأسماء والمسمّيات والذات على الوجه الأوفى .
وفي حقّه يصحّ أن يقال :
يرى أعيانها أو يرى الحقّ نفسه في كون جامع .
فإنّ رؤية الحقّ نفسه في كون غير جامع لما هو عليه ليست كرؤيته نفسه في مرآة كاملة جامعة لظهور آثاره وأحكامه تماما .
كما قال : ( أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر لكونه متّصفا بالوجود ) فإنّه كان يرى عينه في عينه رؤية ذاتية عينية غيبية ، ويرى حقائق أسمائه وصفاته مستهلكة في ذاته رؤية أحدية ، وشهوده عينه وأعيان أسمائه في الكون الجامع شهود جمعيّ بين الجمع والتفصيل .
ويجوز أن يقول :
أن يرى أعيانها ، أو يرى عينه فرادى وجمعا .
ويجوز أن يقول   : الكلمة مبنيّة للمفعول في الوجهين ، فانظر ما ذا ترى .
قال رضي الله عنه : ( ويظهر به سرّه إليه ).
وفي « يظهر » أيضا يصدق جميع الوجوه المذكورة من الإعراب لكونه عطفا على « يرى » ، ثم الضمير في « إليه » و " به " سائغ العود إلى الحقّ وإلى المظهر الجامع .
فإنّ ظهور السرّ الكامل الكامن إنّما يكون بالحق المتجلَّي بالتجلَّي التعريفي في قوله : « أحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرّفت إليهم فعرفوني ».
ولكن في الكون الجامع وبالكون الجامع ، فإنّ الحقّ تعالى شأنه من حيث كونه أحبّ إظهار سرّه الكامن ، وجلا حسنه الباطن إبداء كماله المستحسن بجميع المحامد والمحاسن ، ظهر بالكون الجامع الإنساني والكتاب الأكمل القرآني إلى الحق أو إلى المظهر ، كذلك يجوز على الوجهين ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( فإنّ رؤية الشيء نفسه في نفسه ليست مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة فإنّه يظهر له نفسه ) .
يعني في المرآة (في صورة يعطيها المحلّ المنظور فيه ، ممّا لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحلّ ولا تجلَّيه له).
قال العبد أيّده الله : اعلم شرح الله صدرك بنوره ، وأسرّ إلى سرّك بسروره :
أنّ الحقّ الواجب الوجود في كماله الذاتي وغناه الأحديّ يرى ذاته بذاته رؤية ذاتية غير زائدة على ذاته ولا متميّزة عنها ، لا في التعقّل ولا في الواقع .
ويرى أسماءه وصفاته ونعوته وتجلَّياته أيضا كذلك نسبا ذاتية لها وشئونا عينيّة غيبية مستهلكة الأحكام تحت قهر الأحدية .
غير ظاهرة الآثار ولا متميّزة الأعيان بعضها عن البعض في حيطة  جمال الصمدية .
وكينونته  فيها إنّما هي ككينونة النصفية والثلثيّة والربعية والخمسية وغيرها من النسب في الواحد فإنّ الواحد هو النصف والثلث والربع والخمس كما مرّ مرارا .
فهو من حيث صلاحيته لاتّصاف هذه النسب إليه يصحّ إطلاق أسمائها عليه ككون المسمّى بالأسماء المحصاة تمام المائة .
والواحد في ذاته ومن حيث إنّ واحديّته غير زائدة عليه مع قطع النظر عن الاثنين والثلاثة والأربعة والخمسة لا نصف ولا ثلث ولا ربع ولا خمس .
فكذلك الحقّ من حيث ذاته الأحدية لا ظهور فيه لنسبة من هذه النسب لكنّه إن شاء أن يظهرها من حيث كماله الأسمائي ، أظهرها في مظاهرها ومجاليها ، ونظر إليها في منصّاتها ومرائيها فإنّ ثبوت الكمال الذاتي للحقّ من وجهين :
أحدهما : كماله من حيث الذات كما مرّ وهو عبارة عن ثبوت وجودها منها لا من غيرها ، فهي عينه في وجودها وبقائها ودوامها عن سواها ، فمهما تعلَّقت هذه النسب أو أضيفت أو شوهدت في الذات من حيث الكمال الذاتي ، فإنّها تشهد وتعلم أحدية لكون الحقائق المعقولة في كل مرتبة بحسبها .
والكمال الثاني : هو كمال نفسي للحق تفصيلي من حيث الأسماء الحسنى وصورها ، فهو كمال صورة الحق ، وذلك يكون بظهور آثار النسب المرتبيّة والحقائق الأسمائية ، وتعود أحكامها في عوالمها ومظاهرها .
وهذا الكمال الثاني ثابت للحق من حيث مرتبته الذاتية التي يقتضيها لذات الألوهية ، وهي نسبة كلَّية جامعة لجميع النسب الأسمائية .
فشاء الحقّ من حيث أسمائه الحسنى وتجلَّياته العليا تعيّناته القصوى ، فتجلَّت تجلَّيا جمعيا ، وانبعثت انبعاثا حسبيّا إلى المظهر الكلَّي والكون الجامع الأصلي الحاصر للأمر الإلهي فامتدّت رقائق النسب إلى متعلَّقاتها واشرأبّت حقائق الوجود إلى متعلَّقاتها ، فطلبت الربوبية المربوب ، والإلهية المألوه المحبوب .
فقامت بظاهرياتها مظاهر لباطنها ، وبشهادتها مجالي لغيبها ، فهي الظاهرة بمظاهر هي عينها ، والناظرة من مناظر هي عينها ، وفيها أينها ، فظهرت الحقائق الوجوبية والنسب التي اقتضتها  الربوبية في متعلَّقاتها ومظاهرها ومجاليها.
وزهرت أنوار التجلَّيات في مراتبها ومرائيها ، فرأت أنفسها متمايزة الأعيان والآثار ، متغايرة الظلم والأنوار ، وتعيّنت أحكامها ولوازمها ممتازة ، وتبيّنت عوارضها ولواحقها إلى أحيازها منحازة .
فأعيان الموجودات العلوية وأشخاص المخلوقات السفلية مظاهر النسب الوجوبية ومجالي تعيّنات أسماء الربوبية ، فيرى الحقّ فيها حقائق الأسماء وأعيان الاعتلاء مستوية على عروشها ، ومحتوية على جنودها وجيوشها ، فما منّا إلَّا له من الحق مقام معلوم ، ومن الوجود رزق مقسوم ، فانظر الفرق بين الرؤيتين والشهودين ، والتفاصيل بين الكمالين والوجودين .
ثمّ اعلم : أنّ المناظر والمجالي والمظاهر والمرائي التي يرى الحقّ فيها نفسه إنّ لم تكن لها حيثيّة خصيصة واستعداد معيّن تمتاز بها عن الظاهر فيها ، كان الظاهر الحقّ فيها غير متغيّر عن عينه .
وإن لم تكن كذلك ، ظهرت الصورة بحسب المحلّ كظهور الحق في مرتبة من المراتب جزئية كانت أو كلَّية إنّما يكون بحسب المحلّ .
ولا يكون ذلك المظهر بحسب الحق فإنّ ظهور الحق مثلا في العالم الروحاني ليس كظهوره في العالم الطبيعي .
فإنّه في الأوّل بسيط ، نوري ، فعلي ، نزيه ، شريف ، وحداني .
وفي الثاني ظهوره على خلاف ذلك من التركيب ، والظلمة ، والانفعال ، والخسّة ، والكثرة ، والكدر.
ومن المظاهر ما ليس له حسب معيّن وحسبيّة يوجب انصباغ الظاهر فيه بصبغه ، ولا يكسب الحقّ المتجلَّي فيه أثرا من خصوص وصفه وصفة عينه بحيث يخرجه عن طهارته الأصلية ومقتضى حقيقته الكلَّية كالمظاهر الإنسانية الكمالية الكلَّية البرزخية ليست لها حسبيّة تخرج الحقّ عن مقتضى حقيقته لما بيّنّا أنّ البرازخ ما لها حقيقة تمتاز بها عن الطرفين.
وهذا هو سرّ الإمامة ولا يصل كلّ واحد من الطرفين إلَّا ما تقتضيه حقيقته ، بخلاف المظاهر البرزخية فإنّها تقبل ما يصلح للجمعية .
وكلّ موجود من العوالم الأمرية الروحانية والأعيان الجسمانية الملكية مظهر ومرآة لاسم مخصوص وصفة جزئية أو كلَّية من الأسماء والصفات الإلهية والحقائق الذاتية الكلَّية .
وإن كان لسائر الأسماء في ذلك مدخل بحكم التتبّع كالطالع من الفلك يقتضي لصاحبه خصوص حكم مع شركة سائر البروج .
وليس شيء منها علوا وسفلا مظهرا تامّا كاملا للذات المطلقة الكاملة الجزء الجزئية في حقيقته ، وإلَّا لانقلبت الحقائق وخرجت عن ذاتياتها ، فصار المطلق مقيّدا وبالعكس ، فظهور الحق بالوجود فيها لا يكون إلَّا بقدر قابليته واستعداده .
وهو سبحانه وتعالى يقتضي لذاته أن يظهر بالكلّ ويظهر به الكلّ ظهورا أحديا جميعا ، وظهوره في الكلّ بحسب الكلّ ، فلا يظهر الحق لنفسه بدون مظهر منها بما يقتضيه المظهر ، بل بالمظهر .
فهذا معنى قوله : « فإنّه يظهر لنفسه في صورة يعطيها المحلّ ممّا لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحلّ » .
كما أنّ الناظر في المرآة المتشكَّلة بشكل خاصّ من الطول والتدوير وغيرهما لا تظهر صورته بذلك إلَّا بحسب المحلّ لا بحسب الذات خارج المرآة .
فافهم من هذا المثال ظهور الحق في كلّ شيء بحسبه " وَلِلَّه ِ الْمَثَلُ الأَعْلى " وهاهنا أسرار " وَالله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ "  .
قال رضي الله عنه : ( وقد كان الحقّ سبحانه أوجد العالم  وجود شبح مسوّى لا روح فيه ، فكان كمرآة غير مجلوّة ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ المراد المطلوب والعلَّة الغائيّة المقصودة من إيجاد العالم ظهور الحق وإظهاره نفسه لنفسه ظهورا وإظهارا فعليا تفصيليا كما اقتضت ذاته المطلقة تكميلا لمرتبتي الجمع والفرقان ، والغيب والشهادة ، والإخفاء والإعلان ، فكمال الجلاء والاستجلاء وإحاطة الشهود بالغيب والشهادة هو السرّ المطلوب والعلَّة الغائيّة من العالم .
فإذا لم يحصل كمال الظهور والإظهار على النحو المطلوب ، لم يكن له سرّ وروح ، والعالم كلَّه أعلاه وأسفله ، وأمره وخلقه ، ظلمانيته ونورانيته كما قلنا مظاهر الأسماء الإلهية ، فما من موجود منها إلَّا والغالب على وجوده حكم بعض الأسماء على سائرها .
فذلك البعض سنده وإليه مستنده ، والحق من حيث ذلك الاسم ربّه ومعبوده ، ومن حضرته فاض عليه وجوده وهو عند التجلَّي مشهوده .
فظهور الحق وإن وجد قبل الكون الجامع والمظهر الكامل والمجلى الشامل نحوا من الظهور تفصيليا فرقانيا ، ولكنّ المطلوب بالقصد الأوّل هو كمال الجلاء والاستجلاء ، فحيث لم يوجد كمال الظهور في المظهر الأكمل ، لم يحصل المراد المطلوب من إيجاد العالم لعدم قابلية العالم بدون الإنسان لذلك ، وقصوره عن كمال مظهريته تعالى ذاتا وصورة جمعا وتفصيلا ، ظاهرا وباطنا ، فكان كمرآة غير مجلوّة ، أي غير قابلة لروح التجلَّي المطلوب والمراد المقصود المرغوب ، فكان العالم بمنزلة شبح مسوّى لا روح فيه لأنّ الروح إنّما يتعيّن في المحلّ بعد التسوية .
كما قال تعالى مقدّما للتسوية على النفخ في قوله : " فَإِذا سَوَّيْتُه ُ وَنَفَخْتُ فِيه ِ من رُوحِي ".
فالتسوية عبارة عن حصول القابلية في المحلّ للنفخ الإلهي ، وهو عبارة عن التوجّه النفسي الرحماني بالفيض الوجودي والنور الجودي.
كما قال الشيخ رضي الله عنه : (ومن شأن الحكم الإلهي أنّه ما سوّى محلَّا إلَّا ولا بدّ أن يقبل روحا " إلهيا عبّر عنه بالنفخ فيه وما هو إلَّا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسوّاة لقبول الفيض التجلَّي الدائم الذي لم يزل ولا يزال . وما بقي إلَّا قابل ، والقابل لا يكون إلَّا من فيضه الأقدس ) .
يعني رضي الله عنه : ليست تسوية الحقّ للمحلّ لقبول الروح إلَّا حصول الاستعداد ، فـ " هو " في قوله : « وما هو لسان الحكم الإلهي » .
وفي قوله : " عبّر عنه " يعود الضمير إلى الروح ، لا بمعنى أنّ الروح هو النفخ ، بل بمعنى أنّ الله ذكر تعيّن الروح في المحلّ بعد التسوية بهذه العبارة ، فقال :" وَنَفَخْتُ فِيه ِ من رُوحِي " .
ثمّ اعلم : أنّ تسوية الحق للمحلّ أن يعطيه الاستعداد والقابلية ، أي يظهر استعداده الذاتيّ غير المجعول ، فإنّه إن لم يكن له استعداد ذاتي لقبول هذا الاستعداد المجعول هذه الصورة المذكورة هيولى مستعدّة لقبول صورة بعدها إلى أن تنتهي في الصورة الإنسانية الكمالية * ( .
"ثُمَّ الله يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ " 29 سورة العنكبوت.
وكلّ هذه الصور صور مراتب التسوية والإعداد لقبول تجلّ بعدها .
وكذلك صورة الحنطة هيولى مسوّاة لقبول صورة الدقيق ، وهي هيولى لصورة العجين ، وهي أيضا هيولى مسوّاة لصورة الخبز ، وهي هيولى لصورة الكيلوس أو الكيموس.
وكذلك إلى الصورة الدمويّة ، ثم اللحمية والعظمية وغيرها ممّا يطول ذكرها ، كذلك العالم صورة مسوّاة لقبول تجلّ كلَّي فرقاني تفصيلي أسمائي .
وبعده يستعدّ لقبول تجلّ كلَّي إنساني قرآني إلهي ذاتي ، وأسمائي جمعي بين الجمع والتفصيل أحديّ ، وهذا السرّ سار في جميع الصور ، فتدبّرها تدقيقا وتحقيقا ، إن شاء الله .
ثمّ اعلم : أنّ التسوية والتعديل لا يكونان إلَّا بأحدية فيما به الاشتراك بين الأجزاء الكلَّية ، المتميّز بعضها عن البعض بالذات والخصوصيات .
وتوحّد الجميع لسراية الوجود بالوحدة في حقائق المراتب ، وتوحيد تعديداتها وتمييزاتها بالوجود الواحد الظاهر بها والظاهرة هي به وفيه .
فإذا توحّدت الآحاد والأفراد بالوجود الواحد الموحّد بسرّ أحدية الجمع السارية في حقائق القابل والمقبول ، والحامل والمحمول ، والظاهر والمظهر ، والمتجلَّي والمجلى ، اضمحلَّت أحكام ما به المباينة والامتياز والاثنينيّة .
وتلاشت آثار النسب التعديدية حين استعداد القابل لقبول نفخ الروح الإلهي بالتوجّه النفسي الرحماني ، فلمّا ظهر الحق بأسمائه في العالم بصورة الكثرة الفرقانية التفصيلية ، استعدّ لنفخ روح الأحدية الجمعية الإنسانية ، فما بعد التفصيل إلَّا الجمع ، فافهم .
وقول الشيخ رضي الله عنه : ( لقبول الفيض التجلَّي الدائم ) إن كان"الدائم" مجرورا ، فـ "التجلَّي" بدل عن « الفيض » .
بمعنى أنّ التجلَّي الدائم هو الفيض ، أو عطف بيان ، ويسوغ إسقاط لام التعريف من « الفيض » وإضافته إلى « التجلَّي »
فيقال :لقبول فيض التجلَّي ويجوز أيضا إبقاء اللام في « الفيض » بحالها ونصب الياء من
" التجلَّي " ورفع محلّ " الفيض " المجرور بإضافة « قبول » إليه.
يعني أنّ الفيض الأوّل المعدّ لقبول التجلَّي يكون هو القابل للتجلَّي ثانيا .
والفيض بعد تعيّنه في قابلية الماهية القابلة له بحسبها يستعدّ استعدادا ثانيا وجوديا قابلا للتجلَّي ، فيكون حينئذ قابل الحقّ إنّما هو الحقّ .
والفيض الأوّل الذي وجد به القابل أوّل مرّة يقبل التجلَّي الدائم الذي لم يزل ولا يزال لكون الحق المتجلَّي دائم التجلَّي بالاقتضاء الذاتي ، فإنّه فيّاض النور أبدا الآبدين .
وقوله رضي الله عنه : (وما بقي إلَّا قابل ، والقابل من فيضه الأقدس) بعد ذكر ما ذكر وإن أوهم أهل الوهم أنّه كالتكرار ، ولكن ليس كذلك ، ولكن ما ذكر إنّما ذكر بالضمن .
وهذا عطف على قوله : « وكان الحق أوجد العالم » وما بقي إلَّا قابل .
وما ذكر في البين هو حشو اللوزينج لزيادة البيان .
ولمّا كان الفيض دائما والقبول كذلك أيضا ، وجب لقابل الفيض أن يقبل بعد التلبّس بأحكام ماهية العالم وحقيقته ، والانصباغ بأحكام حقائقه تجلَّيات أخر لا تتناهى دائما أبدا الآبدين فإنّ ما دخل في الوجود ، وصار واجب الوجود بالوجود الحق الدائم ، فإنّه لا ينقلب عدما ، ولكنّ التعيّنات والظهورات والنشآت تنقلب عليه .
فإنّ قيل : قوله تعالى : " كُلُّ من عَلَيْها فانٍ "، وانقراض المشهود من الدنيا دليل صريح على انعدام الموجودات .
قلنا : متعلَّق الانعدام والفناء إنّما هو التعيّن الشخصي لا الوجود  المتعيّن في الحقيقة المعيّنة ، فيفنى تعيّن الوجود في مادّة تعيّن ، ويظهر في أخرى برزخيّ وحشريّ وجناني ، أو جهنّمي أو كينيّ ، هكذا إلى الأبد .
فالقابل والمقبول باقيان دائمان بالحق الدائم الباقي ، فافهم إن شاء الله تعالى فها هنا مزلَّة أقدام الكثيرين من الأوّلين والآخرين ، والله يثبّتنا وإيّاك بالقول الثابت الحق إنّه عصمة المعتصم به وهو حسبنا وكفى ، والحمد لله .
وأمّا كون القابل من فيضه الأقدس فهو ، يعني : أنّ الحقائق والأعيان الثابتة في العلم الإلهي الأزلي قوابل الفيض الوجودي العيني ، وهي شؤون ذاتية وتجلَّيات ذاتيات اختصاصيات ، وتعيّنات علميات ، فإنّ مبدأ تعيّنات التجلَّيات الذاتيات .
هذه التعيّنات العلمية بأعيان العالم ، وحقائقها ومعنوياتها معان مجرّدة ونسب علمية متمايزة بالخصوصيات ، كتمايز النصفيّة والثلثية والربعية والخمسية في علم العالم بالواحد في مراتب العدد فتعيّن بهذا التجلَّي العلمي تميّز كلّ عين عين من الأعيان عن غيرها بموجب الخصوصيات الذاتية.
فتعيّن المعلومات في العلم الأزلي أزلا إنّما هو بالفيض الذاتي الأوّل الأقدس أوّلا ، فحصلت بهذا الفيض الأقدس الأوّل على وجود علمي وثبوت أزلي .
أعني تحقّق العلم بالمعلومات المعيّنة ، فتعيّنت الأعيان الثابتة من عين الأعيان بهذا الفيض الأوّل الأقدس ، كما أشرنا إلى ذلك في الغرّاء التائيّة بقولنا شعر :
وإذ عيّن الأعيان في علم ذاته   ..... على صور علمية أزلية
تعيّن بي معنى المعاني بعينه    ..... وعيني حرف الأحرف المعنوية
ثم تعلَّقت النسبة المخصّصة للإيجاد ، وهي المشيّة والإرادة الكليّة الذاتية ، وهي التعرّف والظهور التّام ثم تعلَّقت النسبة الاقتدارية أيضا بمتعلَّقها وهو المقدور بالتدبير والإعداد للتمكَّن عن قبول ما يفيض عليه النسبة الجودية الوهبيّة الذاتية للإيجاد.
ثم تداخلت كلَّيات النسب في أمّهاتها ، واشتكت وانتسبت الصورة الإلهية بأسمائها .
وتمثّلت الصورة المثلية المثالية فرقانية تفصيلية في مثال العالم ، وقرآنية جمعية كمالية في الصورة التي حذي عليها آدم ، فوجدت العوالم في أعيانها ، وشهدت الحقائق ، وزهرت الأنوار والأزهار والشقائق ، في الدرج والدقائق .
وثبتت الحروف في ألواح الوجود ، وارتسمت بحسب ما تعيّنت في صفحة أمّ الكتاب العلمي الأنفس بالفيض النفسي القدسي ، وارتقمت فكتبت الآيات البيّنات ، وسطرت الكلمات التامّات والسور الكاملات ، وملئت الصحف الزاهرات الطاهرات ، بالألسنة الإلهية الوجودية الظاهرات.
فالفيض الأوّلي في أوّل الانبعاث النفسي الرحماني ، تجلّ ذاتي نفسيّ في حضرتي العلم والشهود الذاتيين للحق ، وكما تعلَّقت النسبة العلمية والنسبة الشهودية بالمعلومات والمشهودات ، علم الحق بعضها قابلا للوجود ، وشهده حريّا بالفيض والإحسان والجود .
فأعطاه التمكَّن من القبول ، والتهيّؤ والاستعداد لقبول الوجود العيني الكمالي ، حتى قبل الوجود في عينه لنفسه ، وفي التجلَّي العلمي الأوّل كان وجوده وتحقّقه للحق في الحق لا في عينه ولا لعينه فالفيض الوجودي الأوّل العيني المقبول هو القابل ثانيا للتجلَّي الوجودي العيني الوارد عليه ، فافهم .
فهذا معنى قوله : " والقابل من فيضه الأقدس " فإنّ الأقدسية مبالغة في القدس وهو النزاهة والطهارة والتجليات الأسمائية الموجبة لوجود العالم كلَّها قدسيّة ، ولكنّ التجلَّي الذاتيّ والفيض الغيبيّ من غيوب الشؤون الذاتية وهو الفيض الأقدس ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( فالأمر كلَّه منه ، ابتداؤه وانتهاؤه " وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ " ، كما ابتدأ منه ) .
يعني رضي الله عنه : مبدأ أمر الوجود ومنتهاه من الحق ، وهذا غير مناف لكون المنتهى إليه فإنّه منه بدأ وإليه يعود ، وما ثمّ إلَّا هو ، فهو القابل من حيث ظاهريته ومظهريته ، وهو المقبول من حيث باطنه وعينه ، فالوجود المقبول المتعيّن ، والمرتبة القابلة المتعيّنة  له للمتبيّن.
والأمر محصور بين الوجود والمرتبة ، والمرتبة المظهر ، والمتعيّن بها الظاهر الوجود الحقّ الباطن ، والظاهر مجلى للباطن ، والباطن عين الظاهر بالمظاهر وفيها ، والكلّ من العين الغيبيّة .
ثم دائما من الغيب إلى الشهادة ، ومن الشهادة إلى الغيب ، ومن العلم إلى العين ومن العين إلى العين ، وما ثمّ إلَّا هو ، هو هو ، إليه المصير .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم ، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة ) .
قال العبد : ولمّا كان المراد بالإيجاد هو كمال الجلاء والاستجلاء ولم يحصل إلَّا بالإنسان وفي الصورة الإنسانية المثلية الكمالية الإلهية التي حذاها الله حذو صورته المقدّسة.
كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : " خلق الله آدم على صورته ".
وفي رواية " على صورة الرحمن ".
وجاء في أوّل التوراة كما ذكرنا أوّلا : " نريد أن نخلق إنسانا على مثالنا وشكلنا وصورتنا ".
كما قال الله تبارك وتعالى ، وكما أنّ صورة الرحمن مستوية على عرش الوجود .
كذلك صورة الله مستوية على عرش قلب العبد المؤمن ، كشفا وشهودا وإيمانا وصدقا وحقّا موجودا . قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حكاية عن الله تعالى : "ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن ".
فالعبد المؤمن هو القابل للكلّ ، والكون الجامع الإلَّيّ الذي يظهر به الأسماء والصفات والذات على ما هي عليها من الكمال يؤمن بقابليّته الكلَّية المحيطة .
ويعطي الأمان صور الذات والأسماء والصفات الظاهرة في مظهريته عن التغيّر والتحريف ، فيظهر صورها في مرآته الكاملة كاملة ومؤمن أيضا ، أي معطي الأمان صور النسب وحقائقها أيضا من عدم ظهور آثارها من خفاء حكم الغيب والعدم .
بإظهارها في محالّ أحكامها وأسرارها في حقائق مظهرياته المعنوية والروحانية والطبيعية والعنصرية والمثالية .
فالإنسان هو المظهر الكلَّي والمقصد الغائي الأصلي ، حامل الأمانة الإلهية ، وصاحب الصورة المثلية المنزّهة عن المثلية .
فقبوله للتجلَّي الإلهي أكمل القبول ، لأنّه ما من قابل من القوابل يقبل الفيض على نحو من القبول وتعيّن الصورة الإلهية بمظهريته إلَّا وفي الإنسان الكامل مثال ذلك على الوجه الأكمل والأتمّ فروحانيته أتمّ الروحانيات وأكملها ، وطبيعته العنصرية أجمع الأمزجة وأعدلها .
ونشأته أوسع النشآت وأفضلها وأشملها ، واستعداده لظهور الحق وتجلَّيه أعمّ المظهريات والاستعدادات وأقبلها .
وتعيّن صورة الحق والخلق في مظهريته أكمل التعيّنات وأجلَّها ، وبه حصل كمال الجلاء والاستجلاء ، وبه اتّصل كمال الذات بكمال الأسماء .
وكان آدم عليه السّلام أوّل الصورة الإنسانية العنصرية ، فهو عين جلاء تلك المرآة المسوّاة شبحا لا روح فيه قبل وجود هذه النشأة الإنسانية الكمالية ، وجلى الحقّ هذا المجلى الأتمّ والمظهر الأعمّ ، وجلا به الصدأ الذي كان في شخص العالم .
وتجلَّى له فيه تجلَّيا كاملا ، فرأى نفسه فيه ، كما تقتضيه ذاته الكمالية ، وظهر لنفسه فيه ظهورا جامعا بين الكمال الأسمائي والكمال الذاتي ، وكمل به العالم أيضا .
فظهر الحق به على أكمل صورة لأنّه على صورة آدم الذي هو على صورة الحق ، فكان آدم عين قابلية العالم وإنسان عينه وعين جلاء قلبه القابل للتجلَّي الكمالي الجمعي الإلهي.
فالصورة الإلهية الظاهرة في مرآتيته هي روح العالم ، والمظهرية الإنسانية هو القلب القابل المؤمن لصورة الحق الظاهر فيه وبه عن التغيّر والتحريف عمّا هي عليه في نفسها ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبّر عنه في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير ) .
قال العبد أيّده الله به : اعلم : أنّ الملائكة هي أرواح القوى القائمة بالصورة الحسّيّة الجسمية ، والأرواح النفسية والعقلية القدسية ، وتسميتها ملائكة لكونها روابط وموصلات للأحكام الربانية والآثار الإلهيّة إلى العوالم الجسمانية فإنّ الملك في اللغة هو القوّة والشدّة ، فلمّا قويت هذه الأرواح بالأنوار الربانية ، وتأيّدت واشتدّت بها ، وقويت النسب الربانية والأسماء أيضا بها وعلى إيقاع أحكامها وآثارها وإيصال أنوارها وإظهارها ، سمّيت ملائكة .
وهم ينقسمون إلى:
علويّ روحاني .
وسفلي طبيعي .
وعنصري .
ومثالي نوراني .
فمنهم المهيّمون ، ومنهم المسخّرون ، ومنهم المولَّدة من الأعمال والأقوال والأنفاس ، والصافّون والحافّون والعالمون .
ثم العلوي الروحاني :
إمّا مجرّد عن المادّة والطبيعة وهم عالم العقول والمهيّمة ، وإمّا متعلَّقة بالمادّة ، والمتعلَّق بالمادّة إمّا متعلَّق بمادّة معيّنة ، أو بمادّة غير معيّنة وللمحقّق المكاشف .
هاهنا بحث مع غير المكاشف منهم وذلك أنّ مشرب التحقيق الأتمّ يقضي أن لا تخلو الأرواح عن مادة ما فإنّ الصور لا تستغني في الوجود عن المادّة.
فكذلك الصور الروحية والصور العقلية المتمايز بعضها عن بعض والمتغاير بعضها بعضها لا بدّ لها من مادّة صالحة لتصوّر تلك الصورة.
ولكن لا يلزم أن تكون مادتها طبيعية أو عنصرية ، بل تكون مادّتها من نور النفس الرحماني ، أو تكون مادتها من نور التجلَّي الوجودي ، أو نفس النفس ، أو من العماء الآتي حديثه فيما بعد وغيره والمقدّم أيضا ذكره فيما سلف في أسرار حروف الاسم" الله " فتذكَّر .
فالعقول والأرواح العالية المجرّدة عند الحكيم المكاشف إنّما هي وجودات متعيّنة في الماهيات والحقائق البسيطة ، صوّرها الله من العماء.
وهو النفس المتضاعف المتكاثف بتوالي الفيض النفسي الرحماني المنفّس عن القابل ، والقابل من تأثير القابل المتعيّن والانفعال والانعقاد صورا نورية .
فمادّة هذه الصور العقلية والأرواح العليّة الإلَّيّة هي العماء ، حقيقة الحقائق وجوهر الجواهر وهويّة الكلّ وأصلها وهيولاها الحاملة لصور وجوبها وإمكانها ، وهي الهيولى السابقة .
ولقد استقصينا القول فيه في هذا الكتاب ،وسنعيد الكلام عليه ، فلا تظنّها تكرارا ،
لعلّ الله يجود بلائحة من علمها لأهل الاستعداد ، والله الموفّق للرشاد .
فإنّ العلم بها لا يحصل إلَّا بتعليم الحق وتجلَّيه وتعريفه بما يخصّ به بعض عبيده الصالحين ، ولا يعرفه العقلاء بالفكر النظري والقانون الفكري من تركيب المقدّمات وترتيب المفردات.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 5:28 pm

 01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة

بل بالتخلَّي عن الشواغل والعلائق ، والتوجّه التامّ بأحدية العزيمة ، وصمود القلب إلى الموجد المتجلَّي بالعلم الحقيقي والبرهان الكشفي والاطَّلاع الشهودي والتعريف الإلهي الوجودي بعد المناسبة الذاتية والمرتبية .
ثم الملائكة العالية الموجودة من المادّة العمائيّة هم الأرواح العالية المهيّمة .
ومنهم العقل الأوّل أبو العقول وهو القلم الأعلى ، وفي مرتبته النفس الكلَّيّة من وجه ، وهي اللوح المحفوظ في العرف الشرعي ، والمادّة العمائية التي قبلت هذه الصور النورية الروحية هي النون أعني الدواة التي أقسم الله بها في القرآن العزيز بقوله : " ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ".
 ودون هذه المرتبة الأرواح التي مادّتها مثاليّة نورانية مطلقة ، وطبيعية نورانية ، وعنصرية غير نورانية ، ومثالية مقيّدة خيالية .
يوجدها الله من الأعمال والأنفاس والأخلاق وهي الملائكة المولَّدة .
فعلى هذا لا يخلو روح عن مادّة يفعل فيها ما يشاء من الصور ، فإمّا أنفسيّة حقيقية ، وإمّا ربّانية إلهية حقانية وذلك في عماء الربّ وإمّا عمائيّة كيانية .
إمّا نفسية رحمانية ، أو مثالية نورانية ، أو طبيعية كلَّية عرشية محيطة وفلكية كذلك ، أو عنصرية سماوية أو كوكبيّة أسطقسّيّة مائية وهوائية ونارية وأرضية ، والموادّ من الأرضية ما يغلب على نشأته الأرضية وكذلك غيرها .
ثم اعلم : أنّ الملائكة لا تنحصر عددا إلَّا بسدنة الأسماء الإلهيّة التي لا تنحصر ، والكلمات والآيات التي لا تنفد ولا تتناهى .
وهي أرواح القوى المنبثّة في العوالم العلوية والسفلية ، والخواصّ المنتشرة اللازمة للأعيان الوجودية المتصوّرة المتعيّنة بحسب الخصوصيات ، وبمقتضى القوابل غير مجعولة الاستعداد ، لكل قوّة من هذه القوى روح من الأرواح له صورة نورية طبيعية وعنصرية على اختلافها وكثرتها ، وقد يتوسّع في إطلاق بعض صورها روحا للبعض الآخر بالأشرفية والأفضلية المرتبية .
كما أنّ الروح الملكي الذي هو روح درجة الطالع أفضل وأشرف وأصفى وأنور وأقرب إلى الوحدة والبساطة من الروح المدبّر لهذا الهيكل العنصري من وجه لأنّ علَّته وسببه أفضل وأعلى وأقدم وأبقى ، والأرواح المدبّرة للأجسام العنصرية فائضة من الأرواح العلوية السماوية .
وإن كان بعض الأرواح المدبّرة لبعض الأجسام البشرية أكمل من سائر الأرواح العلوية والسفلية ، فإنّ ذلك لا ينافي ما ذكرنا لكون ذلك باعتبار حصول التجلَّي الكمالي الإلهيّ الأحدي الجمعي .
وأمّا الأرواح المدبّرة للأجسام البشرية من نوع الإنسان الحيوان فلا خلاف في قصورها مطلقا عن درجة أيّ روح فرضنا من الأرواح الملكية والفلكية ، فاعلم ذلك .
ولمّا كانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم ، تبيّن فيما سلف أن ليس فيها قوّة القيام بمرآتية الذات من حيث هي هي ولا من حيث أحدية جمع الذات ، ولا بمظهرية الأسماء جمعا وفرادى .
وأنّ المظهر الكامل الجامع لمظهريات التجلَّيات الذاتية الكمالية الكلَّية هو الإنسان الكامل الجامع بين مظهرية الذات المطلقة بإطلاق قابليته الكلَّية ، وبين مظهرية الأسماء والصفات والأفعال.
بما في نشأته الكلَّية من الجمعية والاعتدال ، وبما في مظهريته من الحيطة والسعة والكمال ، وهو كذلك جامع أيضا بين الحقائق الحقيّة الوجوبية ونسب الأسماء الإلهيّة الربوبية ، وبين الحقائق الإمكانية والأعيان الكيانية.
 وأمّا كماله فلإحاطته بين الحقيقتين ، وشموله لجميع ما في العالمين ولجمعه كذلك بين البحرين ، فهو المظهر الأتمّ ، والمنشأ الجامع الأعمّ ، والبحر المحيط الزاخر الخضمّ ، والطود الراسخ الأشمخ الأشمّ.
فكانت الملائكة صور قواه الروحانية لأنّ فيها قوى كثيرة غير القوى التي للملائكة المنبثّة في العالم صورها التفصيلية .
فإنّ الأرواح الخبيثة والشياطين والعفاريت والمردة أيضا من صور بعض قواها ، وكذلك جميع الحيوانات الماشية الساعية والسابحة والطائرة .
وكذلك الأسماء الإلهية صور قوى هذا الإنسان ، وكذلك الدوابّ والبهائم والحشرات والسباع وغير ذلك ممّا لا نذكره اعتمادا على فهمك " وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ".
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكانت الملائكة له كالقوّة الحسيّة والروحانية التي في النشأة الإنسانية .
وكلّ قوّة منها محجوبة بنفسها ، لا ترى أفضل من ذاتها ) .
قال العبد أيّده الله به : القوى الحسّية التي في نشأة الإنسان هي التي متعلَّقاتها المحسوسات كالإبصار والسماع والشّم والذوق واللمس وما تحت هذه الكلَّيات من الأنواع والشخصيات .
وأمّا القوى الروحانية فكالمتخيّلة والمفكَّرة والحافظة والذاكرة والعاقلة والناطقة .
وهذه القوى الكلَّية وشخصياتها في حيطة الروح النفساني ، ومنشؤها ومجاري تصرّفاتها وأحكامها وآثارها الدماغ ، فكالقوى الطبيعية مثل الجاذبة والماسكة والهاضمة والغاذية والمنمية والمربيّة والمولَّدة والمصوّرة والدافعة وشخصياتها راجعة إلى الروح الطبيعي .
وكالعلم والحلم والوقار والإناءة والشجاعة والعدالة والسياسة والنخوة والرئاسة وغيرها ممّا تحتها من المشخّصات والأنواع بالمماثلة والمشاكلة والمباينة والمنافرة عائدة إلى الروح الحقيقي الحيواني والنفساني .
وكما أنّ هذه القوى منبثّة في أقطار نشأة الإنسان وإن كان لكل جنس وصنف ونوع من هذه القوى محلّ خصيص بها .
 هو محلّ ظهور أحكامه وآثاره ومنشأ حقائقه وأسراره ، ولكن حكم جمعيّة الإنسان سار في الكلّ بالكل فكذلك العالم الذي هو الإنسان الكبير في زعمهم .
كلَّيات هذه القوى وأمّهاتها بجزئياتها وأنواعها وشخصياتها منتشرة ومنبثّة في فضاء السماوات والأرضين وما بينهما وما فوقهما من العوالم ، وتعيّنات هذه القوى والأرواح في كلّ حال بما يناسبه ويوافقه على الوجه الذي يلائمه ويطابقه .
وبها ملاك الأمر النازل من حضرات الربوبية ، وهي في الحقيقة صور متعلَّقات للنسب الربانية ، وبها يقوى الوجود النفسي على التعيّنات وتنوّعات الظهور والتجلَّيات ، فافهم .
ولأنّ كلّ قوّة منها مجلى لتجلَّي الأحدية الجمعية ، ولكن تعيّن سرّ الجمع والأحدية فيه ليس إلَّا بحسبه ، وظهور التجلَّي فيه يقتضي خصوصيّته ، فكانت كل قوّة منها لهذا محجوبة بنفسها .
لا ترى أفضل من ذاتها ، وذلك كذلك ، لكون الكلّ في الكلّ ولكنّها غابت عن أشياء كثيرة بمحبّتها لنفسها ، كما قال : « حبّك الشيء يعمي ويصمّ » فإنّ كون الكلّ في كل منها بحسبه لا بحسب الكلّ ، وظهور الكلّ بحسب الكلّ لا يكون إلَّا في الكلّ .
ولكنّ الكلّ له ثلاث مراتب :
الأولى  : مرتبة جمع الجمع والأحدية ، وهي الحقيقة الإنسانية الإلهية التي حذي آدم عليها .
والثانية : صورة التفصيل الإنساني الإلهيّ ، أعني العالم بشرط وجود الإنسان الكامل في العالم .
والثالثة : صورة أحدية جمع الجمع الإنساني الكمالي ، فظهور الكلّ في مرتبة جمع الجمع الأحدي لا تفصيل فيه ، وأنّه مرتبة الإجمال.
وظهور الكلّ في مرتبة أحدية جمع الجمع الإنساني ظهور كامل جامع بين الجمع والتفصيل ، والقوّة والفعل ، فإنّ الكلّ في الكلّ إنسان كامل بالقوّة دفعة بالفعل في كل زمان بالتدريج ، كما قال المترجم ، شعر :
تجمّعت في فؤاده همم   ....        ملء فؤاد الزمان إحداها
فإن أتى دهره بأزمنة   .....        أوسع من ذا الزمان أبداها

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأنّ فيها ) يعني في كلّ قوّة منها ( فيما تزعم الأهلية لكل منصب عال ، ومنزلة رفيعة عند الله ، لما عندها من الجمعية الإلهية بين ما يرجع من ذلك إلى الجناب الإلهي ، وإلى جانب حقيقة الحقائق ) .
قال العبد : يعني رضي الله عنه : أنّ كلّ قوّة من هذه القوى والأرواح الملكية تزعم في نفسها أنّ لها أهلية كلّ منزلة عالية وفضيلة سامية عند الله من القيام بمظهريات الأسماء والصفات والشؤون والتجلَّيات والسمات والسبحات .
لما تحقّق في نفسها أنّ لها مرتبة الجمعية الإلهية بين ما هو راجع من تلك المناصب والمنازل الرفيعة إلى الحضرة الإلهية الوجوبية وحقائق نسب الربوبية ، وبين ما يرجع منها إلى جانب حقيقة الحقائق المظهرية الكيانية .
فإن لحقيقة حقائق العالم وحضرة الإمكان جمعية خصيصة بها ، ولكلّ منها خصوص في جمعية ليس للآخر كما ستعلم . وقد علمت أنّ الكمالات في الجمع والاستيعاب والإحاطة .
فلمّا رأت وظنّت كلّ قوّة منها أنّ فيها الجمعية بين الجمعية الإلهية والجمعية الكيانية ، زعمت أنّ لها أهلية كلّ فضيلة وكمال فحبست بهذا الزعم عن كمال الحق الظاهر في الكلّ بعين الكلّ ، فزكَّت نفسها وجرحت غيرها وخرجت عن الإنصاف .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( و في النشأة الحاملة لهذه الأوصاف إلى ما تقتضيه الطبيعة الكلَّية التي حصرت قوابل العالم كلَّه أعلاه وأسفله ) .
عطف على قوله : " إلى جانب الحق ، وإلى جانب حقيقة الحقائق " وإلى ما تقتضيه الطبيعة الكليّة في النشأة الحاملة لهذه الأوصاف . وفيه تقديم وتأخير .
والطبيعة الكلّ هي الطبيعة الكليّة و « الكلّ » في هذه العبارة بدل أو عطف بيان ، بمعنى أنّ الكلّ طبيعة واحدة والطبيعة التي هي الكلّ والطبيعة الكلَّية في مشرب التحقيق إشارة إلى الحقيقة الإلهية الكلَّية الحاصرة لقوابل العالم وموادّها الفعّالة للصور كلَّها .
وهي ظاهرية الألوهية وباطنها الإلهية ، وهذه الحقيقة تفعل الصور الأسمائية بباطنها في المادّة العمائية وهي منها وعينها ، ولا امتياز بينهما إلَّا في التعقّل لا في العين ، فإنّ النشأة واحدة جامعة بحقيقتها للصور الحقّانية الوجوبية والصور الخلقية الكونية .
ثم اعلم أنّ الحقائق ثلاث :
الأولى  : حقيقة مطلقة بالذات ، فعّالة ، مؤثرة ، واحدة ، عالية واجب لها [ الوجود ] بذاتها من ذاتها ، وهي حقيقة الله سبحانه وتعالى .
والثانية : حقيقة مقيّدة ، منفعلة ، متأثّرة ، سافلة ، قابلة للوجود من الحقيقة الواجبة بالفيض والتجلَّى وهي حقيقة العالم .
وحقيقة ثالثة : أحدية جامعة بين الإطلاق والتقييد ، والفعل والانفعال ، والتأثير والتأثّر ، فهي مطلقة من وجه ونسبة ، ومقيّدة من أخرى ، فعّالة من جهة ، منفعلة من أخرى . وهذه الحقيقة أحدية جمع الحقيقتين ، ولها مرتبة الأوليّة الكبرى والآخرية العظمى ، وذلك لأنّ الحقيقة الفعّالة المطلقة في مقابلة الحقيقة المنفعلة المقيّدة ، وكلّ مفترقين فلا بدّ لهما من أصل هما فيه واحد مجمل ، وهو فيهما متعدّد مفصّل ، إذ الواحد أصل العدد والعدد تفصيل الواحد .
وكل واحدة من هذه الحقائق الثلاث حقيقة الحقائق التي تحتها ، ولمّا سرت أحدية جمع الوجود في كل حقيقة من الجزئيات والشخصيات ، انبعثت إنائيّة كلّ تعيّن تعين بأنّ له استحقاق الكمال الكلَّي الأحدي من حيث ما أشرنا إليه وما تحقّقت من أنّ تعيّن الكمال الأحدي الجمعي الأكبر إنّما يكون بحسب القابل واستعداده كما مرّ .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهذا لا يعرفه عقل بطريق نظر فكريّ بل هذا الفنّ من الإدراك لا يكون إلَّا عن كشف إلهي منه يعرف ما أصل صور العالم القابلة لأرواحه ).
قال العبد أيّده الله به : هذا إشارة إلى علم الطبيعة الكلّ التي حصرت قوابل العالم أعلاه وأسفله ، والطبيعة الكلَّية إشارة إلى ظاهرية الحقيقة الفعّالة للصور ، كما ذكرنا .
واعلم : أنّ الصور أعمّ ممّا عرفت عرفا في تعريف العرف الفلسفي الظاهر والنظر الرسمي ، والكشف والتحقيق يقضيان بأنّها اعمّ ممّا عرفوا وعرّفوا ، ولا تختصّ بالجسمانية ، بل قد تكون الصور عقلية وخيالية وذهنية ونورية وروحانية وإلهية.
كما جاء في الصحيح : « إنّ الله خلق آدم على صورته » فللَّه تعالى صورة إلهية نورية لائقة بجنابه تعالى.
ويقال : صورة المسألة وصورة الحال .
وقال : " رأيت ربّي في أحسن صورة ".
 وكان الروح الأمين يأتي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في صورة " دحية " وغيره .
وقد تمثّل لمريم " بَشَراً سَوِيًّا " مع تحقّق أنّ الأرواح غير متحيّزة .
فكان  ظهور روحانيّ في صورة مثالية ، وحقيقة الصورة هيئة اجتماعية من أوضاع شكلية في أي مادّة فرضت في أيّ أجزاء قدّرت ومثّلت ، فافهم .
وإذا تحقّقت حقيقة الصورة ، علمت أنّها أعمّ ممّا قيل ، والصور في طور التحقيق الكشفي علوية وسفلية :
والعلوية حقيقية وهي صور أسماء الربوبية والحقائق الوجوبية ، ومادّة هذه الصور وهيولاها عماء الربّ ، والحقيقة الفعّالة ، لها أحدية جمع ذات الألوهة ، وظاهرها الطبيعة الكلية . والعلوية الإضافية هي حقائق الأرواح العقلية والأرواح المهيّمة والأرواح النفسية والملكية المهيّميّة ، ومادّة هذه الصور الروحانية في مشرب التحقيق والكشف النور .
وأمّا الصور السفلية الإمكانية من الحقائق الكيانية مطلقة فهي صور الحقائق الإمكانية والنسب المظهرية الكيانية .
وهذه الصور أيضا منقسمة إلى علوية وسفلية ، فالعلوية منها ما ذكرنا من عالم الأمر أنّها علوية إضافية ، فإنّها علوية بالنسبة إلى الحقائق الجسمانية ، وموادّها وهيولاها عماء المربوب والكون من النفس الرحماني ، ويسمّى هذا العماء عماء ، لكونه مشوبا بالظلمة .
ومن الصور العلوية الكونية صور عالم المثال المطلق والمقيّد وعالم البرازخ ، ومادّة هذه الصور وهيولاها الأنفاس والأعمال والأخلاق والملكات والنعوت والصفات .
وأمّا السفلية الكونية فهي صور عالم الأجسام ، وهي أيضا علوية وسفلية :
فالعلويات هي العرش والكرسي والأفلاك والكواكب والسماوات ، ومادّتها الجسم الكلَّي .
والسفلية الجسمانية منها فهي العناصر والعنصريات ، وهي أيضا علوية وسفلية :
فالعلوية منها هي صور الأرواح الهوائية والنارية والمارجية ، ومادّة هذه الصور الهواء والنار وما اختلط منهما مع باقي الثقلين من الأركان المغلوبين في الخفيفين كما ذكرنا في الموضع الأنسب بذلك.
والسفلية الحقيقية هي ما غلب في نشأته الثقيلان وهما الأرض والماء على الخفيفين وهما النار والهواء
وهي ثلاث :
صور معدنية .
وصور نباتية .
وصور حيوانية .

وكل عالم من هذه العوالم يشتمل على صور شخصيات لا تتناهى ولا يحصيها إلَّا الله تعالى .
والطبيعة هي الحقيقة الحاملة لهذه الصور كلَّها من كونها عين المادّة من وجه ، ومن وجه أخرى الفعّالة لهذه الصور كلَّها ، وحقيقتها هي الأحدية الجمعية الذاتية الفعّالة لصورتها في نفسها بنفسها . فالطبيعة الكلّ وإن كانت مظهر الفعل الذاتي الإلهي .
ولكن حقيقتها حقيقة أحدية جمع الصور الفعلية والانفعالية في العوالم الربانية والعوالم الكيانية ، والصورة الكلية المطلقة منفعلة على الإطلاق في المادّة العمائية الكلَّية الكبرى عن هذه الحقيقة الفعلية الذاتية للحقيقة الإلهية الكامنة في التعيّن الأوّل ، وهي منه وفيه ، والفاعل هو الله .

والطبيعة باعتبار آخر من قوى النفس الكليّة سارية في الأجسام الطبيعية السفلية والأجرام العلوية ، فاعلة لصورها المنطبعة في موادّها الهيولانية المعلومة لحكماء الرسوم .
وبالاعتبار الأوّل قوّة كلَّية من قوى النفس الإلهية الفعّالة للصور كلَّها معنويّها العلمية الإلهية الأزلية والعقلية والروحانية والنفسانية والمثالية والنورية والطبيعية والعنصرية والخيالية والذهنية والتصوريّة واللفظية النفسية الإنسانية من صور الحروف والكلمات ، والرقية كذلك ، فافهم .
وما أظنّك تفهم فادرج ، فليس نفسك إن كنت مقيّدا للحق .
وقد أشار الله تعالى إلى نفسه التي من قوّتها هذه الطبيعة الكلَّية بقوله :" وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَه " , " وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي " .
فالطبيعة الكلية بهذا الاعتبار قوّة من قوى النفس الإلهية الذاتية الكلية التي لا يعلم ولا يحيط بما فيها إلَّا الله .
كما قال الله تعالى إخبارا وحكاية عن العبد الصالح : " تَعْلَمُ ما في نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ ". وكما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : " أنت كما أثنيت على نفسك لا أحصي ثناء عليك لا أبلغ كلّ ما فيك " .
فلمّا كانت أحدية الجمعية الإلهية ، وأحدية الجمعية التي بحقيقة الحقائق ، وأحدية الجمع التي للطبيعة الكلية في النشأة الحاملة لهذه الأوصاف كلَّها من الحقيّة والخلقية وما تحتهما سارية بالنفس الرحماني إلى الحقائق والقوى كلَّها بالكمالات والمناصب الراجعة إلى هذه الجمعيات وفي كل ملك ملك.
 وقوّة قوّة وصورة صورة ، زعمت أنّ لها أهلية هذه الكمالات كلَّها ، وأنّى لها ذلك ؟
وما لكلّ منها إلَّا مقام معلوم ، فافهم .
فإنّ هذا الكشف من أصعب العلوم الخصيصة بكشف مرتبة الكمال المحمدي الختمي ، ولا يناله إلَّا من ورث خاتم النبيين ومشكاة خاتم الأولياء المحمديين .
حقّقنا الله والإخوان والأودّاء الإلهيين بعلومه ومقاماته وأحواله ومشاهده ومنازلاته ومعاريجه ، إنّه عليم قدير حكيم خبير .
ثم اعلم : أنّ الكشف عبارة عن رفع الحجب الظلمانية والنورية التي بين الحقيقة وبين المدرك منّا ، فإن كان المدرك النفس أو العقل ، والمدارك قواهما النفسانية النظرية والفكرية بطريق ترتيب المقدّمات وترتيب المبادئ والمفردات على الوجه المؤدّي إلى الغايات.
 فهو طريق البرهان والاستدلال باللوازم القريبة والبعيدة على الملزومات ، فهي وإن كانت في زعم أهلها موصلة إلى إدراك الحقائق ، فليست موصلة إلى الحقائق من حيث هي هي في العلم الأزلي مجرّدة عن النسب والإضافات .
بل من كونها موجودات وملزومات ومعروضات للعوارض ولوازم ، لا من حيث هي حقائق مطلقة فإنّ ذلك لا يكون إلَّا بكشف حجب هذه اللوازم والعوارض من حيث هي حجب.
كذلك فإنّ الملزومية والعارضية والمعروضية نسب عارضة على الحقائق عند تلبّسها بالوجود العيني ، فإنّها في علم الله حقائق غيبيّة معنوية عريّة عن الوجود العيني .

أو قل : هي نسب علمية أزليّة ، أو صور معلوميّات الأشياء ، أو حروف الكلمات النفسية الرحمانية ، أو شؤون ذات اللاهوت ، أو الأعيان الثابتة في العلم الذاتي ، أو الماهيات ، أو هويات الموجودات من شأنها أنّها إذا وجدت لأعيانها ، كان بعضها ملزومات ومعروضات ، وبعضها لوازم وعوارض ولواحق .
كلّ هذه الاعتبارات والعبارات صادقة ، ويتداولها طائفة من المحقّقين في عرفهم الخاصّ بهم ، وهي في عرصة العلم الذاتي متمايزة بخصوصياتها الذاتية يدركها المكاشف عند رفع الأستار ، والتجلَّي والشهود متمايزة الحقائق لخصوصياتها ، ولا يدركها المفكَّر كذلك .
بل إنّما يدرك هذه الحقائق متلبّسة بالوجود العيني الموجب للتوحيد ، والرافع للتمييز والتعديد ، ونظنّ أنّها لم تزل على هذا ، وليس ذلك كذلك .
فإذا انشرحت العقول عن حجابيّات قيود العادات ، وانطلقت عن عقال ضمنيات الكائنات ، ويخلص السرّ الإلهيّ من أحكام التعيّن وآثار القيود الحجابية ، وانكشفت عن بصائرها وأبصارها الأستار ، حينئذ تأتّى للمدرك أن يدرك الحقائق على ما هي عليها في عالم الحقائق والمعاني .
وقد يظنّ العامّة من ظاهرية المتفلسفة ، أنّ علم الحقائق على ما هي عليها عبارة عن إدراكها في هذه اللوازم والعوارض واللواحق وأنّها لا تحقّق لحقائق بدونها في الخارج .
وهذا المتفلسف المدّعي للحكمة ما عرف الفرق بين حقائق الأشياء وبين أعيانها فإنّه ما أدرك إلَّا أعيان الموجودات ولم يدرك الحقائق من حيث إطلاقها وباطنها الحقيقية مجرّدة عن هذه العوارض واللوازم واللواحق ، وهو معذور لكون هذا العلم والشهود فوق طور العقل ، وراء طور الفكر ، والفرق بين المقامين بيّن ، فانظر ما ذا ترى ؟
وإذا تحقّقت ما ذكرنا ، علمت أنّ من الكشف ما هو عقلي وهو الذي يدركه العقل بجوهره النوري المطلق عن قيود الفكر والمزاج .
ومنه ما هو نفسانيّ وهو ما يحصل للنفوس المطلقة عن قيودها المزاجية بإدمان الرياضات والمجاهدات من النفوس الكلَّية العالية ، بكشف حجاب ما به المباينة والممايزة .
ومن الكشف ما هو روحاني ، وذلك بعد كشف الحجب النفسانية والعقلية ومطالعة الروح الإنساني لمطالع الأنفاس الرحمانية .
ومن الكشف ما هو رباني بطريق التجلَّي ، إمّا بالتنزّل والتدلَّي ، أو بالمعراج والتسلَّي ، أو بالمنازلات بأسرار التولَّي والتجلَّي ، أو بالجمع والتجلَّي بعد التخلَّي من الربّ المتولَّي .
وهو متعدّد بحسب تعدّدات الحضرات الأسمائية فإنّ للحق تجلَّيا من كل حضرة ، ومن الحضرات.
وأعلى التجلَّيات الأسمائية هو التجلَّي الإلهيّ الجمعيّ الأحديّ الذي يعطي المكاشفات الكلَّية الأحدية الجمعية ، وليس كلّ كشف كذلك.
وفوقها التجلَّي الذاتيّ الاختصاصيّ الذي يعطي الكشف بحقيقة الحقائق ومراتبها ، وبحقيقة النفس والعلماء ، وبالحقيقة الإلهية ، وبحقيقة الطبيعة الكلَّية ، فافهم واعرف قدر ما دسّيت لك من الأسرار ، والله وليّ التوفيق والتحقيق .
ثمّ أعلم : أنّ « الحقيقة » يصدق إطلاقها على كل ما له تحقّق في الجملة بالإطلاق العامّ ، فثمّ حقيقة تحقّقها بذاتها وهي حقيقة الحق ، وقد تكون حقيقة تحقّقها لا بذاتها .
بل تحقّقها بما هو متحقّق بذاته من ذاته ، إمّا في العلم أو في العين أو في بعض مراتب الوجود أو في جميعها دائما أو لا دائما ، بل في وقت دون وقت .
وعلى هذا يصدق إطلاق الحقيقة على الحق والخلق وعلى النسب والإضافات والجواهر والأعراض ، إن قلنا إنّ الخلق له تحقّق ، وقد تكون الحقيقة واحدة وكثيرة ، ومطلقة ومقيّدة ، فاعلم ذلك .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فسمّي هذا المذكور إنسانا وخليفة . فأمّا إنسانيته فلعموم نشأته وحصره الحقائق كلَّها .
وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي به يكون النظر وهو المعبّر عنه بالبصر ، فلهذا سمّي إنسانا فإنّه به ينظر الحقّ إلى خلقه ، فيرحمهم ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ اعتبار الحقيقة الإنسانية على وجه يكون الاشتقاق اللفظي محفوظا فيه ، إن كان بمعنى الأنس من كونها مؤنسة للحقائق ومأنوسة.
وليس سائر الحقائق كذلك لكون كلّ حقيقة غيرها ممتازة عن غيرها بخصوصها المباين الموجب للغيرية بخلاف الحقيقة الإنسانية فإنّها أحدية جمع جميع الحقائق الحقيّة والخلقية والبرزخية .
فما امتازت الحقيقة الإنسانية عنها إلَّا بأحدية جمع الجمع والإحاطة ، وبها أنست بالكلّ ، وأنس بها الكلّ بعضه بالبعض .
ولهذا لم يكن مثله شيئا لعموم نشأته جميع النشئات ، وعدم عموم غيرها لأنّها ما من نشأة من النشآت إلَّا وفي نشأته نظيرتها .
وما من حقيقة  من الحقائق إلَّا وفي الحقيقة الإنسانية محتدها وأصلها لأنّ العوالم كلَّها على صورة الإنسان .
كما أنّ الإنسان على صورة الله فما من عرش ولا كرسي ولا فلك ولا روحاني ولا كوكب ولا منازل ولا بروج ولا سماوات ولا أرضين ولا نار ولا هواء ولا تراب ولا ماء ولا مولَّد من معدن ونبات وحيوان ماش أو ساع أو سائح أو طائر أو ناش إلَّا وفي النشأة الإنسانية أمثالها ونظائرها .
ولهذا قيل : الإنسان هو العالم الصغير .
وقالوا : العالم الإنسان الكبير .
وفيه نظر على ما سنبيّنه في موضعه ، فهو بصورته الطبيعية وبروحه جامع لخصائص عالم الأرواح من المهيّمة ومن العقول والنفوس والملائكة والجنّ ، وكذلك يجمع بحقيقته الإنسانية البرزخية بين بحريّ الوجوب والإمكان  وبين الإطلاق والتعيّن .
وقابليته أجمع القابليات ، ومظهريته أكمل المظهريات ، وما يخصّه من الفيض والتجلَّي أتمّ وأكمل وأعمّ وأشمل .
وبهذا استحقّ الخلافة وسجود الملائكة فإنّ السجود هو الدخول في الطاعة والتذلَّل والانقياد والخضوع.
فلمّا جمعت النشأة الإنسانية الكمالية بسعة قابليته وحيطة دائرة استعداده جميع الحقائق والقوى القائمة بصور العالم ، والمنتشرة والمطويّة منها في أعلاه وأسفله ، سجدت الملائكة التي هي عبارة عن صور أرواحها لآدم هو أوّل مظهر إنساني لافتقار العالم في كماله إلى وجوده واستغناء الإنسان بنشأته الكاملة عن العالم وما فيه .
فهو على حدته مغن عن العالم ، أو كان في مظهرية التجلَّي الذاتي الأحدي الجمعي والأسماء التفصيلية الفرعية .
والعالم بلا إنسان كامل غير كامل ولا كاف فيما ذكر .
ولهذا ما عرفته الملائكة إلَّا أسماء حين سألهم الحق عنها بقوله : " أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ " ، أي هؤلاء النسب والحقائق الإلهية الزمانية ، إشارة إلى حقائق الأسماء متجلَّية في صورها النورية وحقائق الموجودات القابلة لتلك التجليات .
فلمّا لم يعرف الملائكة أسماء تلك الصورة النورانية والحقائق المعنوية من حيث التمايز والخصوصيات التي تقوّمت بها نشأتهم .
قال الله تعالى : " يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ " أي أعلمهم وأخبرهم بأسمائهم .
أي بيّن المظاهر وأسماء الحق ، التي هم مستندون إليها في وجودهم فإنّ كلّ واحد منهم مظهر لحقيقة مخصوصة من حقائق أسماء الواجب الوجود ، وخادم لاسم معيّن ، وسادن لنسبة ربانية من النسب الإلهية ، فكلّ منهم لا يعرف الحقّ إلَّا من حيث مظهريته المعيّنة وقابليته الجزئية واستعداداته الخصوصية.
فالحق المسمّى بفتح الميم وآدم المسمّى بكسر الميم والملائكة لا يعرفون الحق ولا أنفسهم ولا ما يستند إليه من الأسماء إلَّا من وجه جزئي تعيّنيّ .
ولهذا لمّا أنبأهم آدم بأسمائهم في الحضرات الأسمائية ، وأظهر خصوصيات عبدانيات كلّ واحد منهم لاسم هو ربّه ، وأنبأهم بأسماء الحق ، التي هم مستندون إليها التي لها السلطان والحكم عليها.
قالوا : " سبحانك لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ".
فلهذا أنس بهذه الحقيقة الإنسانية الكلّ ، وأنس بالكلّ ، فسمّي الوجود الحق المتعيّن في هذه الحقيقة الكلَّية المطلقة إنسانا .
وهو « فعلان » من الأنس على صيغة المبالغة .
وسمّي أيضا إنسان العين إنسانا بهذا الاعتبار لأنّ العين تأنس بكلّ ما تقع عليه ولا يناسبه أيضا نور الحق المتعيّن بالجمع في نار الفرق .
وإيناس النور في النور مؤنس يعطي الأنس لناظر الناظر ، ولأنّ الإنسان من عين الإنسان آلة النظر ، وإدراك ظاهرية المبصرات وإبصار كلّ ذي بصر إنّما هو بحسبه .
وكان نظر الله أحديا جمعيا بأحدية جمع العلم والشهود لظاهرية أحدية جمعيات الحقائق والأشياء ، ولم يكن في الموجودات والحقائق حقيقة جمعية أحدية جامعة لجميع الجمعيات إلَّا هذا المظهر الأعمّ الأكمل ، والمنظر الأتمّ الأجمع الأوسع الأشمل ، به نظر الله في إبصاره لظاهريات الحقائق كلَّها ، فهو مجلى النظر الإلهي وإنسان العين المنزّهة ، فسمّاه بهذه الاعتبارات إنسانا .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهو الإنسان الحادث الأزلي ، والنشء الدائم الأبدي ) .
قال العبد أيّده الله به : أمّا حدوثه فهو من جهة صورته العنصرية خاصّة فإنّ له صورا علويّة فيما فوق العنصريات فقديمة ، علمية ونورية ، نفسية وروحية ، عقلية ونفسية ، ومثالية وطبيعية ، عرشية وملكية .
فالعلمية أزلية قائمة بقيام العلم ودائمة بدوام العالم الحق المشاهد الناظر بهذا الإنسان .
معنى قولهم : " الإنسان أزلي " وأمّا أزليّته فلأنّه العلَّة الغائيّة من التجلَّي الإيجادي.
وبه كمال الجلاء والاستجلاء ، والظهور الكلي المطلق بالإظهار والإنباء .
فهو أزليّ بأزليّة علم العالم ، كما أنّ العلم عين العالم ، فيصدق عليه أنّه أزليّ نسبة إلى الأزل ، وهو الضيق والضنك الذي كان لحقائق المعلومات حين استهلاكها في عين الذات العالم بها .
وأمّا كونه نشئا دائما أبدا فلأنّ الحقيقة الإنسانية هي المرآة الكلَّية الإلهية الأحدية ، والنشأة الدائمة الأبدية . وكما أنّه أحدية الجمع الأوّل الأزليّ .
فكذلك هو تفصيل ذلك الجمع وأحدية جمع جمع التفصيل والجمع ، وما ثمّ إلَّا هو ، فهو النشء الدائم الذي لا أوّل له إذ هو الأوّل والأبدي الذي لا آخر له إذ هو الآخر بعين ما هو الأوّل ، فهو الدائم . والنشء الذي هو الارتفاع في النموّ ، والازدياد والربوّ باعتبار أنّ العين الواحدة بتعيّنها في جميع مراتبها فرع زاد على اعتبار الأصل .
الذي هو عين الذات الواحدة التي اندمجت وتوحّدت فيها التعيّنات غير المتناهية لعدم تناهي التجلَّيات ، فبظهور ما كان كامنا في العين من أعيان النسب غير المتناهية تتحقّق حقيقة البشر لتلك العين الواحدة المنفصلة ، في مراتب الأعداد ، وكمال نشئها بكمال النشأة الإنسانية .
بل جميع مراتب النشء له فهو النشء الدائم ، وأوّل مراتب النشء الذاتيّ الدائم مرتبة النفس الرحماني بالنور الوجودي والفيض الجودي المنبعث من باطن قلب التعيّن الأوّل ، حاويا محيطا بجميع ما ينطوي عليه التعيّن الأوّل .
وينفعل انبعاث النفس الأحدي الجمعي وامتداده وتعاليه إلى الغاية المطلوبة التي تعلَّق بها التعيّن الأوّل الذي هو تاء الكناية في قوله :
" أردت " أو " أحببت " ، وهو كمال الجمع بين كمال الظهور وكمال البطون ، والكمال الذاتي والأسمائي ينشئ مراتب الوجود وذلك لأنّ النفس بخار هوائي أو هواء بخاري خارج من بطن المتنفّس إلى ظاهر الهواء .
هذا في الأنفاس المعهودة الجسمانية ، فاعلم في النفس الرحماني مثل ذلك فإنّ القلب الذي هو التعيّن الأوّل منطو على حقائق المظهرية والظاهرية والانفعالية التي هي الأجزاء الأرضية نظائرها .
وعلى خصائص النسب الوجودية وحقائق أسماء الربوبية التي بها ومنها حياة الحقائق المظهرية ولبنها ، وهي ضرب مثل للأجزاء الماديّة في نشء النفس والبخار لكون كل بخار أحدية جمع الأجزاء :
الهوائية ، والمائية ، وما تشبّث بهما من الأجزاء الأرضية المحلولة ، والنارية المذيبة الحلَّالة لتلك الأجزاء .
فامتدّ النفس الرحماني جامعا لحقائق الفعل والانفعال في حق حضرة الإمكان مقيّدة ، عقده برودة القوابل الأرضية المظهرية التي في عين الجوهر النفسي فإنّ فيها الفاعل والقابل .
فانعقدت الصور العمائية في هذا البخار المعنوي النوري ، فظهر النشء العمائي الأكبر ، فامتدّ النشء بسبب حقائقة الثلاث الذاتية على أنحاء ثلاثة في جهات ثلاث معنوية ، علوا وسفلا ووسطا ، جميعا أحديا برزخيا .
وتعيّن في عين النفس جميع الحقائق الفعلية والانفعالية ، فتعيّنت في النفس المتعالي الحقائق الإلهية المؤثّرة الفعّالة المنوّرة الشريفة صورا إلهية ربانية وتعيّنات وجوبية حقّانية ، وامتدّ النشء النفسي الممتدّ المنطوي على الحقائق المظهرية الأرضية الانفعالية إلى التحت والسفل بالطبيعة لما تقتضيه مرتبة الانفعال والتأثّر المظهري الكياني .
فملأ العماء بصورة المذكورة محيط فلك الإشارة ، وعقدها برودة جوّ الإمكان ، وانعقدت صور كيانية ، وتعيّنات وجودية إمكانية ، وتنوّعات تجلَّيات تقييدية روحانية ، وجسمانية ملكية وملكوتية ، غيبية وعينية وجبروتية .
فانتشأ النشء الكوني والعالم الخلقي ، وأوّل هذا النشء الكوني العقل والقلم واللوح والعرش والكرسي ، ثم طبقات السماوات ، ثم الأرضيّات على الترتيب المذكور .
حتى حصلت النشأة البشرية الإنسانية ، وجميع هذه النشآت نشأة هذا المسمّى إنسانا ومع قطع النظر عن الإنسان ، فإنّ الذات المطلقة مع تجلّ عن النشء والانتشاء .
فالإنسان الحقيقي هو النشء الدائم الأزلي الأبدي ، فما ثمّ إلَّا نشأة الإنسان في عالم الفرقان ، وفي مقام الجمع والقرآن .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والكلمة الفاصلة الجامعة ) .
يشير رضي الله عنه إلى ما بيّنّا فيما تقدّم أنّ الكلام  ثلاث :
كلمة جامعة لحروف الفعل والتأثير وأخرى جامعة لحروف الانفعال والتأثّر
وكلمة جامعة لحروف الجمع البرزخي الرابط بين الأعلى والأسفل ، والظاهر والباطن .
وهذه الحقائق والحروف والكلمات البرزخية جامعة بين حقائق الوجوب وحقائق الإمكان من وجه ، وفاصلة بينها أيضا باعتبار .
ومع كونها جامعة وفاصلة ليست لها عين زائدة ممتازة عن الطرفين امتيازا خارجا مخرجا عن كونها أحدية جمعها ، فهو الجامع الفاصل بهذا الاعتبار .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فتمّ العالم بوجوده ، فهو من العالم كفصّ الخاتم من الخاتم وهو محلّ النقش والعلامة ) .
يشير رضي الله عنه إلى ما سلف آنفا أنّه لولا الإنسان في العالم ، لم يحصل كمال الجلاء والاستجلاء ، الذي هو العلَّة الغائية من الإيجاد .
وأمّا قوله : « تمّ العالم بوجوده » ولم يقل «به» فلأنّ الإنسان له تعيّن أزلي علمي وبانسحاب الفيض الجودي العيني عليه تكمل مراتب ظهوره ونشره.
وأمّا كونه فصّ الخاتم فلأنّه محلّ نقش الحكمة الكلية المنقوشة بأحدية جمع نقوش الفصوص الحكمية كلَّها ، كما سبق ، فتذكَّر .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( هو محلّ النقش ، والعلامة التي بها يختم الملك على خزانته وسمّاه خليفة من أجل هذا لأنّه تعالى الحافظ خلقه كما يحفظ الختم الخزائن ، فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها إلَّا بإذنه ، فاستخلفه في حفظ العالم ، فلا يزال العالم محفوظا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل ) .
قال العبد أيّده الله به : « نقش الفصّ » هو الكلام المحتوي على الحكمة التي اقتضت وجود العالم على الترتيب المشهود والنظام الموجود .
و « العلامة » هي خصوص المقام المحمدي من تلك الحضرة التي منها بحسبها تنزل الحكمة الخاصّة بذلك الفصّ فإنّ قلب كل نبيّ كامل هو محلّ نقش الحكمة .
والعلامة هي خصوص الحكمة المحمدية الإلهية من ذلك الاسم الذي تستند إليه حكمته المنزلة عليه ، وعلامة هذه الحكمة الإلهية أحدية جمع جميع التجلَّيات الأسمائية .
وبها يختم الملك بقوّته وشدّته ، فما يسدّ الخلل الذي تقتضيه التفرقة المباينة التي في حقائق العالم من الخصوصيات التي بها يتميّز بعضها عن بعض إلَّا بأحدية الجمع الجامع لصدعها ، والموجود لتفرقة جمعها .
وبها يقوى على حفظ خزائن العالم فيها ، وبها سرى سرّ أحدية الجمع النفسي الرحماني بالتجلَّي الوجودي الإحساني ، وجمع بين الحقائق المتبوعة وتوابعها .
والنسب الملزومة ولوازمها وعوارضها ولواحقها بعد التمييزات الذاتية التي لها في عالم المعاني من حضرة العلم الذاتي ، فإذا جمعها الوجود الواحد في هذه المثاني والمعاني ، وراب صدعها ، وشعب شعثها وجمعها .
انحفظت العوالم كلَّها ما دامت الخزائن مختومة بختم علامة أحدية الجمع الخصيص بالحكمة التي هي معنوية النقش المحيط بجميع النقوش الحكمية التفصيلية فتلك العلامة عبارة عن الإنسان الكامل الذي هي أحدية جمع جميع الجمعيات لأنّه الاسم الأعظم .
والاسم الأعظم هو العلامة على مسمّاه ، فهو ظاهرية الإنّيّة الإلهية ، والله هويّته وباطنه ، ولهذا سمّاه خليفة إذ الخليفة ظاهر بصورة مستخلفه في حفظ خزائنه.
والله تعالى هو الحافظ لخلقه بختمه على خزائنه ، فما دام هذا الختم الأحدي الجمعي عليها لا تتسلَّط على فتحها الحقائق المباينة والمتمايزة التي في حقائق خزائن العالم إلَّا بإذن الله .
فإذا أذن لهذا الخاتم الإنساني الكمالي الأحدي الجمعي بالخروج عن الدنيا ، وأمره بالانفكاك عن جزئيتها إلى الأخرى ، انتهت الجزئية وخرجت عنها السكينة .
وأمّا تسمية العالم بالجزئية فلما ذكرنا في شرح الخطبة أنّ حقائق العالم القابلة لتعيّنات التجلَّيات الوجودية بخصوصياتها هي التي تحقّقت بها حقائق الأسماء والصفات التي هي خزائن الآلاء والهبات ، ومنها ومن حضراتها تتنزّل البركات .
فحقائق العالم خزائن هذه الخزائن الأسمائية ، فلا تزال خزائن العالم محفوظة ما دام فيها الإنسان الكامل ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ألا تراه إذا زال وفكّ الختم عن خزانة الدنيا ، لم يبق فيها ما أخزنه الحق ، وخرج ما كان فيها ، والتحق بعضه ببعضه ، وانتقل الأمر إلى الآخرة ، وكان  ختما على خزانة الآخرة ختما أبديا ) .
قال العبد : اعلم : أنّ دار الوجود واحدة ، وانقسامها إلى الدنيا والآخرة بالنسبة إليك لأنّهما صفتان للنشأة الإنسانية ، فأدنى نشأته الوجودية العينية النشأة العنصرية ، فهي الدنيا لدناءتها بالنسبة إلى نشأتها النورية الإلهية ، أو لدنوّها من فهم الإنسان الحيوان .
ولمّا كانت النشأة الإنسانية الكليّة في الدنيا نشأتين : نشأة فرقانية تفصيلية ، ونشأة أحدية جمعية قرآنية ، وهذه النشأة الدنياوية كثيفة ، وصورتها مقيّدة سخيفة من مادّة جامعة بين الظلمة والنور ، مشوبة فيها بأكدار الغصص والمحن نوريّة السرور .
وهي أيضا من قبيل النفس الناطقة ، والنفس الناطقة من بعض قواها القوّة العملية ، وهي ذاتية لها ، وبها يعمل الله لأجلها في كلّ نشأة وموطن صورة هيكلية ينزّل معانيها فيها ، ويظهر قواها وخصائصها وحقائقها بها ، ويحفظها ، ويقيها .
وكانت هذه النشأة الجامعة بين النور والظلمة لا تقتضي الدوام على هذه النظام والقوام ، ولا بدّ لها من الانخزام والانصرام ، لأنّ قوى مزاجه العنصرية غير وافية ، ولا لجميع ما في النفس من الحقائق والدقائق بكافية .
وهذه الحقيقة على العقول المنوّرة الصافية غير خافية فإنّ في النفس من الحقائق ما لا يظهر بهذه النشأة العنصرية الثقيلة ، مثل كون صورته روحانية نورانية لطيفة ملائمة للروح ، وخصائصه بحسب الروح لا بحسب المزاج ، بخلاف هذه النشأة العنصرية السفلية الثقيلة فإنّ الروح والنفس فيها بحسبها ، وكذلك خواصّهما وحقائقهما .
فلمّا لم تف هذه النشأة بذلك لكونها من مادّة متنافرة متضادّة وهيولى متباينة متحادّة ، وقد حصل لها بحمد الله في مدّة عمرها التي كانت تعمر فيها أرض جسدها من الأخلاق الفاضلة ، والملكات الكاملة والعلوم والأعمال الصالحة الحاصلة كمال فعلي لما صار لها جميع ما كان بالقوّة بالفعل .
فينشئ الله تعالى من ذلك بالقوّة العملية الذاتية للنفس ما إذا فكّ عن خزانة الدنيا ، وقبض الله إليه أنوار أسمائه التي هي حقائق خزائن النعم والآلاء الإلهية ، وأسرار خزائن خزائنه المذكورة قبضا يسيرا ، فتقلَّصت أنوار التجلَّيات إلى الحضرات .
.
يتبع[/b:d8


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في السبت يوليو 20, 2019 5:32 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة الجزء الثالث .شرح الشيخ مؤيد الدين متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 5:30 pm

 01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة الجزء الثالث .شرح الشيخ مؤيد الدين متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة الجزء الثالث

والأرواح الجزئية المدبّرة إلى كلَّيات أرواح السماوات ، والتحق كلّ فرع في هذه النشأة إلى أصله الذي منه انبعث ، ولم يبق فيها مخزونات نعم الأسرار والأنوار ، وأرزاق الأحكام والآثار لاختلال القابل ، وزوال المظهر الزائل كما ذكرنا صورة أخراوية روحانية ملائمة للنفس الناطقة في جميع أفاعيلها وخصائصها بحسبها من مادّة روحانية حاصلة للنفس من تلك الأخلاق والأعمال والقوى والملكات الصالحة .
فتظهر بحقائقها وخصائصها وآثارها في تلك الصورة ظهورا يقتضي الدوام إلى الأبد غير مقيّدة بأجل معيّن وأمد معين واحد لأنّ مادّتها روحانية وحدانية نورية ، بخلاف هذه النشأة العنصرية الثقيلة المظلمة الحاصلة للنفس من عناصر مختلفة متباينة متضادّة تقتضي لحقائقها الانفكاك لولا جمع أحدية الجمع  النفسي النفسي لها بحياته الروحية النورية الباقية .
فاقتضت تلك النشأة الروحانية البقاء والدوام لرسوخ حقائقها وأصولها الروحانية في جوهر الروح أعني الأخلاق والنعوت والصفات والعلوم ودوام التجلَّي النفسي الإلهي فيها فإذا انتقل الأمر إلى الآخرة ، وظهرت النفوس والأرواح الإنسانية في صورها الروحانية البرزخية والمثالية والحشرية ، وغلبت الروحية على الصورية ، والنورية على الظلمة ، واختزن الحق الأسرار والأنوار والحقائق في تلك الصور الأخراوية ، " وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ".
كان الإنسان بأحدية جمعه ختما على تلك النشأة الأخراوية إلى الأبد ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية ) .
يعني رضي الله عنه على الوجه الأفضل الأكمل ، فإنّ ظهور الحقائق الأسمائية في الصور الكليّة الأحدية الجمعية الكمالية ظهور جمعي أحدي كمالي ، بخلاف ظهورها في الصور التفصيلية الفرقانية فإنّ ظهورها فيها متفرّق تفصيليّ .
بمعنى أنّ ظهور الحقائق الأسمائية الإلهية في كل كامل كامل جمعي أحدي كلي بحسب المظهر الأجمع الأكمل ، وظهورها في كل جزء من العالم جزئي بحسبه كذلك.
وقد لا يظهر في أكثر أجزاء العالم أكثر الأسماء فضلا عن أن تظهر تماما بكمالها ، وذلك في أسماء مخصوصة بالإنسان ، وظهورها في الإنسان تماما على الوجه الأكمل .
قال رضي الله عنه : ( فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود ، وبه قامت الحجّة لله تعالى على الملائكة ) .
يعني رضي الله عنه : في قوله تعالى : " أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ " .
قال رضي الله عنه : ( فتحفّظ بما وعظك الله بغيرك ، وانظر من أين أتي على من أتي عليه ) .
يريد إتيان المعاتبة وتوجّه المطالبة من قبل الحقّ على الملائكة في اعتراضهم على الحق وجرحهم لآدم وتزكيتهم أنفسهم .
قال رضي الله عنه : ( فإنّ الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذه الخليفة ، ولا وقفت مع ما تعطيه حضرة الحق من العبادة الذاتية ، فإنّه ما يعرف أحد من الحق إلَّا ما تعطيه ذاته  وليس للملائكة جمعية آدم ).
يريد رضي الله عنه عدم وقوف الملائكة مع الأدب الذي تقتضي مرتبة خليفة الله تعالى بعد إخباره تعالى لهم : أنّه " جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً " .
وتعطيه نشأته الأحدية الجمعية من الكمال والإحاطة ، وعدم وقوفهم أيضا على ما توجب مرتبة الألوهية من الأدب والوقوف عند الأمر الإلهي ، فاعترضوا على الحق تعالى .
كما قال جلّ وعلا حكاية عنهم :  "قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"
فجمعوا بين الاعتراض على الله والجرح والطعن فيمن عدّله الله وزكَّاه عندهم ، وبين تزكيتهم أنفسهم ، وكلّ هذه الأمور منافية لنشأتهم المقتضية أن لا يعصوا ما أمرهم الله به ، ويفعلوا ما يأمرهم به .
والذي يقتضيه الأدب والتحقيق من العبيد بالنسبة إلى الحق أن لا يعترضوا عليه في أوامره ونواهيه ويمتثلوها .
والذي تقتضي نشأة الخليفة هو النزول إليه والدخول تحت حكم خلافته وجمعيّته ، لا الجرح والطعن فيه ، ولا سيّما ونشأتهم على ما ادّعوا من التسبيح والتقديس تقتضي عدم الاعتراض وحسن القبول والتلقّي لما يلقى إليه ويلقى .
فإن نشأتهم وحدانية بسيطة روحانية نورانية ، لا تقتضي الاعتراض ، فإنّه نزاع والنزاع من مقتضى التضاد والتباين والتنافر ، بل مقتضى نشأتهم الإيمان والطاعة والعبادة الذاتية والتنزيه والتقديس والخير لا غير .
إذ ليس لهم ولا لغيرهم أن يعرفوا كلّ ما في نفس الحقّ ، بل ما فيه من الحق ، ويعرفون الحق من حيث ما هم عليه "وليس للملائكة جمعيّة آدم" كما مرّ .
فكان الأوجب والأولى والأوجه والأحرى أن يتّصفوا بالإنصاف ، وينصفوا له بالاعتراف ، لا الاستنكاف والاعتساف لإحاطته وجمعيّته وسعته ، دونهم .
قال رضي الله عنه : ( ولا وقفت إلَّا مع الأسماء الإلهيّة التي تخصّها وسبّحت الحقّ بها وقدّسته) .
يعني أسماء التنزيه والتقديس :
كالسبّوح ، والقدّوس ، والطيّب ، والطاهر ، والنور ، والواحد ، والأحد ، والعليّ ، وأخواتهم « وما علمت أنّ لله أسماء ما وصل علمها إليها .
كالخالق ، والرازق ، والمصوّر ، والسميع ، والبصير ، والمطعم ، وغير ذلك ممّا يتعلَّق بالتدبير والتسخير والملك والسلطان والنعيم والعذاب والموت والهلاك والسقم والشفاء ، وسائر الأسماء التي تخصّ عالم الأجسام والطبيعة " فما سبّحت الحقّ بها ولا قدّسته ، فغلب عليها ما ذكرناه  .
يعني رضي الله عنه ما عندها من الجمعية السارية في نشأتها بالنفس الرحماني الأحدي الجمعي  وحكم عليها هذا الحال ، فقالت من حيث النشأة .
يعني : بلسان التنافي والتنافر الذي بين الوحدة والبساطة الملكيّتين وبين الكثرة والتركيب الجسمانيّين . "أَتَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها " وليس إلَّا النزاع .
يعني موجب الفساد وسفك الدماء وما شاكلهما وهو النزاع .
" وهو عين ما وقع منهم " في الاعتراض " فما قالوه في حق آدم هو عين ما هم فيه مع الحق " والاعتراض على الله عين النزاع مع من لا منازع له ، وجرح آدم عين سفك دمه لأنّه طلب عدم خلقه وإيجاده .
ثم قال رضي الله عنه : ( فلولا أنّ نشأتهم تعطي ذلك ، ما قالوا في حق آدم ما قالوه ) .
يعني رضي الله عنه : النزاع والاعتراض من حيث ما ذكرنا من سراية أحدية جمع النشأة الطبيعية الكليّة ، « وهم لا يشعرون » بذلك لغلبة الحال وحكم البساطة والوحدة بالفعل ظاهرا ، وأعطى ذلك هذا الاعتراض والسعي في الجرح ، فقالوا في حق آدم ما قالوه وهم لا يشعرون .
قال رضي الله عنه : ( فلو عرفوا نفوسهم ، لعلموا ولو علموا لعصموا ) .
أي إنّ مقتضى ذاتهم ونوريّتهم وبساطتهم هو عدم الاعتراض والاعتساف ، والاتّصاف بحقائق الإنصاف . لعصموا عن وقوع المنازعة .
قال رضي الله عنه : ( ثمّ لم يقفوا مع التجريح حتى زادوا في الدعوى بما هم عليه من التقديس والتسبيح .
وعند آدم من الأسماء الإلهية ما لم تكن الملائكة تقف عليها فما سبّحته بها ، ولا قدّسته عنها تقديس آدم وتسبيحه) .
قال العبد : اعلم : أنّ التسبيح تعريف الحق والثناء عليه بأسماء السلب والتنزيه ، ولمّا كان في نشأة آدم من حقائق الكمال ونقائضها من النقائص التي ليست في نشآت الملكية .
فما أثبت الملائكة على الحق أي وما عرفته من حيث تلك الكمالات الخصيصة بالجمعية الإنسانية ، ولا نزّهت الحقّ ولا قدّسته ولا سبّحته عن نقائض تلك الكمالات من النقائص تسبيح ذوق وتقديس حال .
تقديس آدم وتسبيحة لكونه جامعا لحقائق الكمالات ونقائضها وعدم جمعية الملائكة ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فوصف الحقّ لنا ما جرى لنقف عنده ونتعلَّم الأدب مع الله تعالى ، فلا ندّعي ما أنا متحقّق به وحاو عليه بالتقيّد فكيف أن نطلق في الدعوى ، فنعمّ بها ما ليس لي بحال ، ولا أنا  منه على علم ) .
يعني رضي الله عنه : كما ادّعت الملائكة مطلقا في التسبيح . " فنفتضح ؟ ! " عند المطالبة ، ونتعرّض المعاتبة .
قال رضي الله عنه : ( فهذا التعريف الإلهي ممّا أدّب الحق به عباده الأدباء الأمناء الخلفاء . ثم نرجع إلى الحكمة فنقول ) .
مقام الأدب
قال العبد : اعلم : أنّ مقام الأدب أعلى المقامات ، ويقتضي المعاملة مع الحق والخلق بحسب ما تقتضي مراتبهما ، ولا يتحقّق به إلَّا أهل الأمانة  الإلهية .
وهي صورة الله تعالى التي حذي آدم عليها حين عرضها على سماوات الروحانية وأرض الجسمانيات " فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها " أي لم يطقن ذلك .
ولم يستطعن لعدم أحدية جمع الجمع عند منها " وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الإِنْسانُ ".
الكامل الحامل لواء الحمد ، وأحدية جمع جميع حقائق السيد والعبد ، " إِنَّه ُ كانَ ظَلُوماً " ، لعدوله عن العدل في استهلاك استعداده الكمال الكلَّيّ في أمور جزئية وأحوال ناقصة .
" جَهُولًا " برتبته أنّه هو المظهر الأتمّ الأشمل ، والخليفة الأكبر الأكمل فتعيّن اتّصافه بهذا الظلم والجهل بسبح الحقّ عنهما ولحمده بنقائضهما ، من الكمال على الوجه الأكمل .
فالأمناء هم الأدباء أهل الأمانة الإلهية وهم الخلفاء الذين استخلفهم الله في حفظ خزائنة وخزائن خزائنه ، فتذكَّر .


قال الشيخ رضي الله عنه : ( اعلم أنّ الأمور الكلَّية وإن لم يكن لها وجود في عينها ، فهي معقولة معلومة بلا شكّ في الذهن فهي باطنة لا تزال عن الوجود العيني ، ولها الحكم والأثر في كلّ ماله وجود عيني ، بل هو عينها لا غيرها ، أعني أعيان الموجودات العينية ) .
قال العبد : اختلفت النسخ وفي البعض  منها : " لا تزول " .
فإن قلنا : « لا تزال » فـ « باطنة » منصوب ، وفيه تقديم وتأخير ، والتقدير : " فهي لا تزال باطنة عن الوجود العيني " ، أي لا تظهر أعيانها . وإن كانت موجودة في العلم الإلهي وبالنسبة إلى الحق .
وإن قلنا « لا تزول » فظاهر .
يعني : أنّ الأمور الكليّة وإن لم تكن موجودة في أعيانها لكونها إذ ذاك مشخّصة ، وإذا تشخّصت لم تكن كلَّية ، فهي لا تزول عن الوجود العيني لظهور أحكامها وآثارها في كل ماله وجود عيني .
فإنّ الأمور العامّة كالوجود والعلم والحياة التي تعمّ الحق والخلق وإن لم توجد في الأعيان لكونها كلَّيات لا يمنع نفس تصوّر معناها عن وقوع الشركة فيها .
فإنّها من حيث هي هي مع قطع النظر عن إضافتها إلى الحق أو الخلق حقائق كلَّية تطلق على كل من اتّصف بها ، وقامت به من حق أو خلق ، فهي من كونها كلَّية مطلقة عن الإضافة لا تزال باطنة إذ لا توجد في الأعيان .
ومع كونها كذلك باطنة ، فإنّها لا تزول عن الوجود العيني لوجود آثارها وأحكامها في أعيان الموجودات ، بل هي تحقيقها في كل ماله وجود عيني .
فإنّها لا تبطن ولا تزال باطنة من كونها كلَّية ، وكونها كلَّية اعتبار ثان مسبوق باعتبار حقائقها مجرّدة عن كونها موصوفة بالكلَّية أو غيرها ، فهي بحقائقها في كل من قامت به لا بكلَّيتها فإنّ الوجود في القديم والمحدث هو هو ، والعلم في كل عالم عالم علم.
وكذلك الحياة فهي في كل موجود عيني عينها غير زائدة عليها وجودا وشهودا ، لا عقلا فإنّ العقل ينتزع عن الموجود وجوده ويتعقّله زائدا على الموجود ، وليس ذلك إلَّا في التعقّل لا في العين ، فأمعن النظر وأنعم .
قال رضي الله عنه : ( ولم تزل ) تلك الحقائق الكليّة ( عن كونها معقولة في نفسها فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات كما هي الباطنة من حيث معقوليّتها ) .
قال العبد : أمّا كونها ظاهرة فمن حيث إنّها في كل موجود عينيّ بماهيتها وحقيقتها ، وهي فيه عينه غير زائدة عليه لعدم امتيازها عنه في الوجود .
وأمّا كونها باطنة فلأنّها من حيث تعقّلها الأمور الكلَّية عامّة ينتزعها العقل ويأخذها كلية لا يمنع نفس تصوّرها عن وقوع الشركة فيها .
فهي من كونها كذلك باطنة معقولة لا وجود لها إلَّا في العقل .
قال رضي الله عنه : ( فاستناد كلّ موجود عيني لهذه الأمور الكلَّية ) .
يعني : استناد الموجودات من كونها موجودة ، والعلماء من كونهم علماء ، والإحياء من كونهم إحياء إلى هذه الكلَّيات العامّة .
قال رضي الله عنه : ( التي لا يمكن رفعها عن العقل ) .
أي لا تزال من كونها كلية معقولة .
قال : ( ولا يمكن وجودها في العين ) أي لا يتشخّص من كونها كلية ( وجودا تزول به عن أن تكون معقولة ) .
يعني : أنّ هذه الكلَّيات وإن كانت في كل موجود عينيّ عينه ، فذلك لا يخرجها عن كونها معقولة فإنّ كونها معقولة باطنة هو من كونها كلَّية ، وكونها عين كل موجود عينيّ هو بحقائقها لا بكلَّيتها لوجود تميّز تعقّل كلَّيّتها عن تعقّل حقيقتها في العقل .
وعدم تميّز حقيقتها عن الوجود العيني ، ولا يخرجها أيضا كذلك كونها معقولة وكلية عن كونها بحقيقتها في كل موجود عينيّ عينه ، بمعنى أنّها لا تزيد عليه ولا تمتاز عنه .
قال رضي الله عنه : ( وسواء كان ذلك الموجود العيني موقّتا أو غير موقّت إذ نسبة الموقّت وغير الموقّت إلى هذا الأمر الكلَّي واحدة ).
يريد رضي الله عنه بالموقّت الحادث الفاني من العالم ، فظهور هذه الأمور الباطنة المعقولة الكليّة بالأعيان الحادثة التي وجودها موقّت غير مؤبّد يكون موقّتا .
كذلك غير مؤبّد كوجود زيد مثلا وعلمه وحياته ، كهو غير أبدية بل هو موقّته ، وظهورها لمن ليس وجوده موقّتا ولا متناهيا غير موقّت ولا متناه لانضياف هذه الحقائق الكلَّية النسبيّة المعقولة إلى كل موجود عينيّ وظهورها فيه بحسبه وبموجب ما تعطيه ذاته .
قال رضي الله عنه : ( غير أنّ هذا الأمر الكلَّيّ يرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسب ما تطلبه حقائق تلك الموجودات العينيّة ، كنسبة العلم إلى العالم والحياة إلى الحيّ فالحياة حقيقة معقولة ، والعلم حقيقة معقولة متميّزة عن الحياة ، كما أنّ الحياة متميّزة عنه ،
ثم نقول في الحق تعالى: إنّ له علما وحياة ، فهو الحيّ العالم .
ونقول في الملك : إنّ له علما وحياة فهو الحيّ العالم .
ونقول في الإنسان : إنّ له حياة وعلما فهو الحيّ العالم .
وحقيقة العلم واحدة ، وحقيقة الحياة واحدة ونسبتها إلى العالم والحيّ نسبة واحدة
ونقول في علم الحق : إنّه قديم ، وفي علم الإنسان : إنّه حادث ،
فانظر ما أحدثته الإضافة من الحكم في هذه الحقيقة المعقولة ) .
قال العبد أيّده الله به :
اعلم : أنّ الحقائق الكلَّية مطلقة ، لها من حيث هي هي خصوصية ذاتية لا تخرجها عن تلك الخصوصية الذاتية إضافتها إلى الموجودات العينية كحقيقة العلم مثلا معنى قائم بالذات العالمة ، به تسمّى عالمة ، وهو في طور التحقيق عبارة عن إدراك المعلوم .
وكشفه بما هو به وهو وبما هو عليه في عينه على وجه الإحاطة والتمييز عن غير هذه حقيقة العلم ، وليست إضافتها ونسبتها إلى الحق أو إلى الخلق مخرجة لها عن هذه الحقيقة المخصوصة ، ولكن يعود إليها من إضافتها إلى كل موجود عيني إذا أضيفت إليه أن تكون فيه بحسبه.
فإن كان المضاف إليه موجودا قديما مطلقا ، كان علمه قديما مطلقا كذلك ، وإن كان المضاف إليه حادثا ، مقيّدا ، موقّت الوجود .
كان علمه حادثا مقيّدا كذلك ، وهذا ممّا اقتضت هذه الحقائق بشرط الانضياف ، فهي لا تزال على ذلك ما دام ذلك الشرط مقترنا بها ، وهذا ظاهر 

قال رضي الله عنه : ( وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات والموجودات العينية ، فكما حكم العلم على من قام به
بأن يقال فيه : إنّه عالم ، كذلك حكم الموصوف به على العلم بأنّه حادث في حق الحادث ، قديم في حق القديم ، وصار كل واحد )  يعني من المضاف والمضاف إليه ( محكوما به و محكوما عليه ) يعني من جهتين مختلفتين .
قال رضي الله عنه : (ومعلوم أنّ هذه الأمور وإن كانت معقولة ) أي لها وجود في العقل والعلم
(فإنّها معدومة العين موجودة الحكم ) يعني في الوجود العيني ، لأنّها لم تتعيّن في الوجود تعيّنا شخصيا غيرها من الأعيان الموجودة . وإلَّا لكانت شخصية ، وأشير إليها ، ولم تكن كلَّية .
قال رضي الله عنه : ( كما هي محكوم عليها إذا نسبت إلى الموجود العيني .
فتقبل الحكم في الأعيان الموجودة) فإنّ ظهورها في الأعيان بحسبها (ولا تقبل التفصيل ولا التجزّي فإنّ ذلك محال عليها فإنّها بذاتها في كل موصوف بها).
يعني : أنّ الإضافة والنسبة لا تخرجها عن حقائقها كما قرّرنا .
قال رضي الله عنه : ( كالإنسانية في كلّ شخص شخص من هذا النوع الخاصّ لم تتفصّل ولم تتعدّد بتعدّد الأشخاص ، ولا برحت معقولة ) .
يعني : أنّها لو تفصّلت وتعدّدت بتعدّد الأشخاص ، لكانت عن أصل كثرة فيها وهي واحدة في حقيقتها .
قال رضي الله عنه : (وإذا كان الارتباط بينها وبين من له وجود عيني قد ثبت ، وهي نسب عدمية ، فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب أن يعقل لأنّه على كل حال بينها جامع وهو الوجود العيني وهناك ، فما ثمّ جامع . وقد بعد الارتباط بعدم الجامع ، فبالجامع أقوى وأحقّ ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ هذا الأمر العامّ من حيث عدم تعيّنه في الوجود العيني متميّز ، وتميّزه عن الأعيان الوجودية في الخارج أمر عدمي ، وهو معدوم العين.
ومهما ساغ الارتباط بينها مع كونها معدومة الأعيان وبين الموجودات العينية ، فوجود الارتباط بين الموجودات أولى وأحقّ ، وعلى هذا يكون الارتباط بين الموجود القديم الحق ، وبين الحادث الخلق ثابتا صحيحا ، وهو المطلوب .
قال رضي الله عنه : ( ولا شكّ أنّ المحدث قد ثبت حدوثه وافتقاره إلى محدث أحدثه لإمكانه لنفسه ، فوجوده من غيره ، فهو مرتبط به ارتباط افتقار ، ولا بدّ أن يكون المستند إليه واجب الوجود لذاته غنيّا في وجوده بنفسه ، غير مفتقر ، وهو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث فانتسب إليه ولمّا اقتضاه لذاته كان واجبا به ).
قال العبد أيّده الله :
كون العالم ممكنا في حقيقته يقتضي أن يكون في ذاته مفتقرا إلى المرجّح في الوجود لأنّ الممكن من حيث هو ممكن مع قطع النظر عن المرجّح نسبته إلى الوجود والعدم بالسواء .
فهو من حيث هو ممكن ليس بأولى أن يوجد ، وإلَّا لكان واجبا ، ولا أن لا يوجد وإلَّا لكان ممتنعا وكلّ ممتنع الوجود فليس بممكن وإلَّا لكان الممكن باللاوجود أولى ولم يكن ممكنا ، وكذلك كل واجب الوجود فليس بممكن بالإمكان الخاصّ .
وإن صدق إطلاق الإمكان العامّ عليه عرفا خاصّا ، فإنّا لا نعني بالإمكان العامّ إلَّا عدم الامتناع ، فلمّا لم تكن للممكن أولويّة الانحياز إلى أحد النقيضين ، افتقر في تعيّنه إما في الوجود أو في العدم إلى المرجّح ، وعلى جميع التقادير ثبت افتقاره إلى المرجّح .
وهو الحق الواجب الوجود لذاته لأنّ المفتقر إليه إن لم يكن واجب الوجود ، لزم أن يكون ممكنا أو ممتنعا ، فإن كان ممكنا فالقول فيه كالقول في كل ممكن ، ولزم إمّا الدور وإمّا التسلسل في العلَّة ، وهما باطلان عقلا ، وإن كان ممتنعا .
فلا يصلح أن يكون واجب الوجود ما لا وجود له ، ولا قابلا للوجود ، فلم يبق إلَّا أن يكون المرجّح الواهب للوجود واجب الوجود لذاته غنيّا في وجوده بذاته عن الغير ، غير مفتقر إليه .
وليس المراد من الواجب إلَّا ذاتا لا افتقار بها في وجودها إلى الغير ، فوجودها إذن من ذاتها ضروري واجب .
فإن قيل : الوجوب في تعقّله مفتقر إلى تعقّل ما ليس بضروري الوجود واجبة ، فهو إذن من الحقائق النسبية ، وفيه رائحة الافتقار ، وتوقّف تعقل الوجوب على الامتناع أو الإمكان كتوقّف تعقّله على تعقّل غيره .
قلنا : لا يلزم من توقّف تعقّل الواجبية على تعقّل غيرها توقّف تحقّقه في ذاته على تحقّق ما ليس كذلك ، أو على عدم تحقّق غيره كذلك فإنّ ثبوت الوجود بالذات أمر ذاتي للواجب الوجود بالذات ، فلا يفتقر في ذلك إلى غيره ولا يتوقّف عليه .
ولكنّ الواجب الوجود مفيض من وجوده ووجوبه على ما ليس كذلك ، ومستلزم له في الوجود المستلزم لوجود غيره والموجب له لا يتأخّر في تحقّقه عن لازمه في الوجود لتوقّف وجود اللازم على الملزوم ، ولكن عدم اللازم قد يستلزم عدم الملزوم في الدلالة .
وإذا ثبت وجوب الوجود لذات من عينها ونفسها ، وثبت افتقار غيرها في وجوده إليها ، فمهما وجد ذلك الغير فوجوده من فيض وجود واجب الوجود بالذات ، فبالضرورة ينسب ذلك الغير في وجوده إلى من أفاض عليه الوجود .

ولا بدّ أن تكون الإضافة ذاتية للواجب الوجود بالذات ، فيوجب وجود المفاض عليه المفتقر في وجوده عنه إليه ، والمقتضي أمرا لذاته لا يزال عليه ما دامت ذاته .
فلمّا اقتضى الحق الواجب الوجود فيضه وهو الوجود المطلق أن يفيض الوجود على الخلق المقيّد ، كان واجبا به بالضرورة إذ الإله يقتضي وجود المألوه .
والربّ يوجب المربوب ، والخالق يستلزم وجود المخلوق وذلك من كونه إلها ربّا موجدا أو مفيضا للوجود بالذات وعلَّة ، لا من حيث ذاتية الذات المطلقة عن كل وصف ونعت ، الغنيّة عن العالمين ، فإنّ اعتبار ذاتية الذات سابق ومتقدّم على جميع الاعتبارات .
ولمّا كان وجوده عين ماهيته ، فلا تلزم مساوقة وجود الحادث لوجود القديم ، ولكنّه من كونه مفيضا للوجود وموجدا لهذا الحادث يوجد عنه الحادث ، فالارتباط من قبل الحادث بالافتقار الذاتي إلى محدث يحدثه ويوجده على التعيين ، ومن قبل الموجد بالإيجاد والاستلزام .
قال رضي الله عنه : ( ولمّا كان استناده إلى من ظهر عنه لذاته ، اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شيء من اسم وصفة ) .
يعني : من حيث اقتضائه أن يكون على صورته بحيث لا يخرج الاسم والصفة من حقيقتها الخاصّة ، وإن أوجبت الإضافة نعتا ، ليس لها بالفعل ، بل بالصلاحية وبشرط الإضافة كما ذكر في حقيقة العلم والحياة .
قال رضي الله عنه : ( ما عدا الوجوب الذاتيّ فإنّ ذلك لا يصحّ في الحادث وإن كان واجب الوجود ، ولكن وجوبه بغيره لا بنفسه ) .
يعني رضي الله عنه :
لمّا كان العبد على صورة سيّده ، وجب أن يكون واجبا ، ولكن وجود العبد ووجوبه مستفاد من الواجب بذاته الموجب لوجود هذا الحادث ، فما له قدم في الوجوب الذاتي لكون وجوب وجود العبد لا بذاته لا بذات مطلقة منها ذاته ، أو وجود مطلق منه وجوده .
قال رضي الله عنه : ( ثم لتعلم أنّه لمّا كان الأمر على ما قلناه من ظهوره ، بصورته ، أحالنا تعالى في العلم به على النظر في الحادث ، وذكر أنّه أرانا آياته فينا  فاستدللنا بنا عليه ، فما وصفناه بوصف إلَّا كنّا نحن ذلك الوصف ) .
يعني رضي الله عنه :
لمّا قرّر أنّ الخليفة ظاهر بصورة المستخلف فيما استنابه فيه ، ونسبه إليه ، وملَّكه إيّاه ، لا جرم أنّه تعالى أحاله في العلم به على النظر في الحادث في كل ما نسب إليه من صورة على صورة القديم.
فإذا عرفنا المخلوق على الصورة بنسبه ولوازمه الثبوتية كماليّها وغير كماليّها استدللنا بكمالاتنا الثبوتية التي أعطانا الكامل بالذات على ثبوت الكمالات له على الوجه الأكمل .
واستدللنا أيضا بنقائصنا ونسبنا غير الكمالية على أنّها منتفية عن موجدنا وثابتة له نقائض تلك
النقائص من الكمالات ، وفي الحقيقة ما وصفناه بوصف إلَّا كنّا نحن ذلك الوصف .
والتحقيق يقتضي أنّه ليس لنا من الأمر شيء ، بل كل ما لنا فمنه ، كما قال : "وَما بِكُمْ من نِعْمَةٍ فَمِنَ الله "  فما وصفناه بنا إلَّا من حيث كوننا به فيه منه له .
قال رضي الله عنه : ( إلَّا الوجوب الخاصّ الذاتي ، فلمّا علمناه بنا ومنّا ، نسبنا إليه كلّ ما نسبناه إلينا ) .
يعني رضي الله عنه :
من حيث إنّ نسبة نسبة الشيء نسبة لذلك الشيء ولازم لازمه بالوسط .
قال رضي الله عنه : ( وبذلك وردت الأخبار الإلهية على ألسنة التراجم إلينا ، فوصف نفسه لنا بنا  ، فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا ، وإذا شهدنا شهد نفسه ) .
قال العبد أيّده الله تعالى به : اعلم :
 أنّ الله علم نفسه ذات نسب مستهلكة الأعيان في أحدية ذاته وهويّته المطلقة ، وأراد أو أحبّ أن يظهرها في الوجود العيني ، أو يظهر هويّتها فيها بحسبها ، وكانت متمايزة الأعيان في التعين بالعلم الذاتي كعلم الواحد العالم بأنّه ذو نسب ونسب نسب .
 فلمّا تعلَّقت المشيّة بإظهار هذه النسب في الوجود ، تجلَّى الله الجواد الرحمن المحسن الوهّاب بإفاضة الوجود من ينبوع الجود ، فأوجدها في أعيانها لها في عرصة الشهود.
 وبعد تحقّق هذه النسب الحقيقة ، إنّ الحقائق النسبية فما لها أن تدلّ على الحق المطلق ، أو نشهده إلَّا من خصوصها وبها ، قد ظهر الوجود فيها بحسبها .
فلولا أنّ في الوجود صلاحية الظهور في كل حقيقة أو نسبة منها بحسبها وعلى صورتها ، لما ظهر بذلك كذلك ، ويضاف إذ ذاك إلى الوجود الحق الظاهر في كل حقيقة منها على صورتها ما يضاف إلى تلك الصورة ، فافهم . إذا فهمت ، فهمت .
فاعلم أنّا نحن صور تلك النسب الذاتية والشؤون الغيبية ، اقتضانا بالذات من كونه إلها موصوفا بالموجدية ، منعوتا بالربوبية ، فلمّا وصف نفسه لنا بنا أعني بالنسب والأسماء والصفات التي نحن صورها وأحالنا في المعرفة والعلم به علينا بقوله الحق ، على لسان رسول الصدق :"من عرف نفسه فقد عرف ربّه ".
فعلمنا به أنفسنا ، وعلمنا من علمنا بنا علمنا به ، فما علمناه إلَّا بنا وما علمنا ما علمنا إلَّا به ، فما علمنا إلَّا إيّاه به منه فيه .
وما علمنا أنفسنا إلَّا فيه عينه ، فنحن فيه هو عينه ، وهو فينا نحن أعياننا ، لأنّا فيه شؤونه الذاتية ونسب نسب الإنّيّة الغيبية ، وهي الهوية العينية ، فإذا شهدنا فيه شهد نفسه .
وإذا شهدناه فيه أو فينا شهدنا أنفسنا ، فما نحن إلَّا وجودات تعيّنية وتجلَّيات وجوديّة ، نفسية ، ظاهرة بخصوصيات أعياننا وماهياتنا التي هي شؤونه الذاتية ونسبه أو نسب نسبه الغيبية الوحدانية ، فافهم .

قال رضي الله عنه : ( ولا نشكّ أنّا كثيرون بالشخص والنوع ، وأنّا وإن كنّا على حقيقة واحدة تجمعنا ، فنعلم قطعا أنّ ثمّ فارقا ، به تميّزت الأشخاص بعضها عن بعض ، ولولا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد ) .
يعني رضي الله عنه :
أنّ هذه الشؤون وإن اشتركت في أنّ كلَّا منها شأن ذاتي له أو نسبة من نسب الألوهية ، ولكنّه لا بدّ أن تكون لكلّ شأن منها خصوصية ، بها يتميّز عن غيره .
 فتلك الخصوصيات هي التي أوجبت تعدّد الأشخاص وتمايزها بشخصياتها عند وجودها العيني بموجب وجودها العلمي ، فالوجود وإن كان موجودا للكلّ ، ولكنّ الخصوصيات الذاتية تعيّن الوجود الواحد بحسبها .
 فيختلف ظهور الوجود الحق الواحد الأحد في جميع مراتب العدد ، ويتكثّر بحسب القوابل المختلفة المتكثّرة .
 ولولا هذا السرّ ، لم تظهر الكثرة المتعقّلة في الواحد ظهورا وجوديا ، ولا الكثرة الوجودية في أحدية الجمع ، كما نقول : " مدينة واحدة " مع اشتمالها على البيوت والدور الكثيرة ، وكقولنا : « كتاب واحد » مع أنّه ذو حروف وكلمات كثيرة ، و « شخص واحد » مع أنّه ذو أجزاء وأعضاء كثيرة .


قال رضي الله عنه : ( فكذلك أيضا ، وإن وصفنا بما وصف به نفسه من جميع الوجوه ، فلا بدّ من فارق  وهو افتقارنا إليه في وجودنا ، وتوقّف وجودنا عليه لإمكاننا وغناه عن مثل ما افتقرنا إليه . فبهذا صحّ له الأزل والقدم الذي انتفت عنه الأوّلية التي لها افتتاح الوجود عن عدم فلا تنسب إليه الأوّلية مع كونه الأوّل . ولهذا قيل فيه :
الآخر ، فلو كانت أوّليته أوّلية وجود التقييد ، لم يصحّ أن يكون الآخر للمقيّد لأنّه لا آخر للممكن لأنّ الممكنات غير متناهية ، فلا آخر لها .
وإنّما كان آخرا لرجوع الأمر كلَّه إليه بعد نسبة ذلك إلينا ) .
قال العبد أيّده الله :
كما أنّا وإن كنّا مشتركين في الاستناد إلى الحق والدلالة عليه وفي القيام بوجوده الواحد ، ولكنّا كثيرون بالأشخاص والخصوصيات الذاتية ، والتفرقة فيما بيننا ظاهرة .
 فكذلك إذا دللنا عليه فإنّ دلالة كلّ منّا بخصوصية ليست في الآخر .
 وكذلك وإن وصفنا بما وصف به نفسه وأعطانا الاتّصاف بأوصافه جميعا والتسمّي بأسمائه طرّا ، فلا بدّ من فارق بيننا وبينه لا نشاركه فيه أصلا ، وهو وجوبه الذاتي الذي انفرد به من ذاته دوننا ، وأمّا الفارق من قبلنا الذي خصّصنا به دونه فهو افتقارنا جميعا إليه على التعين في الوجود وذلك لإمكاننا الذاتي ، كما مرّ ، فتذكَّر .
واعلم : أنّ في الإمكان سرّا شريفا ذكرنا في موضعه ، فاطلبه من هناك ، إن لم تعثر عليه من هاهنا ، فقد أومأنا إليه في مواضع ممّا سلف وفيما خلف .
وقوله : « عن مثل ما افتقرنا إليه » يدلّ على شمول الافتقار ومرتبتي الوجود أعني مرتبتي الحق والخلق لكون الوجود يشملهما ، والحق من حيث ذاته ووجوده الذاتي غنيّ عنّا ونحن مفتقرون إليه بذواتنا في وجودنا .
 ولكنّ الربوبية من كونها تقتضي المربوب بحقيقتها ، والخالقية لا تتعقّل بدون المخلوق وجودا وتقديرا فثبت الافتقار للنسب الإلهية في تعيّنها الوجودي والتعقلي إلى متعلَّقاتها ضرورة توقّف الأمور الإضافية والنسبية على طرفيها وافتقارها إليها .
 ولا يقدح ذلك في الغنى الذاتي فإنّ الله غنيّ بذاته في وجوده أزلا وأبدا .
وهذا الافتقار المذكور ليس إلَّا في النسب الأسمائية فإنّ الألوهية والربوبية والخالقية والرازقية وغيرها حقائق يتحقّق وجودها بالمألوه والمربوب والمخلوق والمرزوق ، والغنى لله في ذاته لكون وجوده من ذاته ، وعين ذاته .
ولهذا السرّ صحّ له الأزل والقدم ، يعني نفي الأوّلية والمسبوقية عن وجوده الذاتي ، فلا أوّل له سابقا عليه ، بل هو الأوّل السابق بوجوده المطلق الذاتي على التعينات الوجودية التقييدية .
وليس متعلَّق الحدوث والقدم حقيقة الوجود ، بل تعيّنه بحسب الأزمان والأوقات والمواطن والمراتب لا غير ، والتعيّن نسبة عدمية أيضا مع قطع النظر عن المتعيّن.
فسبحان الذي وسع بجوده ورحمته وعلمه وحكمته كلّ شيء حتى النسب العدمية ، أحدثها وأعطاها ضربا من الوجود ، وأظهرها موجودة للشهود المعهود .
فلو كانت أوّلية الحق من حيث الوجود العيني المقيّد ، لم يصحّ أن يكون هو الآخر لأنّه لا آخر للممكنات لأنّها غير متناهية ، فلو كانت متناهية ، صحّ أن يكون لها آخر .
فليست أوّليّته تعالى بمعنى أوّلية وجود التقييد ، ولا آخريّته بمعنى أنّه إذا انتهت الممكنات غير المتناهية ، كان هو آخرها .
فكان آخر وجود التقييد ، بل أوّليّته وآخريته بمعنى أنّه لا موجود إلَّا هو ، فالكلّ منه إليه " لا إِله َ إِلَّا هُوَ إِلَيْه ِ الْمَصِيرُ " .
بمعنى أنّه المطلق غير المتعيّن في عين كونه عين الكلّ أوّلا بداية ، والمتعيّن في عين لا تعيّنه وإطلاقه بتجلَّيات غير متناهية آخرا لا إلى غاية ونهاية .


قال رضي الله عنه : ( فهو الآخر في عين أوّليّته ، والأوّل في عين آخريّته ) .
يعني رضي الله عنه :
أنّ الوجود المطلق هو الأوّل على الإطلاق ، ثم إن تعيّن وتقيّد الوجود بتنوّع التجلَّي في مراتب تعيّناته فهو في حقيقته على أوّل الإطلاق الأصلي .
لأنّ التعين والتقيد نسبتان لا تقدحان في إطلاقه الحقيقي الذي ليس في مقابلة التقييد ، بل هو معنى ذاتيّ للذات .
نعم ، الإطلاق والتعيّن يستلزم تعقّلهما انتفاء البداية والنهاية ، والافتتاح والاختتام ، شمل بنور هويّته وإنّيّته المطلق والمقيّد .
فإنّ العين المطلق عين المطلق اللامتعيّن وعين المتعيّن غير المتناهي في تعيّنه ، لا إلى أبد أبدا الأبد ، فهي هي في اللاتعيّن الأوّل الباطن وفي التعيّن الآخر الظاهر.
فما ثمّ إلَّا هو هو ، فهو الأوّل في عين آخريته والآخر في عين أوّليته .

قال رضي الله عنه : ( ثمّ لتعلم أنّ الحق وصف نفسه بأنّه ظاهر باطن وأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا
 . ووصف نفسه بالرضا والغضب ، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء ، فنخاف غضبه ونرجو رضاه.
ووصف نفسه بأنّه جميل وذو جلال ، فأوجدنا على هيبة وأنس ، وهكذا جميع ما ينسب إليه ويسمّى به . ثم عبّر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجّهنا على خلق الإنسان الكامل لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته ).
قال العبد أيّده الله به : اعلم :
 أنّه لمّا كان الإطلاق الذاتي الذي تستحقّه الذات ليس في مقابلة التقييد والتحديد ، بل إطلاق عن التقييد بالإطلاق الذي في مقابلة التقييد .
فهو إطلاق عن التقييد وعن الإطلاق بجمعه الذاتي بينهما جمعا ، غير متقيّد أيضا بالجمع ، بل مطلقا عن كل اعتبار ، ولا لسان في هذا المقام ولا حكم ولا اسم ولا صفة ، بل بهت بحت ، وخرس صرف .
وبتحقّق التعيّن الأوّل مفتاح مفاتيح الغيب يتعيّن للعين المطلقة تعيّن ولا تعيّن ، وإطلاق وتقييد ، ووحدة وكثرة ، وفعل وانفعال ، فتعيّن بالتعيّن الأوّل النسب الذاتية.
 وهي : الأوّلية والآخرية ، والباطنية والظاهرية .
وهو من حيث التعيّن بلا اعتبار التعين واللا تعين لا أوّل ولا آخر ، ولا باطن ولا ظاهر ، ولا نسبة هذه النسب ولا لا نسبتها أحقّ وأولى .
ولكنّه تعالى من حيث إطلاقه باطن ، وقد جعل الباطن بحجاب عزّ غيبه عن أن يحاط به أو يتناهى ، أو يكون له بداية ، فله الجلال .
وهو من حيث تعيّنه ظاهر جميل بجمل القصد إليه والاستناد من كونه مبدأ للتعينات الشؤونية الكلَّية مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلَّا هو .
يعني ليس علمها إلَّا للهوية المطلقة الكبرى التي للمعيّن ، وهي فيه هو ، وهو فيها هي فظهرت الاثنينية بالتعين الأوّل للعين الواحدة بالوحدة الحقيقية.
 وهي من حيث حضرتها الجلالية تقهر أعيان الأغيار ، وتغضب عليها غيرة أحدية ، ولكنّها من حيث التعين ترضى عن كلّ معيّن قابل ومتعيّن مقبول رضى خصيصا بخصوصيته لكونه جهده واستطاعته ، كما قال :
مالي سوى الروح خذه   .....   جهد الفقير المقلّ
وقد ورد الوارد في هذا البيت عليّ بمعنى مخترعا في المحتد والمشرب عند المبصر المستبصر ، فقال :
مالي سوى أنت خذ بي    .....        جهد الفقير المذلّ
فتأمّل أيّها المتأمّل .
وبموجب هاتين اليدين اللتين لهما القبض والبسط ، والعطاء والمنع ، والرفع والوضع ، أوجدنا ذوي خوف ورجاء ، وقبض وبسط ، وهيبة وأنس ، فنهاب جلاله ، ونأنس بجماله ، ونخاف غضبه ، ونرجو رضاه . فظهرت فينا أحكام الاثنينية ، المذكورة في اليدين .
كما أشار إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله : " وخلق آدم بيديه " الحديث .
وقال الله تعالى لإبليس " ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ".
وكما أظهر الله من هاتين اليدين المباركتى لآدم عند تجلَّيه .
فقال له اختر أيّتها شئت .
 فقال آدم : اخترت يمين ربّي ، وكلتا يدي ربّي يمين مباركة .
 ففتح سبحانه يمينه ، فإذا فيه آدم وذرّيّته ، ولذلك خمّر الله بيديه طينة آدم أربعين صباحا .
فكان ربّنا تبارك وتعالى يتجلَّى على صورته التي خلق آدم عليها ويخمّر طينته بيديه المباركتين حتى تخمّر فيها ببركة توجّهه الكلي الجمعي الإلهي سرّ أحدية الجمع الذاتي الإلهي بين يديه .
حتى بدت فظهرت في طينته ، صورته المباركة على أحسن تقويم ، وأكمل تعديل وترسيم ، فظهرت فيه جميع الحقائق الجلالية القهرية والجمالية اللطفية ،وكمل به.
وفيه سرّ الإطلاق والتقييد ، والتعيّن واللاتعيّن ، فكان أكمل كون وأجمعه وأتمّه ، وأفضل مظهره وأوسعه وأعمّه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فعالم شهادة والخليفة غيب ، ولهذا احتجب السلطان ووصف الحق نفسه بالحجب الظلمانية وهي الأجسام العنصرية الكثيفة والنورانية وهي الأرواح والعقول والنفوس وعالم الأمر والإبداع ، والعالم بين لطيف وكثيف ، فهو عين الحجاب على نفسه فلا يدرك الحق إدراكه نفسه ولا يزال في حجاب لا يرفع مع علمه بأنّه متميّز عن موجده بافتقاره و لكن لا حظَّ له في وجوب الوجود الذاتي الذي للحق ، فلا يدركه أبدا .
فلا يزال الحق من هذه الحقيقة غير معلوم علم ذوق وشهود لأنّه لا قدم للحادث في ذلك ) .
قال العبد أيّده الله به :
خلق الله آدم على صورة الرحمن ، كما نطق به الصادق الذي ما ينطق عن الهوى لأنّ الخليفة على صورة مستخلفه فيما استخلف فيه واستنيب ، وإن لم يظهر بصورة مستخلفه فما هو بخليفة .
ثم خلق الله العالم على صورة آدم لما ذكرنا أنّ العالم صورة تفصيل النشأة الإنسانية ، والإنسان صورة جمعها الأحدية فهو غيب العالم .
والعالم شهادته وظاهره لكون الكثرة والتفرقة حجابا ظاهرا ، والجمعية الأحدية غيبا باطنا ، فالإنسان روح العالم وقلبه وسرّه الباطن ولبّه .
ولهذا السرّ وجد احتجاب السلاطين والخلائف ضرب مثال للأمر ، حتى يكون غيبا ، كما أنّ اللبّ غيب في القشر ، وذلك أليق بعزّة الخليفة وعظمته ، كما أنّ الله تعالى وصف نفسه على لسان رسولنا بالحجب .
فقال صلَّى الله عليه وسلَّم : " إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة " ، فالاحتجاب بالحجب من مقتضيات السلطنة والخلافة .
ولمّا كان العالم بين لطيف وكثيف ، جسم وروح ، قد تعيّن الوجود الحق عامرا لعوالمهما وكثراتهما غير المتناهية ، وكلّ من العالمين حجاب على الآخر ، فتحجّب اللطيف بالكثيف ، والكثيف باللطيف ، واللطيف باللطيف والكثيف .
فالعالم عين حجابه على نفسه ، فلا يدرك الحق أبدا إلَّا من وراء هذه الحجب الكثيفة واللطيفة وذلك لأنّه لا حظَّ له في الوجوب الذاتي ولأنّه مفتقر في الوجود إلى من يتوهّم أنّه غيره ، فلا يزال في حجاب الغيرية ما بين كثيف نسمّيه جسما ، ولطيف نسمّيه روحا أو عقلا أو نفسا أو معنى ، وهي فيما بينها أغيار لوجود المغايرة بين التعيّنات الحقيقية والخصوصيات الذاتية ، فلو شهد العالم العين المحتجبة بحجب الغيرية عن أعين أعيان الأغيار أنّها بالحقيقة عين هذه الأغيار ، لزال عن عينها الغين والحجاب ، ولكنّ العزّة والغيرة أوجبتا الغيرية ، ولا بدّ ،" وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ من ضُرٍّ لَلَجُّوا في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ".

.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة الجزء الرابع .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 5:33 pm

 01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة الجزء الرابع .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم 

01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة الجزء الرابع

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما جمع الله لآدم بين يديه إلَّا تشريفا ، ولهذا قال لإبليس : " ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ".
وما هو إلَّا عين جمعه بين الصورتين : صورة العالم وصورة الخلق ، وهما يدا الحقّ . وإبليس جزء من العالم ، لم تحصل له هذه الجمعية .
ولهذا كان آدم خليفة ، فإن لم يكن ظاهرا بصورة من استخلفه فيما استخلفه فيه ، فما هو خليفة ، وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا التي استخلف عليها لأنّ استنادها إليه ، فلا بدّ أن يقوم بجميع ما تحتاج إليه وإلَّا فليس بخليفة عليهم ).

وذلك لأنّ الكمال في أحدية جمع الجمع ، ثم الكمالات كلَّها إنّما تفيض من أحدية جمع هاتين اليدين المباركتين الإلهيتين .
فوجب أن تكون الكمالات المنبعثة من اليدين مجتمعة فيه مع أضعافها إذ الهيئة الجمعية الأحدية تعطي في الجامع أن يظهر فيه كلّ حقيقة من حقائق اليدين بهيئة الجمع .
ولهذا توجّهت المطالبة والمؤاخذة على إبليس الذي هو جزء من العالم في امتناعه عن سجود آدم لكون الواجب على كلّ قوّة من القوى الروحية والقوى الطبيعية جمعا وفرادى .
هو الإذعان والانقياد والطاعة والدخول تحت حكم صاحب الجمعية بين اليدين اللتين في قبضتهما عالم الأرواح اللطيفة وعالم الطبيعة الكثيفة ، وإبليس في إحداهما .
ولكنّ حقيقة إبليس منافية لحقيقة آدم بالحقيقة والطبع لأنّ حقيقة آدم عليه السّلام صورة ظاهرية أحدية جمع الجمعيات الإلهية والجمعيات الكونية .
وإنّما جمع الله له بين اليدين لأنّ الإنسانية التي هي حقيقته تقتضي الاعتدال وكمال الجمع بين التعين والإطلاق ، والكثرة والوحدة ، وعدم الانحصار في تعيّن جزئي .
بخلاف حقيقة إبليس ، فإنّها صورة الانحراف التعيّني الحجابي إلى الأنانية الجزوية المتقيدة بالاستعلاء والاستكبار ، والظهور والعلوّ على حقيقة العين إذ التعيّن يكفر العين ويحجبه ويعلو عليه .
وهذه الحقيقة تقتضي التفرقة النارية المعتلية على باقي العناصر .
فلمّا تباينت الحقيقتان ، وقعت المضادّة والمحادّة والمعاداة في عالم الصورة بسبب المضادّة الحقيقية في الحقيقة وبحسبها .
ولأنّ نشأة كلّ واحد منهما تضادّ نشأة الآخر في الجزء الأعظم فإنّ الجزء الأعظم في نشأة الإنسان الماء ، ثم الأرض ، وهما يعطيان بحقائقهما وصورهما وقواهما وروحانياتهما اللين والإذعان والطاعة والقبول والانقياد والإيمان والثبات والوقار والتّؤدة والسكينة والخشوع والاستكانة والعبودية والتذلَّل والعلم والحلم والإناءة وما شاكل ذلك .
والجزء الأعظم في نشأة إبليس والشياطين النار ، وهي بحقيقتها وصورتها وروحانيتها تعطي الاستعداد والاستكبار والخفّة والطيش والسفوف والكبر والخيلاء والتسلَّط والجبروت والكفر والجحود والحقد والحسد لأنّه صورة الانحراف العنصري التعيّني .
كما قلنا : إنّ التعيّن يعلو على المتعيّن فيه ، ويطغو ويكفره أي يستره وما له ثبات فإنّ نور العين المتعيّنة في حجابية كلّ تعيّن يخرقه ويحرقه ، ومن حق التعيّن أن يلعن ويطرد وينفي عن وجه العين المتعيّنة في ذلك التعين.
لكونه حجابا على من تعيّن به وفيه من وجه وإن كان دالَّا عليه من وجه آخر ، فمن كان مشهوده أنّ وراء التعيّن أمرا هو منه يشاهد الحقيقة في الحجاب .
ومن لم يشاهد إلَّا حجابية التعيّن ، حجب به ، والتعيّن حجاب على نفسه ، فلا يرى العين المحتجبة به أبدا ، كظهر المرآة لا يظهر فيه مثال صورة الرائي المنطبع في باطنه إلَّا أن يلعن حقيقة الحجاب عن وجه المحتجب .
ولهذا كلّ تعيّن يدّعي أنانيّة هو بها محجوب عن غيره وعن عينه وعين الكلّ التي بها قيام الكلّ وهو قيّام الكلّ وقد أشرنا إلى هذا السرّ في الغرّاء الرائية واللامية أيضا بقولنا : شعر :
لا يحجبنّك  أشكال يشاكلها   .....    عمّن يشكَّل فيها فهي أستار
وكن به فطنا في أيّ مظهره   .....      بدء ففي الأمر إظهار وأسرار
كالبحر بحر على ما كان في قدم   ..... ثمّ الحوادث أمواج وأنهار
ومن حجب بالتعيّن ، طلب الاستبداد والتفرّد بتعيّنه الجزئي إذ لا قدم له في الكلَّية والأحدية الجمعية الإلهية.
ولعن الحضرة الإنسانية لإبليس إذ الجزئية التعيّنية حجاب على العين الكلَّية الأصلية ، والتعيّن طار ولا يكون إلَّا من جهة غلبة جزء من أجزاء ظاهرية المتعيّن أو المعيّن ، فافهم .
فلمّا جمع الله لآدم بين الصورتين  صورة الحقّ وصورة الخلق .
فكان له مرتبة جمع الجمع ، فهي على صورة الله ضرورة كون الحقيقة الإلهية أحدية جمع الحقائق الوجوبية كلَّها المقتضية بالذات لجمع جميع الحقائق الكونية.
وبهذه الجمعية صحّت له الخلافة ، كما نطقت الحقيقة على لسان بعض تراجم الحقائق ، شعر :
أتته الخلافة منقادة      .... إليه تجرّر أذيالها
فلم تكن تصلح إلَّا له      .... ولم يكن يصلح إلَّا لها
ولو رامها أحد غيره      .... لزلزلت الأرض زلزالها
فالإنسان حامل الأمانة التي هي الصورة الإلهية التي حذي آدم عليها .
فإن لم يظهر الخليفة بصورة المستخلف في الرعايا ، لم يطيعوه ، وكان قاصرا عن درجة الخلافة ، فلم يصلح لها ، وإذا لم يكن عنده جميع ما تطلبه الرعايا ، لم يطيعوه ولم يوصل ذلك إلى الجميع جمعا وفرادى ولم يكن خليفة .
وإذ قد جمع الله لآدم بين يديه المبسوطتين بجميع الآلاء والنعماء التي يطلبها الكلّ واستوت الحقيقة الأحدية الجمعية والوجوبية الإلهية على عرش الحقيقة الأحدية الجمعية الإنسانية الكمالية ، ظهر بصورة الله تعالى .
فأوصل نعم الله وآلاءه المخزونة في خزائنه عنده وفيه التي هي حضرات الأسماء وخزائن خزائنة التي هي حقائق القوابل والمظاهر إلى العالم الأعلى الربّاني والعالم الأسفل الكياني ، روحانيّتها وجسمانيّتها ، سماويّها وأرضيّها .
وظهرت جميع الحقائق الوجوبية والنسب الإلهية والربوبية في مظاهرها تماما ، وظهرت أيضا بها الحقائق الخلقية المظهرية في جميع مرائيها ومراتبها ومناظرها ومجاليها الروحانية والمثالية والطبيعية تماما ظهورا فرقانيا تفصيليا .
وكان ظهورها في الخليقة ظهورا جمعيا أحديا كماليا ليس كظهور كلّ منها في كلّ من المظاهر إذ ليس كلّ منها كلّ كلّ منها من كلّ وجه ، فما في بحري الوجوب والإمكان حرف ولا كلمة إلَّا وهي في الإنسان الكامل الفاضل أفضل وأكمل منه ، خارجا عنه .
مع حصول فضيلته الخصيصة به له ، فافهم إن كنت تفهم ، والله الملهم والمعلم .
فما أكمل الإنسان لو عرف قدره ، وملك أمره ، وكمّل سرّه ، ولم يتعدّ طوره ، ولزم مركزية حقيقة الاعتدال ، وتحقّق بحقيقة الإطلاق في الجمع والكمال ! .
حقّقنا الله وإيّاكم معاشر المستعدّين الطالبين لهذه الحقيقة ، والمسترشدين إلى هذه الطريقة بفضله وطوله وقوّته وحوله .
وأمّا استناد العوالم التي كنى عنها الشيخ رضي الله عنه بالرّعايا إلى هذا الخليفة .
وهي الخليقة : فمن حيث إنّ كلّ حقيقة من حقائق ذات الخليفة ونشأته برزخ من حيث أحدية جمعها بين حقيقة ما من حقائق بحر الوجوب وبين حقيقة مظهرية لها من حقائق بحر الإمكان هي عرشها ، وتلك الحقيقة الوجوبية مستوية عليها .
فلمّا ورد التجلَّي الكمالي الجمعي الإلهي على المظهر الكمالي الإنساني ، تلقّاه بحقيقة الأحدية الجمعية الكمالية ، وسرى سرّ هذا التجلَّي في كل حقيقة من حقائق ذات الخليفة ، ثم فاض نور التجلَّي منها على ما يناسبها من العالم .
فما وصلت الآلاء والنعماء الواردة بالتجلَّي الرحماني على حقائق العالم إلَّا بعد تعيّنه في الإنسان الكامل بمزيد صبغة لم تكن في التجلَّي قبل تعيّنه في مظهرية الإنسان الكامل .
فحقائق العوالم وأعيانها رعايا للملك الحقيقي المالك لهم .
وعلى الخليفة رعاية رعاياه على الوجه الأنسب والأليق والأفضل ، وفيه تتفاضل الخلائف بعضهم على بعض ، فاجهد واشهد واكشف ، تشهد ، والله الهادي .
قال رضي الله عنه : ( فما صحّت الخلافة إلَّا للإنسان الكامل فأنشأ صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره ، وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى .
ولذلك قال : « كنت سمعه وبصره » ولم يقل : كنت عينه وأذنه ، ففرّق بين الصورتين ) .

بيان إيجاد الحق صورة ظاهر الإنسان
قال العبد : أمّا إنشاء صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره فمن حيث إنّ ظاهرية الإنسان أحدية جمع جميع الحقائق الكونية وصورها .
فما من ذرّة من ذرّات الوجود من العقل الأوّل إلى آخر نوع من أنواع الموجودات الكونية إلَّا وفي نسخة ظاهر الإنسان الكامل نظيرتها ومندوحتها ، ونسبتها إليه كنسبة الأصل إلى الفرع .
ونسبة حقائق ذات الإنسان وصورها إلى حقائق العالم وصورها نسبة الأصل إلى الفرع ،
ولقد ذكرنا نظائر حقائق العالم وصورها من الإنسان الكامل في الشرح الكبير ، وربما يحشو حشو حواشي هذا المختصر شيء من ذلك ، حتى يكون الكتاب كافيا وافيا.
والله الموفّق والمؤيّد والمعين .




بيان إظهار صورة باطن الإنسان الكامل
وأمّا إنشاء الله تعالى صورة باطن الإنسان على صورته تعالى فهو أنّ الإنسان الكامل حاو ، جامع لجميع الأسماء الإلهية الفعلية الوجوبية وجميع نسب الربوبية فإنّه أعني الإنسان الكامل واجب الوجود بربّه.
عرش لله بقلبه ، فهو حق ، واجب الوجود ، حيّ ، عالم ، قدير ، مريد ، متكلَّم ، سميع ، بصير وهكذا جميع الأسماء ، ولكن بالله على الوجه الأجمع الأكمل .
وصورة الله التي خلق الله آدم عليها هي أحدية جمع جميع هذه الحقائق الربانية الإلهية على الإطلاق ، لا غير ، فباطن الإنسان على صورة الله ، وظاهره على صورة العالم وحقائقه.
والظاهر مجلى ومرآة للباطن ، والباطن متعيّن في الظاهر وبه بحسبه كما عيّن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما أسنده إلى الله تعالى أنّه قال :
"كنت سمعه وبصره " ولم يقل عينه وأذنه ، ففرّق بين صورته الظاهرة وصورته الباطنة .
يريد رضي الله عنه في هذا ، الحديث ، وإلَّا ففي غيره التعميم والشمول على صورتية الظاهرة والباطنة ، ولا تظنّنّ قولنا : " صورته الظاهرة " جسمانية فقط فليس المراد ذلك .
بل خليقته من جسم وروح ، وقوى وعقل ، ومعان وصفات وغيرها ممّا يصدق إطلاق الخليقة وما سوى الله عليه ، فالهيئة الجمعية من جميع ما ذكرنا هي صورته الظاهرة .
فبهذا كان الإنسان الكامل بظاهره صورة العالم الأحدية الجمعية .
وقيل : فيه العالم الصغير ، أي من حيث الصورة .
والذي يتضمّن هذا الحديث من الفرق بين الصورتين والتخصيص فهو أنّ السمع والبصر حقيقتان ملكوتيّتان وإلهيّتان للنفس أو للروح كيف شئت وأمّا العين والأذن فهما آلتا إدراك المبصرات والمسموعات بالنسبة إلى من إدراكه مقيّد بالآلات ما دام كذلك .
وأمّا سمع الحق وبصره اللذان تسمّى بهما فغير متوقّف على الآلة والجارحة ، فذكر في هذا الحديث الأليق بجنابه تعالى لأهل العموم بلسانهم .
وإلَّا فإنّ الإدراكات بالآلات والجوارح كلَّها ، وقد يسري النور في باطن المحقّق المتحقّق بهذا المقام إلى ظاهره وأعضائه وجوارحه ، كما جاء في اليد والرجل واللسان والقدم والطريق ، والله وليّ التوفيق .
قال رضي الله عنه : ( وهكذا هو في كل موجود في العالم بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود ، ولكن ليس لأحد مجموع ما للخليفة ، فما فاز إلَّا بالمجموع ) .
يعني رضي الله عنه :
أنّ الحق متعيّن في كل جزء جزء من العالم بحسب خصوصيته لا غير ، فاشترك الكلّ في مطلق المظهرية ، وافترقت في الخصوصيات .
ففاز الإنسان بخصوص الجمع بين جميع الخصوصيات المظهرية ، ففاز بظاهره بالاسم « الظاهر » من جميع الوجوه ، وبباطنه بالاسم " الباطن " كذلك ، وكان الجامع لأحديّة جمعها على الوجه الأجمع الأحسن .
قال رضي الله عنه : ( ولولا سريان الحق في الموجودات بالصورة ، ما كان للعالم وجود ، كما أنّه لولا تلك الحقائق المعقولة الكلَّية المذكورة ، ما ظهر حكمها في الموجودات العينية .
ومن هذه الحقيقة كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده ) .
قال العبد أيّده الله به :
قد أعلمناك فيما تقدّم أنّ الله خلق آدم على صورته وعلى صورة الإنسان العالم ، وأنّ الصورة التي خلق آدم عليها صورة معقولية أحدية جمع جميع الأسماء ، وأنّ العالم بجميع أجزائه جمعا وفرادى مظاهر الأسماء ، التفصيلية ، وأنّه الصورة الإنسانية الفرقانية ، وأنّ صورة الإنسان الكلي على صورة العالم أو حقائقه تماما ، وأنّ صورة باطنه صورة الله .
فتذكَّر جميع هذه الأصول ، واعلم أنّه ما من موجود من الموجودات ولا شيء من الأشياء إلَّا وهو مظهر ومرآة ومحلّ ظهور للوجود الحق الظاهر فيها والساري بأحدية جمع الصور الإلهية في الكلّ.
إذ النفس الرحماني يقتضي  النور الوجودي الإلهي الفائض على المظاهر الكيانية بالصورة الربانية الأحدية الجمعية .
ولكن ظهورها في كلّ مجلى وتعيّنها في كلّ مظهر إنّما يكون بحسب القابل لا بحسب الصورة كظهور النور الكبير في المرآة الصغيرة .
فإنّه صغير ومتشكَّل بشكلها ، وكان المراد الأوّل الأولى والمقصد الإلهي الأعلى الأجلى من الإيجاد هو التجلَّي الإلهيّ بصورته في أحدية جمع النفس الساري في حقائق العالم .
ولولا هذا السريان النوري الوجودي بالصورة المقدّسة الأحدية الجمعية الإلهية في حقائق هذا المجلى المشهود الموجود ، ما وجد موجود ، ولا شهود مشهود.
فافتقار العالم إلى الموجد من أهل هذه الحقيقة ، حتى يحصل له شرف المظهرية لصورته تعالى فإنّ المخلوق على الصورة التي هي مخلوقة على الصورة الإلهية يكون على الصورة الإلهية يكون على الصورة .
قال رضي الله عنه : شعر :
فالكلّ مفتقر ما الكلّ مستغن     ...... هذا هو الحق قد قلناه لا نكني
فإن ذكرت غنيّا لا افتقار به     ..... فقد علمت الذي من قولنا نعني
فالكلّ بالكلّ مربوط فليس له   ....... عنه انفصال خذوا ما قلته عنّي
قال العبد - أيّده الله به - : اعلم :
أنّ الله - سبحانه وتعالى - بجميع نسبه الذاتية موجب لوجود العوالم والمظاهر ، ومستلزم لمتعلَّقات حقائقة الوجوبية ، ودقائق سائر أسماء الربوبية .
وتلك المتعلَّقات هي حقائق المخلوقية والمربوبية ، فهي واجبة الوجود بإيجاب الواجب الوجود بالذات لها ، ولولا هذه الحقائق المظهرية من أكوان عالم الإمكان ، لما ظهرت الصورة الإلهية المقدّسة الأحدية الجمعية الذاتية .
فشمل الافتقار نسب الربوبية وحقائق المربوبية ، بيد أنّ افتقار العوالم إلى الحق في التحقيق بالحقيقة والوجود على التعيين .
وليس كذلك افتقار النسب الأسمائية ، فإنّ الوجود هو المسمّى بجميع الأسماء ، المتعيّن بجميع النسب ، فما بها افتقار في الوجود والتحقيق إلى العالم .
ولكن في ظهور الآثار والأحكام لا غير ، ومع ذلك فلا افتقار بها إلى عالم معيّن أو مظهر شخصيّ مبيّن ، بل يوجب بالذات لها مظاهر لا على التعيين إلى أبدا الآبدين ، كما هو مقتضى ذاته المقدّسة من الأزل دهر الداهرين . فافهم .
واعلم : أنّ فلك الوجود الحقّ محيط بالموجودات العينية والغيبية ، وهويّته المحيطة وأوّل تعيّنه الذاتي بفلك الإلهية ، وهي محيطة بأفلاك الأسماء الإلهية .
ثم أفلاك الأسماء محيطات بحقائق مظاهرها الكيانية ، وهي أجناس العوالم وأنواعها وأصنافها وأشخاصها ، ودائرة فلك الهوية الكبرى الذي للوجود الحق فلك محيط بجميع الأفلاك .
وجميعها منحصر في أربعة أفلاك :
فلك اللاتعيّن والإطلاق الوجودي العيني الحقيقي ، وفلك التعين الأوّل الأحدي الجمعي الأكبر .
وهو من الوجود الحق كالقلب من الإنسان ، وهذا الفلك محيط بفلكين عظيمين كلَّيّين محيطين بسائر الأفلاك التفصيلية الآتي حديثها في مواضع ، مواقعها فلك الإلهية المحيطة بجميع نسبها وأسمائها  بالفلك الكوني المظهري من المعلول الأوّل إلى آخر صورة توجد من آخر نوع وجد .
ثم اعلم : أنّ فلك كل حقيقة من نقط محيط فلك الإلهية وهي عبارة عن نسب الربوبية والحقائق الوجوبية إنّما يتمّ بفلك متعلَّقها من العالم .
فكل فلك من أفلاك حضرات الأسماء مقسوم بقوسين كلَّيّين متساويين مساويين مجموعهما من محيط الفلك الدائر .
فالقوس الأعلى لنسب حقيقة فلك الاسم « الله » ونسبها ولوازمها نقط محيط دائرة متعلَّقة الحبائل ، متّصلة الرقائق والجداول بنقط محيط القوس الآخر الخصيص بمرتبة الكون المظهري .
والمجموع فلك كامل ، فأفلاك الإلهية ونقط محيطها مربوطة بأفلاك العوالم ونقط محيطها ، فالكلّ مفتقر ، ما الكلّ مستغن.
وهذا معنى قول الكامل :
" فالكلّ بالكلّ مربوط ، فليس له  ..... عنه انفصال خذوا ما قلته عنّي " .
وأنّى الانفصال والافتراق والحقيقة الكلية مقتضية للاتّصال والاتّفاق والائتلاف والاعتناق ؟
" وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناه ُ طائِرَه ُ في عُنُقِه ِ " .
فإذا قامت قيامة التفصيل ، وتمّت مقامات التوصيل والتحصيل ، وبعثرت قبور النشور ، وبسطت أرض الحشر والنشور .
فيوم القيامة يلقاه كتابا منشورا ، سنذكر ما يبقى من تتمّة هذا السرّ في الموضع الأليق به ، إن شاء الله تعالى .
وأمّا قوله :
فإن ذكرت غنيّا لا افتقار به   ..... فقد عرفت الذي من قولنا نعني
فإنّه - رضي الله عنه - يشير إلى الغنى الذاتي الحقيقي الأحدي ، القاهر أعيان الأغيار ، والموجد كثرة النظراء والنظَّار " كان الله ولا شيء معه " " هُوَ الله أَحَدٌ الله الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ ".
لم يوجب من حيث ذاته الغنيّة معنى الإنتاج والإيجاد ، ولا يقتضي الإظهار والإشهاد لأنّه بالذات كامل أبدا الآباد " وَلَمْ يُولَدْ " لم ينتج من أصل مقدمات منتجة " وَلَمْ يَكُنْ لَه ُ " لا يكون للهوية الكبرى المحيطة بالكلّ مثل ولا كفؤ من أحد معيّن ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( فقد علمت حكمة نشأة جسد آدم أعني صورته الظاهرة ) .
التي هي أحدية جمع جميع الحقائق المظهرية الخلقية روحانيّتها العقلية والنفسيّة ، وجسمانيّتها الطبيعية والعنصرية والمثالية والبرزخية والحشرية.
( وقد علمت نشأة روحانيّة آدم ، أعنى صورته الباطنة ، فهو الحق الخلق ) أي باطنه حق ، وظاهره خلق .
( وقد علمت نشأة رتبته وهي المجموع الذي به استحقّ الخلافة .
فآدم هو النفس الواحدة التي خلق منها هذا النوع الإنساني .
وهو قوله : " يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً ").

قال العبد : اعلم :
أنّ أبانا عليه السّلام صورته ظاهرية أحدية جمع جميع الجمعيات ، وهو أوّل الختوم في المرتبة الظاهرة ، به ختم صور الأنواع الوجودية ، وهو بمثابة البشرة من وجه الصورة الإلهية ، ولهذا كان أبا البشر ، وجميع الصور البشرية بهذه المثابة من صورة اللاهوت .
ولمّا كان صلَّى الله عليه وسلَّم صورة ظاهرية أحدية جمع جميع الجمعيات الإلهية والكونية المنبعثة من جمعية التعين الأوّل الحقيقية والطبيعية الكلَّية والنفسية العمائية .
فهو صلَّى الله عليه وسلَّم أوّل صورة أحدية جمع الجمع بين الحقائق الوجوبية بالفعل والتأثير وبين الحقائق الكونية بالانفعال والتأثّر ، وذلك في أوّل النشأة الأحدية الجمعية .
وإنّما كان نفسا واحدة لأنّ الواحد أصل العدد ومنشؤه ولعدم صدور غير الواحد عن الواحد .
ولمّا كان المراد من خلق آدم وجود الخليفة على الوجه الأكمل الأجمع بين المجموع والمفصّل.
أخرج الله من هذا الأصل بعدد ذرّيّته وعدد ما يحويه النفس الواحدة الكلية الإلهية ، صورة أحدية جمع جميع الحقائق الانفعالية القابلة صور الجمعيات الكمالية وسمّاها « حوّاء » من الحواية وهي الجمع على صورة آدم من الطينة الطبيعيّة التي لها الجانب الأيسر .
كنى عن هذه الحقيقة بأنّها خلقت من ضلع أعوج لأنّ الطبيعة من حقيقتها الاعوجاج إلى الظهور والتعيّن ، فأظهر الله من هذين الأبوين صور كليات صور أحديات جمعيات جميع الحقائق الجمعية المظهرية الإنسانية .
فكانت حوّاء تنتج للأب ولدين في كل بطن بمقتضى الأصل الذي كان في بطنه صور الحقائق الفعلية والانفعالية معا وهو حقيقة الحقائق والتعيّن الأوّل ، فافهم إن شاء الله تعالى .
ثم قال رضي الله عنه : ( فقوله : " اتَّقُوا رَبَّكُمُ " اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربّكم ، واجعلوا ما بطن منكم وهو ربّكم وقاية لكم فإنّ الأمر ذمّ وحمد ، فكونوا وقايته في الذمّ ، واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين ) .
قال العبد :
لمّا كان ظاهرية آدم من مجموع العالم الكياني ، والعالم من حجابيته مجمع النقائص والمذامّ الخصيصة بالمقام الإمكاني ، فالأفعال والأخلاق والأحكام الصادرة عن الإنسان ، إن كانت قبيحة يستحقّ عليها المذمّة إمّا عرفا أو عقلا أو شرعا .
فالأحرى والأليق أن ينسبها إلى نفسه أدبار وتحقيقا ، ناظرا في ذلك نظرا دقيقا فإنّ الصادر من الحق خير محض ، وهو الواحد لا غير فإنّه بالنسبة إلى من وجد به خير محض ، والنقائص والقبائح راجعة إلى الكيان من حضرة الإمكان .
والعدم الذي يلي أحد جانبي الإمكان بالنسبة إليه أولى ، وما كان فيها من الكمال والفضائل والمحاسن والمحامد أضاف إلى الحق لأنّها في الحقيقة راجعة إلى الوجود الحق .
وحينئذ يكون العبد قد جعل نفسه وقاية للحق في إضافته المذامّ إلى نفسه كما قال : " ما أَصابَكَ من حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَما أَصابَكَ من سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ " .

والحقّ أنّ الحقّ وقاية لنفسه في إضافة المحامد إليه ونفي المذامّ عنه من وجهين وباعتبارين جمعا وفرادى ، وإليه يرجع عواقب الثناء ، وهذا مقتضى التحقيق الأتمّ ، والكشف الأعمّ ، والأدب الكامل الأهمّ ، ولمثل ذلك فليعمل العاملون .
قال رضي الله عنه : ( ثم الله أطلعه على ما أودع فيه ، وجعل ذلك في قبضتيه :القبضة الواحدة فيها العالم ، والقبضة الأخرى فيها آدم وبنوه ، وبيّن مراتبهم فيه ) .



قال العبد أيّده الله تعالى به اعلم :
أنّ الكمّل من الصورة الأحدية الجمعية الإنسانية لا بدّ لهم أن يريهم الله ويشهدهم صور تفاصيل ما أودع فيهم تشريفا لهم وتكميلا وتفهيما لهم بحقائقه التي أودعها فيهم وتوصيلا .
وكذلك أشهد آدم عليه السّلام صور تفاصيل النشأة الإنسانية في مقامي الجمع والفرق المشار إليهما بالآفاق والأنفس .
فأشهد جميع العالم في القبضة الواحدة وهي اليسار عرفا اصطلاحيّا وأشهد آدم وذرّيّته في الأخرى ، وهي اليمين كذلك ، وكلتا يدي ربّي يمين مباركة ، والحديث مشهور .
 
وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ 
 
إشارة إلى عناوين فصوص الكتاب
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لمّا أطلعني الله تعالى في سرّي على ما أودع في هذا الوالد الأكبر ، جعلت في هذا الكتاب ما حدّ لي منه ، لا ما وقفت عليه فإنّ ذلك لا يسعه كتاب ، ولا العالم الموجود الآن ) .
قال العبد :
فكما أطلع الله هذا الوالد الأكبر من كونه أحدية جمع ظاهرية الصورة الجمعية الأحدية الإنسانية الكمالية الإلهية على ما أودع فيه من أسرار مظهريّات الأولاد .
كذلك أطلع وأشهد خاتم الولاية الخاصّة المحمدية ، الجامع لجميع الكمالات الأحدية الجمعية الإنسانية ، والجامع لجميع الجمعيات جميع ما أودع في الوالد الأكبر عليه السّلام من صور أحديات جمع الجمعيات الكمالية من بين جميع الكمالات النبوية .
ما أمر رضي الله عنه بإظهار حقائق كل ذلك ، ولكن بإظهار ما حدّه له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خاتم نبوّة التشريع .
وصورة جمع جميع التفاصيل النبوية والرسالتية ونسب الربوبية وحقائق الأسماء الوجوبية المتعلَّقة بالوضيع والرفيع ،والله يقول الحقّ وهو المجيب البصير السميع.
قوله رضي الله عنه : « لا يسعه كتاب ، ولا العالم الموجود الآن » إشارة إلى أنّ العالم أحكم كتاب يعوّل إليه وعليه ، كتبه الله بقلمه الأعلى ، وفسّره في لوحه المحفوظ الأجلى.
وحروفه الحقائق الذاتية والوصفية والفعلية والحقيّة والخلقية الربانية والكيانية ، وهو أي العالم الموجود الآن كتاب مبيّن جميع الخفيّات والجليات من الكمالات .
وهو وإن حصل على كمالات لا تتناهى فليس إلَّا كتابا واحدا .
ولكنّ الله له كتب كثيرة تمثّلها الحقيقة الروحية العلمية الإنسانية الكمالية أبد الآبدين ، ولن يزال خلَّاقا موجدا دهر الداهرين ، وصلَّى الله على محمد خاتم النبيّين ، وعلى ورثته الكمّل المقرّبين .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فممّا شهدته ممّا نودعه في هذا الكتاب كما حدّه لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حكمة إلهية في كلمة آدمية وهو هذا الباب).
قال العبد :
هذه الحكمة مخصوصة بحضرة الألوهية وإن كانت الحكم كلَّها إلهيّة ، ولكن بين آدم عليه السّلام وبين الله تعالى نسب جامع ، ونسب تعريفك بها لك نافع وذلك أنّ الإلهية كما مرّ أحدية جمع جميع الحقائق الوجوبية ، وآدم أحدية جمع جميع الصور البشرية الإنسانية .
وقد ذكر شيخنا الإمام الأكمل أبو الأولاد الإلهيّين الكمّل ، سند الورثة المحمدية ، سيد الإخوان في الوراثة الإلهية الكمالية ، صدر الحق والدين ، محيي الإسلام والمسلمين ، أبو المعالي ، محمد بن إسحاق بن محمد بن يوسف رضي الله عنه في كتاب له ، لطيف الحجم ، محيط بكثير من جمل هذا العلم ، قريب المأخذ لأولي الألباب وذوي الفهم .
ولم يحضرني عند تعليقي هذا الشرح ، وكان فيه غناء عن شرح هذه التراجم والفهرست ، ولكن وارد الوقت يملي على الكاتب ما يجب البحث عنه ممّا أشار إليه الشيخ ، وممّا يفتح الله للناس من رحمة .
" وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ".
من ذلك : أنّ « الألوهة » و « الألوهية » و " الإلهية " كلمات ثلاث دالَّات على أحدية جمع جميع الكمالات الوجوبية الواجبية الواجبة للنسب الذاتية وأسماء الربوبية وذلك بحسب الاختلاف التركيبي الواقع بين حروفها لفظا مع الاشتراك الأصلي في الدلالة ، كذلك أيضا دلالتها على هذه الحقيقة بحسب مراتبها في مشربنا وذوقنا .
فالألوهة اسم لمعقولية المرتبة المطلقة التي لذات الله الواجب الوجود في مقابلة العبودة الذاتية ، التي هي اسم لمعقولية المرتبة المطلقة الخلقية التي للعالم المقيّد ، فكما أنّ العبودة مرتبة ذاتية للعبد معقولة ، كذلك الألوهة مرتبة لله معقولة سرّا اعتبرناها له متحقّقة به وجودا .
أو لم نعتبرها كذلك دالَّة على المرتبة الواجبية الفعّالة الموجدة لا غير ، وهي أحدية جمع جميع النسب الأسمائية من حيث معقوليّاتها وخصوصيّاتها ، ومن كونها في ذات الواجب عينها غير زائدة عليها .
والألوهيّة : اعتبار هذه الحقيقة المرتبية قائمة بالذات مضافة إليها ، ودلالتها دلالة أحدية جمعية بين معقولية المرتبة الأحدية الجمعية ، وبين الذات الواجبة من حيث أحديتها الجمعية الذاتية الخاصّة بالله فقط .
والإلهيّة : اعتبار هذه الحقيقة لله موجودة الأحكام والآثار ، ظاهرة النسب واللوازم والعوارض بالفعل في جميع الحضرات عرفا تحقيقيا . فاعلم هذه الفروق بين هذه الكلمات فإنّها لطيفة .
ومنها : أنّ آدم عليه السّلام كما هو صرة ظاهريّة الأحدية الجمعية الإنسانية البشرية ولهذا سمّي آدم اشتقاقا من أديم الأرض وأديم الوجه ، وهو ظاهرهما .
ويكنّى لذلك أبا البشر اشتقاقا من بشره الوجه ، وهي ظاهريته التي تباشرها الأبصار والعيون ، ووجه كل شيء حقيقته الأحدية الجمعية ، ووجه الإنسان مستقبلة وأحدية جمع حواسّه الخمسة الظاهرة كما علمت فالإنسانية الكمالية ، لها من صورة الله مثابة الوجه من صورة الإنسان ، وهي متحقّقة في جميع الختوم الكمّل كما ستعلم ذلك في شرح الحكمة الشيثية .
إن شاء الله تعالى والذي يختصّ بآدم من الجمعية الإنسانية الإلهية الكمالية هو ظاهريّتها الظاهرة لا غير ، فهو أبو البشر ، مؤمنهم وكافرهم ، موحّدهم ومشركهم ، أنبيائهم وأوليائهم وكذلك الإلهية ظاهرية المرتبة الأحدية الجمعية الربانية ، بخلاف الألوهية التي هي باطنها ، والألوهة التي هي معقولية المرتبة لا غير .
والحكم المنزلة على آدم عليه السّلام الواقعة في صورة حاله من دخوله الجنّة ، ونعيم الحقّ له ولزوجه فيها أوّلا ، ثم هبوطه إلى الأرض .
وتشهير نسبته إلى العصيان الظاهر ظاهرا ، وإلى الغواية المذكورة ، وغير ذلك كلَّها أحدية جمعية ظاهرة على الوجه الكمالي الإجمالي .
وفيه مترع للبسط فيه مجال ، وفيه أسرار وحكم كثيرة لا نذكرها في هذا الاختصار ، لكونها من الأسرار العالية التي لم يأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خاتم الولاية الخاصّة المحمدية بكتابتها في هذا الكتاب ولكون أكثر الأفهام تنبو عنها لعلوّ مرتبتها ومجدها .
ولكن سنكشف هذه الأسرار في كتب توضع لذلك في وقته ، وفيما ذكرنا تنبيه وتلويح وتشويق ، والله وليّ التأييد والتوفيق .
قال رضي الله عنه : (ثم حكمة نفثية في كلمة شيثية).
قال العبد : اعلم :
أنّ الترتيب الواقع في هذا الفهرست ، إنّما هو ترتيب رتبي عيني ، وتأخّر وتقدّم وجودي عيني بين هذه الحكم بموجب المناسبة الرتبية .
وفصّ كل حكمة إنّما هو قلب ذلك النبيّ الكامل الذي أسندت تلك الحكمة إلى كلمتها الخصيصة بها ، والحكم نقوش العلوم الخاصّة بالأحكام التي أمر النبي أمّته بها ، وظهرت فيهم على الوجه الذي تقتضي تلك الحضرة ، ولكن ذكرها هاهنا من حيث الحضرة الأحدية الجمعية الكمالية الخصيصة بالمرتبة الختميّة  المحمدية في كل حضرة ، فافهم .
و « النفث » لغة نوع من النفخ ، وهو إرسال النفس من مخرج حرف الثاء مضموما إرسالا رخوا ، والنفث مخصوص بأهل علم الروحانية والنيرنج والعزائم والرقى شرعيّها وحكمتيّها .
وهو بثّ الروحانية وبسطها في النفس على ما ينطوي عليه الباطن من العزائم . قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم : " إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ نفسا لن تموت ، حتى تستكمل رزقها " .
ولمّا كانت الحكمة الجمعية الأحدية المبدئية الخصيصة بحضرة الألوهية قد كملت بآدم ،وتليه في المرتبة مرتبة الفيض الجودي والوهب الجودي بالنفس الرحماني.
وهذه المرتبة الوهبية مخصوصة بالكلمة الشيثية ، فإنّه أوّل إنسان نزلت عليه العلوم الوهبية الدينية ، فنزلت عليه علوم الروحانيات ، والملائكة الخصيصة بالتسخير والتصريف والتصرّف في الأكوان بالأسماء والحروف والكلمات والآيات وما شاكل ذلك.
فلهذه المناسبة الأصلية ، ذكر رضي الله عنه حكمة النفث بعد الحكمة الإلهية ، وأضافها إلى شيث عليه السّلام كما أضاف الحكمة الأولى إلى آدم .
و « شيث » في اللغة العبرانية هو الهبة ، وكان أوّل من وهبه الله آدم بعد تفجّعه على فقد هابيل ، فعوّض الله له عن هابيل شيثا ، وسيرد في داخل الفصّ تتمّة البحث .
قال رضي الله عنه : (ثم حكمة سبّوحية في كلمة نوحيّة.)
قال العبد أيّده الله به :
أمّا وجه إضافة هذه الحكمة إلى الحضرة السبّوحية فهو أنّ الغالب على الدعوة النوحية التنزيه والتقديس على ما سيجيء في شرح المتن .
وأولى تعيّن من المراتب الأسمائية بعد تعيّن المرتبة الإلهية هي مراتب أسماء التنزيه والإطلاق والتقديس ، ثم تتعين النسب الثبوتية .
وبعد تعين مرتبة الفيض والنفث ، إنّما وجد أوّلا عالم الأرواح والعقول والمجرّدات التي لها من معرفة الحق قسم التنزيه والتسبيح والتقديس .
ولهذا كان الحكمة الثالثة
فالأوّل حكم الجمع
والثاني مرتبة الفيض والوهب
والثالث إيجاد عالم التنزيه والتقديس .
ولأنّ الغالب على أمّة نوح عليه السّلام الأمور الظاهرة وعبادة أنواع الأصنام ، وجب أن تكون من الله دعوة نبيّهم إلى التنزيه والتطهير عن التحديد والتجسيم تعليما أنّ ما يعبدون لا يصلح للعبادة .
ولهذا نزلت هذه الحكمة على نوح ، وقلبه عليه السّلام محلّ نقش هذه الحكمة ، فهذا ما أردنا من تفسير قوله : فصّ حكمة سبّوحية في كلمة نوحية  .
قال رضي الله عنه : (ثم حكمة قدّوسيّة في كلمة إدريسية)
اعلم : أنّ « التسبيح » كما علمت حمد الحق تعالى والثناء عليه بالأمور السلبية ونفي النقائص عن الجناب الإلهي ، وتنزيهه عن التشبيه والتحديد والتقييد . وكذلك « التقديس » هو التنزيه عن النقائص وعن صلاحية قبول جناب الله تعالى ذلك وإمكانه فيه فإنّ ذلك مستحيل إضافته « 2 » إلى جنابه تعالى لكونه غنيّا عن العالمين ولكون جنابه تعالى أحدية جمع الكمالات الإحاطية وجودا ومرتبة .
والفرق بين التنزيه النوحي والإدريسي :
أنّ دعوة نوح عليه السّلام وذوقه تنزيه عقلي .
وتنزيه إدريس عليه السّلام عقلي ونفسي .
فإنّ إدريس عليه السّلام ارتاض حتى غلبت روحانيته على طبيعته ومزاجه وتروحن ، وكان كثير الانسلاخ والمعراج ، وخالط الملائكة والأرواح ، وعاشرهم وخرج عن صنف البشر ستّ عشرة سنة ، لم ينم ولم يأكل حتى بقي عقلا مجرّدا ، وعرج به إلى السماء الرابعة .
بخلاف نوح عليه السّلام لأنّه كان قائما بحظَّ النفس والروح ، وتزوّج وولد له .
وهو الأب الثاني ، فتنزيه إدريس أبلغ وأتمّ .
فإنّه نزّه الحق من حيث تعيّنه في عينه عن أوساخ الطبيعة والجسمانية ، وبقي في نفسه عقلا مجرّدا ، وسقطت عنه شهوته ، كما يرد عليك ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة مهيمنيّة في كلمة إبراهيمية ) .
قال العبد :
هي شدّة العشق وغلبة الهيمان ، وهو عدم الانحياز إلى غرض معيّن ، بل إلى المحبوب في أيّ جهة كان لا على التعيين .
وهذه المرتبة تحقّقت أوّلا في الأرواح العالية المهيّمة ، تجلَّى لهم الحق في جلال جماله ، فهاموا فيه ، وغابوا عن أنفسهم فلا يعرفونها ولا غير الحق ، وغلب على خليقتهم حقيقة التجلَّي ، فاستغرقهم واستهلكهم وملكهم .
وتحقّق ذلك فيمن تحقّق من كمّل الأنبياء إبراهيم عليه السّلام لأنّه كان خليل الرحمن .
والخليل هو المحبّ الحبيب الذي يتخلَّل في خلال روح المحبّ والمحبّ في الحبيب .
كما قال : تخلَّلت مسلك الروح منّي .
ولهذا سمّي الخليل خليلا ، والخليل عليه السّلام غلبته محبّة الحق ، حتى تبرّأ عن أبيه في الحق وعن قومه ، وذبح ابنه في سبيل الله ، وخرج عن جميع ماله مع الكثرة المشهورة لله .
كما قيل عنه : إنّ ملائكة الله تعالى قالوا : لا بدّ مع هذا الخير والبركة والنعمة والمال والوجاهة والنبوّة والملك والكتاب الذي أعطى الله إبراهيم أن يحبّه وليس ذلك بجنب هذه العطايا كثيرا .
فقال الحق لهؤلاء الملائكة : جرّبوه ، فتجسّدوا له في صور البشر .
وذكروا الله له بالتنزيه ، فقالوا :سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح .
فلمّا سمع إبراهيم عليه السّلام هذه الكلمات ، أخذه الوجد والهيمان في الله تعالى ، واستدعى منهم أن يعيدوا عليه الكلمات .
فطلبوا من ماله أجراء على إعادة الكلمات ، فأعطى ثلث ماله .
 فذكروا الذكر ، فاستعاده منهم كرّة أخرى ، وأعطاهم الثلث الثاني .
 فسبّحوا له الله بالمذكور من الذكر ، فطاب وقت إبراهيم وازداد هيمانه فاستعاد الكلمات منهم ، وأعطاهم الثلث الباقي .
فأعادوا له ، فلمّا تمّ امتحانهم له ، ذكروا أنّهم ملائكة الله ، فلهذا نسبت هذه الحكمة إلى إبراهيم عليه السّلام .

.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة الجزء الخامس .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 5:34 pm

 01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة الجزء الخامس .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم 

01 . فصّ حكمة إلهية في كلمة آدميّة الجزء الخامس

قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة حقّيّة في كلمة إسحاقية ) .
اعلم : أنّ عالم المثال المقيّد وهو عالم الخيال إذا شوهدت فيه صورة وتجسّد له المعنى أو الروح في صورة مثالية أو خيالية ، ثم إذا رجع إلى الحسّ ، وشاهد حقّية ذلك على الوجه المشهود .
فقد جعله الله حقّا ، أي أظهر حقّية ما رأى في الوجود العيني حسّا ، فإنّ الخيال لا حقيقة له ولا ثبات ، كما قال يوسف عليه السّلام : " هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " .
وكان هذا حال إبراهيم عليه السّلام في مبدئه ، فكان لا يرى رؤيا إلَّا وجد مصداقها في الحسّ ، ورأي حقيقتها عينا ، فكان عليه السّلام لا يؤوّل رؤياه ، وهو نوع من الكشف الصوري .
وسرّ ذلك أنّ الوارد إذا نزل من الخارج على القلب .
ثم انعكس من القلب إلى الدماغ ، فصوّرته القوّة المصوّرة في المتخيّلة وجسدّته ، خرج على صورة الواقع لأنّ عكس العكس مطابق للصورة الأصلية ، فيشاهد صاحب الكشف المذكور شاهد الوارد مطابقا للصورة الأصلية على ما رآه في عالم المثال .
وقد شاهدت هذا من أبي رحمه الله في صغري كثيرا فكان رحمه الله يرى رؤيا ويحكيها لي ،ثم يقع في الحسّ على ما رأى ، فيتعجّب ويسرّ بذلك.
وكان مشاهد إبراهيم عليه السّلام على هذا ، وقد يعود ذلك ، ثم لمّا نقله الله إلى ما هو أعلى ، وتحقّق برتبة الكمال ، فصار قلبه محلّ الاستواء الإلهي وينبوع تنوّع التجلَّيات ومنبعث أنوار الواردات الخارجة إلى الكون .
فانبعث الوارد بمعنى القربان من قلبه إلى القوّة المتخيّلة ، فصوّرت له المصوّرة ذلك القربان وهو الكبش على صورة إسماعيل لكونه صورة السرّ الذي أوجب عليه القربان .
فلمّا استيقظ لم يفسّر رؤياه بموجب مقتضى عالم الخيال ، بل جرى على سيرته الأولى على ما اعتاده.
وكان مشهد إسماعيل عليه السّلام أيضا من هذا المشرب .
فلمّا قال له : "يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى في الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ " أي لله قربانا ، فلم يزل إسماعيل عن معهود المشهود ، واستصحب الحال.
فقال :" يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ " .
فصرّح أنّ الوحي إليه كان بهذا الطريق ، ولهذا السرّ أضيفت هذه الحكمة الحقّية إلى الكلمة الإسحاقية ، وسنذكر في داخل شرح المتن سرّ الحقيقة .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة عليّة في كلمة إسماعيلية ) .
إنّما أسندت هذه الحكمة إلى الاسم « العليّ » لما شرّف إسماعيل عليه السّلام بقوله :
" وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا " ولأنّه كان صادقا في الوعد ، وذلك دليل على علوّ الهمّة في القول والفعل ، كما سنذكر .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة روحية في كلمة يعقوبية ) .
وحكمة إضافة هذه الحكمة إلى الروحية لأنّ الغالب على ذوق يعقوب عليه السّلام كان علم الأنفاس والأرواح ، حتى ظهر في وصاياه وإخباراته ، مثل قوله : "إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ".
ووصيّى بنيه فقال : " لا تَيْأَسُوا من رَوْحِ الله إِنَّه ُ لا يَيْأَسُ من رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ " وذوق أهل الأنفاس عزيز المثال ، قد جعل الله لهم التجلَّي والعلم في الشمّ .
قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : " إنّي لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن ".
 قيل : إنّه عليه السّلام ، كنى بذلك عن الإبصار وهم صور القوى الروحانية التي نضرتهم على صور القوى الطبيعية ، واليمن أيضا من اليمين ، وهو إشارة إلى الروحية وعالم القدس .


قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة نورية في كلمة يوسفية ) .
أضاف رضي الله عنه حكمة النور إلى الكلمة اليوسفية لظهور السلطنة النورية العلمية المتعلَّقة بكشف الصور الخيالية والمثالية .
وهو علم التعبير على الوجه الأكمل في يوسف عليه السّلام فكان يشهد الحقّ عند وقوع تعبيره ، كما قال " قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " فأشار إلى حقيقة ما رأى ، وأضاف إلى ربّه الذي أعطاه هذا الكشف والشهود .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة أحدية في كلمة هوديّة ) .
وجه نسبة هذه الحكمة إلى هود عليه السّلام هو أنّ الغالب عليه شهود أحدية الكثرة ، فأضاف لذلك إلى ربّه أحدية الطريق بقوله : " إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ".
 وقال :" ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها " فأشار إلى هوية ، لها أحدية كثرة النواصي والدوابّ .
قال رضي الله عنه: ( ثم حكمة فاتحية في كلمة صالحية ) .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ حكمته منسوبة إلى الفاتح والفتّاح ، فانفلق الجبل له في إعجازه ، ففتح الله له عن الناقة ، وفتح الله له على قومه بذلك ، فكان موجب إيمان بعض أمّته وإهلاك بعضه في وجود الناقة ومدّتها .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة قلبية في كلمة شعيبية ) .
كان الغالب على دعوة شعيب الأمر بالعدل وإقامة الموازين والمكاييل والأقدار .
كما قال : " وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ " كلّ هذه الإشارات تدلّ على رعاية العدل وأحدية الجمع والاعتدال .
وكما أنّ العدل في حفظ صحّة جميع البدن وسقمه إلى القلب ، والقلب له أحدية جمع القوى الروحانية والقوى الجسمانية ومن القلب ينشعب الروح الطبيعي إلى كل عضو عضو من أعلى البدن وأسفله على ميزان العدل ، فيبعث لكل عضو ما يلائمه من الروح الطبيعي ، فافهم .
واستفاد منه موسى عليه السّلام علم الصحبة والسياسة ، وأمره بالتخلَّي عن العامّة إلَّا في وقت معلوم وقدر موزون ، وكان الغالب على موسى عليه السّلام الظاهر .
 فحصل له بصحبته جميع مقام الجمع .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة ملكية في كلمة لوطيّة ) .
أضيفت حكمته إلى الملك من طلبه القوّة والركن الشديد ، فإنّ الملك القوّة والشدّة ، كما سيأتيك .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة قدرية في كلمة عزيزيّة ) .
أضيفت حكمة عزيرية عليه السّلام إلى القدر لطلبه العثور على سرّ القدر ، وكان الغالب على حاله القدر والتقدير ، " فَأَماتَه ُ الله مِائَةَ عامٍ "  ولما سأله الله تعالى : " كَمْ لَبِثْتَ " عن قد ما لبث  ، قال بالتقدير : " لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ ".
 وقوله : " أَنَّى يُحْيِي هذِه ِ الله بَعْدَ مَوْتِها "  استفهام استعظام وتعجّب عن كيفية تعلَّق القدر بالمقدور بالنظر الظاهر على ما سيأتيك نبؤه عن قريب .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة نبويّة في كلمة عيسوية ) .
أسند الشيخ حكمته إلى النبوّة لكون الغالب على عيسى عليه السّلام الإنباء عن الحق وإنباء الحق عنه له وعن نفسه ولعلوّه وارتفاعه الروحي والإلهي عن أبناء البشر ، كما ستعرف .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة رحمانية في كلمة سليمانية ) .
أسندت حكمته إلى الرحمن لكمال ظهور أسرار الرحمة العامّة والخاصّة فيه صلَّى الله عليه وسلَّم على الوجه الأعمّ الأشمل وبالسرّ الأتّم الأكمل ، وجعل الله سعته في أمره وحكمه على أكثر المخلوقات ، وسخّر له العالم جميعا كما وسعت رحمة الرحمن جميع الموجودات ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة وجودية في كلمة داودية ) .
إنّما كانت حكمته وجودية لما تمّ في وجوده حكم الوجود العامّ في التسخير ، وجمع الله له بين الملك والحكمة والنبوّة ، ووهبه سليمان الذي آتاه التصرّف في الوجود على العموم ، وخاطبه بالاستخلاف ظاهرا صريحا ، فبلغ الوجود بوجوده كمال الظهور .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة نفسية في كلمة يونسيّة ) .
قال العبد : حاله عليه السّلام كان ضرب مثل لتعيّن النفس الناطقة بالمزاج العنصري وأهوال أحوال المزاج الطبيعي . وفيه رواية ، أنّ حكمته مستندة إلى النفس الرحماني بفتح الفاء لما نفّس الله عنه جميع كربه المجتمعة عليه من قبل أهله ونفسه وولده وماله .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة غيبية في كلمة أيّوبية ) .
جميع أحواله عليه السّلام من أوّل حالة الابتلاء إلى آخر مدّة كشف الضرّ عنه غيبيّ حتى أنّ الآلام كانت في غيوب جسمه ، وابتلي بغتة غيبا ، ثم كشف عنه الضرّ ، كذلك من الغيب من حيث لا يشعر ، فآتاه الله أهله الذين غيّبهم عنه " وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً " من الله غيبته ، كما سنومئ إلى ذلك عن قريب .



قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة إيناسية في كلمة إلياسية ) .
نشأته عليه السّلام روحانية على وجه لا يقبل تأثير الموت ، فانفلق له جبل لبنان من لبانته في صورة فرس من نار ، فأنس بها وآنسها ، فأمر بالركوب عليها ، فركبها ، فنسب حكمته إلى إيناس نور أحدية الجمع في صورة نارية الفرق على ما يأتي .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة إحسانية في كلمة لقمانية ) .
كان الغالب على حاله في كشفه وشهوده الإحسان ، وأوّل مرتبته الأمر بالعبادة على البصيرة والشهود ، كما أمر لقمان ابنه في وصيّته إيّاه " يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " نهاه عن الشرك للإخلاص في عبادته وعبوديته لله .
وهو أعلى مرتبة الإحسان ، ثم عرّفه بوصيّته تعالى الإنسان بالإحسان ، ولقد أحسن في بيان إحسان الله تعالى إلى المرزوقين ، كما ستقف على أسراره عن قريب .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة إمامية في كلمة هارونية ) .
كان هارون عليه السّلام إمام الأئمّة من الأحبار في بني إسرائيل كلَّهم ، وأمره موسى عليه السّلام أن يؤمّ أمّته ، واستخلفه عليهم ، ولقد صرّح بإمامته في القرآن ، وصرّح هو أيضا بذلك في طلبه الاتّباع والطاعة من قومه في قوله : " فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي " .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة علوية في كلمة موسوية ) .
أعلى الله مكانته ، وأخبره أنّه هو الأعلى ، فقال : " لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلى " وأعلى الله كلمته العليا على من ادّعى العلوّ بقوله : " أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى " و " كانَ عالِياً من الْمُسْرِفِينَ " .
ثم قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة صمدية في كلمة خالدية ) .
دعا إلى الأحد الصمد ، وكان قومه يصمدون إليه ويقصدونه في الملمّات والمهمّات ، فيكشف الله إيّاها عنهم بدعائه عليه السّلام  .
قال رضي الله عنه : ( ثم حكمة فردية في كلمة محمدية ) .
قال العبد :
جاء الوارد في هذه الحكمة بعبارتين دالَّتين على حقيقة واحدة :
إحداهما : حكمة كلَّية لكونها أحدية جمع جميع الحكم الجمعية الكلَّية المتعيّنة في كلّ كلّ منها كلَّية فهي كلّ كلّ منها .
والثانية : حكمة فردية لأسرار وحقائق يكشف لك عن أصولها وفصولها في شرح حكمته صلَّى الله عليه وسلَّم .
قال رضي الله عنه : ( وفصّ كلّ حكمة الكلمة التي نسبت إليها ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ محلّ نقش كلّ فصّ هو قلب ذلك الإنسان الكامل المذكور عند كلّ حكمة منها .
قال رضي الله عنه : ( فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحكم في هذا الكتاب على حدّ ما سبق  في أمّ الكتاب ، فامتثلت على ما رسم ، ووقفت عندما حدّ لي ، ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت فإنّ الحضرة تمنع عن ذلك ، والله الموفّق لا ربّ غيره ) .
قال العبد أيّده الله به :
مراتب أمّ الكتاب كثيرة ولكن أمّهاتها الكلَّية خمس :
الأولى : أمّ الكتاب الأكبر ، وهو التعيّن الأوّل وحقيقة الحقائق الكبرى .
والثانية : أمّ الكتاب الإلهية وهو عماء الربّ الذي كان فيه ربّنا قبل أن يخلق خلقه فتذكَّر ، وهو لله تعالى خاصّة .
والثالثة : أمّ الكتاب المبين للاسم « المدبّر » وهو العقل الأوّل والقلم الأعلى ، أعني الكتاب المبين ، وأمّه حقيقة الحقائق الكيانية ، وهو عماء العالم .
الرابعة : ثم أمّ الكتاب المفصّل للاسم « المفصّل » بكسر الصاد ، وهو اللوح المحفوظ شرعا والنفس الكلَّية عرفا حكميا .
الخامسة : ثم أمّ الكتاب الذي في سماء الاسم « الخالق » وهو في روحانية روح سماء القمر ، فافهم.
ثم اعلم :
 أنّ التعيّن الأوّل الذي هو حقيقة الحقائق الكبرى مرتبة الإنسان الكامل ، وهي أحدية جمع جميع الكتب إلهيّها وكونيّها .
 وأثبت ثبت هذه الحكم والكتب رضي الله عنه ممّا ثبت في هذه الأمّ من مشرب أحدية جمع جميع الكمالات الختمية المحمدية .
وهذه المرتبة هي البرزخية الفاصلة بين التعين واللا تعين ، والغيب الذاتي والشهادة الكبرى ، وبين الحقيّة والخلقية ، وصاحبها صاحب الحدّ ، محمد خاتم الأنبياء .
الذي حدّ منها ما حدّ لخاتم الولاية الخاصّة أن يخرج به إلى الناس ، فينتفعوا به ، بل هو الحدّ . فافهم   
وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ    
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية الجزء الأول .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 6:08 pm

02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية الجزء الأول .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية  الجزء الأول

قال رضي الله عنه : (  ومن ذلك فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية ) .
قد ذكرنا حكمة استناد كلّ حكمة من هذه الحكم إلى الكلمة التي نسبت إليها ، فلا نعيدها إلَّا في مواضع مسيس الحاجة إليها .
وأمّا « الحكمة » فقد قال فيها الشيخ رضي الله عنه :
( اعلم : أنّ العطايا والمنح الظاهرة في الكون على أيدي العباد وعلى غير أيديهم على قسمين : ومنها عطايا ذاتية وعطايا أسمائية ، وتتميّز عند أهل الأذواق ) .
قال العبد : الهبات والعطايا الإلهية سواء كان وصولها إلى العباد على أيدي العباد بواسطتهم أو لا بواسطة فهي إمّا ذاتية أعني ذوات الألوهية ، وهي تجليات اختصاصية من الله ، أحدية جمع جميع الأسماء الإلهية.
خصيصة بالكمّل المقرّبين وندّر الأفراد الكاملين إذ الذات من حيث هي هي لا تعطي عطاء ولا تتجلَّى تجلَّيا ، لا ذاتية ولا أسمائية من حيث حضرة حضرة بحسب قبول المتجلَّى له وخصوص قابليته ومقامه ، وهذه العطايا والتجلَّيات والأذواق والعلوم والأحوال والأخلاق متميّزة عند أهلها الذين هم أهلها يعرفونها ذوقا وكشفا .
قال رضي الله عنه : ( كما أنّ منها ما يكون عن سؤال معيّن وعن سؤال غير معيّن . ومنها ما لا يكون عن سؤال ، سواء كانت الأعطية ذاتية أو أسمائية ) .
يعني رضي الله عنه :
أنّ هذه الأعطيات والمنح سواء كانت ذاتية أو أسمائية فإمّا أن تكون عن سؤال سائل ، أو لا عن سؤاله ، فإنّها قد تصل إلى العبد بلا سؤال لفظي ، وقد يكون بسؤال لفظي .
قال رضي الله عنه : ( فالمعيّن كمن يقول : يا ربّ أعطني كذا ، فيعيّن أمرا ما لا يخطر له سواه ) . يعني حال التلفّظ بالسؤال .
( وغير المعيّن ) بكسر الياء اسم فاعل ( كمن يقول : يا ربّ أعطني ما تعلم فيه مصلحتي من غير تعيين لكل جزء من ذاتي ، لطيف وكثيف ) .يعني ما يناسبه ويلائمه .
قال رضي الله عنه : ( والسائلون صنفان : صنف بعثه على السؤال الاستعجال الطبيعي ، فإنّ الإنسان خلق عجولا . والصنف الآخر بعثه على السؤال لما علم أنّ ثمّ أمورا عند الله قد سبق العلم بأنّها لا تنال إلَّا بعد السؤال ، فيقول : فلعلّ ما يسأله يكون من هذا القبيل فسؤاله احتياط لما هو الأمر عليه من الإمكان ، وهو لا يعلم ما في علم الله ، ولا ما يعطيه استعداده في القبول ،لأنّه من أغمض المعلومات الوقوف في كل زمان فرد على استعداد الشخص في ذلك الزمان).
قال العبد : السائلون للعطايا الإلهية سواء كانت ذاتية أو أسمائية ، أو كانوا معيّنين لسؤالاتهم أو غير معيّنين كما ذكر الأمثلة إمّا أن يكونوا غير عالمين بما في علم الله وتقديره من وقوع المسؤول وعدم وقوعه ، وبما هم مستعدّون له في كل زمان فرد من الأزمنة وفي كل آن من الآنات ، أو عالمين بذلك وبما يعطيه استعدادهم .
فغير العالمين إمّا أن يكون الباعث لهم على الطلب والسؤال الاستعجال الطبيعيّ أو الاستعداد الحاليّ أو الاحتياط ، مع مجمل العلم بأنّ من الأعطيات الإلهية ما سبق علم الله وقدره أن لا ينال إلَّا بالدعاء إمّا بالنسبة إلى هذا السائل أو بالنسبة إليها في كل سائل .
فإن كان الاستعجال الطبيعيّ ، فهو إمّا أن يوافقه الاستعداد الحالي أو لم يوافق ذلك ، فإن وافق ، فلا بدّ من وقوع المسؤول ،وإن لم يوافق ،فقد لا يقع في الحال.
وإن كان الباعث الاستعداد الحاليّ والحال الاستعدادي ، فإنّ المسؤول يقع وينال ، سواء تلفّظ بالسؤال أو لا ، فإنّ السنّة الاستعدادات في السؤال لا تتأخّر عنها الإجابة .
وإن كان الباعث على الطلب والتلفّظ بالسؤال هو العلم بأنّ من المسؤولات والمطالب ما لا يدرك ولا يعطى إلَّا بعد السؤال ، فهو يسأل ويطلب احتياطا ، فقد يقع عين المسؤول إن كان الاستعداد تامّا ، وإن لم يوافق السؤال الاستعداد .
فيلبّي الله له في حال السؤال ، وتتأخّر الإجابة في عين المسؤول ، فإنّ التقدير عدم علم السائل بما في التقدير والاستعداد ، لكنّ الإمكان باق ، فيمكن بالنظر إلى السائل ومبلغ علمه أن يقع ، ويمكن أن لا يقع .
وباقتران الاستعداد للسؤال لا يبقى تأخّر ولا إمكان ، بل يجب وقوع عين المسؤول .
والوقوف في كل آن من الزمان على استعداد الشخص لا يكون إلَّا للكمّل والندّر من الأفراد فليس لكلّ أحد إدراك استعداده في كل آن ، حتى يسأل ما يستعدّ له في الحال ، فيقع .
وقد يكون على حال مستعدّ في زعمه لأمور فيسألها ولا يعلم حقيقة ، بل على وجه الإمكان ، فقد يقع وقد لا يقع ، كما ذكرنا ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ولولا ما أعطاه الاستعداد السؤال ما سأل ) .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ السؤال يدلّ على مطلق استعداد للسائل كامن فيه هو الباعث ، فلو اقترن الحال بالاستعداد ، لظهر ، وعدم الاقتران يوجب التأخّر إلى وقت الاقتران .
قال رضي الله عنه : (فغاية أهل الحضور الذين لا يعلمون مثل هذا) أي لا يعلمون بعلم الله وباستعداد السائل للمسئول.
( أن يعلموه في الزمان الذي يكونون فيه ، فإنّهم بحضورهم يعلمون ما أعطاهم الحق في ذلك الزمان وأنّهم ما قبلوه إلَّا بالاستعداد
. وهم صنفان : صنف يعلمون من قبولهم استعدادهم ، وصنف يعلمون من استعدادهم ما يقبلونه ، هذا أتمّ ما يكون في معرفة الاستعداد في هذا الصنف ) .
قال العبد : من السائلين الذين لا علم لهم بالاستعداد إذ كانوا أهل حضور ومراقبة ، فغايتهم إذا بالغوا في المراقبة واستكملوا مراتب الحضور أن يعلموا في كل آن من الزمان أحوالهم وما يعطيهم الحق من الواردات والتجلَّيات والعلوم والأخلاق ، فإذا تجدّد لهم حال ، وتحقّقوا الحقيقة أخلق إلهي أو أمر كونيّ ؟ أو ورد عليهم وارد ، علموا ذلك ، وعلموا مجملا أنّهم ما قبلوها إلَّا بالاستعداد .
وأهل الحضور والمراقبة على صنفين أيضا : صنف لم يكشفوا عن عالم المعاني والأعيان الثابتة ، فهم لا يعلمون استعداداتهم على التفصيل ، بل يعلمونها مجملا من أحوالهم ووارداتهم ، وصنف اقترن بحضورهم ومراقبتهم الكشف عن عوالم الغيب والحضرات العالية ، فعلموا أعيانهم الثابتة في العلم الأزلي الإلهي القائم بذات الحق ، فعلموا استعداداتهم من خصوصياتهم وقابلياتهم الأصلية الأزلية على وجه الإجمال ، ثم بتعيّن الحال يعلمون اقتران ألسنة استعداداتهم بالحضور والسؤال في الحال ، فيقع ما يسألون في الحال أو بعد تأخّر ، والصنف الثاني أكشف من الأوّل .
قال رضي الله عنه : ( ومن هذا الصنف ) أي الذين لا يعلمون حال السؤال استعدادهم ولا علم الحق فيهم ( من يسأل لا للاستعجال ولا للإمكان ، وإنّما يسأل امتثالا لأمر الله في قوله  " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم" ، فهو العبد المحض .
وليس لهذا الداعي همّة متعلَّقة فيما يسأل فيه من معيّن أو غير معيّن ، وإنّما همّته في امتثال أوامر سيّده ، فإذا اقتضى الحال السؤال ، سأل عبودية ، وإذا اقتضى التفويض والسكوت ، سكت .
فقد ابتلي أيّوب عليه السّلام وغيره وما سألوا رفع ما ابتلاهم الله به ، ثم اقتضى لهم الحال في زمان آخر أن يسألوا رفع ذلك ، فرفعه الله عنهم ) .
قال العبد : هؤلاء عبيد الله الصدّيقون لا يسألون إذا سألوا معيّنا أو غيره استعجالا طبيعيا ، ولا احتياطا رغبة فيما رغبوا به أعني أهل الاحتياط أن يعطيهم الله ذلك لعلمهم بأن لا ينال ذلك إلَّا بالسؤال .
بل سؤالهم امتثال لأمر الله إيّاهم في قوله : "ادْعُونِي " ، حتى أنّ همّتهم غير متعلَّقة بالاستجابة إلَّا إذا كان مراد الله إجابتهم والسؤال .
لكنّهم يدعون الله لمّا أمرهم أن يدعوه لا غير ، فإن أجاب يلقوه بالشكر وبما يجب أن يتلقّوه به ، وإن لم يجبهم علموا أنّ المراد هو الدعاء .
فإن حصلت الإجابة ، علموا بالحال استعدادهم ، وإن لم يجابوا علموا تأخّر لسان الاستعداد إلى وقت آخر ، فأخّروا السؤال إلى ذلك الوقت وقدمّوه كذلك لوقته في الحال الحاضر.
وإن كان القسم الثاني من أهل الاستعداد والعلم به والعلم بالحال من استعداده قد يسأل الله مع علمه باستعداده لما هو أهل له في كل حال امتثالا مع علمه بوقوع المسؤول واقتران الاستعداد الحالي للسؤال .
ولكن لا يقصد الإجابة ، ولا يعلَّق همّته بالوقوع ، بل همّته امتثال أوامر الله ونواهيه ، فهو العبد المحض وهذا الصنف أكمل ممّن تقدّمه ، فافهم .
وإذا اقتضى الحال السؤال ، وأحسّ أنّ المراد الإلهي هو الدعاء والسؤال ، دعا وسأل عبودية ورقّا وامتثالا ، وإن عرف من استعداده الحالي أنّ الابتلاء تمحيص وتكميل ورضوان من الله ، صبر وفوّض إلى الله وسكت عالما بأنّ الله لا يبقى عليه حكم حضرة القهر والجلال دائما .
بل لا بدّ من اضمحلال آثار القهر العرضي في اللطف والرحمة الذاتيين من قوله : « سبقت رحمتي غضبي » فيمن يغضب عليه ، ولا سيّما في حق من سبقت رحمة الله به أزلا بكمال القيام في حقّه ، مثل أيّوب عليه السّلام صبر ولم يسأل رفع الضير عنه ابتداء ، لعلمه بالحال والاستعداد الحالي.
وكذلك كلّ محنة وابتلاء يبتلي به الله عباده ليس من باب القهر المحض فإنّها رحمة خاصّة ونعمة في صورة محنة ونقمة ، لا يرغب فيها إلَّا العلماء بمراد الله وعلمه والمطَّلعون على سرّ القدر .
فإذا علموا وصول أوان انفصال الضرّاء والبأساء ، وحصول زمان اتّصال الرخاء والسرّاء ، دعووا الله تعالى ، فرفع عنهم الضرّ ، وبدّل لهم باليسر العسر .
تبرّيا عن توهّم المقاومة والمقاواة للقهر الإلهي في عدم السؤال والمداواة ، فكانوا في حالتي السؤال وعدم السؤال عباد الله الأدباء الناظرين إلى أمر الله وحكمه بموجب إرادته وعلمه .
قال الشيخ رضي الله عنه : " والتعجيل بالمسؤول فيه والإبطاء للقدر المعيّن له عند الله ، فإذا وافق السؤال الوقت أسرع بالإجابة ، وإذا تأخّر الوقت إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة ، تأخّرت الإجابة أي المسؤول فيه ، لا الإجابة التي هي لبّيك من الله .فافهم هذا » .
قال العبد : اعلم : أنّ كل سؤال يسأله العبد من الله فلا بدّ وأن يجيبه فيه لا محالة وقد أوجب على نفسه الإجابة بقوله : “ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ “ وأنّه لا أوفى من الله بعهده ووعده ، فإذا دعاه العبد ، أجابه في الحال بلبّيك ، وذلك في مقابلة ما يلبّى العبد إذا دعاه .
ولكنّ الله تعالى إذا علم من العبد تأخّر ظهور الاستعداد الحالي عن حصول المسؤول ، بادره الله في الحال بما يعينه على كمال القابلية والاستعداد ، وبعده لقبول تجلَّي الإجابة في عين المسؤول وذلك لعدم موافقة الاستعداد وقت السؤال .
فإذا جاء الوقت المقدّر لحصول عين المسؤول ، ووافقه السؤال ، أجيب في الحال ، فالإجابة إذن من أوّل وقت السؤال أيّ سؤال كان ، ومن أيّ سائل كان واجبة الوقوع من الله ، ولكن ظهور حكمها عند السائل بقدر استعداده وقابليّته ، وأوان ظهور حكم الإجابة إنّما هو في إعداده وإمداده تكميل استعداده لظهور المسؤول المأمول .  
وإذا علم الله من العبد كمال الاستعداد في السؤال بلسانه الحالي والذاتي والاستعدادي قبل سؤاله بلسانه الشخصي ، بعثه على السؤال ، وأجابه في الحال ، فمن لم يعثر على هذا السرّ ظنّ أنّ سؤال بعض العبيد لا تتأخّر عنه الإجابة والبعض غير مجاب.
وليس الأمر كما ظنّ ، بل كان دعاء كلّ داع يدعو الله في شيء فإنّه مجاب ، ولكنّ الأمر كما أمر الله تعالى " وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله " 38 سورة الرعد .
وهو الكمال الثاني والقابلية والاستعداد ، " فَإِذا جاءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ " 78 سورة غافر.
قال الشيخ رضي الله عنه : « وأمّا القسم الثاني وهو قولنا : « ومنها ما لا يكون عن سؤال » فالذي لا يكون عن سؤال فإنّما أريد بالسؤال التلفّظ به ، فإنّه في نفس الأمر لا بدّ من سؤال إمّا باللفظ أو بالحال أو بالاستعداد ، كما أنّه لا يصحّ حمد مطلق قطَّ إلَّا في اللفظ ، وأمّا في المعنى فلا بدّ أن يقيّده الحال ، فالذي يبعثك على حمد الله هو المقيّد لك باسم فعل أو باسم تنزيه . والاستعداد من العبد لا يشعر به صاحبه ، ويشعر بالحال لأنّه يعلم الباعث وهو الحال " .
يريد : أنّ عطاء الله لمّا كان فيضا ذاتيا دائميا لا انقطاع له ، ولكن حصوله لأحد ووصوله بالحال من يد أحد إذ وغير ذلك إنّما هو بسؤال لسان الاستعداد .
أو بلسان الحال وإن لم يسأل يعني لفظا لأنّ السؤال بلسان الاستعداد.
والحال والمرتبة والذات غير دائم الوقوع ، ولهذا تتأخّر الإجابة ، فإذا وافق لسان القول لسان الاستعداد ، سرعت الإجابة ، ولذلك تحصل الأعطيات والمسؤولات بلا سؤال لفظي ، فيظنّ أنّه ليس عن سؤال أصلا ، وليس ذلك كذلك ، فتذكَّر .
فالسؤال الذاتي هو أنّ الذوات في ذاتياتها سائلة من الله ، وقابلة منه قيامها بذاته وبقاؤها منه .
وأمّا سؤالات ألسنة الاستعدادات فكالذي تتكامل أهليّته وقابليّته لحصول أمر من الله وفيض ، فإنّ ذلك لا يتأخّر أصلا .
وسؤال المرتبة كالنبوّة تسأل من الله بما به وفيه قيامها وقوامها من النبيّ الذي بوجوده دوامها .
وأمّا سؤال لسان الحال فكالجائع يطلب بجوعه الشبع والعطشان يطلب بعطشه الريّ .
وكما أنّ الحمد المطلق غير واقع لتقييد حال الحامد ووصفه ومقامه له حال الحمد
وإن أطلق لفظا ، فكذلك العطاء بلا سؤال غير واقع ، فإن لم يكن سؤال لفظي ، ووقعت الإجابة ، ووصلت الصلات والهبات ، وشملت الرحمة والبركة ، فاعلم أنّ الألسنة المذكورة هي التي استدعتها واقتضتها .
ولكنّ الاستعداد لا يشعر به صاحبه ، لغموضه ، ويشعر بالحال ، لكون الحال باعثا له على الطلب والسؤال ، فيعلم أنّ لسان حاله هو الباعث له على السؤال باللسان ، فافهم .
قال رضي الله عنه : " والاستعداد أخفى سؤال " .
يعني رضي الله عنه : لهذا لا يشعر به صاحبه ، لخفائه وكونه موقوفا على علم القدر المعلوم لأهل الكشف من العلم الإلهي القائم بالحق ، وهو أصعب العلوم وأعزّها منالا ، وأعلاها مثالا ، وأنفعها مآلا ، وأرفعها مقاما وحالا .
قال رضي الله عنه : " وإنّما يمنع هؤلاء " يعني الذين لا يسألون :" عن السؤال علمهم بأنّ لله فيهم سابقة قضاء ، فهم قد هيّأوا محلَّهم لقبول ما يرد منه ، وقد غابوا عن نفوسهم وأغراضهم " .
يعني : أوجب عليهم علمهم وتحقّقهم بأنّه لا بدّ من وقوع ما قدّر الله لهم وعليهم بلا تخلَّف بموجب علمه .
قال رضي الله عنه : « ومن هؤلاء من يعلم أنّ علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه في حال ثبوت عينه قبل وجودها ، ويعلم أنّ الحق لا يعطيه إلَّا ما أعطاه عينه من العلم به وهو ما كان عليه في حال ثبوته ، فيعلم علم الله به من أين حصل ، وما ثمّ صنف من أهل الله أعلى وأكشف من هذا الصنف ، فهم الواقفون على سرّ القدر " .
قال العبد أيّده الله به : ومن العلماء بسابق علم الله وقضائه وقدره بجميع ما يجري عليهم صنف هم أكشفهم شهودا وأكملهم علما ووجودا بأنّ جميع أحواله وأفعاله وما يصل إليه من العطايا والمواهب الإلهية.
إنّما يكون بحسب ما أعطته عينه الثابتة التي هي عبارة عن صور معلوميّته لله تعالى أزلا قبل وجوده العيني ،وأنّ العلم الإلهي إنّما تعلَّق بالمعلوم بحسب المعلوم.
ولا تأثير للعلم في المعلوم بما ليس فيه إذ العلم عبارة عن تعيّن العلم في نفس العالم على ما هو عليه ، وكشف العالم للمعلوم كشفا إحاطيا يميّزه عن معلوم آخر بخصوصياته ، فليس للحقيقة العلمية إلَّا الكشف والتمييز على وجه الإحاطة بالمعلوم.
والمعلوم هو يعطي بكونه معلوما صورة تعيّنية ارتساميّة في نفس العالم هي صورة معلوميّته لله تعالى أزلا ، وهي أزليّة أبدية قائمة بقيام العلم الذاتي بالذات الديموميّة القيّوميّة وعلى هذا لا تحكم المشيّة الإلهية بقضاء وقدر على موجود إلَّا بموجب ما سبق به العلم الأزلي .
ولم يتعلَّق العلم الأزلي بكل معلوم إلَّا بحسب ما أعطى المعلوم من عينه الثابتة ، فإنّ لكلّ معلوم قدرا تقدّر وتعيّن وتميّز به في خصوصيته عن معلوم آخر ، ولم يتعيّن المعلوم في حضرة العلم الذاتي الإلهي إلَّا بقدره عند الله وقدره الذي يخصّص به .
ومن حصّل هذا الكشف ، علم المأخذ والمعدن الذي لعلم الله بالمعلوم ، فافهم ، فهذا أعلى الكشوف والعلوم والشهود ، وأهله هم الواقفون على سرّ القدر ، جعلنا الله وإيّاك منهم ، إنّه عليم قدير .
قال الشيخ رضي الله عنه : « وهم على قسمين : منهم من يعلم ذلك مجملا ، ومنهم من يعلمه مفصّلا ، والذي يعلمه مفصّلا أعلى وأتمّ من الذي يعلمه مجملا ، فإنّه يعلم ما في علم الله فيه أنّ علم الله به وبأحواله الظاهرة والباطنة بحسبه فيه ، ولكنّ علمه جملي لا تفصيلي ، وكلَّي لا تعيّني ، فلا يعلم تفاصيل أحواله الوجودية قبل وقوعها على التفصيل".
والتفصيل على هذا الصنف لمن يعلم تفاصيل أحواله الوجودية ظاهرها وباطنها ، كما رويت عن سيدي وسندي وقدوتي إلى الله ، الشيخ الكامل المكمّل ، أكمل ورثة المحمديين ، صدر الحق والدين ، محيي الإسلام والمسلمين ، أبي المعالي ، محمد بن إسحاق بن محمد بن يوسف رضي الله عنه وكان يتكلَّم معي في هذا المقام من سرّ القدر ، أنّ شيخنا الأكمل ، خاتم الولاية الخاصّة المحمدية ، قال له : « لمّا وصلت إلى بحر الروم من بلاد أندلس ، عزمت على نفسي أن لا أركب البحر إلَّا بعد أن أشهد
تفاصيل أحوالي الظاهرة والباطنة الوجودية ممّا قدّر الله عليّ ولي ومنّي إلى آخر عمري » .
قال رضي الله عنه : « فتوجّهت إلى الله في ذلك بحضور تامّ وشهود عامّ ومراقبة كاملة ، فأشهدني الله جميع أحوالي ممّا يجري ظاهرا وباطنا إلى آخر عمري ، حتى صحبة أبيك « إسحاق بن محمد » وصحبتك وأحوالك وعلومك وأذواقك ومقاماتك وتجلياتك ومكاشفاتك وجميع حظوظك من الله ، ثم ركبت البحر على بصيرة ويقين ، فكان  ما كان ويكون من غير إخلال ولا اختلال " .
وكيفيّة هذا الكشف أنّ المكاشف يتحقّق بعينه الثابتة الأزلية ، ويشهدها كشفا ، ويشهد أحوالها في المواطن والمراتب الوجودية والأطوار الشهودية مع أعيان ماهيّاتها ولوازمها ولوازم لوازمها وعوارضها ولواحقها ولواحق اللواحق ، دنيا وآخرة وعند الله ، فيعلم من عينه الثابتة التي هي ماخذ العلم الإلهي من حيث إنّها فيه سبحانه عينه وليست غيره ، فيعلم ما في علم الله في الكوائن والحوادث في حقّه وفي حق غيره . وهذا النوع من علم سرّ القدر وكشفه أكمل وأتمّ وأكشف وأعمّ جعلنا الله وإيّاك من عبيده الاختصاصيّين ، إنّه أرحم الراحمين .
قال رضي الله عنه : « إمّا بإعلام الله تعالى إيّاه بما أعطاه عينه من العلم به ، وإمّا بأن يكشف له عن عينه الثابتة وانتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى ، وهو أعلى ، فإنّه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به ، لأنّ الأخذ من معدن واحد " .
قال العبد : لمّا قرّر رضي الله عنه مراتب حصول العلم بالأعيان الثابتة وسرّ القدر ، وبأحوال عينه الثابتة ، احتمل أن يكون حصول هذا العلم لهذا الصنف الأكشف الأعلم ، بإعلام الله وإلهامه إيّاهم ، واحتمل أيضا أن يكون طريق حصول ذلك من عين الطريق والمأخذ الذي تعلَّق العلم الإلهي بذلك ، وذلك لأنّ الله يلقي إلى أسرار ربّة عبيده المصطفين ما شاء من العلوم والحقائق ، فيحصل الاطَّلاع على سرّ القدر ، وأحوال العين الثابتة من جملة ذلك .
وأعلى من هذا أن يكشف الله تعالى بعنايته الكاملة الذاتية لهذا العبد عن حضرة العلم وعالم المعاني ، فيشاهد الأعيان الثابتة ثابتة في عين الذات الغيبيّة والحقيقة المطلقة الكلَّية ، وثابتة في أرض المظهريات المحقّقة العلَّية ، ثبوتا أحديا علميّا وتعيّنا ذاتيّا غيبيا ، وإذا شاهد عينه الثابتة وأحوالها حواليها في أطوار الوجود وأقطار الشهود إلى ما لا يتناهى ، كان أخذ العلم بعينه الثابتة من المعدن الذي أحاط فيه به العلم الذاتي ، وهذا أكمل شهود في هذا المقام ، جعلنا الله وإيّاكم من أهله .
قال رضي الله عنه : « إلَّا أنّه من جهة العبد عناية من الله سبقت له ، هي من جملة أحوال عينه  يعرفها صاحب هذا الكشف ، إذا أطلعه الله على ذلك ، أي على أحوال عينه الثابتة ، فإنّه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على ذلك أي على أحوال عينه الثابتة التي تقع صورة الوجود عليها أن يطَّلع في هذا الحال على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها ، لأنّها نسب ذاتية لا صورة لها ، فبهذا القدر نقول : إنّ العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادة العلم " .
قال العبد أيّده الله به : لمّا بيّن رضي الله عنه أنّ هذا العبد الأكشف الأكمل الذي حصل علمه بنفسه وبعينه الثابتة بمنزلة المساواة لعلم الله بعينه الثابتة وأحوالها كذلك ، إنّما حصل عناية إلهية بهذا العبد وصدق قدم في علم قدم ، وهذه العناية الإلهية به أيضا من جملة أحوال عينه الثابتة التي اقتضتها بخصوص استعدادها وقابليتها الخاصّة أن يعلم ذلك كذلك .
فإنّ تعلَّق العناية إنّما يكون بحسب تعلَّق الإرادة الإلهية والمشيّة الربّانيّة ، والعناية إرادة حبّيّة بالمعتنى به لتكميله وتوصيله ، ثم تعلَّق المشيّة والإرادة أيضا بموجب تعلق العلم بعينه الثابتة له أزلا وأبدا ، فالخصوصيّات العينية والقابليات الذاتية هي أصل العناية الأزلية وهي قدم الصدق .
وقوله رضي الله عنه : « فإنّه ليس في وسع المخلوق » تعقيب لكلامه الأوّل : « إمّا بإعلام الله . . . وإمّا بأن يكشف »
يعني : لا يجمع لأحد بين الاطَّلاع على الأعيان الثابتة وأحوالها وبين الاطَّلاع على اطلاع الله بعلمه على هذه الأعيان ، لأنّه تعلَّق الشهود بأمرين في حالة واحدة و"ما جَعَلَ الله لِرَجُلٍ من قَلْبَيْنِ في جَوْفِه".
ولأنّ هذه الأعيان نسب ذاتية ، فهي بالنسبة إليها معدومة الأعيان وإن كانت ثابتة للحق ، فلا صورة لها في أعيانها فما هي فيه ، بل هي فيه هو كما قلنا نحن فيه هو ، فاعرفنا به وهو فينا نحن ، فافهم ما نقول .
وهوية الوجود الواحد في أعيان القوابل وإن كانت بحسبها متعدّدة ، فهي أيضا في الهوية الواحدة الوجودية الذاتية كذلك بحسبها أحدية .
فلمّا كانت هذه النسب في العلم الإلهي ثابتة للذات بأنّها شؤونه وأحواله الذاتية ومن حسبها "كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ ".
لم يكن للممكن أن يطَّلع على اطلاع الحق على هذه النسب الكلية الذاتية التي هي مفاتيح الغيب حال عدميّتها في أعيانها تحت قهر الأحدية الذاتية ، فإنّ هذا الاطلاع أحديّ لم يظهر بعد للمشاهد ، والمشاهدة والمشاهد الثابتة عين وجوديّ ، فإنّه إنّما يتأتّى للمكاشف أن يطَّلع عليها من حيث إنّها ثابتة في العلم وجودا علميا ، وحينئذ يتمكَّن المشاهد من شهودها .
قال رضي الله عنه : « ومن هاهنا يقول الله : " حَتَّى نَعْلَمَ " . وهي كلمة محقّقة المعنى ، ما هي كما يتوهّمه من ليس له هذا المشرب " .
قال العبد : هو يشير رضي الله عنه إلى توقّف تحقّق النسبة العلميّة من كونها كذلك على حقائق المعلومات وتحقّقها بأعيانها في الوجود ، لأنّ العلم المضاف إلى الحق من حيث الجمعية الإلهية إنّما يتحقّق بتحقّق العلم بجميع الحقائق العينية والشؤون الغيبية .
فإنّ للحق ظهورا في كلّ شأن شأن ، فالعلم المضاف إلى الحق من حيث ذلك الظهور بذلك الشأن لا يكون إلَّا بعد تحقّق الشأن بعينه في الوجود ، بخلاف العلم الذاتي الإلهي .
فإنّ توقّف العلم على المعلومات ليس من حيث أحديّة الذات ، فإنّ الأحدية الذاتية تقهر الكثرة النسبية العلمية والوجودية العينية ، فلا تظهر لها أعيان أصلا .
والعلم والعالم والمعلوم في أحدية الذات أحدية ، وكذلك في الوجود واحد وحدة حقيقة  غير زائدة على ذاتية الذات ، ولكن توقّف تحقّق العلم على المعلوم من حيث إنّ العلم نسبة متعلَّقة بالنسب المعلومية المظهرية من حيث هذه الشؤون والحقائق الأسمائيّة التي تحقّقها بحقائق هذه الشؤون.
فقوله : " حَتَّى نَعْلَمَ " إشارة إلى توقّف العلم المضاف إلى الحق من حيث أسمائه الحسنى وشئونه ونسبه الذاتية العليا بأحوالها وأحكامها وآثارها وتعلَّقاتها ونسبها وإضافاتها ولوازمها وعوارضها ولواحقها ولواحق اللواحق .
من حيث المرتبة والمحلّ والمقام والموطن والحال في الوجود العيني والشهود العياني الكوني ، فهو إذن كلمة محقّقة المعنى ليست كما يتأوّلها بالوهم أهل التنزيه الوهمي .
فإنّ الحق لا يستحقّ من الحق ولا يتنزّه عن مقتضيات ذاته ، ومقتضاها من حيث هذه النسب الذاتية أن لا يظهر كلّ منها إلَّا بكلّ منها في كل منها ، فتوقّف تحقّق الحقيقة العلمية على حقيقة المعلوم كذلك كتوقّفه على حقيقة الوجود ، فالتوقّف إذن بين النسب بعضها على البعض .
وذلك غير قادح في الغنى الذاتي ، ووجوب الوجود للذات بالذات ، وكون هذه النسب أعني العالميّة والمعلومية والعلم كلَّها ذاتية ، فافهم إن شاء الله تعالى .
فإنّ العلم والمعلوم والعالم في أحدية الذات عينها لا غيرها ، والمعلومية كالعالميّة والمظهرية كالظاهرية نسب ذاتية للذات كسائر النسب الذاتية الوجوبية التي العلم من جملتها .
فتوقّف العلم على المعلوم إنّما هو من حيث هذه النسبة العلمية من وجه يغاير ذاتية الذات بالخصوصية وفي التعقّل ، ثم التغاير والتمايز بين الحقائق بالخصوصيات وفي تعقّل المتعقّل لها منّا لا يوجب الكثرة والتعدّد والتوقّف والتجدّد والتغيّر ، في الذات الواحدة التي هي عينها ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : « وغاية المنزّه » أي بوهمه « أن يجعل ذلك الحدوث في العلم المتعلَّق ، وهو أعلى وجه  للمتكلَّم بعقله في هذه المسألة ، لولا أنّه أثبت العلم زائدا على الذات ، فجعل التعلَّق له لا للذات وبهذا انفصل عن المحقّق من أهل الله صاحب الكشف والوجود " .
قال العبد : اعلم : أنّه غاية أهل التنزيه الوهمي أن ينسبوا الحدوث في قوله تعالى :
" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ ". إلى التعلَّق العلمي ، فتكون الكثرة والحدوث والتوقّف والتغيّر والتجدّد في التعلَّق ،لا في حقيقة العلم التي هي عين الذات.
ولا يرتفع الإشكال بذلك أيضا ، لكون العلم هو المتعلَّق بذلك التعلَّق الحادث ، ولكون التعلَّق من وجه عين المتعلَّق ، ولا سيّما وقد أثبت العلم زائدا على الذات ولا مخلص له في هذا النظر إلَّا أن يعلم أنّ الحدوث والكثرة في المعلوم المتكثّر المتجدّد المتغيّر الحادث ، والتجدّد في التعيّن والمتعلَّق به من حيث هو كذلك .
أمّا من حيث العلم الذي هو عين العالم الأزلي فتعلَّق وحدانيّ ، لكون ارتباط النسب المتوقّفة التحقّق على الطرفين في كل واحد منهما بحسبه ، فالكثرة والتغيّر والتجدّد في التعلَّق العلمي الوحداني من حيث ما يرتبط به وهو المعلوم المتكثّر المتغيّر المتجدّد ، والوحدة في التعلَّق أيضا من حيث العلم الذاتي الوحداني كهو ، فافهم .
وثمّ نظر آخر وهو أنّ العلم ، له اعتباران :
أحدهما من جهة الحق ، وبهذا الاعتبار هو عين الذات كما تقرّر آنفا .
والثاني من حيث إنّه نسبة متميّزة عن ذاتيّة الذات بخصوصيتها وعن غيرها من النسب ، وهذه النسبة حقيقة كلَّية أحدية التعلَّق بالمعلومات من شأنه تميّز المعلومات بعضها عن البعض وكشف حقائقها وحقائق أحوالها على سبيل الإحاطة ، فهي من حيث كونها نسبة كليّة لا تحقّق لها إلَّا بين عالم ومعلوم ، فتكون متوقّفة التعيّن على المعلومات .
وتعيّن المعلومات في عرصة العلم من حيث هذا الوجه يكون بحسب المعلومات ، ومن حيث إنّ العلم عين الذات يكون تعيّن المعلومات فيه بحسب العلم كذلك أحدية  ، فافهم .
ولمّا كان المعلوم نسبة والعلم أيضا نسبة ، لم يقدح توقّف النسبة على النسبة من كونها كذلك في العلم الأحدي الذاتي الذي هو عين الذات ، فافهم .
ثم اعلم : أنّ الحضرة العلمية تشتمل على حضرات كلَّية كثيرة وهي : حضرة العلم ، وحضرة المعرفة ، وحضرة الحكمة ، وحضرة الخبرة ، وحضرة التقدير .
فالعلم كما مرّ هو الكشف الإحاطي التمييزي للمعلومات على ما هي عليه من كل وجه للوازمها ولوازم لوازمها .
والمعرفة هي العلم بحقائق المعلومات من حيث حقائقها مجرّدة عن خلقيّاتها وعن اللوازم ولوازم اللوازم وترتّبها في مراتبها لا غير .
والحكمة عبارة عن العلم بالمراتب والحقائق المترتّبة فيها وبالترتيب الواقع بين حقائقها ،أي حقائق المعلومات واللوازم والعوارض واللواحق وبالمواطن والأحوال.
وحضرة الخبرة هي حضرة العلم بظهور آثار الحقائق وأحكامها بموجب الترتيب الحقيقي المذكور بأسبابه وعلله .
وحضرة التقدير هي حضرة العلم بتعيّن أقدار الحقائق وخصوصياتها في العلم بحسبها وعلى أقدارها ، فالتقدير من المقدّر القديم بحسب قدر المقدور وقدره في العلم ، ومن كوشف له بهذه الحضرات كلَّها وأحاط بحقائقها بما به الامتياز وبما به الاشتراك ، كان أكشف المكاشفين ، جعلنا الله وإيّاك منهم ، إنّه قدير .
قال رضي الله عنه : " ثم نرجع إلى الأعطيات فنقول : إنّ الأعطيات إمّا ذاتية أو أسمائية . وأمّا المنح والهبات والعطايا الذاتيّة فلا تكون أبدا إلَّا عن تجلّ إلهي . والتجلَّي من الذات لا يكون أبدا إلَّا بصورة استعداد المتجلَّي له ، وغير ذلك لا يكون " .
قال العبد أيّده الله به : إنّ العطايا والمنح والهبات سواء كانت معاني وحقائق وعلوما ومشاهدات وتجلَّيات إلهيّة كانت أو ربانية أو روحية أو عقلية أو نفسية أو طبيعية أو عنصرية أو مثالية على اختلاف طبقاتها ودرجاتها فإنّها إمّا ذاتية أو أسمائية ، ونعني بالذاتية بحت الوجود ومحض الوجود والجود ، وبالأسمائية ما تكون مخصوصة بصورة حضرة من الحضرات الإلهية .
ثم الأسمائية لا تكون إلَّا بحجاب وهو حجابيّة التعيّن الاسمي بما به يمتاز عن الآخر ويغايره لا غير .
وأمّا الذاتية فإنّها لا تكون إلَّا عن تجلّ إلهي .
ولا تكون أبدا عن الذات الأحدية ، لما عرفت أن لا حكم ولا رسم ولا تجلَّي ولا غير ذلك في الأحدية الذاتية ، فيكون تعيّن التجلَّي الذاتي من حضرة الألوهية ، فيضاف التجلَّي لهذا السرّ إلى ذات الألوهة ، لا إلى مطلق الذات ، فافهم هذا الفرق ، حتى لا يشتبه عليك الحقائق .
ثم إنّ هذه العطايا والمنح الحاصلة بالتجلَّي لا تتعيّن أبدا إلَّا بصورة استعداد المتجلَّي له لأنّ الاستعدادات والقابليّات في الأعيان هي المستدعية للتجلَّيات الذاتية والأسمائية ، والمتجلَّي ، له صورة علمية أزلية على هيئة معنوية مخصوصة بتخصّص التجلَّي الوجودي وبتخصّص الفيض الجودي بموجب ما تعيّن وتخصّص في النور العلمي الأزلي الشهودي بحسب خصوص المتجلَّى له ، فافهم .
قال رضي الله عنه : " فإذن المتجلَّى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق ، وما رأى الحقّ ، ولا يمكن أن يراه مع علمه أنّه ما رأى صورته إلَّا فيه كالمرآة في الشاهد إذا رأيت الصورة فيها لا تراها مع علمك أنّك ما رأيت الصورة أو صورتك إلَّا فيها ، فأبرز الله ذلك مثالا نصبه لتجلَّيه الذاتيّ ليعلم المتجلَّى له أنّه ما رآه ، وما ثمّ مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلَّي من هذا .
وأجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة ، لا تراه أبدا البتّة " .
قال العبد أيّده الله به : اعلم : أنّ أهل التجلَّيات من أصحاب النبوّات وأرباب الولايات إنّما ترد عليهم بحسب استعداداتهم وخصوصية قابلياتهم الوجودية ، وكذلك استعداداتهم في عرصة الوجود العيني إنّما تكون بموجب استعداداتهم الغيبيّة غير المجعولة في حضرة العلم الذاتي .
وقد أسلفنا لك من قبل أنّ صورة معلوميّة كلّ أحد لله تعالى أزلا قبل وجوده العيني هي حقيقته وعينه الثابتة وأنّها من حيث هي كذلك ليست أمورا وجودية مغايرة للعلم مغايرة حقيقية ، ولا زائدة على ذات العالم زيادة توجب الكثرة في وحدته العلمية .
بل هي صورة نسبه ومتعلَّقاته المظهرية وأحواله الغيبيّة وشئونه العينية ، إذ لا معيّة لغيره معه أزلا وأبدا دائما وسرمدا « كان الله ولم يكن معه شيء » وهو الآن على ما هو عليه كان .
والعلم الذاتي أوجب تعيّن المعلومات في حضرة العلم على ما هي عليها ، فهي إذن نسبة ونسب نسبة : كالعلم والعالمية والمعلومية ، والربوبية والمربوبية ، والظاهرية والمظهرية ، والظهور والبطون ، والقيد والإطلاق ، والتعيّن واللا تعين وغير ذلك .
جميع هذه الحقائق نسبه وأحواله النفسيّة ولا توجب كثرة في عين الأحدية ، كما لا توجب النصفيّة والثلثية والربعيّة والخمسية وغيرها من النسب كثرة قادحة في وحدة الواحد .
وإنّما الكثرة في عرصة العلم والتعقّل عندنا لا غير ، فمهما حصل تجلَّي المتجلَّي له في حضرة الوجود العيني ، فإنّما يحصل على صورة استعداد العين الثابتة الأزلية التي لهذا المتجلَّى له أزلا لتعيّن التجلَّي من الشأن الذاتي الذي هو عينه .
وذلك استعداد ذاتي لهذا القابل الأزلي ، غير مجعول ، لأنّ الفرض قبل الإيجاد وقبل الوجود في حضرة الغيب ، فالتجلَّي الغيبي يتعيّن في الذات في غيب قابلية المتجلَّى له أزلا أوّلا بحسب صورة ذلك الاستعداد الغيبيّ غير المجعول .
ثم يظهر في كل وقت وحال للمتجلَّى له في عرصة الوجود العيني على تلك الصورة التي هي صورة الحق في عينه العينّية أو صورة عينه الغيبية في الحق كيف قلت فإنّك في الكلّ مرآته من وجه وباعتبار .
وهو مرآة الكلّ من وجه وباعتبار ، فمهما تجلَّى لك فما رأيت في تجلَّي الحقّ لك إلَّا صورتك الغيبيّة الأزلية إن كان تجلّ ذاتي أو صورة نسبية ذاتية من النسب ، فما رأيت الله من كونه عين الكلّ ظاهرا بصورة الجمع والإطلاق الذاتي أبدا ، وإذا لم تره كذلك ، فما رأيته ، وما دمت أنت أنت ، ولم تكن عين الكلّ.
فلن ترى الحق الذي هو عين الكلّ المطلق عن قيد التعيّن في الكلّ وبالكلّ ، وعن الجمع بين القيد والإطلاق ، فكيف أنت تعلم أنّك متعيّن بصورتك الأزلية الأصلية العلمية في عين صورتك العينية الفصليّة الوصلية الأبدية في مرآتية الوجود الحق والحقّ المطلق ، فكما أنّ الرائي صورته أو صورة غيره في المرآة لا يرى سوى صورة الناظر .
ولا يمكن أن يرى جرم المرآة حال استغراق الشهود والرؤية بالصورة المثالية المرئيّة ، إذ الشهود التعيّني والإبصار الشخصي التشخّصي لا يسع في كل وقت واحد معيّن إلَّا مشهودا واحدا معيّنا كذلك وصورة واحدة شخصية ، مع علمه بأنّ تعيّن الصورة المشهودة وحصول الرؤية وتعلَّق الشهود بما ليس إلَّا في المرآة ، ولهذا تكسب الصورة صفتها ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « حتى أنّ بعض من أدرك مثل هذا في صور المرئيّ ذهب إلى أنّ الصور المرئيّة بين بصر الرائي وبين المرآة . هذا أعظم ما قدر عليه من العلم . والأمر كما قلناه وذهبنا إليه . وقد بيّنّا هذا في الفتوحات المكَّية .
وإذا ذقت هذا ، ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في وسع المخلوق . فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن ترقى في أعلى من هذا الدرج ،فما هو ثمّ أصلا وما بعده إلَّا العدم المحض".
بيان الأقوال في الإبصار
قال العبد : اختلفت الأقوال في كيفيّة تعلَّق الرؤية بالصورة المرئيّة في المرآة :
فمن قائل : إنّ مثال الصورة منطبع في المرآة ، ويتعلَّق به الشهود والرؤية في المرآة .
ومن قائل : إنّ الجسم الصقيل الصلب يوجب انعكاس النظر إلى ما يحاذي المرآة ، فيدركه البصر خارجا عن المرآة .
وقيل له : لو كان ذلك كذلك ، لما أدرك اليمين شمالا ، ولا الصورة على شكل المرآة ، بل أدركها كما هي خارجة عن المرآة .
وأجيب عن هذا : أنّ انعكاس النظر والقوّة الباصرة عن الجسم الصلب الصقيل يوجب ذلك في مرآة البصر ، لأنّه انعكس بحسب المرآة فأدّى الصورة منصبغة بموجب محلّ انعكاس النظر أوّلا .
وقال بعضهم : الصورة غير منطبعة في المرآة ، ولكنّها بين بصر الرائي وبين المرئيّ .
وذلك مبلغه من العلم .
وقيل : إنّ الصورة مدركة بعد انعكاس النظر عن الجسم الصقيل في عالم المثال .
والحق أنّ الصورة لو لم تكن منطبعة في المرآة ، لما تكيّفت بكيفيّتها من الاستدارة والاستطالة ، ولم تنعكس أيضا على قول القائلين بالانعكاس كذلك أيضا  فإنّها إن انعكست إنّما تنعكس بعد الانطباع .
وفي هذا الموضع مباحث شريفة :
منها : أنّ مرآتية الباصرة إن لم تنطبع فيها الصورة المثالية ، لما حصل الإدراك ، فإن كان حصولها في المرآتيّة البصرية بعد انعكاسها في سطح المرآة في الخارج ، لكان اليمين يمينا واليسار يسارا ، لأنّها صورة مثال المثال قد انعكس مساويا للأصل ومشاكلا له في الأصل في صورة مرئيّة في المرآة ، وليس ذلك كذلك .
فالإدراك إذن تعلَّق بالصورة في المرآة منعكسة ، أو انعكست مرآة الباصرة إلى الصورة الخارجة من هذا الجسم الصلب الصقيل على هيئة السطح ، فانعكست أمثلة الصور في مرآة الباصرة ، فأدركته المدركة منعكسة .
كذلك مثل انعكاسها في المرآة الخارجة ، فكان يمينها يسارا للصورة الأصلية ، والأعلى أسفل في بعض الأوضاع ، لتخالف الجهات في مطامح النظر ، فتدركها القوّة الباصرة بنورها الذاتي ومعاونة نور الضوء الخارج فيها بحسبها ، بل بحسب تعيّنها في المرآة ، فافهم .
وإذا تحقّقت بهذه الأصول في الشاهد ، فاعلم : أنّ تعيّن الحق لك في مرآة عينك الثابتة إنّما يكون كذلك بحسبها وبموجب خصوصيتها وصورة استعدادها ، فما ترى الحق في تجلَّيه الذاتي لك إلَّا بصورة عينك الثابتة ، فعينك في رؤيتك للحق المتجلَّي لك مثل باصرة عينك في رؤيتك لصورتك في المرآة ، فلا ترى الحق فيك إلَّا بحسب خصوصيّة عينك الثابتة ولكن في مرآة الوجود الحق وهو مثل للنور الخارجي من وجه .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 6:12 pm

02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية  الجزء الثاني

وهذا أعلى درجات الكشوف والشهود بالنسبة إلى مثلك إلَّا أن يكون عينك عين الأعيان الثابتة كلَّها لا خصوصية لها توجب حصر الصورة في كيفية خاصّة ، بل خصوصية أحدية جمعية برزخية كمالية ، فتعيّن الحق لك حينئذ مثل تعيّنه في عينه ، بل عين تعيّنه لنفسه ، بل أنت عينه ، فافهم .
ودون هذين الشهودين ، شهودك للحق في ملابس الصور الوجودية ، نوريّها ومثاليّها وروحانيّها ، عقليّها ونفسيّها وطبيعيّها وعنصريّها وخياليّها وذهنيّها وبرزخيّها وحشريّها وجنانيّها وغير ذلك فكلّ ذلك بحسب تجلَّيه من عينك لا من عين غيرك .
فأعلى درجات شهودك الحق هو بعد تحقّقك بعينك الثابتة فإذا اتّحدت أنت بعينك الثابتة فكنت أنت عينك من غير امتياز تعيّنيّ ، رأيت الحق كما يرى نفسه فيك ، ورأيت عينك صورة للحق في الحق ، فافهم ، وما أظنّك تفهم ، إلَّا أن تلهم وتعلم بعلم ما لم تكن تعلم ، وما ثمّ أعلى من هذا في حقّك فلا تطمع ولا تتعب .
وما بعد الحقّ ومرآته ومظهره الذاتيّ وهو عينك الثابتة التي هي صورة معلوميّتك للحق أزلا إلَّا العدم ، لأنّك من حيث عينك الثابتة وصورة معلوميّتك موجود أزلا وأبدا ، وأنت من حيث إمكانك ووجودك العيني معدوم العين أزلا .
قال رضي الله عنه : « فهو مرآتك في رؤيتك نفسك ، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها ، وليست سوى عينه ، فاختلط الأمر وانبهم ، فمنّا من جهل في علمه
وقال: العجز عن درك الإدراك إدراك " .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ هويّة الوجود الواحد الحق مرآة لظهور الإنيّات الوجودية العينية فيها ، وبها ظهرت الحقائق الكيانية ، ولولا تجلَّي الوجود الحق ، لما رأيت صورتك العلمية الأزلية الغيبيّة ، فإنّك إنّما ظهرت في نور الوجود الحق بصورتك العينية الوجودية على مثال صورتك العلمية الأزلية الغيبيّة ، فالوجود الحق مرآة لإنّيّتك العينية ، والعلم الحق مرآة لصورة عينك الغيبية الذاتية المعنوية ، وهويّتك الأزلية في شهودك نفسك وعينك .
وكذلك أنت مرآة للحق في تجلَّيه الوجودي ورؤيته وشهوده بصور أسمائه ونسبه الذاتية وصفاته الربانية ، وليست هذه النسب إلَّا عينه لا غيره ، لكونها غير زائدة عليها ولا موجبة للكثرة ، وليست قادحة في وحدة وجوده العيني كما ذكرنا .
فلمّا كان ظاهر الحق وهو أنت مجلى ومرآة لباطنه من وجه ، وفي شهوده ووجوده أيضا مرآة لظهور نسبه الغيبيّة التي هي فيها عينه من وجه آخر ، وكذلك أيضا هذه النسب مراء ومجال لتعيّنات الوجود الواحد ، فصدق على كل واحد من الحق والخلق أنّه مظهر وظاهر وشهادة .
 فاختلط الأمر واشتبه على الناظر ، وخفي الشهود ، ودقّ الكشف ، وجلّ الأمر عن الضبط والإحاطة والحصر ، وعزّ التجلَّي ، فاقتضى في بعض المشاهد والمشارب الحيرة والعجز والهيمان ، فأقرّ صاحبه بالعجز ، واعترف بالجهل .
 بمعنى أنّ العلم بما لا يعلم أنّه لا يعلم علم ، والعلم بعدم إحاطة العلم بما لا يحاط به علما علم حقيقي به كذلك ، فالعلم بما لا يعلم وهو الجهل بما من شأنه أنّه لا يحيط به العلم غاية العلم به ، وعدم الانحياز إلى جهة معيّنة فيما لا ينحصر فيها هو حقيقة حيرة الكمّل ، والتقاعد والعجز عن إدراك ما يعجز عن إدراكه هو غاية الإدراك .
كما قال أبو بكر رضي الله عنه : والعجز عن درك الإدراك إدراك ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « ومنّا من علم ولم يقل مثل هذا وهو أعلى القول ، بل أعطاه العلم السكوت ، ما أعطاه العجز وهذا هو أعلى عالم بالله ، وليس هذا العلم إلَّا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء ، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلَّا من مشكاة الرسول الخاتم وما يراه أحد من الأولياء إلَّا من مشكاة الوليّ الخاتم " .
قال العبد أيّده الله به : المتحقّق بهذا الشهود في هذا المقام من لا يكون عينه الثابتة وصورة معلوميّته لله أزلا مخصوصة بخصوصية جزوية ، بل تكون محيطة كلَّية في مظهريته إحاطة أحدية جمعيّة تجمع في مظهرية عينه الغيبيّة حقائق المظهريات كلَّها .
فإنّها عين الأعيان وحقيقة الحقائق ، فالتجلَّي الذاتي له وفي قابليته يكون تجلَّيا أحديا جمعيا كماليا بحسب عينه وقابليته الأحدية الجمعية المطلقة ، فيشهد في هذا التجلَّي بظاهره ظاهر الحق وباطنه ، وبباطنه باطن الحق وظاهره ، وبأحدية جمعه القطبي وخصوصه الكمالي الحقّي ، يجمع بين جمعيّتي الظاهر والباطن .
ويشهده الحق أيضا كذلك في عين شهوده إيّاه ، كذلك عينه بعينه شهودا أحديا جمعيا مطلقا عن التعين والحصر في عين واحدة ، فيعطيه التجلَّي في هذا المقام الإحاطة بغاية العلم ، والسكوت وعدم الحيرة ، بل أعطاه التحقّق بالكلّ حقيقة على ما هو عليه الكلّ والسكوت .
وهذا الشهود لا يكون إلَّا للحقيقة الإنسانية الكمالية المحمدية الأزلية الأوّلية والأبديّة الختمية وهي حقيقة الحقائق الأحديّة الجمعية الأزلية الأبدية بين جميع الجمعيات السرمدية ، فافهم .
وإذا رزقك الله فهمه والكشف به أو الإيمان بما قلنا .
فاعلم : أنّ لهذه الحقيقة الجمعية الأحدية الكمالية تعيّنا أحديا جمعيا كماليا في مرتبة  ظاهريّتها و باطنيّتها ، وغيبها وملكوتها ، فظاهريّتها النبوّة ، وباطنيّتها الولاية . ولكل واحد من التعيّن في المرتبتين صورة تفصيل جمعي بجميع التفاصيل ، وصورة جمع الجمع بين التفصيل وأحدية الجمع . وهذه هي الحقيقة المحمدية الكلَّية الكمالية الإحاطية الختمية ، والإنسان الذي يتعيّن به وفيه هو المظهر الأكمل ، والمراة الأجلى ، والمجلى الأشمل لذات الذات الإلهية وصفاتها وأخلاقها ونسبها وإضافاتها وأسمائها وأفعالها وحروفها وأحوالها .
فأمّا ظاهريّتها وهي جهة نبوّتها فمرآة ذات الألوهية ومظهرها ومجلاها ومنظرها وعرش أحديّة الجمعية للحقائق الوجوبية والأحكام الفعلية التي للربوبية .
وباطنها وهي ولايتها مرآة للهوية الحقيقية الأحدية الجمعية المطلقة .
ولكل واحد من مرتبتي النبوّة والولاية جمع وتفصيل .
والجمع جمعان : جمع قبل التفصيل ، وجمع بعد التفصيل .
ولكلّ واحد من الجمعين تعيّن في مرتبتي الفعل والتأثير والوجود ، والانفعال والتأثّر والإمكان وجمع بين الجمعين في أحدية جمع المرتبتين .
فالجمع الأوّل في المرتبة الأولى العليا لحقائق الوجوب والألوهية ورقائق الأسماء والربوبية هو لله الواحد القهّار الأحد ، والمظهر الظاهر لهذا الجمع في مقام التفصيل مجموع العوالم أمريّها وخلقيّها على كثرة أجناسها وأنواعها وتفاصيلها غير المتناهية واتّساعها.
 لكون ظهور الآثار الإلهية وأحكام أسماء الربوبية على التمام والتفصيل إنّما هو في العالم كلَّه ، فجميع العوالم مظاهر تفاصيل الأسماء الإلهية ، والألوهية التي لها هذه الجمعية المحيطة بحقائق الفعل والتأثير والوجوب لذاتها تستلزم جمعية جمع الحقائق الكونية الانفعالية التفصيلية على الوجه الأتمّ ، حتى تظهر آثارها وأحكامها .
وهو مجموع العالم ، ومظهره في مرتبة الجمع الأوّل الجامع قبل التفصيل في مرتبة المظهرية الجمعية هو آدم عليه السّلام وهو الإنسان الأوّل ، ومنه يكون التفصيل الأحدي الجمعي ، فكما أنّ الجمع قبل التفصيل الأسمائي لله ، فكذلك أحدية جمع الجمع الأوّل بعد التفصيل المظهري الكياني العالمي لأوّل الإنساني صورة .
والتفصيل الأحدي الجمعي المظهري منه يكون على وجهين : معنويّ وصوري ، إذ كلّ واحد من الجمعين في كل واحدة من مرتبتي الظهور والبطون أعني الولاية والنبوّة إمّا أن يكون جمع الفرق ، أو جمع الجمع ، فالجمعية التي في آدم عليه السّلام جمعية أحدية جمعيات الصور المظهرية العنصرية الإنسانية قبل التفصيل ، فهو صورة جمع تجمع ظاهرية المظاهر الأحدية الجمعية .
ولهذا الجمع في مرتبة التفصيل الجمعي مظاهرهم الكمّل من النوع الإنساني من الأنبياء والأولياء من لدن آدم عليه السّلام إلى الختم الظاهر والختم الباطن .
فتفصيل الجمعية الإلهية جميع الأسماء التي لا يبلغها الإحصاء الظاهرة بالتفصيل في تفاصيل صور العالم الفرقانية كما مرّ ، فصور حجابيّات جمعيات هذا التفصيل الفرقاني الجمعي هم الكفّار المذكورون في القرآن من الفراعنة .
وتفصيل الأحدية الجمعية الإنسانية النورية الحقّية في الأناسيّ الكاملين إلى الختم ، والختم أحدية الجمع الجمعي الإنساني  ولهذه المرتبة أحدية جمع جميع المحامد والكمالات الذاتية والإلهية :
فإن كانت في مرتبة ظاهرية الإنسانية الكمالية وهي النبوّة فالإنسان القائم بهذه الأحدية الجمعية الكمالية هو خاتم الأنبياء والرسل ، محمّد بن عبد الله ، المصطفى ، رسول الله وخاتم النبيّين صلَّى الله عليه وسلَّم اصطفاه الله ، لكمال أحدية جمع جمع الحكم الإلهية الربّانيّة والحقائق الوجوبية الفعلية المؤثّرة في المرتبة الكمالية الإنسانية ، وهو حامل لواء احمد وحمد الحمد الذي هو مأوى جميع محامد الجمع ومجامع الحمد .
وهذه الحقيقة الختمية النبويّة تنبئ جميع الحقائق المظهرية الإنسانية بحقائق الجمع الإلهي ، ولهذا « كان نبيّا وآدم بين الماء والطين » فلا تعيّن لحقيقة آدم إلَّا في الماء الإلهي ، وهو ماء الحياة والطهارة الفطرية التي في نفس النبوّة ، فافهم .
وإن كانت أحدية جمع جميع الكمالات والمحامد المذكورة في باطن المرتبة الكمالية الإنسانية الإلهية الذاتية وهي الولاية فالإنسان القائم بباطن أحدية جمع جميع الكمالات ، فإن كانت أحدية جمع الجمع الخصوصي .
فهو خاتم الولاية المحمدية الخاصّة ، وهو أكمل ورثة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم في المرتبة الختمية ، وإن كانت أحدية جمع جمع العالم في روح باطن الأحدية الجمعية الإنسانية الكمالية فالإنسان القائم بها هو عيسى روح الله وكلمته ، خاتم الولاية العامّة على الإطلاق في آخر نشأته الخصيصة بالولاية .
وإذا عرفت هذه الأصول ، عرفت أنّ اسم الحقيقة الإنسانية الكمالية الجمعية الأحدية على سبيل المطابقة هو " محمّد " فإن كانت الجمعيّة من حيث الظاهرية والنبوّة ، فمظهره أحدية جمع جمع الحقائق الوجوبية والنسب الإلهية والربوبية ، ولهذا الجمع الاختصاصي الختمي روح ومعنى وصورة ، فالصورة تجمع بين الروح والمعنى ، لأنّها أحدية جمع المعنوية والروحية ولوازمها وخصائصها .
 فإذا اجتمعت الحقائق والمعاني اجتماعا أحديا ، ظهرت عليها صورة التسوية الإلهية ، ونفخ الله فيها بنفسه الرحماني روح الأحدية الجمعيّة الكمالية التي هي جامعة بين الجمعية الروحية وبين الجمعية المعنوية الحقيقية وبين الجمعية الجسدانية البشرية و هو « محمّد » صلَّى الله عليه وسلَّم والمخصوص بالجمعية الظاهرية أبو البشر .
والمخصوص بجمعية الروح ، الباطنية هو روح الله وكلمته .
والمخصوص بجمعية الجمع بين الجمعيات الأحدية المذكورة في باطن المرتبة المعنوية الحقيقية ، هو خاتم ولاية الخصوص  محمد بن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن العربيّ منشئ الفصوص رضي الله عنه وجمعية هذا الختم جامعة بين روح الجمعية ومعناها وصورتها ، ومستلزمة لظاهريّتها بحقيقتها وفحواها.
ونسبته إلى خاتم النبوّة نسبة الابن الصلبي حقيقة ونسبة الروح نسبة الابن غير الصلبي ، وختمية البطون والولاية مشتركة بينهما .
ولم يكاشف بمقام هذا الختم الخصوصي من أولياء الله المتقدّمين إلَّا الإمام العلَّامة محمد بن علي الترمذي الحكيم ، صاحب « نوادر الأصول » وهو من مشايخ الطبقة العالية ، فتح له في الاطَّلاع على مقام هذا الختم .
فلمّا ذكره في كتبه ، واشتهر ذلك عنه بين علماء زمانه الأعلام من مشايخ الإسلام ، وإشرأبّت نفوس أهل الدعوى إلى هذا المقام ، وعلم ذلك منهم ، وأنّه : الولاية الخصوص . أقول : والجامع بين المرتبة الروحانية الباطنية والظاهرية هو الوليّ المطلق الذي كانت ولايته على قلب الحقيقة المحمدية والمعبّر عنه بالولاية الخاصّة هو عليّ بن أبي طالب باعتبار والمهديّ الموعود باعتبار آخر ، لجمعها بين النسبة المعنوية والظاهرية جلال آشتياني.
ليس لهم ذلك ، وخاف عليهم من دعوى بلا معنى ولا فحوى ، أنشأ كتابا جامعا لمسائل غامضة خصيصة له بالمشرب الختمي .
وذكر أنّه لا يشرحها على ما ينبغي إلَّا خاتم الأولياء ، وأنّه يطابق اسم هذا الخاتم المجيب اسم الحكيم السائل رضي الله عنه وكذلك اسم أبيه يطابق اسم أبيه ، فلمّا عثر أهل الدعوى على هذا المعنى ، نكصوا على أعقابهم ، ورجعوا إلى الله عن تراميهم إلى مقام الختم وانتسابهم .
ثم لمّا بعث هذا الخاتم في أقصى البلاد وهو المغرب من العرب ، شرح تلك المسائل ، وأوضح الحجج على تلك الدلائل ، وحصلت المطابقة بين الأسماء كما ذكر الحكيم .
فكان ذلك أحد البراهين الدالَّة على ختمية هذا الخاتم الصحيح نسبته من طيّئ إلى الحاتم ، كما قلنا في بعض مدائحه رضي الله عنه في رسالة لنا سمّيناها بالنصوص الواردة بالأدلَّة على ختمية ولاية الخصوص في الغرّاء الميمية من فتوح دار السلام : شعر 
وخاتم حاتميّ الأصل من عرب     .....         عزّت به من كرام الغرب أعجام
له بحولان أخوال جحاجحة     .....         ومن صناديد آل الطيّ أعمام
القصيدة بطولها في الرسالة المذكورة ، فاطلبها منها إن شاء الله تعالى .
ومن الدلائل على ختميته ما روّينا من مشهده الغيبي القلبي الذي رآه بقرطبة من تنزّل أرواح السيّارات وأرواح منازل القمر وهي ثمانية وعشرون على عدد الحروف وأرواحها أيضا ، فإنّها تنزّلت في صور الجواري الحسان النورانيّات ، وباشرهنّ واقتضّهنّ جميعا ، وهذا المشهد لا يراه إلَّا أكمل ورثة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم في الختمية الخصوصية المذكورة ، على ما استدللنا بذلك على ختميته في تلك الرسالة ، فاعلم ذلك .
ومن دلائل ختميته رضي الله عنه أيضا أنّه كان بين كتفيه في مثل الموضع الذي كان لنبيّنا خاتم النبيّين صلَّى الله عليه وسلَّم علامة مثل زرّ الحجلة ، ثابتة لهذا الخاتم أيضا تقعير يسع مثل زرّ الحجلة ، إشارة إلى أنّ ختمية النبوّة ظاهرة عليّة فعليّة ، وختميته رضي الله عنه باطنة انفعالية خفيّة .
قال رضي الله عنه في قريض نظمه في بعض مشاهده ، حكاية عنه تعالى لملائكته فيه رضي الله عنه شعر :
ولمّا أتاني الحقّ ليلا مبشّرا      .....         بأنّي ختام الأمر في غرّة الشهر
وقال لمن قد كان في الوقت حاضرا     .....         من الملإ الأعلى من عالم الأمر
ألا فانظرا فيه فإنّ علامتي     .....         على ختمه في موضع الضرب بالظهر
وفيه : أنا وارث لا شكّ علم محمّد     .....         وحالته في السرّ منّي وفي الجهر
وأنّي لختم الأولياء محمّد     .....         ختام اختصاص في البداوة والحضر
القصيدة بطولها في الرسالة وفي الديوان .
ومن دلائل ختميته أيضا قال رضي الله عنه في قريض له في أوّل الفتوح المكَّي ، قال ونظمه في عين المشهد ، شعر :
الله أكبر والكبير ردائي     .....         والنور بدري والضياء ذكائي
والشرق غربي والمغارب مشرقي     .....         وحقائق الخلق الجديد أماني
والنار غربي والجنان شهادتي     .....         والبعد قربي والدنوّ تنائي
وإذا انصرفت أنا الإمام وليس لي     .....         أحد أخلَّفه يكون ورائي
فهو الخاتم ، وقال فيه مستشهدا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا المشهد الأقدس ، والتجلَّي الأنفس الآنس شعر :
يا سيدي حقّا أقول فقال لي     .....         صدقا نطقت فأنت ظلّ ردائي
فاحمد وزد في حمد ربّك دائما     .....         فلقد وهبت حقائق الأشياء
من كل حق قائم بحقيقة      .....         يأتيك مملوكا بغير شراء
يشير إلى ما ذكرنا من تنزّل الأرواح لسعته حين قطابته .
وقال أيضا :
وأنا ختم الولاية دون شكّ     .....          بورث الهاشميّ مع المسيح
ومن ذلك إيراده رضي الله عنه ما أورده في الفصوص ، من ختميات مقامات الكمال في النبوّة من مشرب الخصوص ، لأرباب صفاء الخلوص .
وهاهنا لا يستقصى ذكر الدلائل على ختميته في هذا الكتاب ، فقد سبق لنا في كتاب النصوص في ختم ولايته الخصوص ما فيه شفاء العليل ، وبرد الغليل .
 " وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ".
قال رضي الله عنه : « حتّى أنّ الرسل لا يرونه متى رأوه إلَّا من مشكاة خاتم الأولياء فإنّ الرسالة والنبوّة أعني نبوّة التشريع ورسالته تنقطعان ، والولاية لا تنقطع أبدا ، فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلَّا من مشكاة خاتم الأولياء ، فكيف من دونهم من الأولياء ؟ ! " .
قال العبد أيّده الله به :  مشكاة خاتم الأولياء عبارة عن الولاية الخاصّة المحمدية ، ومشكاة خاتم الأنبياء عبارة عن النبوّة الخاصّة الختمية الشرعية ، وهي اختصاص من الله لرسوله بخصوصية ذاتية له صلَّى الله عليه وسلَّم بهذا المقام أوجبت كونه خاتم النبيّين .
وهي أحدية جمع النبوّات التي كانت متفرّقة في جميع الأنبياء ، وهم صور تفصيلها ، والنبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم صورة أحدية جمعها ، ولأنّ النبوّة ظاهر الولاية ، والولاية باطنها ، إذ النبوّة عبارة عن نسبة اختصاصيّة للنبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بين أمّته وبين الله .
 من كونه واسطة بينه تعالى وبينهم ، وسمّيت هذه النسبة وسيلة يتوسّل بها إلى الله أمّته ، وولايته عبارة عن النسبة التي بين الله وبين النبيّ من غير وساطة أحد .
أشار إليها بقوله : " لست كأحدكم ، لست كهيئتكم " وسمّاها فضيلة ، وحرّض الأمّة عند الأذان بسؤال هاتين الدرجتين كما تقول له : وأعطه الوسيلة والفضيلة ، فإنّ الفضيلة للنبيّ على أمّته من جهة هذه النسبة التي لا واسطة فيها بين النبيّ وربّه.
 ومن حيث هذه النسبة العليّة يأخذ عن الله وينزّل الله عليه الحكم والأحكام الإلهية في نفسه وأمّته بما فيه مصالحهم الظاهرة المعيشية الدنياويّة ومصالحهم الدينية الأخراوية الروحانية .
 ثم يوصل من تلك الحكم والأحكام في صور الأوضاع الشرعية الفرعية ، والأوامر والنواهي المرضيّة المرعيّة من حيث النسبة الأولى أعني النبوّة إلى الأمّة ما يليق بأحوالهم ويناسبهم ويدعوهم إلى الله والتعبّد له فيها وبها .
وعلى هذا يكون كلّ نبيّ ينبئ عن الله أمّته بما أمر بإنبائه ممّا أنبأه الله عن نفسه ودينه نبيّا وليّا ، ولا يلزم أن يكون كل وليّ نبيّا ، فالنبيّ إنّما يأخذ نبوّته وأحكام شريعته بولايته ، فإنّ حقيقة الولاية القرب والسلطان والنصرة ، وأنهى درجات القرب ارتفاع الوساطة .
كما قال : « لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل » والنبوّة لا تكون إلَّا بواسطة الملك الذي يوحي إلى النبيّ .
فمشكاة الولاية وإن كانت لرسول الله ، ولكنّها تخصّ بالقائم المتعيّن فيها ، فيقال فيها : إنّها مشكاة خاتم الأولياء .
 فهذا معنى قوله : رضي الله عنه : « حتّى أن الرسل لا يرونه متى رأوه إلَّا من مشكاة خاتم الأولياء » يعني إذ أشهد الله الرسل والأنبياء علوما وأسرارا خصيصة بالولاية والقرب ، فإنّما يشهدهم من حيث الولاية الخاصّة بمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم أو من حيث الولاية العامّة .
 ولا سيّما وسرّ القدر الذي ينافي ويباين علمه علم مقام الدعوة من الأمر والنهي ، كما أومأ إليه أبو العبّاس الخضر عليه السّلام لموسى عليه السّلام بقوله عليه السّلام : « أنا على علم علَّمنيه الله ، لا تعلم أنت ، وأنت على علم علَّمك الله لا أعلمه أنا » .
 أي لا ينبغي لكل واحد منّا الظهور بما يباين مرتبته ومقامه .
والنبيّ يأخذ من الحكم الإلهية ما قدّر له أن يأخذ من جهة ولايته على ثلاثة أنحاء :
حكمة تختصّ به دون أمّته .
وحكمة يشارك فيها أمّته .
وحكمة يختصّ بها أمّته دونه .
ولا يأخذ النبيّ هذه الحكم إلَّا من حيث مشكاة الولاية .
ثم لمّا كانت النبوّة نسبة بين الخلق والنبيّ ، فهي منقطعة ولا بدّ ، يعني أنّه لا ينزل الملك إلى أحد بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بشريعة مخالفة لهذه الشريعة أبدا ، فهي منقطعة لذلك .
وأمّا الولاية فغير منقطعة ، لأنّ الأخذ عن الله وإلقاءه وتجلَّيه وتعليمه وإعلامه وإلهامه غير منقطعة أبدا عن أولياء الله ، لأنّ الله سمّى نفسه بالوليّ الحميد ، ولم يسمّ بالنبيّ ولا الرسول ، وإذا لم يكن هذا السرّ المذكور أيضا من شهوده تعالى بالعين الثابتة مشهودا للرسل والأنبياء إلَّا من مشكاة الخاتم الوليّ ، فبالحريّ والأوجب أن لا يشهده الأولياء إلَّا من هذه المشكاة ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من الشرائع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه ، فإنّه من وجه يكون أنزل ، كما أنّه من وجه يكون أعلى " .
يعني رضي الله عنه : أنّ الاتّباع والاقتداء بشريعة الرسول الخاتم ، لا يقدح في علوّ مقام خاتم الولاية التابع لخاتم الأنبياء ، فإنّ الولاية من أحد وجوهها الاشتقاقية هي كمال التبعية للرسول الإلهي الحقّ ، ونصرته ونصرة شريعته .
والسلطان الذي يعطي ويورث التابع شرف الاطَّلاع والشهود ، فإنه قد يكون من وجه أعلى منه من وجه آخر ، يعني أنّ التابع من حيث النبوّة ، المتبوع من حيث الولاية هو من ولايته أعلى منه من حيث تابعيّته ، كما أنّه من وجه وباعتبار أنزل منه كذلك . ولا تظنّنّ أنّ الوليّ أعلى من الرسول ، فليس كذلك .
بل الأفضلية بين الوليّ التابع من كونه تابعا جامعا لمراتب الولاية وبين نفسه أيضا من كونه متبوعا ، فهو من كونه متبوعا في مقامات الولاية أعلى منه من كونه تابعا في الشريعة الظاهرة ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيّد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم ، وفي تأبير النخل ، فلا يلزم الكامل أن يكون له التقدّم في كلّ شيء وفي كلّ مرتبة " .
قال العبد : لمّا فضّل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأي عمر في قضيّة الأسارى وقصّتهم على آراء الصحابة ، مع كونه فيهم ، وكذلك قال في تأبير النخل : « أنتم أعلم بأمور دنياكم » فأثبت لهم الفضيلة في العلم بأمور الدنيا ، علمنا أنّ الفضائل الجزوية ممّا لا يكون من مقتضيات النبوّة إذا وجدت في غير النبيّ ، ولم توجد فيه ، فإنّ ذلك لا يقدح في أفضلية الخاصّة من حيث درجة النبوّة ، ولا يوجب أفضلية ذلك الشخص على الرسول مطلقا ، بل في عدم ما ينافي مقام النبوّة وكمالها وأفضليتها ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : « وإنّما نظر الرجال إلى التقدّم في مراتب العلم بالله ، هناك مطلبهم . وأمّا حوادث الأكوان فلا تعلَّق لخواطرهم بها ، فتحقّق ما ذكرنا ".
قال العبد : نظر أهل الله وخاصّته من وجهين :
أحدهما : يشترك فيه الأنبياء والأولياء ، كالاختصاص والقربة والرضوان والإخبار والإنباء عن الله تعالى والعلم والمعرفة بالله والشهود والتجلَّي .
والثاني : خصّت به الأنبياء من كونهم متبوعين ومشرّعين ومكلَّفين بالأوامر والنواهي الإلهية يتعبّدون بها الله أممهم ويعبدونه ، وليس لأولياء الله تطَّلع ولا رغبة واستشراف إلى هذه الفضائل من كونهم أولياء ، وإنّما نظرهم وتنافسهم وتفاضلهم في العلم بالله .
فالأعلم بالله هو الأكمل وإذ قد صحّت الأكملية لخاتم الولاية من حيث العلم بالله ، فقد صحّت متبوعيّته في ذلك لغيره من الأولياء وغيرهم .
وهذه الفضيلة الخصيصة به لا تنافي كونه تابعا ، ولا توجب متبوعيّته من كل وجه ، كما لا يقدح عدم العلم بتأبير النخل في كمال ختمية الخاتم الرسول ، وهذا الوليّ الخاتم الوارث ، تبعيته لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالمرتبة والذات والحال والخلق والأعمال.
ولو شرعت في المناسبات والمطابقات الواقعة بين هذين الختمين في جميع ما ذكرنا من العلم والمقام والخلق والحال ، لطال المقال ، ومال إلى أهل الميل السأمة والملال ، فلقد كملت وراثة من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في العلم بالله وفي جميع الأعمال المشروعة على الوجه الذي كان النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعملها بغير زيادة ولا نقصان .
محتسبا في كل ذلك تحرّي كمال بياعه ، حتّى أنّه جرى عليه رضي الله عنه مندوحة من جميع ما عليه من الأحوال ، فكسرت سنّه وشجّت جبهته ، ولم يلتفت في جميع عمره رضي الله عنه عن غرض يلوي عنقه أو جيده إلى جهة.
بل كان رضي الله عنه لا يلتفت وإذا التفت التفت جمعا ، مثل ما كان لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يفعلها بالطبع لا بالتكلَّف ، مع انضمام تحرّي الاتّباع له .
ولو طالعت كتاب « الأسرار » لهذا الخاتم ، واطَّلعت على أسراره ، لعلمت أنّه اتّبعه في جميع مقاماته ومشاهده ومعاريجه وبرازخه وتجلَّياته بالمرتبة والذات والعلم والحال والخلق حذو القذّة بالقذّة ، كما عدّدنا بعض ذلك في رسالة النصوص ، والحمد لله .
قال رضي الله عنه : " ولمّا مثل النبيّ النبوّة بالحائط من اللبن وقد كمل سوى موضع لبنة ، فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تلك اللبنة غير أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يراها إلَّا كما قال : لبنة واحدة " .
قال العبد : إنّما مثّل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم النبوّة بالحائط ، لأنّ النبوّة صورة الإحاطة الإلهيّة بالأوضاع والأحكام الشرعية والحكم والأسرار الدينيّة الوضعية المرعيّة ، قد وضعها الله على ألسنة رسله وفي كتبه قبل ظهور الشريعة الجمعيّة الأحدية والأوضاع الكمالية المحمدية .
فكملت من حيث صورتها التفصيليّة ولكنّها كانت ناقصة من حيث عوز الوضع الأحدي الجمعي والمقام المحمدي الختمي الذي يستوعب الكلّ ، وكلّ لبنة كانت في تلك الحائط كانت صورة نبيّ من الأنبياء ، فالحائط كالقلادة المشتملة على جواهر الأنبياء.
وكان يعوزهم واسطة القلادة التي تساوي الكلّ ، وهو أحدية جمع الكمّل من الأنبياء ، كلَّهم الذين هم صور تفصيله ، فلا بدّ للرسول الخاتم أن يرى نفسه تنطبع في تلك الثلمة ، ويسدّ بذاته تلك الخلَّة ، فيكمل به الحائط ، لأنّه صلَّى الله عليه وسلَّم خاتم النبوّة المبعوث لتتميم مكارم الأخلاق .
ولا بدّ لوارث كل رسول أن يجري عليه أنموذج من جميع أحواله التي جرت على ذلك الرسول الذي هذا الوليّ وارثه وتابعه في أعماله وأحواله وعلومه وأخلاقه ومشاهده ومواجده ، لكونه قد أقامه الله مقام ذلك النبيّ أو الرسول في ولايته كذلك .
ولا بدّ لهذا الوارث المحمدي الأكمل كذلك أن يرى مثل هذه الرؤيا وإلَّا لم يستكمل في ورثة وهو كامل الورث ، فيرى ذلك ولا بدّ .
قال الشيخ رضي الله عنه : « وأمّا خاتم الولاية فلا بدّ له من هذه الرؤيا ، فيرى ما مثّل به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ويرى في الحائط موضع لبنتين ،واللبن من ذهب وفضّة.
فيرى اللبنتين اللتين ينقص عنهما الحائط ويكمل بهما لبنة فضّة ولبنة ذهب ،فلا بدّ أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين،فيكمل الحائط".
قال العبد أيّده الله به اعلم : أنّ الذهب صورة الكمال الحقيقي الذي به تصحّ المتبوعيّة ، وهو باطن النبوّة ومعناها وأصلها الذي بدأت منه ومنتهاها .
فكذلك الذهب باطن الفضّة وهو حقيقتها ، طرأ عليه قبل كماله ونضجه البرد ، فابيضّ ، والفضّة أقبل الأجساد للذهبية ، لكمال طهارتها ونوريّتها إلَّا أنّها ستبطل  صورتها ، وتحرقها محرقاتها ، بخلاف الذهب ، فإنّه جوهر حافظ صورته النوعية على مرور الزمان وضروب الحدثان .
فلا يتسلَّط عليه النار والتراب والكباريت كما نفذوا على الفضّة التي هي صورة مظهر النبوّة والصفة ، إذ الفساد الطارئ على الأجساد إنّما متعلَّقه الصور لا الحقائق ، فإنّ الحقائق لا تنعدم ولا تتبدّل ، وإنّما متعلَّق الانعدام والتبدّل الصورة لا غير .
كذلك الولاية لا تنقطع ، فإنّ الله هو الوليّ الحميد ، وهو خير الوارثين .
ولمّا كان خاتم الأنبياء والرسل في التخلَّق بأخلاق الله والظهور بأوصاف العبودية وإقامة الشرائع والدين والدعوة إلى الله ونصرته متبوعا للكلّ في الكلّ .
وهو صلَّى الله عليه وسلَّم غير مأمور بكشف الحقائق والأسرار الذاتية ، بل كان مأمورا بسترها في الأوضاع الشرعية والديانات الوضعيّة والسنن الكلَّية الأصلية والجزئية الفرعية .
والنبوّة هي الدعوة إلى كلّ ذلك والظهور بها والاتّصاف بجميعها ، فلهذا مثّل الله له النبوّة المحيطة بسائر النبوّات الجزوية الفرعية والأحكام والنواميس الشرعية في صورة حائط تنقصه صورة لبنة واحدة فضيّة .
إشارة إلى ما كان ينقص النبوّة من تبعية أمّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم ولا تنسدّ تلك الخلَّة إلَّا بوجوده صلَّى الله عليه وسلَّم ، لكونه أحدية جمع صورة المتبوعية المحيطة في جميع الأخلاق الإلهية ، وهو المبعوث صلَّى الله عليه وسلَّم لتكميلها وتتميمها ، فيرى نفسه تكون عين تلك اللبنة الفضيّة التي هي صورة أحدية جمع جميع الصفات الإلهية التي بعث لتكميلها إشارة إلى متبوعيّته في الأخلاق الإلهية والأوصاف والنعوت وإن كان تابعا لله تعالى في التخلَّق بكلّ ذلك ، فافهم ، ولهذا ما رآه إلَّا لبنة واحدة ، لأنّه متبوع لا تابع .
والمقام الأحدى الجمعي الحاصل من الجمع بين التبعية والمتبوعية ينتج العلم بأحدية جمع المتبوعية الإلهية الأصلية والتابعية المربوبية العبدانيّة ، ولأحدية جمع الجمع الذاتي الصورة الذهبية من الأجسام والفضّة معنى الصفات الذاتية القابلة من وجه عين ذهبية الموصوف ، وذلك بسريان سرّ الإكسير الكماليّ الأحدي الجمعي في أجزائها .
فلمّا كان هذا الوليّ الكامل التبعية لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كامل الوراثة أيضا في العلم والحال والمقام ، أعطي متبوعية من سواه في العلم بالله ، والتابعية الكبرى من الوراثة المحمدية ، والولاية الخاصّة الجمعية الأحدية ، فلا بدّ أن يرى نفسه تنطبع في موضعي لبنتي الذهب والفضّة اللتين مثّل الله له فيهما النبوّة والولاية والتبعية والمتبوعية ، فيكون عينهما ، وكان ينقص عنهما صورة حائط الكمال الخصيص بالولاية ، فافهم .
[right]قال رضي الله عنه : " والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنّه تابع ومتبوع ، تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضيّة وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام ، كما هو آخذ عن الله في السرّ ما هو في الصورة الظاهرة متّبع فيه ، لأنّه يرى الأمر على ما هو عليه ، فلا بدّ أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن ، فإنّه أخذ عن المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول " .
قال العبد أيّده الله به اعلم : أنّ لخاتم الولاية الخاصّة ظاهرا أن يتّبع ظاهر الأمر النازل بالشريعة الطاهرة لإقامة ظاهر النشأة الإنسانية البشرية ، وباطنا تأخذه حقيقة الأمر ومعنى السرّ وروحه وكذلك باطن الجمعية الأحدية الكمالية .
فله من حيث تبعيّته الظاهرة لظاهر الشرع الطاهر المقتضي لإقامة ظاهر النشأة الدينية والطينية نسبة الفضّة ، لتبعية الفضّة للذهب في صفائها وصفاتها وطهارتها وكمالها في ذاتها وفي المعاملات والمبايعات العرفية الشرعية في جميع حالاتها .
فإنّ الفضّة تنوب عن الذهب في أكثر مراتب كمالاتها ، ولكنّ الذهب أصل به تعدّ الفضّة ، ويثمّن بأضعاف أضعاف ثمن الفضّة ، ولهذا السبب تتجسّد هذه النسبة الظاهرية الوضعية والوصفية على صورة اللبنة الفضيّة .
ثم الخاتم المذكور رضي الله عنه من كونه آخذا للأمر حقيقة ومعنى بلا واسطة عن المعدن الذي أخذ عنه الملك الموحى إلى الرسول له حقيقة اللبنة الذهبية ، وهي العلم بما هو الأمر عليه في نفسه وعند الله ، فهو عالم به في السرّ ، عامل بموجبه في الجهر من كونه جامعا بين التابعية والمتبوعية ، فافهم. فإنّك إن فهمت هذا حصل لك العلم النافع ، والسرّ الجامع ، والمعنى المحيط الواسع .
قال الشيخ رضي الله عنه : " فإن فهمت ما أشرت إليه ، حصل لك العلم النافع " .
يعني رضي الله عنه لكونه مفيضا إلى كمال التبعية المنتج لكمال التحقّق بالحقيقة ، فإنّ حصول هذا العلم النافع إنّما هو بكمال التبعية لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المنتجة لمحبّة الله من قوله تعالى : " فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ".
فمن كان أكمل في تبعيته والتخلَّق بأخلاقه صلَّى الله عليه وسلَّم فهو الأفضل في التحقّق والأكمل في التخلَّق بحقائق الأخلاق الإلهيّة .
قال رضي الله عنه : " وكلّ نبيّ من لدن آدم إلى آخر نبيّ ما منهم أحد إلَّا يأخذ من مشكاة خاتم النبيّين وإن تأخّر وجود طينته ، فإنّه بحقيقته موجود ،
وهو قوله :" كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين » وغيره من الأنبياء ما كان نبيّا إلَّا حين بعث " .
قال العبد أيّده الله به : قد علمت فيما سلف أنّ الحقيقة المحمدية في صورتها الحقيقة التي حذي آدم عليها ، لم تزل قائمة بمظهرية الله في جميع العوالم العلوية الروحانية ، وفوقها قبلها في العوالم النورانية الأسمائية بالقبلية المرتبيّة والذاتية لا الزمانية .
وفوقها قبلها في العوالم النفسية الرحمانية العمائية ، وبعد وجوده وظهوره في الأرواح النورية ، كان روحه روحا كلَّيا جامعا لخصائص عوالم الأمر .
مبعوثا إلى الأرواح البشريّين والملكيّين نبيّا من عند الله بالاختصاص الأحدى الجمعي ، كما أشار إلى ذلك بقوله : « أوّل ما خلق الله نوري » فجمع الله في هذا النور المحمدي جميع الأنوار النبوية وأرواح الأولياء جمعا أحديا قبل التفصيل في الوجود العيني .
وذلك في مرتبة العقل الأوّل ومظهرية الاسم « المدبّر » ثمّ تعيّنت الأرواح في مرتبة اللوح المحفوظ وتميّزت بمظاهر خصائصها وحقائقها النورية .
فبعث الله الحقيقة المحمدية الروحية النورية إليهم نبيّا ينبئهم عن الحقيقة الأحدية الجمعية الكمالية .
فلمّا وجدت الصور الطبيعية العلوية الكلَّية من العرش والكرسي ، ووجدت صور مظاهر تلك الأرواح النبوية والأنوار الكمالية من الخلفاء والأولياء ، ظهر سرّ تلك البعثة المحمدية إليهم أيضا ثانيا ، فآمن من الأرواح من كان مؤهّلا للروحانية الأحدية الجمعية الكمالية الإنسانية الإلهية .
ولمّا وجدت الصور العنصرية ، ظهر حكم ذلك الإيمان في كل النفوس البشرية ، فآمنوا بمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم وكان خير أمّة أخرجت للناس ، كما أشار صلَّى الله عليه وسلَّم إلى هذا السرّ بقوله : « الأرواح جنود مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » وبهذا المعنى « كان نبيّا وآدم بين الماء والطين ».
أي كان عالما بنبوّته إذ ذاك وإن لم يصدق إطلاق اسم النبيّ عليه السّلام .
ولا يخطر لك أنّ كلّ أحد بهذه المثابة من حيث إنّه كان في علم الله السابق قبل وجوده العيني كذلك ، فليس ذلك كذلك ، لأنّه ليس كل أحد عالما بذلك قبل وجوده العيني ، بل بعد وجوده واستكماله شرائط نبوّته بمتمّماتها ، والعلم الأزلي أيضا لم يتعلَّق به أنّه كذلك إلَّا بعد استكماله ما ذكرنا وفي نشأة دون نشأة ، بل هذا النوع من العلم والتذكير مخصوص بالكمّل والأفراد المحمديين الذين يتذكَّرون نشأتهم المقدّمة في عالم الأرواح والسماوات العلى وعوالم الأنوار والأسماء والتجلَّيات .
وهذا سرّ خفيّ جدّا دقّ عن الأفهام إلَّا من شاء الله من الندّر ، فافهم .
قال رضي الله عنه : " وكذلك خاتم الأولياء ، كان وليّا وآدم بين الماء والطين ، وغيره ما كان وليّا إلَّا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتّصاف بها من كون الله تسمّى بالوليّ الحميد" .
قال العبد اعلم : أنّ خاتم الأولياء من كونه صورة من الصور المحمدية ختمت بها الولاية الخاصّة بمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم فكان حكمه حكم خاتم الرسل في علمه بكونه وليّا قبل وجوده العنصري ، فإنّ الحقيقة المحمدية الكلَّية المذكورة توجب المظهر الأكمل لتجلَّيها الذاتي بمرتبة الولاية .
كما توجب المظهر الأكمل لتجلَّيها في مرتبة النبوّة ، ولا بدّ من هذين الختمين ، وهما صورتا حقيقة واحدة في مرتبتين هما النبوّة والولاية ، والحقيقة هي الحقيقة المحمدية الكلَّية المذكورة الكمالية الإنسانية ، وحكمها بعكس ما قيل قبل :" نحن روحان حللنا بدنا " .
فإنّ هذا لا يصحّ فيما نحن بصدد بيانه ، ولكن في الاتّحاد والحلول عند من يقول بهما على الوجه الذي يقول بهما ، لا على ما عرف عرفا عاميّا .
ولكن يقال فيها : « نحن روح واحد في جسدين » وهذا الخاتم رضي الله عنه كان يذكر كيف كان حال كون خاتم الرسل نبيّا وآدم بين الماء والطين ، عالما بنبوّته الكاملة والولاية المحيطة الشاملة ، وكان يشهد لخاتم الرسل بالنبوّة والتقدّم على الأرواح الكاملة من الأنبياء والأولياء كما قال في قريضه ، شعر :
شهدت له بالملك قبل وجودنا     ..... على ما تراه العين في قبضة الذرّ
شهود اختصاص أعقل الآن كونه     ..... ولم أك من حال الشهادة في ذعر
لقد كنت مبسوطا طليقا مسرّحا     ..... ولم أك المحبوس في قبضة الأسر
يعني رضي الله عنه كنت عالما بنبوّته وختميته صلَّى الله عليه وسلَّم إذ ذاك قبل وجودنا العنصري ، وكونه مبسوطا طليقا مسرّحا لا محبوسا ، إشارة إلى مراتب أهل البرزخ في برازخهم ، فإنّهم على اختلاف درجاتهم وائتلاف طبقاتهم وتباين مقاماتهم على قسمين :
أحدهما وهو العامّ أرواح الناس المتقيّدين بالمقامات الجزئية والعلوم والأخلاق التقيّدية الفرعية ، كانوا في نشأتهم الدنياوية متقيّدين بعقائد وعوائد مخصوصة ، متعشّقين بعلوم وأعمال وأخلاق وأحوال جزئية ، فهم بعد المفارقة محبوسون بصور ما هم متعشّقون ، وفي قبضة أسر الأمر الذي هم متقيّدون .
والقسم الثاني صنف من كمّل الإنسان ، قطعوا في نشأتهم الدنياوية برازخهم ، وحشروا قبل الحشر ونشروا قبل النشر وبعثر قبور هياكلهم عن أرواحهم في صور الانسلاخات والمعاريج والإسراءات على ما تحقّق في قواعد الكشف والشهود .
وهؤلاء الكمّل غير مقيّدين بصورهم البرزخية ، بل لهم الإطلاق والسراح والانطلاق والظهور في أيّ عالم شاؤوا ، لكمال نشأتهم وقواهم ، فافهم .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية الجزء الثالث .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 6:14 pm

02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية الجزء الثالث .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية  الجزء الثالث

قال رضي الله عنه : " فخاتم الرسل من حيث ولايته ، نسبته مع الختم للولاية نسبة الأنبياء والرسل معه ، فإنّه الوليّ الرسول النبيّ ، وخاتم الأولياء الوليّ الوارث ، الآخذ عن الله ، المشاهد للمراتب وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل ، محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم مقدّم الجماعة ، وسيّد ولد آدم في فتح باب الشفاعة " .
قال العبد أيّده الله به اعلم : أنّ الولاية المحمدية التي هي مشكاة خاتم الأولياء ، منها مادّة الولايات كلَّها ، المتفرّعة في أنبياء الأمم ورسلهم وعامّة الأولياء وخاصّتهم وخلاصة خلاصتهم وصفا خلاصة الخاصّة من حيث إنّ النبوّة لا تخلو عن ولاية هي باطنها .
ومن حيث إنّها صور نسب الولاية الكلية الكمالية المحمدية الإلهية من مرتبة التفصيل من مشكاته المذكورة ، فمنها وصول المادّة إلى الكلّ .
فنسبته في الأخذ عن الله من الوراثة المحمدية للولاية الجمعية الأحدية الكمالية مع محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم كنسبة الأنبياء والرسل في أخذ نبوّاتهم ورسالاتهم عن الله من الحقيقة المحمدية ، على ما تقرّر آنفا ، هذا لسان عموم أهل الذوق في هذا المقام .
سرّ للخواصّ :
لمّا تعيّن في ختمية الولاية الخاصّة المحمدية خاتم الأولياء ، وكانت مشكاته الخصيصة به هي الولاية الخاصّة المحمدية الإلهية الكمالية الختمية الأحدية الجمعية.
كتعيّن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ختم النبوّة التشريعية المحيطة الكمالية الإلهية ، وهي المشكاة الخاصّة به صلَّى الله عليه وسلَّم وكانت النبوّات كلَّها مترتّبة على الولايات ، فإنّما هي صور أحكام حكم الولايات ، ظهر له نسبة خاتم الرسل إلى ختم الولاية من حيث إنّ نبوّته صلَّى الله عليه وسلَّم ظاهرية مشكاة ختم الولاية ، والولاية خصيصة به كنسبة سائر الرسل في أخذ نبوّاتهم من مشكاة الرسول الخاتم ، وولايتهم من مشكاة خاتم الولاية الخاصّة المحمدية ، فافهم إن شاء الله .
فمن عنده صلَّى الله عليه وسلَّم قسمة أرزاق العلوم والأذواق والمقامات والأحوال والأخلاق كلَّها ، فما تعلَّق منها بالنبوّة واختصّ بالرسالة يوصله الله من هذه المشكاة المحمدية إلى جميع الأنبياء والرسل حال وجودهم في نشأتهم وبعد المفارقة في برازخهم.
وما تعلَّق منها بالولاية وتحقّق بها خاتم الأولياء المحمديين يفيضه الله من مشكاة خاتم الأولياء على سائر الأولياء المحمديين وهم أنبياء الأولياء وعلى أولياء الأنبياء والرسل ، فافهم .
ولا يحجبنّك تأخّر صورته العنصرية الختمية فلا بدّ للختم من الآخرية من حيث صورته الشخصية ، وأنّ له صورة أزلية فاتحية متقدّمة على الكلّ بالحقيقة والمرتبة ، فافهم وتذكَّر ، والله الملهم .
واعلم : أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جامع بين النبوّة والرسالة والولاية والخلافة ، فهو النبيّ الرسول الخاتم .
وكذلك وارثه الأكمل خاتم الأولياء المحمديين حسنة من حسنات خاتم الرسل ، لكونه جمع له وراثته في الختمية الكمالية وتخيّر من بين أرواح الأولياء لمظهريته الكاملة الأحدية الجمعية في باطن الصورة الإلهية المحمدية الختمية ، ولكنّه صلَّى الله عليه وسلَّم مقدّم جماعة الكمّل في فلك النبوّة وفلك الولاية ، وهو سيّد ولد آدم.
لأنّ الحقيقة الكمالية الجمعية الأحدية في الصورة الإلهية المحمدية هي التي تشفع فرديات الحضرات الأسمائية إذا غلبت الأحدية الجلالية بقهرها على الحضرات ومظاهر الأسماء والتجلَّيات وأمم الأنبياء وأرباب الرسالات ، فإذا شفعتها بفرديّتها .
انضاف الفردي المحمدي إلى الفرد العبداني المستهلك تحت قهر الأحدية الجلالية بقهرها على الحضرات ومظاهر الأسماء والتجليات وأمم الأنبياء وأرباب الرسالات فإذا شفعتها بفرديّتها ، انضاف الفرد المحمدي إلى الفرد العبداني المستهلك تحت قهر الأحدية ، حصلت الشفعية فشفعه الوتر ، وهو أرحم الراحمين .
فكان الشفع بالوتر فردا موجبا لظهور الفتحية ، ففتح الرحمن باب الشفاعة ، فشفع كلّ اسم في عالمه وكلّ نبيّ في أمّته .
قال رضي الله عنه : " فعيّن حالا خاصّا ما عمّم . وفي هذا الحال الخاصّ تقدّم على الأسماء الإلهية ، فإنّ الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلَّا بعد شفاعة الشافعين ، ففاز محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم بالسيادة في هذا المقام الخاصّ فمن فهم المراتب والمقامات ، لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام " .
قال العبد أيّده الله به : لمّا كانت الشفاعة في إنقاذ أهل البلاء والجهد أوّلا للمرتبة الأحدية الجمعية الكمالية بفتح باب الرحمة في الإيجاد ، فشفعت الحقيقة المحمدية الجمعية الأحدية حقائق القوابل الأفراد بالتجلَّي الرحماني .
فقرن بها الوجود ، فشفعت بأحدية جمعها وفردانيّتها بين القابل والتجلَّي ، فأنقذت الحقائق من ظلمة العدم ، فيظهر سرّ ذلك آخرا بشفاعته صلَّى الله عليه وسلَّم لأهل المحشر .
فيشفع أوّلا للشفعاء من الأسماء الإلهية والأنبياء ، حتّى يشفّعوا ، فيشفعوا في عوالمهم وأممهم ومتعلَّقات خواطرهم وهممهم ، فله في هذا المقام الخاصّ سيادة على الكلّ .
بإنقاذ مظاهرهم عن الذلّ ، وذلك سلطنة أسماء القهر والجلال ، ك « القاهر » و « المنتقم » و « المعذّب » ، إذا ظهرت في الدنيا والآخرة ، بطنت سلطنة أسماء اللطف والجمال .
فلم يظهر لها حكم إلى أن تنقضي سلطنة أسماء العذاب ، وحينئذ أظهرت الحقيقة المحمدية الإنعامية الكلَّية من خزائنها الأحدية الجمعية حقائق اللطف والجنان ، والعفو والإحسان ، فشفعت بأحدية جمعها فردية الرحيم الرحمن ، فزهرت يفاع بقاع الجنان ، أزهار رياض الفردوس بالحور والقصور والولدان.
وأظهرت سرّ قوله : « سبقت رحمتي غضبي » ففاضت الرحمة وغاضت النقمة " وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ" .
قال رضي الله عنه : « وأمّا المنح الأسمائية فاعلم : أنّ منح الله تعالى خلقه رحمة منه بهم ، وهي كلَّها من الأسماء . فإمّا رحمة خالصة كالطَّيب من الرزق اللذيذ في الدنيا ، الخالص يوم القيامة ، ويعطي ذلك ، الاسم الرحمن فهو عطاء رحماني ، وإمّا رحمة ممتزجة كشرب الدواء الكرية الذي بعقب شربه الراحة ، وهو عطاء إلهي ، فإنّ العطاء الإلهي لا يمكن إطلاق عطائه منه من غير أن يكون على يدي  سادن من سدنة الأسماء ، فتارة يعطي الله العبد على يدي الرحمن ، فيخلص العطاء من الشوب الذي لا يلائم الطبع في الوقت أولا ينيل الغرض وما أشبه ذلك وتارة يعطي الله على يدي « الواسع » فيعمّ ، أو على يدي « الحكيم » فينظر في الأصلح في الوقت ، أو على يدي « الواهب » فيعطي لينعم ، لا ليكون مع الواهب تكليف المعطى له بعوض على ذلك من شكر أو عمل ، أو على يدي " الجبّار " فينظر في الموطن وما يستحقّه أو على يدي « الغفّار » فينظر في المحلّ وما هو عليه ، فإن كان على حال يستحقّ العقوبة فيستره عنها ، أو على حال لا يستحقّ العقوبة فيستره عن حال يستحقّ العقوبة فيسمّى معصوما ومعتنى به ومحفوظا وغير ذلك ممّا شاكل هذا النوع وأشباه ذلك  "
قال العبد أيّده الله به : « له » تمليك الرقبة ، والمنحة : تمليك الانتفاع دون الرقبة ، كمن يعطى الناقة لتحلب أو لتركب ، أو الأرض لتزرع ، والأغلب فيها المدّة المعيّنة ثم الاسترداد ، وهي لا تكون إلَّا من حضرات الأسماء ، وهي رحمات متخصّصة بحسب خصوص الحضرات ، ومتخصّصة بموجب الاستعدادات .
ثم العطايا والمنح إن كانت من حضرة أحدية الجمع الإلهية ، فهي ذاتية أي من ذات اللاهوت ، ولا يتمكَّن إطلاق عطاياها من حيث هي هي من غير أن يكون التجلَّي الإلهي الأحدى الجملي الذاتي من خصوص حضرة من حضرات الأسماء .
فإن كان التجلَّي من حضرة الرحمن ، خلصت عطايا الله من الشوب والكدر ، وعمّت الدنيا والآخرة والظاهر والباطن ، وإن كان من حضرة الواسع ، عمّ ظاهر المعطى له وباطنه وروحه وطبيعته وغير ذلك ، وتمّت نعمته سابغة في عافية ورفاهية ، وكذلك تكون عطايا الله ممتزجة منصبغة بحكم الحضرة المتجلَّي منها ، فإنّ الحكيم ينظر في الأصلح والأنسب.
كما قد فصّل الشيخ رضي الله عنه خصوصيات الحضرات ، فلا حاجة إلى سنديّة الاسم " الله " و "الرحمن" .
و « المعصوم » و « المحفوظ » هو العبد الذي يحول « العاصم » و « الغفّار » و « الحافظ » و « الواقي » بينه وبين ما لا يرضاه من الذنوب .
و « المعتنى به » أعمّ من المحفوظ والمعصوم ، فقد يكون المعتنى به من لا تضرّه الذنوب ، ويقلَّب المحبّة الإلهية ، والاعتناء الربّاني غيّر سيّئاته حسنات ، ثم المعصوم يختصّ في العرف الشرعي بالأنبياء ، والمحفوظ بالأولياء .
قال رضي الله عنه : « والمعطي هو الله من حيث ما هو خازن لما عنده في خزائنه ».
أي من حيث إنّ ذلك الاسم خازن لما عنده من خزائن الاسم الله " فما يخرجه إلَّا بقدر معلوم " أي بقدر ما تستدعي قابلية المعطى له ويستأهل من خزائنة ، فما يخرج إليه إلَّا بقدر ذلك المعلوم . " على يدي اسم خاصّ بذلك الأمر .
فـ " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه " على يدي الاسم « العدل » وأخواته لأنّ الحكم العدل يحكم على « الجواد » و « الوهّاب » و « المعطي » أن يعطي ما يعطي بقدر قابلية المعطى له .
قال رضي الله عنه : « وأسماء الله لا تتناهى ، لأنّها تعلم بما يكون عنها ، وما يكون عنها غير متناه وإن كانت ترجع إلى أصول متناهية هي أمّهات الأسماء أو حضرات الأسماء . وعلى الحقيقة فما ثمّ إلَّا حقيقة واحدة تقبل جميع هذه النسب والإضافات التي يكنى عنها بالأسماء الإلهيّة " .
قال العبد : تحقّق وجود العالم والممكنات في أعيانها موقوف على الأسماء وحضراتها ، ولكنّ العلم بالأسماء موقوف عندنا على القوابل والعوالم والمظاهر .
وعوالم الإمكان من حيث شخصيّاتها وجزويّاتها لا تتناهى ، فالأسماء لا تتناهى لكنّها من حيث أمّهاتها وكلَّياتها منتهية إلى أصول حاصرة لها ، فتعدادها وعدم تناهيها وازديادها إنّما هو من حيث الممكنات والقوابل والمظاهر المتعدّدة غير المتناهية والكلّ تعيّنات وجودية ، وتنوّعات تجلَّيات جودية بحسب خصوصيات القوابل .
فهو من حيث الأصل حقيقة واحدة هي محض الوجود الحق الخالص لا غير . فالتوحيد في الحقيقة ، والتعدّد في الظهور والطريقة ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « والحقيقة تعطي أن يكون لكل اسم يظهر إلى ما لا يتناهى حقيقة يتميّز بها عن اسم آخر ، تلك الحقيقة التي بها يتميّز هي الاسم عينه لا ما يقع فيه الاشتراك ، كما أنّ الأعطيات تتميّز كلّ أعطية عن غيرها بشخصيّتها ، وإن كانت من أصل واحد ، فمعلوم أنّ هذا ما هي هذه الأخرى ، وسبب ذلك تميّز الأسماء " .
وسبب ذلك التميّز تميّز الحقائق ، والذي يقع فيه الاشتراك هو الوجود البحت ، والموجب للتعدّد هو خصوصية القابل ، فتعيّن الوجود الواحد بحسب تلك الخصوصية على وجه مخصوص هو المميّز لذلك المتعيّن بتلك الخصوصية عن تعيّن آخر ، وبعد تعيّن الحضرات الأسمائية وتمايزها لا بدّ أن تتمايز الأعطيات بعضها عن البعض .
وليس ذلك إلَّا من تمايز الحضرات ، فالذي يمتاز به كلّ اسم عن الآخر هو عين الاسم لا ما تتشارك الأسماء فيه ، فإنّه الوجود الحقّ المسمّى بهذه الأسماء ، هو فيها عينها ، وحقيقته هي عين الكلّ ، لا يكون فيها من حيث هي تمثّل كلّ منها عين الآخر ، فتمايزها بخصوصيات هي أعيانها .

قال رضي الله عنه : « فما في الحضرة الإلهيّة لاتّساعها شيء يتكَّرر أصلا .  هذا هو الحق الذي يعوّل عليه " .
قال العبد اعلم : أنّ الفيض ذاتي لواجب الوجود الحقّ من كونه مفيدا للحقائق وجودها الذي به تحقّق المتحقّقات ، ومفيضا نور الحقيّة التي بها وجدت الموجودات وشهدت المشهودات .
ثمّ التعيّن للنور الفائض من ينبوع التجلَّيات ومعدن الوجود ومنبعث الجود والفيضات أيضا ذاتي ، والموجب لذلك هو القابل المعيّن للوجود الحقّ الفائض بحسب خصوصيّته الذاتية غير المجعولة .
فالتمايز بين الحضرات والأسماء إنّما هو بحسب خصوصيات الحقائق ، إذ التعيّن هو الدالّ بالتخصيص على المتعيّن بذلك التعيّن ، والمتعيّن أيضا دالّ على أصله ومنبعه الذي فاض منه ، فالتعيّن اسم للمتعيّن وهو الوجود الحق المسمّى به ، وهو اسم للحقّ المطلق ، وهو المسمّى بجميع هذه الأسماء .
والمسمّى اسم فاعل هو القابل المعيّن للوجود الحق المطلق وهو الفائض .
والتعيين وهو التسمية فعل المعيّن .
ثم الفيض دائم التعين لدوام ذات المفيض .
والمعيّنات القوابل الممكنة وإن لم تكن متناهية من حيث الشخصيات والجزويّات ولكن أمّهات الحقائق المعيّنة لهذا النور الواحد الفائض المتعيّن بها وفيها وبحسبها أصول حاصرة لما تحتها ومنها .
والتعيّنات الكلَّية أيضا وإن انحصرت في أمّهات الحضرات الأسمائية ولكنّها من حيث الشخصية   والجزوية غير متناهية كموجباتها .
والتجلَّيات وإن كانت من حيث الأصل تجلَّيا واحدا ، ولكنّ التعيّنات الفيضية النفسية النورية والانفهاقات النورية الشهودية والاندفاقات الوجودية الجودية ما هي في كل عين عين الأخرى .
فما في الحضرة شيء يتكرّر أصلا ، فالتجدّد والتكثّر والحدوث والفناء والعدم إنّما هي للتعيّن لا للمتعيّن بذلك التعين من حيث هو هو ، بل من حيث التعيّن لا غير . هكذا أعطت حضرة الواسع ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « وهذا العلم كان علم شيث عليه السّلام » يعني علم الأعطيات والمنح والهبات .


قال رضي الله عنه : « وروحه هو الممدّ لكلّ من يتكلَّم في مثل هذا من الأرواح إلَّا روح الخاتم  فإنّه لا تأتيه المادّة إلَّا من الله ، لا من روح من الأرواح ، بل من روحه تكون المادّة لجميع الأرواح ، وإن كان لا يعقل ذلك من نفسه في زمان تركيب جسده العنصري ، فهو من حيث حقيقته ورتبته عالم بذلك كلَّه بعينه من حيث ما هو جاهل به من جهة تركيب جسده العنصري ، فهو العالم الجاهل ، فيقبل الاتّصاف بالأضداد ، كما قبل الأصل الاتّصاف بذلك ، كالجليل والجميل »
يعني على معنييه المتنافيين « كالظاهر والباطن ، والأوّل والآخر ، وهو عينه ليس غيره فيعلم لا يعلم ، ويدري لا يدري ، ويشهد لا يشهد " .
قال العبد اعلم : أنّ أرواح الكمّل من الأنبياء لهم الإمداد لأرواح الأولياء الذين هم ورثتهم في أعصارهم وأعصار بعدهم ، وروح شيث عليه السّلام هو الممدّ لأرواح العلماء بالعلوم الوهبية ، وكلّ روح لوليّ من الأولياء له العلم الوهبي .
فيستمدّ من روحه عليه السّلام لكونه صورة الوهب الأوّل لأوّل الآباء إلَّا روح خاتم الأنبياء وروح خاتم الأولياء ، فإنّ روح الختم كما تقدّم روح محيط بالولايات كلَّها كإحاطة من هو وارثه الأكمل وهو ختم الرسل صلَّى الله عليه وسلَّم بالنبوّات كلَّها .
ولأنّه أحدية جمع جميع الولايات المحمدية الأحدية الجمعية الختمية كلَّها ، فأعطيات الولايات من المكاشفات والتجلَّيات والعلوم والأسرار والأحوال والمقامات ، إنّما تكون من خزانة حيطته ، وذلك لأنّ حقيقته حقيقة الحقائق الأول التعيينية كلَّها.
وهو مفتاح المفاتيح الغيبية ، فالمادّة النورية التي بها قوام الأرواح وحياتها من حقيقته تنبعث وتسري في سائر المراتب الروحية ، ولا يستمدّ هو من أحد ، والكلّ مستمدّون من مشكاته .
فالأعطيات وإن كانت من حضرات الأسماء ، ولكنّها من الله ، " وَما بِكُمْ من نِعْمَةٍ فَمِنَ الله " .
إن كان هذا الخاتم لا يتعقّل حال تركيب جسده العنصريّ كيفية إمداده للكلّ في كلّ آن من الزمان الحجابية في المزاج العنصري لا بدّ من ذلك ، حتى يكون جامعا لجميع الكمالات والنقائص . كما أنّ الهوية الواحدية الأحدية الجمعية محمولة عليها الأضداد في قوله : " هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ ".
فالموصوف بالباطنية والظاهرية والأوّلية والآخرية هوية واحدة لا اختلاف فيها ولا تضادّ ، وهي قابلة لأوصاف متنافية ونعوت وأسماء متباينة ومتشاكلة متشابهة ، كذلك الختم يقبل الأوصاف المتنافية المتكثّرة المختلفة ، والنعوت المتناسبة المؤتلفة ، لأنّه أحدية جمع جميع حقائق الوجوب والإمكان ، فيقبل بذاته الاتّصاف بالكلمالات والنقائص .
فهو من حيث التركيب العنصري والغواشي الطبيعي جاهل بما هو عالم به من حيث روحه الممدّ وعينه الجامعة ورتبته الكمالية ، ولكن لا يقدح ذلك في كونه بالرتبة والحقيقة والروح عالما بإمداده للأرواح كما لا يقدح تنافي الزوجية للفردية في العدد ، ولا تضادّ السواد والبياض في اللون المطلق ، لكونه بذاته قابلا لهما ، ولا تنافي الملك للشيطان في الحيوانية ، ولا الحقّية للخلقية في الوجود والحقيقة ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « وبهذا العلم سمّي شيث ، لأنّ معناه الهبة » أي هبة الله .
" فبيده مفتاح العطايا على اختلاف أوصافها ونسبها ، فإنّ الله وهبه لآدم أوّل ما وهبه وما وهبه إلَّا منه ، لأنّ الولد سرّ أبيه ، فمنه خرج وإليه عاد ، فما أتاه غريب لمن عقل عن الله " .
قال العبد : إنّما ظهرت العلوم الوهبيّة الجودية والحكم الوجودية الشهودية بالكلمة الشيثيّة ، لأنّ آدم عليه السّلام حزن على فقد « هابيل » حزنا عظيما فسأل الله تعالى أن يهبه ولدا صالحا للإلقاء والوهب الإلهيّ .
فوهبه الله شيثا فسمّاه بهذا الاسم ، يعني هبة الله ، فهو أوّل موهوب لأوّل الصور الإنسانيّة بعد سؤاله الوهب عن الله الوهّاب بمن يكون مؤهّلا للعلم الوهبي ، فظهرت علوم الوهب والإلقاء بشيث عليه السّلام ووهب الحكمة التي في علوم التقابل والتماثل.
ولهذا قال : « بيده مفتاح العطايا » وما وهبه الله آدم إلَّا منه ، لأنّ آدم الذي هو صورة أحديّة جمع الحقائق اللاهوتيّة ، ومنه منبعث حقائق الهبات المفاضة على الأولاد في الوجود ، والولد سرّ أبيه ، وسرّ هذه الصورة الأحدية الجمعية هو الفيض والوهب .
فمنه خرج وإليه عاد ، فإنّ الهبات والأعطيات تعود على حقائق القوابل المظهريّة المرتبيّة ، والأمر محصور بين الوجود والمرتبة ، والإحاطة والجمع بحقائقها يقتضيان الحصر فيهما ويقضيان بهما ، ولهذا ذكر الشيخ رضي الله عنه سرّ الختميّة في هذا الفصّ .
ثمّ إنّ صورة الوهب والهبة الإلهيّة إنّما تكون في الواحد متعدّدة ومتكثّرة ، فهو صورة سرّه القابل للوهب ، فما وصل إليه إلَّا منه ولكن بالحق ، فمنه خرج وإليه عاد .
فما أتاه غريب من غيره ولا من الخارج ، ولا سيّما خارج عن صورة أحديّة جمع الكلّ ، فلا خروج ولا دخول إلَّا بالنسبة والإضافة ، فما خرج عن صورة أحديّة جمع الكلّ عاد على صور تفصيله في الكلَّية التي هي فيه هو أوّلا وهو فيها هي آخرا .

قال رضي الله عنه : " وكلّ عطاء في الكون على هذا المجرى ، فما في أحد من الله شيء وما في أحد من سوى نفسه شيء وإن تنوّعت عليه الصور " .
قال العبد : المواهب والعطايا التي تجري على أيدي العبيد والوسائط وبدونها إنّما هي صور استدعتها خصوصيات القوابل من الوجود المتعيّن فيها بحسبها ، والوجود الفائض من الحق ذاتيّ له ، وقبوله للقوابل إنّما هو بحسب الاستعدادات الذاتية غير المجعولة والخصوصيات ، فلولاها لما تعيّنت صور المواهب والعطايا من خزائن الجود الإلهيّة للقوابل بحسبها.
فوصولها وحصولها وإن كان من خزائن الله ولكنّ المستدعي والمعيّن الموجب لتعيّنها إنّما هو من القوابل وتنوّع صور المواهب للمعطي له في عين الفيض الواحد .
والفيض الواحد إنّما هو بحسب صور الاستعدادات ، فما في أحد من الله شيء ، وإلَّا لزمته مفاسد لا تخفى من التبعيض والتجزّي والحلول وغيرها.
وكذلك ليس في أحد من غيره شيء ، إذ صور المواهب من خصوص استعداده ، وحقيقتها الفيض الوجودي وهو عينه لا غيره في الحقيقة ، فافهم ، فما آتاه الله ما آتاه إلَّا منه .
قال رضي الله عنه : « وما كلّ أحد يعرف هذا ، وأنّ الأمر على ذلك ، إلَّا آحاد من أهل الله ، فإذا رأيت من يعرف ذلك ، فاعتمد عليه ، فذلك هو عين صفاء خلاصة خاصّة الخاصّة من عموم أهل الله تعالى " .
قال العبد : لا يعرف هذا السرّ الخفيّ إلَّا الأفراد الكمّل ، وهم على طبقات والكلّ يرون النعم والمواهب من الله ، لسريان سرّ " وَما بِكُمْ من نِعْمَةٍ فَمِنَ الله ".
وهذا المشهد الذي ذكرنا في ظاهر المفهوم يوهم خلاف هذا ، وليس ذلك كذلك ، لأنّ هؤلاء الطبقات :
منهم : من يرى النعم كلَّها من الله ولكن بالأسباب التي هي غير الله .
ومنهم : من لا يرى الأثر للأسباب والوسائط ، وهي سوى الحقّ كذلك في زعمهم .
ومنهم : من يراها شروطا لا أسبابا ولا عللا ولا وسائط .
ومنهم : من يرى النعم من الله بلا واسطة .
ومنهم : من يرى الوسائط والأسباب أيضا من نعم الله .
وجميع هؤلاء الأصناف محجوبون في عين الكشف ، ومشركون في عين التوحيد ، لأنّهم وإن وجدوا الله تعالى في رؤية النعم كلَّها من الله ، ولكنّهم أثبتوا الوسائط والنعم والمنعم عليه والمنعم أغيارا بعضها للبعض ، والحقيقة تأبى إلَّا أن يكون هو الله الواحد الأحد الظاهر الباطن الواحد الكثير . فالمسمّى واحدا هو الوجود الواحد الحق الذي به تحقّق الحقائق من حيث حقيقته ، وهو المسمّى كثيرا أيضا من حيث تعيّناته في القوابل ، والمنعم هو المفيض لذلك الواحد الكثير ، والمنعم عليه هو المعيّن القابل لتعيّنات أخر بعد الوجود .
فالظاهرية والباطنية والأصالة والفرعية نسب ، فإذا وجد من يرى النعم الواصلة إليه في عرصة الوجود العيني من مدرجة عينه الثابتة ، في الحق أزلا وأبدا من حيث إنّ تلك العين الثابتة عين الحق ، فقد جمع بين رؤية النعم كلَّها من الله ورؤية المنعم عليه عين المنعم ، وشهد أحدية الوجود على ما هي عليه الأمر في نفسه ، فكان هو عين صفاء خلاصة خاصّة الخاصّة من عموم أهل الله .
فإنّ العامّة من أهل الله يرون التوحيد وهو ستّة وثلاثون مقاما كلَّيا نطق بها القرآن في مواضع عدّة فيها ذكر " لا إِله َ إِلَّا الله " في كل موضع منها نعت مقام من مقامات التوحيد .
وأمّا الخاصّة فيرون الوحدة فإنّ التوحيد فيه كثرة الموحّد والموحّد والتوحيد وهي أغيار عقلا عاديّا ، والوحدة ليست كذلك .
وأمّا خاصّة الخاصّة فيرون الوحدة في الكثرة ، ولا غيريّة بينهما .
وخلاصة خاصّة الخاصّة يرون الكثرة في الوحدة .
وصفاء خلاصة خاصّة الخاصّة يجمعون بين الشهودين ، وهم في هذا الشهود الجمعي على طبقات :
فكامل له الجمع ، وأكمل منه شهودا أن يرى الكثرة في الوحدة عينها ، ويرى الوحدة في الكثرة عينها كذلك شهودا جمعيا ، ويشهدون العين الأحدية جامعة بين الشهودين في الشاهد والمشهود .
وأكمل وأعلى وأفضل منه أن يشهد العين الجامعة مطلقة عن الوحدة والكثرة والجمع بينهما وعن الإطلاق المفهوم في عين السواء بين ثبوت ذلك كلَّها لها وانتفائه عنها ، وهؤلاء هم صفوة صفاء خلاصة خاصّة الخاصّة ، جعلنا الله وإيّاك منهم بمنّه ، إنّه قدير خبير .

قال رضي الله عنه : « فأيّ صاحب كشف شاهد صورة تلقي إليه ما لم يكن عنده من المعارف ، ومنحته ما لم يكن في يده قبل ذلك ، فتلك الصورة عينه لا غيره ، فمن شجرة نفسه جنى ثمرة علمه ، كالصورة الظاهرة منه في مقابلة الجسم الصقيل ليس غيره ، إلَّا أنّ المحلّ أو الحضرة التي رأى فيها صور نفسه يلقي إليه بتقلَّب من وجه ، لحقيقة تلك الحضرة " .
قال العبد : يشير رضي الله عنه إلى أنّه مهما يرى المكاشف صورة تلقي إليه من العلوم ما لم يكن يعلمه ، فلا يتوهّم أنّها الله ، ولا سيّما إذا كان التجلَّي من حضرة ذاتية .
وإن قالت الصورة : إنّها هي الله ، فليعلم حقيقة أنّ التجلَّي وإن كان من الله كما نطق به ولكن تعيّن التجلَّي له إنّما كان من عينه الثابتة ، فالمتجلَّي إذن عينه من كونها عين الحق.
 فما تجلَّى له الحقّ إلَّا في صورة عينه الثابتة في عين شهود الحق ، فمن شجرة نفسه التي هي للأسماء المعيّنة لله في الوجود الحق وبه من عينه الثابتة المعيّنة لتلك الأسماء من الحضرة وفيها جنى ثمرة علمه التي هي عين العطيّة الإلهية الآتية من حضرة اسمية هي شجرته التي غرسها في أرض حقيقته وعينه الثابتة ، كما أنّ الصورة الظاهرة منه في الجسم الصقيل ليست غيره ، فإنّها لو كانت غيره لكانت فيه بلا هو كذلك .
بل أعطاه محلّ ظهور صورته شهود ذاته ، كذلك ظهوره في الوجود الحق إنّما يكون بحسب ظهور عينه الثابتة في مرآة الحق ، فتعطيه شهود ذاته نفسه في الحق فلا تظنّن أنّها هي الله وإن لم تكن في الحقيقة إلَّا الله ولكنّ الكلّ لا ينحصر في الجزء ، إلَّا أنّ الصورة تنصبغ من وجه بصبغة المحلّ وصبغه فتظهر بحسبه . فكذلك الحق يعطي العين الثابتة من حيث تعيّنها وظهورها فيه حقّيّة هي فيها هي ، وهي بها فيه هو ، فافهم .

قال رضي الله عنه : « كما يظهر الكبير في المرآة الصغيرة صغيرا أو المستطيلة مستطيلا ، والمتحرّكة متحرّكا ، وقد تعطيه انتكاس صورته من حضرة خاصّة ، وقد تعطيه عين ما يظهر منها ، فيقابل اليمين منها اليمين من الرائي ، وقد يقابل اليمين منها اليسار من الرائي وهو الغالب في المرائي بمنزلة العادة في العموم ، وبخرق العادة يقابل اليمين اليمين ويظهر الانتكاس . هذه كلَّها من أعطيات حقيقة الحضرة المتجلَّي فيها التي أنزلناها منزلة المرائي ".
قال العبد : ظهور الكبير في المرآة الصغيرة صغيرا ، ضرب مثل لظهور الحق في مظهرية كلّ عين عين بحسبها .
والمستطيل ضرب مثل لمظهرية عالم الأمر والأرواح فإنّ لها طول العالم والعرض لعالم الصور الجسمانية والمثالية والخيالية من حيث إنّها صور وأمثلة .
والظهور في المتحرّكة متحرّكا ضرب مثل للتجلَّيات والتعيّنات الدائمة الظهور والتنوّع على التوالي حقّا وخلقا ، جمعا وفرقا .
وانعكاس الصورة في المرآة إذا كانت تحت الرائي في الوضع ضرب مثال للحق في الخلق خلقا لا حقّا .
وانعكاسها فيها بعكس ما ذكرنا إذا كانت المرآة فوق الرائي ضرب مثل لظهور الخلق في الحق حقّا لا خلقا .
وتقابل اليمين اليمين ضرب مثل لظهور الحق المطلق في مظهرية الإنسان الكامل كاملا ، أو لظهور الحق المطلق في المقيّد المحاذي للمطلق مطلقا من حيث إنّ عكس العكس يستوي بالأصل ، ومن حيث إنّ الحق مع أنّه في كلّ متعيّن عينه فهو غير متعيّن على التعيين في المطلق نفسه في المقيّد المنطلق عن غيره قيّده الفاني عن نفسه مطلقا ، فافهم .
قال رضي الله عنه : " فمن عرف استعداده ، عرف قبوله ،وما كلّ من عرف قبوله عرف استعداده إلَّا بعد القبول وإن كان يعرفه مجملا ".
قال العبد أيّده الله به اعلم : أنّ أهل العلم بالاستعداد على ضربين :
منهم : من يعلم استعداده الذاتيّ غير المجعول الذي به قبل الوجود أوّلا ، فيعرف في ضمن ذلك الاستعداد غير المجعول استعدادات أخر مجعولة تتجدّد له في تطوّره بأطوار الوجود ، عرف قبوله لما يقبله في كلّ آن من الزمان من التجلَّيّات والأعطيات والهبات في كلّ موطن ومقام وحال . وهذا العالم أعلى عالم بالله في هذا المشرب والمشهد ، ويختصّ بالختمين لا غير ، إلَّا من يشاء الله من الكمّل والأفراد الندّر ، جعلنا الله منهم بمنّه ويمنه .
ومنهم : من علم قبوله من استعداده المجعول في كلّ وقت وحال ، بمعنى أنّه لمّا استعدّ لقبول تجلّ أو عطاء أو هبة أو حال أو مقام ، وتهيّأت أسباب ذلك في الوجود ، عرف أنّ ذلك الاستعداد الوجوديّ إنّما حصل له من ذلك الاستعداد الذاتيّ الأزلي غير المجعول ، فإنّ الثاني حكم من أحكام الأوّل ، وأنّه قبل به الوجود أوّلا على وجه ينتج ظهور هذا الاستعداد الحالي الوجودي آخرا .
ومنهم : من يعرف استعداده من قبوله بمعنى أنّه إذا حصل له فيض ، وقبل تجلَّيا ، عرف من الحاصل استعداده المستدعي لذلك العطاء من حيث إنّه لو لم يكن له استعداد ، لم يحصل له ذلك القبول وذلك بعد الوقوع ، وقد يعرف الاستعداد بدلالة الحال قبل القبول للتجلَّي وحصوله ، كالكاتب المجد إذا تهيّأت أسبابه وآلاته على الوجه المطلوب ، وحمله باعث الحال على الكتابة ، فإنّه يتحقّق وقوع الكتابة قبل وقوعها ، ويتحقّق الاستعداد المستدعي لذلك .
ومنهم : من يعرف الاستعداد الأصلي المذكور مجملا ، فيعرف كذلك مجملا ما يقبله من الفيض والتجلَّي ، والعالم بالتفصيل له على الكلّ كلّ التفصيل ، مثل ما ذكرنا عن خاتم الأولياء ، وشهوده جميع أحواله وعلومه وتجلَّياته وهيئاته التي أقامه الله فيها إلى آخر عمره حال دخوله في بلاد الشرق ساحل بلاد الروم .
قال رضي الله عنه : « شهدت جميع ذلك حتّى صحبتي مع أبيك ".
يعني أبا الشيخ صدر الدين ، محمد بن إسحاق رضي الله عنه : " وشهدت ولادتك في زمانها ، ومرتبتك عند الله ، وجميع مكاشفاتك وأذواقك وأذواق أولادك الإلهيّين ، ومشاهدهم ومقاماتهم وعلومهم وتجلَّياتهم وأسماءهم عند الله ، وحلية كلّ واحد منهم ، وأحواله وأخلاقه وكلّ ما يجري لك وعليك وعليهم إلى آخر أعماركم وبعد المفارقة في برازخكم وما بعدها ، والحمد لله " .
وهذا النوع من العلم يختصّ بمثله ، وكان لأبي العبّاس الخضر عليه السّلام علم الاستعدادات شهودا وكشفا .
منه علمه باستعداد الصبيّ الذي قتله أنّه لو عاش ظهرت استعدادات فرعيّة وجودية توجب أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا ، وأنّه يقتل عن ذلك الاستعداد على الطهارة والفطرة عناية من الله سبقت له بموجب استعداده الأصلي أيضا .
وهو مخصوص بظهور الولاية ، مستور عن عامّة الأنبياء وخاصّتهم من كونهم أنبياء وإذا شهدوها ، شهدوها من جهة الولاية ، وهي المشكاة الخصيصة بخاتم الأولياء ، فافهم وتذكَّر ما ذكَّرت به إن شاء الله تعالى .
قال رضي الله عنه : " إلَّا أنّ بعض أهل النظر من أصحاب العقول الضعيفة يرون أنّ الله لمّا ثبت عندهم أنّه فعّال لما يشاء ، جوّزوا على الله ما يناقض الحكمة » يعني الحكمة الإلهية لا الحكمة العرفية .
قال رضي الله عنه : « وما هو الامر عليه في نفسه ، ولهذا عدل بعض النظار إلى نفي الإمكان وإثبات الوجوب بالذات وبالغير " .
قال العبد أيّده الله به : يشير رضي الله عنه إلى جمع كثير من النظَّار وعلماء الرسوم والمتكلَّمين القائلين بأنّ الله قد يفعل ما يناقض الحكمة ، كإيجاد الشريك والمثل وإعدام الوجود وإيجاد العدم والممتنع والمحال ، واستدلَّوا على ذلك بكونه قادرا على كلّ شيء ، وأنّه يفعل ما يشاء ، وأنّه فعّال لما يريد ، وهذا تنزيه وهميّ بالعقل ، ولكنّهم غفلوا عن الحقيقة ، وما عقلوا أنّ هذه فروض وتقادير ساقطة غير واقعة ، وليس لها لافظة ، وأنّها غير واردة في العقول المنوّرة الصافية الوافية ، والاشتغال بمثل هذه الشبه تضييع الأنفاس .
ونحن نسلَّم أنّ الله قادر على كلّ شيء ، لكنّهم « حفظوا شيئا وغابت عنهم أشياء » وذلك أنّ الله قادر على كل شيء ، ولكن كلّ شيء بشيئية الله ومشيئته ، فإنّه قادر على ما يشاء ، وأنّه ما يشاء خلاف ما يعلم ، ولا يريد خلاف الحكمة ، فإنّه العليم الحكيم ، والحكيم العليم لا يشاء ولا يريد أن يفعل ما يناقض الحكمة .
فقدرة الله تعالى إنّما تتعلَّق بالمقدورات بموجب إرادته ومشيّته تعالى ، والإرادة إنّما تتعلَّق بالمراد على التعيين والتخصيص بموجب ما اقتضته الحكمة والعلم ، والعلم الأزليّ ما تعلَّق بهذه الأمور المذكورة بما يخالف الحكمة على وجه لا يقبل الوجود ، وأنّها لا تستعدّ لقبول الوجود ، بل بموجب العلم والحكمة واستعداد القابل .
والحكيم الأزليّ قد أحكم الأشياء بحكمته قبل إيجادها ، ثم أوجدها بحسب ما رتّبتها الحكمة ووضعتها مواضعها ، فلا جائز في حكمة الله تجويز ما يناقض الحكمة الإلهية .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية الجزء الرابع .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 6:18 pm

02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية الجزء الرابع .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

02 - فصّ حكمة نفثيّة في كلمة شيثية  الجزء الرابع

ولما كثر شغب هؤلاء في تجويز هذه الأمور ، عدل بعض المتحذلقين من النظَّار إلى نفي الجواز والإمكان وإثبات الوجود إمّا بالذات أو بالغير
وقال : ما ثمّ إلَّا واجب الوجود ، والممتنع ممتنع وجوده ، ولكنّ الواجب واجبان : واجب بالذات ، وواجب بالغير ، فما في الوجود إلَّا واجب الوجود ، فانتفى الجواز والإمكان عنده ، فما كان واجبا بالذات فواجب له عدم الامتناع كذلك .
ثمّ الواجب بالغير على زعم من يقول به هو الوجود المتعيّن بحسب القابل فما بقي للإمكان متعلَّق في الحقيقة إلَّا التعيّن .


قال الشيخ رضي الله عنه : " والمحقّق " بعد منا " يثبت الإمكان ، ويعرف حضرته والممكن ما هو الممكن ؟ ومن أين هو ممكن وهو بعينه واجب بالغير ؟ من أين صحّ عليه اسم الغير الذي اقتضى له الوجوب ؟ ولا يعلم هذا التفصيل إلَّا العلماء بالله خاصّة " .
قال العبد : يشير رضي الله عنه إلى أنّ الممكن هو الوجود المتعيّن ، فإمكانه من حيث تعيّنه ، ووجوبه من حيث حقيقته ، وذلك أنّ التعيّن نسبة تعقّلية ، فهي بالنسبة إلى المرجّح وجودية واجبة للمتعيّن .
والتعيّن هو حدوث ظهور الوجود على وجه متعيّن يعيّنه القابل المعيّن للوجود بحسب خصوصه الذاتي ، فيمكن بالنظر إلى كل متعيّن حادث للوجود أن ينسلخ الوجود عنه ، ويتعيّن تعيّنا آخر ، وينعدم التعيّن الأوّل.
إذ نفس التعيّن هو الواجب للوجود الحقّ الساري في الحقائق لا التعيّن المعيّن ، ولكن ليس كل تعيّن معيّن واجبا له على التعيين إلَّا بموجباته ، فيمكن أن ينعدم ويتعيّن الوجود تعيّنا آخر ، إذ الوجود المتعيّن لا ينقلب عدما ، بل يتبدّل بتعيّنات أخر عن تعيّنات قبلها فتتحقّق من هذا حقيقة الإمكان للتعيّن المعيّن وهو نسبة عدميّة في الوجود .
فهو بين عدم ووجود ، مهما رجّح الحق إفاضة نور الوجود على ذلك الوجه المعيّن ، بقي موجودا في رأي العين للجمهور ، والكشف يقضي بالتبدّل مع الآنات ، وإن أعرض عنه التجلَّي الوجوديّ ، انعدم وعاد إلى أصله . هذا أصل الإمكان .
وأمّا اسم « الغير » و « السوي » للممكنات فذلك من حيث امتيازاتها النسبية والذاتية بالخصوصيات الأصلية فهي من هذا الوجه أغيار بعضها مع البعض وأمّا غيريّتها للوجود المطلق الحقّ فمن حيث إنّ كلَّا منها تعيّن مخصوص للوجود الواحد بالحقيقة يغاير الآخر بخصوصيّته .
والوجود الحق المطلق لا يغاير الكلّ ولا يغاير البعض ، لكون كلَّية الكلّ وجزويّة الجزء نسبا ذاتيّة ، فهو لا ينحصر في الجزء ولا في الكلّ ، مع كونه فيهما عينهما ، فلا يغاير كلَّا منهما في خصوصهما ، ولكن غيريّته في أحديّة جمعه الإطلاقي في التي تخصّه ، ولا يوجد في الجزء ولا في الكلّ ، فإنّ تلك الأحديّة الجمعيّة الإطلاقيّة مطلقة عن الكليّة والجزئيّة والإطلاق ، فافهم .
وهذا التفصيل لا يعلمه إلَّا العلماء بالله خاصّة ، لكونهم عرفوه في الأصل المطلق في شهودهم أوّلا ، فلم يحجبوا في الفرع الذي هو الوجود المقيّد آخرا ، فما في الحقيقة إلَّا وجود مطلق ووجود مقيّد ، وحقيقة الوجود فيهما واحدة ، والإطلاق والتعيّن والتقيّد نسب ذاتيّة ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : " وعلى قدم شيث عليه السّلام يكون آخر مولود يولد من هذا النوع الإنساني ، وهو حامل أسراره ، وليس بعده ولد في هذا النوع الإنساني فهو خاتم الأولاد يولد معه أخت  له فتخرج قبله ويخرج بعدها ، يكون رأسه عند رجليها ، ويكون مولده بالصين ولغته لغة بلده ، ويسري العقم في الرجال والنساء ، فيكثر النكاح من غير ولادة ويدعوهم إلى الله ، فلا يجاب ، فإذا قبضه الله وقبض مؤمني زمانه ، بقي من بقي مثل البهائم لا يحلَّون حلالا ولا يحرّمون حراما ، يتصرّفون بحكم الطبيعة شهوة مجرّدة عن العقل والشرع ، فعليهم تقوم الساعة " .
قال العبد أعلم : أنّ آدم عليه السّلام لمّا كان صورة ظاهريّة أحدية جمع جميع الكمالات الأسمائيّة الإلهيّة الربّانيّة والكيانية ، كان ظهور الوهب الجودي الامتنائي به وفيه وحدانيّا جمعيّا ، ثم ظهور التعيّنات من قبله بحسب الحقائق الأول وحروف الأزل وعلى ترتيبها في وجود الأبناء ، فأوّل التعيّنات بعده كما أومئ إليها من مرتبة الفيض .
ولكن تعيّن الفيض وتحقّقه لا يكون إلَّا بين مفيض للفيض وبين مفاض عليه ، فالمفيض هو الله الفعّال ، وفيضه الذي هو عطاؤه ووهبه
على وجهين : ذاتيّ وأسمائيّ ، والمفاض عليه هو العالم .
والعالم عالمان : عالم جمع وعالم تفصيل .
فظهور الأسماء في عالم التفصيل وظهور الجمع الذاتي في عالم الجمع ولا بدّ لحقيقة الوهب من هذين الوجهين وظهور الوهب من قبل القابل انفعاليّ ، ومن قبل الواهب فعليّ .
ولحقيقة الوهب نسبتان ذاتيّتان إلى الفاعل والمنفعل ، وتعيّن الفيض في مراتب التفصيل إنّما يكون بحسب هذين الوجهين ، فهو من قبل الفاعل تعيّن الأسماء الإلهيّة الكمالية في قابليات كمّل الأنبياء ، ومن قبل الانفعال تعيّن الكمّل الآدميّين في مظهريّة تلك الكمالات الأسمائيّة .
فآدم عليه السّلام مظهر أحدية جمع الأسماء ومظهر النفس الواحدة ومن حيث اعتبار ذاتيّة الذات وإطلاقها لا يكون تجلّ ولا اسم ولا صفة ولا حكم ولا نعت .
والاعتبار الثاني موجديّة الذات ومفيضيّتها ومبدئيّتها ، ويظهر بحسب الإطلاق والتقييد ، والفعل والانفعال ، والأسماء والذات ، فيكون في الأب الثاني وهو شيث عليه السّلام تعيّن  سرّ مرتبة الفيّاضيّة والوهب والجود .
ثمّ تعيّن المواهب والحكم الإلهيّة والرحمانية الذاتية في كمل الأنبياء على ما سيأتي بعد شيث عليه السّلام الذي هو مظهر أحدية جمع الفيض الرحماني والعلوم الوهبيّة الروحانيّة النورانية .
فأوّل تعيّن الأسماء في مرتبة الجمعية الإنسانيّة بعد مرتبة الفيض بشيث عليه السّلام .
وإنّما كان بالتجلَّيات التنزيهيّة في نوح عليه السّلام بعد كمال ظهور أسرار التشبيه بقوم نوح ، فنوح صورة أحدية جمع التنزيهات التوحيدية ، ومظهر تجلَّيات الأسماء السلبية المفيضة للنزاهة والطهارة الإلهية ، وأمّته الذين لم يقبلوا دعوته مظاهر التشبيه الذين شبّهوا الصور الجسمانيّة بالصور الأسمائيّة الإلهيّة النبوية .
ثمّ مرتبة التقديس والنزاهة والطهارة بالفعل في إدريس عليه السّلام .
ثمّ تفصّلت الحقائق النبويّة بعد تعيّنها وظهور أحدية جمع كمالاتها في إبراهيم عليه السّلام .
وتحقّق إمامته في أولاده سليمان عليه السّلام في مرتبة ظاهرية أحدية جمع الكمالات الأسمائية. وكملت في داود وسليمان عليه السّلام .
ثمّ ابتدأت بظهور مرتبة الجمع في الباطن ، فيمن بعد سليمان إلى عيسى عليه السّلام حتّى ظهر كمال دعوة البطون فيه .
ثمّ كمل الأمر في مرتبة أحدية جمع جمع الأسماء والذات في مقام الفردية الكمالية البرزخيّة بمحمّد عليه الصلاة والسلام .
ثمّ ابتدأت بالصور الكمالية الأحدية الجمعية في مرتبة الباطن والولاية بآدم الأولياء ، وهو أوّل وليّ مفرد في الولاية المورّثة عن النبوّة الختمية المحمدية وهو عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام فظهرت الحقائق الجمعية الكمالية أحدية جمعيّة في مظاهر الكمالات الإنسانية الأحدية الجمعية من الأولياء والورثة المحمديّين الإلهيّين إلى أن ختمت الولاية العامّة بعيسى بن مريم عليه السّلام .
قال محقق الكتاب :
" فعبّر عنه عليه السّلام بآدم الأولياء ، لأنّ ولاية كلّ وليّ تنتهي إليه عليه السّلام .
لأنّه « كان ونبيا وآدم بين الماء والطين » بحسب الرتبة الجسمانية الزمانية .
وهو سرّ الأنبياء عبارة عن مرتبة ولا يأتهم فهو أب كل الأنبياء معنى وروحا ، وآدم أبونا بحسب الرتبة الجسمانية الزمانية"
وإذا انتهت مراتب التفصيل الوهبي جمعا وتفصيلا في الصور الجمعية الكمالية الإنسانية ، وفي الصور التفصيلية الفرقانية نورانيّها في كمل الأنبياء والأولياء وظلمانيّها في الفراعنة والجبابرة والمردة والعفاريت تماما ، ظهرت ختميّة مرتبة الوهب الذي كان مفتتحه ومختتمه من شيث عليه السّلام في آخر مولود يولد من النوع الإنساني الذي هو صورة ختميّة مرتبة الوهب الأحدي الجمعي الكمالي الإنساني.
فكونه توأما إشارة إلى أنّ الوهب ذاتي وأسمائي ، فالذاتي فعلي على ما ذكر والأسمائي انفعالى سفلي أنثيّ ، وذلك لما فيه من التقابل .
وخروج الأنثى قبل الذكر إشارة إلى أنّ المظاهر الأسمائية ظاهرية الوهب ، وأنّها تظهر وتبدو قبل الوهب الذاتي الأحدي الجمعي ، ولهذا كان أمّ رأسه وهو محلّ أحديّة جمع قواه النفسانيّة ، ومنبت الأعصاب التي بها يكون الحسّ والحركة بين رجليها ، لأن أحدية الجمع يكون بين الجمع الأوّل وهو اثنان في العدد الزوج .
وكما كان افتتاح صور جمع الأوّل الناتجة أوّلا من الأبوين الأوّلين أعني آدم وحوّاء زوجا زوجا ، فكانت تلد لآدم في كل بطن توأما .
إشارة إلى أنّ ظهور مرتبتي الفعل والانفعال الناتجتين من صورة أحدية جمع المظهرية الكماليّة بين مرتبتي الحق والخلق يكون أحديّا جمعيّا ، فكذلك انختمت الصورة البشرية ، الناتجة من هذا النوع أيضا زوجا في صورة أحدية جمعية .
فتولَّد خاتم الأولاد مع أخته توأما ، ضرب مثل إلهي لهذا السرّ وإشارة إلى انختام هذه المرتبة الوهبية والحكمة النفثيّة المفتتحة بها في الكلمة الشيثيّة لا مطلق الوهب .
فإنّ الله وهّاب دائما ، ولكن مرتبة الوهب الحكمي الأحدي الجمعي الكمالي الخصيص بخاتم الصور الوجودية الظاهر أوّلا في شيث ، فخاتم الأولاد آخر صور مثليّة إلهية ضرب مثلا لختميّة هذه المرتبة لمن عقل عن الله ، و " كانَ لَه ُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ".
ولمّا كانت هذه المرتبة الأحدية الجمعية الكماليّة النفسية الخصيصة بأوّل صورة في النوع الأخير ظاهرة في خاتم الصور الوجودية في أقصى مرتبة الوجود وآخر الأنواع كذلك ، انختمت المرتبة بخاتم الأولاد الذي ولد في أقصى البلاد ، وهو الصين .
ثمّ منعت عن الظهور فلا يولَّد بعده إنسان ، إشارة إلى أنّ إنزال الحكم المنتجة للكمال الأخير بلغ النهاية ، فانختمت المرتبة فانقطع النوع في هذه النشأة وهذه الدورة .
ثمّ يبقى بعده شرار الخلق لا نزّل الله إليهم الحكم ، فيهم حيوانات في صور إنسان لإظهار كمال الحقائق الحيوانيّة الطبيعية البهيمية والسبعية في الصورة الإنسانية تماما على ما تقتضيه الطبيعة من حيث هي من غير وازع عقلي ولا مانع حكمي أو شرعيّ ، فعليهم تقوم الساعة .
وخاتم الأولاد أكمل زمانه ، وله من العلوم الوهبيّة والحكم النفثية الظاهرة في الكلمة الشيثية أتمّ حظَّ وأوفر نصيب ، ويدعو إلى الله بأحكام حكمته فلا يجاب إلى دعوته ، فيقبضه الله إليه ويقبض معه وبعده مؤمني زمانه .
وولادة أخته قبله إشارة أيضا إلى أن تحقّق المرتبة الفاعليّة بعد تعيّن مرتبة الانفعال ، وولادته بعد أخته تصحيح ختميّته ، لأنّه لو ولد قبلها كانت هي الخاتمة ،ولهذا لا يطَّرد هذا الحكم في كل توأم.
وكون رأسه عند رجليها إشارة أخرى أيضا إلى أنّ الأحدية الجمعيّة الكمالية الختمية إنّما تظهر بعد ظهور رتبة التفصيل لتحقّق الآخرية ، فافهم .

واعلم : أنّ هذه الحكمة النفثية تشتمل على مكاشفات عليّة ، وقواعد علميّة ، وقوانين كشفية حكمية ، فتدبّرها بفهمك الثاقب ونور إيمانك الصائب تعثر على كنوز الحكم النازلة على الطريق الأمم ، من المقام الأقدم ، على المظهر الأكمل الأجمع الأتمّ ، والمنظر الأحسن الأعدل الأقوم ، محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فصّ حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الأول .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 6:39 pm

03 - فصّ حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الأول .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

03 - فصّ حكمة سبوحية في كلمة نوحية  الجزء الأول

قد سلف في سرّ إضافة هذه الحكمة السبّوحية إلى الكلمة النوحية ما فيه مقنع ومطَّلع على حقائقه ونقول في مرتبة السبّوحيّة وهي النزاهة والطهارة اللازمة مرتبة الواحدية والأحدية والبساطة والنوريّة :
اعلم : أنّ كلّ تنزيه من كل منزّه لكلّ منزّه تحديد منه له بتمييزه إيّاه عمّا تميّزه تنزيهه عنه ، وحصوله فيما عيّنه له من وجوه التنزيه . وكذلك الإطلاق إن يجب أيضا تقييد له بالإطلاق ، فأتم اللامقيّد أعلاه بإطلاقه نظرا عقليّا فكريا .
ثمّ إنّ الله تعالى طلب من الخلق معرفته بقوله : " أحببت وأردت أن أعرف ، فخلقت الخلق وتعرّفت إليهم " أي بألسنة الشرائع المنزلة " فعرفوني " أي على ما عرّفتهم فيما تعرّفت .
وقيل إنزال الشرائع كان العلم به تعالى بوجوه التنزيه عن سمات الحدوث والتركيب والافتقار ، وإطلاق الاقتدار وهو التنزيه المشهور عقلا ، فلا يتعدّاه عقل أصلا .
وأمّا العارف بالله حقيقة فهو جامع بين معرفتين : معرفة يقتضيها العقل والدليل ، ومعرفة يقتضيها الشرع لا يبلغها التأويل . وطريق العقل المنوّر الكامل فيها أن يردّ علم ذلك عن الدليل العقلي وتعليمه إلى الله ويؤمن به وبكلّ ما جاءت به الشرائع المنزلة
على ألسنة الرسل على الوجه الذي أراده الله من غير تأويل بفكره ولا تحكَّم على ذلك برأيه وأمره ، لأنّ الشرائع إنّما أنزلها الله تعالى لعدم استقلال العقول البشرية بإدراك حقائق الأشياء على ما هي عليه في علم الله ، وأنّى لها ذلك وقد تقيّدت بما عندها من إطلاق ما هنا لك ؟ فإن وهبها الله تعالى علما بمراده من الأوضاع الشرعيّة ، ومنحها اطَّلاعها على حكم من الأحكام الدينية الأصلية الأصيلة والفرعية المرعيّة من حقائق الإخبارات الإلهيّة التي يتخيّلها العقل بقوّته الفكرية ، فذلك من قبل الفيض الإلهي الرحماني والتعليم السبحاني الربّانيّ .
فلا تضفها إلى فكره ، فتنزيهه الفكري يجب أن يكون مطابقا لما أنزله على ألسنة الرسل عليهم السّلام في كتبه المنزلة عليهم ، وإلَّا فهو منزّه عن تنزيه العقول البشريّة بأفكارها ، فإنّها مقيّدة بأوطارها ، واستعلت على جوّ أو كارها وأكوارها ، وكوشفت وشوفهت بها تحدّث الحقائق عن أخبارها ، فإنّها حينئذ يكشف الغطاء عن بصائرها وأبصارها ، فهي حديدة وتطلع ، فتطَّلع على الحكم المودعة الإلهيّة في صور الأوضاع الشرعيّة وإخباراتها على وجوه سديدة ، وينزّه الحقّ إذ ذاك عن التنزيهات العرفية بالأفكار العاديّة ،
ولهذا قال الشيخ رضي الله عنه : " اعلم : أنّ التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد ، فالمنزّه إمّا جاهل وإمّا صاحب سوء أدب عن أمور بموجب استحسانه واستقباحه لفكره العاديّ وعقله العرفي ، وخصّه بأمور سواها بحكمه وأمره ، والتنزيه تحديد من المنزّه ، لأنّه تمييز ، والتمييز تحديد ، والتخصيص تقييد له تعالى بما ميّزه عنه وتحديد بما سواه ، وهذا مناف للإطلاق الحقيقي الإلهي الذاتي » .
ثمّ هذا المنزّه إمّا أن يكون عارفا بأنّ الله مطلق الذات بالإطلاق الذي لا يقابله تقييد ، بل بالإطلاق عن الإطلاق والتقييد والجمع بينهما على وجه الحصر والتحديد ، فهو لا ينزّهه إذا عمّا اقتضته ذاته ، فتنزيهه إذن عن شيء مع ذلك سوء أدب وتحكَّم على الحقّ بأن يكون على وجه وهو على خلاف ما عرف من الإطلاق الذي يقتضيه لذاته ،
وإن لم يكن عالما بحقيقة الإطلاق الذاتي المذكور الذي لله تعالى ، فهو جاهل بحقيقته تعالى وبالتنزيه الحقيقي الذي يقتضيه تعالى لذاته بتحكيم رأيه وفكره على ما وردت به الشريعة من أمره ف " ما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِه ِ " ، وقدروا الإدراك العقليّ الفكريّ فوق طوره ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : " ولكن إذا أطلقاه وقالا به ، فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزّه ووقف عند التنزيه ، ولم ير غير ذلك ، فقد أساء الأدب ، وأكذب الحق والرسل صلوات الله عليهم وهو لا يشعر ، ويتخيّل أنّه في الحاصل وهو في الفائت ، وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض " .
قال العبد : الجاهل الحقيقة الحقّ وصاحب سوء الأدب إذا أطلقاه في التنزيه ، واقفين على مقتضى معتقدهما من التنزيه ، ولم يشهدا سوى مشاهدهما المعيّنة ، فقد فقد كلّ واحد منهما الحق المطلق بمعلومه ، وحصره في مفهومه ، وأساء الأدب ، وأكذب الحقّ والرسل بالعجب والعجب ، لأنّه تعالى نزّه وشبّه وجمع بين التنزيه والتشبيه في أنّه واحدة فقال : "لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " فنزّه "وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " فشبّه وهو جمع بينهما .
بل في نصف هذه الآية وهو قوله : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " جمع بين التنزيه والتشبيه على قول من يقول منّا : إنّ الكاف في « كمثله » غير زائدة ، فإنّ فيه نفي مماثلة الأشياء لمثله ، فمثله هو المنزّه وهو إثبات للمثل المنزّه ، وهو عين التشبيه في عين التنزيه بمعنى أنّ المثل إذا نزّه فبالأولى أن يكون الحقّ منزّها عن كلّ ما ينزّه عنه مثله ، لأنّ تنزيه المثل المثبت في هذه الآية موجب لتنزيهه بالأحرى والأحقّ . وكذلك النصف الثاني مصرّحا بالتشبيه ظاهرا .
ولكنّه عند التحقيق وتدقيق النظر الدقيق عين التنزيه الحقيقي في صورة التشبيه وصيغته ، لأنّ قوله : " هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " إثبات لخصيص أو لخصيصيّة بإثبات السميعية والبصيرية ، بمعنى أنّه لا سميع ولا بصير في الحقيقة إلَّا هو ، فهو السميع بعين كلّ سمع سميع ، والبصير بعين كلّ بصر بصير .
فهو تنزيهه تعالى عن أن يشتركه غيره في السمع والبصر ، وهو حقيقة تنزيهه لنفسه وتنزيه المحقّقين ، فافهم .
فلمّا أقرّت العقول بالعجز عن إدراك الحقائق على سبيل الإحاطة والحصر إلَّا طائفة جاهلة بحقيقة الأمر ، عادلة عن طريقة السرّ ، فإنّهم قالوا : إنّ العقول كافية في إدراك عقولنا فلا معقول عليه ، مع اعتراف أفاضلهم وأكابرهم بأنّ الفكر قوّة جزويّة .
أنّ ما يصل إليه الإنسان بفكره ليسير بالنسبة إلى ما لم يصل إليه ، وأنّ العقول المتعيّنة في القوى المزاجية ، المقيّدة الجزوية مقيّدة جزوية كذلك بحسبها ، وأنّى للأفكار المقيّدة الجزوية أن تدرك الحقائق المجرّدة المطلقة من حيث هي كذلك ، إلَّا أن تنطلق عن قيودها أو تتقيّد المطلقات المجرّدة بحسب شهودها ووجودها ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « ولا سيّما وقد علم أنّ ألسنة الشرائع الإلهية إذا نطقت في الحق بما نطقت به إنّما جاءت به في العموم على المفهوم الأوّل ، وعلى الخصوص على كلّ مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ بأيّ لسان كان في وضع ذلك اللسان".
قال رضي الله عنه : "فإنّ للحق في كلّ خلق ظهورا ، فهو الظاهر في كل مفهوم ، وهو الباطن عن كل فهم إلَّا عن فهم من قال : إنّ العالم صورته وهويّته ، وهو الاسم الظاهر".
قال العبد أيّده الله به : اعلم : أنّ المعرفة الحاصلة للعقلاء توجب باتّفاقهم وتقتضي باجتماعهم وإطباقهم تنزيه الحقّ عن صفات المحدثات والجسمانيات ، وسلب النقائص عن جنابه ، ونفي النعوت الكونية الحدوثية عنه ، فالعقول مطبقة على ذلك .
ولو كان المراد الإلهي من معرفته هذا القدر ، لكان بالعقول استغناء واكتفاء عن إنزال الشرائع والكتب ، وإظهار المعجزات والآيات لأهل الحجب ، ولكنّ الحقّ سبحانه وتعالى غنيّ عن تنزيه العقول بمقتضى أفكارها المقيّدة بالقوى المزاجية .
ويتعالى عن إدراكها ما لم تتّصل بالعقول الكلَّية ، فاحتاجت من حيث هي كذلك في معرفتها الحقيقة إلى اعتناء ربّاني «وإلقاء رحمانيّ يهيّئ  استعدادا لمعرفة ما لا تستقلّ العقول البشرية بإدراكه مع قطع النظر عن الفيض الإلهي . فلمّا جاءت ألسنة الشرائع بالتنزيه والتشبيه والجمع بينهما.
كان الجنوح إلى أحدهما دون الآخر باستحسان عقلي فكري تقييدا أو تحديدا للحق بمقتضى الفكر والعقل من التنزيه عن شيء أو أشياء أو التشبيه بشيء أو أشياء ، بل مقتضى العقل المنصف المتّصف بصفة نصفة أن يؤمن بكلّ ما وردت به الشرائع على الوجه المراد للحق من غير جزم بتأويل معيّن ولا جنوح إلى ظاهر المفهوم العامّ مقيّدا بذلك ، ولا عدول إلى ما يخرجه عن ظاهر المفهوم من كل وجه محدّدا لذلك ، ولكنّ الأحقّ والأولى والأجدر والأحرى أن نأخذ القضيّة شرطيّة .
فنقول : إن شاء الحقّ ، ظهر في كل صورة ، وإن لم يشأ لم تنضف إليه صورة ، بل الحق أنّ الحق منزّه في عين التشبيه ، ومطلق عن التقييد والحصر في التشبيه والتنزيه ، وذلك لأنّ التنزيه عن سمات الجسمانيات وصفات المتحيّزات تشبيه استلزامي ، وتقييد تضمّني بالمجرّدات العريّة عن صفات الجسمانيات من العقول والنفوس التي هي عريّة عن سمات المتحيّزات ، بريّة عن أحكام الظلمانيات .
وإنّ نزّه الحقّ أيضا منزّه عن الجواهر العقليّة والأرواح العليّة والنفوس الكلَّية ، فذلك أيضا تشبيه معنوي بالمعاني المجرّدة عن الصور العقلية والنسب الروحانية والنفسانية .
وإن نزّه عن كل ذلك ، فذلك أيضا إلحاق للحق بالعدم ، إذ الموجودات المتحقّقة الوجود ، والحقائق المشهودة على النحو المعهود منحصرة في هذه الأقسام الثلاثة ، والخارج عنها تحكَّم وهمي ، وتوهّم تخيّلي لا علمي ، وذلك أيضا تحديد عدمي بعدمات لا تتناهى ، وتقييد بعقائد تتباين وتتنافى ، وعلى كل حال ، فهو تحديد وتقييد ، وذلك تنزيه ليس في التحقيق وجه سديد ، وحقيقة الحق المطلق تأباه وتنافيه وتباينه ولا توانيه . ولا سيّما وقد نزلت الشرائع بحسب فهم المخاطب على العموم ولا يسوغ أن يخاطب الحق عبده بما يخرج عن ظاهر المفهوم ، فكما أمرنا أن نكلَّم الناس بقدر عقولهم ، فلا يخاطبهم كذلك إلَّا بمقتضى مفهومهم ومعقولهم ، ولو لم يكن المفهوم العامّ معتبرا من كل وجه ، لكان ساقطا وكانت الإخبارات كلَّها مرموزة ، وذلك تدليس ، والحق تعالى يجلّ عن ذلك ، فيجب الإيمان بكل ما أخبر به من غير تحكَّم عقلي ولا تأويل فكري ، إذ " ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَه ُ إِلَّا الله وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا به ".
وحيث أقرّت العقول بالعجز عن إدراك الحقائق فعجزها عن إدراك حقيقة الحق أحقّ في أصحّ المذاهب والطرائق ، فلا طريق لعقل ولا وجه لفكر مفكَّر أن يتحكَّم على الذات الإلهي بإثبات أمر لها أو سلب حكم عنها إلَّا بإخباره عن نفسه .
فإنّ الذات المطلقة غير منضبطة في علم عقلي ولا مدركة بفهم فكري ، ولا سيّما لا وجه للحكم بأمر على أمر إلَّا بإدراك المحكوم به ، والمحكوم عليه ، وبالحكم حقيقة ، وبحقيقة النسبة بينهما . وهذا مقرّر عقلا وكشفا دائما ، فليس لأحد أن يتحكَّم بفكره على إخبارات الحقّ عن نفسه وتأوّلها على ما يوافق غرضه ويلائم هواه ومدركه ، فإنّ الإخبارات الإلهية مهما لم يرد فيها نصّ بتعيّن وجه وتخصيص حكم .
فهي متضمّنة على جميع المفهومات المحتملة فيها من غير تعيين مفهوم دون مفهوم ، وهي إنّما تنزل في العموم على المفهوم الأوّل وفي الخصوص على كل مفهوم يفهمه الخاصّ من تلك العبارات ، والحق إنّما ذكر تلك العبارات عالما بجميع المفهومات ، محيطا بها وجميعها مراد له بالنسبة إلى كل فاهم ، ولكن بشرط الدلالة اللفظية بجميع وجوه الدلالة المذكورة على جميع الوجوه المفهومة عنها في الوضع العربي أو غيره أيّ لغة كانت تلك الإخبارات بها .
لأنّ للحق ظهورا في كل مفهوم ومعلوم وملفوظ ومرقوم ، وفي كل موجود موجود ، سواء كان من عالم الأمر ، أو من عالم الخلق ، أو من عالم الجمع ، فهو الظاهر في الكلّ بالكل ، وعين الكلّ والجزء ، وكل الكلّ ، فهو الظاهر في كل فهم بحسبه غير منحصر فيه ولا في غيره من المفهومات ، وهو الباطن من كل فهم ومفهوم إلَّا من رزقه الله فهم الأمر على ما هو عليه ، وهو أن يرى أنّ العالم صورة الحق وهويّة العالم هويّة الاسم «الظاهر» ، وصورة العالم هو الاسم « الظاهر » ، وهويّة العالم هو الاسم « الباطن » وهو من حيث هو المطلق عن التقيّد بالظاهر والباطن والحصر في الجمع بينهما وهو غير المتعيّن المطلق مطلقا في عين تعيّنه بعين كلّ عين من أعيان العالم ، فافهم .
قال رضي الله عنه : " كما أنّه بالمعنى روح ما ظهر ، فهو الباطن " .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ الحق من حيث كونه عين العالم كان العالم صورته وهويّته ، وكان هو الاسم الظاهر عينه من هذا الوجه ، وهو من كونه عين معنى العالم وحقيقته هو روح العالم والاسم الباطن عينه .
قال رضي الله عنه : «فنسبته لما ظهر من صورة العالم نسبة الروح المدبّر لصورته».
قال العبد : لا يسبق إلى فهمك من هذه النسبة المذكورة ، وقوله : « ما ظهر » عالم الأجسام فقطَّ ، بل جميع ما يسمّى عالما من عالم المعاني فما دونه من العوالم العقلية والروحية والنفسية والطبيعة الجسمانية والعنصرية والمثالية والخيالية والبرزخية والحشرية والجنانية والجهنّمية وصور كثيب الرؤية وصور التجلَّيات الجلالية والجمالية والكمالية والجنابية والجهنّمية.
وصور كثيب الرؤية وصور التجلَّيات الجلالية والجمالية والكمالية أبد الآبدين ودهر الداهرين ، كل هذه ظاهريّة الحق ، ونسبته إلى الكل كنسبة الروح المدبّر لهيكله ، فالمسمّى عالما هو صورة الحقّ والحق روحه المدبّر له ، فمن عرف شيئا من العالم ، وعرفه عريّا عن الحق ، فما عرفه ولا عرّفه على ما هو عليه ، وكذلك بالعكس من عرف الحق في زعمه وعرفه بريّا عن العالم وعريّا عنه ، فما عرفه ولا عرّفه .
قال الشيخ رضي الله عنه : « فيؤخذ في حدّ الإنسان مثلا باطنه وظاهره ، وكذلك كل محدود ، فالحق محدود بكل حدّ » أي لكل محدود
قال الشيخ رضي الله عنه : « وصور العالم لا تنضبط ، ولا يحاط بها ولا يعلم حدود كلّ صورة منها إلَّا على قدر ما يحصل لكلّ عالم من صورة ، فلذلك يجهل حدّ الحق ، فإنّه لا يعلم حدّه إلَّا بعلم حدّ كلّ صورة ، وهذا محال حصوله ، فحدّ الحق محال " .
قال العبد : لمّا كانت صورة العالم ظاهرية الحق ، وهويّته باطنه ، لزم أن يكون الحدّ الكامل لكل شيء هو بذكر حدّه آخذا ظاهره وباطنه ، والحق باطن الكلّ ، فإن لم يكن مذكورا في حدّ كل محدود ، لم يكن الحدّ كاملا .
وهو تعالى إنّ حدّ ، حدّ بجميع الحدّ على الحدّ الذي ذكرنا ، لا على الحدّ الرسمي للحدود في عرف الحكمة الرسميّة المنطقيّة ، ولكنّ الحقّ يتعيّن في كل محدود بحسبه وقدره ، فلا ينحصر في حدّ ولا في جميع الحدود المحدودة ، ولا ينحصر حدّه أيضا في الجمع من جميع الحدود إن انحصرت ،ولكنّها لا تنحصر أصلا.
فلا يحدّ الحقّ أبدا ، فهو حدّ كل شيء وليس له حدّ ، فلو حصل لنا الإحاطة بحدود جميع صور العوالم وأرواحها وحقائقها ومعانيها ، وانضبطت لنا حدودها ظاهرة وباطنة ، لتأتّى لنا من حدّه حدّه تعالى ، ولكنّها لا تنضبط ولا يحاط بها أبدا فلا يحدّ الحق .
وأيضا : فإنّ الحق لا يتميّز بخصوصية تفصّله عن خصوصيّة ، وإلَّا لكان محدودا مقيّدا بتلك الخصوصيّة ، ولمّا لم تنحصر الصور ولم تنضبط التعيّنات غير المتناهية ، لم يكن حدّ الكلّ إلَّا بكلَّيّته مجملا ، وذلك أيضا اعتبار يعتبر مجملا ، فلم يكن حدّ الحق .
وأيضا لأنّه تعالى أحديّة جمع جميع الحقائق الخصوصيّة والاشتراكيّة كلَّها ما تناسب وتشاكل وتباين وتنافي وتضادّ وتناقض ، فلا يعلم حدّه ، لكون الحدود مصوّرة للمحدودات ومتحقّقة فيها فهي غير معلومة ، ولا يحاط بها في نفس الأمر ، فلا يلزم من عدم الإحاطة بالحدود والمحدودات ولا من عدم علمنا بالحدود كلَّها على سبيل الحصر كونه تعالى محدودا بحدود المحدودات كلَّها من كونه تعالى عين الكلّ إلى ما لا يتناهى مطلقا عن الانحصار في الحدود والمحدوديّة واللامحدوديّة . ذلك مبلغنا من العلم ولا يبلغ كلّ ما فيه ، وهذا غاية البيان ، والله المستعان .
قال رضي الله عنه : "وكذلك من شبّهه وما نزّهه ، فقد قيّده وحدّده وما عرفه ، ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه ، ووصفه بالوصفين على الإجمال ، لأنّه يستحيل ذلك على التفصيل  لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور ، فقد عرفه مجملا لا على التفصيل".
قال العبد : وكما تقدّم القول في المنزّه بالتنزيه العقلي أنّه ناقص المعرفة ، لكونه مقيّدا للمطلق ومحدّدا لما لا حدّ له بما يخرجه ويميّزه عن جميع ما ينزّهه عنه ، فكذلك المشبّه من غير تنزيه غالط ، لأنّ التشبيه تقييد وتحديد أيضا للمطلق الذي لا حدّ له بقيده وحصره ، وهو المطلق بالذات والوجود ، لأنّه وصفه بوصف ذي حدّ ، وحدّه بحدّ ذي وصف معيّن ، وقيّده بذلك ، ذاهلا عن ضدّ ما قال به أو نقيضه وهو التنزيه ، ولقبوله تعالى الوصفين معا على الوجه الأكمل الأجمع .
وذلك لأنّ المشبّه يشبّهه تعالى بالجسمانيات ، ويحصره في ذلك المنزّه بنزهه عنها كذلك ، فكل واحد منهما يقيّده إذن بمفهومه ، ويحدّده بمعلومه ، وحقيقته تعالى تقتضي الإطلاق والحصر .
ثم إنّ التشبيه يقتضي : مشبّها ، ومشبّها به ، ومشبّها ، وفيه اشتراك للحق بما يشبّه فيه بما يشبّهه به فيما يشبّهه به شبهه ، وحيث ورد التنزيه والتشبيه معا في إخباره تعالى عن نفسه في مفهوم العموم وفي معلوم أهل الخصوص ، أخبر عن نفسه في التشبيه في عين التنزيه والتنزيه في عين التشبيه ، وذلك في كتبه المنزلة ، وعلى ألسنة رسله المرسلة .
فالأخذ بأحدهما دون الآخر كفر به وبما أخبر عن نفسه من حيث أحد الوجهين ، وجنوح عن حق الإيمان ، ولكنّا آمنّا بما جاء عن الحق وشبّهنا كما أخبرنا به تعالى عن نفسه على الوجه الذي أراده من غير تحكَّم عقلي ولا تأويل فكري وعلى مقتضى المفهوم الأوّل من اللفظ والعبارة ، ونزّهنا أيضا من حيث ما ورد التنزيه في القرآن المجيد من غير تحكَّم عقلي ولا تسلَّط فكري ولا تأويل تقييدي بأمر دون أمر ، فقد وفّينا الحقيقة مقتضاها وأعطينا من الله في حق كل مرتبة ما أتاها ، ومن جمع بين المعرفتين منّا ، ولم يحصر الأمر وأطلق ، فهو الإمام العلام ، حسنة الليالي والأيّام .
ثمّ إنّ الواصف للحق بالوصفين إمّا أن يصف بهما إجمالا وهو الممكن في حق العارفين ، ولكن منهم من يصفه بهما امتثالا واتّباعا لما جاء به الشرع المطهّر ، وذلك ، المؤمن بكل ما ورد من الله على مراد الله ولم يحصر في أمر دون أمر ، إنّما هو عبد الله لا شائبة فيه للفضول .
ولا شانئة التحكَّم بمقتضى العقول ، ومن وصفه منّا بهما معا محقّقا بأنّ كل ذلك مقتضى الحقيقة وأنّ الهويّة تقبل الأضداد والأمثال لكونها محيطة بالكلّ ، وشاملة للجميع ، حاصرة غير محصورة .
كان كامل المعرفة تامّ الكشف ، عامّ الشهود ، أستاد الطريقة ، كأبي سعيد الخرّاز ، حين سئل : بم عرفت الله ؟
قال : بجمعه بين الأضداد : " أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ " وصف هويته الأحدية الجمعية بالأوليّة والآخرية والباطنية والظاهرية مع ما بين هذه النسب من التضادّ والتنافي ، بقوله تعالى :
"هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ " فجعل هويّته الأحدية موضوعة ، وحمل عليها هذه النسب بلا تقييد ، فهو الوصف بهما إجمالا .
وأمّا وصفه تعالى بالكلّ على التفصيل فليس إلَّا لله إلى ذلك سبيل ، لامتناع تفصيل ما لا يتناهى دفعة واحدة بطريق التوصيل ، ولكنّ الحق يفصّل ويوصل أبد الدهر من غير تناه ولا انقطاع . ولو فرضنا الإحاطة بكلّ ما حصل في الوجود من الحدود .
فوصفه بكل ذلك على الإجمال أو على التفصيل تعريف وتحديد أيضا بالمتناهي المحدود ، لكون الحاصل في الوجود ، إذ ذاك وعنده من الشهود مجملا أو مفصّلا محصورا بانتهائه إلى ما لم يدخل بعد في الوجود ممّا لم يوجد في مرتبة من المراتب .
فالحصول على المعرفة والتعريف ، والوصول إلى التحديد والتوصيف على التفصيل ممتنع مستحيل ، وإن عرف بكل ما دخل في الوجود ما لم يدخل كان مجملا أيضا ، وإن عرف بالتفصيل في الأوّل مفصّلا وفي الثاني الباقي مجملا ، كان مركَّبا من المجمل
والمفصّل ، وما في التحصيل حينئذ تفصيل لتوصيل من كل وجه ، والجمع أكمل وأشمل ، فتحقّقه .
قال رضي الله عنه : « ولذلك ربط النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم معرفة الحق بمعرفة النفس. فقال : « من عرف نفسه ، فقد عرف ربّه » .
وقال تعالى : " سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ "  وهو ما خرج عنك "وَفي أَنْفُسِهِمْ " وهو عينك " حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ " أي للناظرين "أَنَّه ُ الْحَقُّ " أي من حيث إنّك صورته وهو روحك .
فأنت له كالصورة الجسمية لك ، وهو لك كالروح المدبّر لصورة جسدك ، والحدّ يشمل الظاهر والباطن منك ، فإنّ الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدبّر لها ، لم يبق إنسانا ، ولكن يقال فيها :
إنّها صورة تشبه صورة الإنسان ، فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة ، ولا ينطلق عليها اسم إنسان إلَّا بالمجاز لا بالحقيقة " .
قال العبد : معرفة العبد ربّه من معرفة نفسه على وجهين :
أحدهما : معرفة النظير .
والثاني : معرفة النقيض فيعرف ربّه بالكمالات الحاصلة فيه بأنّه للحق على الوجه الأكمل الأحقّ ، ويعرف أيضا بنقائض ما هو عليه من النقائص ، وسلب جميع ما هو عليه من صفات النقص عن الجناب الإلهي .
وهذا أيضا معرفة مجملة بالربّ ، حاصلة من معرفة مجملة أيضا كذلك بالنفس ، فكما لم يعرف النفس على التفصيل ، كذلك لم يعرف الحق على التفصيل ، وإنّما لم يعرف نفسه على التفصيل ، لأنّه على صورة ربّه ، وصورة العالم ، وكلّ واحد منهما غير متناهي التفصيل ، فالمعرفة التفصيلية تستحيل إلَّا ما شاء الله العليم القدير.
ولهذا ربط رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم معرفة الربّ بمعرفة النفس ، لأنّ الإنسان الذي هو أحدية جمع جمع الجميع ، إذا علم حقائق نفسه ، روحانيّها وطبيعيّها مع قواها ولوازمها ولوازم لوازمها وعوارضها ولواحقها على التفصيل أو على الإجمال ، كانت معرفته بربّه كذلك .
فقال : " سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ " وهو ما خرج عنك ظاهرا ، إذ لا خارج عنك معنى "وَفي أَنْفُسِهِمْ" ".
وهو عينهم التي هي صور أحدية جمع الآيات كلَّها .
والمعرفة الحقيقية بالربّ إنّما تكون بالجمع بين المعرفة بالآيات الإلهية في الصور الآفاقية التفصيلية في جميع عوالم الفرق والتفصيل ، وبين المعرفة بأحدية جمع الآيات الأحدية الجمعية التي في الصور الإنسانية ، فإنّ الله خلق آدم على صورة الله تعالى ، وخلق العالم على صورة الإنسان ، فالعالم هو الإنسان الكبير صورة لا معنى والإنسان هو العالم الصغير صورة لا معنى ، والعالم هو الإنسان الصغير معنى الكبير صورة ، والإنسان هو العالم الكبير معنى الصغير صورة ، فافهم .
فالمعرفة الحقيقية في الجمع بين المعرفة التفصيلية الآفاقية وبين المعرفة الأحدية الجمعية ، والجامعة بين معرفة الجمع والتفصيل ، ومن رأى الآيات الربانية المفصّلة في العالم ، علم أنّ له ربّا عليما بحقائقه ، حكيما بأوضاعه وترتيبه في درج مراتب أصله ودقائقه ، ثم رأى من كل آية من تلك الآيات التفصيلية أنموذجا في نفسه .
فرأى في نفسه أحدية جمع تلك الآيات كلَّها ، فيرى ربّه قد استوى على عرش مظهرية الأحدية الجمعية الكمالية استواء أحديّا جمعيا قرآنيا ، واستوى على عرش مظهرية العالم ، استواء تفصيليا فرقانيا ، فتبيّن له أنّه الحق القيّوم بصورتك وصورة العالم بصورتك وهو روح الكلّ وروح روح العالم ، وهو أنت .
فأنت للحق ومنه بمجموع ظاهرك وباطنك وأحدية جمعك كالصورة الجسمانية لك من حيث ما يقوم بمصالحها وتربيتها ، وهو لك كالروح المدبّر لصورتك ، فإنّه مدبّرك بحقائق ذاته وصفاته وتوالي فيضه وتجلَّياته ، كما أنّ روحك يدبّر بإذن الله جثمانك بقواها الباطنة والظاهرة .
وكما أنّ روح العالم وهو الإنسان الكامل مدبّر العالم ، وهو صورته التفصيلية ، وصورة ربوبيّة الربّ للعالمين عين صورة ربوبيّته لك ، وبك يدبّر العالم ويدبّرك ، كما يدبّر روحك جسمانيّتك ، وحدّ الإنسان يشمل ظاهره وباطنه ، لأنّ الحق في مشرب التقحيق الأتمّ والكشف الأخصّ الأعمّ باطنك وهويّتك ، وأنت صورته .
لذلك يجب للمحقّق أن يأخذ الحق في كل حدّ لكل محدود ، وهو المعتبر في مشرب الكمال وإلَّا فليس بحدّ كامل ، بل هو الحدّ المتعارف بين حكماء الرسوم ، حدّ لحجابيات الأعيان لا غير ، فافهم إن كنت تفهم ، وإلَّا فاسكت ، فليس تمسك فادرج إلى غيره ، والله المستعان .
والدليل على أنّ الحدّ يجب أن يكون شاملا للظاهر والباطن أنّ الصورة الإنسانية إذا زال عنها الروح لا يصحّ أن يقال فيها : إنسان ، بل صورة إنسانية ، فلا فرق بينها وبين صورة إنسانية من خشب أو غيره ، وإن أطلق عليها اسم الإنسان فبالمجاز لا بالحقيقة ، فكذلك إن لم يشمل الحدّ للحق الذي هو لك كالروح المدبّر لجسمك ، لم يكن حدّا كاملا .
قال الشيخ رضي الله عنه : « وصور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلا ، فحدّ الألوهة له بالحقيقة لا بالمجاز كما هو حد الإنسان إذا كان حيّا .
وكما أنّ ظاهر صورة الإنسان تثني بلسانها على روحها ونفسها فالمدبّر لها ، كذلك جعل الله صورة العالم يسبّح بحمده ولكن لا نفقة تسبيحهم ، لأنّا لا نحيط بما في العالم من الصورة).
قال رضي الله عنه :(فالكلّ ألسنة للحقّ ناطقة بالثناء على الحق . ولذلك قال : الحمد لله ربّ العالمين . أي إليه يرجع عواقب الثناء ، فهو المثني والمثنى عليه ») .
قال العبد : لمّا كان الحق باطن الخلق ، والخلق ظاهر الحق ، فلا يمكن فرض زوال الحق عن العالم ، ولا فرض زوال العالم عن الحق ، وإلَّا لانعدم العالم بأسره .
لأنّ الحق تعالى هويّة الكلّ ، وهو المدبّر للكل ، والقيّام به ، وروحه الذي به حياته وبقاؤه ووجوده ، وفيه وبه شهوده ، والعالم مع قطع النظر عن الوجود الحق عدم محض لا يمكن شهوده ، ووجوده بالنظر إليه تعالى ، وترجيحه لجانب الوجود واجب الوجود .
فكما أنّه يؤخذ في حدّ الإنسان الصورة الظاهرة والهويّة الباطنة ، ولا يزول باطن الإنسان عن ظاهره في حدّه ، فكذلك الألوهة لا تزول عن العالم ، لعدم زوال الربّ عن المربوب ، والإله عن المألوه ، والعلَّة عن المعلول .
ولمّا كان العالم عبارة عن مجموع الصورة وأرواحها ، كذلك يثني على أحدية جمعها وجامع فرقها وصدعها بين معاني أصلها وصور فرعها ، وكذا أحدية جمع العالم وهو الإنسان الكامل جمعا وفرقا يثني على الله الذي هو عين أحدية جمع الجميع ، فالكلّ ألسنة الحق يثني بها على نفسه .
وقد استقصينا القول على ذلك في بيان مراتب الحمد في خطبة الكتاب .
فقوله : " الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ " ثناء من الحق على نفسه بألسنة العالمين ، أو ثناء العالمين على الله بألسنة الحق ، أو ثناء الحق على الحق بألسنة الحق من كونه عين العالمين ومن كون العالمين عين الوجود الحق المتعيّن في أعيان العالمين ، فثناء من العالمين على الحق أو على العالمين من بعضه لبعض ، فتدبّره إن شاء الله تعالى ، فإليه يرجع عواقب الثناء ومصير المحامد على كل وجه .
قال الشيخ رضي الله عنه شعر :
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيّدا ......     وإن قلت بالتشبيه كنت محدّدا
وإن قلت بالأمرين كنت مسدّدا   ...... وكنت إماما في المعارف سيّدا
قال العبد أيّده الله به : قد أسلفنا أنّ تنزيه الحق عن أشياء وأمور تقييد ، وتمييز عمّا هو له وتجريد ، وأنّ تشبيه ما لا حدّ يحيط به تحديد ، وتعميم الحكم بوصفه بالجمع بينهما على وجه الإطلاق تعريف كامل وتوقيف شامل عند أرباب الوحدة والتوحيد ، وأصحاب الجمع والوجود والتفريد ، لأنّه عدم الحصر في الأمرين ولا في الجمع بين الطرفين .
والعارف المعرّف للحقّ بأحدية جمع الجمع هو الإمام الذي يصف كلّ واحد من الطرفين بما يخصّه ، ويسدّد النظر إلى الحقيقة بكل ما للطرفين من غير تمييز وتعيين وتنقيص ، فهو الفائز بالحسنيين والحائز للمعنيين ، فله السيادة في المعارف على الفريقين ، لكونه جامعا بين المعرفتين .
ولا يقال : إنّ الجامع بين التشبيه والتنزيه يكون محدّدا أو مقيّدا بالجمع بينهما ، لأنّ الجامع غير حاصر في أحدهما معيّنا ، ولا مطلقا غير معيّن كذلك ولا فيهما ، بل جمعه إطلاق الأمر عن الحصر في التنزيه والتشبيه والجمع بينهما ، فهو تنزيه بالإطلاق عن حصر تقييد التنزيه وتحديد التشبيه ، فافهم .
قال رضي الله عنه [ شعر ] :
فمن قال بالإشفاع كان مشرّكا   ..... ومن قال بالإفراد كان مفرّدا
يعني - رضي الله عنه - : صاحب شهود الشفع ، وهو الذي يرى حقا وخلقا ، وينزّه الحق عن الخلق ، مثبتا وجودين اثنين ، فهو ثنويّ مشرك قد أشرك الخلق بالحق في الوجود ، وعلى هذا المشرّك - بتشديد الراء - مثبت الشريك.
وقد يؤخذ اشتقاقه من الشرك ، وهو الحبالة ، ويكون حينئذ بمعنى المقيّد للوجود بالإشراك في الشفعية والحقيّة بالخلقية ، وهي الزوجية من العدد ، فهو جاعل للحق ثاني اثنين ، وذلك كفره أي ستره للوحدة الحقيقية بالشفعية العددية الاعتبارية .
ومن أفرد بالتنزيه .
وقال : الشفعية والزوجية للعدد ، والحق يتعالى عن المعدود والعدد ، فقد ميّزه أيضا عن التعديد والعدد ، وأخرجه عنه مع إثباته في الوجود ، ووقع من حيث لا يشعر في عين ما وقع صاحبه المشبّه ، لأنّ كلَّا منهما أثبت ثانيا للحق في الوجود كذلك ، وحيث أخرج الحقّ عن الوجود في عدد الشفع .
فهو كمن قال : إنّه ثالث ثلاثة من حيث لا يدري ، أو رابع أربعة ، لأنّ العدد إمّا زوج أو فرد ، فباعتبار أوّل عدد زوج كان ثالث الثلاثة ، وباعتبار أوّل عدد فرد كان رابع الأربعة.
وإن قال : إنّه ثالث اثنين أو رابع ثلاثة - على أنّه هو الموجود وحده مع اعتبار اثنين عدميّين ما لهما وجود ، أو ثلاثة كذلك - فلم يشرك ولم يكفر ، بل وحّد على الحقيقة .
قال رضي الله عنه شعر :
فإيّاك والتشبيه إن كنت ثانيا    ..... وإيّاك والتنزيه إن كنت مفردا
يعني رضي الله عنه  : إذا قلت بوجود الاثنينية في الوجود بأن تقول : وجود مطلق ، ووجود مقيّد  فلا تشبّه المطلق بالمقيّد ، وإلَّا كنت محدّدا للمقيّد بحدّ المطلق وبالعكس .
وإن قلت بإفراد الوجود للحق فلا تنزّهه ، لأنّ الحق الذي ليس معه شيء لا يتنزّه عن نفسه ومقتضى ذاته ، وما ثمّ غيره ، ثمّ التقييد والإطلاق نسبتان - كما علمت - ذاتيتان لوجود الحق ، فهو لا يتنزّه عن مقتضى ذاته .
قال رضي الله عنه شعر :
فما أنت هو ، بل أنت هو وتراه في    ..... عين الأمور مسرّحا ومقيّدا
يعني رضي الله عنه : اعلم : أنّ وجود الحق وهويّته كناية عن غيبه ولا تعيّنه الذي لا يتعيّن في كلّ تعيّن ، ولا يشهد .
و « أنت » كناية هو عينه المتعيّن في عيان الشاهد ، فنفيه رضي الله عنه « أنت » عن « هو » نفي تقييد التعيّن عن إطلاق الوجود الحقّ من حيث هما كذلك ، وإثباته رضي الله عنه « أنت » عين « هو » من حيث حقيقة الوجود الذي هو في المطلق مطلق وفي المقيّد مقيّد .
فالوجود هو من حيث إطلاق هويّته تعالى ينتفي تقييد التعيين عنه ، وهو من حيث الحقيقة والعين عين للكلّ ، فتارة يوضع المطلق ويحمل عليه المقيّد ، وبالعكس يوضع المقيّد ويحمل عليه المطلق ، وتارة ينفى كلّ منهما عن كلّ منهما باعتبارين مختلفين ، وهو من حيث الهويّة التي هي عين المطلق والمقيّد في الشهود - مطلق في الإطلاق والتقييد ، فالمقيّد هو الاسم « الظاهر » وهو العالم والخلق ، والمطلق هو الباطن الحقّ ، وحقيقة الوجود الحقّ وهويّته فيهما عينهما ، تعاليت وتباركت .
ف « تراه في » ، يعني رضي الله عنه : في الحقيقة المحمدية البرزخية الجامعة بين الاسم الظاهر والاسم الباطن « عين الأمور » كلَّها « مسرّحا » مطلقا حقّا و « مقيّدا » خلقا ، لأنّ « أنت » و « أنت » و « هو » و « هي » و « نحن » وكاف المخاطب ، وتاءه ، وياء المخاطب المتكلَّم ، كلَّها كنايات عن عين واحدة ما ثمّ غيرها ، ظهرت في مراتب هي مقامات بطونه وظهوره ، ومرائي تجلَّيات نوره ، ومجالي تعيّناته في صور شؤونه وأموره وهويّة العين واحدة في الكلّ ، هو الأوّل الباطن ، والآخر الظاهر .
في الفرع والأصل ، فالحقيقة المتعيّنة في إنّيّة « أنت » عين المتعيّن في هويّة « هو » بحقيقتها وعينها ، ولكنّ الخلق من كونه خلقا غير الحق من كونه حقّا ، وكذلك الظاهر من كونه ظاهرا ما هو الباطن من كونه كذلك . فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : « قال الله تعالى " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " فنزّه ، " وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ "  فشبّه » يعني : على مفهوم العموم على أنّ الكاف زائدة ، وأنّ السميعيّة والبصيرية مشتركتان بين الحق والخلق .
ثم قال : « قال الله تعالى " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " فشبّه وثنّى » .
يعني : أنّ الكاف غير زائدة ، يكون إثبات المثل المنفيّ عنه مشابهة شيء ما من الأشياء ، وذلك عين التشبيه والتثنية .
قال: " وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " فنزّه وأفرد " يعني على السميع البصير هو الحق في كل سميع بصير له الأذن والحدقة ، وليس السمع والبصر الآلة إلَّا ، للحق ، وفيه التنزيه الحقيقيّ وإفراد الوجود الحق بالانفراد .
وقد ذكرنا في أوّل هذا الفصّ ما فيه غنية عن التكرار ، وقد جمع الله تعالى في كل شقّ من الآية تنزيها في تشبيه وتشبيها في تنزيه ، فكان كلّ منهما ذاتيا للحقيقة والعين وهو الحق ، فافهم والله الملهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : « لو أنّ نوحا دعا قومه بين الدعوتين لأجابوه فدعاهم جهارا ، ثمّ دعاهم إسرارا ،ثمّ قال لهم "اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّه ُ كانَ غَفَّاراً ".
وقال : "إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً ".
قال العبد : نوح عليه السّلام أوّل المرسلين أرسله الله تعالى إلى قومه ، وهم بالله مشركون ، يعبدون ودّا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا ، وعن حجّة محجّة المعبود الحق الواحد خارجون .
فلمّا رأى الله الواحد الأحد ضلالهم عن الهدى ، واتّباعهم للهوى ، وأنّ في دعوتهم إليه وإجابتهم لدعوته كمالهم وبها يصلح في الدنيا والآخرة أحوالهم .

أقام نوحا عليه السّلام ليدلَّهم على أحدية العين ، ويصرفهم عن الإطراق إلى الفرق والبين ، بعبادة التعيّنات الجزوية التقييديّة ، الظاهرة من صور النسب الأسمائية وحجابيّاتها التعديدية ، لكنّ الواجب في العبادة هو الواحد الذي هو أصل الكثير ، فإنّ عبدة الكثير ما لهم من نصير ، إذ الواحد الحق هو موجد الكثرة في عينه الواحدة ، فالحق الواجب على الكثرة عبادة الواحد الحق .


يتبع الجزء الثاني
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فصّ حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 6:45 pm

03 - فصّ حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم


03 - فصّ حكمة سبوحية في كلمة نوحية  الجزء الثاني

لا عبادة الصنميّات و التعيّنات الاسمية ، فلا جرم كانت دعوته ودعوة جميع الأنبياء والرسل والأولياء إلى الله الواحد الأحد ، وكانت دعوة نوح عليه السّلام إلى الأحدية والتنزيه ، عن حجابيّات الكثرة وآلهة التشبيه ، لتصرف وجوههم عن صنميّات العدد ، إلى عبادة الواحد الأحد.
فوعدهم وأوعدهم بما وعد وأوعد والقوم عنه معرضون ، وبتكذيبه مصرّحون ومعرّضون ، وبسخط قهر الأحدية متعرّضون ، لكونهم في خصوص قابليّاتهم مظاهر حجابيّة صور الأسماء ، وعبدة صنميّات الأهواء .
فلمّا دعاهم إلى ما يباين شهودهم كلّ المباينة وهم لا يشعرون ، وندبهم إلى ما ينافي معهودهم ومعبودهم فيما يشهدون .
فاستكبروا استكبارا واستكثروا من أذيّته استكثارا ، فلو كانت دعوته عليه السّلام دعوة جامعة بين وحدة الذات وكثرة الأسماء والصفات بالانتزاح من فرق الكثرة في عين الواحدة إلى جمع الوحدة في عين الكثرة المعدّة كما هو الأمر في نفسه لأجابوه ، وما نفروا عنه ، ولا هابوه ، ولا عيّروه ، ولا عابوه ، لأنّ الكثرة ظاهرة في الشهود ، والوحدة باطنة في عين الكثرة والوجود ، فالكثرة على ظاهر الوحدة ، والوحدة في باطن الكثرة .
كبطون الواحد الأحد آخرا فيما يتناهى من العدد ، واشتمال الواحد على النصف والثلث والربع من النسب أوّلا قبل ظهور العدد فيما يتعدّد ، فلو دعاهم على مقتضى الشهود المحمدي الجامع ، لوقعت الإجابة بمقتضى الواقع ، وانقادت ظاهريّاتهم ظاهرا بمناسبة الكثرة الظاهرة التي هم في إظهارها إلى كثرة الأسماء المذكورة في الدعوة الواحدة المشهودة .
وانقادت بواطنهم الأحدية أيضا إلى الوحدة ، لوجود المناسبة المشكورة ، ولكنّه عليه السّلام دعاهم إلى باطن السرّ ، وهم في شهود الظاهر وحجابيّة الأمر ، فأثّرت فيهم دعوته الإجابة بالنقيض ، وأثار بضدّ مراده  من الآثار .
فوقعت الإجابة منهم في صورة النفار ، وحصل الإقرار في صورة الإنكار والاستكبار ، لأنّ مضمون دعائه ينفّرهم عمّا هم عليه ملبّون ، ولدواعيه مجيبون وملبّون ، وعلى عبادته مكبّون ، فوجد النفار عمّا إليه دعاهم وهم في إجابة ما استولى عليهم ، فأصمّهم عن غيره وأعماهم ، فلم تكن الدعوة إذن أيضا باطلة ، ومن الإجابة بالكلَّية عاطلة ، وقد دعاهم جهارا ، إلى ما يزيدهم نفارا .
وهم في عين سماع ما جهر به الاسم الإلهي الظاهر ، وأظهره من صنميّات المظاهر ، فإنّ العالم صورة الكلام الإلهي الرباني الذي تكلَّم به في عين النفس الرحماني ، جهر به فسمعه القائمون بظاهريات حجابيات كلامه فأجابوه بالفعل والذات مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من مظاهر حجابيّات الكلمات والآيات ، الذين كانوا في عمارته وعبادته وتكميل أوضاعه وصورته وإسادته ، فأجابوا ظاهر دعوة الاسم الظاهر .
وكتابه المفصّل الفرقاني بظواهرهم ، وهم أهل الحجاب والكفر ، حجبوا عن الحق الواحد فيهم بالستر ، فستروا بكفر كثرتهم وجه أحدية الوجود ، وغلب عليهم الحال حال هذا الشهود ، فهم في عين الكشف محجوبون ، وفي الجهر مسرّون ، وفي عين الإقرار على صورة الإنكار مسرّون ، فما وفّوا المراتب حقّها على ما أراد الله من أمره ، و " ما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِه ِ "  فتوجّهت عليهم المؤاخذة والمطالبة الإلهية .
بإظهار الوحدة السارية في الكثرة الحجابية التي هم صورة تفصيلها الجمعية الظلالية ، فلو لا أنّ فيهم الجمعية ، لما طولبوا بما ليس فيهم ، و " لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا ما آتاها "  ، وتوانيهم ، فلو كانت الدعوة جمعية أحدية بين الكشف والستر ، والإسرار والجهر من الأمر ، لأجابوه إلى ذلك بمناسبة الجمعية التي فيهم ، ولما وقع الدعاء بالواسطة وهم في عين إجابة داعي الأمر المقترن بالإرادة الذاتية من غير واسطة .
لا جرم شغلوا بظاهر الداعي عن باطن الواقعة ، واستغرقهم الأمر الذاتي الإلهي الذي أجابوا له بالذات ، وسمعوه ، وبادروا إليه بالفعل والحال ، وأطاعوه وتبعوه ، لأنّ الأمر كان بلا واسطة كونيّة ولا حجابيّة مثليّة ، بل بتجلّ عينيّ وأمر إرادي ، فأطاعوه بالفعل والحال والذات ، لأنّ الله تعالى لا رادّ لأمره ولا معقّب لحكمه في الكائنات .
فلمّا لم تؤثّر دعوة نوح جهرا إلى سرّ ، وكشفا إلى ستر ، وهو أيضا عنهم بحجابية المثلية مستور ، وبكشف ذلك الستر عنهم مأمور ، فأخذ يدعوهم إلى التوحيد إسرارا خاليا عن الجهر ، فكانت الدعوة إلى السرّ بالسرّ ، فلم تؤثّر فيهم ، لاستغراقهم عن البطن بالظهر ، فكفروا بما جاء به الأمر فجهروا بإيذائه ، وظهروا بردّ دعائه ، وكان من دعوته في المقام الثاني من الإسرار صيانة للأسرار عن الأشرار أن قال : " اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ " الذي كشف لكم حجابيّات الآيات المتلوّة عليكم من هذا الكتاب المسطور الفرقاني في حجابية تعيّنات سور النفس الرحماني في صور الكفر والستر على عين الكشف والجهر "إِنَّه ُ كانَ غَفَّارا".
فاكفروا بهذا الكفر وآمنوا بما فيه من الستر ، يغفر لكم ذنوبكم ، ويكشف عليكم عيونكم ، ويظهر غيوبكم ، فإنّه كإستار الحقائق ذواتكم في غيب عينه « كان الله ولا شيء معه » من كونه ، فلمّا أحبّ أن يعرف ويعرّف إليكم منكم وفيكم بما عرف ، غلب عليكم نور التجلَّي ، وبهركم ما وقر وقرّ فيكم من أسرار التدلَّي والتولَّي ، فانقلبت حقيقة التلقّي ، بصورة الإعراض والتوقّي ، فحجبتم بالنور عن النور .
وكذلك دأب غلبة الوضوح ، وشدّة الظهور تورث في نور الأبصار الضعيفة ظلمة الحجاب ، وتؤثّر صورة الحيرة والارتباك والارتياب ، فاستولت عليكم هذه الحالة في أوّل شرّتكم ، فحجبتم عن الوحدة الأصليّة  الأصلية المستورة في كثرتكم فكفرتموه بحجابيّاتكم وسترتموه بإنانيّاتكم ، فوجبت المجازاة بالستر والغفران ، في مقابلة ما وقع من الكفر والطغيان ، والانحراف عن حقيقة الاعتدال الوسطي إلى حجابيّة الظاهرية والإطراف بالعصيان ، حتى يستركم عن نادية كثرة الفرقان ، ويجمعكم بجنان الوحدة والجمع من القرآن ، فإنّ في ذلك من الكمال ، ما ليس في ظاهرية الجلال والجمال ، وذلك هو مجتمع الأنوار والضلال ، والأمان من الحيرة والضلال ، فلم يعرفوا ما بيّن وقال ، وبهتوا في النور عن الضلال والاستظلال ، فقال كما قال عنه سلام الله عليه :
" إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً "  .
قال رضي الله عنه : « وذكر عن قومه أنّهم تصامموا عن دعوته لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته  .
قال العبد : فلمّا لم يفهموا عنه لسانه ، ولكنّهم علموا من حيث لا يشعرون شأنه ، عدل نوح عنهم إلى ربّه ،.
فقال بلسان سرّه وقلبه : " إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي " ليالي الغيب وهم في غيبة عن عينهم العينيّ ، وحضور من شهود نورك العيني الغيبيّ ، فلم يجيبوا إلى عبادة وحدانيتك ، وهاموا في كثرة تنوّعات تجلَّيات نورانيتك ، في ملابس حجب ظلمانيّتك ، واشتغلوا بنادية ما استعلوا بعباداتهم من الصور الأسمائية التعيينيّة ، وحجابيّات الكثرة الصنميّة من عزّاهم ولاتهم .
"ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً" في عالم الشهادة إلى شهود الوحدانية نهارا ، والأحدية الجمعية عنهم مستورة سترا لا يقبل الشهود والظهور بالنسبة إلى أن استغرقوا في شهود الكثرة والعدد ، واستهلاك أحدية نور التجلَّي في ظلمة ما يتعدّد ، فلم يصدّقوا حجّتي ، وصرفوا عن قصد محجّتي ، ولم يجيبوا إلى دعوتي " فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً " وأخذ بأسماعهم صمم الصلابة والغشاوة عن استماع ندائي ودعوتي ، وعقل ألسنة عقولهم عن الإقرار والإجابة لدعوتي ، ما سمعوا من الكلام الجهر الذاتي الإلهي بلا واسطة ثبوتي .
" وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ " ذنوبهم في عصيانهم وطغيانهم ، " جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ " وهي صور نعمك الجزوية الوجودية ، وأيادي أسمائك الفرعية الشهودية ، ومواهبك التفصيلية الجودية ، في محالّ استمتاع ما أدعوهم إليه من نعم المعاني الأحدية الجمعية وتظاهروا بملابس نعم الجود ، الظاهر الموجود " وَاسْتَغْشَوْا " خلع الكشف الحجابي والشهود ، واحتجّوا فيما احتجبوا من الحجاب ، واستغشوا ظاهرا بصور الثياب بأنّهم مغمورون بنور التجلَّي ، ومعمورون بما يتمكَّن لهم من التمتّع والتملَّي ، " وَأَصَرُّوا " على إلهتهم ، وصبروا على آلهتهم " وَاسْتَكْبَرُوا " في أنفسهم بما عندهم منك "اسْتِكْباراً " واستكثروا من الإفك استكثارا " وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا ولا تدعنّ على ما تدعون ، وتدعون لود ودّا ، ولا يسوغ لكم أن تسعوا في ترك سواع ، وإلَّا فأنتم في خسار وضياع ، ولا يغوثكم يغوث .
و لا يعوقكم عن مطالبكم يعوق ، ولا يسرّكم من نسر يمن ويسر ، وإنّكم إن أجبتموه إلى ما يدعوكم  إليه من التنزيه والتوحيد ، لوجب عليكم القيام بموجب التقليد ، والقعود على قواعد التقييد ، وقبول الإقبال على التوحيد ،والإعراض عن القول بالكثرة والتعديد.
قال الشيخ سلام الله عليه : « فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذمّ وعلم أنّهم إنّما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان ، والأمر قرآن لا فرقان ، ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه ، فإن القرآن يتضمّن الفرقان والفرقان لا يتضمّن القرآن » .
قال العبد : علم المحقّقون من هذه الإشارات أنّ قوم نوح إنّما أجابوا لما دعاهم إليه في صورة الإعراض ، وأقرّوا بعين ما ادّعاه في ملابس الإنكار بنوع من الإشارة والإيماض ، وذلك لأنّه دعاهم إلى الاستغفار وهو طلب الغفر فتظاهروا بالاستتار عن تجلَّي الواحد القهّار ، في العكوف على عبادة حجابيّات الأغيار ، ممّا يحبّق من الخشب والأحجار ، فأجابوه بالفعل إلى ما دعاهم من الاستغفار ، فأثنى عليهم نوح عليه السّلام كذلك في صورة الذمّ .
كما ظهروا بصورة الجهل فيما عندهم من العلم لأنّ دعوته لهم كانت إلى التوحيد وتنزيه التجريد ، وذلك تمييز وتقييد ، وفرقان بيّن بين السادات والعبيد ، والضالّ والرشيد ، والغاوي والسديد ، والمقرّ المريد ، والمنكر المريد ، وأنّ سوس الأمر وأساسه على الجمع والقرآن ، ليس على الصدع والفرقان ، لأنّ الوحدة كما عرفت تضادّ الكثرة والتوحيد ينافي التعديد ويحادّ أمره ، والحق سبحانه وتعالى كما لا ضدّ له في ذاته .
فكذلك لا ضدّ له في صفاته ، فهذه الوحدة التي تقابل الكثرة وتضادّها لا تليق أن تكون صفة ذاتية لله تعالى فيحادّها ، وأنّها زائدة على ذات الواحد الموصوف بها ، ووحدة الله عن ذاته ليست عليها زائدة ، وإلَّا كانت عارضة وزائدة ، أو تكون كثرة منها فيها عليه عائدة ، بل هو تعالى منبع الوحدة والكثرة المتقابلتين ، وعين الحقائق المتباينة والمتماثلة ، وفي الحقيقة لا وجود للاثنينيّة إلَّا في التعيّن والتعقّل ، والحقيقة الأحدية تنقلب في صور الكثرة بالتحوّل والتبدّل ، في عوالم التمثّل والتخيّل ، والتصوّر والتشكَّل .
وليس الوجود إلَّا للأحد الصمد ، وأحديّته عين حقيقته فيما تجرّد وتوحّد ، وتنزّه وتفرّد ، وفيما تكثّر وتعدّد ، وتحدّد وتجدّد ، فله تعالى الإطلاق الحقيقي عن التقيّد بإحدى الجهتين ، لكونه أحدي الذات والعين بلامين ، في عين تعيّنه في الصورتين ، فالتنزيه والتشبيه طرفان ، والوحدة الذاتية والكثرة الأسمائية ذاتيّتان للذات الإلهية والعين الجمعية الأحدية ، فلها منها بها أقران ، فيرتقي الفرقان الظاهر في الكفر والإيمان ، والطاعة والعصيان بحقيقة الجمع والقرآن .
ولمّا كشف الله لنوح عليه السّلام عن سرّ ما هم عليه من الجمعية السارية فيهم والأحدية النورية المستهلكة الحكم في مظاهرهم ومرائيهم ، أثنى عليهم بلسان الحقيقة ، ولغة منطق طير الطريقة ، ثناء ظاهرا بصورة الذمّ ، وسرورا مستسرّا في هيئة الهمّ والغمّ ، كما يقتضي مقامه وحالهم فيما خصّ وعمّ .
ولمّا كانوا في ظاهرية الفرق ، ووقع منه الدعاء إلى الباطن الحق ، ولا يخلو الظاهر من باطن فيه قاطن ، فلم يكونوا إلَّا على جمع مستهلك فيهم كامن ، فلا بدّ لأهل الجمع المستهلكين في عبدانيّة حقائق الجمع ، الساري في صور الفرق والصدع أن لا يصغوا إلى ما يباين مشهودهم ومعهودهم من الأنباء .
فلم يستطيعوا إجابة نداء الجلاء ، ودعاء الفرق والتمييز والتنزيه والاعتلاء ، فردّوا دعوته إلى التمييز والتنزيه ، والفرق بين العين والعين والحق والخلق ، لكونهم في عين الفرق مجموعين ، وعلى جمع فرق الفرق مجمعين ، وعن إجابة دعاء تمييز التنزيه وعن سمع نداء التجريد والتوحيد معزولين ، فافهم .
قال الشيخ سلام الله عليه : "ولهذا ما اختصّ بالقرآن إلَّا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم وهذه الأمة التي هي خير أمّة أخرجت للناس ف " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " يجمع الأمر  في أمر واحد ، فلو أنّ نوحا أتى بمثل هذه الآية لفظا ، أجابوه ، فإنّه شبّه ونزّه في آية واحدة ، بل في نصف آية " .
قال العبد : قد علمت أنّ سائر عبيد الله الكمّل في المقامات التفصيلية النبوية وحكمهم وحكمهم في شرائعهم منزلة من سماوات الأسماء التفصيلية الفرعية ، فمقتضى الحكم الإلهي الكلَّي في أمم قبلنا إنّما هو الطاعة والدعوة إلى التنزيه وتجريد التوحيد ، لكون القوم ملبّين على عبادة صنميّات الكثرة والتعديد ، وملبّين لدعوة حجابيّات الصور الأسمائية ، ذاهلين بالكلَّية عن الحقيقة الأحدية ، التي هي أصل الكثرة الفرعية والجمعية ، الموجدة الموحّدة للتفرقة العددية ، وحقيقة التحقيق في الجمع بين المرتبتين جمعا إطلاقيا وإطلاقا أحديّا .
وإنّما وقعت واقعة الأصنام ، وعبادة الصور من عالم الأجسام ، لكون التجلَّيات التعيينية ، وظهور النسب المستهلكة للأعيان في عين الأحدية مرادة لله تعالى في أوّل الإرادة ، فظهرت حقائق الأسماء والنسب أوّلا في عالم الشهادة ، لأنّه أراد أن يعرف كمال العرفان ، وأن ينعت ويوصف ويظهر كلّ نسبة من نسب ذاته بلوازمها وإضافاتها وعارضاتها ولاحقاتها في صورة الجمع من عالم الملك والشهادة صورا ظاهرة متمايزة بشخصيّاتها ، متناظرة متشاكلة ومتنافرة بخصوصيّات ليست في صورة مظهرية عالم الأمر والملكوت ، القابلة لتجلَّيات الصور الأسمائية الفرقانية ، وكان في بدو الأمر توجّه المشيّة والإرادة إلى الظاهرية .
فلمّا ظهرت صنميّات حجابيّات الأسماء ، وأخرجت الحضرات ما عندها من التجلَّيات ، وتوجّهت نفوس أهل تلك القرون الأول بمقتضى انبعاث التجلَّي الأوّل إلى عبادة صنميّات صور الأسماء ، وتوفّرت الرغبات إلى تلقّي الأنباء ، من حجابيّات  مراتب الإلقاء لظهور سلطنة تلك الأسماء عليهم واستواء تجلَّياته على عروش قابليّاتهم كلّ الاستواء ، واستولى شهود أحديّة الكثرة أو كثرة الأحدية على جموعهم كلّ الاستيلاء ، فوجب لهذا أن تكون الدعوة إلى الكمال الجمعي بالنسبة إليهم مبنيّة على حكم التنزيه والتوحيد ، ومنبئة على التمييز والتجريد ، حتى تكاملت أقسام هذه الدعوة التنزيهية العقلية الروحانية إلى زمان عيسى عليه السّلام ولم يبق بعده إلَّا الدعوات الخاصّة بالجمع .
فكانت حكمة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم جامعة للأمر على ما هو عليه أحكامه الشرعية أيضا ، جامعة للمصالح الجمعية الكمالية بين ما تعلَّق منها بأرواحهم ، وبين ما اختصّ منها بأجسامهم وأشباحهم ، فجمع شرعه عليه السّلام بين الشرائع كلَّها ، وأتى بزيادات على الجمع عليهما ، فجعلها كلَّها لله لا لهم ، فما أبقى لهم حظوظا نفسانيّة في عين تقريرها وإثباتها لهم .
فقال : " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ " وهو العدل من غير عدول وميل إلى جهة ولا جنوح وحيد إلى طرف من الروحانية والجسمانية ، " شُهَداءَ لِلَّه ِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ" ، فأمرهم بإقامة الشهادة لله بأنّ الذوات والصفات والأفعال والأخلاق والأعمال كلَّها لله ، حتى أنّ أنفسهم ما هي لهم ، بل لله ، فهم قائمون بشهادة الله عزّ وجلّ على أنفسهم وعلى الوالدين وهما :
الروح والطبيعية والأقربين : الحقائق الجسمانية والروحانية ، فجمعت حكمة المحمديين عليهم السّلام بين تنزيه في عين تشبيه ، وتشبيه في عين تنزيه في قوله : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " ، فأثبت المثل ونفى المثليّة عن المثل ، وهو السميع البصير ، فأتى بما يشتركه في العبيد عرفا ، ونزّه أن يكون معه غيره في ذلك ، فوضع هويّته موضوعة ، وحمل عليها السميع والبصير محمولا ، فلو كانت دعوة نوح عليه السّلام جامعة كذلك ، لأجابوه ظاهرا وباطنا ، قولا وفعلا ، ولكن لمّا كانت غير جامعة ، كانت الإجابة في صورة الصدّ والردّ والإنكار ، وعلى وجه النفار والفرار .
قال رضي الله عنه : « ونوح عليه السّلام دعا قومه ليلا ونهارا من حيث عقولهم وروحانيتهم ، فإنّها غيب ، ودعاهم أيضا ظاهرا صورهم وجثّتهم ، وما جمع في الدعوة مثل « ليس كمثله شيء » فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان فزادتهم فرارا » .
قال العبد الغيب غيبان : حقيقي وإضافي ،
والغيب الإضافي عالم الأمر والإبداع ومن الأرواح والعقول والنفوس ، ودعوة نوح من هذه الحيثيّة إلى ما تقتضيه النزاهة والقدس والتوحيد والتجريد وموجبات الانسلاخ عن الكدورات البشرية العنصرية والأوساخ .
فهي ليل من وجه باعتبار أنّ الحجب فيها متراكمة ، وأحكام الإمكان كظلمات مدلهمّة ، وعالم الإبداع والأمر أيضا ليل من وجه آخر من كونه غيبا بالنسبة والإضافة إلينا ، ونهار باعتبار أنّه أوّل مراتب الظهور والشهادة بالنسبة إلى الغيب الحقيقي وعالم المعاني .
ثمّ النهار بالاعتبار الحقيقي هو عالم الظهور التامّ والملك والشهادة ، ودعوتهم نهارا إنّما تكون بلسان عالم الشهادة بحكمه إحكام أحكام المصالح الجسمانية ، والاهتمام بإقامة إلهام الصورية المعيشية . 
وكانت دعوة نوح أوّلا على الوجه الأوّل ، وثانيا على الوجه الثاني ، ولم تكن بلسان الجمع بين الدعوتين في الحالين ، كما مرّ ، فوقعت منهم الإجابة كالدعوة بالفرق فعلا وقولا في صورة الردّ ، فتذكَّر وتدبّر .
قال سلام الله عليه : " ثمّ قال عن نفسه : إنّه دعاهم ليغفر لهم ، لا ليكشف لهم ، وفهموا ذلك منه عليه السّلام . لذلك جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ "
قال العبد : أمّة نوح عليه السّلام ومن شاكلهم من عمرة حجابية عالم الملك والشهادة ، وعبدة صنميّات الصور التعيينية والطواغيت الظاهرة كانوا في ستر وحجاب عن ليالي غيبهم وملكوتهم ، وعن كل دعوة تقتضي تغليب طرف الروحانية والقدس والنزاهة والبساطة العقلية والأسرار الروحانية تعين أنوار نهار الكشف ، وشهود جهار التجلَّي من عالم الشهادة والملك ، مقبلين بوجوههم وقلوبهم على مقتضى الحال ومقام التجلَّي الكلَّي العامّ ، المقتضي لبقاء هذا النظام ، من عمارة موطن الدنيا والقيام بصورة المقام .
ولمّا دعاهم نوح عليه السّلام وغيره من الأنبياء عليهم السّلام ليلا يعني بلسان الغيب إلى الغفران والستر ، فهموا عنه ما يجب عليهم من الإجابة ، ولم يفهموا جلية الأمر على وجه الإصابة ، علموا ما يلزمهم من الإقلاع من الهوى ، والاتّباع للهدى .
ولم يعلموا أنّ الدعوة إلى الكشف المعنوي والنهار الحقيقي العقلي والاطَّلاع على حقائق الوحدة والبساطة ، وذلك هو النهار النوري الذي لا يشوبه كدر الظلمة ، لا كنهارهم الحجابي الذي يشينه السدن والظلمات المدلهمّة ، فإنّ النور فيها ممزوج بالظلم ، وجليّات تجلَّيات الوجود والشهود بها في جلباب صورة تمثّلية من نسب لنسب إلى العدم ، وإنّما كانت دعوتهم كذلك إلى التنزيه والوحدة والبساطة لكل الأمم يخطون بسير الكمال الجمعي والإحاطة و " كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِه ِ " والمثل يميل إلى شاكلته.
فلمّا كان مقتضى حقائق الأنبياء الظهور بموجب التجلَّي الخاصّ بأهل الكمال من صور أحديّة الجمع الإنساني النبوي في مرتبة الفرقان الروحاني العقلي النوري ، والدعوة إلى النور والوحدة والنزاهة والجمع ، كذلك مقتضى حقائق الكفرة والمردة والفراعنة الظهور في المقابلة بموجب التجلَّي العامّ في عالم الحجاب والكثرة والفرقان والصدع .
فظهروا بصورة الحجاب والستر ، فوقعت الإجابة بالفعل إلى عين ما دعاهم من السّتر والغفران ، ولكن بصورة الردّ والصدّ والنكران ، والكفر والكفران ، فاستغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم ليستروا عن استماع ندائه ، فلو وقعت الإجابة لدعوته ببواطنهم وعقولهم قولا ، لانقادت ظاهريّاتهم إلى ما استجابت بواطنهم فعلا ، ففازوا بسرّ من أسرار الجمع ، ولكن غلب عليهم حكم الفرق والصدع ، فلم يفهموا أنّ الدعوة إلى حضرة الكمال والجمع .
قال الشيخ رضي الله عنه : « وهذه كلَّها صورة الستر الذي دعاهم إليه فأجابوا دعوته بالفعل لا بلبّيك . وفي " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ "  إثبات المثل ونفيه وبهذا قال صلَّى الله عليه وسلَّم عن نفسه : إنّه أوتي جوامع الكلم .
فما دعا محمّد عليه السّلام قومه ليلا ونهارا ، بل دعاهم ليلا في نهار ونهارا في ليل " .
يعني رضي الله عنه : أنّ دعوة من أوتي جوامع الكلم تجمع صيغ كلّ دعوة ، وتشرّع صور أوضاع كلّ شرعة ، يدعوهم جهرا إلى الستر ، وسرّا إلى الجهر في عين سرّ في صورة الجهر ، وجهر في صورة الستر .
وغيبا في الشهادة إلى غيب الأمر إلى التنزيه الحقيقي في عين التشبيه ، وإلى التشبيه في عين التنزيه ، والإثبات في النفي ، والعرف في صورة النكر ، بخلاف دعوة غيره من المرسلين .
قال رضي الله عنه : « فقال نوح عليه السّلام في كلمته لقومه : " يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً " وهي المعارف العقليّة في المعاني والنظر الاعتباري »
يعني رضي الله عنه : إن أجبتموني إلى مقتضى التنزيه العقلي ، وحجبتم عن شهود التشبيه الشخصي ، أنزل الله عليكم من سماء العقل والروح صوب المعارف العقلية ، وأمطار المعاني الفكرية والتنزيهية .
قال رضي الله عنه : " وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ " أي بما يميل بكم إليه » .
يعني رضي الله عنه : إذا بلغتم مبلغ العلم العقلي ، فسوف يمدّكم بأيدي أيده الوهبيّ ، فأمالكم إليه عن تصوّر التفرقة الحجابية .
قال : « فإذا مال بكم إليه رأيتم صوركم فيه » يعني صور أعيانكم الثابتة فيه .
"فمن تخيّل أنّه رآه ، فما عرف ، ومن عرف منكم أنّه رأى نفسه فهو العارف " .
يعني رضي الله عنه : لأنّ المتجلَّي في صور أعيانكم الثابتة إنّما يتجلَّى بحسب خصوصياتها لا بحسبه بلا صورة خصوصية ، فالمعرفة الصحيحة بالربّ الحقّ إذن للعبد هي بعين المعرفة بعينه الثابتة وهي نفسه .
قال رضي الله عنه : « ولهذا انقسم الناس إلى غير عالم وعالم » .
يعني رضي الله عنه : فمن رأى الحقّ عينه ، رأى الحق ، ومن رأى أنّه رأى الحق ، فما رأى الحق ولا علمه .
قال رضي الله عنه : « وولده » وهو ما أنتجه له نظره الفكري ، والأمر موقوف علمه على المشاهدة ، بعيد عن نتائج الفكر إلَّا خسارا» .
يعني رضي الله عنه : لم يزد ماله الذي مال به وإليه عن الحق  وولده الذي هو من نتائج فكره العرفي العادي إلَّا خسارا ، لما أدّاه إلى التفرقة والصدع ، وأضلَّه عن الأحدية والجمع ، لأنّ الكمال في الشهود ، لا في الكفر والجحود .
قال رضي الله عنه : « فما ربحت تجارتهم فزال عنهم ما كان في أيديهم ممّا كانوا يتخيّلون أنّه ملك لهم » .
يعني رضي الله عنه : لمّا كانت غاية مطامح أبصارهم ، ونهاية مبلغ علومهم بأفكارهم هي الانحراف إلى الإطراف ، والميل بالمال عن الحق والاتّصاف ، بموجب الظلم والاعتساف ، والحقّ في أحدية جمع الاتئلاف والاختلاف ، فكان مثلهم كسراب بقيعة الخيال لاح وراح ، وما كان في أيديهم من غير الحق طاح وزاح "وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا من عَمَلٍ فَجَعَلْناه ُ هَباءً مَنْثُوراً "
قال رضي الله عنه : « وهو في المحمّديين " وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه ِ " أي من المال الذي ملت بكم إليّ فيه من حيث أعلم ، وملتم أنتم إليه في بفكركم ، فميلوا إلي فيه بها بالاتفاق على الأنفاق .
قال رضي الله عنه : " وفي نوح " أَلَّا تَتَّخِذُوا من دُونِي وَكِيلًا "  ، فأثبت الملك لهم والوكالة لله فيه ، فهم مستخلفون فيهم ، فالملك لله ، وهو وكيلهم ، فالملك لهم وذلك ملك الاستخلاف » .
قال العبد : شهود أهل الجحود يقتضي إثبات الملك لهم حقيقة ، وشاهد الحال يقضي بذلك لهم بمقتضى مشهودهم ومعهودهم ، وفي الحقيقة هم لله ، فهم مستخلفون من الله في أنفسهم بحسب ظنونهم ، إذ هو الظاهر بهم وفيهم ، فغلب عليهم الحال ، وتاهوا في تيه الضلال ، من حجابيّات ظنونهم ونيّاتهم وظلمات إنيّاتهم ، فحجبوا عن الحقّ المالك لهم وما في ملكتهم بتمليكه ، وهو مليكهم ومليك الممالك ومالك الملك والملكوت .
وله المالكيّة والملكيّة بالحقيقة على الإطلاق والاستحقاق ، ولم يعلموا أنّهم في مالكيّتهم لأملاكهم وفي أنفسهم مستخلفون ، وكذلك في أموالهم وولدهم ، وأنّ ذلك بتمليك الحقّ لهم من كونه عينهم لا من حيث أنفسهم عندهم من حجابيّاتهم ، ولو فهموا ذلك من دعاة الجمع في عالم الفرق والصدع ، وأنّ الملك والملك للمليك المقتدر الذي له الملك والملكوت بالأصالة ، ولهم من حيث إنّه فيهم أعيانهم بالتمليك والإيالة والإنالة ، على ما تقتضيه حقيقة أحدية جمع اللاهوت من الاستخلاف والأدلة .
وأن لا بقاء لهم ولما في أيديهم إلَّا منه وبه ، ولما كان الكلّ بالأصالة ، وأنّ البقاء لله وحده ، ولا شيء بعده ، لكان الحق لهم في هذا الشهود ملك الملك ، فلم يزل ملكهم إلى الأبد ، ومتّعهم الله به في أعيانهم وبنيهم وأموالهم وأوطانهم إلى حين وأمد . والله على ما يشاء قدير .
قال رضي الله عنه : « وبهذا كان الحقّ ملك الملك » .
قال العبد : لمّا تحقّقنا أنّ ما بنا من نعمة فمن الله ، تحقّق أنّ الوجود الذي هو أفضل النعم وأشرف النسب والقسم من الله ، والوجود الحقّ هو المتعيّن في جميع صور النعماء والآلاء والأيادي ، وفي صور الملاذّ والملاهي ، في الصورة الثبوتية الأمرية والسلبية في المناهي ، وأنّ التعيّنات لا تبقى زمانين إلى أقصى ما أقصى به لا يتناهى .
وأنّ الوجود الحقّ يتبدّل ويتبذّل مع الآنات ملابس تعيّن وظهور وتنوّع بحلي ، وتحلّ وسفور في ستور من سرّ الخلق الجديد الذي هم منه في لبس ملابس من جميع الأمور فكما أنّ حقائق الأشياء مع قطع النظر عن الوجود المتعيّن بها وفيها نسب راجعة إلى العدم ، كذلك الوجود الحقّ يقتضي لحقيقته التجلَّى والظهور والتعيّن بصورة النور في المظاهر والمجالي .
على التواتر والتوالي ، من غير فتور إلى الأبد من أزل وقدم ، فلو كان مشهود العباد هو الحقّ الذي هو قوامهم وقيامهم ، وهو الحيّ القيّوم فيهم وقيّامهم ، فرأوا الملك والمال والولد والنعم لله حقيقة لا لهم دونه ، فإنّهم بلا « هو » عدم صرف والعدم لا يملك ، فالملك لله فيهم بالأصالة بلا شريك ، ولهم فيه لا بالحقيقة بل بالتمليك ، وأنّ المرجوع في كل ذلك إلى الله .
" أَلا إِلَى الله تَصِيرُ الأُمُورُ و " هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ " وهو المليك المالك للملك والملكوت ، لكان الحقّ في تجلَّيه لهم بحسب ظنونهم فكان لهم مالا وملكا أبديّا وملكا سرمديّا وهم ملكه ، فهو ملك ملكهم ، إذا زال عنهم ما بأيديهم من مالهم وملكهم ممّا تخيّلوا أنّه لهم بالأصالة من كفرهم وشركهم فحجبوا في عين الكشف ، وسكروا بالوصف ،قبل الشرب والرشف.
قال أبو يزيد البسطاميّ سلام الله عليه في مناجاته إيّاه ومحاضرته لمولاه وقد تجلَّي له المليك المقتدر : « ملكي أعظم من ملك ، لكونك لي وأنا لك ، فأنا ملكك وأنت ملكي ، وأنت العظيم الأعظم وملكي أنت ، فأنت أعظم من ملكك وهو أنا » ، فافهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : « كما قال الترمذيّ » .
يعني رضي الله عنه الشيخ الكامل ، الإمام الفاضل ، قدوة الطائفة العالية ، أستاد الطريقة ، وبرهان الحقيقة ، محمّد بن عليّ الترمذيّ الحكيم المؤذّن ، وذلك أنّه ذكر من جملة ما أجمل في مسائله عن الخاتم المحمدي ، خاتم الولاية الخاصّة المحمدية قبل ولادة هذا الخاتم بمائتي سنة ، ثم لمّا ولد وبلغ ، أجابه فيها رضي الله عنه فقال : « مالك الملك » وقد ورد علينا وارد في هذا المقام حالا شهوديّا  . شعر :
يا منتهى السؤل أنت القصد والغرض .......      لي فيك عن كلّ شيء فاتني عوض
مالي سواك ومالي في هواك سوى    ..... سوء الظنون سواء في السوي عرض
الأبيات بطولها .
قال رضي الله عنه : " وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً " ، لأنّ الدعوة إلى الله مكر بالمدعوّ ، لأنّه ما عدم من البداية فيدعى إلى النهاية " أَدْعُوا إِلَى الله "  فهذا عين المكر "عَلى بَصِيرَةٍ "  فنبّه أنّ الأمر كلَّه له ، فأجابوه مكرا كما دعاهم مكرا " .
قال العبد : حقيقة الدعوة تقتضي الفرقان والتمييز والبينونة والتحييز ،ولا تتحقّق إلَّا في البين بين اثنين . فيدخل « من » و « إلى » لبداية دعائه في الأين.
وحقيقة المدعوّ عين الأمرين وعين الغاية والبداية في كل عين عين ، فالدعوة من عين أو أعيان مع كون الحقّ عين المدعوّ والمدعوّ عنه إلى الحق من كونه أيضا عينه كذلك مكر ، لكون المدعوّ إليه عين ما منه يدعو إلى عينه في نظر المكاشف وإلى غيره في عين غير المكاشف الواصف العارف ، فجاؤوا بأكبر نوع من المكر ، وهو إجابتهم للداعي لهم مكرا في صورة الردّ ، وإقرارهم بما يدعى الدعوة إليه ، في صور الإنكار والنكر والكفر .
فقابلوا مكر الداعي بهم من حيث لا يشعرون ، فأجابوه بالفعل مكرا في كل ما دعاهم إلى الله كذلك من حيث يعلمون ولا يعلمون .
والذي قال رضي الله عنه : « فنبّه أنّ الأمر كلَّه لله » .
يعني سلام الله عليه : أنّ كلَّا من الداعي والمدعوّ ، مأمور بما هو به ظاهر ، ويحكم سلطنته له تحت أمر قاهر وباهر ، فالداعي مأمور بالدعوة والأمر ، والمدعوّ مأمور بما خلق له ، وكلّ ميسّر لما خلق الله .
ولكنّ الله علم أنّ صلاح المستعدّين المستحيين في الدعوة بالإقلاع عن الانهماك في صور التفرقة والحجاب، وذلك أنّهم تناهوا في الخروج إلى أقاصي عوالم الإمكان والظهور، فلو تابوا إلى الله العالم بأحدية جمع الوحدة الباطنة في أعيان الكثرة.
لحصل لهم الكمال الجمعي في ذلك التناهي بالعروج ، والانتهاء في الرجوع إلى الأصل الباطن الذي منه البروز والخروج والدروج ، ولكنّهما الأهواء عمت فأعمت فأصمّهم الله وأعمى أبصارهم ، وحبّك الشيء يعمي ويصمّ عن غيره ولو بالنسبة والإضافة .
قال رضي الله عنه : " فجاء المحمدي فعلم أنّ الدعوة إلى الله ما تكون من حيث هويّته" ,  وإنّما هي من حيث أسمائه فقال : " يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً " فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم ، فعلمنا أنّ العالم كان تحت حيطة اسم إلهيّ أوجب عليهم أن يكونوا متّقين " .
قال العبد : المشرب المحمدي الجامع لجميع الدعوات النبوية والأحكام التشريعية التكليفية هو أنّ الدعوة من حضرة إلى حضرة ، ومن مقام إلهيّ اسمي إلى آخر ، والمدعوّ إليه الله في الجميع إلَّا أنّ التعيّنات العينية في ملابس الصور العينية المقتضية للتمييز بـ « من » و « إلى » يتفاضل بعضها على بعض ، فالتجلَّي من حضرة أحديّة الجمع ليس كالتجلَّي في أحدية الفرق والصدع .
والداعون صنفان : أحدهما يدعو إلى الله بأمر الله ، وهمّه في القيام بما أمر من الدعوة ، ولا يلزمه كشف الحقائق على ما يقتضيها عند الله في نفس الأمر .
والثاني صنفان منهم : 
من كشف له الله حقائق ما أمر بتبليغه والدعوة ، 
ومنهم : 
من ليس له ذلك وإنّما هو إنباء وإخبار من الله بذلك وأمر ونهي لا غير .
وهم أيضا على قسمين : 
قسم منهم من يكون إنباء الحق وإخباره له في الرؤيا والهاتف والوحي بواسطة الملائكة ، وهو غير مأمور بالتبليغ والرسالة . 
وصنف مأمور بالتبليغ والرسالة .
وهم صنفان :
أولو العزم الذين أمروا أن يبلغوا إلى الأمم رسالة الله ، فإن لم يجيبوا بالمعجز قاتلوهم . 
وصنف ما عليهم إلَّا البلاغ ، فإن آمنوا أمنوا من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة أو فيهما معا ، وإن لم يؤمنوا لم يأمنوا كذلك .
والصنف الأوّل الأعلى هم الذين يدعون على بصيرة كمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم والمحمديين من الأنبياء والأولياء عالمين بأنّ الحق موجود في البداية والغاية .
وهو عين المدعوّ والداعي والمدعوّ إليه ، وهو على كشف وبصيرة أنّه مأمور بالدعوة والإبلاغ بأمر الله ومشيّته ، وأنّه تقع الإجابة ممّن شاء الله له ، وعنى منه الإجابة ظاهرا وباطنا ، وممّن لا يكون كذلك ، ولا تقع الإجابة إلى الداعي إلَّا في صورة الردّ والصدّ أو تكون الإجابة ظاهرا لا باطنا أو باطنا لا ظاهرا بالبعض أو بالكلّ ، ولا بدّ من ذلك .
وهو يدعو على بصيرة إلى اسم كلَّي محيط بكلّ مركَّب وبسيط ، وهو الاسم « الله » أو الاسم " الرحمن " ، " قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَه ُ الأَسْماءُ الْحُسْنى " .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 03 - فصّ حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثالث .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 6:47 pm

03 - فصّ حكمة سبوحية في كلمة نوحية الجزء الثالث .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

03 - فصّ حكمة سبوحية في كلمة نوحية  الجزء الثالث

 وأنّ مصير صور التفرقة والجمع إليه إنّما يكون على وجهين :
أحدهما : يوم نحشر المتّقين الذين اتّخذوا الله وقاية لهم عن آثار الأفعال والأحكام والأوصاف والأخلاق الحميدة في الإضافة فأضافوها إلى الله ، ففازوا بشهود الحق قائما على كل نفس بما كسبت ، وأنّ نواصيهم بيده تعالى والله هو الفاعل بهم وفيهم جميع أفاعيلهم فكلَّها من أعمال الله بهم وفيهم ، كما ثمّ أيضا كذلك.
" وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ "  فأضافوا ما أتوا به من المحامد والمحاسن والفضائل وصالحات الأعمال كلَّها إلى الله ، فخلصوا من ورطات الرياء والسمعة والشرك الخفيّ والجليّ وغير ذلك من العقبات الموجبة للعقوبات ، وجعلوا أنفسهم أيضا وقاية لله في إضافة النقائص والقبائح والمذام من الأعمال والأفعال والأخلاق والنعوت والأوصاف ، فحازوا بذلك أسرار شهود " وَما أَصابَكَ من سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ "  بكسر الميم .
وقوله : « والشرّ ليس إلَّا إليك ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلَّا نفسه » فنسبوا كلّ ذلك إلى أنفسهم ولم ينسبوا إلى الله .
ووقفوا وقاية عن إضافة النقائص من نقائص الكمالات التي اتّخذوا الله فيها وقاية ، فصار كل منهما وقاية لصاحبه مع أحدية العين في عين الفرق فبدّل الله سيّئاتهم حسنات ، لأنّه لا فاعل في الحقيقة إلَّا الله جمعا وفرقا ، حقّا وخلقا ، ففازوا بحمد الله بدرجة التحقيق وانتهجوا سواء الطريق ، والرحمن الذي وسعهم بحيطة بسط عليهم مضافا إلى ما بهم من النعم من بسطته .
والثاني : من أضاف الأفعال كلَّها إلى نفسه ، وهم على صنفين : منهم من سعد بالأعمال الصالحة والعبادات والطاعات ، فنجا .
ومنهم من شقي بأضداد أفعال أهل السعادة ، فهلك ولم يجد ملتجأ . والصنفان على أصناف لا يتدارك ولا يحصيها إلَّا الله ، وكلَّهم محجوبون ، ولأهل الكشف والحجب تماثيل وأمثله منصوبون ، وعند كشف الغطاء مطالبون ، فافهم والله الملهم .

قال الشيخ رضي الله عنه : " فقالوا في مكرهم : لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودّا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا "، فإنّهم إذا تركوهم جهلوا من الحق قدر ما تركوا من هؤلاء ، فإنّ للحق في كلّ معبود وجها يعرفه من عرفه ، ويجهله من جهله."
قال العبد : لمّا كان الوجود الحقّ المتعيّن في خصوصيات قابليات كل معبود من حجر ومدر وشمس وقمر ظهورا ووجها خاصّا هو الوجه الحق الباقي إذا عادت حجابيّات الأشياء هالكة ، فمن أنكر وجهل وجه الحق في كل شيء ، فقد أنكر الحق المتعيّن في مظهريته ، والمتجلَّي من حقيقته لصور خلقيته.
 فهو الظاهر في كل ظاهر ولا ظاهر إلَّا أفعاله ، فلا ظاهر إلَّا الله " وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى "  ، فظهرت الألوهية والمألوهية ، والعابدية والمعبودية ، والساجدية والمسجودية في كل عين عين ، فمن عبد حجابيّته وصنميّته ، أو عبد تخيّله وهواه في ذلك المعبود أنّه إله ، فقد عبد هواه ، وعبد الطاغوت ، وعبد صنميّات حجاب اللاهوت .
ومن عبد الله الواحد الأحد في كل ما عبد ، وعبد من غير حصر لله تعالى في صورة دون صورة وتعيينه في شيء دون شيء ، فذلك العارف الكاشف ، والعالم الواصف ، لا يحجبه شيء ، ولا يسعه نور ولا فيء ، ولا يحجزه ميّت ولا حيّ ، ولا يضرّه هداية ولا غيّ .
ذلك هو العبد الحقّ " عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ".  " في مَقْعَدِ صِدْقٍ " فافهم .
وإذا علمت هذا فاعلم : أنّ لك نسبا في ربّك ليس لغيرك ، هو أحدية جمعك وبصورتك ظهر لك في كل معبود موجود ، وتجلَّى لك في كل مشهود معهود وغير معهود ، ولكن ظهوره بك في كلّ بحسب المظهر لا بحسبه ولا بحسبك ، فأنت حسبه إن كنت بحسبه ، وهو حسبك حسبا ، ونعم النسب التي بها جعل لك منه نسبا فأعطه ماله وهو أنت ، وخذه مالك وهو ربّك ، وقابل لتجلَّياتك لك به ، ولتجلَّياته بك لك من أحديّة جمع مظهريّتك عبدانيّة تناسب التجلَّي ، وقابل بكلَّك كلّ المتجلَّي ، تكن أديبا أريبا محبّا له في الكلّ حبيبا ، وقلبا كلَّيا متقلَّبا معه في شؤونه لبيبا ، تشاهد من تجلَّياته مشهدا غريبا ، وتكشف منك له حالا عجيبا ، والله الموفّق .
قال الشيخ رضي الله عنه :  في المحمّديّين : " وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه ُ ".
 أي حكم  فالعالم يعلم من عبد ؟
وفي أيّ صورة ظهر حتى عبد ؟
وأنّ التفريق والكثرة في الأعضاء كالصورة المحسوسة والقوى المعنويّة في الصورة الروحانيّة ، فما عبد غير الله في كل معبود  .
قال العبد : جلّ جناب المعبود الحقّ أن يعبد سواه في كلّ معبود ، أو يوجد إلَّا إيّاه في كل موجود ، لأنّ الحقيقة تقتضي لذاتها أن تتفرّد بالوجود على الإطلاق ، وتقتضي بحقيقتها المعبودية بالاستحقاق ، فحيث وجدت الإلهة والعبادة ، فهي له والحقّ لها .
ولكنّ الكثرة المعهودة والتفرقة المشهودة تحجب العقول المنصبغة بأحكام العرف والعادة عن شهود الوجود الحقّ الواحد الأحد في الغيب والشهادة ، وتكون أحديّته الخصيصة بذاته المطلقة أحدية جمع لا تنافيها الكثرة ، والسلطان هو الواحد الحقّ المستوي ، والوحدة والإطلاق والتقيّد والكثرة هي المظاهر والعروش والأسرّة .
وكما أنّ صورتك المحسوسة واحدة ، لا شكّ في وحدتها جملة واحدة ، ولا تقدح في أحدية جملتك كثرة الأعضاء من حيث الاعتبار النسبي والتعقّل الإضافي المعهود ، لا في الوجود ، ولا في الأمر ، وليست في نفس الأمر كثرة إلَّا بالاعتبار ، عند ذوي العقول الرجيحة والاستبصار.
وكذلك صورتك الروحانية ولطيفتك الإنسانية جوهرة واحدة وحدة حقيقية ما فيها ما ينافيها ، ومع ذلك فوحدتها أحدية جمع أرواح وقوى كثيرة ، ولا تقدح كثرة قواها في أحدية هذه الجوهرة اللطيفة النورانية ،.
فكذلك لا تقدح كثرة مظاهر الأسماء وهم الأرباب في أحدية جمع الإله الربّ المعبود في الكلّ عند ذوي الألباب ، فهو المعبود في كل ما عبد ، والعابد في كل من عبد ، فأقرّ وما عند ، وهو الجاحد العاند فيمن جحد وعند ، فالكلّ منه وفيه وله ، وبه ومنه له ، وله فتنبّه أيّها الأنبل الأنبه ، فأنت المؤمّل المكمّل ، والمعروف المعرّف والمجهول المجهّل.
قال الشيخ رضي الله عنه : « فالأدنى من تخيّل فيه الألوهيّة ، فلو لا هذا التخيّل ما عبد الحجر ولا غيره .
ولهذا قال : " قُلْ سَمُّوهُمْ " ، فلو سمّوهم لسمّوهم حجرا وشجرا وكوكبا .
ولو قيل لهم : من عبدتم ؟
لقالوا : إلها ما كانوا يقولون : « الله » ولا « الإله » .
والأعلى ما تخيّل ، بل قال : هذا مجلى إلهيّ ينبغي تعظيمه ، فلا يقتصر .
والأدنى  صاحب التخيّل يقولون : " ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى " ، والأعلى  يقول : " فَإِلهُكُمْ إِله ٌ واحِدٌ فَلَه ُ أَسْلِمُوا " حيث ظهر " وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ " الذين خبت نار طبيعتهم . فقالوا : إلها ، ولم يقولوا : طبيعة " .
قال العبد : العباد والعبّاد انقسموا إلى عارف بالله حيث تجلَّى وظهر ، عالم به كيف تعرّف وتنكَّر ، مشاهد لوجهه الكريم في كل وجهة وجهة تولَّى ونظر ، " فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه ُ الله " الأكرم الأزهر ، محقّق في شهوده ، متحقّق بمشهوده ، فهو الأعلى ، لأنّه العابد ربّه الأعلى .
والأدنى هو أن لا يشهد الحقّ الظاهر في المعبود المشهود ، ولكن يعبده تخيّلا أنّ فيه الألوهيّة ، فهو غالط جاهل بالإله ، فإنّه ما من إله إلَّا إله واحد ، " أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه ُ " فلمّا لم ير ذلك ، وليس له الكشف بالحق من حيث الشهود العقلي ، فتحيّر وتخيّل تقليدا أنّ فيه الألوهيّة ، فكفر ، أي ستر الألوهية الظاهرة في مألوه ومعبود ، فتخيّل أنّ عبادة هؤلاء في الوجود ليست إلَّا لإلهيّة فيهم ، والحق أنّه ليس من الله في شيء ، وليس هو بكلَّيته فيهم ، فما له تحقيق ولا تحقّق بالحق حيث كان ، فهو الذي عبد تخيّله وتحيّله وعكف على صنمية حجابيّة الطاغوت بالخذلان ، وهو عن الحق المشهود الموجود في الحرمان ، أعاذنا الله وإيّاك بإحسانه إنّه بحسبان .
والأعلى شهوده " أَنَّما إِلهُكُمْ إِله ٌ واحِدٌ " ، فالألوهية رتبة في حقيقتها واحدة لا تقتضيها إلَّا ذات واحدة هي عينها لا زائدة عليها ، فحيث وجدت عبدت ، وأينما شهدت وشوهدت ، شهدت لها بالألوهية ، وسجدت بالهوية اللاهوتية وحكمها من العباد والعبّاد الانقياد الكلَّي والإسلام الجبلَّي والاستسلام الفطري الأصلي .
وكمال الانقياد لله أن نعبده ونطيعه في الكلّ بكل عبادة وطاعة ، ونعرفه ونعرّفه بكل جهد وجدّ واستطاعة ، لكونه لا ينحصر في جهة ، ولا يتقيّد في وجهة ، فمن كان مشهده على هذا الوجه ، فهو الكامل الذي وجهة وجهه وجه الله ، لا يغيب عنه طرفة عين ونظرة ، ولا يحصره ولا يقيّده حضرة دون حضرة تقييد الأدنى صاحب التخيّل ، أو المقلَّد المعتقد الممثّل ، وحصره ، فافهم .
قال الشيخ سلام الله عليه : " وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً " أي حيّروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب"
قال الشيخ رضي الله عليه :" وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ " لأنفسهم " المصطفين " الذين أورثوا الكتاب ، أوّل الثلاثة ، فقدّمه على السابق والمقتصد " إِلَّا ضَلالًا "  أي "حيرة ".
قال العبد : لمّا عدّدوا الواحد وفرّقوا الجمع ، ظلموا الألوهيّة بتفريقها وتكثيرها ، وهي حقيقة واحدة لربّ واحد تقتضي أن لا يكون إلَّا هو ، وهي له فيه هو ، لا إله إلَّا هو .
فلم تك تصلح إلَّا له           .....    ولم يك يصلح إلَّا لها
ولو رامها أحد غيره      ......   لزلزلت الأرض زلزالها
فلمّا شاهدوا من حيث شعروا ولم يشعروا - أحدية الكثرة وأنّ الواحد هو بحقيقته أوجب العدد ، فقد ظلموا ، أي أدخلوا النور في ظلمات لا تتناهى ، فأنارت بنور الوجود الواحد أعيان الظلمات العدميات ، وعدّل الربّ عند عدولهم بالواحد الأحد إلى الكثرة بعدله صور انحرافات الظلامات ، وظلموا أنفسهم أيضا لتضليلها في صور الفرق الحجابي ، عن أحدية الجمع الكتابي ، والفصل الخطابي.
 ولكن إنّما ظلموا أنفسهم لأنفسهم ، لكونهم . ما حصروا الألوهيّة في الوحدة المقابلة للكثرة المضادّة للعدّة ، وما انحازوا بما حازوا ، عمّا ميّزوا ومازوا ولا امتازوا ، ولكن حازوا في الجمع بين كثرة النسب العدمية والوجود ، وبين وحدة العين والذات في الإله والمألوه .
فالظالم على هذا هو العبد المصطفى ، والمجلى الأخلص الأصفى ، أعطى الحقّ في كلّ حقيقة حقّه ، ووفى بالأوفى .
ولما كان المصطفى فردا ، ظهر الاصطفاء في هؤلاء الثلاثة الذين أورثوا الكتاب ، أعني كتاب الجمع والوجود ، لكون الثلاثة أوّل الأفراد .
فالظالم عدّد الأحد ، والسابق وحدّ العدد ، والمقتصد الجامع بين شهود الكثرة في الواحد الأحد وشهود وجود الواحد في أعيان العدد .
فالظالم الذي شهوده يكثّر الواحد له الضلال والحيرة أبد الأبد ، وحقّ الظالمين أن لا يزيدهم الله إلَّا ضلالا لهم في عين عين ، وارتفع من البين البين ، فقد ضلَّوا فيه لا إلى أمد ، بل أبد الأبد ، وهدوا إلى أحدية عين من عبد وعبد .
فذلك العبد الأوحد في زمانه ، المؤيّد من الله ببرهانه ، القائم في عبدانيّة الواحد الأحد في جميع شؤونه ، مقبلا على شأنه ، مقتبلا للأمر في إبّانه
قال رضي الله عنه : " المحمّديّ : زدني فيك تحيّرا " .
قال العبد : لأنّ اللذّة في النظر إلى الوجه الكريم في كل مجلّ وتجلّ ، وتدان
وتدلّ ، وإقبال وتولّ ، فكلَّما ازداده المشهود زاد الشهود ، وازدادت لذّات المشاهدة بذات المشاهد المشهود .

قال رضي الله عنه : " كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيه ِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا " فالمحيّرون  لهم الدور والحركة الدورية حول القطب فلا يبرح منه " .
يعني رضي الله عنه : أنّ دأب العبد الحقّ المطلق أن لا يبرح عن المركز نظره إلى وجه الحق ، فهو يدور معه حيث دار وتحقّق ، كالحرباء مع الشمس ، والنيلوفر إذا طلعت تفتّح وجنح وصعق ، وإذا غابت أطبق على طبقاته وانطبق ، وكالفرقدين مع القطب يدور حوله أبدا ، فهو كذلك ناظر بعينه إلى عين الحق يضلّ به الناظر ، لكثرة المناظر ، فهو المنظور الناظر ، والمظهر الظاهر ، والأوّل والآخر ، والباطن الظاهر .
قال رضي الله عنه : " و صاحب الطريق المستطيل مائل ، خارج عن المقصود ، طالب ما هو فيه صاحب خيال إليه غايته " .
يعني رضي الله عنه : أنّ طالب الحق في وجهة أو أمر معيّن وجهة مائل بلا شكّ عن المركز إلى المحيط ، فحركته منقطعة لا تحيط ، فيكون له مبدأ حركة ، ونهاية سير وسلوك منه إليها سلكه .
قال رضي الله عنه : فله « من » و « إلى » وما بينهما   .
يعني رضي الله عنه : بداية حركة من الحقّ الحاصل المشهود في الوجود إلى غاية تخيّلها ، والحركة الكلَّيّة لها البركة الأصلية ، فلا غاية ولا نهاية لها ، فالمتخيّل للغاية غايته الخيال المتخيّل ، والحجاب عن المشهود المحصّل .
قال رضي الله عنه : " وصاحب الحركة الدوريّة لا بدء له" .
يعني : في شهوده فيلزمه « من » ولا غاية فتحكم عليه " إلى " فله الوجود الأتمّ وهو المؤتى جوامع الكلم والحكم " .
يعني رضي الله عنه : نبيّنا صلَّى الله عليه وسلَّم والمحمّديين من ورثته ، فإنّ مشهدهم "فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه ُ الله " و "يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ " . " قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ ".
قال رضي الله عنه : " مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ " فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهو الحيرة"
يعني رضي الله عنه : أنّ العباد هطت بهم الخطيئات عن خطط تعيّناتهم فأضلَّتهم عن حظوظهم وإنّياتهم ، ففنوا في شهود الواحد الأحد حيث تجلَّى وتعرّف ، وحاروا في أحدية التصرّف والمصرّف والمتصرّف ، كيف صرف وانصرف.
فغرقوا في بحار شهود العين ، عن التعيّن في حرف الغين ، الكائن في البين بين اثنين .
قال رضي الله عنه : فَأُدْخِلُوا ناراً " في عين الماء " .
يعني رضي الله عنه : لمّا أشهدوا الوحدة في عين الكثرة وبالعكس ، فقد حصلوا في نار تجلَّي نور سبحات وجهه ، المحرقة من عين طوفان بحر حيرة شهود النفس .
قال رضي الله عنه : « في المحمّديّين " وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ " ، من سجرت التنّور إذا أوقدتها ".
يعني رضي الله عنه : أنّ عين الحق الواحد المحيط وهو عين حياة الكثير وهويّته هي المتجلَّية في إنّيّات الصغير والكبير ، فهي تجيش بنار نور تجلَّيه ، فبحارها به مسجّرة ، وخائضوها غرقى محيّرة لا مخيّرة ومسخّرة مسجّرة " وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ "
قال رضي الله عنه : " فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ من دُونِ الله أَنْصاراً " وكان الله عين أنصارهم ، فهلكوا فيه إلى الأبد ، فلو أخرجهم إلى السيف ، سيف الطبيعة لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة ، وإن كان الكل لله وبالله بل هو الله " .
يعني رضي الله عنه : إذا قطعت النظر إلى الحق ، فلا يبقى للعابد فيما عبد من ناصر ينصره ، وإذا تحوّل الحقّ في صور اعتقاد المعتقدين العابدين فيما عبدوا واعتقدوا ، فحينئذ يكون الله قد نصرهم ، بما تجلَّى لهم ونظرهم ، وإلَّا فهم في تبار وخسار .
وإن كان عرفان في نفس إنكار ، وإقبال في عين إدبار ، لكون مصير الكلّ إلى الله الواحد القهّار ، ويؤول كالآل مآله إليه عند إمكان الاعتبار ، ومشرب التحقيق يقتضي أن تصير الأمور عين المصير ويؤوّل تأويله عند التحقّق أنّه هو " حَتَّى إِذا جاءَه ُ لَمْ يَجِدْه ُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِنْدَه ُ " .
وهذا شهود فغرق في بحار الحيرة ، الأخيرة للخيرة ، فلو أخرجهم الله عن هذا البحر الزخّار والتيّار الدوّار ، ورماهم إلى ساحل طبيعة التقيّد والتعيّن ، لنزل بهم إلى الفرق الحجابي عن الجمع الكتابي وإن كان كلّ تعيّن عين المتعيّن به وقائما وظاهرا ، بل هو هو ، ولكن تعيّن المطلق في المقيّد ظهور مقيّد وحدّ محدّد ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « قال : « ربّ » ما قال : إلهي ، فإنّ الربّ ، له الثبوت ، والإله يتنوّع بالأسماء ، فهو كلّ يوم في شأن .
فأراد بالربّ ثبوت التلوين ، إذ لا يصلح إلَّا هو . " لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ " يدعو عليهم أن يصيروا في بطنها " .
يعني رضي الله عنه : أنّهم مسهّرون بالظهور في الفرق ، وهو ظاهر الأرض وذلك عين دعوته لهم إلى الباطن الأحدي الجمعي .
قال رضي الله عنه : « المحمّديّ " لو دلَّيتم بحبل لهبط على الله " .
يريد رضي الله عنه أنّ الحق من كونه عين مركز الكلّ ، والمحيط نسبة الفوق إليه كنسبة التحت ، فكما أنّه عين فوقيّة كلّ فوق فكذلك هو عين تحتية كل تحت .
قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم « لو دلَّيتم بحبل ، لهبط على الله " .
وقال : " لَه ُ ما في السَّماواتِ وَما في الأَرْضِ "
قال رضي الله عنه : فإذا دفنت فيها فأنت فيها ، وهي ظرفك "وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى " لاختلاف الوجوه  .
يعني رضي الله عنه : ظهورهم في ظاهرية أرض المظهر بالفرق من جهة كثراتهم بتعيّناتهم في صور الخلق والفرق في أحدية عين الحق .
قال رضي الله عنه : من الكافرين الساترين الذين " اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ "  و "جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ" ، طلبا للستر ، لأنّه « دعاهم ليغفر لهم » . والغفر :الستر .
" دَيَّاراً " أحدا حتى تعمّ المنفعة ، كما عمّت الدعوة ، " إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ " أي تدعهم وتتركهم " يُضِلُّوا عِبادَكَ " أي يحيّروهم فيخرجوهم من العبوديّة إلى ما فيه من أسرار الربوبيّة ، فينظرون أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عند أنفسهم عبيدا ، فهم العبيد الأرباب .
قال العبد : عبّاد صور الأسماء في حجابيّات الأشياء من عمرة مواطن الشقاء لو تركوا مع الأهواء فلا يتحرّكون إلَّا إلى الأطراف الحائرة ، ولا يسكنون إلَّا إلى تعمير بقاع يفاع بقاع الحجابية الغامرة ، ولا يعبدون إلَّا الكثرة والتفرقة في صنميات الطواغيت البائرة ، ويدعون أهل الاستعداد من العباد إلى ما هم فيه من المهالك ، ويكونون عليهم أعوان الشيطان في ذلك ، فإذا رأوا داعي الله يدعو إلى التوحيد وتنزيه التحديد.
فلا يدعونهم بل يدعونهم إلى الكثرة التعديد والتفرقة فيضلَّونهم ضلالا بعيدا ويحيّرونهم تحييرا شديدا ، فيهلكون ويهلكون طلبة الحق ، في فيافي حجابية الخلق ، غرقى في بحار الفرق كلّ الغرق ، ويلبسون عليهم وجوه الرجحان والتمييز والفرق ، فصلاحهم وصلاح من بعدهم أن يسترهم في بطون الأرض ، كما استتروا عن استماع نداء العرض .
ويغرقهم في طوفان بحار الكشف والجمع ، فيرأب ما بهم من الفرق والصدع ، والمستعدّون المؤهّلون لإجابة دعائك ، يتفرّغون لإجابة ندائك ، فلا يحارون في الأمر ، ويعبدونك أبد الدهر ، فلا يرون أنفسهم أربابا ، ولا يفتحون في عبادتهم وعبوديّتهم إلى ربوبيّتك أبوابا .
قال رضي الله عنه : " وَلا يَلِدُوا "  أي وما ينتجون ولا يظهرون " إِلَّا فاجِرا " أي مظهرا ما ستر " كَفَّاراً " اي ساترا ما ظهر بعد ظهوره ، فيظهرون ما ستر ، ثمّ يسترونه بعد ظهوره فيحار الناظر ، فلا يعرف  قصد الفاجر في فجوره ، ولا الكافر في كفره والشخص واحد".
يعني رضي الله عنه : أنّ أولاد الكفّار الساترين بتعيّناتهم الإلهية الواحدة ونتائجهم أي صور أسرارهم التي هي إخراج جمع التوحيد إلى التكثير والتحديد لو عمّرتهم للتعمير أبد الدهور ، وغمرتهم بنور الوجود والظهور .
وغمرت إنّيّاتهم بهويّتك في مواطن النور ، ما زادوا غير الفجور ، وهو شدّة الظهور ، بما يجب ستره من الأمور ، في مواضع إرخاء الستور ، بتظاهر هم بدعوى الربوبيّة المعرضة الكامنة فيهم بالظلم والزور ، وسترهم عن ربوبيّتك الذاتية الحقيقية بعد كمال الظهور ، بأحدية جمع جميع الأمور بالكفور .
والمراد من الخلق هو أن تعرف ولا تنكر ولا تكفر ، بل لتظهر ، فما خلقتهم إلَّا لتعبد لا لتجحد ، وهؤلاء وإن عبدوك فلم يعبدوك إلَّا في أنفسهم وأهوائهم فرقا ، وجحدوك في أحدية جمع لاهوتك في أفكارهم وآرائهم .
وقد تناهوا في طغيانهم بالفجور ، حتى أظهروا النسب العدمية أعيانا وجودية ، وعبدوها أربابا بكلّ عبودية ، وستروا حقيقة أحدية جمعك في أعيان طواغيت صنميّات الظهور ، خلف الحجب الظلمانية والنورانية والكيانية من الستور ، فانههم عن هذا التناهي في الطغيان ، ونهنههم عن الفجور والكفر والعصيان .
وتداركهم بنور الكشف وطوفان العيان ، وأدركهم بالغرق ، وخلَّصهم عن درك الفرق ، وأطلع ما غاض في أرض تعيّناتهم من النور ، فهي تفور بالتنّور ، وأنزل عليهم ما فاض من العذاب فاض كالبحر المسجور ، ففتحنا عليهم أبواب السماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر .
قال رضي الله عنه : « " رَبِّ اغْفِرْ لِي " أي استر لي واستر من أجلي فيجهل مقامي وقدري ، كما جهل قدرك في قولك : " وَما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِه ِ ". " وَلِوالِدَيَّ " : من كنت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة .
" وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ " أي قلبي . " مُؤْمِناً " أي مصدّقا بما يكون فيه من الإخبارات الإلهيّة وهو ما حدّثت به أنفسهم " وَلِلْمُؤْمِنِينَ  " من العقول " وَالْمُؤْمِناتِ " من النفوس ".
يعني رضي الله عنه : أنّ النفوس الجزوية البشرية نتائج العقول والنفوس العلوية ، والأمّهات الطبيعية السفلية ، فاستر حقائق القوى الطبيعية وحقائق القوى الروحانية في أحدية جمع قلبي الداخلة تحت حيطته مؤمنا مصدّقا بما ورد عليّ من أسرار الجمع ، وأنوار الخير والنفع ، ممّا يحدث في من الوحي والإلهام ، وتحدّثني بذلك في مناجاة التعليم والإعلام ، وللمؤمنين من القوى العقلية والروحية ، والمؤمنات من القوى النفسانيّة .
قال رضي الله عنه : " وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ " من الظلمات أهل الغيب المكتنفين خلف الحجب الظلمانيّة " إِلَّا تَباراً " أي هلاكا ، فلا تعرفون نفوسهم بشهودهم وجه الحق دونهم  .
يعني رضي الله عنه : إذا غرقوا في طوفان نورك الموّاج ، مستغرقا بهياجه لنار الفرق الهيّاج ، فاضمحلَّت معرفتهم بغيريّاتهم ، ودعاويهم في طواغيت صنميّاتهم ، وحجابيّات عرفهم وعاداتهم ومعتقداتهم ، فعادوا غيّبا خلف حجب عزّ عينك كما كانوا في مظهريّاتهم.
قال رضي الله عنه : « في المحمّديّين " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ " والتبار :الهلاك.
يعني رضي الله عنه : في المشرب المحمدي شهود كلَّي لاضمحلال كل شيء في عين الحق ، ووجه كل شيء حقيقته وحقيقته عينه الثابتة ، فهي وجه الحق الذي ظهر به وفيه وله ، وهو الباقي منه في قوله : " وَيَبْقى وَجْه ُ رَبِّكَ " ، وتبور الحجب والستور ، ويبقى وجه نور النور ، وإلى الله عاقبة الأمور .
قال رضي الله عنه « ومن أراد أن يقف على أسرار نوح عليه السّلام فعلية بالرّقيّ في فلك يوح وهو في "التنزّلات الموصليّة"  "لنا" .
يعني رضي الله عنه : أنّ أكثر أسرار ما يتعلَّق بكلمة نوح عليه السّلام من الحكمة والمشاهد الغريبة لمن يعرج بروحه إلى فلك الشمس ، فإنّ طوفان انفهاق النور ، من تنّور عينها يفور .
وقد ذكر رضي الله عنه أكثر أسرار مقام نوح في كتاب « التنزّلات الموصليّة » وهو كتاب جليل القدر ، فلتطلب الأسرار النوحيّة منه إنشاء الله تعالى.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 04 - فصّ حكمة قدّوسية في كلمة إدريسيّة الجزء الأول .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 9:13 pm

04 - فصّ حكمة قدّوسية في كلمة إدريسيّة الجزء الأول .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

04 . فصّ حكمة قدّوسية في كلمة إدريسيّة  الجزء الأول

قال الشيخ رضي الله عنه : « للعلوّ نسبتان : علوّ مكان وعلوّ مكانة ، فعلوّ المكان " وَرَفَعْناه ُ مَكاناً عَلِيًّا " وأعلى الأمكنة المكان الذي يدور عليه رحى عالم الأفلاك وهو فلك الشمس ، وفيه مقام روحانية إدريس   .
يعني سلام الله عليه : أنّ العلوّ المكانيّ لفلك الشمس ، لكونه وسطا ، فهو أعلى الأمكنة ، إذ المركز ، له علوّ المكانة والمكان .
أمّا علوّ المكانة فلأنّه سبب وجود المحيط وأمّا علوّ المكان فلأنّه فوق سبع أكر تحته . وأمّا كونه أعلى الأمكنة فلكونه جامعا بين العلوّين بخلاف غيره من السماوات .
وفي فلك الشمس صورة روحانية إدريس عليه السّلام واجتمع به هذا الخاتم رضي الله عنه هناك ، وجرت بينهما مفاوضات عليّة ، وأسرار كلَّية إلَّيّة ، فاطلبها من كتاب "الأسرار" وكتاب "التنزّلات ".
قال رضي الله عنه : « وتحته سبعة أفلاك ، وفوقه سبعة أفلاك وهو الخامس عشر .
فالذي فوقه :
فلك والأحمر
وفلك المشتري
وفلك كيوان
وفلك المنازل
والفلك الأطلس
وفلك البروج
وفلك الكرسيّ
وفلك العرش .
والذي دونه : فلك الزهرة ،
وفلك الكاتب ، وفلك القمر ، وأكرة الأثير ، وأكرة الهواء ،وأكرة الماء ،وأكرة التراب".
قال العبد : قد أسلفنا لك فيما مضى أنّ الطبيعة هي القوّة الفعّالة للصور كلَّها في المادة العمائية ، وهي منها وفيها ، وأنّ الطبيعة ظاهرية الإلهية ، والإلهية باطنها وهويّتها . والله هو الفعّال للأفعال كلَّها ، وهي أحدية جمع الحقائق الفعلية الوجوبية .
فأوّل صورة وجدت في المادّة العمائية الكونية كانت طبيعة واحدة جامعة للقوى الفعّالة والموادّ المنفعلة في أحدية جمعها الذاتية الطبيعية .
كما أشار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى ذلك بقوله : « أوّل ما خلق الله الدرّة » وهي حقيقة الجسم الكلَّي على أحد معنييها ، وذلك أنّ هويّة المادّة الهيولانيّة لمّا قبلت الكميّة والكيفية ، تجسّمت جوهرا واحدا أحديّا جمليا ، واندمجت فيه جميع الصور الجسمية ، فأحاطت به التجلَّيات الأسمائية ، وطرحت عليه أشعّتها الأنوار الربانية ، وجلَّلتها الأضواء السبحاتية السبحانية فحلَّلتها ، فذابت حياء ، وانحلَّت أجزاؤها ماء .

فاستوى عرش الحياة على ذلك الماء ، قبل وجود الأرض والسماء ، فألحّت عليه حرارة التجلَّيات المتوالية والأنوار والأضواء ، فتبخّر جوهر الماء على صورة الهواء ، فصعد بخار عمائي إحاطي أحدي جمعي ، فاتّصل بنور التجلَّي البسيط ، والمتجلَّي المحيط ، فصار فلكا محيطا وحدانيا بسيطا ، وذلك في أقصى ما في قوّة الجوهر من الصعود ، وجذب نور الرحمن المستولي عليه بالرحمة والجود .
فيكون منه الفلك الأعظم ، وفيه فلك العرش في أعاليه ، ويسمّى هذا الفلك فلك الأفلاك وهو أطلس وحدانيّ إحاطي نوراني وجوهر أبدي فيه مستوى رحمانيّ على طبيعة واحدة أحدية جمعية بين حقائق أربع هي خامسها ، وذلك قبل وجود التضادّ والتنافي والتنافر ، وإحاطة هذا العرش من إحاطة المستوي عليه ، فإنّه أحاط بكلّ شيء رحمة ، وهي نفس الرحمن المستوي عليه ، فالكلمة في العرش من نفس الرحمن ، وهو الأمر الإلهي لإيجاد الكائنات .
قال خاتم الولاية المحمّدية الخاصّة سلام الله عليه : " واعلم أنّ هذا العرش ، له قوائم نورانية أشهدتها ، نورها يشبه نور البرق ، مع هذا رأيت له ظلَّا فيه من الراحة ما لا يقدّر قدرها ، وذلك الظلّ ظلّ مقعّر فلك العرش ، يحجب نور الرحمن ، وفي جوف فلك العرش فلك الكرسيّ كحلقة ملقاة في أرض فلاة ، ومن هذا الكرسي تنقسم الكلمة إلى حكم وخبر ، وهو القدمان الواردان في الخبر كالعرش لاستواء الرحمن ، وله ملائكة قائمون به ، لا يعرفون إلَّا الربّ .
وبعد الربّ توجّه الاسم « الغنيّ » بتجليه ، فوجد فلك الأفلاك وهو الأطلس ، ومحدّبه تحت مقعّر فلك الكرسي واقتضى هذا الاسم أن يكون هذا الفلك أطلس متماثل الأجزاء ، مستدير الشكل ،لا تعرف لحركته بداية ولا نهاية ، بوجوده حدثت الأزمان بعد خلق الله ما في جوفه من العلامات.
ثمّ توجّه الاسم " المقدّر " لإيجاد فلك البروج ، وذلك أنّه لمّا دار فلك العرش جوهرا وحدانيا بما في جوفه من الكرسي ، وفلك الأفلاك نورانيا فألحّت التجلَّيات على باقي الجوهر المنحلّ المائي ، فصعّدته خالصا نوريا كالأوّل ، فصعد فلك كلي محيط وحداني ، وفيه كلّ شيء وحقيقة من الحقائق الكونية الطبيعية المندمجة في الجوهر الأصلي الأوّل الذي هو الجسم الكلَّي من المناسبات وغيرها .
فلمّا أخذ الجوهر الصاعد الرابع مكانه تحت مقعّر فلك الأفلاك ، فيكون فلكا محاطا بما فوقه ، محيطا لما في جوفه حول المركز المنحلّ ، وكانت التجلَّيات المفصّلة لهذا الجوهر المجمل الذي هو مفتاح الباب المقفل مقتضية لتفصيل ما فيها من الحقائق ، وكانت في صعوده غاية التحليل ، وكان محيطا واحدا مشتملا على كثرة التفصيل ، فتقدّرت بتقدير القدير المقدّر منازل النازل من الأنوار التي هي الأسرار الأسماء الإلهية وأنوارها محالّ ومجالي حوامل ، فتعيّنت البروج بحقائقها ، وتبيّنت منازل الأنوار بدقائقها ، وامتدّت حبائل الأسماء وجداول النسب الربانية برقائقها ، وخرجت أصول جواهر الأنوار العلوية الكلَّية الجسميّة بطبيعتها العلية الفعلية خروجا طبيعيا
وحدانيا نوريّا ، فأخذت الأرواح والأنفاس المشرقة الإلَّيّة الحاملة لأنوار تجلَّيات السبحات الوجهية الوجهيّة من هذا الفلك الكلَّي مظاهرها ، وأظهرت أسرّتها وعروشها ومناظرها ، وتعيّنت الوجوه التي للعقل الأوّل وهي ثلاثمائة وستّون وجها من مقعّر المحيط الكلي الأطلس في هذا الفلك . والأطلس واحد وحدة كلية ، وبسيط بساطة نسبية مشاكلة لجوهر روحه وهو العقل الأوّل ، وتجلَّت أنوار الرحمة من سبحات وجه الرحمن من عين وجوه العقل الأوّل من حضرة الاسم "المدبّر" .
ولمّا كانت الكلمة الرحمانية في العرش واحدة ، وانقسمت في الكرسيّ بتدلَّي القدمين إلى كلمتين وهما الخبر والحكم ، والحكم خمسة أقسام : لأنّه ينقسم إلى أمر ونهي . وهما إلى خمسة أقسام : وجوب ، وحظر ، وإباحة ، وندب ، وكراهة .
والخبر قسم واحد وهو « ما لم يدخل تحت حكم من هذه الأحكام » فإذا ضربت الاثنين اللذين للقدمين في الستّة ، كان المجموع " اثني عشر " .
ستّة إلهية . وستّة كونية ، لأنّا على الصورة ، فانقسم هذا الفلك على اثني عشر برجا ، كما أنّ الكلمة الإلهية العرشية في قلب العرش وهو الشرع على ما ذكرنا .
ولمّا كان الكرسي موضع القدمين ، لم يعط في الآخرة إلَّا دارين :
هما الجنّة والنار ، فإنّه أعطى للعباد بالقدمين مطلقا دارين وهما الدنيا والآخرة ، وأعطى فلكين :
فلك البروج ، وفلك المنازل الذي هو أرض الجنّة .
والمنازل مقادير التقاسيم التي في فلك البروج ، وهي ثمانية وعشرون من أجل حروف النفس الرحماني .
وهي مقسومة على اثني عشر برجا ليكون لكلّ برج في العدد الصحيح وفي الكسور حظَّ ، حتى يعمّ حكمة في العالم ، وكان لكل برج منزلتان وثلث .
وهذه الأفلاك الأربعة وإن وجدت من طبيعة أحدية جمعية ، ولكن ظهر حكم الطبيعة فيها ظهورا تركيبيا وحدانيّا :
فتركَّب الناريّ من حرارة ويبوسة .
والمائيّ من برودة ورطوبة .
والهوائيّ من حرارة ورطوبة .
والأرضيّ من برودة ويبوسة .
وجعلت مثلَّثة كلّ ثلاث أربعا إذا ضربت ثلاثة في أربع كان المجموع أيضا « اثني عشر » وهاهنا تفاصيل ذكرها يؤدّي إلى التطويل يطلبها طالبها من الإخوان والأولاد من كتاب « عقلة المستوفز » للشيخ سلام الله عليه .
وظهرت في هذا الفلك الأنفاس الرحمانية أرواحا للكواكب الثابتة ، لمّا حصلت في هذا الفلك وهو الرابع من فلك العرش ، والرابع من فلك الشمس من الطبيعة أمزجة شريفة جوهرية قابلة للاشتعال بنور التجلَّي النفسي الرحماني .
فتعيّنت فيها أرواح الكواكب أجراما نورانية جامعة لغرائب الطبائع وعجائب البدائع ، وتكوّنت الكوائن في هذا التكوين البديع والصنيع الرفيع على وجه لا يقبل الفساد ، واستوت عليه الأنوار الأسمائية وأفلاكها العقلية النورانية في صورة طبيعة نورية مشاكلة لما فوقها من الأنوار والصور العرشية .
ثم دارت الأفلاك الأربعة بما فيها من الأنوار والأرواح والأجرام النورانية ، وألحّت بتجّلياتها ومطارح أشعّتها ، وبما فوقها من العقل والنفس الكلَّيّين والأسماء الإلهية على الباقي من العنصر .
فحلَّلته كلّ التحليل ، وأظهرت منه ما كانت باطنة وكامنة فيه بالتفصيل للتحصيل تحليلا كلَّيا وتفصيلا جمليا ، فتميّزت العناصر الأربعة وفي كلّ منها كلّ منها ، إذ التحليل كان أحديّا كلَّيا ، فظهر كلّ منها جميعا بصورة الكلّ وقوّته ونعته .
ففي الركن الناري جميع العناصر ، ولهذا إذا غلظ صار هواء ، وإذا غلظ الهواء صار ماء ، وإذا غلظ الماء صار أرضا .
وإذا لطفت الأرض صارت ماء ، والماء هواء ، والهواء نارا ، فافهم .
هذا على ذوق أهل الكشف والشهود ، من أرباب مشرب أحدية الجمع والوجود .
ثم دارت الأفلاك فطارت الأرواح والأملاك ، وتوالت التجلَّيات وتجلَّت التجلَّيات وألحّت على هذه الأركان والعناصر ، فصعّدتها مرّة بعد أخرى حتى أطلقت ما فيها من الجواهر والزواهر ، فارتفع أوّلا دخانيّ كلَّي أحدي جمعي من حاقّ المركز تكنفه ستّة أخرى ثلاثة فوقه وثلاثة تحته وهو الرابع * ( فَسَوَّاهُنَّ ) " الله " ( سَبْعَ سَماواتٍ ) .
فخلق على طبيعة الركن البارد اليابس ، سماء كيوان ، واشتعلت من خلاصة هذا الصاعد البارد اليابس زبدته بنور النفس الرحماني الرباني من حضرة الاسم « الربّ » فكانت نفس كيوان .
وظهرت في هذه السماء حقائق الربوبية من التربية والإصلاح والحفظ والبقاء والثبات ، واعتلت هذه السماء في ارتفاعها أعلى ما كان في قوّته تحت مقعّر فلك الثوابت ، فكانت لها الغايات والنهايات والعلوّ ، وذلك لحفظ ما تحته كالقشر الصائن لما في جوفه .
ثمّ تجلَّى الاسم العليم العلَّام الكشّاف والقاضي للحاجات بحقائق العلم والكشف والحياة العلمية الطيّبة والصلاح والسعادة والحكم والإناءة والطاعات والخيرات والمبرّات في روح المشتري .
واشتعلت صفاوة الجوهر السمائيّ بنور النفس الرحماني جرما نوريا أو نورا جسميا ، وهو مظهر الاسم « العلَّام » « الكشّاف » وسماؤه خلاصة العنصر الحارّ الرطب .
ثمّ تجلَّى القاهر القويّ الشديد من أعوان القادر لإيجاد سماء الأحمر الحارّ اليابس الناري ، واشتعلت زبدتها وخلاصتها بنور النفس الرحماني من حضرة القادر القاهر القوي الشديد .
وقد يكون في الوسط سماء الشمس وهي أعدل السماوات وأخلص الصفاوات ، واشتعل أخلص الزبد وأصفى الجواهر منها بنور النفس الرحماني من حضرة اللاهوت ، والحياة والنور بحقائق الملك والسلطان من سدنة الاسم " الله " .
ثم تكوّنت سماء الزهرة من خلاصة العنصر البارد الرطب ، واشتعلت زبدة السماء بنور النفس الرحماني من حضرة الاسم "الجميل " و " المصوّر " و « اللطيف » و « الودود » و « المنعم » و « العطوف » وأخواتهم .
ثم تكوّنت سماء الكاتب من تجلَّي نور الاسم « الباري » و « المحصي » و « الحكيم » و « السريع الحساب » وأخواتهم .
ثمّ تكوّنت سماء القمر ، واشتعلت زبدة خلاصتها وصفاوة جوهرها بنور تجلَّي " الخالق " و « المدرك » و « السريع » و « الموحى » و « القابل » و " المحسن " و « الظاهر » وأخواتهم بأنوار البشرى والكرامات .
وتكوّنت هذه السماوات السبع بأنوارها الكوكبية من أخلص العناصر وأصفاها على وجه أعدل وأقوى وأصفى وأبقى . وتكوّن كلّ منها من الكلّ كلَّيا وحدانيا جمعيا .
ولا تظنّنّ أنّ كلَّا منها من عنصر واحد ، فذلك لا يمكن ، ولكنّ الغالب واحد ، والثلاثة الأخر فيه بحسبه ، فتكوّنت من خلاصة جواهر العناصر ، ولهذا لا تتسلَّط عليها حقائق المباينة والمنافرة والتضادّ بالإفساد ، فلا تقبل ذواتها الانخرام .
ولكنّ الفساد سيطرأ عليها من حيث أعراضها الصورية ، وكيفياتها النورية العرضية إذا قامت القيامة ، وطاف طوفان العنصر الأعلى الناريّ ، واستوى على العنصريات فكانت السّماء " وَرْدَةً كَالدِّهانِ " .
فتغيّرت صور طبقاتها وأنوارها دون جواهر حقائقها وذواتها ، فتطوى صور نضد الطبقات كطيّ السجلّ للكتاب دون ذوات السماوات ، فإنّ طبيعتها وحدانيّة ، وقوّتها أقوى وأبقى من سائر الجواهر العنصرية ، ولكن لا يقوى قوّة الأطلس وفلك المنازل والثوابت والجنان والعرش والكرسيّ ، فافهم .
ولهذا بقيت هذه السماوات إلى يوم القيامة ثابتة بصورها ، ودامت بذواتها وجواهرها وحقائقها مع ما هي متشبّثة بها من أنوار الأفلاك والأجرام التي فيها فوقها ببقاء أنوار الحقائق الأسمائية وأفلاكها العقلية النورية المحيطة بملكوت الأجرام والأفلاك والسماوات العلوية الجسمية الطبيعية .
ثم بقيت العناصر السافلة الثابتة كما يقال « الصاعدات » ، فانحازت إلى أحيازها الطبيعية ، وامتازت مميّزاتها وخصوصياتها الذاتية وأحاط بعضها على البعض ، فثبت الأرض في المركز ، ويبست وغلظت وأحاطت بها أكرة الماء ، وأحاط بالماء الهواء ، وأحاط بالهواء النار الأثيرية ، فصارت الأكر مع السماوات إلى فلك الشمس سبع طبقات ، وكذلك فوقها سبعة أفلاك ، منها سماوات ثلاث للقهّار والعليم والربّ ، وأربعة أفلاك للرحمن والرحيم الكريم الشكور والغنّي والمقدّر ، فصار فلك الشمس له المكان الأوسط كالمركز ، فهو عليّ بهذا الاعتبار كما أشار إليه الشيخ رضي الله عنه -
بقوله : « وهو الخامس عشر » فخذ هذه الأصول الكشفية على قانون التحقيق ، المؤيّد بالشرع والنظر الدقيق ، والله ولىّ التوفيق يقول الحقّ وهو يهدي إلى سواء الطريق .
نقل ما ذكره الشيخ أبو ريحان البيرونيّ
وفي هذا المقام علم الهيئة الفلكية والمباحث على مشرب أهل الكشف والشهود سنستقصي القول فيها إن شاء الله ، ورزقنا المهل في الآجل في كتاب مفرز لعلم الهيئة الفلكية والمباحث الطبيعية على قانون علم الحقيقة ، فإنّ الأصول المذكورة في علم الهيئة من الأوضاع الفلكية وأكرة الأرض في كريّة السماوات وكونها أفلاكا محيطات متحرّكات حركات « دولابية » على رأي المتأخّرين من حكماء الرسوم لا توافق مقتضى الحقائق والكشف والشرع ، والبراهين التي استوى عليها علمهم في زعمهم إنّما هي فروض وتقادير ، ليس شيء منها في هذه المطالب موجودا واقعا ، ومع هذا فهي واهية ، وجميع براهينهم على كريّة السماوات وفلكيّتها محيطات بمركز الأرض بصفة عروجها كما ذكرها « الشيخ أبو ريحان » في « قانون المسعودي » أكثرها يتعلَّق بإحاطية فلك الثوابت والقطبين . ونحن قائلون بأنّ فلك الثوابت والأطلس فلكان محيطان ، فلا يرد علينا وارد واحد وثلاثة وجوه باقية تتعلَّق بغروب الشمس والكواكب السيّارة ، وهي أيضا مدفوعة ، لفرض حركة منطقة البروج والكواكب السيّارة فيها « حمائليّة » لا « دولابية » على ما نبيّنها فيما يليق بذلك ، إن شاء الله تعالى .
قال رضي الله عنه : « فمن حيث هو فلك الأفلاك هو رفيع المكان .
وأمّا علوّ المكانة فهو لنا أعني المحمّديّين ، قال تعالى : " وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَالله مَعَكُمْ ".
في هذا العلوّ ، وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة ، ولمّا خافت نفوس العمّال منّا ، أتبع المعيّة بقوله : " وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ " فالعمل يطلب المكان ، والعلم يطلب المكانة ، فجمع لنا بين الرفعتين : علوّ المكان بالعمل ، وعلوّ المكانة بالعلم   .
قال العبد : العلوّ حقيقة نسبية للعالي والعليّ كالرفعة للرفيع ، وهي على قسمين :
حقيقيّة لمن هي منسوبة إليه أو إضافية ، وإن كانت هي في عينها وحقيقتها نسبة ولكنّها قد تكون ذاتية حقيقية كالعلوّ الإلهي الذاتي على ما سنذكر في موضعه ، إن شاء الله تعالى . وقد تكون إضافية ، والإضافية على وجهين :
علوّ بالنسبة إلى المكان العالي كالمتمكَّنات الكائنة أعالي الأمكنة ، أو الكائنات المتمكَّنة في الأماكن العالية كالصور الطبيعية العالية العرشية ، ثم الصور الفلكية التي حول الكرسي وفيه.
وهذا النوع من العلوّ المكاني معلوم عرفا وعقلا وشرعا ، والذي ذكره الشيخ رضي الله عنه من علوّ المكان على مقتضى التحقيق الكشفي هو لفلك الأفلاك الحقيقي الكشفي لا المشهور العرفي المتداول في عرف المتفلسفة ، فإنّ فلك الأفلاك عند حكماء الرسوم هو الأطلس الذي فوق الأمكنة كلَّها محيط بها ، وهو ظاهر .
ولكنّ ثمّ سرّا عليّا وتحقيقا إلَّيّا ، وذلك كما ذكرنا أنّ العلوّ الحقيقيّ هو الذاتي ، فإن كان مكان من الأماكن ، له مكانة ذاتية كفلك الشمس الذي مكانه الوسطية التي إليها نسبة جميع الأماكن ، على السواء كالمركز نسبة كلّ جزء من أجزاء المحيط إليه على السواء فكان إذن لهذا المكان علوّ ذاتي على سائر الأماكن ومزية مرتبة ، فهو إذن أعلى الأمكنة والأماكن ، وكذلك للفلك الأطلس من حيث إحاطته بالكلّ والعرش والكرسيّ من حيث المستوي والمتدلَّي ، ولكنّها نسبية إضافية .
وكالفلك الوسطيّ القطبي الشمسي الرابع عرفا والثامن تحقيقا من فوقه ومن تحته ، فإنّ فوقه سبعة وتحته سبعة وهو الثامن من كلّ جهة ، فلهذا المكان المكانة الزلفى والإحاطة المعنوية العليا ، وفيه عرش الإلهية من نور اللاهوت ، والحياة والجود ، ومنها تنفهق الأنوار وتنبعث الأضواء ، علوا وسفلا فاستحقّ هذا الفلك في مشرب التحقيق أن يكون فلك الأفلاك والعلوّ المذكور في إدريس عليه السّلام هو علوّ المكان في قوله تعالى : " وَرَفَعْناه ُ مَكاناً عَلِيًّا " وفي هذا المكان روح إدريس بما تروحن من جسده الشريف عليه السّلام .
وأمّا علوّ المكانة مطلقا فهو للمحمّديّين من قوله تعالى " وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ "
فهو لنا ، لكمال نسبتنا من حضرة الجمع المحمدي .
لكون الأفضلية للعلوّ المرتبي من حيث المكانة على العلوّ المكاني ، وهو تعالى معنا في هذا العلوّ ، لكون مرتبته في الوجود المطلق أعلى من مرتبة الوجود المقيّد ، ولمرتبته أيضا أحدية جمع المراتب كلَّها .
ثمّ إنّه لمّا أثبت الله لنا علوّ المكانة في كتابه الكريم دون العلوّ المكاني ، كما أثبت لإدريس عليه السّلام خافت نفوس من لم يثبت له علوّ المكانة العلمية من العمّال والعبّاد من العباد من هذه الأمّة ، لكون الأعمال جسمانية أن لا يبقى لهم من علوّ المكان حظَّ إلهي ، فأعقب سبحانه وتعالى بقوله : " وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ " ، أي لن يبخسكم وينقصكم من أعمالكم الجسمانية شيئا فإنّ أعمالكم ، لها أعلى الأمكنة ، لأنّ سدرة المنتهى التي إليها تنتهي أعمال بني آدم مترتّبة إلى العرش الذي له أعلى الأمكنة ، فجمع الله لنا من الوارث المحمدي بين العلوّين ، فنحن الأعلون ، والله معنا في هذه الأعلويّة .
قال رضي الله عنه : « ثمّ قال تنزيها للاشتراك بالمعيّة : " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ " عن هذا الاشتراك المعنوي " .
يعني رضي الله عنه : أنّ الله تعالى لمّا وصفنا بأنّا الأعلون ، ثم أثبت لهويته تعالى المعيّة معنا بقوله :"وَهُوَ مَعَكُمْ ".
فأوهم بالاشتراك في الأعلويّة ، فأتبع تعالى بقوله : " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى " ، أي عن هذه الأعلويّة الثابتة لنا ، وعن الاشتراك ، فإنّ درجات الأكملية والأعلوية لا نهاية لها ، فإنّا وإن كنّا الأعلين ، لجمعنا بين علوّ المكان وعلوّ المكانة فإنّه جمع مقيّد بين علوّين مقيّدين ، والحقّ جمع الجمع بين علوّي جميع المكانات والأمكنة من كونه عين الكلّ ، ومن وجه آخر أعلى وهو العلوّ الذاتي ، فإنّ العليّ لذاته مع ماله من أنواع العلوّ كما ذكرنا ، فعلوّه غير منحصر في العلوّ المكاني أو المرتبي أو الجمعي والذاتي ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « ومن أعجب الأمور كون الإنسان أعلى الموجودات أعني الإنسان الكامل ، وما نسب إليه العلوّ إلَّا بالتبعيّة ، إمّا إلى المكان وإمّا إلى المكانة وهي المنزلة ، فما كان علوّه لذاته ، فهو العليّ بعلوّ المكان وبعلوّ المكانة ، فالعلوّ لهما .
فعلوّ المكان ك " الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى " وهو أعلى الأماكن .
وعلوّ المكانة " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ" و" إِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ " و" أَإِله ٌ مَعَ الله ".
يعني رضي الله عنه : أنّ علوّ المكانة الخصيص بالله تعالى من حيث رجوع الأمر كلية ، ففني من لم يكن فيمن كان ، ولم يكن معه شيء ، وبقي من لم يزل ، وهو وجه كلّ شيء ، أي حقيقته ، فتحقّقت الحقائق بالحق ، فلا حقيقة ولا تحقّق إلَّا له "أَإِله ٌ مَعَ الله " و" لا إِله َ إِلَّا هُوَ ".
فلو كان اثنان أو أكثر في الوجود ، لم يتحقّق هذا العلوّ لله تعالى وهو له تعالى ثابت متحقّق ، فلا حقيقة ، إلَّا حقيقته ، تعالى أن يكون معه غيره في الوجود .
قال رضي الله عنه : « ولمّا قال الله تعالى :  "وَرَفَعْناه ُ مَكاناً عَلِيًّا " فجعل « عليّا » نعتا للمكان".
" وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً " ، فهذا علوّ المكانة .
يعني رضي الله عنه العلوّ الخصيص بالإنسان الكامل وهو علوّ المرتبة الجمعية الكمالية .
قال رضي الله عنه : « وقال في الملائكة : " أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ " فجعل العلوّ للملائكة ، فلو كان لكونهم ملائكة ، لدخلت الملائكة كلَّهم في هذا العلوّ ، فلمّا لم يعمّ مع اشتراكهم في حدّ الملائكة عرفنا أنّ هذا علوّ المكانة عند الله .
وكذلك الخلفاء من الناس لو كان علوّهم بالخلافة علوّا ذاتيا ، لكان لكل إنسان ، فلمّا لم يعمّ ، عرفنا أنّ ذلك العلوّ للمكانة " .
يعني رضي الله عنه : أنّ علوّ الكمّل والملائكة العالين من حيث المكانة ، إذ لو كان العلوّ لهم بالذات ، لاشترك كلّ إنسان في ذلك ، بل ذلك الإنسان موصوف بالخلافة الحقيقية الكمالية لا غير وذلك علوّ مرتبيّ.
وكذلك الملائكة العالون مع اشتراكهم في العلوّ المكاني الذي لملائكة الرحمن معهم من حيث كونهم في المكان العرشي ، فلهم علوّ المكانة من حيث لم يؤمروا بالسجود ، فهم أعلون من أن يؤمروا بالسجود ، لهيمانهم في الحق ، وغيبوبتهم عن غيره ، وفنائهم فيه عنه وعمّا يسمّى سوى الحق . فهم لا يعرفون أنفسهم ولا يعرفون أنّ الله خلق آدم .
قال رضي الله عنه : ( ومن أسمائه الحسنى « العليّ » . عمّن وما ثمّ إلَّا هو ؟
فهو العليّ لذاته . أو عمّا ذا وما هو إلَّا هو ؟
فعلوّه لنفسه ، وهو من حيث الوجود عين الموجودات ، فالمسمّى محدثات هي العليّة لذاتها ، وليست إلَّا هو ، فهو العليّ لا علوّ إضافة ، لأنّ الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمّت رائحة الوجود ، فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات .
والعين واحدة من المجموع في المجموع فوجود الكثرة في الأسماء ، وهي النسب ، وهي أمور عدمية ، وليس إلَّا العين الذي هو الذات ، فهو العليّ لذاته لا بالإضافة.).
قال العبد : لمّا فرغ رضي الله عنه من ذكر العلوّ النسبي والإضافي ، أخذ في بيان
العلوّ الحقيقي الذاتي ، فقوله : " عمّن " إشارة إلى أنّ هذا الاسم ليس علوّه علوّ إضافة فيدخل فيه « عن » و " على " بل هو عليّ بالذات ، ليس علوّه بالمكان ولا بالمكانة النسبيّين ، إذ ليس في الوجود إلَّا الله وحده لا شريك له في الوجود ، فهو عليّ بهذا العلوّ الذاتي لا بالعلوّ الإضافي النسبي ، فهو عليّ بالذات لنفسه .
ثم اعلم : أنّ الوجود الحقّ القيّوم للموجودات عينها ، فمن كونه عينها وكونها عينه ، هي أيضا عليّة بذاتها وهو الوجود الحقّ ، فإنّها مع قطع النظر عن الوجود الحقّ لا غيره ، فالموجودات بهذا الاعتبار عليّة بالذات لا علوّ إضافة ونسبية كما أنّها من حيث هي سوى الحقّ عليّة بالمكان أو بالمكانة علوّا نسبيا إضافيا ليس لها بهذا الاعتبار علوّ ذاتي .
وقوله رضي الله عنه عن الأعيان الثابتة : « إنّها ما شمّت رائحة الوجود » إشارة إلى ما ذكرنا من العلوّ الذاتي ، من حيث إنّ أعيان الموجودات التي لم تكن وكان الله ولم يكن معه شيء هي على حالتها العدمية الأصلية ، فكما أنّ الحق كان ولم يكن معه شيء كذلك الأشياء على ما كانت ، كما هو الآن على ما عليه كان ، فما ثمّ إلَّا الله الواحد الأحد .
قال رضي الله عنه : « فما في العالم من هذه الحيثية علوّ إضافة ، لكنّ الوجوه الوجودية متفاضلة ، فعلوّ الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة .
لذلك يقول رضي الله عنه فيه :" هو لا هو ، أنت لا أنت" .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ مستند العلوّ الإضافي هو العلوّ الذاتي ، فالعلوّ للحق ذاتي من حيث أحدية العين ، ثم بحسب تغاير التعيّنات والوجوه المتفاضلة في هذه العين الواحدة يظهر العلوّ النسبي ، لتفاضل الوجوه .
ولهذا يقول الأشاعرة في الصفات : إنّها هؤلاء هو .
ويقول أهل الحجاب في العالم : إنّه لا هو .
ويقول العارفون :إنّه هو هو .
ويقول المحقّقون : إنّه هو ، لا هو .
أي يصدق عليه أنّه هو من حيث الوجود الحقّ الذي هو عين الكلّ ، ويصدق عليه أنّه لا هو من حيث الكثرة والعدد التعيّني ، فإنّه كلّ جزء من الكبير صورة غير الآخر ، وإذا كان غيرا فما هو عين ، فافهم .
قال رضي الله عنه : قال الخرّاز وهو وجه من وجوه الحق ، ولسان من ألسنته ، ينطق عن نفسه : بأنّ الله لا يعرف إلَّا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها ، فهو الأوّل والآخر ، والظاهر والباطن .
فهو عين ما ظهر ، وهو عين ما بطن في حال ظهوره ، وما ثمّ من يراه غيره ، وما ثمّ من يبطن عنه ، فهو ظاهر لنفسه ، باطن عنه ، وهو المسمّى أبا سعيد الخرّاز وغيره من أسماء المحدثات ) .
قال العبد : يشير رضي الله عنه إلى أحدية العين وكثرة الوجوه ، فهو الواحد الأحد بالذات والعين ، والكثير المتعدّد بالتعيّن والصورة ، وعلى هذا فأبو سعيد الخرّاز وجه من هذه الوجوه وتعيّن من تعيّنات الواحد العين ، فهو من حيث هو يخبر عن نفسه أنّه عرف نفسه بجمعه بين الأضداد . قيل له سلام الله عليه : بم عرفت الله ؟
قال : بجمعه بين الأضداد .
وذلك لأنّ الهوية الإلهية موضوع لجميع الأضداد والأنداد في قوله : " هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ  "وهو" الهادي والمضلّ" ، و"اللطيف والشديد" ، و"الغفور والمنتقم" ، وغير ذلك .
وهي أحدية جمع جميع الأسماء والمسمّيات التي تقضي بكمال الاقتدار ، الذي لا يعرف إلَّا بكمال ظهور أثر القدرة ، وكمال القدرة في الجمع بين المتنافيات والمتنافرات والمتشاكلات والمتماثلات تحت حيطتها مع أحدية العين وذات هي جمع جميع المتنافيات والمتباينات والمتشاكلة من وجه أو وجوه .
لا يكون شيء خارجا عن حكمه ولا شيء يشبهه ولا شيء يناقضه ويضادّه ويباينه ويحادّه وإذا كانت العين الواحدة ظاهرة بوجوه كثيرة مختلفة مفترقة ومؤتلفة متّفقة ، وحيثيات متعدّدة متباينة ومتناسبة ، فلا اختلاف إذن في الحقيقة والعين ، بل في الحيثيات التعيّنية والاعتبارات التعقّلية ، فإذا اعتبرنا الحقيقة والعين . قلنا بالأحدية الصرفة ، وإذا اعتبرنا الكثرة بالفرق والجمع ، قلنا بالكثرة .
قال رضي الله عنه : « فيقول الباطن : « لا » إذا قال الظاهر : « أنا » .
ويقول الظاهر : "لا " إذا قال الباطن : « أنا » . وهذا في كلّ ضدّ ، والمتكلَّم واحد وهو عين السامع .
يقول النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم : " وما حدّثت به أنفسها " .
يعني رضي الله عنه : في مغفرة الله لأمّة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ذنوبهم الظاهرة من الجوارح الجسمانية ، والباطنة الكائنة من القوى الباطنة ، وما حدّثت به أي تفعله من الذنوب وإن لم تفعل .
" فهي المحدّثة السامعة حديثها ، العاملة بما حدّثت به نفسها ، والعين واحدة ، و إن  اختلفت الأحكام ، ولا سبيل إلى جهل مثل هذا ، فإنّه يعلمه كل إنسان من نفسه .
يعني رضي الله عنه : أنّها المحدّثة نفسها .
قال : « وهو صورة الحق » يعني كلّ إنسان إنسان بهذه المثابة ، فكذلك في الجانب الإلهي ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( فاختلطت الأمور ، وظهرت الأعداد بالواحد في المراتب المعلومة . فأوجد الواحد العدد .
وفصّل العدد الواحد ، وما ظهر حكم العدد إلَّا بالمعدود ، والمعدود ، منه عدم ، ومنه وجود ، فقد يعدم الشيء من حيث الحسّ وهو موجود من حيث العقل ، فلا بدّ من عدد ومن معدود ، ومن واحد  ينشئ ذلك ، فينشأ بسببه ) .
قال العبد : لمّا كانت العين الواحدة التي لا عين إلَّا هي كثيرة التعيّنات ، فتنوّعت ظهوراتها ، وتعدّدت إنّيّاتها ، فكانت واحدة كثيرة ، وحدة في عين كثرة وكثرة في عين وحدة ، فكانت عين الأضداد في الأعداد ، فاختلطت الأمور ، وأشكل على الفكر الوقوف على سرّ ذلك والعثور ، وحار الجمهور ، وخار العقول ، وعسر الوصول ،
وتعذّر عليها الاطمينان إلى ذلك والقبول ، وذلك لسريان العين الواحدة الموجودة ، في مراتبها ومرائيها المشهودة ، إذ لا عين على الحقيقة إلَّا حقيقة واحدة هي ذات الحق ، والمراتب نسب تجليّاتها ، وهي التي غمرتها بنورها ، وعمرتها بتجلَّيه وظهورها .
وتسمّى بالواحد في أوّل مراتب تعيّنه ، وبالعشرة في المرتبة الثانية ، وبالمائة في الثالثة ، وبالألف في الرابعة ، وكلّ حقيقة من هذه الحقائق المرتبية العددية كلَّية تحتوي على بسائط الواحد وهي تسعة ، فمن الواحد من كونه متعيّنا في أوّل مراتب تعيّنه إلى العشرة بسائط الواحد ، من كونه خارجا عن العدد ، ومنشئا لحقائق عقودها ، بمعنى أنّ الواحد عين الاثنين وغيرها .
وتسمّى في ثاني مرتبة الواحد اثنين وهو واحد وواحد جمعا ، و « الاثنان » اسم الهيئة الاجتماعية ، وهي في مرتبتها حقيقة واحدة ، و « الثلاثة » أيضا كذلك واحد وواحد وواحد وهي تعيّن الواحد الذي هو هو في الكلّ .
و تسمّى ثلاثة في ثالث مرتبة ظهوره وتعيّنه ، وهي حقيقة واحدة وإن كانت هيئة اجتماعية من آحاد .
فالواحد من كونه داخلا في مراتب العدد مسمّى بجميع أسماء الأعداد بالغا ما بلغت : اثنان وثاني اثنين ، وثلاثة وثالث الثلاثة ، وأربعة ورابع الأربعة ، وأيّ جزو فرضت من أيّ عدد كان .
ومن كونه خارج الأعداد وليس منها بل هو مبدؤها ومبدئها وموجدها ومنشئها " ما يَكُونُ  من نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى من ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ " .
.
يتبع الجزء الثاني
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 04 - فصّ حكمة قدّوسية في كلمة إدريسيّة الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 9:17 pm

04 - فصّ حكمة قدّوسية في كلمة إدريسيّة الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

04 . فصّ حكمة قدّوسية في كلمة إدريسيّة  الجزء الثاني

وما ثمّ إلَّا عين واحدة تجلَّى  في ثاني مراتبها ، فسمّي من حيث التعيّن والتجلَّي اثنين ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فما ثمّ إلَّا واحد يفصّل في المراتب تجلَّيه وتعيّنه وتدلَّيه .
ولا تحقّق للعدد إلَّا بالمعدود ، لأنّه نسبة تعيّنية ، فلا وجود لها إلَّا بالمتعيّن المعدود وهو الواحد الذي لا حقيقة إلَّا له ، ولا تحقّق للتعيّن والتعدّد والتجلَّي واللاتعيّن واللاتعدّد واللاتجلَّي إلَّا به ، فافهم إن كنت تفهم ، والله ما أظنّك تفهم إلَّا أن يشاء الله ربّنا ، وسع ربّنا كلّ شيء علما ورحمة وجودا وحكما .
فإن تجلَّى في أحديته الغيبية العينية الذاتية ، بطنت فيه الأعداد غير المتناهية كبطون النصفية والثلثية والربعية وغيرها من النسب العددية إلى ما لا يتناهى ، كان الله ولا شيء معه ، فإنّ هذه النسب غير المتناهية في الواحد غير متمايزة ولا وجود لها إلَّا بالمتعدّد والمعدود الذي كانت فيه أحدية مستهلكة الأعيان .
وإن تجلَّى في مراتب تعيّنه وتعدّده ، أظهر الأعداد وأوجد الآحاد وأنشأ الأزواج والأفراد ، وذلك بالتنزّل والتجلَّي والتعيّن والتدلَّي ، وما ثمّ إلَّا هو ، فهذا سرّ إنشاء الواحد العدد ، وتفصيل العدد الواحد الأحد .
قال رضي الله عنه : " فإن كان " كلّ مرتبة حقيقة واحدة كالتسعة مثلا والعشرة إلى أدنى وإلى أكثر إلى غير النهاية ما هي مجموع  ".
يعني رضي الله عنه : التسعة والعشر والمائة والألف وغيرها من العقود ، كلّ عقد عقد منها حقيقة واحدة متميّزة عن غيرها ، مسمّاة بغير اسم الآخر ، وتتضمّن غير ما يتضمّنه الآخر ، لا شكّ في أحدية حقيقتها ، وهي أحدية الجمع المعيّن ، ومجموعيّتها اعتبار زائد على حقيقتها العددية الخصيصة بهذا المجموع ، فالاسم اسم الهيئة الجمعية ، والأحدية أحديّة الحقيقة والعين .
قال رضي الله عنه : " ولا ينفكّ عنها اسم « جميع الآحاد » ، فإنّ الاثنين حقيقة واحدة ، والثلاثة حقيقة واحدة بالغا ما بلغت هذه المراتب ، وإن كانت واحدة ، فما عين واحدة ، فما عين واحدة منهنّ عين ما بقي ، والجمع  يأخذها".
يعني رضي الله عنه لا ينفكّ عن هذه الحقيقة الواحدة جمع آحادها المعيّنة .
قال : « فنقول بها منها » يعني : نقول بأحدية تلك الحقيقة منها أي من الحقيقة هي هيئة اجتماعية من آحاد معيّنة .
" ونحكم بها عليها " أي بالأحدية على الحقيقة .
قال رضي الله عنه :" وقد ظهر في هذا القول : عشرون مرتبة ."
فضرب لما ذكر مثلا : إن كان في القول عشرون مرتبة ، فقد ظهرت حقيقة أحدية جمعية من عشرين من الآحاد ، وهذه الحقيقة وإن كانت أحدية جمع هذه الآحاد المعيّنة ، ولكنّها حقيقة واحدة من حيث المسمّى الظاهر وهو الواحد في هذه الهيئة الجمعية المعيّنة ، فـ « عشرون » اسم لحقيقة هيئة جمعية أحدية كالاسم العلم لهذا الجمع المعيّن ظهرت في مرتبة العشرات ، وأمّهات المراتب العددية أربع ، وبسائطها التركيبية النسبية لا نهاية لها ، فافهم .
قال رضي الله عنه : " فقد دخلها التركيب" .
يعني : إذا قلنا : « عشرون مرتبة » فقد قلنا في حقيقة مرتبة واحدة : إنّها مركَّبة من عشرين مرتبة ، فاشتملت هذه المرتبة الواحدة المسمّاة بعشرين على حقائق بسائطها ، فإذا أشرنا إلى الحقيقة العشرينية ، قلنا : حقيقة واحدة ، لكونها ليست عين ما بقي فإنّك تسمّي ما بقي بأسماء غير العشرين ، وكذلك ما قبل هذا العقد بأسماء غيرها ، كلّ حقيقة منها واحدة في حقيقتها ، فتقول في بسائط تحت عقد العشرين مثلا : تسعة عشر ، وثمانية عشر ، وسبعة عشر ، إلى الواحد ، فتعيّن قولك ، « عشرون » .
فتحقّق أنّ الحقيقة الأحدية الجمعية المسمّاة ، بعشرين وإن كانت مرتبة واحدة فإنّها أحدية جمع ، والواحد من كونه واحدا لا يكون جمعا ، إذ الجمع آحاد مجموعة ، فكل عقد عقد من هذه العقود وحقيقة حقيقة من الحقائق العددية ، يأخذها الجمع ، ويدخلها التركيب .
قال رضي الله عنه : « فما تنفكّ تثبت عين ما هو منفيّ عندك بعينه » .
إذا قلت : « عشرين » فقد أثبتّ العدد ونفيت الأحدية ، وإذا قلت : « مرتبة » أو « حقيقة » فقد أثبتّ أحدية حقيقة العقد المعيّن ونفيت العدد ، لعدم توقّف أحدية الحقيقة أو المرتبة أو العقد على تعقّل العدد إذ ذاك ، فأنت إذن ما تنفكّ عن نفي ما تثبت من وجهين واعتبارين مختلفين .
فإنّ العدد الذي تشتمل عليه حقيقة عقد من العقود العددية منفيّ عن أحدية الحقيقة من حيث كونها أحدية جمع معيّن ، وكذلك تثبت في كل عقد عدد معيّن أحدية هي منفيّة عن العدد من كونه عددا ، فإذا عيّنت فقد عيّنت عقدا واحدا على جملة أعداد مجموعة ، فهو عقد واحد مشتمل على آحاد عدّة معيّنة متناهية ، والتناهي لم يدخل إلَّا من كونه عقدا معيّنا ، والأحدية من كونها منشئة بذاتها لهذه العقود المعيّنة فوقها وتحتها محيطة بها " وَالله من وَرائِهِمْ مُحِيطٌ ) " ، " ما يَكُونُ من نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ " وما ثمّ إلَّا هو ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ومن عرف ما قرّرناه في الأعداد وأنّ نفيها عين إثباتها ، عرف  أنّ الحقّ المنزّه هو الخلق المشبّه ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ الواحد من كونه منشأ للأعداد بذاته المتعيّنة في مراتب عدّة سمّي كثيرا ملاحظة للتعدّد ، فالتعدّد نعت لتعين الواحد في مراتب متكثّرة ، لا نعت للواحد من حيث هو واحد .
فانقسم نظر الناظرين في العالم على قسمين :
منهم : من اقتصر على ملاحظة الكثرة والتعدّد والتعيّنات ، فسمّى كلّ هيئة اجتماعية من ظهور الواحد وتعيّنه في مراتب عدّة باسم ، فقال : اثنان ، وثلاثة ، وأربعة ، وخمسة ، وستّة وغير ذلك ، كما نقول : عقل ، ونفس ، وطبيعة ، وهيولى ، وصورة ، وجسم ، وفلك ، وكوكب ، وسماء ، وأرض ، مع أنّ الاثنين واحد وواحد ، والثلاثة واحد وواحد وواحد ، وكذلك الأربعة والخمسة والستّة والسبعة وغير ذلك إلى ما لا يتناهى ، فما ثمّ إلَّا واحد غير متناهي التعيّن والظهور ، وتنوّعهما في مراتب معقولة لا تحقّق لها من حيث هي هي مع قطع النظر عن الواحد المتعيّن فيها وبها .
والقسم الآخر كشفوا الأمر على ما هو عليه في نفسه عند الحق وفي علمه ، فقالوا :
ليس إلَّا واحد تنوّع ظهوره وتعيّنه في مراتبهما المعقولة ، والمراتب والظهور والتعيّن كلَّها نسب للواحد ولا تحقّق لها إلَّا بالواحد وفيه ، فافهم ، فما ثمّ إلَّا حقيقة واحدة محقّقة في 
ذاتها وحقيقتها ، وتحقّقت وتعيّنت في العقل متكثّرة متعدّدة ، ليس شيء منها في الحقيقة محقّقا ، والمحقّق هو الحق الواحد تحقّق لك بوجوده متعيّنا في العدد والكثرة ، فأظهر تعيّنات وتجلَّيات وتنوّعات وجمعيّات وأحديات بالعرض ، فهي لا تقدح في أحدية الواحد إن أمعنت النظر وأنعمت ، فافهم ، فإنّه عال غال ، والمتحقّق به أعلى وأغلى ، والله الملهم والمفهم .
قال رضي الله عنه : ( وإن كان قد تميّز الخلق من الخالق ) .
يعني : أنّ الحق من كونه خلقا ليس هو الخالق ، من كونه خالقا ، فإنّ تميّز الخالقية عن المخلوقية ظاهر كتميّز الكثرة عن الأحدية ، والزوجية عن الفردية ، ولكنّ العين في الزوج والفرد والواحد الأحد والكثير المتعدّد عين واحدة ، والعين في مرتبة الأحدية واحدة أحد ، وفي الظهور في مراتب تعيّنه متعدّدة عدد ، فالتعدّد والتعيّن في مراتب العدد ، للوجود الحق الواحد وخارج العدد والكثرة في الواحدية والأحدية .
" فالأمر الخالق المخلوق " سمّيته واحدا أحدا ، وحقّا خالقا في أوّل مراتب تعيّنه بالأحدية والواحدية ، وفي ثانيها اثنين ، وفي ثالثها ثلاثة ، وغيرها ، من شأن ذلك الواحد الحق المتعيّن الظهور أحديا حقّا وكثيرا خلقا ، وهو المسمّى بسائر الأسماء حقّا وخلقا .
فافهم ما أشار إليه الشيخ العارف المحقّق ، أبو الحسين النوري رضي الله عنه لطَّف نفسه فسمّاه حقّا ، وكثّف نفسه فسمّاه خلقا ، فأثبت مع إثبات كونه حقّا في لطافته خلقا في كثافته معا ، إنّ الحقيقة الذاتية الإلهية ، لها أن تظهر حقّا خلقا ، إلها مألوها ، ربّا مربوبا ، فإنّ الحقيقة المطلقة في عينها تتساوى نسبة التعيّن إليها من حيث هي هي ، لتساوي اقتضائها الذاتي لهما معا .
فالأمر الخالق هو المخلوق « والأمر المخلوق الخالق » طردا وعكسا .
قال رضي الله عنه : ( كلّ ذلك من عين واحدة ، لا ، بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة . " فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ " والوالد عين ابنه ، فما رأى يذبح سوى نفسه ، وفداه بذبح عظيم ، فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان . 
وظهر بصورة ولد ، لا ، بل بحكم ولد من هو عين الوالد "وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها " ، فما نكح سوى نفسه ، فمنه الصاحبة والولد ، والأمر واحد في العدد ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ الوجود الواحد الحقّ الواحد المتعيّن في الإنسانية المطلقة ، المسمّى إبراهيم في إبراهيم ، والوالد هو المسمّى من حيث تعيّنه في إسحاق أو إسماعيل بإسحاق أو إسماعيل كذلك ، وكذلك المتعيّن في صورة آدم المسمّى بآدم هو المتعيّن في صاحبته المسمّاة بحوّاء ظهر ذلك الوجود الحق الواحد في مراتب عدّة بصور مختلفة ، وصيغ مفترقة ومؤتلفة ، فسمّى في كل مرتبة مرتبة وتعيّن تعيّن باسم غير الآخر ، فمنه الصاحبة ، والوالد ، والولد ، والزوج ، والفرد ، والواحد والعين واحدة ، وهو الوجود الحق الذي لا تحقّق إلَّا له في كل متحقّق معيّن ، مع أنّه من كونه متعيّنا بكذا ، مسمّى بكذا غير المتعيّن بتعيّن غيره وغير مسمّى باسم غيره ، فالمسمّى بعلا من حيث تعيّنه ينكح نفسه من كونها متعيّنة في صورة صاحبته ، وكذلك المتعيّن في صورة إبراهيم متعيّن بصورة ولده الذي أراد ذبحه ، وهو الظاهر بصورة الذبح العظيم .
قال رضي الله عنه : ( فمن الطبيعة ؟ ومن الظاهر فيها وما رأيناها نقصت بما ظهر منها ، ولا زادت بعدم ما ظهر ؟ وما الذي ظهر غيرها ؟ في ما هي عين ما ظهر ، لاختلاف الصور بالحكم عليها ، فهذا حارّ يابس ، وهذا بارد يابس ، فجمع باليبس ، وأبان بغير ذلك ، والجامع الطبيعة ) .
يعني رضي الله عنه : كما أنّ الطبيعة حقيقة واحدة فإنّها تختلف بعينها وصورها بحسب المادّة ، فتقبل الحكم عليها بالأضداد .
فيقول : إنّ طبيعة كذا باردة يابسة ، وطبيعة كذا حارّة يابسة ، وطبيعة كذا حارّة رطبة ، وطبيعة كذا باردة رطبة ، فتكون الطبيعة في الأضداد عينها ، فتجمعها بحقيقتها وهي حقيقة واحدة من شأنها الظهور في الأضداد أعيانا متضادّة من حيث التعيّن والظهور ، وهي من حيث كلَّيّتها حقيقة واحدة جمعية معقولة مقولة على كثيرين متضادّة في مراتب كثيرة ، والأضداد المختلفة من كونها أضدادا لا تجتمع في مادّة تقبل هذه الصور المتضادّة وليس تعيّنها بأحدها أولى من تعيّنها بغيرها ، وكذلك الطبيعة الجامعة بحقيقتها لكلّ منها ، فإنّها عين الكلّ ، وكذلك الهيولى ، أعني المادّة .
قال رضي الله عنه : " لا ، بل العين الطبيعة ".
يعني رضي الله عنه : العين المظهرة لصور الأضداد في المادّة القابلة لها عين صورها ، عين المادّة ، فإنّ الكلّ في الكلّ ومن الكلّ .
قال رضي الله عنه : ( فعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة ، لا ، بل صورة واحدة في مرايا مختلفة ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ الطبيعة حقيقة واحدة ، قابلة لظهور الصور المختلفة فيها مختلفة بموجب حقائقها ، فإنّها بحسب الجميع ، فما لها حسب معيّن يوجب تعيّن الكلّ واحدا معيّنا ، فيظهر كلّ من الأضداد فيها بصورتها كظهور حقائق العالم في مرآة الوجود الواحد الحق بموجب خصوصيّاتها المتكثّرة المختلفة المتباينة والمتماثلة.
وبمقتضى حقائقها ، وهذا مشهد الكمّل ، ومشرب المحقّق الراسخ المكمّل ، أو الطبيعة صورة واحدة في مرائي مختلفة كعكس ما ذكرنا من المشهد ، كظهور الوجود الواحد الحق في أعيان الأشياء بحسب خصوصيّاتها ، وهو مشهد الجمهور من أهل الكشف والشهود من المتقدّمين رحمهم الله .
والحقّ أنّ الأمرين صادقان في حالة واحدة ، وموجبان الحيرة العظيمة في مرتبة الفكر عند العقلاء الوارثين للحقائق بموازين الفكر والنظر العقلي .
قال رضي الله عنه : ( فما ثمّ إلَّا حيرة ، لتفرّق النظر ) .
يعني في نظر أهل الحجاب .
قال رضي الله عنه : ( ومن عرف ما قلناه لم يحر )
يعني رضي الله عنه : إذا عرف أنّ حقيقة الوجود الواحد الحق لذاتها تقبل كلّ ذلك ومن عينها تقتضي الظهور بجميع ذلك ، فإنّه لن يحار أصلا إلَّا الحيرة الأخيرة التي هي عين الشهود الحق
والأمثلة قد تقدّمت ، فانظر وتدبّر ، والله الموفّق ، والعارف ممّا قلنا في مزيد علم ، والله أعلم .  
قال رضي الله عنه : (وإذا كان  في مزيد علم فليس إلَّا من حكم المحلّ ، والمحلّ عين العين الثابتة ، فيها يتنوّع الحق في المجلى ، فتتنوّع الأحكام عليه ، فيقبل كلّ حكم ، وما يحكم عليه إلَّا عين ما تجلَّى فيه ، ما ثمّ إلَّا هذا ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ زيادة علم العارف المحقّق في المشهدين جميعا عائدة إلى
العين الثابتة التي ظهر فيها الوجود الواحد الحق بحسبها ، أو ظهرت الأعيان الثابتة فيه بحسبها أيضا كذلك ، إذ لا حيثية ولا خصوصية للوجود الحق ، كما قرّرنا مرارا ، فهو حقّ كلّ حقيقة ، وبه تحقّقت الأعيان في حقائقها بأحكامها وخصائصها وآثارها .
قال رضي الله عنه :
فالحقّ خلق بهذا الوجه فاعتبروا ....    وليس خلقا بذاك الوجه فادّكروا
يعني رضي الله عنه : أنّ الوجود الواحد الحق من كونه متعيّنا في مرتبة الألوهيّة هو عين الله ، فهو بحسب الله وبحسب الصورة الأحدية الجمعيّة الإلهية ليس خلقا مخلوقا ، بل خالق المخلوقات ، موجد الموجودات ، فليس هو هي ، ولا هي هو.
« ما للتراب وربّ الأرباب ؟ » فادّكر ، ولا تخلَّط بين المراتب ، ولا تخبط خبط عشواء في الحقائق والمذاهب .
ثم الوجود الواحد الحق من كونه متعيّنا في المرتبة الخلقية المنفعلة والأعيان المتأثّرة الكونية ، قابلا لصور الأكوان خلق ليس حقّا كذلك.
ولكنّ الوجود الحق الواحد المطلق من كونه قابلا لصور الحقيقة الإلهية ، وقابلا أيضا لصور الخلقيّة عين الحق والخلق ، فهو فيهما معا حق وخلق .
فيصدق من حيث هذا الوجه وضع كلّ منهما أعني الحقّ والخلق وحمل الآخر عليه . فاعتبر هذه الاعتبارات كلَّها ، ولا تطلق القضايا إلَّا بوجوهها المعتبرة ، ولا تغفل عن الحقيقة الوجودية المطلقة الظاهرة في المراتب كلَّها ، إن شاء الله تعالى .
قال رضي الله عنه :
من يدر ما قلت ، لم تخذل بصيرته  .... وليس يدريه إلَّا من له بصر
جمّع وفرّق ، فإنّ العين واحدة   .... وهي الكثيرة لا تبقي ولا تذر
وعين الوجود الحق واحد ، ولا تحقّق إلَّا له في عينه كما عرفت ، فما ثمّ إلَّا هو ، تعيّن في مرتبة الجمع واحدا إلها ، وفي مرتبة التفرقة كثيرا خلقا ، والوحدة والكثرة ، والجمع والفرق ، والحق والخلق ، والإطلاق والتقييد ، والتعيّن واللاتعيّن ، والظهور والبطون نسب نفسيّة له ، ولا تحقّق لها بدونه ، فما ثمّ موجود إلَّا هو.
قال رضي الله عنه : ( فالعليّ لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجوديّة والنسب العدميّة بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها ، وسواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا ، أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك إلَّا لمسمّى "الله "خاصّة ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ العلوّ الذاتي الحقيقي الذي ليس بالنسبة والإضافة ليس إلَّا للذات المسمّاة بالاسم"الله " فإنّه هو المتحقّق في جميع المراتب والنسب والظهورات والتعيّنات بوجوده ، فإنّ الذات المتعيّنة بالتعيّن الأوّل حقيقة الحقائق ، الظاهرة بالإنسان الكامل الحقيقي الواحد الأزلي الأبدي هو المسمّى بالاسم "الله " خاصّة ، وهو الاسم الأعظم لذات الله ، تعالى الدالّ على أحدية جمع الجمع الكمالي الذاتي .
فمسمّى « الله » تعالى من حيث إنّه متعيّن بالحقيقة الإنسانية الكمالية الذاتية مستغرق جميع الذوات الموجودة والنسب العدمية المفقودة والأفعال والأخلاق والنعوت والصفات المذمومة والمحمودة بحيث لا يخرج شيء أصلا عن حيطته ، ولا يسبق لمتوهّم وهم أنّ مسمّى الله هو المتكثّر في هذه الكثرة ، فإنّه يتعالى عن الظهور بما يناقض الكمالات الإلهية ، فإنّ الله أحدية جمع جميع الكمالات الأسمائية المؤثرة والحقائق الفعّالة الوجوبية الوجودية لا غير .
قال رضي الله عنه : ( وأمّا غير مسمّى الله خاصّة ممّا هو مجلى له أو صورة فيه فإن كان مجلى له ، فيقع التفاضل لا بدّ من ذلك بين مجلى ومجلى ) .
يعني : كلّ عين عين من أعيان العالم ، فإنّه مرآته ومجلاه ، يتجلَّى فيه وجوده ، فيتأتّى للمشاهد شهوده .
قال رضي الله عنه : ( وإن كان صورة فيه ، فتلك الصورة عين الكمال الذاتي , لأنّها عين ما ظهرت فيه . فالذي يسمّى الله هو الذي لتلك الصورة ) .
قال العبد يعني : أنّ الصورة الإنسانية الكمالية الذاتية الإلهية هي صورة الذات المسمّاة باسم الله ، وتلك الصورة هي التي تستغرق جميع الصور المعنوية الغيبية الأسمائية الفعلية المؤثّرة والعينية الكونية المتأثّرة المظهرية ، وجميع الصور الروحانية العقلية والنفسية ، وجميع الصور المثالية الجبروتية البرزخية ، والطبيعية الفلكية والعنصرية ، السماوية والأرضية ، والنسب الإضافية العدمية ، فإنّ العالم بكماله وتمامه صورة تفصيل هذه الصور الإنسانية الكمالية الجمعية الذاتية ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ولا يقال : هي هو ، ولا : هي غيره ) .
يعني : أنّ هذه الصورة صورة للذات المسمّاة بـ « الله » تعالى ، وصورة الشيء ليست هي المتصوّرة بتلك الصورة ، فالصورة لا تعطي إلَّا مدلول لفظ " الصورة " وإن كانت صورة أحدية جمعية ، فإنّ العقل يفرّق بين الصورة وبين ذي الصورة .
ولا يقال أيضا :إنّها غيره من جميع الوجوه ، فإنّها صورة ذاتية ، لا تنفكّ عن مسمّى الله تعالى .
قال رضي الله عنه : « وقد أشار أبو القاسم بن قسيّ في خلعه إلى هذا بقوله : "إنّ كل اسم إلهي يسمّى بجميع الأسماء الإلهيّة وينعت بها .
وذلك هناك أنّ كلّ اسم يدلّ على الذات وعلى المعنى الذي سيق له ويطلبه ،فمن حيث دلالته على الذات له جميع الأسماء ".
يعني رضي الله عنه : أنّ الاسم من حيث ما يدلّ على الذات عينها فله مالها ، فيسمّى وينعت بجميعها ، كهي له ، هو هي من هذا الوجه .
قال رضي الله عنه : « ومن حيث دلالته على المعنى الذي يتفرّد به ، يتميّز عن غيره ، كالربّ والخالق والمصوّر إلى غير ذلك . فالاسم المسمّى من حيث الذات ، والاسم غير المسمّى من حيث ما يختصّ به من المعنى الذي سيق له " .
قال العبد : مذهب ابن القسيّ بفتح القاف وتخفيف السين وتشديد الياء من أكابر شيوخ المغرب مشهور معتبر ، 
كان قبل الشيخ رضي الله عنه :"
 أنّ أيّ اسم إلهي أخذت من الأسماء الإلهية كالربّ والخالق والهادي والمصوّر وغيرها فوضعته مبتدأ ، وأنّ الاسم « الله » وسائر الأسماء الإلهية تحمل عليه خبرا جمعا وفرادى ، كما ذكرنا ، فتذكَّر ".
وخلعه كتاب من تصانيفه ، اسمه : « خلع النعلين » شرحه الشيخ "الأكبر" رضي الله عنه .
وقال رضي الله عنه  : " إذا فهمت أنّ العلي ما ذكرناه ، علمت أنّه ليس علوّ المكان ولا علوّ المكانة ، فإنّ علوّ المكانة يختصّ بولاة الأمر كالسلطان والحكَّام والوزراء والقضاة وكلّ ذي منصب ، سواء كانت فيه أهليّة ذلك المنصب أو لم تكن ، والعلوّ بالصفات ليس كذلك ، فإنّه قد يكون أعلم الناس يتحكَّم فيه من له منصب التحكَّم وإن كان أجهل الناس . فهذا عليّ بالمكانة بحكم التبع ، ما هو عليّ في نفسه ، فإذا عزل زالت رفعته ، والعالم ليس كذلك " .
يعني رضي الله عنه : أنّ أعلى مراتب العلوّ هو العلوّ الذاتي كما مرّ ودونه علوّ الصفات ، كالعلم والقدرة وغيرهما .
فمن كان أعلم ، فهو أعلى بصفة العلم ، وفي هذا العلوّ لا يكون الموصوف والظاهر به عليّا بالتبع ، بل بالصفة النفسية ، وقد يكون عليّا بالذات والصفة والمكانة والمكان ، ويختصّ به الربّ تعالى ، فإنّ له أعلى المكانات والمراتب وأعلى الأماكن كالعماء والعرش.
وأعلى الصفات وهو الأحدية الجمعية الإلهية ، والإنسان الكامل منه أوفر حظَّ ونصيب ، كإدريس عليه السّلام مثلا ، فإنّه من أعلم العلماء ، وهو على الصورة الذاتية ، وله مكانة النبوّة وقد رفعه الله " مَكاناً عَلِيًّا " ، جعلنا الله وإيّاك ممّن جمعت له هذه الحقائق .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 05 . فصّ حكمة مهيّميّة في كلمة إبراهيمية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 9:24 pm

05 . فصّ حكمة مهيّميّة في كلمة إبراهيمية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الإبراهيمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

05 . فصّ حكمة مهيّميّة في كلمة إبراهيمية

قد ذكرنا سبب إسناد حكمة التهيّم إلى كلمة إبراهيم عليه السّلام .
قال رضي الله عنه : ( إنّما سمّي  خليلا ، لتخلَّله وحصره جميع ما اتّصف به الذات الإلهية . 
قال الشاعر : قد تخلَّلت مسلك الروح منّي   .....   وبه سمّي الخليل خليلا )
يعني رضي الله عنه : لمّا قامت الصفات والأسماء الإلهية بإبراهيم ، وقام بحقّ مظهرياتها حقّ القيام ، فاتّصف بجميعها ، فتخلَّل حضراتها ، وسرت الصورة الإلهية بحقائقها في ذات إبراهيم وحقائقه فتخلَّلته ، وكذلك سرت المحبّة الإلهية الذاتية في جميع حقائقه ، وسرت محبّته أيضا في حقائق الحضرات ، فسمّي خليلا ، فعيلا بمعنى فاعل وبمعنى مفعول .
قال رضي الله عنه : ( كما يتخلَّل اللون المتلوّن ، فيكون العرض بحيث جوهره ، ما هو كالمكان والمتمكَّن ) .
قال العبد : إذا تداخل جسمان أو اجتمعا ، فإن كانا كثيفين كالمكان والمتمكَّن ،
فلا سراية لأجزاء أحدهما في الآخر ، فلا تخلَّل ، وإن كان أحدهما لطيفا والآخر كثيفا ، سرى اللطيف في الكثيف ، وتخلَّله بحسب لطف اللطيف وتخلَّل أجزاء الكثيف وتناسبهما ، وإن اجتمع لطيفان وتناسبا في اللطف والرقّة ، كانت السراية أقوى والتخلَّل أشدّ وأوفى ، وإن اتّفق أن تكون معهما حرارة غريزية تناسبيّة في كل منهما لكل منهما ، ملزمة لانحلال أحدهما في الآخر وتخلَّله ، اشتدّ السريان وقوي التخلَّل ، فأدّى إلى اتّحاد هما بحيث يكونان شيئا واحدا لا يتميّز أحدهما عن الآخر ، وفي السراية والتخلَّل والاتّحاد يقع التفاوت بحسب قوّة اللطف والرقّة والمناسبة بين المتخلَّلين ، وهذا في الأجسام وفي الجواهر .
وأمّا الأعراض فإن كانت من اللوازم الجوهرية الذاتية .
فإنّها تكون بحيث جواهرها كالرطوبة والرقّة للماء ، والحرارة واليبوسة للنار ، وإن كان العرض غريبا ليس ذاتيّا للجوهر فبالوساطة الجوهرية الجامعة بينهما ، كتخلَّل اللون الغريب في جوهر غير ذي لون إنّما يكون بواسطة جوهر لطيف متلوّن بذلك اللون الغريب ، فيسري به اللطيف المتلوّن فيما لا لون له.
فإذا سرى اللطيف في جميع أجزائه وتشرّب الكثيف به وفارقه اللطيف ، بقي العرض الغريب في جوهر ما لا لون له ، فعاد متلوّنا بذلك اللون ، وكلّ هذا ضرب مثل لما من الحق في الخلق ولما للحق من الخلق ، وإذا كان الأمر في الأجسام على هذا الوجه ، ففي الروحانيات يكون أتمّ وأعمّ ، وكذلك الجواهر والأعراض ، وذلك بحسب القبول والتناسب والنفوذ .
وكذلك سريان أحكام الحقائق والمعاني والنسب بعضها في البعض بواسطة الوجود الجامع بينهما بحسب شدّة المناسبة وقوّة المحبّة بين المتخلَّل والمتخلَّل .
فلمّا ناسبت مظهرية الخليل عليه السّلام لتعيّن الحق فيه وبه من جميع الوجوه أو أكثرها بحسب مرتبته ومقام مظهريته للحق الذي هو ربّه ، سرى كلّ منهما في الآخر سراية كلَّية في إبراهيم في محبّة ربّه ، أو في ربّه ، فظهر في هوية إبراهيم إنّيّة الحق ، وكذلك يتخلَّل إبراهيم في الحضرات الإلهية ، فقام بجميع المظهريات الإلهية الأسمائية على الوجه الأتمّ ، وظهرت فيه وبه ومنه أيضا حقائق الحضرات بالظهور الأكمل الأعمّ ، فاتّخذه الله خليلا ، وهذه الخلَّة كسراية العرض بالجوهر اللطيف في الكثيف ، حتى يكون بحيث جوهره .
ونذكر قول الخليل عليه السّلام يوم القيامة ، حين يفزع الخلائق إليه في الشفاعة ، فيقولون له : أنت خليل الله اشفع لنا .
أو كما يقولون له.
فيقول : إنّما كنت خليلا من وراء وراء  ، والخلَّة المحمّدية أفضل وأكمل ، ونظيره سراية اللطيف المناسب في مثله لطافة ومناسبة بالحرارة المعتدلة ، الحبّية ، الملزمة لكمال تخلَّل أحدهما في الآخر ، وانحلاله ، حتى يرتفع التمايز ويتّحد الخليلان كما ينحلّ ويتخلَّل الأبوان في الصنعة وهما العيان والعروس المطهّران المثبتان المحلولان إذا مزجناهما على ميزان العدل ، وألزمناهما الطبخ الطبيعيّ ، فإنّهما ينحلّ كل منهما في الآخر انحلالا لا مفارقة بعده أبدا ، وينعقدان جوهرا واحدا ، فإذا التقيناه ذاب ذوبانا واحدا وعاص عوصا واحدا ، ولا يطير أحدهما دون الآخر ، فيكون أحدهما عين الآخر .
كما قال تعالى : " الله وَرَسُولُه ُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوه ُ "  فأفرد الضمير في الخبر المحمول بعد تثنية المبتدأ الموضوع .
وقال:" من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله " وقال : « هذه يد الله » وأشار إلى يده " وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى " فافهم .
قال رضي الله عنه : ( أو لتخلَّل الحق وجود صورة إبراهيم عليه السّلام وكلّ حكم يصحّ من ذلك ، فإنّ لكلّ حكم موطنا يظهر فيه لا يتعدّاه ، ألا ترى الحقّ يظهر بصفات المحدثات ، وأخبر بذلك عن نفسه ، وبصفات النقص وبصفات الذمّ ؟)
يعني رضي الله عنه : أنّ الحق من حيث تعيّنه بوجوده في صورة إبراهيم يضاف إليه جميع ما يضاف إلى إبراهيم من صفات المخلوق ، ولا يتعدّى إليه في الصورة الإلهية الأزلية ، فإنّه تعالى أخبرنا إنّه ينادي ، ويمكر ، ويستهزئ ، ويسخر ، ويمرض ، ويجوع ، ويظمأ ، على لسان الصادق الذي " ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى " وذلك بظهوره وتعيّنه في إنّيّة العبد ، بوجوده الحقّ ، كما علمت ، فاذكر .
وقوله : ( وكلّ حكم يصحّ من ذلك ، فإنّ لكلّ حكم موطنا يظهر فيه لا يتعدّاه ). 
يريد رضي الله عنه أنّ انضياف أصناف الأحكام والأحوال والأخلاق والأفعال والأسماء والنعوت الخلقية التي توهم النقص ، وتوجب الذمّ في مرتبة العقل والشرع أو العرف إلى الجناب الإلهي بالأصالة كما ذكرنا ليس إلَّا من حيث تعيّنه بالوجود في عين هذا العبد الذي به وفيه ظهرت تلك النقائص ، لا من حيث هو هو ، ولا من حيث موطن آخر ، فإنّ موطن الدنيا وظهور الوجود الحقّ بالعبيد في الدنيا يوجب ذلك وعامتها منتفية عن العبد أيضا في الدار الآخرة والمواطن الجنانية فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ألا ترى المخلوق يظهر بصفة الخالق  من أوّلها إلى آخرها وكلَّها حق له ، كما هي صفات المحدثات حق للحق).
يعني رضي الله عنه : أنّ صفات المحدثات من حيث تعيّن الوجود الحقّ بالمحدثات وفيها بحسبها ينضاف إليه جميع صفات المحدثات وأفعالها وآثارها ، وهي حق له استحقّها من حيث تعيّنه وظهوره فيها وظهورها ووجودها به ، ولأنّ الوجود ، له صلاحية الظهور بها وإظهارها ، وذلك مقتضى حقيقته ، وكذلك من حيث هذا الوجه ، وباعتبار أنّ حقائق المحدثات وأعيانها الثابتة في العلم الذاتي الأزلي هي شؤون الحق ونسبة الذاتية التي هي فيه هو لا غير يثبت أيضا كذلك للمحدثات جميع الأسماء والصفات والنعوت والنسب التي للحق من أوّلها إلى آخرها ، وهي حق له من هذين الوجهين ، فافهم .  
قال رضي الله عنه : (الْحَمْدُ لِلَّه ِ " فرجعت إليه عواقب الثناء من كل حامد ومحمود . " وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ " ، فعمّ ما ذمّ وما حمد  ، وما ثمّ إلَّا محمود أو مذموم) .
يشير رضي الله عنه  إلى  أنّ كل حمد من كل حامد لكل محمود فإنّه لله ، لأنّه المحمود بالحقيقة في كل مظهر وموجود بما ظهر فيه من الكمالات والمحامد ، والظاهر بها في ذلك الحامد ، فإذن هو الحامد والمحمود والحمد ، فاذكر أقسام حمد الحمد ، كما ذكرنا في شرح الخطبة .
قال رضي الله عنه : ( اعلم أنّه ما تخلَّل شيء شيئا إلَّا كان محمولا فيه ، فالمتخلَّل باسم فاعل محجوب بالمتخلَّل اسم مفعول فاسم المفعول هو الظاهر ، واسم الفاعل هو الباطن المستور ، وهو غذاء له ، كالماء يتخلَّل الصوفة فتربو  به وتتّسع ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ إبراهيم عليه السّلام بتخلَّله جميع الحضرات الإلهية يكون محمولا في الحق ، محجوبا ، فهو للحق جميع أسمائه وصفاته الظاهرة عليه ، فهو غذاؤه بالأحكام والنعوت والأسماء والصفات ، وكذلك بتخلَّل الوجود الحق صورة إبراهيم يكون محمولا في إبراهيم ، فيكون الحق سمعه وبصره ولسانه وسائر قواه .
قال رضي الله عنه : ( فإن كان الحق هو الظاهر ، فالخلق مستور فيه ، فيكون الخلق جميع أسماء الحق سمعه وبصره وجميع نسبه وإدراكاته . وإن كان الخلق هو الظاهر ، فالحق مستور ، باطن فيه ، فالحق سمع الخلق وبصره ويده ورجله وجميع قواه ، كما ورد في الخبر الصحيح).
قال العبد : يشير رضي الله عنه : إلى مقامي قرب الفرائض والنوافل ، وذلك أنّ وجود الحق هو الأصل الواجب وهو الفرض ووجود العالم وهو العبد نقل وفرع عليه .
لأنّ الوجود الحق لكمال سعته وسع الحق المطلق ، والخلق المقيّد ، فإذا ظهر الحق ، خفي العبد فيه ، كان الله ولا شيء معه أوّلا " لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّه ِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ " آخرا ، فكان العبد سمع الحق وبصره وسائر قواه ، كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم « إنّ الله قال على لسان عبده : سمع الله لمن حمده . هذه يد الله ، واليد يد محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم وكذلك هو الرامي حقيقة في " إِذْ رَمَيْتَ " ، فيده يد الحق والحق هو الرامي ، لنفيه الرمي عن محمّد في قوله : " وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ " ، وإثباته الرمي للحق بقوله :
" وَلكِنَّ الله رَمى " .
والثاني قرب النوافل ، فهو كون الحق بوجوده محمولا في إنّيّة العبد وهويّته له فهو سمع العبد وبصره ولسانه وسائر قواه ، والحديث الثابت في الصحيح المثبت سرّ المقامين قد ذكر فيما ذكر ، فتذكَّر .
قال رضي الله عنه : ( ثم إنّ الذات لو تعرّت عن هذه النسب ، لم تكن إلها . وهذه النسب أحدثتها أعياننا ، فنحن جعلناه بألوهيّتنا إلها ، فلا يعرف حتى نعرف ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ تحقّق أحد المتضايفين يتوقّف على الآخر بالضرورة فالإلهية والربوبية والخالقية لا تتحقّق إلَّا بالمألوه والمربوب والمخلوق وجودا وتقديرا ، فلا يعرف الله من كونه إلها ، حتى يعرف المألوه .
قال رضي الله عنه : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » وهو أعلم الخلق بالله .
فإنّ بعض الحكماء وأبا حامد ادّعوا أنّه يعرف الله من غير نظر إلى العالم ، وهذا غلط . نعم ، تعرف  ذات قديمة أزليّة لا يعرف إنّها إله ، حتى يعرف المألوه ، فهو الدليل عليه ).
يعني رضي الله عنه : أنّ الألوهية والربوبية وغيرهما من النسب لا تحقّق لها كما مرّ إلَّا بالمألوهية والمربوبية ، فإنّها حقائق إضافية ، فلا وجود لها إلَّا بالنسبة والإضافة ، ولا تثبت للذات المطلقة إلَّا بشرط موصوفيتها بالإيجاد والربوبيّة ، ولا ربوبية إلَّا بالمربوب ، فالربوبية والإلهية والخالقية ومعرفتها يتوقّف ثبوتها للذات المطلقة على المربوب والمألوه والمخلوق وإن لم يتوقّف وجودها الذاتي على شيء أصلا ، فإنّ الله من حيث ذاته غنيّ عن العالمين وعن الأسماء الإلهية .
قال رضي الله عنه : ( ثمّ بعد هذا في ثاني حال يعطيك الكشف أنّ الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيته ، وأنّ العالم ليس إلَّا تجلَّيه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه  وأن يتنوّع ويتصوّر بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها ، وهذا بعد العلم به منّا أنّه إله لنا ) .
قال العبد : يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الواجب على كلّ أن يعرف ربّه وإلهه الذي يعبده ، وذلك لا يكون إلَّا بعد معرفة عبدانيّته ومربوبيته ، فإذا عرف نفسه عبدا مربوبا ، تأتّى له أن يعرف أنّ له إلها هو ربّه خلقه .
ثم بعد هذه المعرفة الصحيحة إن عرف أنّه موجود بالحق ، أو عرف أنّ الموجود هو الحق في عينه وصورته يتنوّع ظهوره بحسب خصوصية المظهر ، عرف أنّ العالم تجلّ منه ، فهو الظاهر بالعالم وفيه بحسب خصوصية حقيقة العالم من القبول ، فهو من حيث ظهوره في العالم المحدث كان دليلا على نفسه أنّه أحدثه وأوجده ، وكان الحق حينئذ من حيث ظهوره فيك دليلا عليه أنّه ربّ ، إله ، خالق لك ، فافهم .
فما أنت إذن أنت على ما كنت في زعمك ، بل تعيّن وتجلّ من تجلَّياته في مرتبة كليّة أو جزوية ، في حقيقة عين ثابتة علميّة أزلية ذاتية من جملة شؤونه الذاتية التي لم توجد ولا شمّت رائحة من الوجود العيني ، بل هي على وجودها العلمي الأزلي الأبدي ، والموجود المشهود منك في الأعيان تجلَّى لظاهر في مظهر ، وكذلك الموجود المشهود من العالم تجلّ كلَّي وتعيّن عيني ظهر في مظاهر ومجال وتراءى في مناظر ومراء كثيرة مختلفة ، فما يشهد ولا يوجد في المرآة إلَّا الحق لا المرئيّ .
فإنّ متعلَّق الشهود والوجود ليس إلَّا المثال الظاهر من ناظر واحد محاذ بصورته لهذه المرائي الكثيرة ، وهي أعيان العالم وحقائقه فانظر ما ذا ترى ، فأنت يا أخي على عدميّتك الأزلية ، والمشهود هو الوجود الحق الظاهر في مظهريّتك ومرآتك ، وهو الدليل على نفسه من جهتين ومرتبتين :
مطلقة ومقيّدة ، فافهم .
قال رضي الله عنه : (ثمّ يأتي الكشف الآخر ، فيظهر لك صورنا فيه ، فيظهر بعضنا لبعض في الحق ، فيعرف بعضنا بعضا ، ويتميّز بعضنا عن بعض ، فمنّا من يعرف أن في الحق وقعت هذه المعرفة لنا بنا ، ومنّا من يجهل الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة بنا "أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ من الْجاهِلِينَ).
قال العبد : أمّا في الكشف الأوّل فشهدت الحق في مجالي : حقائق العالم ومرائي مظهرياته بحسبها ، فكان الشاهد والمشهود هو الحق ، وفي هذا الشهود مرتبتان لأربابهما :
إحداهما : أنّ الحق هو الموجود المشهود في حقائق العالم وأعيان المحدثات وهي مظاهر للحق موجودة في أعيانها ، ظهر الحق بها وفيها وبحسبها ، نحوا من الظهور ، وضربا من التجلَّي .
وفي الثانية : يكون الحق أيضا كذلك هو الموجود المشهود في مراء غير موجودة في أعيانها ، بل هي على عدميّتها العينيّة ووجودها العلمي ، ظهر الوجود الواحد الحق المنسحب عليها بحسب خصوصياتها وقابلياتها ، فظهر الوجود الواحد الحق بهذه المظاهر المختلفة مختلف الصور ، فالمشهود الموجود في الشهودين هو الحق .
وأمّا الكشف الثالث: فيعطي أنّ المشهود نقوش أعيان العالم وصورها وأمثلتها في مرآة الوجود الواحد الحق الموجود هو الحق المشهود في صور نسبه ونقوش شؤونه وأحواله الذاتية العينيّة وهي أعني النسب والشؤون التي هي أعيان العالم لم تنتقل من العلم الذاتي إلى العين ، ولكن أثّرت في مرآة الوجود الحق من حيث قبوله وصلاحيته لتلك الآثار هيئات وصورا منها بحسبها .
قال رضي الله عنه : ( وبالكشفين معا ما يحكم علينا إلَّا بنا  ، بل نحن نحكم علينا بنا ، ولكن فيه ، فلذلك  قال : " فَلِلَّه ِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ " يعني على المحجوبين إذ قالوا للحقّ : لم فعلت بنا كذا وكذا ممّا لا يوافق أغراضهم ، فيكش ف لهم الحق عن ساق ، وهو الأمر الذي كشفه العارفون هنا ، فيرون أنّ الحق ما فعل لهم ما ادّعوه أنّه فعله ، وأنّ ذلك منهم ، فإنّه ما علمهم إلَّا ما هم عليه ، فتدحض « 5 » حجّتهم ، وتبقى الحجة لله البالغة) .
قال العبد : إنّ الحاكم علينا نحن على الكشفين معا ، لأنّا على الكشفين معا إمّا تجلّ وحق متعيّن بمقتضيات أعياننا الثابتة ، أو صور أعيان ظهرنا في مرآة الوجود الحق بمقتضيات أعياننا وخصوصياتنا كذلك ، فإذن لم يحكم الحق علينا في كلّ ما حكم علينا ، دنيا وآخرة ، روحا وجسما ، ظاهرا وباطنا ، شقاوة وسعادة ، إلَّا بموجب ما اقتضت خصوصياتنا واستعداداتنا غير المجعولة ، الذاتية ، وقابليّات مظهرياتنا التي استدعت من الحق أن يحكم علينا بما نستأهله ونستحقّه .
والله العليم ، الحكيم ، العدل ، الحكم لا يحكم على كل محكوم عليه بكل حكم حكم عليه إلَّا بموجب علمه بالمحكوم عليه ، وبالحكم الذي يطلبه ويقتضيه بحقيقته وعلمه به على ما هو عليه وبحسبه وبموجب استعداده ، ولا ينسب إلى الحق ما يتوهّمه أهل الجهل أنّ الله قدّر وحكم على الخلائق ، أو كتب عليهم بما ليس فيهم وهو ظلم محض إن يقدّر على أحد ويحكم عليه قبل  وجوده في الأزل بأفعال وأحوال وآثار ليست فيهم ومنهم ، ثم إذا صدرت منهم في الدنيا بموجب ما قدّر وكتب عليهم ، طالبهم بذلك في الآخرة ، وعاقبهم ، وأخذهم بها ، وعذّبهم .
تعالى الله عمّا يقول الظالمون الجاهلون علوّا كبيرا ، بل الله يحكم علينا بمقتضيات استعداداتنا وبموجب خصوص قابليّات صور معلوميّاتنا له أزلا ، فلم يحكم علينا إلَّا لما منه أو حكمنا أن يحكم علينا بذلك ، فما حكم علينا إلَّا بحكمنا ونحن صور نسب علمه وشئونه وأحواله الذاتية النفسية ، بل نحن حكمنا علينا بالحق وفيه ،فافهم .
قال رضي الله عنه : ( فإن قلت : فما فائدة قوله : " فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) ؟
قلنا : " لو " حرف امتناع لامتناع ، فما شاء إلَّا ما هو الأمر عليه .
ولكن عين الممكن قابل للشيء ونقيضه  في حكم العقل ، وأيّ الحكمين المعقولين وقع فذلك هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته . ومعنى « لهديكم » أي لبيّن لكم .
(وما كلّ ممكن من العالم فتح الله عين بصيرته ، فأدرك الأمر في نفسه على ما هو عليه ، فمنهم العالم والجاهل .
فما شاء ، فما هداهم أجمعين ، ولا يشاء .
وكذلك " إِنْ يَشَأْ " فهل يشاء ؟  هذا ما لا يكون ) .
قال العبد : « لو » في « لو شاء لهدى » تعليل عدم الهداية لعدم المشيّة ، فإنّه حرف امتناع لامتناع ما يسند إليه ، فحيث أسند إلى المشيّة بيّن امتناع المشيّة ، وإنّما جاء لعدم الهداية وامتناعها لامتناع المشيّة ، يعني ما هداهم أجمعين ، لأنّه لم يشأ هدايتهم أجمعين ، لعلمه أنّهم لا يستعدّون لقبول الهداية جميعا ، بل البعض .
فشاء بموجب علمه هداية البعض المستعدّين لها ، فهداهم ، ولو شاء هداية الكلّ لهدى الكلّ ، ولكنّه لم يشأ ، لعدم تعلَّق العلم بهداية الكلّ ، لما لم يكن في قابليتهم الاهتداء .
إذ المشيّة وهي تخصيص بعض المعلومات للهداية تابعة للعلم في تعلَّقه بهداية البعض الذين لهم قابلية الهداية ، فما شاء إلَّا ذلك البعض ، لأنّ مشيّة الحكيم العليم لا تتعلَّق إلَّا بما فيه صلاحية ما يشاء ، وإلَّا لكان عبثا ، ويتعالى عن ذلك علوّا كبيرا .
وكذلك " إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ " حرف امتناع وشرط ممتنع دخل على المشيّة ، لامتناع الإذهاب ، فامتنع إذهابهم ، لامتناع تعلَّق المشيّة به ، فهل يشاء الممتنع ؟
هذا لا يكون ، لعدم تعلَّق مشيّة الحكيم بالممتنع .
قال رضي الله عنه : ( فمشيّته أحدية التعلَّق ، وهي نسبة تابعة للعلم ، والعلم نسبة تابعة للمعلوم ، والمعلوم أنت وأحوالك ، فليس للعلم أثر في المعلوم ) .
يعني رضي الله عنه : لأنّه ما جعله على ما هو عليه ، بل تعلَّق به بحسبه ، وهذا ظاهر .
قال رضي الله عنه : ( بل للمعلوم أثر في العلم فيعطيه من نفسه ما هو عليه في عينه ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ العلم إنّما يتعلَّق بالمعلوم بحسب ما هو المعلوم عليه فهو تابع للمعلوم في تعلَّقه به ، فليس للعلم أثر في المعلوم .
قال رضي الله عنه : ( وإنّما ورد الخطاب الإلهي بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون وما أعطاه النظر العقلي ، ما ورد الخطاب على ما يعطيه الكشف . ولذلك كثر المؤمنون وقلّ العارفون أصحاب الكشوف) وَما مِنَّا إِلَّا لَه ُ مَقامٌ مَعْلُومٌ " .
(وهو ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك ، هذا إن ثبت أنّ لك وجودا ، فإن ثبت أنّ الوجود للحق لا لك ، فالحكم لك بلا شك في وجود الحق ، وإن ثبت أنّك الموجود ، فالحكم لك بلا شكّ .
وإن كان الحاكم الحقّ ، فليس له إلَّا إفاضة الوجود عليك ، والحكم لك عليك ، فلا تحمّد إلَّا نفسك ولا تذّم إلَّا نفسك ، وما يبقى للحق إلَّا حمد إفاضة الوجود ، لأنّ ذلك له لا لك )  .
يعني رضي الله عنه : أنّ الله تعالى إنّما يخاطب عباده على قدر فهمهم وبحسب ما تواطئوا عليه ، إنّ الله لو تعلَّقت مشيّته بهداية الجميع ، أو بإذهاب الجميع ، لهداهم جميعا ، أو أذهبهم جميعا ، هذا مبلغ علوم أهل العموم من المخاطبين ، لاقتصارهم في نظرهم على ظاهر المفهوم من كمال القدرة والإرادة ، وهو نصف البحث ، فلو رزقوا العثور على الشطر الآخر ، لفازوا بإدراك الأمر على ما هو عليه ، وهو مقتضى الكشف بأنّ المشيّة لا تتعلَّق إلَّا بمقتضى الحكمة .
والعلم والحكمة يعطيان أن ليس في قوّة استعداد الجمع وقابليتهم صلاحية الهداية ، بل في البعض ، فتعلَّقت المشيّة بهداية المهتدين بنوره ، لما في استعدادهم لقبول نور الهداية ، والذي لم يستعدّ للهداية في حقيقته وخصوصية عينه الثابتة ، لم تتعلَّق بهدايته المشيّة ، فلم يهتد ، وهذا مقتضى الكشف الصحيح والحقّ الصريح الرجيح .
فرزق الله أهل الكشف والتحقيق الاطَّلاع على هذا السرّ وهو سرّ القدر فنزع بذلك عن قلوبنا غلّ الاعتراض على الله بالجهل ، كما اعترض أهل الحجاب من الجمهور في أفعاله وأوامره وأحكامه ، ونسبوا إلى الله الظلم ، وأجاز بعضهم الظلم من الله تعالى على خلقه ، لأنّهم تحت تصرّفه وهو موجدهم وربّهم ، فله الحكم ، وعدّل منه الظلم ، وكلّ ما قالوا جهل بالحقائق ، لأنّ حقيقة الظلم لا تنقلب عدلا ، ثمّ الحكيم لا يريد ولا يفعل إلَّا ما اقتضته حكمته ، فهو لا يكلَّف نفسا إلَّا وسعها ، ولا يطلبها إلَّا ما آتاها ، وإلَّا فما هو بحكيم ، وحكم بخلاف حكمته وعلمه ، والله تعالى حكيم ، فهو لا يسومنا ما ليس فينا ، فافهم.
وهذا بيّن فللَّه الحجّة البالغة ، فما منّا أحد إلَّا له مقام معلوم ، فنحن معاشر أهل الكشف والشهود بحمد الله لم نقف مع علوم هؤلاء المجتهدين ، فكشف لنا بحمد الله ما وراء هذا السرّ ، وذلك بمقتضى أعياننا الثابتة في العلم الأزلي ، فالحكم للعين فينا إن كان لنا وجود حقيقي على ما تقرّر ، وإن لم يكن لنا وجود ، فالحكم لنا علينا أيضا كما مرّ مرارا ، فادّكر ، فما يصل إليك نور الوجود إلَّا بموجب استعدادك .
فإن كان على الوجه الأكمل ، فلا تحمد إلَّا نفسك ، فإنّها صورة شأن إلهي من الشؤون ، وإن وجدت غير ذلك فلا تلومنّ إلَّا نفسك ،وليس لله تعالى إلَّا حمد إفاضة الوجود ، وليس للوجود إلَّا إظهار ما كنت عليه وكان فيك منك أزلا ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( فأنت غذاؤه بالأحكام ) .
يعني : أنّ الوجود الحقّ إنّما يظهر بصورة أحكام عينك ، فقد تغذّى بصورة العين الثابتة وجود ظهر فيك بحسبك .
قال رضي الله عنه : ( وهو غذاؤك بالوجود ) .
يعني : لأنّك ظهرت بالوجود ، فإنّ أحكام عينك الثابتة لا تظهر إلَّا بالوجود ، كما أنّ الوجود لا يتعيّن ولا يظهر إلَّا بحسب تلك الأحكام .
قال رضي الله عنه : ( فتعيّن عليه ما تعيّن عليك وهو حكمك بالأمر منه إليك ومنك إليه غير أنّك تسمّى مكلَّفا ، وما كلَّفك إلَّا بما قلت له : كلَّفنى بحالك وبما أنت عليه ، ولا يسمّى مكلَّفا اسم مفعول ، إذ لا كلفة عليه ) .
يعني : أنّ الحكم منك وإن توجّه على الحق أن يكلَّفك بما حكمت ، فإنّه لا يسمّى مكلَّفا اسم مفعول كما أنّك لا تسمّى مكلَّفا اسم فاعل ، لكون الفعل والتأثير والحكم لله بالأصالة فإنّه أحدية جمع حقائق الوجوب والإيجاب والفعل والتأثير والانفعال والتأثّر والقبول لك بالافتقار الأصلي الذاتي ، كما علمت ، فاذكر ، فهكذا أعطت الحقائق ، فإن حكمت وأثّرت وفعلت ، فلأنّك حقيقة من حقائق الجمع الإلهيّ ، فافهم .
قال رضي الله عنه :
فيحمدني وأحمده .....   ويعبدني وأعبده
يعني رضي الله عنه : يحمدني الحقّ على كمال قابليّتي وحسن قبولي لنور وجوده ، وإظهار صورته على ما هي عليها من غير تغيير .
وأحمده : أعرّفه بالكمالات التي ظهر بها في ، أو ظهرت بها فيه .
ويعبدني ، أي يطيعني لمّا سألته بالإجابة ، كما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين قال له أبو طالب : ما أطوع لك ربّك يا محمّد ! : « وأنت يا عمّ إن أطعته أطاعك ».
والعبادة : الطاعة على أحد معانيها ، والعبادة : الجحود أيضا .
يقال : عبد حقّه أي جحد ، والعبد يطيع الله في ظهوره بالإلهية والربوبية ، فإذا ظهر في تعيّنه بصورة مخلوق وصفته ، جحده وأنكره .
وقال رضي الله عنه : (ففي حال أقرّ به  .. وفي الأعيان أجحده .. فيعرفني وأنكره أي هو من حيث هو يعرفني على كلّ حال .)
وأمّا « أنكره » أي هو من حيث هو يعرفني على كل حال وأنا أنكره حال ظهوره في صور الأعيان المحدثة.
قال  رضي الله عنه  : ( وأعرفه فأشهده ) .
يعني  رضي الله عنه  : أنا في نفس الأمر أعرفه وأشهده ، لكون المعرفة والشهود من مقتضى حقيقتي منه ، فهو يعطي المعرفة والشهود .
قال  رضي الله عنه  : (وأنّى بالغنى وأنا  ... أساعده وأسعده ؟)
يشير رضي الله عنه  : إلى توقّف النسب الأسمائية على الأعيان الكونية ، فإنّ الإلهية متوقّفة على العبودية ، فهو - من حيث إنّيّتي العبدانية - يساعده بي ويسعده .
كما قال الله  تعالى : " إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ".
والنصر : المساعدة والإسعاد في تحقيق الربوبية والألوهيّة ، وحسن تأتّي القابل في كمال مظهريته لربّه إسعاده له ، فإنّ سعادة الحقائق والنسب الأسمائية أن تظهر آثارها في مظاهرها ، كما قلنا في كتاب « المنازل » لنا :وإذ الحقائق لم تبن آثارها
عدّت من الأموات لا الأحياء.
قال رضي الله عنه : 
(
 لذلك الحقّ أوجدني    ..... فأعلمه وأوجده)
يعني : أنّما أوجدني الحق مظهرا له ومظهرا ، فأوجده في العلم صورة مطابقة لما هو عليه في العين .
قال رضي الله عنه : 
(
 بذا جاء الحديث لنا   .... وحقّق في مقصده)
جاء في الحديث الثابت عنه عليه السّلام حكاية عن الله - تعالى - : « قد مثّلوني بين أعينهم » أي أوجدوا مثالي في رأي أعينهم علما وشهودا ، فكلّ من كان في علمه بالله أصحّ تصوّرا للحق ، فقد أوجده في علمه وشهوده .
قال رضي الله عنه : ( ولمّا كان للخليل هذه المرتبة - التي بها سمّي خليلا - لذلك سنّ القرى. وجعله ابن مسرّة الجبليّ مع ميكائيل ملك الأرزاق ، وبالأرزاق يكون تغذّي المرزوقين ، فإذا تخلَّل الرزق ذات المرزوق - بحيث لا يبقى فيه شيء إلَّا تخلَّله - فإنّ الغذاء يسري في جميع أجزاء المغتذي كلَّها ، وما هناك أجزاء ،فلا بدّ أن يتخلَّل جميع المقامات الإلهية المعبّر عنها بالأسماء ، فتظهر بها ذاته جلّ وعلا ).
قال العبد : لمّا تخلَّل إبراهيم - بكمال مظهريته وسعتها وحيطة فلك قابليته - جميع المقامات الإلهية - التي ظهر بها المسمّى وتخلَّله - وسرى فيها سراية الرزق في أجزاء بدن المرزوق ، فصار غذاء له ، وكذلك الوجود الحق سرى - بأحدية جمع النفس الساري من حضرة جمع الجمع - في حقائق إبراهيم عليه السّلام وصار غذاء له ، ولولا سرايته فيه بالصورة ، لما وجد ، فغذّى  إبراهيم عليه السّلام - من حسن مظهريته وكمال قابليته - بأحكام عينه الوجود الواحد الأحد ، وغذّي أيضا بالوجود الحق حقائق عينه التي هي شؤون الحق وصور أنانيّته العينية ، ظهر لذلك في حاله سرّ هذه الحقيقة ، فسنّ القرى للبادي والحاضر ، وغذّى الخلائق من كلّ وارد وصادر ، وواخى الله بينه وبين ميكائيل ، ملك الأرزاق على مذهب ابن مسرّة الجبليّ ، فإنّ حملة العرش ثمانية يوم الفصل  والقضاء ، أربعة منهم الملائكة الأربعة : جبرئيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، وقد اختلف فيهم وفي الأنبياء الذين هم معه في حوله ، فجعل ابن مسرّة إبراهيم مع ميكائيل .
قال رضي الله عنه :
فنحن له كما ثبتت   .... أدلَّتنا ونحن لنا)
يعني :  نحن  معاشر الكمّل قائمون بالحق على ما ثبتت الأدلَّة الكشفية ، فنحن بحقائقنا الذاتية شؤون الحق وأحوال ، وفيه صور ونسب ذاتية له ، وكذلك من حيث وجوداتنا المشهودة وإنائيّاتنا الظاهرة المعهودة الموجودة نحن لنا من حيث أعياننا ، فإنّا من حيث صورنا العينية تماثيل وأشخاص وجوده لحقائقنا وأعياننا العينية .
قال رضي الله عنه :
(وليس  له سوى كوني   ....      فنحن له كنحن بنا)
يعني : ليس للحق مظهر أتمّ وأكمل من الإنسان الجامع وهو الإنسان الكامل .
أو الإنسان المفصّل وهو العالم فنحن بمظهرياتنا وعبدانيّاتنا وظهوره بنا كنحن من حيث أعياننا وحقائقنا قائمون بصور وجوده .
فنحن لوجوده الحق في الوجود العيني كنحن له من حيث أعياننا في الوجود العلمي العيني ، فهو باطننا ونحن ظاهره قائمون به وبوجوده ، وهو ظاهر بنا وفينا أو بالعكس ، فلا ننفكّ عنه ولا ينفكّ عنّا .
قال  رضي الله عنه  :
(فلي وجهان هو وأنا    ...... وليس له أنا بأنا)
يعني رضي الله عنه - : أنّ « أنا » لفظ لا يصلح لإنائيّته إلَّا لفظا لا حقيقة ، وظهور إنائيته حقيقة في الوجود العيني إنّما هو بالإنسان الكامل .
لأنّ الإنسان الكامل له وجه إلى الحق المطلق وهو باطنه وهويته الغيبية .
ووجه أيضا كذلك إلى العالم وهو إنائيته وظاهريته ، وحيث لا تصلح لفظة « أنا » لظهور إنائيته - تعالى - فظهورها في إنّيّات الموجودات كلَّها تفصيلا أسمائيا ، وفي إنائية الإنسان الكامل جمعا ذاتيّا .
قال رضي الله عنه :
(ولكن في مظهره  .... فنحن له كمثل إنا)
يعني رضي الله عنه : ظهور إنائيّة الحق حقيقة في ، لأنّي إناء تعيّنه الجامع الأفضل ، وشخص إنّيّته الشامل الأكمل ، فالإنسان الكامل للحق كالإناء ، فإنّه ظاهر فيه ، ومتعيّن به كتعيّن ما في الإناء بالإناء ، فإنّيّته لهوية الحق إناء ، فافهم .
وقد قلنا في هذا المقام ، شعر :
يقولون لون الماء لون إنائه     ..... أنا الآن من ماء إناء بلا لون.

" وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ "
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 06 . فصّ حكمة حقّية في كلمة إسحاقية الجزء الأول .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 10:03 pm

06 . فصّ حكمة حقّية في كلمة إسحاقية الجزء الأول .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الإسحاقي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
06 . فصّ حكمة حقّية في كلمة إسحاقية   الجزء الأول
قد ذكر سرّ استناد الحكمة إلى الكلمة في الفهرس ، فليطلب من ثمّ .
ثم قال رضي الله عنه :
فداء نبيّ ذبح ذبح لقربان   .... وأين ثؤاج الكبش من نوس إنسان ؟
يعني رضي الله عنه : نفسي فداء لنبيّ جعل ذبحا عن ذبح قربان أمر إبراهيم عليه السّلام أن يقرّبه قربانا لله تعالى .
وأنّه عليه السّلام إنّما أمر أن يذبح قربانا يناسب سرّ قربانه بنفسه من حيث حقيقة الإسلام الذي هو الانقياد الحقيقي الكلَّي لله من كلّ وجه وهو ذبح النفس ، تفدية وقربانا لخليله الذي أسلم له.
ويحقّ أن يكون النفس الكاملة قربانا للحق وهذا سرّ كماليّ إلهيّ يقتضيه مقام الخلَّة ، فظهر هذا السرّ على يدي إبراهيم بالقربان الذي وقع به الذبح ، أعني الكبش الظاهر بصورة ابنه .
وكان في الحقيقة كبشا هو صورة سرّ إسلام إبراهيم وابنه .
قال : « وأين ثؤاج الكبش من نوس إنسان ؟ » يستبعد رضي الله عنه : قيام الكبش في وقوع الذبح به قربانا لله ، والذبح بكسر الذال هو المذبوح قربانا لله ، ولمّا تصوّر الكبش بصورة ابنه في منامه ، قصد عليه السّلام ذبحه قربانا لله .
وسرّ ذلك أنّ الخليل عليه السّلام لمّا أسلم لله حقّ الإسلام ، أراد أن يقرّب بنفسه ، إذ لم يكن عنده أعزّ من نفسه وهو حقيقة الإسلام ، قال : "إِنَّ الله اشْتَرى من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ  وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ " . 111 سورة التوبة
وكما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم - حين تحقّق بالفناء الكلَّي في الله بسرّ الإسلام : « وددت أن أقاتل في سبيل الله ، فأقتل ، ثمّ أحيا ، ثمّ أقاتل فأقتل ، ثم أحيا فأقاتل ، فأقتل ».
فهذه ثلاث مراتب للحقيقة الإسلامية المحمدية ، فإنّ له مبدأ وسطا ونهاية .
فمبدأ التقرّب بالمال وما له في سبيل الله ،
والوسط الخروج والتقرّب بجسمانيته لله تعالى ،
والغاية التقرّب بروحه ونفسه إن كان له نفس .
فلمّا قام إبراهيم عليه السّلام بحقيقة الإسلام ، همّ أن يتقرّب بنفسه إلى الله ، بعد خروجه من ماله ، فكشف الله له عن سرّ إسلامه أنّه صورة استسلامه وانقياده لله ، وأنّه مؤهّل لأسرار أخر أكمل منه أوّلها الإسلام - وهو الانقياد الجسماني - ثم الإيمان ، ثم الإحسان ، ثم الولاية ، ثم النبوّة ، ثم الرسالة ، ثم الخلافة - وأوّلها الإمامة والخلَّة - ثمّ الاستخلاف ولا نهاية للدرجات الأكملية.
ففداه الله بذبح عظيم وهو الكبش ، لمناسبته في سلامة النفس واستسلامه للذبح بالفاني عن نفسه ، المقرّب بروحه لله وتشخّص لإبراهيم في المنام بصورة ابنه عليه السّلام لأنّه صورة سرّ إسلام إبراهيم والولد سرّ أبيه ، ولهذا أسلم نفسه للقتل " فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّه ُ لِلْجَبِينِ "  أوحي إليه أنّ المؤهّل للذبح ظاهرا هو الكبش لا الإنسان ، فإنّ الإنسان قائم بحقيقة الأمر وباطن السرّ ، حيث فني عن نفسه ، وأسلم حقيقة لربّ العالمين .
""أضاف الجامع يقول الشيخ الشعراني في الطبقات الكبرى عن سيدي علي وفا وولده : أي ظهر، وتجلى لها عين معنى قولا لملائكة لجده إبراهيم عن جده إسحاق " بشرناك بالحق " بعد ما سموه غلاما عليما، والولد سر أبيه، وهذا هو المراد بإتمام النعمة عليه، وعلى آل يعقوب ثم إنه عرفه أن الربوبية له من دائرة العليم الحكيم فقال: " إن ربك عليم حكيم " فافهم،أهـ .""
"" قال كمال الدين عبد الرزاق القاشاني: "واعلم أن النيّات وهيئات النفس مؤثرة في نفس الولد, كما أن الأغذية مؤثرة في بدنه.  فمن كان غذاؤه حلالاً طيباً وهيئات نفسه نورية ونيّاته صادقة حقانيّة, جاء ولده مؤمناً صديقاً أو وليّاً أو نبيّاً. ومن كان غذاؤه حراماً وهيئات نفسه ظلمانية خبيثة ونياته فاسدة رديئة جاء ولده فاسقاً أو كافراً خبيثاً. إذ النطفة التي يتكوّن الولد منها متولدة من ذلك الغذاء, مربّاة بتلك النفس, فتناسبها. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد سرّ أبيه ".أهـ ""
وأمّا صورة هذا السرّ في الشاهد فإنّما هو الكبش ، أوجده الله للذبح على يد الإنسان وفيه كماله ، وبذلك يبلغ درجة الإنسان ، فافهم .
قال - رضي الله عنه - :
وعظَّمه الله العظيم عناية     ..... بنا أو به لا أدر من أيّ ميزان ؟
قال العبد : أسقط الياء - وفيه لطف تسويغ لذلك مع سوغان « لم أدر » أو « لم يدر » مبنيّا
للمفعول - ، احترازا عن محذور وهو نفي ما هو ثابت عنه وتحقّق ، لعلمه رضي الله عنه - :
أنّ نيابة الكبش عن خليفة الله في القربات لمناسبة صحيحة بينه وبين الإنسان ، فعظَّمه الله أي الفداء بما أقامه مقام أشرف عبيده في أشرف القربات إليه ، تشريفا له بذلك وتشريفا وتعظيما للصورة الإنسانية التي إبراهيم وابنه عليها أن يقتل أو يقع عليه الذبح .
فإنّها صورة الله ، فهي أعظم أن يقرّب به لعظمة صورة الله التي هو عليها ، فقوله : « لا أدر » مع درايته إشارة منه إلى أنّ الوجهين معا صادقان في ذلك .
قال رضي الله عنه :
ولا شكّ أنّ البدن أعظم قيمة       ..... وقد نزلت عن ذبح كبش لقربان
يريد رضي الله عنه أنّ قيمة البدن أعظم من الكبش بالضعف وأكثر ، رعاية لجانب الفقير ، ولهذا تجزي في الضحايا عن سبعة ، ولكن ليست البدن مخلوقة للاستسلام - كما مرّ - دون أمر ، فإنّ البدن تركب وتحلب وقد تذبح للقربان ، والغنم ليس إلَّا للذبح ،والحلب والنتاج تبع لذلك بخلاف البدن.
قال رضي الله عنه  :
فيا ليت شعري كيف ناب بذاته   .... شخيص كبيش عن خليفة رحمان ؟ !
يحرّض رضي الله عنه على دراية هذا السرّ الذي استقصينا القول في بيانه ها هنا ، وقبله في شرح فصّ إبراهيم في الفهرست ، فانظر .
قال رضي الله عنه :
ألم تر أنّ الأمر فيه مرتّب    ..... وفاء لإرباح ونقص لخسران ؟
يعني رضي الله عنه : أنّ الأقدار في قيم الأشياء مرتّبة ، فمن فدي نفسه في سبيل الله بذات غالية القيمة ، عالية المنزلة ، فهو أعلى وأغلى ، فمن يفدى بما دون ذلك فكان ينبغي أن يفدى بالبدن كما فدي والد رسول الله ، عبد الله بن عبد المطَّلب على ما عرف واشتهر ، ولكنّ السرّ ما ذكرنا .
قال رضي الله عنه :
فلا خلق أعلى من جماد وبعده     ..... نبات على قدر يكون وأوزان
وذو الحسّ بعد النبت والكلّ عارف  ..... بخلَّاقه كشفا وإيضاح برهان
وأمّا المسمّى آدما فمقيّد       ..... بعقل وفكر أو قلادة إيمان
بذا قال سهل والمحقّق مثلنا    ..... لأنّا وإيّاهم بمنزل إحسان
يريد رضي الله عنه : أنّ الكبش وإن نزل من كونه حيوانا على درجة الإنسان الكامل ، وينقص في الدلالة والمعرفة والمظهرية عن الكامل ، ولكنّه أعلى من الإنسان الحيوان ، لكون الكبش عارفا بخلَّاقه كشفا وبالذات والحقيقة ، لا بالفكر والعقل كالإنسان الحيوان .
فإنّ معرفة العارف من الإنسان الحيوان معرفة نظرية استدلاليّة وقد لا تطابق الواقع في نفس الأمر ، لإمكان وقوع خلاف نظره واستدلاله في نظر ذي نظر واستدلال آخر من وجه آخر ، بخلافه دلالة الحيوان ومعرفته الذاتية الفطرية التي فطره الله عليها ، إذ لا خلاف في ذلك أصلا ، لكونه فطر عليه.
فإن قلت : وكذلك الإنسان ، فطره الله على معرفته .
قلنا : نعم ، ولكنّ الإنسان الحيوان غيّر معرفته الفطرية ، وما زج بها وخلطها بتصرّفات فكرية ، وحركات إراديّة نفسية ، ومعنى قوله تعالى  : "فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها " .
أنّ المعنيّ بـ " الناس " الكمّل ، لا الإنسان الحيوان إلَّا من حيث ما أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « كلّ مولود يولد على الفطرة - وبرواية - على فطرته ، فأبواه يهوّدانه ويمجّسانه وينصّرانه » الحديث .
وأعلى المخلوقات في هذا الكشف والمعرفة المعدن والجماد ، لكونه أبقى وأدوم على هذه المعرفة الذاتية الفطرية ، وليس فيه أصلا تغيّر عن جبلَّته الفطرية ما دام ذاته ،
والجماد كامل التأتّي والقبول الانقيادي الذاتي لكلّ ما تصرّف فيه متصرّف عليهم بمصارف تصريفه بلا تأبّ ولا تصرّف مخرج له عن كمال الانقياد والطاعة الذاتيّين لله فاطر السماوات والأرض وما بينهما .
فالجماد أتمّ في هذا النوع من المعرفة ، فإنّه تحقّق بالذات والمرتبة والوجود أن لا متصرّف إلَّا الله ، ولا تصرّف إلَّا لله ، فهو بالحقيقة والوجود والمرتبة مستسلم ، منقاد ، قابل ، مطوع لما أراد الله منه .
ودونه في المرتبة النبات النموّ ولكن تلك الحركة الطبيعية الفطرية بالنموّ تضاف إليه عرفا ، فيقال فيه : إنّه جسم نام ، فذلك نوع تصرّف طبيعي زاد على أصل الفطرة التي للجماد ، وبهذا تنقص معرفته عن معرفة الجماد .
وكذلك الحيوان ذو الحسّ والحركة الإرادية ، ينقص في المعرفة المذكورة عن النبات ، لزيادة تصرّف وحركة في الحيوان بحيوانيته ، فينقص بقدر ما زاد على الجماد الثابت على أصل المعرفة الفطرية ، وعلى النبات بل بالضعف .
ثم الإنسان الحيوان ينقص عن سائر الحيوان والنبات والجماد في هذه المعرفة النزيهة الفطرية الإلهية غير المتغيّرة بالآثار النفسية والتصرّفات العرضية غير الذاتية ، وفي الحيوان تحقّق بها الغنم ، فانظر كمال انقياده واستسلامه لأمر الله بالذبح فيه.
فإن لم تشهد ما يشهدك الله فآمن بما قال الصحابيّ عن بدن النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حين أمر النبيّ عليه السّلام بتقريبها لله قرابين : إنّها جعلت يزدلفن إليه بأيّهنّ يبدأ في قربانه .
فكن يا أخي ! إمّا من أرباب القلوب الذين يشهدون الله بقلوبهم ، ويشهدون الأمر على ما هو عليه الأمر في نفسه عند الله .
أو ألق السمع وأنت شهيد ، تحظ بدرجة الإيمان .
إن لم ترق إلى ذروة فلك الإحسان ، وهو العلم والشهود والكشف والعيان ، التي أوتيها الإنسان أعني الكامل فقام بمظهريته الجامعة الكاملة لله .
وعرفه حقّ المعرفة حين قصر عن ذلك الإنسان الحيوان وسائر المخلوقات في الأرضين والسماوات ، ومن المبدعات جميع الروحانيات السفليات والعلويات ، ولكنّ الإنسان الحيوان تصرّف في فطرته الظاهرة ، وأحدث أحكاما بعقله ووهمه ، أو بموجب حدسه وظنّه وفهمه في زعمه ومبلغ علمه وإيمانه ، وكشفه مقيّدا لمطلق ، وحصره في مقتضى مدركه وموجب
فكره وعقله ، وجرمه بجرمه في حكمه فكان من " بِالأَخْسَرِينَ أَعْمالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ".
فلهم الفرض والتقدير والحسبان ، ولنا بحمد الله التحقيق والإيمان ، والكشف والعيان ، والشهود والإيقان ،والعلم والبيان ،والحمد لله وليّ الإحسان.
قال رضي الله عنه :
فمن شهد الأمر الذي قد شهدته .....   يقول بقولي في خفاء وإعلان
ولا تلتفت قولا يخالف قولنا     ......   ولا تبذر السمراء في أرض عميان
هم الصمّ والبكم الذين أتى بهم ......    لأسماعنا المعصوم في نصّ قرآن
يعني رضي الله عنه : من شهد الحقّ متعيّنا في الأعيان الوجودية ، عرف أنّ دلالاتها على الحق ذاتية فطرية ، وعلومها بموجدها بموجب وجودها وفطرها لا بموجب فكرها ونظرها ، وهذا العلم هو المعتبر عند معتبرها ، ومن لم يشهدها كذلك ، فقد شهد حجابيّات الأشياء ، ولم ير الحق الموجود المشهود ، فعمي عن الحق ، فإذا أخبر بخلاف مدركه ، لم يسمع فهو الأصمّ ، وليس له أن ينطق بالحق عن الحق ، فهو أبكم ، ولذلك نفى الله عن المحجوبين السمع والبصر والعقل والبيان والنطق منفيّا عندهم وهو شهود وجه الحق في كل مشهود ، والسماع عن الحق في كل نطق وناطق ، والنطق بالحق كذلك ، فـ " لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها " فافهم .
قال رضي الله عنه : اعلم أيّدنا الله وإيّاك أنّ إبراهيم الخليل عليه السّلام قال لابنه :
" إِنِّي أَرى في الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ "  والمنام حضرة الخيال فلم يعبّرها ، وكان كبشا ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام ، فصدّق إبراهيم الرؤيا ، ففداه ربّه من وهم إبراهيم بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند الله وهو لا يشعر ، فالتجلَّي الصوري في حضرة الخيال يحتاج  إلى علم آخر به يدرك ما أراد الله بتلك الصورة .
ألا ترى كيف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في تعبيره الرؤيا : « أصبت بعضا وأخطأت بعضا » .  فسأله أبو بكر أن يعرّفه ما أصاب فيه وما أخطأ ، فلم يفعل صلى الله عليه وسلم .
قال العبد : حضرة المثال وحضرة الخيال حضرة تجسّد المعاني والحقائق والأرواح والأنفس وحقائق الصور والأشكال والهيئات الاجتماعية ، فمن رأى صورة أو شكلا أو هيئة ولم يعبّرها ولم يؤولها إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الشكل أو الصورة والهيئة التي رأى في الرؤيا ، فقد صدّق الرؤيا .
ومن عبّرها صدق في الرؤيا حيث أعطى الحضرة حقّها فعبّرها ، فلو عبّر إبراهيم رؤياه صدق أنّ الذبح هو الكبش ولم يكذب الذبح الواقع بابنه ، ولكن كان كبشا ظهر في صورة ابنه ، فصدّقها ، فأراد إيقاع الذبح بابنه فما صدق ، أي لم يقع ، وسنذكر سبب ذلك .
قال رضي الله عنه : وقال الله لإبراهيم حين ناداه : " أَنْ يا إِبْراهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ".
وما قال له : قد صدقت في الرؤيا أنّه ابنك ، لأنّه ما عبّرها ، بل أخذ بظاهر ما رأى ، والرؤيا تطلب التعبير   .
يعني رضي الله عنه : صدّقت تجسّد الذبح بصورة ابنك ، وليس كذلك ، فإنّ الرؤيا تطلب التعبير والتفسير .
قال رضي الله عنه : ولذلك قال العزيز : " إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ " ومعنى التعبير الجواز من صورة ما رآه إلى أمر آخر ، فكان البقر سنين في المحل والخصب  .
يعني : كانت البقرة العجاف سبع سنين في المحل ، والسمان في الخصب .
فلو صدق في الرؤيا ، لذبح ابنه ، وإنّما صدّق الرؤيا في أنّ ذلك عين ولده ، وما كان عند الله إلَّا الذبح العظيم في صورة ولده ، ففداه لما وقع في ذهن إبراهيم عليه السّلام ما هو فداء في نفس الأمر عند الله ، فصوّر الحسّ الذبح ، وصوّر الخيال ابن إبراهيم عليه السّلام   .
يعني : أنّ إبراهيم لمّا صدق في حقيقة إيمانه بالله وإسلامه له ، عوّده الله بتجسيد الوحي والأمور له على صورة ما كان يرى في منامه ، فكان عليه السّلام يرى رؤيا غير هذا المشهد ، فيقع في الحسّ رؤياه على صورة ما كان يرى عليه السّلام من غير تعبير يحوج إلى تفسير وتأويل وتعبير ، فصدّق بحكم ما اعتاد هذه الرؤيا أيضا على صورة ما رأى من غير تعبير ، وكان الله قد ابتلاه في ذلك بلاء حسنا ، أي اختبره ، بمعنى أعطاه الخبرة ، فإنّ الله كان خبيرا خبرة مبيّنة ، جلية الأمر ومبيّنة عن كشفه مقتضى الوهم والخيال بالفكر .
فلمّا ظهر صدق إيمانه وصدقه في إسلامه وإسلام ابنه في تصديق رؤيا أظهرها الله له ، وأبان صدق ما رأى ، ففداه بذبح عظيم ، فعلم إبراهيم عليه السّلام أنّ الذي رآه في نومه على صورة ابنه كان الذبح العظيم لا ابنه ، لأنّه ذبح ما رأى في المنام ، فلمّا كذب صورة الذبح الذي رآه ، فلم يقدر على ذبح ابنه ، حقّق الله له صورة الذبح ، وصدّق إبراهيم ففداه بالذبح العظيم ، ووقع به صورة الذبح ، فعلم عليه السّلام عند ذلك أنّ ما رأى كان كبشا في صورة ابنه ، لمناسبة ذكرنا ، فتذكَّر .
قال رضي الله عنه : " فلو رأى الكبش في الخيال ، لعبّره بابنه أو بأمر آخر " .
يعني رضي الله عنه : كما عبّر الحق له رؤياه بما فداه بالذبح ، فكذلك لو رأى أمرا في صورة الذبح ، لعبّره بذلك الأمر وهو إسلامه أو بابنه أنّه صورة إسلامه ، لكون الولد سرّ أبيه .
قال : « ثم قال : " إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ " آيه 37 سورة الصافات . أي الاختبار الظاهر ، يعني الاختبار في العلم : هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا ؟
لأنّه يعلم أنّ موطن الرؤيا يطلب التعبير ، ففعل ، فما وفّى الموطن حقّه ، وصدّق الرؤيا لهذا السبب .
كما فعل تقيّ بن مخلَّد ، الإمام صاحب المسند ، سمع في الخبر الذي ثبت عنده أنّه عليه السّلام قال : « من رآني في المنام ، فقد رآني في اليقظة ، فإنّ الشيطان لا يتمثّل على صورتي » فرآه تقيّ بن مخلَّد وسقاه النبيّ صلَّى الله عليه وسلم في هذه الرؤيا لبنا فصدّق تقيّ بن مخلَّد رؤياه ، فاستقى ، فقاء لبنا ، ولو عبّر رؤياه ، لكان ذلك اللبن علما ، فحرمه الله العلم الكثير على قدر ما شرب .
ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي في المنام بقدح لبن قال : « فشربته حتى خرج الرّيّ من أظافيري ثم أعطيت فضلي عمر . قيل : ما أوّلته يا رسول الله ؟
قال : « العلم » وما تركه لبنا على صورة ما رآه ، لعلمه بموطن الرؤيا وما تقتضي من التعبير"   .
قال العبد : اعلم أنّ الأمور المغيبة عن العبد إذا أراد الله أن يطلع العبد عليها ويشهده ما شاء منها قبل الوقوع ، فإنّه تعالى يمثّل له ذلك في منامه في صورة مناسبة لذلك الأمر في المعنى ، كظهور العلم الفطري في صورة اللبن ، لكون اللبن غذاء لصورته الجسدية من أوّل الفطرة ، كالعلم الذي هو غذاء روح المؤمن من أوّل فطرة الروح .
وكذلك الماء والعسل والخمر صور علم الوحي والإلقاء والحال ، إذا جسد الله لعبده هذه الحقائق على هذه الصور ، فينبغي أن يكون صاحب كشف الصور الذي يجسّد الله ويمثّل له المعاني والأمور الغيبية صورا مثالية وأمثلة جسدية محسوسة من الله على علم آخر من الكشف المعنوي يكشف عن وجه ذلك المعنى المعنيّ له قناع الصور والأمثلة الإلهية ، وهو كشف عال ، وعلم شريف ، يؤتيه الله من شاء من عباده المصطفين المعتنين ، ليس علم التعبير الذي يأخذونه من كتب التعبير .
وذلك أيضا بالنسبة إلى أوّل معبّر علَّمه الله تأويله كرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ويوسف الصدّيق عليه السّلام وابن سيرين ومعبّر قرطبة في هذه الأمّة وغيره ممّن وجد العلم من عند الله ، وأخذه منه من مشايخ الصوفية والمحقّقين منّا .
قال : "وقد علم أنّ صورة النبيّ التي شاهدها الحسّ أنّها في المدينة مدفونة ، وأنّ صورة روحه ولطيفته ما شاهدها أحد من أحد ولا من نفسه . كلّ روح بهذه المثابة " .
يعني رضي الله عنه : أنّ الصورة العنصرية المشهودة في الحسّ مدفونة في المدينة لا تتعلَّق رؤية أحد بها ، والصورة الروحانية النورية التي لروحه صلَّى الله عليه وسلم في مظهريته لله تعالى لا يراها أحد من غير رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولا من نفسه أنّه يظهر بتلك الصورة المقدّسة ، لكونها خاصّة بالنبيّ صلى الله عليه وسلم .
وكذلك صورة روح كلّ أحد ، لا يتمثّل بها وفيها إلَّا روحه لا روح أحد غيره .
قال رضي الله عنه : " فيتجسّد للرائي روح النبيّ في المنام بصورة جسده » يعني بصورة مثالية شبيهة بصورة جسده كما مات عليه لا يخرم منه شيئا فهو محمّد صلى الله عليه وسلم المرئيّ من حيث روحه في صورة جسدية تشبه المدفونة لا يمكن لشيطان أن يتجسّد بصورة جسده ، عصمة من الله في حق الرائي ، ولهذا من رآه بهذه الصورة ، يأخذ عنه جميع ما أمر به ، ونهاه عنه أو يخبره ، كما كان يأخذ عنه في الحياة الدنيا من الأحكام على حسب ما يكون منه اللفظ الدالّ عليه من نصّ أو ظاهر أو مجمل أو ما كان."
يعني رضي الله عنه : لا تأويل لما قاله ، بل يقتصر على مدلول لفظه صلَّى الله عليه وسلَّم لكون المراد ذلك المدلول لا غير ، ولو كان المراد غيره ، لقال لفظا دالَّا على ذلك ، فما في الأمر جهل .
قال رضي الله عنه : " فإن أعطاه شيئا ، فذلك الشيء هو الذي يدخله التأويل ،فإن خرج في الحسّ كما كان في الخيال فتلك رؤيا لا تعبير لها ".
قال العبد : إذا نزل على روح الرائي من الغيب أمر ، ظهر في الروح عكس ذلك الأمر انعكاسا نفسيّا ، ثم ينعكس عكس ذلك إلى مخيّلته ، فيتشكَّل ويتصوّر في الحسّ المشترك على صورة عكس العكس ، فيشبه الأصل ، فيخرج المنام في الحسّ على صورة ما رآه في المنام ، وهو كشف صوريّ ، فلا تعبير له .
قال رضي الله عنه:  " وبهذا القدر وعليه اعتمد إبراهيم الخليل عليه السّلام وتقيّ بن مخلَّد . ولمّا كان للرؤيا هذان الوجهان ، وعلَّمنا الله فيما فعل بإبراهيم وما قال له الأدب لما يعطيه مقام النبوّة ، علمنا في رؤيتنا الحق تعالى في صورة يردّها الدليل العقلي أن نعبّر تلك الصورة بالحق المشروع ، إمّا في حق الرائي ، أو المكان الذي رآه فيه ، أو هما معا ، فإن لم يردّها الدليل العقلي ، أبقيناها على ما رأيناها ، كما نرى الحقّ في الآخرة سواء " .
يعني رضي الله عنه : أنّ الحق إذا تجلَّى لشخص في صورة يردّها الدليل العقلي ، أوّلناه بالحق المشروع ، كما رأى بعض المسلمين الصالحين في بلاد الغرب الحق في دهليز بيت له ، فلم يلتفت إليه ولطمه في وجهه ، فلمّا استيقظ قلق قلقا شديدا .
فجاء الشيخ رضي الله عنه وأخبره بما رأى وفعل ، فلمّا رأى الشيخ على ذلك الرائي من القلق أمرا عظيما ، فقال له الشيخ : أين رأيته ؟
قال : في بيت لي اشتريته ،
قال الشيخ :ذلك الموضع مغصوب وهو حق للحق المشروع ، اشتريته ولم تجعل مالك منه ولم تف حقّ الشرع ، فاستدركه .
ففحص الرجل عن ذلك ، فإذا هو من وقف المسجد وقد بيع بغصب والرجل لم يعلمه ولم يلتفت إلى أمره ، فلمّا تحقّق ، ردّه إلى وقف المسجد ، واستغفر الله .
فمثل هذا إذا رئي ، دخله التأويل والتفصيل ، وإذا تجلَّى الحق في صورة لا يردّها الدليل العقلي ، فقد تجلَّى لنا ورأيناه بحمد الله ، كما نراه في الآخرة كالبدر ، 
وكما يتجلَّى لأهل المحشر في صورة تنكر ويتعوّذ منه ويعرف ويسجد له سواء بلا فرق في الحكم .
قال - رضي الله عنه :
فللواحد الرحمن في كلّ موطن     .... من الصور ما يخفى وما هو ظاهر
فإن قلت هذا الحقّ قد تك صادقا   ... وإن قلت أمرا آخرا أنت عابر
وما حكمه في موطن دون موطن  .... ولكنّه بالحق للخلق سافر
أي عابر من صورة ما رأيت إلى ما يؤول إليه تأويل الصورة ، يعني رضي الله عنه : أنّ الحق إذا تجلَّى في موطن ، فليس ذلك الموطن أولى بتجّليه من موطن آخر ، إذ المواطن بالنسبة إلى الحق على السواء ، ولكنّه تعالى بحقيقته يسفر عن وجه الحق للخلق ، هذا ظاهر مدلول العبارة.
وثمّ معنى لطيف كأنّه رضي الله عنه : إليه يومئ ، وهو أنّ الحق إذا تجلَّى لك أو للخلق ، فإنّما يتجلَّى من العين الثابتة التي للخلق ، فقد سفر في تجلَّيه بحقيقته ووجوده عن وجه الحق ، أي كشف صورة العين الخلقية الكونية ، وهي شأن من شؤونه ، كما مرّ ، فقوله : « سافر للخلق » يعني كاشف لصورة عين المتجلَّى له من الخلق .
قال رضي الله عنه  :
إذا ما تجلَّى للعيون تردّه     .... عقول ببرهان عليه تثابر
يعني رضي الله عنه:  إذا كان التجلَّي في صورة محسوسة ، وإذا كان حقّا في هذا الطور ، وعند الله في نفس الأمر ، ولكنّ العقل يتعاظم ذلك بالوهم ، ويستكبر ويبرهن بالتنزيه الوهمي ، على أنّه ليس بحق ، فإنّه يتعالى [ عن ] أن يظهر محسوسا في زعمه للحسّ في مبلغ علمه وإذن جاز في حقّه الجهة ، وحازه الحيّز والوجهة ، وأنّه يتعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، هذا غايتهم في برهانهم ، وهو عند التحقيق تنزيه وهمي ، وتحكَّم على الحقيقة بموجب عقله الفكري ، والحقّ نزّه نفسه عن هذا التنزيه.
فإنّه تبارك وتعالى مع أنّه تجلَّى عن التقيّد بالجهة لذاته .
فإنّه سبحانه متجلّ عن كلّ جهة ، غير متخلّ عن وجهة ، وإلَّا انحصر في اللاجهة ، وحدّ بخارج الجهة ، وهو ظاهر بكل أو جهة ، باطن عن كل وجهة ، لعدم انحصار حقيقته في الظهور بالجهة والبطون في اللاجهة ، "فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه ُ الله " ولكنّه غير مدرك للمقيّدين بمقتضى أفكارهم والمتعشقين بأوطانهم العرفية والعادية ، وأغطائهم الضنكة الاعتقادية وأوكارهم ، وهم المقيّدون للمطلق الذات في زعمهم ، والمتحكَّمون عليه بالانحصار والتحديد في مبلغ علمهم بوهمهم ، وتتعالى الذات المطلقة والمطلق الذات عن كل قيد وحصر ، تتعلَّق بكل حدّ وطور في حكم معيّن ، أو أمر موزّن بميزان نظري ، مقنّن بقانون فكري عقلا وحسّا تخمينا أو حدسا " ما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِه ِ " ، ولا وفوا النظر حقّه في حقّه .
قال رضي الله عنه  :
ويقبل في مجلى العقول وفي الذي    ..... يسمّى خيالا والصحيح النواظر
يعني رضي الله عنه : الرؤية إذا كانت في صورة عقلية غير محسوسة ولا متكيّفة بكيفية تشبه شيئا فيها ، فالفكر والمبرهن بفكره يقبلانها ويقبلان عليها ، ولا ينكرانها ، وكذلك إذا رأى في المنام خيالا ، أي صورة خيالية ، فإنّ العقل يجيزه ويقبله ويأخذه مقصورا على موطن الرؤيا ويعبّره ، والصحيح كشفا شهود العيون النواظر إليه في صورة تجلَّياته ظاهرا .
كما قال : " وُجُوه ٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ . إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ " فالنواظر غير المحجوبة نواظر للحق ، نواظر إلى الحق ، غير حاصرة له فيما ترى وتجلَّى لها .
قال رضي الله عنه : « يقول أبو يزيد البسطاميّ في هذا المقام : لو أنّ العرش وما حواه مائة ألف ألف مرّة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحسّ به هذا وسع أبي يزيد في عالم الأجسام ، بل أقول : [ لو ] أنّ ما لا يتناهى وجوده [ يقدّر انتهاء وجوده ] مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحسّ به في علمه" .
قال العبد : كلّ ما دخل في الوجود أو ما وجد إلى الإنسان - مثلا - فهو متناه محدود محصور ، وكذلك لو قدّر ما لا يتناهى متناهيا ، لكان الظاهر المتعيّن من الحق المطلق بإيجاد هذا المقدّر انتهاؤه من الممكنات بالنسبة إلى ما لم يتعيّن بالإيجاد من غيب الحق اللامتعيّن تعيّنا معيّنا ، وكلّ متعيّن محصور محدود بنفس تعيّنه وتميّزه من المطلق ، وقلب العارف الحقيقي لا يمتلي بتعيّن معيّن ، بل هو في محاذاة الحق المطلق أبدا .
قال - رضي الله عنه - : « فإنّه قد ثبت أنّ القلب وسع الحقّ ومع ذلك ما اتّصف بالرّيّ ، فلو امتلأ ارتوى . [ وقد قال ذلك أبو يزيد ] " .
يعني رضي الله عنه : يظهر العارف - من مطلق قابليته وقلبه لكل تجلّ من تجلَّيات الحق - مجلى يقبل به إلى التجلَّي فيقبله ، ولا ينقص ذلك من مطلق قابليته التي في مقابلة مطلق الغيب الذاتي أصلا ، ولا يمتلئ بذلك فلو امتلأ ارتوى ، والمحقّق المحنّك لا يرتوي ، وقد قال ذلك أبو يزيد البسطاميّ سلام الله عليه ، بل الرجل من يتحسّى بحار السماوات والأرض ولسانه خرج يلهب عطشا . 
يعني رضي الله عنه : أنّ تجلَّيات الحق الظاهر في السماوات والأرض لا يرتوي لها العارف ، فإنّه لا يحسّ بتجلَّيات الحق المتعيّن في العرش والكرسي اللذين فيهما السماوات السبع والأرضون السبع كحلقة ملقاة في أرض فلاة ، فانظر ما ذا ترى .
قال رضي الله عنه : « ولقد نبّهنا على هذا المقام بقولنا :
يا خالق الأشياء في نفسه    .... أنت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه فيك   ..... فأنت الضيّق الواسع
يشير - رضي الله عنه - : إلى الأحديّة الذاتية ، بمعنى أنّه هو الموجود وحده ليس لغيره حقيقة ولا وجود حقيقة ، فليس خلقه للأشياء خارجا عنه ، إذ لا خارج عنه ، لكونه هو هو وحده ، فلا خارج ولا داخل ، فهو جامع بذاته في نفسه لما يخلقه من الصور ،
لأنّه أحديّة جمع الجميع ، فالكلّ فيك ، ولولاك لما كان له وجود " إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّماواتِ " النورية الأسمائيّة الإلهية والسماوات الروحانية العلوية " وَالأَرْضَ " الخلقية الجسمانية " أَنْ تَزُولا " أي تزول الصورة العلوية السماوية والسفلية الأرضية - على ما ذكرنا - عن الوجود بانقطاع التجلَّي النوري الوجودي ، فإنّ الكلّ - مع قطع النظر عن التجلَّي عنه - يرجع بالطبع إلى عدميّة عينه " وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما من أَحَدٍ من بَعْدِه ِ إِنَّه ُ كانَ حَلِيماً " عند غلوّ صور الأشياء على الوجود الحق الحامل الممسك لها " غَفُوراً " .
أي ساترا بصور الأشياء وجه الوجود الحق المتعيّن فيها ، وإظهاره لها بظهور وجهه فيها لمن لا يرى غير وجه الحق من كل جهة ووجهة يخلق ما لا يتناهى كونه ، أي من صور الأشياء فيك أي في عين الوجود الحق من نفسك ونفسك ، فإنّه أنت الواسع الذي وسعت ما لا يتناهى من الممكنات غير المتناهية والأسماء الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء كذلك بما لا يتناهى له من وجودك الحقّ المفاض على صور الموجودات وماهيّاتها ومع عدم تناهي الكلّ ، فلا خارج عنك فلا محيص ولا مناص ولا محيد ولا مهرب ولا مخرج لها عنك ، لضيق الأشياء التي وسعتها ، فأنت من كونك عينها تسعها من حيث أنت أحديّة جمعها ، وتضيق عن نفسك من حيث هي وأنت هي حين ضاقت عنك ، فضاق بعضها عن بعضها ، فأنت الضيّق بهذا الاعتبار ، وأنت الواسع بالاعتبار الأوّل .
قال رضي الله عنه :
لو أنّ ما قد خلق الله ما     ..... لاح بقلبي فجره الساطع
في البيت تقديم وتأخير ، وتقديره : لو أنّ ما قد خلق الله بقلبي - أي لو كان فيه - ما ظهرت لائحة مع سطوع نوره الوجودي الذي وسع المخلوقات .
قال رضي الله عنه :
من وسع الحق فما ضاق عن  ..... خلق فكيف الأمر يا سامع ؟
يعني  رضي الله عنه: لمّا وسع قلبي الحق الذي وسعت رحمته كلّ شيء فأنّى يضيق عن خلق وسعه من وسعه وهو الله ؟ ، قال الله : ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن .
قال رضي الله عنه : « بالوهم يخلق كلّ إنسان في قوّة خياله ما لا وجود له إلَّا فيها ، وهذا هو الأمر العامّ ، والعارف يخلق بالهمّة ما يكون له وجود خارج محلّ الهمّة ، ولكن لا تزال الهمّة تحفظه ، ولا يؤودها حفظه أي حفظ ما خلقه ، فإذا طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق ،عدم ذلك المخلوق إلَّا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات وهو لا يغفل مطلقا.
بل لا بدّ له من حضرة يشهدها ،
قال الشيخ رضي الله عنه : فإذا خلق العارف بهمته ما خلق وله هذه الإحاطة ظهر ذلك الخلق بصورته في كلّ حضرة ، وصارت الصور يحفظ بعضها بعضا ، فإذا غفل العارف عن حضرة ما أو عن حضرات » . 
يعني من حضرات الوجود علوا وسفلا " -وهو شاهد حضرة ما من الحضرات ، حافظ لما فيها من صور خلقه - انحفظت جميع الصور بحفظ تلك الصورة الواحدة في الحضرة التي ما غفل عنها ، لأنّ الغفلة ما تعمّ قطَّ لا في العموم ولا في الخصوص".
قال العبد : خلق العارف بالهمّة هو باستجماعه في فكره ووهمه على إيجاد أمر ، وتعليق الهمّة بذلك وتسليط النفس عليه ، فإنّ الهمّة خلَّاقة ، وحيث كان موجب وجود ذلك الخلق جمعيّة الهمّة على وجوده ، وجمعيّة القلب ، واستجماع قواه ، والحضور ، فيجب استصحاب الموجب ، حتى يبقى مخلوق الهمّة ، بخلاف خلق الله ، فإنّه ليس باستجماع القوى ، ولكن لا بدّ من توجّهات الأسماء ثمّ أيضا ، وليس بالحضور الكلَّي معه من جميع الوجوه .
فإنّه لا يعزب عنه شيء أصلا ، بخلاف من يخلق بالهمّة ، فإنّه مهما غفل عمّا خلق ، بطل موجب ظهور المراد في خلقه ، فبطل المخلوق بالهمّة ببطلان موجبه ، ولكنّ العارف إذا لم يغفل مطلقا بل إن غفل عنه من وجه كان حاضرا به من جهة أخرى ، حفظ - بما حضر في حضرة - ما غفل عنه من جهة حضرة أخرى .
مثاله اجتمع عارف بقلبه وعلوّ همّته بكون أو خلق وتكوين كلَّي أو جزوي ، فإنّه - بمداومة تعليق الهمّة وتسليط النفس بجمع الهمّ والوهم - وجد خارج محلّ الهمّة ذلك الأمر المراد ، ولكن استمرار وجوده يتوقّف على استمرار موجبه وهو الحضور والجمعيّة ، فمهما غفل انخلع الوجود عن تلك الأمور ولا سيّما إذا علَّق همّته بكون ، ثمّ غاب عن موطن الحسّ وحضرة الشهادة بالنوم مثلا ، فلا يبقى موجب ظهور ذلك الأمر ، لعدم تعلَّق همّته بذاك إذ ذاك ، فيعدم ، ولكنّ العارف بعالم الحسّ وعالم الخيال والمثال وارتباط بعض هذه الحضرات بالبعض بالحق لا يغفل عن صورة ما خلق في حضرة الحسّ وهو في عالم المثال أو في الخيال ، يشهدها مخلوقة فيها موجودة فيحفظها ، فينحفظ بتلك الصورة المثالية أو الخيالية صورته الحسّيّة ، فافهم ، إن شاء الله ، ففيه دقّة ، فالطف وتلطَّف .
قال رضي الله عنه : « وقد أوضحت هنا سرّا لم يزل أهل الله يغارون على مثل هذا أن يظهر ، لما فيه من ردّ دعواهم أنّهم الحق ، فإنّ الحق لا يغفل والعبد لا بدّ له أن يغفل عن شيء دون شيء ، فمن حيث الحفظ لما خلق ، له أن يقول : « أنا الحق » ولكن ما حفظه لها حفظ الحقّ  .
قال العبد : إنّما يغارون على ظهور مثل هذا السرّ على أن يطَّلع عليه الدخيل المدّعي فيعلم الفرق بين الخلقين والحفظين فيردّ عليهم .
قال رضي الله عنه : « فقد بيّنّا الفرق ، ومن حيث ما غفل عن صورة أو حضرتها فقد تميّز العبد من الحق ، ولا بدّ أن يتميّز - مع بقاء الحفظ لجميع الصور - بحفظه صورة ما واحدة منها في الحضرة التي ما غفل عنها ، فهذا حفظ بالتضمّن ، وحفظ الحق ما خلق ليس كذلك ، بل حفظه لكلّ صورة على التعيين ، وهذه مسألة أخبرت أنّه ما سطرها أحد في كتاب لا أنا ولا غيري إلَّا في هذا الكتاب ، فهي يتيمة الوقت [ و ] فريدته ، فإيّاك أن تغفل عنها ، فإنّ تلك الحضرة - التي يبقى لك الحضور فيها مع الصورة مثلها مثل الكتاب الذي قال الله فيه : " ما فَرَّطْنا في الْكِتابِ من شَيْءٍ " ، فهو الجامع للواقع وغير الواقع ، ولا يعرف ما قلناه إلَّا من كان قرآنا في نفسه " .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الإنسان الكامل هو الجامع لجميع الحضرات ، فإذا غاب عن الحسّ ودخل عالم المثال ، فإنّ حضوره يستصحب معه صورة ما غاب عنه في الحسّ بعد خلقه بهمّته ، فيحضر بمثال صورة ما غفل عنه ، فيبقى ذلك المخلوق في الحسّ موجودا ، وهذا ليس إلَّا للجامع الكامل ، وله درجة القرآنية الجمعية الأحدية ، والأبرار والمتّقون بالتقوى العرفي يجعل الله لهم فرقانا ،والمقرّبون لهم القرآن الجامع ، وفرقانهم أرفع فرقان وتقواهم أعظم تقوى .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 06 . فصّ حكمة حقّية في كلمة إسحاقية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 10:05 pm

06 . فصّ حكمة حقّية في كلمة إسحاقية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

06 . فصّ حكمة حقّية في كلمة إسحاقية   الجزء الثاني
قال رضي الله عنه : "فإنّ المتّقي الله يجعل له فرقانا ، وهو مثل ما ذكرنا في هذه المسألة فيما يتميّز به العبد من الربّ ، وهذا الفرقان أرفع فرقان " .
قال رضي الله عنه :« فـ وقتا يكون العبد ربّا بلا شكّ » .يعني : الربوبية العرضية - من كونه ربّ المال والملك والملك - عرضت للعبد منه ، فحالت بينه وبين تحقّقه بالعبدانية المحضة التي ما شابها ربوبية ، ولا شأنها تصرّف وألوهية .

قال رضي الله عنه : « ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك »
يشير - رضي الله عنه - : إلى أنّ العبد إذا شاب عبوديته ربوبيّته ، فعبوديته وعبدانيته بالإفك ، ما هي خالصة ، لأنّ العبدانية لو كانت خالصة لله ما شابها ربوبية ، كما يكون العبد في وقت لا يتّصف فيه بالربوبية ، ولم يضف إلى نفسه فعلا ولا أثرا ، وأمسك عن التصرّفات النفسية إلَّا ما أمر به الشرع ، فافهم .
ثم اعلم : أنّ الوقت الذي يكون العبد الكامل فيه ربّا هو وقت خلافته عن الله ، فإذا نصّ على خلافته فهو الجامع إذن بين العبودية العظمى والربوبيّة الكبرى ، عبد لله ربّ للعالمين بالخلافة ، فإنّ الخليفة على صورة مستخلفه ، وربّه يخلقه ربّا للعالمين ،
وصورته التي خلقه - أي الخليفة - عليها هي الربوبية ، فافهم .
 
والوقت الذي يكون العبد عبدا بلا إفك هو زمان استخلافه لله بعد أنّ الله كان مستخلفا له ، وكان خليفة الله ، فصار مستخلفا لمستخلفه تحقّقا بالعبودية العامّة والمعرفة التامّة .
كقوله صلَّى الله عليه وسلم في هذا المقام : « اللَّهمّ أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل » فخلَّف الله على أهله ، وهو صاحبه في سفره إليه ومنه وفيه ، فافهم ، فهو الجامع بين الخلافة والاستخلاف ، وهو مقام الخلَّة العظمى ، الذي أشار إليه الخليل ، إنّما كنت خليلا من قراء وراء ، وهو ظاهر الخلافة المحمدية اذهبوا إلى محمّد ، فإنّه الخليل والحبيب ، فإنّ الخليفة إذا شغل بخلافته لله ، أحبّه الله .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر أمره - وهو على الطرفاء:
إنّي أبرأ إلى الله أن أتّخذ أحدا منكم خليلا ، ولو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا ، إنّ الله اتّخذني البارحة خليلا كما اتّخذ إبراهيم خليلا ، أوتيت مفاتيح خزائن السماوات والأرض » .
قال رضي الله عنه :
فإن كان عبدا كان بالحق واسعا  .....    وإن كان ربّا كان في عيشة ضنك
فمن كونه عبدا يرى عين نفسه   ....    وتتّسع الآمال منه بلا شكّ

قال العبد : إذا تحقّق الإنسان الكامل بالاستخلاف وتثبّت في مركزية فلك العبودية العظمى ، كان بلا شكّ واسعا بالحق ، ووسعه الحق بكل شيء ، فإنّه في وكالة الحق وكفالته بربوبيته ، وهو ربّ بالحقيقة ، فتتّسع آمال العبد في الله حقيقة ، فإنّ للآمال والآملين في فيحاء فضاء ربوبيته - تعالى - مجالا جليلا ، وظلَّا ظليلا ، وإن كان ربّا وظهر بربوبية عرضيّة ، لزمه القيام بربوبية من ظهر بعبوديته ، وحينئذ لم يقم بذلك حقّ القيام ، فإنّ الخليفة وإن كان فيه جميع ما يطلبه الرعايا ، ولكن ذلك غير ذاتي له ، بل مجعول فيه وله ، فقيامه بربوبيّة العالم بجعل الله وإن كان قبول ذلك باستعداد  غير مجعول .
ولكنّ الفرق بين الربوبية الذاتية والربوبية العرضية بيّن وإن كان الكلّ حقا للكلّ في الحقيقة ، ولكن لكل من الكلّ مستند أصيل في الكلّ هو له ذاتي كالنقائص والمذامّ والانفعال والتأثّر والفقر والعبودية ، فإنّها ذاتية للعبد والكون ، وللموجود الحق من حيث تعيّنه في العبد لا بالذات ، وللكون من حيث اتّصافه بالوجود ، فافهم .
قال رضي الله عنه :
ومن كونه ربّا يرى الخلق كلَّه    .....    يطالبه من حضرة الملك والملك
يعني - رضي الله عنه - : إذا ظهر بربوبية الخلافة ، توجّه الملك والملكوت والجبروت بمطالبة حقوقها منه ، إذ لا بدّ للخليفة أن يقوم بجميع ما للرعايا ، ولا شكّ أنّه يعجز عن ذلك ، لكون ربوبيته غير ذاتية .
قال رضي الله عنه :
ويعجز عمّا طالبوه بذاته       ....     لذا كان بعض العارفين به يبكي
وفي أكثر النسخ « لذا تر بعض العارفين » لعلمه بعدم قيامه بربوبية العالم - وفيه حذف الياء من « ترى » فكان يبكي حين طولب بما لم يحضره بالفعل في بعض الأوقات .
قال - رضي الله عنه - :
فكن عبد ربّ لا تكن ربّ عبده  ... فتذهب بالتعليق في النار والسبك
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 07 - فصّ حكمة عليّة في كلمة إسماعيلية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 10:24 pm

07 - فصّ حكمة عليّة في كلمة إسماعيلية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الإسماعيلي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

07 - فصّ حكمة عليّة في كلمة إسماعيلية

قال رضي الله عنه : ( اعلم أنّ مسمّى الله أحديّ بالذات ، كلّ بالأسماء ) .
قال العبد : يعني رضي الله عنه : أنّ المسمّى بالله في ذاته واحد أحد ، له أحدية جمع قهرت وغلبت الجمع ، فكان أحديا بالذات .
فهو وإن كان بالذات أحديّا لكنّه واحد ، وله نسب ذاتية كثيرة ، فإنّه نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة ، وربع الأربعة وغير ذلك من النسب التي لا تتناهى ، والواحد عين الكلّ في الوجود والكلّ فيه واحد ، فهو كلّ بهذه النسب ، لأنّه أحدية جمع الجمع ، فهو بذاته كامل الذات بالذات .
قال رضي الله عنه : ( فكلّ موجود ماله من الله إلَّا ربّه خاصّة ، يستحيل أن يكون له الكلّ ) .
يريد رضي الله عنه : أنّ الموجودات كلَّها وإن كانت تحت ربوبية الله وإلهيته والله هو ربّ الأرباب ، ولكن كل جنس جنس ، ونوع نوع ، وشخص شخص ، له حصّة خاصّة من مطلق ربوبية الله .
تربّيه وتقوم له بربوبية خاصّة لا تصلح لا تصلح إلَّا لذلك الموجود المخصوص ، كالربوبية الظاهرة من مطلق ربوبية الله للنيّر الأعظم مثلا وعليه وفيه وبه ربوبية بالملك والألوهة والسلطنة والغلبة والنور والحياة والتسخير وما يلائم ويشاكل هذه الحقائق ، والتي تختصّ بالمرّيخمثلامن العلويات ربوبية القهر والغلبة والشدّة والاستعلاء والقتل والفتك والإحراق والظلم والجور وما شاكل ذلك .
فهذه حقائق قامت بربوبية المرّيخ ، تستدعي من الله تعيّن الربوبية بالنسبة إليه فيه وعليه من حضرة الاسم : القادر ، القويّ ، القاهر ، الشديد ، الغالب ، ومنه وفي المخلوقات المنسوبة إلى فلكه الغالب على أمزجتهم وأخلاقهم وأفعالهم وآثارهم ما ذكرنا من الحقائق ، فافهم إن شاء الله.

وكذلك الربوبية الخصيصة بالمشتري ، فأرواح ذلك وملائكته بخلاف جميع ما ذكر في المرّيخ من العلم والحلم والصلاح والعفّة والرحمة والرأفة واللطف والطاعة لله والعبادة وما شاكل ذلك ، فيتعيّن من مطلق الربوبية لكلّ واحد من المربوبين العلويات والسفليات ربوبية خاصّة ، وهي حصّة من مطلق الربوبية ، فإنّ ذلك الموجود من النوع أو الشخص الإنساني مظهر لله ربّ العالمين من حيث تلك الربوبية الخاصّة ، وهو لها كالتمثال والصورة الظاهرة ، فإن عبد فهو حجابية ذلك الاسم وصورته ، والحق من حيث ذلك الوجه ربّه .

قال رضي الله عنه: (فلكل شخص اسم هو ربّه ذلك الشخص جسم وهو قلبه فيستحيل أن يكون لكل واحد واحد مجموع ما للربوبيّة الكلَّية الإلهية الأحدية الجمعيّة . )
قال رضي الله عنه : (وأمّا الأحدية الإلهية فما لأحد فيها قدم ، لأنّه لا يقال لواحد منها : شيء ،ولآخر منها : شيء ،لأنّها لا تقبل التبعيض ).
يعني رضي الله عنه: أنّ الأحدية الذاتية القائمة بمسمّى الله لا تنقسم ولا تتبعّض ولا تتجزّأ ، فهي الذات الأحدية الجمعية .
قال رضي الله عنه: ( فأحدية الله مجموع كلَّه بالقوّة ) .
يعني رضي الله عنه: أنّ جميع الربوبيات المتعيّنة في جميع المربوبين من جميع الحضرات الإلهية الأسمائية في الأحدّية الذاتية الإلهية بالقوّة والإجمال ، قد تفصّلت فيهم وبهم بالفعل .

قال رضي الله عنه: ( والسعيد من كان عند ربّه مرضيّا ، وما ثمّ إلَّا من هو مرضيّ عند ربّه ، لأنّه الذي يبقي عليه ربوبيّته ، فهو عنده مرضيّ ، فهو سعيد ).
ولهذا قال سهل رضي الله عنه: إنّ للربوبية سرّا وهو أنت يخاطب كلّ عين عين لو ظهر لبطلت الربوبية .
فأدخل عليه « لو » وهو حرف امتناع لامتناع ، فهو يعنى ذلك السرّ لا يظهر فلا تبطل الربوبية ، لأنّه لا وجود لعين إلَّا بربّه ، فالعين موجودة دائما ، فالربوبية لا تبطل دائما " .
يريد رضي الله عنه: أنّ الربوبية لمّا كانت من الحقائق الإضافية ، فلا تحقّق لها إلَّا بطرفيها ، فيتوقّف ظهورها على عبد مربوب ، والمفهوم من الربوبية عرفا أن يتوقّف عليها المربوب ، ولمّا لم تظهر إلَّا في كل عين عين من المربوبين ، كان كلّ عين عين سرّها الموجب لظهورها وتحقّقها ، فلو ظهر هذا السرّ لبطلت الربوبية المفهومة عرفا ولم تبطل حقيقة ، لأنّ الأعيان لا تظهر أبدا ، بل هي على حالها في غيب الله ، فلا تبطل الربوبية أبدا .

قال رضي الله عنه: ( وكلّ مرضيّ محبوب ، وكلّ ما يفعل المحبوب محبوب ، فكلَّه مرضيّ ، لأنّه لا فعل للعين ، بل الفعل لربّها فيها ، فاطمأنّت العين أن يضاف إليها فعل ، فكانت راضية بما يفعل فيها وعنها من أفعال ربّها ، مرضيّة تلك الأفعال ، لأنّ كل فاعل وصانع راض عن فعله وصنعته ، فإنّه وفّى فعله وصنعته حقّ ما هي عليه ) .
قال العبد : لمّا كان المربوب هو الذي يظهر ربوبية الربّ ، ويبقي عليه ربوبيّته ، ومطلوب الربّ من المربوب أن يكون مظهرا له يظهر فيه أفعاله وآثاره ، كما يحبّ ويرضى ، فقامت عين المربوب بما أراد ربّه منه من إظهار عينه ، فكان مرضيّا محبوبا لقيامها بما أحبّ ورضي.
والعين تحت الربوبية مسخّرة طوعا ، مطمئنّة قد مكَّنت ربّها الظاهر فيها أن يظهر عليها وعنها أفعاله ، فالفعل فيها إذن للربّ لا لها ، والربّ راض بفعله ، لعلمه أنّ ذلك الفعل المطلوب المحبوب لا يمكن وجوده إلَّا في هذا المربوب المحبوب ، فرضي الربّ عن عبده ، ورضي العبد عن ربّه في كل ما فعل فيه وبه ، فهو راض مرضيّ محبوب .

قال رضي الله عنه: (" أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ُ ثُمَّ هَدى " ، أي بيّن أنّه أعطى كلّ شيء خلقه ، فلا يقبل النقص والزيادة ) .
لمّا رضي كلّ ربّمن الأسماء الإلهية وحقائق الربوبية من الأعيانمظهرا أظهر عليه وفيه وبه أفعاله وآثاره ، كما يحبّ ويرضى ، وقد وفّى للمظهر حقّه ، فقد أعطى لكل شيء خلقه بموجب ما تقتضي خليقته ، فبيّن له بفعل ربّها فيها أنّها كانت على هذا الخلق والخلق الذي ظهر فيها وعليها .


قال رضي الله عنه: (فكان إسماعيل عليه السّلام بعثوره على ما ذكرناه"عِنْدَ رَبِّه ِ مَرْضِيًّا " وكذا كلّ موجود عند ربّه مرضيّ ، ولا يلزم على ما بيّنّاه إذا كان كل موجود عند ربّه مرضيّاأن يكون مرضيّا عند ربّ عبد آخر ، لأنّه ما أخذ الربوبية إلَّا من كلّ ، لا من واحد ، فما تعيّن له من الكلّ إلَّا ما يناسبه ، فهو ربّه خاصّة ، ولا يأخذه أحد من حيث أحديته).
يعني رضي الله عنه: أنّ حصّة كل أحد من مطلق الربوبية وإن كانت معيّنة مخصوصة ، ولكنّها ما تعيّنت ولا تخصّصت إلَّا من الكلّ بحسب خصوصيته ، فناسب خصوص قابليته من مطلق الربوبية ما اقتضته ، فرضي كل واحد من الربّ والمربوب بصاحبه ، لمناسبة معه ، ولا يلزم أن يناسب تلك الربوبية المخصوصة بخصوصية عين أخرى ، هذا ما لا يكون له أبدا ، فإنّ الخصوصيات تميّز بعضها عن بعضها بما به المباينة والامتياز ، فلا يتشارك في الخصوصيات ، فتكون كل عين مرضيّة عند ربّها خاصّة ، فلو أخذت الربوبية من واحد معيّن ، وأخذ منه كذلك غيرها ، لكانت الربوبية المعيّنة المخصوصة مشتركة .
ولكنّ المخصوصة غير مشتركة ، فما أخذت كلّ عين عين إلَّا من كلّ فيه مجموع ما للكلّ بالقوّة ، فلا تظهر بالفعل إلَّا بما يعيّنها ، وما تعيّنها إلَّا خصوصيات الأعيان بحسبها .

قال رضي الله عنه: ( ولهذا منع أهل الله التجلَّي في الأحدية ، فإنّك إن نظرته به فهو الناظر نفسه ، فما زال ناظرا نفسه بنفسه ، وإن نظرته بك فزالت الأحدية بك ، وإن نظرته به وبك فزالت الأحدية أيضا لأنّ ضمير التاء في « نظرته » ما هو عين المنظور ، فلا بدّ من وجود نسبة ما اقتضت أمرين : ناظرا ومنظورا ، فزالت الأحدية ، وإن كان لم ير نفسه إلَّا بنفسه ، ومعلوم أنّه في هذا الوصف ناظر ومنظور ، فالمرضيّ ما يصحّ أن يكون مرضيّا مطلقا إلَّا إذا كان جميع ما يظهر به من فعل الراضي فيه ) .
يعني سلام الله عليه: إذا امتنعت التجلَّيات في الأحدية ، فلا يظهر التجلَّي أبدا من أحدية الذات ، فيه بكلّ ما تطلبه الاستعدادات ما يقتضيه ذاته ، لا غير ، فكل أحد مرضيّ عند ربّه لا مطلقا ، فلو كان مرضيّا مطلقا ، لظهر به وفيه وعليه جميع ما تطلبه الربوبية الكلَّية من الأفعال والأحوال والأخلاق والآثار ، وليس كل أحد بهذه المثابة ، ولكنّ الإنسان الكامل الذي فيه جميع المظهريات بالفعل .

قال رضي الله عنه: ( ففضل " إسماعيل عليه السّلام غيره من الأعيان بما نعته الحقّ به من كونه عند ربّه مرضيّا ، وكذلك كلّ عين مطمئنّة قيل لها : " ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ " فما أمرها أن ترجع إلَّا إلى ربّها الذي دعاها فعرفته من الكلّ "راضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي في عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي " من حيث ما لهم هذا المقام .
والعباد المذكورون هنا كلّ عبد عرف ربّه ، واقتصر عليه ، ولم ينظر إلى ربّ غيره مع أحدية العين لا بدّ من ذلك ، وهو ظاهر).
يعني رضي الله عنه: العباد الذين فيهم تدخل النفس المطمئنّة تحت أوامر ربّها ونواهيه وأفعاله ، إذا دعيت إلى ربّها ، فأجابت النداء راضية مرضيّة فلا بدّ أن تدخل فيهم ، فإنّ المقام بينها وبينهم لكونهم جميعا راضين مرضيّين مطمئنّين مدعوّين .
قال رضي الله عنه: (« وادخلى جنّتى » التي بها ستري ، وليست جنّتي سواك ، فأنت تسترني بذاتك ، فلا أعرف إلَّا بك ، كما أنّك لا تكون إلَّا بي ، فمن عرفك عرفني وأنا لا أعرف فأنت لا تعرف ، فإذا دخلت جنّته ، دخلت نفسك ، فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربّك بمعرفتك إيّاها ).
فتكون صاحب معرفتين : معرفة به من حيث أنت ، ومعرفة به بك من حيث هو ، لا من حيث أنت » .
قال العبد : اشتقاق الجنّة من الستر ، وكلّ جنّة تجنّ أرضها بما عليها من النبات والشجر ، وهي بالنسبة إلى الجنّة مقامات ومنازل تلائمهم كلّ الملاءمة ، فكلّ عبد مرضيّ عند ربّه يلائمه بكونه مظهرا له في جميع ما يحبّ ويرضى أن يظهر فيه وبه ، فهو جنّة ربّه حيث ظهر ، وستر هو في مظهريته .
فجعل العبد نفسه وقاية لربّه وجنّة له من الأفعال والآثار المذمومة عند من لا يرضاها من الأرباب والعبيد ، فأضاف إلى نفسه جميع المذامّ وهي بالأصالة أفعال وآثار لربّه فيه ، فصار وقاية ربّه عن ألسنة أهل الذمّ والمذامّ ، وهدفا لسهام الطعن والملام ، وجعل ربّه وقاية له في جميع المحابّ والمحامد.
فأضافها جميعا إلى ربّه جنّة له ، فلا تضاف المحامد إليه من حيث هو ، بل إلى ربّه ، واستتر هو بربّه عن إضافة المحامد ، كما ستر ربّه به عن المذامّ ، فكما أنّ العبد لا يكون موجودا إلَّا بربّه ، إذ هو كون .
فكذلك الربّ لا يكون ظاهرا متعيّنا في عينه إلَّا بالعبد ، فهو مظهر ومظهر ، والناظر فيه وبه ، فينظره فلا يعرف إلَّا به ، وإذ قد ثبت أنّ الله لا يعرف بالحقيقة ، فعبده الذي هو مظهره الأكمل لا يعرف بغيره .
فإذا نادى كلّ ربّ عبده إليه ، وأمره بالدخول في جنّة ربّه ، دخّل العارف نفسه ، فيعرف أنّه مظهره ومجلاه ، وهو عبده وهو مولاه ، وهو عرشه ومستواه ، ولا ينفكّ ربّه يحبّه ويرضاه ،
ولا يزال عبده يعرفه ويهواه ، فلا بدّ لكلّ منهما عن الآخر كما قلنا في هذا المقام .
شعر :
فما انفكّ يرضاني بكل محبّة    ..... وما زلت أهواه بكلّ مودّة
فممتنع عنه انفصالي وواجب  ..... وصالي بلا إمكان بعد وقربة
فحينئذ يعرف العبد نفسه لربّه وبه غير المعرفة المعيّنة الأولى ، وفي هذه المعرفة يضاف إليه كلّ ما يضاف إلى ربّه من الكمالات ، ويضاف إلى ربّه كلّ ما يضاف إليه من المظهريات ، فيعرف نفسه بربّه بعد معرفته ربّه بنفسه طردا وعكسا ، جمعا وفرادى ، دائما أبدا ، فيعرف ربّه ونفسه من حيث ربّه لا من حيث هو ، وكان يعرف ربّه من حيث نفسه لا من حيث ربّه ، فحصل له الجمع بين المعرفتين ، والتحقّق بالحسنيين .

قال رضي الله عنه( « فأنت عبد وأنت ربّ"
لمن له فيه أنت عبد    ..... وأنت ربّ وأنت عبد )
لمن له في الخطاب عهد »أنت عبد له من حيث ظهور سلطانه عليك ، وأنت ربّ له من حيث ظهور سلطانك به على من دونك وعليه أيضا من حيث إجابته لسؤالك ، فما أنت على كل حال إلَّا تعيّنا من تعيّناته وتجلَّيا من تجلَّياته ، وأنت ربّ أيضا من حيث ظهور الربوبية بك وفيك لربّ خاطبك بخطاب " أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ".
فقلت : بلى بين العباد الراضين بربوبيته ، المرضيّين عنده حين قالوا ما قلت ، فنالوا ما نلت ،وما توجّه الخطاب من الأحديّ الذات إليك خاصّة.
قال رضي الله عنه(فكلّ عقد عليه شخص يحلَّه من سواه عقدفإنّ عبد اللطيف والرؤوف على عقد وعزيمة يحلّ العقد والعزيمة التي عليه القهّار والمعذّب ، وعبد الظاهر على اعتقاد وعلم يحلَّه عبد الباطن ، وهكذا بين جميع المربوبين والأرباب من غير تخليط ولا تخبيط بين المقامات والعقائد) .
قال رضي الله عنه: ( فرضي الله عن عبيده ، فهم مرضيّون ، ورضوا عنه ، فهو مرضيّ ، فتقابلت الحضرتان تقابل الأمثال ، والأمثال أضداد ، لأنّ المثلين " يعني حقيقة " لا يجتمعان ، إذ لا يتميّزان ، وما ثمّ إلَّا متميّز ، فما ثمّ مثل ، فما في الوجود ضدّ ، فإنّ الوجود حقيقة واحدة ، والشيء لا يضادّ نفسه) .

قال العبد أيّده الله به: حضرات الأرباب تقابل حضرات العباد تقابل الأمثال ، وذلك لأنّ كلّ واحدة من الحضرتين مرضيّة عند الأخرى راضية بها .
فالمثلية بين الحضرات تامّة ، فالتضادّ كذلك عامّ ، لتقابل إحداهما الأخرى تقابل الضدّ الضدّ ، إذ المثل الحقيقي كالضدّ ، لعدم اجتماعه مع ضدّه أي بمثله حقيقة ، إذ لا تميز لأيّهما فرضت عن الآخر ، وإذ لا تميّز فلا بينيّة ، وإذ لا بينية فلا اثنينية ، فلا ضدّية ، فلا مثلية ، فما ثمّ إلَّا واحد ، فهو هو لا غيره ، فالوجود حقيقة واحدة تعيّنت في مراتب متميّزة عقلا ، فما ثمّ عقلا إلَّا متميّز بخصوصه ، فما ثمّ مثل يوجب الاثنينية ، فالمظهر عين الظاهر ، والظاهر عين المظهر ، فانظر تشهد .
قال رضي الله عنه: (فلم يبق إلَّا الحق لم يبق كائن
فما ثمّ موصول وما ثمّ بائن    .... بذا جاء برهان العيان فلا أرى )
بعينيّ إلَّا عينه إذ أعاين" ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه ُ " أن يكونه لعلمه بالتمييز .

يعني رضي الله عنه : لمّا ثبت تميّز مرتبة الربّ عن مرتبة العبد ، خشي ربّه أن يكونه لعلمه بالتمييز فوقف على مركز عبدانيته مرضيّا عند ربّه ، لكونه راضيا بربوبيته له وعليه ، ورضي به ربّه له ، لرضاه بعبوديته وربوبيته ربّه وله وعليه وفيه ، فافهم .

قال رضي الله عنه: (« دلَّنا على ذلك » أي على التمييز « جهل أعيان في الوجود بما أتى به عالم ، فقد وقع التمييز بين العبيد » يعني بين العارف وغير العارف ).وهذا أقلّ ما في الباب.
قال رضي الله عنه: (« فقد وقع التمييز بين الأرباب ، ولو لم يقع التميّز لفسّر الاسم الواحد الإلهي من جميع وجوهه بما يفسّر به الآخر ، و " المعزّ" لا يفسّر بتفسير "المذلّ " إلى مثل ذلك ، لكنّه هو من وجه "الأحدية " ).
يعني رضي الله عنه: أنّه يفسّر الاسم الواحد من جهة أحدية الذات بما يفسّر به غيره ضدّا كان أو ندّا ، لأنّه من حيث أحدية ذاته كلَّها ولا ضدّ له ولا ندّ ، والأسماء أضداد وأنداد ، فافهم .

قال رضي الله عنه: (" كما تقول في كل اسم : إنّه دليل على الذات وعلى حقيقته من حيث هو ، فالمسمّى واحد ، فالمعزّ هو المذلّ من حيث المسمّى ، والمعزّ ليس المذلّ من حيث نفسه وحقيقته ، فإنّ المفهوم يختلف في الوهم من كل واحد منهما ").
قال العبد : تقرّر فيما مضى أنّ لكلّ اسم دلالتين : دلالة على الذات المسمّاة به ، ودلالة على حقيقة مخصوصة ، بها يمتاز عن غيره ، فـ بالأوّل هو المسمّى عينه فيوضع ويحمل عليه سائر الأسماء كما هو مذهب ابن قسيّوب الثاني هو غيره لتميّزه عنه بخصوصه ، وإن كان خصوصه فيه أيضا .
قال رضي الله عنه: (فلا تنظر إلى الحق  وتعريه عن الخلق )
يعني رضي الله عنه: أنّ الخلقية تستدعي الحقّيّة وتستلزمها لزوم المربوبين للأرباب واستلزام الأرباب للمربوبين ، فيجب على الناظر المحقّق أن يدقّق نظره ، ولا ينظر إلى الحق الخالق الربّ الإله بلا مخلوق مربوب مألوه من الخلق .

قال رضي الله عنه: (ولا تنظر إلى الخلق   .... وتكسوه سوى الحقّ )
يعني : أنّه إن نظرت إلى الخلق عريّا عن خلعة الوجود الحقّ ، رجع إلى عدميّته الأصلية ، فإنّ الخلق لفظ معترى على الحق ، فإذا عرّيته عن الحق ، لم يبق ما تسمّيه به ، وما الخلق إلَّا اختلاق ، فافهم .
وظهور الخلق في رأي العين وإن كان ظهور الآل " كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُه ُ الظَّمْآنُ ماءً " إنّما هو بخلعة تجلَّي وجوده في بعض مراتب شهوده .
فلو نظرت بخلع الخلع الوجودية الحقيّة عنه ، لم يبق شيئا ولم يكن شيئا " حَتَّى إِذا جاءَه ُ لَمْ يَجِدْه ُ شَيْئاً " ، فعند ذلك لو رزق الناظر بصرا حديدا ونظرا شديدا وعلما جديدا ، لـ " وَوَجَدَ الله عِنْدَه ُ فَوَفَّاه ُ حِسابَه ُ " أنّ الظهور والشهود والتعيّن والوجود له وحده ، عز  وجلّ أن يكون معه غيره في وجوده الذي هو هو .
قال رضي الله عنه: ( ونزّهه وشبّهه
وقم في مقعد الصدق  ..... وكن في الجمع إن شئت )
وإن شئت ففي الفرق يعني رضي الله عنه: إذا أثبت عبدا وربّا ، فقد أشركتهما في الوجود ، وهذا عين التشبيه ، وإن قلت بوجودين خصيصين بالعبد والربّ على التعيين ، فقد ثنّيت وميّزت حقيقة والحقيقة واحدة ليست إلَّا هي ، وإن نزّهت الحق أن يكون معه غيره في الوجود مع وجودك فيه أو شهوده فيك ، أو قلت بهما معا دائما .
فقد نزّهت الحق حقّ التنزيه ، وتحقّقت بحقيقة التنزيه النزيه ، وشبّهت في موضع التشبيه بعين التنزيه ، وقمت إذن في مقعد الصدق ، وقعدت على المقام الحقّ ، وإذا عرفت أن لا وجود إلَّا لعين واحدة هو الحق ، فإن عدّدت فكنت في الفرق والخلق ، أو وحّدت فكنت في الجمع المطلق . وأنت إذن أنت ولك ذلك .

قال رضي الله عنه: ( تحز بالكلّإن كلّ   ..... تبدّى قصب السبق )
يعني رضي الله عنه إذا كنت في الجمع ، فقد أثبّت ما لكلّ منهما لكلّ منهما، .
فأثبت وجود الحق خلقا ، وأثبت وجود الخلق حقّا ، وشهدت أيضا الحق حقّا والخلق خلقا ، ولم يفتك إذ ذاك شهود ، فكنت أنت الحائز قصب السبق دونه ، فإنّ كل أحد ليس إلَّا هو وأنت تشهد الإنّيّات في الهويّات ، والهويات في الإنّيات جمعا وجمع جمع ، فأنت كما قال :فلا تفنى ولا تبقى
(ولا تفني ولا تبقي   ..... ولا يلقى عليك الوحي )
في غير ولا تلقي إذ لا غير ، بل منك من كونك هو ، إليك من كونك أنت ، وذلك أنّك إذا كنت في مقامي الحقّية والخلقية ، والربوبية والعبودية معا ، غير حاصر ولا محصور ، بل مطلقا مطلقا ، فلا تفنى من كونك أحدهما أو هما معا في الآخر ، ولا تبقى على إنّيّة مخصوصة معيّنة خلقية أو حقّية بلا خلقية أو حقية ، وكان شهودك إذن أنّه لا يفنى الخلق عن الحق ، ولا يبقى الحق دون الخلق ، بل أثبتّهما واحدا لا معا في وجود واحد ، فافهم .
وهذا غاية الحمد ، والحمد لله .


قال سلام الله عليه: (" الثناء بصدق الوعد، لا بصدق الوعيد، والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات ").
يعني رضي الله عنه :  لمّا كان الثناء هو تعريف المثنى عليه بما هو عليه من النعوت ، فيصدق أن يكون التعريف بالمذموم أو بالمحمود ، ولكنّ الإلهية من كونها أحدية جمع جميع الكمالات لها مرتبة تطلب الكمال بالذات ، فتطلب الثناء بالمحمود في الوعد ، إذ لا يحمد موعد أو متوعّد على وعيده أو إيعاده .


قال رضي الله عنه: (" فيثنى على الحضرة الإلهية " بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، بل بالتجاوز " فَلا تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِه ِ رُسُلَه ُ " ، لم يقل : ووعيده ، بل
قال:  " وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ " مع أنّه توعّد على ذلك ، فأثنى على إسماعيل بأنّه كان صادق الوعد ، وقد زال الإمكان في حق الحق " ).
يعني سلام الله عليه: زال إمكان تحقيق وعيد بتحقّق تحقيق وعده .
قال رضي الله عنه: ( " لما فيه من طلب المرجّح " ) .
لأنّ إسماعيل إذا أثنى الحق عليه بصدق الوعد ومن جملة ما وعد الحق هو التجاوز وعدم تنفيذ الوعيد " وَما نُرْسِلُ بِالآياتِ " آيات الوعيد " إِلَّا تَخْوِيفاً " ، ولعلَّهم يتّقون ، فما المرجّح إذن لإيقاع الوعيد وإيجاد عين الإيعاد مع سلامة المعارض النافي لذلك وأن لا يثنى على الحق بصدق وعده مع صدق الثناء على إسماعيل الذي هو من جملة صدق وعد الحق ، بل الثناء على الله ولله في الوجهين لمن فهم ، والله الملهم .

قال رضي الله عنه:
(فلم يبق إلَّا صادق الوعد وحده   .... وما لوعيد الحق عين تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء فإنّهم      ..... على لذّة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد والأمر واحد     ..... وبينهما عند التجلَّي تباين
يسمّى عذابا من عذوبة طعمه    ...... وذاك له كالقشر والقشر صائن )
قال العبد أيّده الله به: قرّررضي الله عنهأنّ مواعيد الله لعبيده لا بدّ من تصديقه ، فإنّ الله يحقّق مواعيده بخلاف إيعاده وتهديده ، فإنّ الله يعفو ويتجاوز ولا يؤاخذ بما أوعد وتوعّد ، كما قال بعض التراجم في مقام العفو .
شعر :
« وإنّي إذا أوعدته أو وعدته   .... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي »
وبعد أن قرّر ما تقرّر بيّن وعيّن أنّ العبيد وإن استحقّوا العقاب ودخلوا دار الشقاء وهي جهنّم فلا بدّ أن تسبق رحمته غضبه في الأخير ، فينقلب العذاب عذابا عند أهل النار ، وأنّ عواقب أهل العقاب ، لا بدّ أن تئول إلى الرحمة بعد الأحقاب ، وذلك
لأنّ أهل النار الذين هم أهلها إذا أدخلوا كانوا على أحوال ثلاث :
فالأولى : يسلَّط فيها العذاب على ظواهرهم وبواطنهم ، فيكفّر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضا ، ومأواهم النار ، وما لهم من ناصرين ، فيقول الضعفاء للذين استكبروا " رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً من النَّارِ ".
وقالوا " أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوه ُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ " وقالوا " إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً من النَّارِ " و " قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ".
وأمثال هذه المخاصمات والمحاكمات والمجاوبات في المخاطبات والمعاتبات التي يختصم بها أهل النار في النار والعذاب ، قد أحاط بهم سرادق ناره وتسلَّط على ظواهرهم وبواطنهم بشراره .
والحالة الثانية وهي الوسطى: لمّا يئسوا أن يخفّف عنهم العذاب ، وأسمعهم " اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ " الخطاب ، فمكَّنوا أنفسهم أن لا بدّ من أن تعبر عليهم بالعذاب والعقاب الأحقاب ، فطفق بعضهم يعتذر إلى البعض ، ويقيم كلّ منهم أعذار الآخرة فيتحاللون ويقولون " سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا من مَحِيصٍ " وقالوا " بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ " وهم قد رضوا بالعذاب ، ووطَّنوا نفوسهم على الصبر على العقاب ، وأراح الله عند ذلك بواطنهم عن العذاب الشديد و" نارُ الله الْمُوقَدَةُ . الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ " ورفع العذاب عن قلوبهم .
ثمّ الحالة الثالثة وهي الأخيرة وذلك بعد مضيّ الأحقاب ، إنّهم يتعوّدون بالعذاب ، وبالغون تعاقب العقاب ، حتى لا يحسّوا بحدّته ، ولا يتألَّموا بشدّته وطول مدّته ، ويلقي الله على أعضائهم وجلودهم الخدر ، حتى لا يحسّوا به ، ووضعهم في هذه الحالة .
كما قال الله تعالى: " لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى " ، ثم يزداد تألَّفهم وإلفهم بذلك.
حتى أنّهم يتغذّون به ولا يتعذّبون ، بل يعذب لهم عذابها ، فيلتذّون ويستعذبون بحيث لو هبّ عليهم نفحة من صوب الجنّة وفوحة من نعيم الرحمة ، لعذّبوا وتألَّموا وسئموا ذلك وتبرّموا كالجعل وتعوده وتغذّيه بالقاذورات وتعوّذه وتعذّبه برائحة الورد.
فهذا لهم نعيم يباين نعيم أهل الجنان والحقيقة واحدة ، فإنّ التذاذه استعذاب ، وارتفاع الآلام عذاب وعقاب ، فأهل النار في النار على نعيم يباين نعيم أهل الجنان وإن وجدنا عند نسبة بعض التجلَّيات إلى البعضبين النعيمين بونا عظيما وتفاوتا بيّنا عميما .
فإنّ نعيم أهل النار من رحمة أرحم الراحمين بعد مآل العذاب إلى النعيم ، والغضب إلى الرحمة ، ونعيم أهل الجنان نعيم محض ولذّة خالصة ورحمة صافية من حضرة الرحمن الرحيم ، وعين الامتنان الجسيم ، فافهم .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 08 - فصّ حكمة روحية في كلمة يعقوبية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 10:37 pm

08 - فصّ حكمة روحية في كلمة يعقوبية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص اليعقوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
08 - فصّ حكمة روحية في كلمة يعقوبية
وقد ذكرنا المناسبة بين الحكمة الروحية والكلمة اليعقوبية في شرح فهرس الحكم فليطلب من هناك . " "قال رضي الله عنه : حكمة روحية في كلمة يعقوبية . قال العبد : " وحكمة إضافة هذه الحكمة إلى الروحية لأنّ الغالب على ذوق يعقوب عليه السّلام كان علم الأنفاس والأرواح ، حتى ظهر في وصاياه وإخباراته ، مثل قوله : "إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ""
ووصيّى بنيه فقال : " لا تَيْأَسُوا من رَوْحِ الله إِنَّه ُ لا يَيْأَسُ من رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ " وذوق أهل الأنفاس عزيز المثال ، قد جعل الله لهم التجلَّي والعلم في الشمّ .
قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : " إنّي لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن ".
قيل : إنّه عليه السّلام ، كنى بذلك عن الإبصار وهم صور القوى الروحانية التي نضرتهم على صور القوى الطبيعية ، واليمن أيضا من اليمين ، وهو إشارة إلى الروحية وعالم القدس ."
قال رضي الله عنه: ) الدين دينان : دين عند الله وعند من عرفه الحق تعالى ومن عرفه من عرف الحق تعالى . ودين عند الخلق وقد اعتبره الحق ، فالدين الذي عند الله هو الذي اصطفاه الله وأعطاه الرتب العليّة على دين الخلق ، فقال تعالى : "وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيه ِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ "أي منقادون إليه
قال رضي الله عنه :  ( وجاء الدين بالألف واللام لتعريف العهد ، فهو دين معلوم معروف ، وهو قوله تعالى: " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ " ، وهو الانقياد ، فالدين عبارة عن انقيادك " .
قال العبد : اعتبر اشتقاق الدين من ثلاثة أوجه كلَّها موجود فيه :
الأوّل : هو الانقياد ، يقال : دان له ، أي انقاد لأمره وخضع له ، فالدين هو الانقياد الكلَّي ظاهرا وباطنا ، أمّا ظاهرا فبإتيان ما أمر الله في كتابه وعلى لسان رسوله ، وأمّا باطنا فبتصديق أنبائه وأخباره والإيمان بها من غير توقّف فيه ، ولا ريب ولا ريث ،.
كما قال :"  فَلا وَرَبِّكَ  لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً " وهذا حقيقة انقياد الباطن أن لا يبقى في النفس حرج ممّا قضى الله ورسوله ، ويسلَّم له في أخباره وأحكامه تسليما كلَّيا حقيقيا ، ويطلق الدين على الأمر الكلَّي الذي ينقاد إليه أهل الدين كلَّهم وهو الشرع الموضوع لذلك .
و الاعتباران الآخران فسيأتيانك في مواضعهما .
قال رضي الله عنه : ( والذي من عند الله فهو الشرع الذي انقدت أنت إليه ، فالدين الانقياد ، والناموس هو الشرع الذي شرعه الله تعالى ، فمن اتّصف بالانقياد لما شرعه الله ، فذلك الذي قام بالدين وأقامه أي أنشأه كما يقيم الصلاة ، فالعبد هو المنشئ للدين ، والحق هو الواضع للأحكام ، والانقياد عين فعلك ، فما سعدت إلَّا بما كان منك ، فكما أثبت السعادة لك ما كان إلَّا فعلك ، كذلك ما أثبت الأسماء الإلهية إلَّا أفعاله وهي أنت وهي المحدثات ، فبآثاره سمّي إلها ، وبآثارك سمّيت سعيدا .
فأنزلك الله منزلته إذا أقمت الدين وانقدت لما شرعه لك ، وسأبسط لك إن شاء الله تعالى ما تقع به الفائدة بعد أن نبيّن الدين الذي عند الخلق ، الذي اعتبره الله ) .
قال العبد : لا شكّ أنّ الانقياد لأمر الله هو فعلك ، وسعادتك في الانقياد لأوامره ونواهيه ، والشقاوة في عدم انقيادك لذلك ، لأنّك إذا انقدت لأمره فقد أطعته ، وإذا أطعته فيما أمرك ونهاك ، كذلك أطاعك في إجابة سؤالك ، فما أجابك إلَّا بما أجبت له ، فما أسعدك إلَّا فعلك ، كما هو في الأصل ، فإنّ أفعال الله وهي المحدثات أثبتت له الأسماء الحسنى ، لأنّ المحدثات مخلوقات لله فأثبتت له الاسم " الخالق " وكذلك " الرازق " و " الربّ " و " الإله " .
قال رضي الله عنه : " فالدين كلَّه لله " .
يعني رضي الله عنه : سواء انقدت إلى ما شرعه الله للانقياد به أو وضعه واضعوا النواميس من الخلق ، فليس الانقياد إلَّا له لا ربّ غيره .
قال رضي الله عنه : « وكلَّه منك » أي الانقياد « لا منه إلَّا بحكم الأصالة » أي إنّما نقاد إليه ، لكون المنقاد إليه بالأصالة مأمورا به من عند الله أو مأمورا به من عند الخلق لله ".
قال الله تعالى : "وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها " وهي النواميس الحكمية التي لم يجيء الرسول المعلوم بها في العامّة من عند الله بالشريعة  الخاصّة المعلومة في العرف.
فلمّا وافقت الحكمة والمصلحة الظاهرة فيها الحكم الإلهيّ في المقصود بالوضع الإلهي المشروع ، اعتبرها الله تعالى اعتبار ما شرعه من عنده وما كتبها الله تعالى عليهم ، ولمّا فتح الله بينه وبين قلوبهم باب العناية والرحمة من حيث لا يشعرون .
جعل في قلوبهم تعظيم ما شرعوا يطلبون بذلك رضوان الله على غير الطريقة النبوية المعروفة بالتعريف الإلهي  فقال : " فَما رَعَوْها " هؤلاء الذين شرعوها وشرعت لهم " حَقَّ رِعايَتِها ". " إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ الله ".
وكذلك اعتقدوا " فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا" بها " مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ " أي من هؤلاء الذين شرع فيهم هذه العبادة "فاسِقُونَ " أي خارجون عن الانقياد إليها  والقيام بحقّها .
لمّا وافقت المصلحة فيها حكم الله من حيث إنّ الله إنّما وضع من الشرع ما وضع للانقياد الكلَّي لأمر الله تعالى ، وهذا كان المراد أيضا كذلك من وضع النواميس الحكمية فاعتبرها الله اعتبار ما شرعه هو لعبيده من عنده ، فمن انقاد إلى الله فيها ، فقد انقاد لله .

قال رضي الله عنه : ( ومن لم ينقد إليها لم ينقد إليه مشرّعه ) أي بالأصالة من حيث عبيده الذين وضعوها « لما يرضيه ، لكن الأمر يقتضي الانقياد .

قال رضي الله عنه : (وبيانه أنّ المكلَّف إمّا منقاد بالموافقة وإمّا مخالف ، فالموافق المطيع لا كلام فيه ، لبيانه . وأمّا المخالف فإنّه يطلب بخلافه الحاكم عليه من الله أحد أمرين :
إمّا التجاوز والعفو ، وإمّا الأخذ على ذلك.
ولا بدّ من أحدهما فإنّ الأمر حق في نفسه ، فعلى كل حال صحّ انقياد الحق إلى عبده لأفعاله وما هو عليه من الحال ، فالحال هو المؤثّر  .
يعني رضي الله عنه : أنّ العبد بحاله سواء كان موافقا أو مخالفا فإنّه يستدعي انقياد الحق له بالثواب أو بالعقاب لا بدّ من ذلك .
قال رضي الله عنه : ( فمن هنا كان الدين جزاء أي معاوضة بما يسرّ أو بما لا يسرّ ، فبما يسرّ " رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه ُ " هذا جزاء يعني بما يسرّ " وَمن يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْه ُ عَذاباً كَبِيراً " هذا جزاء بما لا يسرّ ، " وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ " هذا جزاء ، فصحّ أنّ الدين هو الجزاء .)

قال رضي الله عنه : (وكما أنّ الدين هو الإسلام ، والإسلام عين الانقياد ، فقد انقاد إلى ما يسّر وإلى ما لا يسرّ وهو الجزاء وهذا لسان الظاهر في هذا الباب ، وهو ظاهر . وأمّا سرّه وباطنه فإنّه تجلّ في مرآة وجود الحق ، فلا يعود على الممكنات من الحق إلَّا ما أعطته ذواتهم في أحوالها ، فإنّ لهم في كل حال صورة ، فتختلف صورهم لاختلاف أحوالهم ، فيختلف التجلَّي لاختلاف الحال ، فيقع الأثر في العبد بحسب ما يكون ، فما أعطاه الخير سواه ، وما أعطاه ضدّ الخير غيره ، بل هو منعم ذاته ومعذّبها ، فلا يذمّنّ إلَّا نفسه ، ولا يحمدنّ إلَّا نفسه ، " فَلِلَّه ِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ " في علمه بهم ، إذ العلم يتبع المعلوم ) .

قال العبد : يشير رضي الله عنه إلى أنّ انقياد الحق وهو الدين بما يسر وبما لا يسرّ إنّما هو تجلّ للاسم « الديّان » استجلبه واستدعاه العبد الدّين أو غير الدّين بموجب حاله الذي هو عليه .
وذلك لأنّ الدّيان تعالى لمّا شرع له ما يصلح له ويصلحه من حضرة اسمه « المكلَّف » و « المشرّع » و « الهادي » و « المرشد » وأخواتهم ، توجّه على العبد القيام بما شرع ، وإقامة الدين بالانقياد إليه ، واستتبع التجلَّي الشرعيّ الوضعيّ بموجب أحوال المتجلَّي له وهو العبد أحد أمرين :
الثواب إن انقاد لأمر الله بما يسرّه ،
أو العقاب بما لا يسرّ إن انقاد للشيطان بمخالفة سلطان الاسم المكلَّف المشرّع الديّان ، وهو تجل يستدعيه العبد بحاله .
فإن كان حاله الموافقة في الانقياد إلى الله ، تعيّن التجلَّي في مرآة وجود العبد بانقياد المكلَّف المشرّع وهو الله بحسن الجزاء .
وإن كان حاله المخالفة ، تعيّن التجلَّي بصورة المخالفة عليه ، فلم يحكم عليه الله إذن بما لا يسرّه وبما لا يوافقه .
بل هو الذي حكم على نفسه بذلك أزلا في تعيّن صورة معلوميّته وعينه الثابتة في حضره العلم الأزلي بذلك ، فتوجّه التجلَّي من الحق عليه بموجب ما استدعاه واقتضاه ، فللَّه الحجة البالغة على عبيده .
فلا يحمدوا إلَّا الله المظهر ما في حقائقهم الأزلية الغيبية بإفاضة الوجود على ذلك ، وكذلك لا يذمّوا إلَّا أعيانهم التي اقتضت أحوالها التجلَّي بما لا يسرّه أو يضرّه ، فافهم .


قال رضي الله عنه : « ثم السرّ الذي فوق هذا في مثل هذه المسألة أنّ الممكنات على أصلها من العدم ، وليس وجود إلَّا وجود الحق بصور أحوال ما هو عليه الممكنات في حقائقها وأعيانها ، فقد علمت من يلتذّ ومن يتألَّم ، وما يعقب كلّ حال من الأحوال ، وبه سمّي عقوبة وعقابا ، وهو سائغ في الخير والشرّ .
غير أنّ العرف سمّاه في الخير ثوابا وفي الشرّ عقابا ، وبهذا سمّي أو شرح الدين بالعادة ، لأنّه عاد عليه ما يقتضيه ويطلبه حاله ، فالدين العادة ، قال الشاعر : كدينك من أمّ الحويرث قبلها ، أي عادتك

قال العبد : تحقّق في السرّ الأوّل أنّ التجلَّي بما يسرّ وبما لا يسرّ على العبد بموجب أحوال عينه الثابتة ، وفي هذا السرّ - الذي فوق السرّ الأوّل - أنّ العبد هو الوجود الحق المتعيّن بموجب عينه الثابتة وصورة معلوميته الأزلية وحقيقته الأصلية ولم يوجد العين الثابتة في عينها ، بل هي على استهلاكها الأزلي الأصلي في الحق .
كما كان الله ولا شيء معه ، فهو الآن على ما عليه كان ، فتعيّن كلّ وجود - بموجب أحوال كل عين عين من مطلق التجلَّي الوجودي - بصورة حالة عليها حقيقة العين ، فاستدعت الصورة والحالة الظاهرة من العين في وجود الحق تجلَّيا آخر بما يسرّ وبما لا يسرّ وينفع أو يضرّ وهي حالة استتبعتها الحالة الأولى وأعقبتها .
فتألَّم أو تنعّم أو تعذّب والتذّ بها الوجود الحق المتعيّن في خصوصية هذه العين الثابتة التي هي شأن من شؤون الحق أيضا ، والعبد صورة ذلك الشأن في الوجود العينيّ الحقّ أو الوجود الحق بصورة العين ، فما تألَّم وما تنعّم دينا ولا آخرة إلَّا الحق المتعيّن بك وفيك بحسبك ، ولا حسب للحق إلَّا أنت ، وبحسبك يظهر لك أو عليك ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ومعقول العادة أن يعود الأمر بعينه إلى حاله وهذا ليس ثمّ ، فإنّ العادة تكرار لكنّ العادة حقيقة معقولة واحدة والتشابه في الصور موجود ، فنحن نعلم أنّ زيدا عين عمرو في الإنسانيّة وما عادت الإنسانية ، إذ لو عادت لتكثّرت وهي حقيقة واحدة والواحد لا يتكثّر في نفسه ، ونعلم أنّ زيدا ليس عين عمرو في الشخصية ، فشخص زيد ليس شخص عمرو مع تحقيق وجود الشخصية في الاثنين  .
فنقول في الحسّ : عادت ، لهذا الشبه ، ونقول في الحكم الصحيح : لم تعد ، فما ثمّ عادة بوجه ، وثمّ عادة بوجه ، كما أنّ ثمّ جزاء بوجه وما ثمّ جزاء بوجه ، فإنّ الجزاء أيضا حال في الممكن من أحوال الممكن . وهذه مسألة أغفلها علماء هذا الشأن ، أي أغفلوا إيضاحها على ما ينبغي ، لا أنّهم جهلوها ، فإنّها من سرّ القدر المتحكَّم على الخلائق )  .

قال العبد : يريد أنّ الدين يأخذ وجوهه ومعانيه ، لمّا كان عادة ، ظهر أن قد عادت على العبد حالته الغيبية الأزلية ، فإنّ تعيّن التجلَّي من الدّيان بحسب حال عينه الثابتة ، فما عاد عليه إلَّا مقتضى حاله ، ولكنّ التحقيق يقتضي أن لا تعود الحالة .
فإنّ الحالة المقتضية لهذا التجلَّي لم تعد ولم تتكرّر بل تعيّن التجلَّي بصورتها لا غير ، فلا تكرار في التجلَّي ولا في الحالة .
فما عاد وما تجدد إلَّا التعيّن في التجلَّي ، وكلّ تعيّن مثل التعيّن الآخر لا عينه ، فلا عادة أصلا ، إذ لا تكرار لا في الحال ولا في الوجود المتعيّن بالحالة ولا في التعيّن ، ولكن تعيّن وتشبّه بشبه يشبه الشبه في العيون تكرارا وعادة إلى عين واحدة ، وليس لذلك حقيقة ، إن حقّقت النظر ودقّقت الفكر ، فحقّق ودقّق يتحقّق السرّ على ما هو عليه الأمر.
كما قلنا : شعر :
ولا أقول بتكرار الوجود ولا  ..... عود التجلَّي فما في الأصل تكرار
فالبحر بحر على ما كان في قدم  ..... إنّ الحوادث أمواج وأنهار
لا تحجبنّك أشكال يشاكلها .....    عمّن يشكَّل فيها فهي أستار
وذلك لأنّ الحقيقة إذا ظهرت ظهورات غير متناهية ، وتعيّنت على صور متماثلة ومتشابهة متشاكلة ، لم تكن عائدة ولا متكرّرة ، ولكنّ الظهورات والتعيّنات أمثال متماثلات على من تشكَّل وتعيّن فيها وظهر بها ، فما عاد شيء ولا تكرّر ، فحقّق النظر ، والتعيّنات عادت بالأمثال لا بأعيانها ، فافهم .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما ثم عادة بوجه وثم عادة بوجه، كما أن ثم جزاء بوجه وما ثم جزاء بوجه فإن الجزاء أيضا حال في الممكن من أحوال الممكن.
وهذه مسألة أغفلها علماء هذا الشأن، أي أغفلوا إيضاحها على ما ينبغي لا أنهم جهلوها فإنها من سر القدر المتحكم في الخلائق.
قال الشيخ رضي الله عنه : « واعلم : أنّه كما يقال في الطبيب : إنّه خادم الطبيعة ، كذلك يقال في الرسل والورثة : إنّهم خادمو الأمر الإلهي في العموم وهم في نفس الأمر خادموا أحوال الممكنات ، وخدمتهم من جملة أحوالهم التي هم عليها في حال ثبوت أعيانهم ، فانظر ما أعجب هذه !
إلَّا أنّ الخادم المطلوب هنا إنّما هو واقف عند مرسوم مخدومه إمّا بالحال أو بالقول لأنّ الطبيب إنّما يصحّ أن يقال فيه : خادم الطبيعة لو مشى بحكم المساعدة لها ، فإنّ الطبيعة قد أعطت في جسم المريض مزاجا خاصّا ، به سمّي مريضا .
فلو ساعدها الطبيب خدمة ، لزاد في كمّيّة المرض بها أيضا ، وإنّما يردعها طلبا للصحّة ، والصحّة من الطبيعة أيضا بإنشاء مزاج آخر يخالف هذا المزاج ، فإذن ليس الطبيب بخادم الطبيعة » يعني مطلقها في جميع الأحوال « وإنّما هو خادم لها من حيث إنّه لا يصلح جسم المريض ولا يغيّر ذلك المزاج إلَّا بالطبيعة أيضا ، ففي حقّها يسعى من وجه خاصّ غير عامّ ، لأنّ العموم لا يصحّ في مثل هذه المسألة ، فالطبيب خادم لا خادم ، أعني للطبيعة " .


قال العبد : يشير رضي الله عنه أنّ الرسل والأنبياء والورثة أطبّاء الأرواح والأنفس عن الأمراض والأسقام النفسانية ، كما أنّ الطبيب يعالج بما يبرئ من الأسقام الجسمانية ، فكما أنّه يقال في الطبيب : إنّه خادم الطبيعة كذلك يقال في الأنبياء والورثة : إنّهم خادمو الأمر الإلهي في العموم .
ثمّ التحقيق يقضي أنّ الطبيب ليس خادما للطبيعة في عموم أحوال الطبيعة .
فإنّ الطبيعة قد تضعف وتتغيّر ، فتعطي في المريض مزاجا خاصّا ، به تزول صحّة الجسم ، فلا يجب على الطبيب من كونه خادما للطبيعة أن يساعدها فيما يضعّفها ويغيّرها ، بل بما يقوّيها ويصلحها .
فتقوى بذلك على دفع المزاج الذي يخالف المزاج الصحّي ، فإذن هو خادم للطبيعة من وجه خاصّ لا خادم لها بموجب ما هي عليه في الحال والوقت الحاضر.
كذلك النبيّ المشرّع الرسول ، والشيخ والمرشد المسلك للوصول خادمون للأمر الإلهي في الأمّة والأتباع من حيث ما يصلحها لا من حيث ما يساعدها بموجب الحال ، فإنّ الأمر الإلهي أعطى فيهم بموجب قابلياتهم أحوالا تعقّب أحوالا أخر تؤدّي إلى إفسادها .
فلا يجب على الرسول الهادي والوارث المرشد أن يساعد الأمر الحالي المتحكَّم على نفوس الأمّة ، بل يساعد الأمر الإلهي المؤدّي إلى إصلاحهم لا غير ، فهم خادمو أحوال الممكنات لا خادمون لها مطلقا ، بل من جهة ما يصحّ ويصلح لا غير ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « كذلك الرسل والورثة في خدمة الحق ، وأمر الحق على وجهين في الحكم في أحوال المكلَّفين ، فيجري الأمر في العبد بحسب ما يقتضيه الحق وبحسب ما يقتضي به علم الحق ، ويتعلَّق علم الحق به على حسب ما أعطاه المعلوم من ذاته ، فما ظهر إلَّا بصورته".
يعني بصورة العبد في عينه الثابتة أزلا « فالرسول أو الوارث خادم الأمر الإلهي بالإرادة لا خادم الإرادة ، فهو يردّ عليه ، طلبا لسعادة المكلَّف ، فلو خدم الإرادة الإلهية ما نصح ، وما نصح إلَّا بها ، أعني بالإرادة »
يعني تعلَّقت إرادة الحق بأن ينصح النبيّ أو الوارث « فالرسول أو الوارث طبيب أخراويّ للنفوس ، منقاد لأمر الله حين أمره فينظر في أمر الله ، وينظر في إرادته تعالى فيراه قد أمره بما يخالف إرادته ، فلا يكون إلَّا ما يريد ، ولهذا كان الأمر ، فأراد الأمر ، فوقع ، وما أراد وقوع ما أمر به بالمأمور ، فلم يقع من المأمور ، فسمّي مخالفة ومعصية ، فالرسول مبلَّغ ".


يعني رضي الله عنه : إنّما يقع الأمر من الرسول والوارث ، لما أراد الله منهما وقوع الأمر فوقع . وإنّما لم يقع الامتثال من المأمور به ، لعدم اقتران الإرادة بالأمر بوقوعه منه.
وإنّما لم تتعلَّق الإرادة بالأمر بوقوع المأمور به من المأمور ، لتعلَّق العلم بعدم وقوعه من المأمور فلم يقع وإنّما وقع الأمر من الآمر بما لا يقع ، لتعلَّق إرادة الحق بوقوع الأمر ، لتعلَّق علم الحق وأمر الحق بمقتضى عينه الثابتة أنّه يقع الأمر منه بما لا يوجد له عين من العاصي والمخالف ، فتتركَّب عليه الحجّة الإلهية ، فيتوجّه عليه العقاب ، فافهم .
قال رضي الله عنه : " ولهذا قال شيّبتني سورة هود وأخواتها ، لما تحوي عليه من قوله : " فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ " ، فشيّبته "كَما أُمِرْتَ " ، فإنّه لا يدري هل أمر بما يوافق الإرادة ، فيقع ، أو بما يخالف الإرادة ، فلا يقع ، ولا يعرف أحد حكم الإرادة إلَّا بعد وقوع المراد إلَّا من كشف الله عن بصيرته .
فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها على ما هي عليه ، فيحكم عند ذلك بما يراه ، وهذا قد يكون لآحاد الناس في أوقات لا يكون مستصحبا .
" قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً من الرُّسُلِ ". " ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ " ، فصرّح بالحجاب ، وليس المقصود إلَّا أن يطَّلع في أمر خاصّ لا غير " .
قال العبد : اعلم : أنّ الأمر الإلهي الذي يرد من الرسول والوارث إن وافق الإرادة المخصّصة بتعيين الفعل بموجب العلم ، وقع . 
وإن لم يوافق ، فلا يقع ، وقد وقعت الإرادة أن يقع الأمر منهما ، فيجب عليهما الوقوف عند ذلك ، فلو توقّعا وقوع ما جاءا به ، وأمرا بما أمرا بالأمر به بموجب الإرادة تعبا ، وليس عليهما إلَّا البلاغ لا غير ، ولكن لا يكون إلَّا كما وقع .
ولله الحجّة البالغة .

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فصّ حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الأول .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 10:54 pm

09 - فصّ حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الأول .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص اليوسفي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

09 - فصّ حكمة نورية في كلمة يوسفية  الجزء الأول

قد ذكر السرّ في إسناد الحكمة إلى الكلمة . " أضاف رضي الله عنه حكمة النور إلى الكلمة اليوسفية لظهور السلطنة النورية العلمية المتعلَّقة بكشف الصور الخيالية والمثالية .
وهو علم التعبير على الوجه الأكمل في يوسف عليه السّلام فكان يشهد الحقّ عند وقوع تعبيره ، كما قال " قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " فأشار إلى حقيقة ما رأى ، وأضاف إلى ربّه الذي أعطاه هذا الكشف والشهود ."
قال رضي الله عنه : ( هذه الحكمة النورية انبساط نورها على عالم الخيال ، وهو أوّل مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية).
يعني : أنّ نورية هذه الحكمة - من حيث كشفها معاني ما يظهر في عالم الخيال - للأولياء والأنبياء ، فيعلمون بها مراد الحق من تشخيص تلك المعاني وتجسيدها ضربا للمثل لهم .
قال رضي الله عنه : ( تقول عائشة رضي الله عنها : أوّل ما بدىء به رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الوحي الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤيا إلَّا خرجت مثل فلق الصبح .
تقول : لا خفاء بها . وإلى هنا بلغ علمها لا غير . وكانت المدّة له في ذلك ستّة أشهر ، ثم جاءه الملك . وما علمت أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال : " الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا " وكلّ ما يرى في حال يقظته ، فهو من ذلك القبيل ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان عالما بأنّ كلّ أمر ظهر من الغيب سواء كان ظهوره حسّا أو خيالا أو في عالم المثال .
فإنّ ذلك وحي تعريف وإعلام من الله له عليه السّلام  بما أراد الله أن يكوّنه ، وأنّه تمثيل وتشخيص للمعاني والحقائق التكوينيّة التي تعلَّقت الإرادة الإلهية بتعريفه وتعليمه صلى الله عليه وسلم بها .
وذلك لأنّ العوالم في مشرب التحقيق خمسة وكلَّها حضرات إشهاد الحق وشهوده ، والأنزل منها أمثلة وصور للأعلى والأشرف الأفضل . فالأعلى عالم الغيب ، والأدنى الشهادة.
فكل ما يتراءى ويظهر في الحسّ مثال وصورة لهيئات غيبية معنوية ، هي المعاني المعنيّة المعيّنة من تلك الصورة ، ولكنّ العلم بتلك الصورة وكشف أسرارها ومعانيها هو الكشف المعنوي الحقيقي ، فمن أوتيهما في كل ما يرى ويسمع ويدرك " فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً " .
وتحقّق بكمال الكشف والشهود في الوجود قبيلا ودبيرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الأنبياء بذلك ، وذلك بتصريحه :
"إنّ الناس نيام " في عالم الحس ، وأنّ كلّ ما يجري عليهم وبهم وفيهم صور وأمثلة لمعان عناها الله بحسب العلم بحقائقها ، وإلَّا فهو غافل ، وعن حقيقة الأمر عاطل.
ومبلغ علم عائشة من كلّ ذلك أنّ كشفه صلى الله عليه وسلم مبدؤه الرؤيا الصادقة ، وآخره ظهور الملك له ، وما علمت أنّه صلى الله عليه وسلم كان يشهد الحق في كلّ ما يرى ويدرك ، بل لا يغيب عن شهود الحق.
كما قال عليه السّلام اللهمّ إنّي أسألك لذّة النظر إلى وجهك ، فصرّح بشهوده وجهه تعالى وأنّه في شهوده ، فادّعى اللذّة بما يشهد لفنائه وحيرته الكبرى ، فسأل اللذّة بما يشهد ، وهي زيادة على مرتبة الشهود ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( وإن اختلفت الأحوال ، فمضى قولها ستّة أشهر بل عمره كلَّه في الدنيا بتلك المثابة ، إنّما هو منام في منام ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ الناس في حالة يقظة في جميع أحوالهم في كشف وضرب مثال يضربه الله لهم بالأفعال والأحوال والأقوال التي تجري عليهم ومنهم وهم عنها غافلون " وَكَأَيِّنْ من آيَةٍ في السَّماواتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ " ، " وَتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ " جعلنا الله وإيّاك من أهل الحضور ، وكشف عن وجهه لنا بحقيقة النور ، في كلّ الأمور .
قال رضي الله عنه : ( وكلّ ما ورد من هذا القبيل ، فهو المسمّى عالم الخيال ولهذا يعبّر ، أي الأمر - الذي هو في نفسه على صورة كذا - ظهر في صورة غيرها ، فيجوز العابر من هذه الصورة التي أبصرها النائم إلى صورة ما هو الأمر عليه ، إن أصاب ، كظهور العلم في صورة اللبن ، فعبر في التأويل من صورة اللبن إلى صورة العلم ، فتأوّل ، أي قال : مؤوّل " هذه الصورة اللبنية إلى صورة العلم ) .
قال العبد : سرّ ذلك أنّ اللبن أوّل غذاء فطريّ يغذّى به المولود الجسماني ، والعلم الفطريّ أوّل غذاء يتغذّى به الروح ، لهذا كانت الصورة اللبنية مظهر العلم في عالم المثال وما دونه من حضرات الصور والشخصيات ، لثبوت هذه النسبة الصحيحة بينهما .
قال رضي الله عنه : ( ثم إنّه عليه السّلام كان إذا أوحي إليه ، أخذ عن المحسوسات المعتادة ، فسجّي وغاب عن الحاضرين عنده ، فإذا سرّي عنه ردّ ، فما أدركه إلَّا في حضرة الخيال إلَّا أنّه لا يسمّى نائما ) أي ما يغفل مثل غفلة النائم ، لأنّه كان ينام عينه ولا ينام قلبه .
قال رضي الله عنه : ( وكذلك إذا تمثّل له الملك رجلا ، فذلك من حضرة الخيال ، فإنّه ليس برجل ، إنّما هو ملك فدخل في صورة إنسان ، فعبر الناظر العارف حتى وصل إلى صورته الحقيقية ، فقال : هذا جبرئيل ، أتاكم يعلَّمكم دينكم ، وقد قال لهم :" ردّوا عليّ " الرجل فسمّاه بالرجل من أجل الصورة التي ظهر لهم فيها) .
ثم قال رضي الله عنه : (هذا جبرئيل فاعتبر الصورة التي مآل  هذا الرجل المتخيّل إليها ، وهو صادق في المقالتين ، صدق للعين في العين الحسيّة ، وصدق في أنّ هذا جبرئيل ، فإنّه جبرئيل بلا شكّ ) كلّ هذا ظاهر بيّن .

وقال رضي الله عنه : ( وقال يوسف عليه السّلام : “ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ " ، فرأى إخوانه في صور الكواكب ، ورأى أباه وخالته في صورة الشمس والقمر) .
قال العبد : إنّما رآهم كذلك ، لمناسبة موجبة لتجسّدها في هذه الصورة ، وذلك لأنّ الشمس والقمر أصلان كالأبوين بالنسبة إلى أنوار الكواكب ، فهم لا ظهور لهم في حضورهما للرائي ، كما أنّ النجوم لا تظهر في نور النيّرين ، ويغمرانها في الحضور بنورهما ويغمرانها به كذلك في البعد والسفور .
قال رضي الله عنه : ( هذا من جهة يوسف ، ولو كان من جهة المرئيّ لكان ظهور إخوته في صور الكواكب وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس والقمر مرادا لهم ، فلمّا لم يكن لهم علم بما رآه يوسف ، كان الإدراك من يوسف في خزانة خياله ، وعلم ذلك يعقوب عليه السّلام حين قصّها عليه ).
فقال رضي الله عنه: ( "يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً " ، ثمّ برّأ أبناءه عن ذلك الكيد  وألحقه بالشيطان ، وليس إلَّا عين الكيد ).
فقال رضي الله عنه: (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ " أي ظاهر العداوة  .)
قال العبد : هذا من علم يعقوب ويوسف عليهما السّلام وأرباب علم التعبير ، إنّ ما صوّر النيّرين والكواكب إلى أبويه وإخوته لما ذكرنا من المناسبة ، والذي فوق هذا من الكشف أنّ الأب والأمّ صورتا الروح والطبيعة تولَّدت بينهما صورة الإنسان العنصرية ، والكواكب صور الحقائق والقوى روحانيّها وطبيعيّها وإلهيّها ويوسف عليه السّلام صورة أحدية جمع الجمال والكمال العلمي والعملي الخصيصين بصورة الإنسان التي هي صورة الحق أو على صورته .
وسجودهم له إشارة من الحق إلى أنّ قواه الطبيعية والروحانية والروح والطبيعة داخلة في حكم الصور الإلهية الإنسانية المخلوقة على أحسن تقويم ، ومنفعلة ومسخّرة لها ، لأنّ الإنسان وإن تولَّد من حيث صورته الجسمانية من الروح والطبيعة أوّلا وتولَّدت معه وقبله وبعده من أبوي روحه وطبيعته قوى وخصائص ، ولكنّ الكلّ تحت حيطة فلك الصورة ، وليس إلَّا لأهل الكشف المعنوي ، والحمد لله .
قال رضي الله عنه : ( ثم قال يوسف عليه السّلام عند ذلك في آخر الأمر : "هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " أي أظهرها في الحسّ بعد ما كانت في صورة الخيال ).
أي حقيقة الصور المتخيّلة أن تظهر في الحسّ على صورها الأصلية الفعلية الحقيقية .
قال رضي الله عنه( فقال له النبي عليه السّلام: " الناس نيام " فكان قول يوسف " قد جعلها ربّى حقّا " بمنزلة من رأى في نومه أنّه استيقظ  من رؤيا رآها ، ثم عبّرها ، ولم يعلم أنّه في النوم عينه ما برح.
فإذا استيقظ يقول : رأيت كذا ، ورأيت كأنّي استيقظت ، وأوّلتها بكذا ، هذا مثل ذلك .
فانظر كم بين إدراك محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم وإدراك يوسف عليه السّلام في آخر أمره حين قال : “ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ من قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا " ، معناه حسّا أي محسوسا ، وما كان إلَّا محسوسا ، فإنّ الخيال لا يعطي أبدا إلَّا المحسوسات ليس له غير ذلك ) .
يعني رضي الله عنه : أنّه لا يظهر في الخيال إلَّا الصور المحسوسة المرئيّة قبل ذلك ، لتقييد مرتبة عالم الخيال بالقوّة المتخيّلة ، فإنّه المثال المقيّد ، وأمّا عالم المثال المطلق فهو محلّ تجسّد الأرواح والأنوار والمعاني والصور ، فهذا وسع العوالم ، كما مرّ بيانه .
قال رضي الله عنه : ( فانظر ما أشرف علم ورثة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم ).
قال رضي الله عنه : ( وسأبسط القول في هذه الحضرة بلسان يوسف المحمديّ ما تقف عليه إن شاء الله تعالى )
فيقول  رضي الله عنه : (اعلم أنّ المقول عليه " سوى الحق " أو مسمّى " العالم " هو بالنسبة إلى الحق كالظلّ للشخص ، فهو ظلّ الله) .



قال العبد : قوله " المقول عليه سوى الحق " يعني على ما يقال كذلك عرفا وفي المعهود عند الجمهور ، فإنّ الحقيقة تأبى أن يكون لسوى الحق وغيره وجود ، ولو سمّي ما سمّي "سوى " على مقتضى التحقيق والكشف والنظر الدقيق .
لقيل فيه : صور أسماء الحق ، وأشخاص تعيّناتها بالوجود الواحد الحق ، وتنوّعات ظهوره وتجلَّياته ، فإنّه ما في الوجود إلَّا هو وأسماؤه لا غير .
فإن اعتبرنا هويته الذاتية فواحد ، وإن اعتبرنا أسماءه ونسب شؤونه الذاتية ، فكثرة ظاهرة في عين واحدة ، وهذه العين الواحدة الظاهرة كثيرة هي نور ممتدّ إلى مجال كثيرة مختلفة هي مجالي جولانه وجليّاته ومحالّ ظهوره وتبيانه .
والظلّ الممتدّ من النور نور بيد أنّ الممتدّ هو منه مطلق بالنسبة والممتدّ مقيّد بحسب القوابل المقيّدة له ، والتقيّد والإطلاق نسبتان معقولتان ليس لهما إلَّا في التعقّل ظهور وتحقّق ، وهو ظلّ لحقيقة النور الواحد الأحد الذي ليس إلَّا هو .
فلمّا ظهر النور الواحد بحسب خصوصيات القوابل متكثّرة متعدّدة ، ظهرت المغايرة والممايزة ، فكل واحد واحد منها غير الآخر وسواه في رأي العين والتعقّل .
والوجود الواحد الحق وهو النور عين الكلّ ، فإنّها وجودات متعيّنة في قوابل متعدّدة ومراتب كثيرة ، كثيرة ومتعدّدة ، فإن نظرت الحقيقة .
قلت :هو الواحد الموجود في الكلّ وحده سوى أنّه في الوهم سمّي بـ " السوي" فـ العالم من حيث وجوده ظلّ الله وهو نور مقيّد ممتدّ من النور المطلق متّصل به من غير انفصال ولا انتقال ، فإنّ لله نورا على نور .
والعالم عالمان : عالم أمر ، وعالم خلق .
فعالم الأمر علوي سما على عالم الخلق .
وعالم الخلق سفلي سفل عن العالم السماوي العلوي .
والله نور السماوات العلويات الروحانيات النورانيات والأرضين السفليات الجسمانيات ، ولولا نور الوجود الممتدّ منه ، لما ظهر من العالمين ولا وجد من الكونين شيء ، ولا تظاهر وأظلّ ظلّ ، ولا فاء فيء.
فهو نور السماوات والأرضين ، يهدي بنوره المقيّد وهو الظلّ الممتدّ منه لنوره المطلق من يشاء ، ويضرب الله الأمثال للناس ، وهم الكمل الأمثال الإلهيون الذين يشاء أن يهديهم إلى نوره الذاتي المطلق ، لأنّه تعالى علم من مقتضى خصوصيات استعداداتهم الأزلية أزلا قبل الإيجاد أنّ لهم صلاحية ذلك " وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ".
قال رضي الله عنه : ( فهو عين نسبة الوجود إلى العالم ) .
الضمير يعود إلى العالم ، فإنّ الوجود من حيث ما يسمّيه عالما يسمّى " سوى الحق" وإلَّا فالوجود واحد .
وهو من حيث نسبته إلى الحق عينه لا غير ، ولا يصحّ من هذه الحيثية أن يقال : هو سواه ، فإنّ قوله رضي الله عنه : (لأنّ الظلّ موجود بلا شكّ في الحسّ ، ولكن إذا كان ثمّ من يظهر فيه ذلك الظلّ حتى لو قدّرت عدم من يظهر فيه ذلك الظلّ ، كان الظلّ معقولا غير موجود في الحسّ ، بل يكون في القوّة في ذات الشخص المنسوب إليه الظلّ .)
تعليل لقوله : " مسمّى العالم هو بالنسبة إلى الحق كالظلّ " فكما أنّ الظلّ موجود في الحسّ عند وجود الشخص ، فكذلك العالم ، إذ ما يسمّى " سوى الحق " موجود بوجود الحق وهو مع قطع النظر عن الحق غير موجود في عينه .
إذ لا وجود له من ذاته ، كما لا وجود للظلّ بلا وجود الشخص ، ثم العدم بالنسبة إلى الممكن - على ما عرف وعرّف عرفا حكميّا رسميا أولى ، فهو به أولى .
فقد كان معدوما لعينه ، فكما أنّ الظلّ غير موجود مع فرض عدم الشخص الذي يمتدّ منه الظلّ ، فكذلك العالم مع قطع النظر عن النور الوجودي الممتدّ من الحق ، ولو قدّرنا عدم إفاضة الوجود الحق المطلق لنوره المنبسط على أعيان العالم ، ما وجد العالم أصلا ، وكان الحق إذ ذاك في تجلَّي عزّه وغناه عن العالمين في مقام “ كان الله وما كان معه شيء " .

قال رضي الله عنه : ( فمحلّ ظهور هذا الظلّ الإلهي المسمّى بالعالم هو أعيان الممكنات ، عليها امتدّ هذا الظلّ ، فتدرك من هذا الظلّ بحسب ما امتدّ عليه من وجود هذه الذات ، ولكن باسمه النور وقع الإدراك ) .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّه لا يدرك من الوجود الحق المطلق إلَّا بحسب ما امتدّ عليه فيضه الوجودي وتجلَّيه الجوديّ .
فحقيقة الوجود لا تدرك في إطلاقه ، ولكن من حيث تعيّنه في هذه الأعيان الممكنة أي القابلة والممكنة للوجود على الظهور بحسبها ،ومع قطع النظر عن تعيّنه في خصوصيات حقائقها ، فلا تدرك حقيقة الوجود ، إذ هو الحق عينه .

قال رضي الله عنه : ( وامتدّ هذا الظلّ على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول ، ألا ترى الظلال تضرب إلى السواد تشير إلى ما فيها من الخفاء ، لبعد المناسبة بينها وبين أشخاص من هي ظلَّة له ).
يشير رضي الله عنه : إلى ما فيها من النور ، لأنّ نور الوجود ، الممتدّ على أعيان الممكنات يباين وينافي ظلمة عدميات الأعيان ، لأنّ نورية الأعيان ، بالحق ، وهي في أنفسها عدمية مظلمة ، فبينهما غاية البعد من عدم المناسبة.
ولا بعد أبعد من البعد الذي بين الوجود والعدم ، ولبعد المناسبة جهل من حيث ذلك الوجه المنافي ، فتجلَّى للأعيان وعليها وبحسبها ، وكانت هي ظلمة العدم والغيب المشيرين إلى السواد الظاهر على الظلال ، وذلك لأنّ الأعيان أبدا غيب ولم تظهر ولم تدخل في الوجود ، بل هي في العلم الذاتي معيّنة الأعيان ، تعدّديّتها من حيث هي هي .
الذي يتراءى إنّما هي تأثيرات خصوصياتها في مرآة نور الوجود الممتدّ عليها ، فامتدّ على نور الوجود من أشخاص الأعيان الغيبية ظلّ غيبيّ يضرب إلى السواد بالتعيين والتقييد .
وامتدّ من النور المطلق ظلّ نوري ، فاختلط الظلَّان ، فظهر سواد عينيّة الأعيان ، وبطن نور الوجود فظهر الظلّ المطلق النوري مقيّدا مظلما .
فأهل الحجاب هم أهل الظلمات ، لا يرون ولا يشهدون إلَّا العالم ، والحق عند أفاضلهم وأمثالهم معقول أو متوهّم ، لا مشهود موجود في شهودهم ونظرهم ، وتراهم ينظرون إلى الحق الظاهر وهم لا يبصرون .ربّ امرئ نحو الحقيقة ناظر برزت له فيرى ويجهل ما يرى.
وأهل الحق لا يشهدون إلَّا الوجود الحق الواحد الأحد الصمد في صور شؤونه العينيّة ، فمتعلَّق نظرهم نور الحق ، في سواد غيب الخلق ، فافهم .
قال رضي الله عنه : (وإن كان الشخص أبيض ، فإنّه أي الظلّ  بهذه المثابة ، ألا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر سوداء وإن كانت في أعيانها على غير ما يدركها الحس من اللونيّة ، وليس ثمّ علَّة إلَّا البعد .)
يعني رضي الله عنه : أنّ الوجود الظاهر في العالم وإن كان نورا في حقيقته ، ولكنّه ظهر بحسب المظهر غير نيّر .
قال رضي الله عنه : ( كرزقة السماء) لأنّ السماء زرقاء في عينها ، ولكنّ البعد يقضي أن تظهر كذلك في بصر الناظر .

قال رضي الله عنه: (فهذا ما أنتجه البعد في الحسّ في الأجسام غير النيّرة ) . يعني الجبال .
قال رضي الله عنه: ( وكذلك أعيان الممكنات ليست نيّرة ، لأنّها معدومة وإن اتّصفت بالثبوت ، ولكنّها لم تتّصف بالوجود ) .
يعني : أنّ الأعيان الثابتة ثبوتها في العلم الذاتي العالم بها ، لا لأعيانها .
قال رضي الله عنه : ( إذ الوجود نور ، غير أنّ الأجسام النيّرة تعطى في الحسّ صغرا ، فهذا تأثير آخر للبعد ، فلا يدركها الحسّ إلَّا صغيرة الحجم وهي في أعيانها كبيرة عن ذلك القدر.
أي أكبر وأكثر كمّيّات كما نعلم بالدليل أنّ الشمس مثل الأرض في الجرم مائة وستّين وربعا وثمن مرّة وهي في العين على قدر جرم الترس ، فهذا أثر للبعد أيضا ) .
قال العبد : ظهور الكبير صغيرا بسبب البعد ضرب مثل لظهور نور الوجود المطلق مقيّدا بحسب القابل ، لبعد المناسبة بين الإطلاق والتقييد .
قال رضي الله عنه : ( فما نعلم من العالم إلَّا بقدر ما نعلم من الظلال ) .
يعني : لا نعلم غيوب أعيان الماهيات وهويّاتها ، وإنّما نعلم منها ما ظهر في نور الوجود من آثار خصوصيّاتها ، فما هي إلَّا أمثلة أعيان الحقائق وظلالها ، لا أعيانها .

قال رضي الله عنه : (ويجهل من الحق بقدر ما يجهل من الشخص الذي كان عنه ذلك الظل) .
أي المدرك هو الشكل والصورة والهيئة والمثال ، وحقيقة النور الوجودي المتشكَّل في كل شكل ، والمتصوّر في كل صورة ، والمتمثل في كل مثال وهيئة لا تعلم ولا تدرك من حيث عينها ، بل من حيث تشكَّلها ، فالعلم بها من حيث هي هي جهل بها ، لأنّها بحقيقتها تقتضي أن تجهل ولا تعلم ولا تتعيّن .
قال رضي الله عنه : ( فمن حيث هو ظلّ له يعلم ) .
يعني رضي الله عنه : إن علمت ، فما تعلم إلَّا من كونها ذات ظلّ وهو كونه إلها ربّا ، لا من حيث هي مطلقة .
قال رضي الله عنه : ( ومن حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظلّ الذي من صورة شخص من امتدّ عنه ، يجهل من الحق) .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ صورة الإطلاق الذاتي واللاتعيّن واللا تناهي - التي هي صورة الحق الذي امتدّ عنه هذا الوجود غير مشهودة ولا مدركة في الوجود الممتدّ إلى الممكنات ، لكون النور الممتدّ الظلَّي مقيّدا بحسب من امتدّ عليه ،وكذلك يجهل من الوجود الممتدّ أيضا بحسب ذلك.

وهو ما يشير إليه الشيخ رضي الله عنه : إنّ وراء كل متعيّن من الوجود ما لم يتعيّن ، فمهما لم تصل معرفة العارف من كل شيء إلى ما وراءه من اللاتعيّن والإطلاق ، فلم يعرفه ولم يدركه ، وقد أشار إليه هذا الختم رضي الله عنه بقوله ، شعر :
ولست أدرك من شيء حقيقته  ...... وكيف أدركه وأنتم فيه ؟!
قال رضي الله عنه : (فلذلك نقول : إنّ الحق معلوم لنا من وجه ، مجهول لنا من وجه آخر.)
فلا نعلم إطلاق المطلق بالمقيّد إلَّا مثل ما يعلم الضدّ بالضدّ ، يعني مجملا أنّه

مناف له ، والنقيض بالنقيض كذلك لا غير ، وليس هو علم تحقيق وذوق ، بل علم استدلال على وجوده أو عدمه لا غير .
قال رضي الله عنه : (" أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ") أي تجلَّى بالنور الوجودي والفيض النفسي الجوديّ .
قال رضي الله عنه : (" وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَه ُ ساكِناً " ، أي يكون فيه بالقوّة. )
قال رضي الله عنه : (يقول "ما كان الحق ليتجلَّى للممكنات ، حتى يظهر الظلّ ، فيكون كما بقي من الممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود ).
يعني رضي الله عنه : تجلَّى بالوجود الممتدّ على أعيان الممكنات ، فوجد من العالم بذلك الظلّ ، وعلم من حقيقة الوجود بقدر ذلك ، وإن لم يرد ذلك وشاء أن لا يمتدّ .
فيكون الظاهر الممتدّ فيه بالقوّة كما لم يمتدّ ولم يظهر ، كان كما كان ، ولم يكن معه شيء ، ولم يظهر ظلّ ولا فيء ، فبقي ما ظهر كما لم يظهر مغيّبا .
وانطلق المقيّد عن قيوده مسبّبا ، فإنّ الأمر غيب وشهادة ، فما خرج من الغيب شهدت به الشهادة وما نقص من الشهادة أخذه الغيب ، فسمّي عدما ووجودا بالنسبة والإضافة .
فإنّ العدم الحقيقي لا يعقل بالعقل ، فلا كلام فيه أصلا ، فإن لم يظهر ما ظهر من الغيب ، لكان كالظلّ الساكن في الشخص قبل الامتداد وبعد الفيء ، فافهم .

قال رضي الله عنه : (" ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْه ِ دَلِيلًا " وهو اسمه النور الذي قلناه ، ويشهد لها الحسّ ، فإنّ الظلال لا يكون لها عين بعدم النور ) .
قال العبد : ثم جعلنا الشمس عليه دليلا بعد امتداده ، فإنّ التجلَّي النوري الوجودي المتدلَّي من شمس الألوهيّة هو الذي يظهر الظلال المعقولة في الأشخاص الموجودة بالقوّة في ذوات الظلّ ، إذ الألوهة تظهر عين المألوه .
قال رضي الله عنه : (" ثُمَّ قَبَضْناه ُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً " وإنّما قبضه الله لأنّه ظلَّه فمنه ظهر وإليه يرجع).
يشير إلى أنّ الوجود المشترك وهو الفيض الوجودي بعد انبساطه على أعيان الممكنات في أرض الإمكان ، وظهور ما ظهر فيه من أمثلة أشخاص الأعيان في العيان.
وتعيّنه بخصوصيات حقائق الممكنات والأكوان يتقلَّص وينسلخ عنها النور والتجلَّي ، بسرّ التولَّي بعد التدلَّي ،وحقيقة التجلَّي بعد التجلَّي.
والتخلَّي والتملَّي إلى أصل منبعه ومركز منبعثه ومهيعه ، وفي المشهد الحق لا استقرار للتجلَّي ، كما قرأ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام "والشّمس تجرى لا مستقرّ لها " ، فإنّه بطون وظهور ، وكمون وسفور ، وتجلّ وتخلّ معقّب بتجلّ وتخلّ ، متواصل متوال غير مخلّ ، فإنّ الله دائم التجلَّي مع الآنات ، والقوابل دائمة القبول ، بأحد وجهيه راجع إلى الغيب من الوجه الآخر الذي يلي العدم .
قال رضي الله عنه : ( "وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ " ، فهو هو لا غير).
لأنّ النور المنبعث من منبع النور نور أبدا ليس غيره وقد دار معه وجودا وعدما كدوران نور الشمس المنبسط عند إشراقها على ما أشرقت عليه ، الدائر كما دارت ، والغائب عنّا بغيبوبتها أبدا .
قال رضي الله عنه : ( فكلّ ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات ) .
يعني رضي الله عنه : متجلَّيا يجلَّي خصوصيات الأعيان وأوصافها ونعوتها ، إذ هو مرآة آثارها ، ومجلى جليّات تجلَّياتها ، وجليات جليّاتها بأنوارها .
قال رضي الله عنه : ( فمن حيث هوية الحق هو وجوده ، ومن حيث اختلاف الصور هو أعيان الممكنات ) .
يريد أنّ العالم الذي هو في دقيق التحقيق ظلّ أحديّ جمعي ممدود ذو وجهين :
وجه إلى الوجود الواحد الحق ومنه وهو وجود العالم .
ووجه إلى الإمكان والكيان ، وكثرة الأعيان والأكوان والألوان في العيان ، وهو ظلّ أشخاص الأعيان ، الثابتة في العلم الذاتي النابتة في أرض الحقيقة بموجب أتمّ الشهود وأعمّ الأعيان .
قال رضي الله عنه : ( فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظلّ ، كذلك لا يزول باختلاف الصور  اسم " العالم " و " السوي " ، فمن حيث أحدية كونه ظلا هو الحق ، لأنّه الواحد الأحد ، ومن حيث كثرة الصور هو العالم )، لأنّه المعدود والعدد  .
يعني رضي الله عنه : إن وجدت الأعيان على مشهد من يرى ذلك إنّما وجدت بالوجود الواحد الأحد المستفاد من الحق المطلق المشترك بين الكلّ .
فهو الحق الواحد الأحد وهو النور الظلَّي الممتدّ ، أو الظلّ النوري المشتدّ المعتدّ ، أمّا تسمية من يسمّيه “ سوى » فمن حيث نقوش الكثرة ، فإنّ كل واحد واحد منها غير الآخر وسواه ، وهي أغيار بعضها للبعض .

قال رضي الله عنه : ( فتفطَّن وتحقّق ما أوضحت لك ، وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك ، فالعالم متوهّم ، ما له وجود حقيقي ، وهذا معنى الخيال ، أي خيّل لك أنّه أمر زائد قائم بنفسه ، خارج عن الحق وليس كذلك في نفس الأمر ، ألا تراه في الحسّ متّصلا بالشخص الذي امتدّ عنه يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتّصال ، لأنّه يستحيل عليه الانفكاك عن الحق "عن ذاته") .
كما يستحيل على النور المنبسط من عين الشمس على أعيان العالم الانفكاك عنها وكاستحالة انفكاك الظلّ عمّن امتدّ عنه .
قال رضي الله عنه : ( فاعرف عينك ومن أنت ؟ وما هويّتك ؟ وما نسبتك إلى الحق ؟ وبما أنت حق ؟ وبما أنت عالم وسوى وغير ؟ وما شاكل هذه الألفاظ ، وفي هذا يتفاضل العلماء ، فعالم وأعلم ) .
يشير رضي الله عنه : إلى كليات أذواق علماء العالم على اختلاف مشاهدهم ومشاربهم :
فإن كان شهودك الوجود الحق ظهر في عينك الثابتة بمقتضى خصوصها ، فأنت حق .
وإن كان مشهدك الكثرة والتجدّد والتحدّد والتعيّن والاختلاف والتميّز والتبيّن ، فأنت عالم وخلق وسوى .
وإن كان مشهدك أنّك ذو وجهين وظاهر باعتبارين ، فأنت حق من وجه ، خلق من وجه ، فأنت بهويتك وعينك حق واحد أحد ، وبصورتك وأنانيّتك خلق أو ظاهر أو مظهر أو شهادة للحق .
وإن كان مشهدك الكثرة والاختلاف ورأيت أنّ هذه الكثرة من عين الوحدة ، وفيها نسبها وإضافاتها ، فأنت من أهل الله .
وإن كان مشهدك حجابيّات الكثرة وصنميّات الأشياء ، ولا ترى غير العالم فأنت من أهل الحجاب .
وإن رأيت حقّا بلا خلق ، فأنت صاحب شهود حاليّ .
وإن رأيت حقّا في خلق وهو غيره ، فأنت قائل بالحلول أو قائل بالاتّحاد .
وإن رأيت خلقا في حق مع أحدية العين ، فأنت على الشهود الحقيقي .
وإن شهدت حقا في خلق وخلقا في حق من وجهين وباعتبارين مع أحدية العين ، فأنت كامل الشهود ، فاشكر الله تعالى على ما هداك وأولاك وولَّاك .
قال رضي الله عنه : ( فالحق بالنسبة إلى ظلّ خاصّ صغير وكبير وصاف وأصفى كالنور بالنسبة إلى حجابه عن الناظر إلى الزجاج يتلوّن بلونه ، وفي نفس الأمر لا لون له ، ولكن هذا تراه ضرب مثال لحقيقتك بربّك ) .
يعني رضي الله عنه : ظهور الحق في حقيقة ظاهرة ظهور ظاهر صاف ، كظهور النور في الزجاج الصافي الذي لا لون له ، وفي الملوّن ملوّن ، كذلك في الكدر كدر.
فإنّ لون الماء لون إنائه ، فمن كان في حقيقته لا لون له على التعيّن ، ظهور النور فيه كما هو في ذاته ، خارجا عن المرآة ، كما قلنا : أنا الآن من ماء إناء بلا لون .

قال رضي الله عنه : ( فإن قلت : النور أخضر لخضرة الزجاج ، صدقت وشاهدك الحسّ . وإن قلت : ليس بأخضر ولا ذي لون كما أعطاه لك الدليل صدقت وشاهدك النظر العقلي الصحيح . فهذا نور ممتدّ عن ظلّ هو عين الزجاج ، فهو ظلّ نوري لصفائه ) .
يعني : ظهور الوجود الحق في عالم الأمر والعقول والنفوس ظهور نوري ، فهي أنوار ظلاليّة أو ظلال نورية فإنّ الاعتبارين فيها سائغان بحسب ذوقك غير متحيّزة ولا جسمانية .
ولكن لها صبغة من صبغ الجسمانيات ، وظهوره في الزجاج غير الملوّن كظهور نور الوجود في أعيان الأرواح والعقول ، فافهم . أو كظهور التجلَّي في قابلية العارف والمحقّق .
قال رضي الله عنه : ( كذلك المتحقّق منّا بالحق تظهر لصفائه صورة الحق فيه أكثر ممّا تظهر في غيره ، فمنّا من يكون الحق سمعه وبصره وجميع قواه وجوارحه بعلامات قد أعطاها الشارع الذي يخبر عن الحق ، ومع هذا عين الظلّ موجود ) .
يعني : أنّك موجود ، وظهور الحق فيك بحسبك مشهود .
قال رضي الله عنه : ( فإن الضمير من " سمعه " وغيره يعود عليه ، وغيره من العبيد ليس كذلك ، ونسبة هذا العبد إلى وجود الحق أقرب من نسبة غيره من العبيد) .
قال العبد : فكذلك صاحب الفرائض الذي يسمع به الحق ويبصر به ويأخذ ويعطي فهو سمع الحق وبصره وعينه ، وكذلك الذي يجمع بين القربين ، والذي في مقام التشكيك ، والذي في مقام التمحّض على ما تقرّر وتحرّر ، فتذكَّر وتأمّل وتدبّر تعرف مقامات رجال الله وأولياء الله وأهله ، لا أولياء الأوامر والنواهي الإلهيّة ، إن شاء الله تعالى .

قال رضي الله عنه : (وإذا عرفت ما قرّرناه ، فاعلم : أنّك خيال ) . وإذا كان الأمر على ما قررناه فاعلم أنك خيال.
يعني : من حيث تصوّرك وحجابيّتك وصنميّتك الطاغوتية على ما في وهمك منك وزعمك ، لا على ما أنت عليه عند الحق والمحقّقين .
قال رضي الله عنه : ( وجميع ما تدركه ممّا تقول فيه " سوى " كلَّه خيال في خيال ) .
يعني رضي الله عنه : أنّك ما تدرك على ما تعوّدت وعرفت في زعمك إلَّا غير الحق وهو خيال ، فإنّه ما ثمّ إلَّا الحق ، فالذي يجزم أنّه الموجود خيال ، والذي توهّمت أنّك وجود غير الحق ، مستقلّ في الوجود ، فاعل مختار خيال في خيال ، وكل ما تقول وتفعل خيال .
والوجه الآخر الأعلى هو أنّ الوجود الحق  كما علمت إن شاء الله - مجلى ومرآة لظهور صور الأعيان الثابتة ، والظاهر في المرآة مثال وهو خيال بلا شكّ ، إذ لا حقيقة له خارج المرآة ولا وجود له في عينه ، فهو مخيّل ممثّل أو نسبة ، لا وجود له في عينه ، ولكن من حيث الأمر الظاهر فيه المتمثّل المتخيّل ، له وجود محقّق .

فإنّ الخيال صورة محسوسة في مخيّلة كل متخيّل وحسّه المشترك ، فإن اعتبرناه صورة خيالية فقطَّ ، فلا وجود له خارج الخيال ، وإن اعتبرنا الأمر الذي تصوّر وتشكَّل فيه متخيّلا أو متمثّلا من روح أو معنى أو حقيقة أو اسم ، فهو محقّق ، فتحقّق ذلك ولا تغفل .
قال رضي الله عنه : ( والوجود الحق إنّما هو الله خاصّة من حيث ذاته وعينه فكلّ من الظاهر والمظهر على الشهودين خيال ، فما في الوجود خيال في خيال .).
قال رضي الله عنه : ( لا من حيث أسمائه ، لأنّ أسماءه لها مدلولان : المدلول الواحد عينه وهو عين المسمّى ، والمدلول الآخر ما يدلّ عليه ممّا ينفصل به الاسم عن هذا الاسم الأخير ويتميّز ، فأين " الغفور " من " الظاهر "و "الظاهر " من " الباطن " ؟ وأين " الأوّل " من " الآخر " ؟ فقد بان لك بما هو كلّ اسم عين الاسم الآخر ، وبما هو غيره ، فبما هو عينه هو الحق ، وبما هو غيره هو الحق المتخيّل الذي كنّا بصدده) .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّه لا موجود في الحقيقة إلَّا الحق ، والمتحقّق معنى آخر غيره هو الحق المتخيّل الذي نسمّيه " سوى " و " إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ الله بِها من سُلْطانٍ " وإن هي إلَّا نقوش وعلامات .

قال رضي الله عنه : (  فسبحان من لم يكن عليه دليل إلَّا نفسه  ولا يثبت كونه إلَّا بعيّنه ، فما في الكون إلَّا ما دلَّت عليه الأحدية ،وما في الخيال إلَّا ما دلَّت عليه الكثرة. فمن وقف مع الكثرة ، كان مع العالم أو مع الأسماء الإلهية وأسماء العالم.
ومن وقف مع الأحدية ، كان مع الحق من حيث ذاته الغنيّة عن العالمين ، لا من حيث صورته ، وإذا كانت غنية عن العالمين . فهو عين غناها عن نسبة الأسماء لها ، لأنّ الأسماء لها كما تدلّ عليها تدلّ على مسمّيات أخر يحقّق ذلك أثرها).

يعني رضي الله عنه : أنّ الواقف من الناظرين في العالم مع الكثرة إنّما يقف مع تعقّلات يتعقّلها في هذا النور الواحد الحقيقي الذي لا كثرة فيه على الحقيقة .
بل من حيث التعقّل ، فليس واقفا إلَّا مع أسماء وضعها على هذا النور الواحد ، بحسب تعقّلات يتعقّلها أسماء ، فيتعقّل من الظهور بعد البطون بالنسبة إليه تجدّدا وتغيّرا وحدوثا .
فيقول : هذا متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث ، فيتعقّل أنّ له محدثا ، ثم يتعقّل أنّ المحدث - اسم فاعل - يجب أن لا يكون حادثا ، ويتعقّل كثرة غير متناهية في الحادثات المتجدّدات ، فيضع بحسب ذلك لها أسماء ويضع لمحدثها أسماء يزعم أنّ فيها كمالات ، وفي أضدادها ونقائضها نقائص ، فهو هكذا دائما مع الأسماء .
والواقف مع أحدية العين يرى أنّ هذه الكثرة المتخيّلة والمتعقّلة إنّما هي في عين واحدة ، ليس لغيرها تحقّق في نفسه ، ويرى أنّ التجدّد والحدوث والظهور والبطون والكثرة والوحدة نسب متعقّلة ، ما لها تحقّق في أعيانها ، فهو مع الحق والواحد الأحد ، فافهم .
قال رضي الله عنه : (" قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ " من حيث عينه " الله الصَّمَدُ " ، من حيث إسنادنا إليه ، " لَمْ يَلِدْ " من حيث هويّته ونحن ، “ وَلَمْ يُولَدْ " كذلك ، " وَلَمْ يَكُنْ لَه ُ كُفُواً أَحَدٌ " كذلك ).
لأنّه محيط بالكلّ ، ولا غير له فما له كفو .
قال رضي الله عنه : (فهذا نعته ، فأفرد ذاته بقوله : “ الله أحد " وظهرت الكثرة بنعوته المعلومة عندنا ، فنحن نلد ونولد ونحن نستند إليه ، ونحن أكفاء بعضنا لبعض ، وهذا الواحد منزّه عن هذه النعوت ) .
يعني رضي الله عنه : أنّ الواحد الذي لا يكون معه غيره يتعالى ويتنزّه عمّا لا تقتضيه ذاته ، فإنّ مقتضى ذاته أن لا يكون إلَّا هو ولا يكون معه غيره أصلا ورأسا ، فانتفت عنه هذه النسب كلَّها .
لأنّها لا تعقل إلَّا في كثرة ، ونحن الكثيرون ، فصحّت نسبتها إلينا ، ولم تصحّ نسبتها إلى الواحد الأحديّ الذات الذي ليس إلَّا هو ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان .
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فصّ حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت يوليو 20, 2019 10:58 pm

09 - فصّ حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص اليوسفي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

09 - فصّ حكمة نورية في كلمة يوسفية الجزء الثاني

قال رضي الله عنه : (فهو غنيّ عنها أي عن هذه النسب ، كما هو غنيّ عنّا وما للحق نسب إلَّا هذه السورة سورة الإخلاص وفي ذلك نزلت ، فأحدية الله - من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا أحدية الكثرة ) .
يعني رضي الله عنه : واحد تتعقّل فيه كثرة نسبيّة ، لأنّ المسمّى بهذه الأسماء الكثيرة واحد ، والكثرة نسب تتعقّلها فيه .
قال رضي الله عنه : ( وأحدية الله من حيث الغنى عنّا وعن الأسماء الإلهية أحدية العين ، وكلاهما يطلق عليه اسم الأحد فاعلم ذلك ) .
يعني : ليس ذلك باعتبار تعقّل الكثرة فيه وعدم تعقّلها ، فاعلم ذلك .

قال رضي الله عنه : (فما أوجد الحق الظلال وجعلها ساجدة متفيّئة عن اليمين والشمال ، إلَّا دلائل لك عليك وعليه ، لتعرف من أنت ؟ وما نسبتك إليه ؟ وما نسبته إليك ؟ ) .
يشير رضي الله عنه إلى : أنّ التعيّنات الوجودية التي هي نحن كالظلال الممتدّة من الأشخاص تزيد وتنقص ، تزيد بالامتداد عنها فسمّيت ظلالا وتنقص بالتقلَّص إليها ، فتسمّى أفياء من " فاء " إذا رجع .
قال الله -تعالى : " فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ الله " ومنه سمّي الغنيمة فيئا ، لأنّها ترجع وتفيء إلى المغتنم الساعي فيها ، فنحن - أعني التعيّنات الوجودية الحقّة في العالمين - لنا دلالتان بالنسبة إلينا يستدلّ بهما عليهما :
إحداهما : دلالتنا على عين واحدة تجمعنا نحن لنا وفيها وبها ،ولا استقلال لنا في تحقّقنا دونها.
والدلالة الثانية : دلالاتنا علينا من حيث الكثرة التي ظهرنا بها بحسب خصوصيات أعياننا .
وكذلك الظلال يستدلّ بها على ذوات الظلال التي منها امتدّت ، ويستدلّ بها أيضا
عليها أن لا استقلال ولا تحقّق لها دون تلك الأشخاص التي هي ظلالها .

قال رضي الله عنه : ( حتى تعلم من أين أو من أيّ حقيقة إلهية اتّصف ما سوى الله بالفقر الكلَّي إلى الله ، وبالفقر النسبي بافتقار بعضنا إلى بعض ؟
وحتى تعلم من أين أو من أيّ حقيقة اتّصف الحق بالغنى عن الناس والغنى عن العالمين ، واتّصف العالم بالغنى ، أي بغنى بعضه عن بعض من وجه ما هو عين ما افتقر إلى بعضه به ؟ فإنّ العالم مفتقر إلى الأسباب بلا شكّ افتقارا ذاتيّا ، وأعظم الأسباب له سببيّة الحق) .
قال العبد : العالم بمألوهيته ومربوبيته ومخلوقيته وعدميته مفتقر إلى الموجد الله الربّ الخالق ، والله من حيث وجوده المطلق غنيّ عن الربوبية والمربوب والخالقية والمخلوق ، لأنّ العالم من حيث مجموعه وكلَّيته يفتقر إلى الموجد الخالق بالذات .
إذ لا وجود له من نفسه ، وكذلك يفتقر إلى أجزائه وأبعاضه التي بها تتحقّق كليته ومجموعه ، وكذلك الكلّ من حيث كلّ جزء جزء من العالم مفتقر إلى الحق في الوجود ، ويفتقر كل جزء جزء كذلك في وجوده إليه افتقارا ذاتيا حقيقيا ويفتقر إلى بعضه في تحقّق نسبة بعضه إلى البعض .
فانتشت النسب الافتقارية الكثيرة بالوجود الواحد إليه في الكلّ للبعض من البعض ، وإلى الكلّ وللكلّ إلى الكلّ ، ومع قطع النظر عن النسب فذواتنا وهي عين وجوداتنا قائمة بالذات المطلقة الواحدة في حقيقتها ، إذ لا حقيقة لغيرها ، فافهم .
قال رضي الله عنه : ( ولا سببيّة للحق يفتقر العالم إليها سوى الأسماء الإلهيّة ) .
يعني رضي الله عنه : لا افتقار إلى سبب إلَّا في الإيجاد كالخالقية والرازقية وما شاكلهما ، وذوات الحقائق صور التعينات الذاتية الشؤونيّة ، فلا افتقار من حيث الذات العينية ، فإنّها عين العين الغنيّة بالغيبيّة ، فالافتقار بين النسب وهي الأسماء التي نحن صورها .
قال رضي الله عنه : (والأسماء الإلهية كلّ اسم يفتقر العالم إليه من عالم مثله ، أو عين الحق ، فهو الله لا غير ).
يعني : كافتقار الابن إلى الأب في وجوده ، والفرع إلى الأصل ، فهو الله لا غير ، إذ لا مفتقر ، فافهم .

قال رضي الله عنه : ( ولذلك قال الله تعالى “ يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ "  ومعلوم أنّ لنا افتقارا من بعضنا إلى البعض ، فأسماؤنا أسماء الله - تعالى - إذ إليه الافتقار بلا شكّ وأعياننا في نفس الأمر ظلَّه لا غيره ، فهو هويّتنا لا هويّتنا ، وقد مهّدنا لك السبيل ، فانظر ) .
قال العبد : يشير إلى أنّ الافتقار لمّا كان لنا ذاتيا ، لكوننا غير موجودين من حيث حقائقنا وأعياننا ، فما لنا وجود من أنفسنا .
وكذلك لنا افتقار إلى الوجودية الثبوتيّة من ذاته ، فعمّنا الافتقار إلى الله في الوجود وفي ظهور بعضنا للبعض ، ووصول آثار بعضنا إلى البعض به.
وكان الغنى في كل ذلك للذات المطلقة الواجبة الوجود بالذات ، فهو المفتقر إليه مطلقا في جميع أقسام الافتقار ، سواء كان افتقارا كلَّيا أو نسبيّا .
فالافتقار إلى هذا الغنيّ بالذات المغني بالأسماء الإلهية ، ولمّا كان الافتقار منّا إلى أسمائه ، ونرى افتقار بعضنا إلى البعض من وجه بالسببية والمسبّبية .
فنحن إذا صور أسماء الحق ، فعين افتقارنا إلينا هو عين افتقارنا إلى الحق ، فهو الغنيّ ونحن الفقراء ، فاعلم ما أشرنا إليه ، إن شاء الله الموفّق.
 .

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فصّ حكمة أحدية في كلمة هودية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 12:39 am

10 - فصّ حكمة أحدية في كلمة هودية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
10 - فصّ حكمة أحدية في كلمة هودية   الجزء الأول
لمّا فرغ من حكمة الجمع الإلهي وحكم التنزيه والسلوب والتقديسات ، وتمّم حكم كليّات الحقائق الثبوتية الإلهية ، شرع في بيان حكمة أحدية العين التي لها التنزيه السلبي وتنزيه التنزيه والكمالات الثبوتيّة.
فإنّ الحكم الكمالية سلبية كانت أو ثبوتية فإنّها للذات المطلقة الأحدية ، وقد ظهرت هذه الحكمة على أكمل وجوهها في الكلمة الهودية على ما نطق به القرآن ، وكما سيرد عليك جملا وفصولا ، إن شاء الله تعالى .
وجه نسبة هذه الحكمة إلى هود عليه السّلام هو أنّ الغالب عليه شهود أحدية الكثرة ، فأضاف لذلك إلى ربّه أحدية الطريق بقوله : " إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ".
 وقال :"ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها " فأشار إلى هوية ،لها أحدية كثرة النواصي والدوابّ .
ولمّا كانت الأحدية نعتا للهوية الذاتية ، قل هو الله أحد ، أضاف الأحدية إلى هوية الله وحملها عليه ، ثم لمّا ظهر من ذوق هود عليه السّلام ومشربه إشارات عليّة إلى الهوية والأحدية ، أسند حكمته إلى الأحدية ،ولأنّ حكمة الفصّ المتقدّم لمّا كانت خاتمتها في بيان الأحدية ، ناسب اتباع هذه الحكمة لها.
فقال رضي الله عنه :
إنّ لله الصراط المستقيم   ..... ظاهر غير خفيّ في العموم
في صغير وكبير عينه    ..... وجهول بأمور وعليم
ولهذا وسعت رحمته       ..... كلّ شيء من حقير وعظيم.
قال العبد : قد علمت فيما تقرّر من قبل أنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق وبعدد الأنفاس الإلهية ، وأنّ لكل اسم عبدا هو ربّه ، ذلك العبد جسم هو قلبه ، وكل عين عين من الأعيان الوجودية مستند إلى اسم هو عبده الذي ارتبط به ، فهو على الطريقة المستقيمة بالنسبة إليه ، يصل إلى الله من حيث هو .
ثم هذه الطرقات المستقيمة فهي على استقامتها السببية موصلة إلى المسمّى وهو الله أحدية جمع جمع هذه المسمّيات ، والمستقيم الحقيقي من كل وجه هو الله ، فللَّه الصراط المستقيم.
وذلك ظاهر في كل حضرة على العموم من كون الجميع متّصلا بالمسمّى ، وهذا ظاهر غير خفيّ ، وسواء كان الاسم كلَّيا أو جزئيا ، والمظهر كبيرا أو صغيرا ، فإنّ الله مسمّى الاسم بلا شك .
وكذلك فيمن يعلم ذلك وفيمن يجهل وإن لم يكن هذا هكذا ، فلا عموم إذن في الرحمة لما لم يعمّ ، والرحمة عامّة فالرحمن هو المسمّى بالكلّ ، فهو بالمرصاد لكلّ سالك ، وطريق من الطريق والسالكين ، وغايات الكلّ عند النهايات واصلة إليها .
قال رضي الله عنه  : " ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ " ، فكلّ ماشي فعلى صراط الربّ المستقيم ، فهم غير مغضوب عليهم من هذا الوجه ، ولا ضالَّون .
فكما كان الضلال عارضا كذلك الغضب الإلهي عارض ، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كلّ شيء وهي السابقة " .
يعني رضي الله عنه : أنّ الرحمة كانت سابقة إلى الأشياء قبل إيجادها ، لإزالة غضب العدم ، فأوجدتها بنسبها الذاتية المختلفة ، فامتدّت إليها على رقائقها ، وشدّت على تلك الرقائق إلى حقائقها ، ثمّ سلكت الحقائق الكيانية على تلك الرقائق إلى حقائق أربابها بطرائقها .
فمآل الكلّ كما قلنا إلى الله الرحمن ، والكلّ على صراط الربّ المستقيم ، فإنّ الله أخذ أيضا بناصية كل دابّة إليه ، فهو القائد والسائق والطريق ، وهو على الغاية ، قد سبقهم ويرقبهم بالمرصاد .
قال رضي الله عنه: " وكلّ ما سوى الحق فهو دابّة ، فإنّه ذو روح ، وما ثمّ من يدبّ بنفسه ، بل يدبّ بغيره ، فهو يدبّ بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم ، فإنّه لا يكون صراطا إلَّا بالمشي عليه " .
يعني رضي الله عنه : أنّ كلّ ما يسمّى سوى الحق فقيامه بالحقّ والحقّ قيامه ، يسير به إلى غاية كماله الذي أهّل له ، وذلك لأنّ الوجود الحق المتعيّن في قابليته يخرج ما في استعداده بالقوّة إلى الفعل ، وليس له ذلك بدون الوجود الحق.
فهو آخذ بناصيته في سيره به إلى كماله الخصيص به ، فهو إذن يدبّ ويتحرّك حركة ضعيفة ، لكونها غير ذاتية له ، بل عرضية بحكم التبعية ، فهو يتحرّك به في الحق .
فالحق هو عين الصراط المستقيم ، وهو الذي يمشي به عليه ، والصراط إنّما يكون صراطا بالمشي عليه ، كما قلنا في الغرّاء الرائية :لقد سار بي فيه فسرت بسيره
عليه إليه منه في كل سائر.
قال رضي الله عنه :
إذا دان لك الخلق    ..... فقد دان لك الحق
وإن دان لك الحق   ...... فقد لا يتبع الخلق
يعني : الوجود الحق المتعيّن في قابلية الخلق لمن هو متعيّن فيه وبه بحسبه ، فإذا أذعن وانقاد لك الخلق ، فإنّ حقيقته الباطنة فيه معه ، وإذا أذعن وانقاد لك الحق الذي تجلَّى لك ، فلا يلزم أن يتبعه الخلق ، لعدم تعيّنه فيه .
فإنّ الحق المذعن المفروض حق بلا خلق ظهر فيه ، إذ الظاهر بحكم المظهر وبالعكس في النار ، فكذلك الخلق السالك ناصيته بيد حق يسيّره به إلى كماله فما سلك خلق إلَّا بحقّ فيه ، فلا ظهر حق إلَّا بخلق .
 قال رضي الله عنه : فحقّق قولنا فيه    .... فقولي كلَّه حق.
يعني : لمّا تحقّقت أنّ الخلق لا فعل له إلَّا بالحق ، فتحقّق ذلك ، وحقّق قولي ونطقي بذلك : إنّه للحق بالحق في الحق ، فلا أقول إلَّا الحق .
 قال رضي الله عنه :فما في الكون موجود   ..... تراه ما له نطق.
يعني : كلّ ما وجد ، فلا بدّ أن يتعيّن الوجود الحق في مظهريته ، فهو ينطق بذلك الحق الذي فيه ينطق به وينطقه و " قالُوا أَنْطَقَنَا الله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ " ،
يعني : به .
قال رضي الله عنه: وما خلق تراه العين  ...... إلَّا عينه حق.
يعنى : لا يقع عين على عين من الأعيان الوجودية الخلقية إلَّا والحق عينه ، لأنّ الظاهر
المتعيّن به وفيه هو الوجود الحق ، فالوجود المشهود عيانا في رأى العين هو الحق المسمّى بالخيال والوهم في العرف خلقا ، أي إفكا ، فإنّ الخلق لغة إفك مفترى ، " إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ " وأيضا خلق بمعنى قدّر.
 فإنّ الموجود المشهود حقّ تقدّره أنت في وهمك وخيالك أنّه غير الحق ، وذلك زور وبهتان واختلاق ، ليس للقائل به عند الله خلاق ، بالوهم يخلق الإنسان في ذهنه ما يشاء ، ويسمّيه بموجب تعيّنه في ذهنه بما يشاء .
 قال رضي الله عنه :ولكن مودع فيه   . ... لهذا صوره حقّ.
يعني : أنّ الحق مودع فيما نسمّيه خلقا ، وهو مظهره ، فالصور الخلقية حقّ - جمع حقّه - وقد أودعت فيها حقّا به حقّية هذه الحقائق .
 فكلّ خلق حقّه لحقّ مودع فيه والصور جمع صورة ، والضمير يعود إلى الحقّ الخلق ، أي الحقّ الظاهر بأعيان المظاهر ، مظاهر حقائق الجواهر الحقوق المودعة فيه ، وكذلك الحقائق الكيانية الإمكانية للوجود الحق الظاهر فيها ، فافهم . 
قال رضي الله عنه : " اعلم : أنّ العلوم الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة ".
يشير رضي الله عنه إلى:  أنّ أهل الله يحصل لهم من العلم بالله قوى مختلفة توجب مشاهد مختلفة بحسب استعداداتهم الخصوصة ، فيحصل للبعض قوّة بها يكون الحق سمعه وبصره وسائر قواه وجوارحه ، جمعا وفرادى موقّتا وغير موقّت ، وفيها طبقات أهل قرب النوافل.
 ويحصل أيضا كذلك لآخر قوّة يكون هو بها عين الحق وسمعه وبصره فيه ، يبصر الحق ويسمع وينطق ويفعل به ، ويحصل للبعض قوّة يجمع بها بين الشهودين والوجودين ، فافهم ، وليس حصول هذه القوى فيهم إلَّا بالعلم ، والاختلاف بحسب القابلية والصلاحية الاستعدادية الذاتية الخصوصية لا غير .

قال رضي الله عنه : "قال الله تعالى : « كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها » فذكر أنّ هويّته هي عين الجوارح التي هي عين العبد ، فالهوية واحدة والجوارح مختلفة ، ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصّها من عين واحدة يختلف باختلاف الجوارح ، كالماء حقيقة واحدة يختلف باختلاف البقاع " .
قال العبد : شبّه رضي الله عنه العلم الحاصل لأهل الله في جوارحهم وقواهم من الله بالماء ، فإنّ الحياة للحيوان بالماء كالحياة للأرواح بالعلم . ثمّ إنّ هذه الحقيقة الواحدة العلمية تظهر في كل مظهر بحسبه كما يظهر الماء في كل بقعة بحسبها فمنه  "عذب فرات " وهو العلم النافع الإلهي ومنه "ملح أجاج " وهو العلم بالسوى والغير من حيث حجابيّتها .
قال رضي الله عنه : "وهو ماء في جميع الأحوال لا يتغيّر عن حقيقته وإن اختلفت طعومه  ".
يعني : كذلك العلم لا يختلف عن حقيقته ، فإنّه علم في جميع العلماء لا يتغيّر ، وإن اختلف بحسب المدارك والمدركين والمدركات ، فليس الاختلاف فيه  ، بل في اللوازم لا غير . 
قال رضي الله عنه : « وهذه الحكمة حكمة الأرجل وهو قوله تعالى في الأكل لمن أقام كتبه : "لأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ وَمن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ " فإنّ الطريق الذي هو الصراط هو للسلوك عليه والمشي فيه ، والسعي لا يكون إلَّا بالأرجل ، فلا ينتج هذا الشهود في أخذ النواصي بيد من هو على الصراط المستقيم إلَّا هذا الفنّ الخاصّ من علوم الأذواق " .
يشير رضي الله عنه إلى : العلم الخصيص بالأرجل ، وهو العلم الحاصل بالكدّ والسعي والتعمّل في مراتب العلوم الظاهرة في المثال ، وفي التحقيق العلم الحاصل للأقدام من حيث هي أقدام وآلات سعي على الصراط.
 ولا نتيجة له في أخذ النواصي بيد الحق الذي هو على الصراط المستقيم إلَّا أن يقودها بموجب ما تسوق الأرجل في السلوك والسعي لا غير ، ولا يفيد إلَّا هذا الفنّ الخاصّ من علم الأذواق . 
قال رضي الله عنه : « ويسوق المجرمين وهم الذين استحقّوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكهم عن نفوسهم بها ، فهو يأخذ بنواصيهم والريح تسوقهم وهي عين الأهواء التي كانوا عليها - إلى جهنّم وهي البعد الذي كانوا يتوهّمونه ، فلمّا ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب ، فزال البعد ، فزال مسمّى جهنّم في حقّهم ، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق" .
يشير رضي الله عنه إلى : أنّ المجرمين الذين يسعون في الأجرام والآثام إنّما تسوقهم الأهواء  التي يهوون بها في هوّة جهنّم إلى البعد الوهميّ من خلفهم وأدبارهم ، ولهذا سمّيت دبورا .
أي تسوقهم من أدبارهم أهواؤهم بزعمهم وفي نفس الأمر ، إنّما تسوقهم الأهواء بحسب ما يقودهم من بيده نواصيهم إلى غاياتهم التي استحقّوها بحسب استعداداتهم وسعيهم فيهم بحكم السائق والقائد .
فهم فنوا وهلكوا عنهم بحكمه ، فليسوا بحكمهم وقد توهّموا بعدا في بعد من حيث توهّمهم أنّهم هم الذين يسعون ويعملون ويمشون ويسلكون بأنفسهم إلى ما تخيّلوا من كمالات وهمية فانية .
فما يسعون إلَّا إلى ما يتوهّمونه ، وهو البعد ، والحقيقة تأبى ذلك ، فإنّهم إنّما يسعون بالحق في الحق للحق من حيث لا يعلمون ولا يشعرون ، فإذا بلغوا غاياتهم لم يجدوا ما عملوا شيئا ، لأنّهم وجدوا الله عاملا بهم ما عملوا ، ووجدوا الحق الذي به عملوا ما عملوا .
فإذا وفّقوا عند النهاية إلى الغاية على السرّ ، حصلوا في عين القرب ، فزال البعد في حقّهم ، فزال مسمّى جهنّم وهو البعد ، ففازوا بالقرب بسعيهم واستحقاقهم ، فإنّهم إنّما وصلوا إلى ما وصلوا بأرجلهم التي سعوا عليها .
وكانت أرجلهم عين الحق من حيث لم يعرفوا ، فلمّا عرفوا غرقوا في الذوق واللذّة القربيّة من حيث لم يعرفوا كذلك . 
قال رضي الله عنه : " فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنّة ، وإنّما أخذوه بما استحقّه حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها ، وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الربّ المستقيم ، لأنّ نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة ، فما مشوا بنفوسهم ، وإنّما مشوا بحكم الجبر " .
يعني رضي الله عنه : أنّهم في سعيهم الذي سعوا غير مختارين بالاختيار المعروف عرفا ، فإنّهم إنّما سعوا بموجب استعداداتهم الذاتية وبموجبها تعلَّقت المشيّة الإلهية بما يشبه الجبر ، فساقهم من أدبارهم بالدبور ، وأخذهم بنواصيهم جبرا ، حتى أوصلهم إلى ما استحقّوا بحسب مقتضيات ذواتهم لا باختيارهم المجعول فيهم ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « إلى أن وصلوا إلى عين القرب " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه ِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ " وإنّما هو مبصر ، فإنّه مكشوف الغطاء فبصره حديد ، وما خصّ ميّتا عن ميّت أي خصّ مؤمنا سعيدا دون مشرك شقيّ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وما خصّ إنسانا من إنسان ، فالقرب الإلهي من العبد لا خفاء به في الإخبار الإلهي ، فلا قرب أقرب من أن تكون هويّته عين أعضاء العبد وقواه ، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى ، فهو حق مشهود في خلق متوهّم ، فالخلق معقول ، والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود ، وما عدا هذين الصنفين فالحق عندهم معقول ، والخلق مشهود ، فهم بمنزلة الماء الملح الأجاج ".
يعني : علومهم ليست إلَّا بحجابيات الأشياء وصنميّات الأعيان والأهواء ، فلا علم لهم بالحق الذي يشهدون " وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ". 
قال رضي الله عنه :" والطائفة الأولى بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ شرابه لشاربيه ، فالناس على قسمين :
من الناس من يمشي على طريق يعرفها ويعرف غايتها فهي في حقّه صراط مستقيم.
ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها ولا يعرف غايتها وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر .
فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة ، وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة ".
يعني رضي الله عنه : أنّ الطريق إلى الحق حق عرفه من عرفه ، فسلك عليها ودعا إليها على بصيرة ، وجهلها من جهلها ، فسلك عليها على جهالة إلى غاية عليها الحق ، ودعا إلى الحق على جهالة ، لأنّ الطريق والغاية حقّ جميعها .
قال رضي الله عنه : « فهذا علم خاصّ يأتي من أسفل سافلين ، لأنّ الأرجل هي السفل من الشخص وأسفل منها ما تحتها وليس إلَّا الطريق ، فمن عرف الحق عين الطريق ، عرف الأمر على ما هو عليه " .
يعني رضي الله عنه : يعلمهم الله نتائج سلوكهم من كونه عين الطريق الحق الذي يسلكون عليها ، وإليه الإشارة بقوله : " وَمن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ".
قال رضي الله عنه : « ففيه جلّ وعلا نسلك ونسافر ، إذ لا معلوم إلَّا هو وهو عين السالك والمسافر ، فلا عالم إلَّا هو " .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ طريق الحق حق ، والسالك سالك حقّ ، والغاية حق ، والعلم حق ، والمعلوم حق ، والعالم حق ، فما في الوجود إلَّا الحقّ ، ولكنّ الحق في كلّ متعيّن باسم ومدلول اسم ما إنّما يكون بقدره وبحسبه ، وهو حقّه الخصيص به من الحقيّة المطلقة تحقّقت في الطريق والغاية والسالك والعلم والعالم والمعلوم ، فما ثمّ إلَّا هو .

قال رضي الله عنه : « فمن أنت ؟ فاعرف حقيقتك وطريقتك ، فقد بان لك الأمر على لسان الترجمان إن فهمت ، وهو لسان حق فلا يفهمه إلَّا من فهمه حق ، فإنّ للحق نسبا كثيرة ووجوها مختلفة".
يشير رضي الله عنه إلى : التحريض بالتحقّق بحقيقة الأمر ، وحقيقة الأمر أن لا حقيقة ولا حقّية إلَّا لله ، وهو حق الحقيقة وحقيقتها ، فإذا تحقّقت ذلك تحقّقت أنّك عين الحق ، والحق عينك وعين قواك وجوارحك .
وأنت صورة أحدية جمع صور تنوّعات ظهوره وتعيّنات نوره ، وإذا عرفت أنّك حق على الطريق الحق ، وغايتك الحق ، وسلوكك حق ، فالكلّ حق في حق ، فاعلم ذلك ولا تكن من الجاهلين " إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ من الْجاهِلِينَ ".
 فقد بان لك الأمر على لسان ترجمان الحق وهو رسول الله الذي هو لسان حق بقوله : « كنت سمعه وبصره ويده ورجله » وحيث قال لك الحق بلسان الحق حقّا ، فافهم الحق بالفهم الحقّ حقّ الفهم ، إذ لا يفهم الحق إلَّا الحق .

ثم قال رضي الله عنه بعد قوله : « فإنّ للحق نسبا كثيرة ووجوها مختلفة : « ألا ترى عادا قوم هود ، كيف " قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا " فظنّوا خيرا بالله وهو عند ظنّ عبده به ؟ !
فأضرب لهم الحق عن هذا القول فأخبرهم بما هو أتمّ وأعلى في القرب ، فإنّه إذا أمطرهم فذلك حظَّ الأرض وسقي الحبّة ، فلا يصلون إلى نتيجة ذلك إلَّا عن بعد .
 فقال لهم : "بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُمْ به رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ " ، فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة لهم ، فإنّ هذه الريح أراحتهم عن هذه الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة والسدف المدلهمّة .
وفي هذه الريح عذاب أي أمر يستعذبونه إذا أذاقوا إلَّا أنّه يوجعهم ، لفقد المألوف ، فباشرهم العذاب ، فكان الأمر إليهم أقرب ممّا تخيّلوا " .
يعني رضي الله عنه : أنّهم لمّا ظنّوا بالله خيرا من حيث لا يشعرون والله عند ظنّ عبده به ، فأثابهم الله خيرا ممّا ظنّوا ، لكونهم حصلوا بذلك في عين الحق من حيث لم يحتسبوا ، فإنّ للحق وجوها كثيرة ونسبا مختلفة ، هم وظنونهم وأفعالهم وأحوالهم وأقوالهم من جملتها ، فجازاهم على ظنّهم بالله خيرا على وجه أتمّ وأعمّ .

قال رضي الله عنه : « فدمّرت " كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ " وهي جثتهم التي عمرتها أرواحهم الحقيّة .
فزالت حقّية هذه النسبة الخاصّة ، وبقيت على هياكلهم الحياة الخاصّة بهم من الحق - التي تنطق بها الجلود والأيدي والأرجل - وعذبات الأسواط والأفخاذ . وقد ورد النصّ الإلهي بهذا كلَّه " .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ التدبير كان في تدميرهم ، فدمّرت الريح ما كان قابلا للتدمير منهم ، فأزالت أرواحهم العامرة لجثثهم وأبدانهم ، فإزواح الريح أرواحهم إزواحهم عن هذه الهياكل المظلمة التي كان سلوك الحق فيها في المنازل والسمالك الوعرة الغالبة عليها حشوية الحجابية والتعيّن .
فبقيت جثثهم بلا أرواحهم ، وهم وإن زالت عنهم الحقّية التي كانت لهم من حمية الأرواح الحقّية ، ولكنّ أبقى الله عليهم الحقّية التي تخصّ أجسامهم هي حياة الحقّيّة الحفيّة .
ولكنّ التي بها تنطق الأيدي والأرجل يوم لا ينطقون بأنفسهم الناطقة وتلك حياة حييت بها الجسمانيات من حيث الجسمانية لا من حيث الروحانية .
كما أشار إلى سرّها الشيخ الكامل أبو مدين الغوثّ بقوله : سرّ الحياة سرى في الموجودات ، يعني : من حضرة الحيّ القيّوم المحيي ، فيه تجمّدت الجمادات ، وبه حييت الحيوانات ، فإنّ الجماد صورة وجودية بها حياة ذلك الجسم وكماله الوجودي .
""أضاف الجامع قال الشيخ في الفتوحات الباب الثامن والخمسون وخمسمائة :
فالخلق وإن كان له السريان في الحق فهو محدود بالسريان والحق وإن كان له السريان في الخلق فهو محدود بالسريان .
وهذا كان مذهب أبي مدين رحمه الله وكان ينبه على هذا المقام بقوله الأمي العامي سر الحياة سرى في الموجودات كلها فتجمدت به الجمادات ونبتت به النباتات وحييت به الحيوانات فكل نطق في تسبيحه بحمده لسر سريان الحياة فيه فهو وإن كان رحمه الله ناقص العبارة لكونه لم يعط فتوح العبارة .
فإنه قارب الأمر ففهم عنه مقصوده وإن كان ما وفاه ما يستحقه المقام من الترجمة عنه فهذا معنى الطيب وأنه من أسماء التقييد والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.أهـ ""

قال رضي الله عنه : « إلَّا أنّ الله وصف نفسه بالغيرة ، ومن غيرته حرّم الفواحش ، وليس الفحش إلَّا ما ظهر »
يعني رضي الله عنه : ممّا يجب ستره .
قال رضي الله عنه : « وأمّا فحش ما بطن فهو لمن ظهر له . فلمّا حرّم الفواحش أي منع أن تعرب حقيقة ما ذكرناه ، وهي أنّه عين الأشياء - فسترها بالغيرة وهي أنت من الغير.
فالغير يقول : السمع سمع زيد ، والعارف يقول : السمع عين الحق ، وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء ، فما كلّ أحد عرف الحق ، فتبيّن الفاضل والمفضول ، فتفاضل الناس ، وتميّزت المراتب " .
قال العبد : لمّا قرّر رضي الله عنه أنّ الحق هو الموجود المشهود : من الطريق ، والسالك ، والسلوك ، والغاية ، والعلم ، والعالم ، والمعلوم ، استثنى بأنّ الله حرّم ظهور هذه الأسرار ، فإنّ الفحش ظهور ما يجب ستره ، وهذا ما ظهر منها .
وأمّا فحش ما بطن منها فهو بالنسبة إلى من أظهره الله عليه ، فجرّ الله العيون أي أظهرها من باطن الأرض ، وفجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه إلى لسانه ، والفجور هو الفحش الظاهر ، ممّا يجب ستره .

قال : ولمّا حرّمها أي جعلها حرما لا يطرقها إلَّا أهل الحمى،  لم يكن سترها إلَّا بالتعينات الكثيرة المختلفة التي أوجبتها أنت بأنانيّتك وإنيّتك.
فإنّ الأنانيّة والإنيّة والأينية والتحتية والفوقية عدّدت الهوية الأحدية إلى هويات لا تتناهى ، فسترتها بها ، فظهرت الغيرية .
لأنّ " أنا " غير « ك » ، و « أنت » و « أنت » غير « هو » وغير « ي » ، و " نحن" غير « كم » .
فكثرت الكنايات والعبارات عن عين واحدة ، فقيل :
عباراتنا شتّى وحسنك واحد  .... وكلّ إلى ذاك الجمال يشير
فمن كان تحقّقه في مقام شهود الغيرية تحقّقت الغيرية بالنسبة إليه على العين فستر الحقيقة .
فقال : السمع سمع زيد .
والعارف بالحقيقة يقول : السمع والبصر والقوى والجوارح من الكلّ عين الحقّ .
والكلّ في مقام قرب النوافل من كون الكلّ متنفّلا بوجوداتهم ومتقرّبا إلى الحق بمظهرياتهم وإنّيّات أعيانهم وهوياتهم ، فتميّزت المراتب والمنازل ، وتعيّنت المشارب والمناهل وتبيّن المفضول عن الفاضل . 
 قال رضي الله عنه - :  " واعلم : أنّه لما أطلعني الله وأشهدني أعيان رسله وأنبيائه كلَّهم البشريّين من آدم إلى محمّد - صلوات الله عليهم أجمعين - في مشهد أقمت فيه بقرطبة سنة ستّ وثمانين وخمسمائة ، ما كلَّمني أحد من تلك الطائفة إلَّا هود عليه السّلام ، فإنّه أخبرني بسبب جمعيتهم ، ورأيته رجلا ضخما في الرجال ، حسن الصورة ، لطيف المحاورة ، عارفا بالأمور ، كاشفا لها ، ودليلي على كشفه لها قوله " ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ".
قال العبد : « قرطبة » مدينة من بلاد المغرب ، وكان الشيخ رضي الله عنه بها إذا أشهده الله هذا المشهد الشريف النزيه ، أشهده فيها أعيان الأنبياء والمرسلين كلَّهم أجمعين مجتمعين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فأخبره هود عليه السّلام أنّ اجتماعهم لتهنئته - رضي الله عنه - بأنّه خاتم الأولياء ووارث ختمية خاتم الرسل والأنبياء ، وأنّه قطب الأقطاب .
وسبب اختصاص هود عليه السّلام بإخباره بسبب اجتماعهم هو صحّة مناسبة ذوقه ومشربه صلى الله عليه وسلم بمشرب ختم الولاية المحيطة بالأذواق والمشارب كلَّها من حيث جمعيته عليه السّلام وإحاطة مشربه في التوحيد وسعة مقام كشفه وشهوده عليه السّلام.
فإنّه أثبت بشهادة القرآن العظيم أنّ الحق عين كلّ دابّة على أرض الحقيقة ، فما خصّص شيئا عن شيء .
وعيّن أنّ الله بهويته الأحدية الجمعية آخذ بناصية كل متعيّن بها من الممكنات غير المتناهية التي تدبّ بالحق المتعيّن فيه على أرض الحقيقة التي عليها تدبّ وتسلك طريقة خاصّة بها إلى ربّها.

فإنّه هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن ، فعمّ شهوده عليه السّلام جميع ما ظهر وبطن ، فإنّه ما من ظاهر متعيّن إلَّا وهو يدبّ بالحق الآخذ بناصيته إليه ، وما من باطن من الحقائق الغيبية العينية إلَّا وهو يدبّ إلى كمال الظهور وتحقّقه بالنور ، والأوّل يدبّ إلى نهاية الآخرية اللامتناهية ، والآخر يدبّ بانعطافه على الأوّل . 
وكونه ضخما صورة كماله وسعته في الشهود ، كمال قال الله تعالى حكاية عن أشموئيل عليه السّلام في حق طالوت وتزكيته عند من كان بصدد جرحه في الطعن فيه .
فقال : " إِنَّ الله اصْطَفاه ُ عَلَيْكُمْ وَزادَه ُ بَسْطَةً في الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ".

قال رضي الله عنه : « وأيّ بشارة أعظم للخلق من هذه ؟ »
يعني : من إخباره أنّه عين هويات الأشياء كلَّها .
قال رضي الله عنه: « ثمّ من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن ، ثم تمّمها الجامع للكلّ محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم بما أخبر به عن الحقّ بأنّه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان ، أي هو عين الحواسّ . والقوى الروحانية أقرب من الحواسّ ".
يعني : في النظر العقلي
قال رضي الله عنه: « فاكتفى بالأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحدّ ، فترجم الحق لنا عن نبيّه هود عليه السّلام مقالته لقومه بشرى لنا وترجم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الله مقالته بشرى فكمل العلم " في صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ " . "وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ ".
فإنّهم يسترونها وإن عرفوها حسدا ونفاسة وظلما .
 وما رأينا قطَّ من عند الله في حقّه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أو صله إلينا فيما يرجع إليه تعالى إلَّا بالتحديد تنزيها كان أو غير تنزيه .
أوّله العماء الذي ما فوقه هواء وما تحته هواء ، فكان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق ، ثم ذكر أنّه استوى على العرش ، فهذا أيضا تحديد .
ثمّ ذكر أنّه ينزل إلى سماء الدنيا ، فهذا تحديد ، ثم ذكر أنّه في السماء ، وأنّه في الأرض ، وأنّه معنا أينما كنّا إلى أن أخبرنا أنّه عيننا . ونحن محدودون ، فما وصف نفسه إلَّا بالحدّ .
وقوله : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " حدّ أيضا إن أخذنا الكاف زائدة لغير الصفة ومن تميّز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود .
فالإطلاق عن التقييد تقييد والمطلق مقيّد بالإطلاق لمن فهم . وإن جعلنا الكاف للصفة ، فقد حدّدناه .
وإن أخذنا « ليس كمثله شيء » على نفي المثل ، تحقّقنا بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنّه عين الأشياء ، غير هذا المحدود ".
قال العبد : يشير رضي الله عنه إلى ما يخطر لبعض المحجوبين من أنّ الحق إذا كان عين سمع أو بصر ، كان محدودا بحدّه وهو غير محدود .
فعرّف رضي الله عنه أنّ الأمر أعظم ممّا توهّم تنزيهه الوهميّ ، وأوسع وأجل عن التقيّد بالمدرك الفكري ، فإنّه الحقيقة التي من شأنها أن تكون عين الكلّ ، فلا يتقيّد بحدّ ولا يتحدّد بما ميّزه هو بتنزيهه عن أن يكون عين المحدودات .
فإنّه لو كان في معيّن بالتعيين أو معيّنا متميّزا عن غيره ، لكان كذلك ، ولكنّه ليس كذلك ، بل محيط بالكلّ قد استغرق الكلّ ، غير منحصر في الكلّ .
لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلَّا أحصاها بعينه ، فكان عينها ، ولم يتعيّن في عين على التعيين ، فلم يتحدّد بحدّ مخصوص على التخصيص والتمييز .
فلم يدركه حدّ ولم يبلغه حصر ، وإن كان محدودا بحدّ كلّ ذي حدّ ، فإنّه غير محصور في ذلك فافهم ، إن شاء الله تعالى .
ثمّ أخذ رضي الله عنه في تعديد التحديد الذي وردت به النصوص الإلهية ممّا يجب الإيمان به في الكتاب والسنّة ، وادّعى أنّه لم يرد في جميع ما ورد في القرآن وسائر الكتب المنزلة وألسنة السنّة إلَّا التحديد .
ثمّ بيّن أنّ التحديد لا يقيّده والتقييد لا يحدّده ، لعدم انحصاره في الكلّ ، ولا في الإطلاق عن الكلّ .
ثمّ قال رضي الله عنه : الآية الدالَّة على التنزيه في القرآن هي " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ "  فإن أخذنا الكاف زائدة ، دلَّت على نفي المثل فتميّز عن الأمثال وماله مثل ، فكان محدودا بتميّزه عمّاله مثل ، وإن لم تكن زائدة ، كان إثباتا للمثل ونفيا لمثليّة المثل ، عن المثل ، وهذا عين التشبيه ، والتشبيه تحديد.
 وبنفي المثلية عن مثله يتحقّق أنّ مثله من لا يشبهه شيء له مثل ، فيصحّ أن يكون عين الأشياء حقيقة ، حتى لا يكون له مثل من الأشياء.
فإنّ من يكون بعينه عين الكلّ ، فإنّه لا يكون شيء من الكلّ مثله من كونه عين الكلّ ، فافهم ، وإذا كانت الأشياء محدودة بحدود لها خصيصة بها ، كان هو من حيث كونها عين الكلّ محدودا بحدود ذوات الحدود كلَّها .
فما حدّه حدّ معيّن حاصر فما له حدّ ، إذ حدّ الحدّ أن يكون جامعا لحقائق المحدود ، مانعا لما تميّز عنه عن الدخول في حدّه والمقول عليه ، وفيه حدود المحدودات غير المتناهية ، وغير المحدودة غير محدود ، فافهم .

قال رضي الله عنه : « والأشياء محدودة ، وإن اختلفت حدودها ، فهو محدود بحدّ كلّ ذي حدّ  ، فما يحدّ شيء إلَّا وهو حدّ للحق ، فهو الساري في مسمّى المخلوقات والمبدعات ، ولو لم يكن الأمر كذلك ، لما صحّ الوجود " . 
يعني : لأنّه لا وجود إلَّا وجوده الذي هو هو ، فبالحق وجدت الموجودات وشهدت المشهودات ، فلا وجود لشيء إلَّا به . 
قال رضي الله عنه : « فهو عين الوجود ، فهو على كل شيء حفيظ بذاته لا يؤوده حفظ شيء ، فحفظه تعالى الأشياء كلَّها حفظه لصورته أن يكون الشيء غير صورته ، ولا يصحّ إلَّا هذا ، فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود ، فالعالم صورته ، وهو روح العالم ، المدبّر له ، فهو الإنسان الكبير " .
قال العبد : قد علمتم أنّ الأشياء محدودة ، ولكل شيء حدّ هو جمع جميع ما يجمعه ويمنعه عن غيرهن أن يكونه ، وذلك إمّا بذكر الجنس والفصل فيما هو تحت الجنس والفصل ، أو بما به الاشتراك والامتياز فيما ليس كذلك.
 وحدّ الحدّ أن يكون كذلك سواء كان الحدّ تامّا أو ناقصا ، إذ الناقص أيضا على ما عرف وعرّف كاف ، لتضمّنه ما نقصه في العبارة من كون الخاصّ مستلزما للعامّ .
لأنّك إذا قلت : الإنسان هو الناطق أو الناطق الإنسان ، لكان في قوّة قولك : الإنسان حيوان ناطق ، أو الحيوان الناطق هو الإنسان .
لاستلزام الناطق وهو الفصل المميّز الخاصّ للعامّ وهو الحيوان الذي فيه الإنسان أو الناطق مع غيره ، وكل ناطق فهو حيوان ، وكل خاصّ فهو مستلزم للعامّ .
فكلّ كاف شاف عند الإيجاز عن ذكر ما به الشركة ، ولا شيء من الأشياء إلَّا وهو محدود بما به يمتاز ويختصّ ، وهو يتضمّن ما به الاشتراك بالضرورة .
ثمّ إنّا إن لم نأخذ في كل حدّ ظاهر المحدود وباطنه ، لم يعمّ التعريف ولم يكن الحدّ جامعا ، وباطن الأشياء باعتبار هو الوجود الحق ، وظاهرها ما نسمّيه « السوي » سوى الحق وغيره غيره .
وباعتبار آخر هو الظاهر من كون الظاهر هو الحق الموجود المشهود ، والباطن المعقول هو الاعتبارات والحدود والكثرة ، وهي أمور متعقّلة عقلا علمية لا تميّز لها ولا تحقّق بدون الوجود الحق المعطي حقيقتها في أعيانها ، بل  بالوجود الحق الموجود المشهود ، فإذا ذكرنا الحدّ الشامل لكلّ محدود ، فلا بدّ من ذكر الحق فيه في اعتبار أهل الاعتبار والاستبصار ، أولي الأيدي والأبصار.
فهو الظاهر من الظاهر والباطن من الباطن ، والمتحقّق هو الوجود الحق ما ثمّ إلَّا هو ، هو الأوّل والآخر ، والباطن والظاهر ، والجامع بذاته للكل ، والمطلق عن هذه الجمعية وعن هذا الإطلاق والتقيّد بحدّ ، فافهم .
فإن فهمت ، فهمت فيما فهمت ، وهمّت الهمم أن تهيم وتهتمّ فيه ، فحقيق بك أن تهيم وتهتمّ بذلك إن شاء الله تعالى ، فلا يتمّ حدّ المحدود إلَّا بالحق .
ثمّ الحدود لا تفي ولا تكفي بتحديده ، فلا حدّ له أصلا ورأسا ، فنقول مثلا في مشرب التحقيق الكمالي في حدّ الإنسان الكامل : إنّه الحق المتعيّن بأحدية جمع جمع جميع الأعيان الظاهرة المشهودة ، والحقائق الباطنة الغيبية المفقودة ، في عين كونها موجودة مطلقة عن هذا التعيّن والجمع والإطلاق .
وهذا حدّ الإنسان عندنا إن قلنا إنّه محدود ، فالحق حدّ للكلّ ، وليس له في كل حدّ حد ، ولكن تصحيح الحدود - على ما عرفت .
وعرفت في عرف الظاهرية من الحكماء أن تقول : أكتفي في حدّ الحدّ بذكر الخاصّ عن ذكر الأعمّ كما ذكرنا في الحدّ الناقص ، وما ليس مذكورا في تعريفه ما ذكرنا ، فإنّه يجري مجرى الرسم التامّ أو الناقص كذلك ، فاعلم ذلك .

قال الشيخ رضي الله عنه :
فهو الكون كلَّه    ...... وهو الواحد الذي
قام كوني بكونه     ...... ولذا قلت يغتذي
فوجودي غذاؤه     ...... وبه نحن نحتذي
وبه منه إن نظرت     ...... بوجه تعوّذي
يشير رضي الله عنه  إلى: أنّه تعالى من كونه عين الوجود الحق المتعيّن في حقائق الأشياء وأعيانها هوية الكلّ .
وأنّه الواحد الذي قام به العدد ، فأنشأ الواحد بذاته العدد ، فقام بحيث لو فرضت تخلَّف واحد عن عدد ، لما تحقّق عين ذلك المعدود ، ولا قامت صورة ذلك العدد ، فالواحد هو المعدود ، والعدد اعتبار عقلي ، وكذلك ظهور الواحد بالكثرة في مراتب ظهوره ، ومظاهر تعيّنات نوره .
وقيام كونه التقييدي -هو العالم كلَّه بكونه الذي هو وجوده في مراتب شهوده ، فقيام الوجود المقيّد بكون الوجود المطلق موجودا على الإطلاق .
فغذاء كل واحد من الكونين:   المقيّد والمطلق الإلهيّين بعين الآخر ، إذ به بقاؤه وتحقّقه وقيامه ، فاغتذاء الوجود إنّما هو بحقائق العالم وأحكامه ، وهي الأعيان الثابتة الخلقية والمعاني الغيبية القائمة ، فحقيقة العلم القديم الأزلي الإلهي واغتذاء حقائق العالم إنّما هو بالوجود العامّ المشترك في الكلّ ، وهذا ظاهر .

وقوله رضي الله عنه« وبه نحن نحتذي » صادق على معنيين :
أحدهما : بمعنى الاقتداء ، فإنّ الاحتذاء هو الاقتداء ، فإنّ المقتدي - اسم فاعل - يحتذي حذو المقتدى - اسم مفعول - حذو القذّة بالقذّة ، وكذلك الوجود المقيّد - الذي هو فرع ونفل على أصل وجود الحق - يحذو حذوه في كونه غذاءه .
والمعنى الآخر : هو الذي نحن بصدد بيانه من كون الحق عين الطريق والأرجل ، والحذاء هو النعل ، إذ هو الطريق والسالك والساعي ، والأرجل دالَّة السير والوقاية عن أذى الطريق والغاية ، فافهم ، وإذا كان للحق مظاهر مختلفة وظهورات بحسبها كذلك مختلفة .
فقد يظهر ظهورا ينكر فيه فيتعوّذ منه لا جهلا به عند العارف به ولكن إلقاء الحق ظهوره في ذلك المظهر ، لكونه ممّا يتعوّذ منه فيه ، فافهم .


.
يتبع


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في السبت أغسطس 03, 2019 12:42 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فصّ حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالسبت أغسطس 03, 2019 12:41 am

10  - فصّ حكمة أحدية في كلمة هودية الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
10 - فصّ حكمة أحدية في كلمة هودية   الجزء الثاني
قال رضي الله عنه: "ولهذا الكرب تنفس، فنسب النفس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صور العالم التي قلنا هي ظاهر الحق إذ هو الظاهر، وهو باطنها إذ هو الباطن، و هو الأول إذ كان و لا هي، و هو الآخر إذ كان عينها عند ظهورها.
فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول، و «هو بكل شي ء عليم» لأنه بنفسه عليم."
يشير رضي الله عنه إلى: أنّ هذه النسب المظهرية - وهي حقائق الأشياء أو أعيانها أو صور معلوميّاتها للحق أزلا أو صورة نسب علمه كذلك بحسب اختلاف الأذواق والمشاهد - كانت موجودة مفقودة باعتبارين مختلفين ، أعني موجودة للحق بالعلم في العلم أو في الحق به له ، مفقودة فاقدة لأعيانها في الوجود الشاهد المشهود ، ولكن كانت كما ذكرنا فيما ذكرنا أنّها كانت مشهودة للحق شهود المفصّل في المجمل مفصّلا .

وهو شهود خاصّ بالله تعالى ، يشهد به الأشياء في نفسه قبل إيجادها وإشهادها أنفسها ، فأراد إشهادها أعيانها في عرصة الوجود وإيجادها لها في الشهود والمشهود .
فضاق قلب الغيب الأحدي ، عن كثرة ما حواه من الحرف العددي ، فنفّس الله عن غيبة عينه ما كان يجده من كونه في قلبه بنفسه الرحماني ، وهو الفيض الوجودي للشهود العياني رحمة به.
أي بالغيب - بإظهار ما كان مغيبا في غياباته ، ممّا ليس بغيب حقيقي ، فإنّه لا يقبل الظهور أبدا ، ورحم الأعيان الثابتة في غيب علم الذات بهذا الفيض الإيجادي .

فأوجدها وأشهدها أنفسها في نفسه على ما كانت في نفسه ، فلمّا شهدتها فيه فمنهم من تحقّق أنّه عينه ، إذ لا تحقّق للغير أصلا إلَّا بالنسبة والإضافة الاعتبارية لا غير ، فنفّس الله بنفسه الرحماني عن النسب الإلهية بعين ما أوجد لها مظاهرها وأشهدها أنفسها على مرائيها ومناظرها وهي أعيان الأشياء.
فما كانت أوّلا هي فيه هو غيبا فلم يكن ، وكان هو هو في مقام « كان الله ولا شيء معه » و « كنت كنزا مخفيا » فلمّا كان هي هي بأعيانها آخرا وهو فيها هي كذلك ظاهرا تعيّن أنّه أوّل لها من كونه عينها في عينها .
وأنّه آخر بكونه عين ما ظهر في عينها ، فهو الأوّل غيبا وباطنا ، والآخر شاهدا وظاهرا ، فهو الأوّل في عين بطونه ، والآخر بعين ظهوره ، وهو الأوّل في عين الآخرية ، والآخر في عين الأوّلية ، إذ هو الأوّل والآخر ، والظاهر الباطن ، وإليه المصير ، وهو بكل شيء عليم ، لأنّه عين كل شيء ، فهو بعينه عليم ، فافهم .
قال رضي الله عنه : « فلمّا أوجد الصور في النفس ، وظهر سلطان النسب المعبّر عنها بالأسماء ، صحّ النسب الإلهي للعالم ، فانتسبوا إليه ، فقال : « اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي » أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم ، وأردّكم إلى انتسابكم إليّ ، « أين المتّقون ؟ » أي الذين اتّخذوا الله وقاية ، فكان الحق ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة ، وهو أعظم الناس وأحقّهم وأقواهم عند الجميع ، وقد يكون المتّقيّ من جعل نفسه وقاية للحق بصورته ، إذ هوية الحق قوى العبد فجعل مسمّى العبد وقاية لمسمّى الحق على الشهود ، حتى يتميّز العالم من غير العالم " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ " وهم الناظرون في لبّ الشيء الذي هو المطلوب من الشيء " .
قال العبد : لمّا ظهر النسب الإلهيّ الحقيقي وهو انتساب المألوه إلى الإله والمربوب إلى الربّ والخالق إلى المخلوق والرازق إلى المرزوق - فانتسب العالم إلى الموجد من حيث افتقاره إليه على التعيين .
وانتسب الخالق أيضا والربّ إلى العالم بكونه ربّ العالمين وخالق الحق ، ولم يبق لظهور نسبة العالم إلى نفسه مجال ، فعرف كل عبد بربّه .
فقيل : هذا عبد الله ، وهو عبد الرحمن ، وذلك عبد الرحيم ، أو عبد الكريم أو المنعم أو الغنيّ أو غيره ، وصار كل واحد من الربّ والمربوب وقاية للآخر في المذموم والمحمود ، إذ الأفعال والآثار والأخلاق والنعوت لتعيّن ذلك الوجود صالح لإضافة الأفعال والآثار والأخلاق وما شاكل ذلك إليه ، وكل واحد منهما - أعني الربّ والمربوب - ظاهر أو باطن للآخر باعتبارين - كما تقدّم - جامع بين الظاهرية والمظهرية دائما . والصفات منتشية من الربّ الذي هو الوجود الحق .
والعبد الذي هو المظهر القابل  ، فإن أضفت الأفعال والآثار المذمومة إلى العبد ، كان العبد وقاية لربّه من أن تضاف إليه تلك المذامّ والنقائص والقبائح ، أحكام العدم اللازم للعبد الممكن القابل .
وإن أضفت الفضائل والمحاسن والمحامد والكمالات إلى الحق ، كان الحق وقاية للعبد من إضافة ما ليس له من ذاته بالحقيقة لكونها وجودية والوجود للحق ، بل الوجود الحقّ إليه  حقيقة.
وكان أيضا حينئذ بوجه آخر وقاية للعبد من آثار النقائص والمذامّ الظاهرة منها جزاء وفاقا ، فالعالم هو الذي يضيف الحقائق إلى أصولها ، فخذ ما هو لك بالأصالة ، وأعطه ما له كذلك ، تكن من الأدباء العلماء ، فإنّ العالم من العالم لا يستوي معه غير العالم " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ "  ينظرون من كل شيء في لبّه ، لكونهم في أنفسهم أرباب الألباب .


قال رضي الله عنه : « فما سبق مقصّر مجدّا ، كذلك لا يماثل أجير عبدا " لكون المقصّر أبدا قاصرا عن بلوغ الكمال .
والعبد أيضا لا يماثله في كمال مؤاتاته لظهور آثار مالكه فيه أجير ، فإنّه عبد أجرته لا عبد لسيّده ، ولا بدّ للسيد من العبد ، وليس كذلك الأجير ، فقد يقوم العبد بأعمال الأجير ، وليس للأجير أن يقوم بالعبدانية الذاتية التي للعبد .
قال رضي الله عنه : « وإذا كان الحق وقاية للعبد من وجه ، والعبد وقاية للحق من وجه »
يعني رضي الله عنه : فساغ في التحقيق إضافة ما لكلّ منهما إلى كلّ منهما .
قال رضي الله عنه : " فقل في الكون " أي في الوجود المقيّد الكوني « ما شئت إن شئت قلت : هو الخلق ، و إن شئت قلت : هو الحق ، وإن شئت قلت : هو الحق الخلق » أي بالاعتبارين معا « وإن شئت قلت : لا خلق من كل وجه ، ولا حق من كل وجه » يعني حق باعتبار الحقيقة والعين في الأصل ، وخلق باعتبار التعيّن والظهور بالكثرة . « وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك". 
قال رضي الله عنه« فقد بانت المطالب بتعيّنك المراتب »
ثمّ قال رضي الله عنه« ولولا التحديد »
يعني سوغان التحديد بشرط التعيّن والظهور .
ثمّ قال رضي الله عنه : « ما أخبرت الرسل  بتحوّل الحق في الصور ، ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه "
 بذلك علمنا أنّ ظهوره بصور ماله حدّ غير قادح في كماله المستوعب للإطلاق والتقييد ، والتنزيه والتجريد والتشبيه بالتحديد والتجديد .
 
قال رضي الله عنه  :
فلا تنظر العين إلَّا إليه     ...... ولا يقع الحكم إلَّا عليه
فنحن له وبه في يديه     ...... وفي كل حال فإنّا لديه
ولهذا ينكر ويعرف ، وينزّه ويوصف  .
أي : علَّة إنكار من أنكره إذا أنكر ، وسبب معرفة من أقرّ به حين عرفه إنّما هو تجلَّيه في صور ، وظهوره في أحكام وأوصاف ونعوت ، وخلع خلع وملابس يقتضي ذلك ، فاعرف ذلك .
قال رضي الله عنه  : " فمن رأى الحق منه وفيه بعينه ، فذلك العارف " .
يعني : من رأى الحق من الحق في الحق بعين الحق ، فقد رأى الحق .
قال رضي الله عنه  : "ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه ، فذلك غير العارف " لكون العارف عارفا بأنّ الحق لا يراه إلَّا عينه .
قال رضي الله عنه : « ومن لم ير الحق منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه ، فذلك الجاهل ، وبالجملة فلا بدّ لكل شخص من عقيدة في ربّه يرجع بها إليه ، ويطلبه فيها ، فإذا تجلَّى له الحق فيها عرفه وأقرّ به ، وإن تجلَّى في غيرها ، نكره وتعوّذ منه وأساء الأدب عليه في نفس الأمر وهو عند نفسه أنّه قد تأدّب معه ، ولا يعتقد معتقد إلها إلَّا بما جعل في نفسه " .
يعني رضي الله عنه : أنّ أهل الاعتقادات إنّما يعتقدون الإله بما جعلوا في نفوسهم من الاعتقاد الذي جزموا بهواه على حقيقة وبطلان ما يغايره وإحالته.
قال رضي الله عنه : « فالإله بالاعتقادات بالجعل ، لأنّه هو الذي جعل في نفسه ، صورة يعتقد أنّ الحق على تلك الصورة في نفس الأمر ، فهو مجعول فيه بجعله ، فما رأوا هؤلاء إلَّا نفوسهم وما جعلوا فيها » يعني في نفوسهم من الصور الاعتقادية ، ولكنّ الحق يسع بسعة حقّيّته كلّ ذلك ، فيحقّق جميع تلك الصور ، وينفخ فيها روح الحقّية برحمته وسعته ، فيرحمهم بحسب صحّة معاملاتهم مع ذلك الحق المجعول المتخيّل وإن كانت في الحقيقة أوثانا وأنصابا نصبوها وأصناما وطواغيت متخيّلات بالوهم ، عبدوا الحقّ فيها أنّها هو .
قال رضي الله عنه : " فانظر مراتب الناس في العلم بالله ، هو عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك " .
يعني : كلّ من تقيّد بقيد وبعقد معيّن وقيّد الحق بذلك العقد الذي اعتقده وجعله في نفسه عقيدة يرجع بها إلى ربّه ، فهو عبد ذلك العقد .
قال رضي الله عنه : « فإيّاك أن تتقيّد بعقد مخصوص ، وتكفر بما سواه ، فيفوتك خير كثير».
يعني رضي الله عنه : أنّ الحق المتجلَّي في صور الاعتقادات يقبل الجميع ويسعها ، فإذا تقيّدت منها بصورة دون صورة ، فقد كفرت بما سواه والحق فيه ، فجعلته وأسأت الأدب معه وأنت لا تدري .
قال رضي الله عنه : « فيفوتك خير كثير ، بل يفوتّك العلم بالأمر على ما هو عليه ، فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلَّها ، فإنّ الإله - تعالى - أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد " .
يعني رضي الله عنه : أنّ الحق هو الظاهر المتجلَّي في كل ذلك ، ومتعلَّق الجهل والكفر إنّما هو التعيّن والتقيّد والحصر لا غير ، فأطلق الأمر وانطلق أنت بعقلك عن القيود الاعتقادية تحظ بالعلم الأتمّ والشهود الأعمّ .
كما أشار إليه الشيخ في المقام :
« عقد الخلائق في الإله عقائدا  .... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوا ».
قال رضي الله عنه : « فإنّه يقول » أي الحقّ " فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه ُ الله "  وما ذكر أينا من أين » أي أطلق وعمّم ، فلا أين إلَّا ولله تعالى وجه يولَّي وجهه إليه مولّ .
قال : « وذكر أن ثمّ وجه الله ، ووجه الشيء حقيقته ، فنبّه بهذا قلوب العالمين لئلَّا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا ، فإنّه لا يدري العبد في أيّ نفس يقبض ، فقد يقبض في وقت غفلة ، فلا يستوي مع من قبض على حضور " .
يحرّض رضي الله عنه : المؤهّلين للكمال أن لا يتقيّدوا ولا يقيّدوا ، فيغلب عليهم ذلك ، فيعمّ أحوالهم وأوقاتهم ، ثمّ لا يتأتّى لهم أن يلقوا الله على الحضور والمراقبة والعلم ، فيخسروا ويحشروا على ما قبضوا عليه من الغفلة ، أعاذنا الله وإيّاك من آفات الغفلات ، فإنّها أفظع العاهات ، وأقطع الزلَّات ، إنّه قدير .
قال رضي الله عنه : « ثمّ إنّ العبد الكامل مع علمه بهذا » يعني بعدم حصر الحق في إنّيته وجهة وجهه « يلزم في الصورة الظاهرة والحالة المقيّدة التوجّه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام [ ويعتقد أنّ الله في قبلته حال صلاته وهو بعض مراتب وجه الحقّ من « أينما تولَّوا فثمّ وجه الله » فشطر المسجد الحرام ] منها ، ففيه وجه الله ، ولكن لا تقل هو هاهنا فقطَّ ، بل قف عندما أدركت والزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام ، والزم الأدب في عدم حصر الوجه في تلك الأينيّة الخاصّة ، بل هي من جملة أينيات ما ولَّى مولّ إليها ، فقد بان لك عن الله أنّه في أينية كلّ وجهة " .
يعني : في قوله : " فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه ُ الله".  " وما ثمّ إلَّا الاعتقادات ".
يعني : أنّها هي الجهات المعنوية التي يتوجّه إلى الحق فيها قلوب المعتقدين .
قال رضي الله عنه : « فالكلّ مصيب » لأنّه من المطلق الحقّ له حظَّ ونصيب .
قال رضي الله عنه : « وكل مصيب مأجور ، وكل مأجور سعيد ، وكل سعيد مرضيّ عنه وإن شقي زمانا في الدار الآخرة ، فقد مرض وتألَّم أهل العناية مع علمنا بأنّهم سعداء أهل الحق في الحياة الدنيا ، فمن عباد الله من يدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمّى جهنّم ، ومع هذا فلا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه ، أنّه لا يكون لهم في تلك الدار " أي في دار جهنّم « نعيم خاصّ بهم " .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ أهل جهنّم على ما هم عليه من البعد المتوهّم ينعّمون بما يعذب لهم من العذاب الذي ألفوه مدّة في تلك الدار ثمّ فصّل ذلك النعيم الخاصّ بهم .
بقوله رضي الله عنه« إمّا بفقد ألم كانوا يجدونه ، فارتفع عنهم ، فيكون نعيمهم راحتهم من وجدان ذلك الألم ، أو يكون نعيم مستقلّ زائد كنعيم أهل الجنان في الجنان والله أعلم " .
يعني : أنّ كلا القسمين بالنسبة إليهم إدراك ملائم لهم ، فافهم وتدبّر .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 11 - فصّ حكمة فاتحية في كلمة صالحية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:25 pm

11 - فصّ حكمة فاتحية في كلمة صالحية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الصالحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
11 - فصّ حكمة فاتحية في كلمة صالحية
قال رضي الله عنه (من الآيات آيات الركائب .... وذلك لاختلاف في المذاهب )
ابتدأ رضي الله عنه بذكر الركائب وآياتها ، فإنّها من جملة معجزة صالح إتيانه بالناقة آية من الله في صحّة دعواه النبوّة ، من حيث لم يحتسبوا .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ حكمته منسوبة إلى الفاتح والفتّاح ، فانفلق الجبل له في إعجازه ، ففتح الله له عن الناقة ، وفتح الله له على قومه بذلك ، فكان موجب إيمان بعض أمّته وإهلاك بعضه في وجود الناقة ومدّتها .

قال رضي الله عنه (فمنهم قائمون بها بحقّ .... ومنهم قاطعون بها السباسب)
يعني : أنّ أهل الحق السالكين والسائرين في المذاهب صنفان :
فمنهم من يقوم بحقّها ، ويكون سيرهم وسلوكهم عليها أعني على الركائب في بحار الشهود والكشف ، فركائبهم الفلك المشحون .
ومنهم : من يقطعون عليها في برّ الشهادة والملك والحجاب ، فهم يقطعون بها السباسب الظاهرة وهم أهل الاستدلال .
قال رضي الله عنه : ( فأمّا القائمون فأهل عين ... وأمّا القاطعون هم الجنائب .)
يشير رضي الله عنه إلى أنّ الناس وهم السالكون على ركائبهم ، إمّا أهل شهود وعين وهم الصادقون في الدعوة إلى الله على بصيرة ، وإمّا أهل حجاب ، والكلّ لهمركائب في مذهبه ومقصده ، فالقائمون بالحق هم أهل العين المقصودون فيما يقصدون على التعيّن .
والقاطعون مهامه الحجاب وسباسب الشرك والضلال غير مقصودين على التعيين من الإيجاد ، بل هم مخلوقون تبعا للأوّلين يستعملونهم في مقاصدهم كالحيوانات والجنائب .
فإنّهم غير مطلوبين لأعيانهم ، ولا بدّ للفريقين من فتح باب الغيب بنتائج أعمالهم وسلوكهم ، كما قال تعالى :" كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ "


قال رضي الله عنه (و كل منهم يأتيه منه ... فتوح غيوبه من كل جانب )
"وكلّ منهم يأتيه منه أي من الله فتوح غيوبه من كلّ جانب أي من جانب الله بوجه ، ومن جانب حقيقته وعينه الثابتة من وجه ، إمّا بالملائم أو بغير الملائم بالنسبة والإضافة ، لأنّ المدعوّ إلى الله إن أطاع وأجاب بما يلائم دعوة الداعي ، ويسلك على سننه ، ويسير بسيرته وسننه ، فتح له باب المجازاة بما يلائم ذلك من الثواب .
وإن أجاب الداعي بما لا يلائم من العصيان والكفر والجحود ، فتح له باب المجازاة بما لا يلائمه ، وفتح للداعي أيضا باب المجازاة بما يلائمه من النصرة على القوم المفسدين .
وأمّا نسبة هذه الحكمة الفاتحية إلى الكلمة الصالحية فلكون أمور صالح عليه السّلام في دعوته قومه وإقامة معجزته على نبوّته عن الفتوح الغيبي كالناقة انفتح عنها الجبل وكان مغيبا عنهم ، وكذلك ما سقتهم من اللبن المغيب ، وكانت تشرب الماء يوما وتغيب عنهم ، ثمّ تأتي بعد ذلك عوض الماء لبنا سائغا للشاربين .
وكذلك وجدان العذاب بالصيحة عليهم عن فتح غيبي واعدهم ثلاثة أيّام ، كما نذكر إن شاء الله ، ما يتيسّر ذكره ، والله الموفّق .
قال رضي الله عنه اعلم وفّقك الله تعالى أنّ الأمر مبنيّ على الفردية ، ولها التثليث ، فهي عن الثلاثة فصاعدا ، والثلاثة أوّل الأفراد) .
قال العبد قد علمت في الحكمة الرسمية أنّ العدد إمّا زوج أو فرد ، والزوج الأوّل وهو الشفع اثنان فصاعدا ، وأوّل الأفراد الثلاثة فصاعدا ، والواحد غير داخل في العدد ، لكونه لم يتعدّد ، فالواحد وتر أبدا .

وإذا نقص واحد من أيّ عدد فرضت ، بقي وترا وتر أهله ممّا يشفعه ويزوّجه أو يفرده ، فإذا تعدّد الواحد في مرتبته الثانية ، صار شفيعا زوجا أو فردا .

والأحدية أبدا لا تعطي النتيجة ، لكون الواحد في الواحد واحدا لا زائدا ، ثمّ الشفع يشفع في فتح باب الإيجاد ، لكون الإيجاد موقوفا على فاعل هو الموجد ، وقابل هو المكوّن .
فلو لا القابل الذي شفع وتريّة الواحد الأحد ، لما وجدت نتيجة أصلا ورأسا ، فلا نتيجة لواحد إلَّا من كونه واحدا وترا ، ولا من كونه شفعا ، بل من الفرديّة صحّت النتيجة .


قال رضي الله عنه وعن هذه الحضرة الإلهية وجد العالم ، فقال : "إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناه ُ أَنْ نَقُولَ لَه ُ كُنْ فَيَكُونُ فهذه ذات ذات إرادة وقول ، فلولا هذه الذات وإرادتها وهي نسبة التوجّه بالتخصيص لتكوين أمر ما ثمّ لولا قوله عند ذلك التوجّه "كن لذلك الشيء ، لما كان ذلك الشيء ) .
بيّن رضي الله عنه حكم التثليث فيما هو بصدد بيانه من كون الإيجاد من حضرة الفردية الإلهية ، فكان الإيجاد من قبل الموجد الحقّ بالتثليث ، كما ذكر .
ثمّ قال رضي الله عنه ثم ظهرت الفردية الثلاثية أيضا في ذلك الشيء وبها من جهته أي من جهة القابل صحّ تكوينه واتّصافه بالوجود وهي شيئيته ، وسماعه ، وامتثاله أمر مكوّنه بالإيجاد ).
يعني : كما صحّ من قبل الموجد بتلك الفردية المشار إليها من قبل ، فكذلك من قبل القابل بهذه الفردية الخصيصة .


قال رضي الله عنه فتقابلت ثلاثة بثلاثة ذاته الثابتة في حال عدمها في موازنة ذات موجدها ، وسماعه في موازنة إرادة موجده ، وقبوله بالامتثال لما أمر به من التكوين في موازنة قوله : « كن » فكان هو ، فنسب التكوين إليه ، فلولا أنّ في قوّته التكوين من نفسه عند هذا القول ما تكوّن ، فما أوجد هذا الشيء بعد أن لم يكن عند الأمر بالتكوين إلَّا نفسه) .

قال العبد نسبة الكون إلى المكوّن بفتح الواو في قوله : « فكان » من جهة أنّ كونه كان كامنا فيه معدوم العين في رأي العين ، ولكنّه مستعدّ لذلك الكون بالأمر.
فلمّا أمر وتعلَّقت إرادة الموجد بذلك واتّصل أمره به ، ظهر الكون الكامن من الكائن فيه بالقوّة إلى الفعل ، فالمظهر لكونه الحق والكائن القابل للكون ، فلو لا قبوله واستعداده للكون ، لما كان ، فما كوّنه إلَّا عينه الثابتة في العلم باستعداده الذاتي غير المجعول ، وقابليّته للكون وصلاحيته لسماع قول « كن » ، وأهليّته لقبول الامتثال ، فما أوجده إلَّا هو ، ولكن بالحقّ وفيه ، فافهم ، فإنّه دقيق .


قال رضي الله عنه : ( فأثبت الحق تعالى أنّ التكوين للشيء نفسه لا للحق ، والذي للحقّ أمره خاصّة ، وكذا أخبر عن نفسه بقوله : " إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناه ُ أَنْ نَقُولَ لَه ُ كُنْ فَيَكُونُ فنسب التكوين لنفس ذلك الشيء عن أمر الله وهو الصادق في قولهوهذا هو المعقول في نفس الأمر .)

يعني رضي الله عنه : لمّا ذكر الكون عقيب الأمر ، فلا ينسب إلَّا إلى المأمور بذلك وهو الأنسب وإن احتمل اللفظ أن ينسب الكون إلى الآمر ، أي يكون هو من كونه عين المعلوم المعدوم العين المأمور بالكون من كونه ثابتا في العلم .
فيكون فيه هو بموجب ما أمر والمأمور مظهر لكونه فيه ، لأنّ الكون أمر وجودي ، فالأنسب أن ينسب الأمر الوجودي إلى الوجود الحق المتعيّن في قابلية المظهر لا إلى ما لا وجود له ، فإنّه ليس للممكن القابل إلَّا أن يمكن الكون فيه بموجب الأمر.
فالمظهر القابل صالح لظهور كون الوجود فيه متعيّنا بحسب ما كان كامنا في عينه الثابتة بموجب أمر الآمر .

وقد ذهب إلى هذا القول ، جلَّة من المحقّقين ، ولكنّ الشيخ رضي الله عنه بيّن سياق الآية فبموجب ذلك ينسب التكوين إلى المأمور ، ثمّ التحقيق يقتضي ما ذكرنا من كون ذلك الكون المأمور به كامنا في القابل ، فظهر بأمر الآمر فينسب إلى المأمور لا إلى الآمر ، فإنّ الكون وإن كان وجوديا ، ولكن إنّما يكون بحسب القابل وفيه ، فالأنسب إذن أن ينسب إليه ، فافهم مقتضى الذوقين .


قال رضي الله عنه ممهّدا لما هو بصدد بيانه من نسبة الكون إلى المظهر المأمور :
(كما يقول الآمر الذي يخاف فلا يعصى لعبده : « قم » فيقوم العبد امتثالا لأمر سيده ، فليس للسيد في قيام هذا العبد سوى أمره له بالقيام ، والقيام من فعل العبد لا من فعل السيد) .
فظهر على ما قرّر رضي الله عنه من جميع الوجوه ، أنّ الإيجاد من الفردية الثلاثية أمّا مطلقا فمن جهة القابل والفاعل والفعل فثلاثة ، ومن جهة الفاعل ثلاثة كما مرّ ، ومن قبل القابل أيضا كذلك .

فقال رضي الله عنه فقام أصل التكوين على التثليث أي من الثلاثة من الجانبين :
من جانب الحق ، ومن جانب الخلق ، ثم سرى ذلك في إيجاد المعاني بالأدلَّة ) .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ التثليث لمّا كان سببا لفتح باب النتيجة في أصل التكوين ، سرى هذا السرّ في جميع مراتب الإيجاد ، ومن جملة ذلك إيجاد الأدلَّة المعنوية .

قال رضي الله عنه فلا بدّ في الدليل أن يكون مركَّبا من ثلاثة على نظام مخصوص وشرط مخصوص ، وحينئذ ينتج ، ولا بدّ من ذلك .
وهو أن يركَّب الناظر دليله من مقدّمتين ، وكلّ مقدّمة تحوي على مفردين ، فتكون أربعة ، واحد من هذه الأربعة يتكرّر في المقدّمتين ليربط إحداهما بالأخرى كالنكاح ، فتكون ثلاثة لا غير ، لتكرار الواحد فيهما .
فيكون المطلوب إذا وقع هذا الترتيب على الوجه المخصوص ، وهو ربط إحدى المقدّمتين بالأخرى بتكرار ذلك الوجه المفرد الذي به صحّ التثليث .
والشرط المخصوص هو أن يكون الحكم أعمّ من العلَّة ، أو مساويا لها ) .


يعني عموم اقتضاء « كلّ حادث » مثلا على ما يورد للسبب المحدث بكسر الدال إذ لولا عموم هذا الحكم في الحوادث كلَّها ، لما أنتج أنّ العالم الحادث ، له سبب ، وهذا ظاهر .
قال رضي الله عنه : « أو مساويا لها » يريد تساوي الحكم للعلَّة.
قال رضي الله عنه (وحينئذ يصدق ، وإن لم يكن كذلك ، فإنّه ينتج نتيجة غير صادقة ، وهذا موجود في العالم) .
يعني صدق النتيجة مع حصول التركيب على الترتيب الموجب الخاصّ ، وعدم صدق النتيجة في غير ذلك .

قال رضي الله عنه وهو مثل إضافة الأفعال إلى العبد معرّاة عن نسبتها إلى الله ، أو إضافة التكوين الذي نحن بصدده إلى الله مطلقا والحقّ ما أضافه إلَّا إلى الشيء الذي قيل له كن").
يعني معرّى عن نسبته إلى القابل ، فإنّ ذلك لا يصدق ولا يصحّ ، إذ الأثر لا يتصوّر عن مؤثّر بلا قابل ، والأفعال وإن نسبت إلى العباد ، فلا بدّ من إضافة الوجود من الله على أعيان الأفعال وأعيان العباد ، وبدون إضافة الوجود من الموجد فلا يوجد عين الفعل .

قال رضي الله عنه ومثاله إذا أردنا أن ندلّ على أنّ وجود العالم عن سبب فنقول كلّ حادث فله سبب ، فمعنا الحادث و السبب ".
ثم نقول في المقدّمة الأخرى والعالم حادث ، فتكرّر « الحادث » في المقدّمتين .
والثالث قولنا : « العالم » فأنتج أنّ العالم له سبب ، وظهر في النتيجة ما ذكر في المقدّمة وهو السبب .
فالوجه الخاصّ هو تكرار الحادث ، والشرط الخاصّ عموم العلَّة ، لأنّ العلَّة في وجود الحادث السبب وهو عامّ في الحدوث عن الله أعني الحكم .
فنحكم على كلّ حادث أنّ له سببا ، سواء كان ذلك السبب مساويا للحكم ، أو يكون الحكم أعمّ منه ، فيدخل تحت حكمه وتصدق النتيجة " .)
يشير رضي الله عنه إلى ما قرّر أوّلا أنّ الحكم وهو السبب أعمّ من العلَّة وهو الحدوث ، إذ العلَّة في وجوب السبب الحدوث وهي عامّة في كل حادث .


قال رضي الله عنه فهذا أيضا قد ظهر حكم التثليث في إيجاد المعاني التي تقتنص بالأدلَّة ، فأصل الكون التثليث ، ولهذا كانت حكمة صالح التي أظهر الله في تأخير أخذ قومه ثلاثة أيّام وعدا غير مكذوب .
فأنتج صدقا وهي الصيحة التي أهلكهم بها ، فأصبحوا في دارهم جاثمينأي أخذهم عذاب الهلاك ، فلم يستطيعوا على القيام .
(فأوّل يوم من الثلاثة اصفرّت وجوه القوم ، وفي الثاني احمرّت ، وفي الثالث اسودّت .
فلمّا كملت الثلاثة ، صحّ الاستعداد ، فظهر كون الفساد فيهم فسمّي ذلك الظهور هلاكا ، فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة إسفار وجوه السعداء في قوله تعالى : "وُجُوه ٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ من السفور وهو الظهور ، كما كان الاصفرار في أوّل يوم ظهور علامة الشقاء في قوم صالح .
ثم جاء في موازنة الاحمرار القائم بهم قوله تعالى في السعداء : " ضاحِكَةٌ فإنّ الضحك من الأسباب المولَّدة احمرار الوجوه ، فهي في السعداء احمرار الوجنات ، ثم جعل في موازنة تغيير بشرة الأشقياء بالسواد قوله تعالى : " مُسْتَبْشِرَةٌ وهو ما أثّره السرور في بشرتهم كما أثّر السواد في بشرة الأشقياء ، ولهذا قال في الفريقين بالبشرى ، أي يقول لهم قولا يؤثّر في بشرتهم ، فيعدل بها إلى لون لم تكن البشرة تتّصف به قبل هذا.
فقال في السعداء: " يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْه ُ وَرِضْوانٍ " .
وقال في حق الأشقياء : " فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ، فأثّر في بشرة كل طائفة ما حصل في نفوسهم من أثر هذا الكلام ، فما ظهر عليهم في ظاهرهم إلَّا حكم ما استقرّ في بواطنهم من المفهوم ، فما أثّر فيهم سواهم ، كما لم يكن التكوين إلَّا منهم فيهم ، فَلِلَّه ِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ").
يعني رضي الله عنه : أنّ ظهور العذاب ومباشرته بشرتهم ، إنّما كان منهم فيهم ولم يؤتهم الله ذلك لهم من الخارج ، كما لم يكن التكوين المأمور به في قوله كن " لأنّهم الذين كانوا كما أمروا باستعداد خواصّ وأهليّة وصلاحية ذاتية فيهم لذلك الأمر والتكوين وهذه المباحث المذكورة في هذه الحكمة ظاهرة لا يحتاج فيها إلى مزيد بسط على ما قرّرنا أوّلا من كون الفردية سببا للإيجاد والتكوين .
كما كان التثليث موجبا أيضا لتكوين الناقة أوّلا وتكوين الصيحة على الكافرين آخرا ، وقد صحّ أنّ التكوين والإيجاد في الذوات والصفات والمعاني والصور والأحكام والآثار إنّما هو من حضرة الفردية الإلهية .


قال رضي الله عنه فمن فهم هذه الحكمة ، وقرّرها في نفسه ، وجعلها مشهودة له ، أراح نفسه من التعلَّق بغيره ، وعلم أنّه لا يؤتى عليه بخير ولا بشرّ إلَّا منه ، وأعني بالخير ما يوافق غرضه ويلائم طبعه ومزاجه ، وأعني بالشرّ ما لا يوافق غرضه ولا يلائم طبعه ولا مزاجه.)


قال العبد : قد تقرّر في عقلك وفهمك ، وتحرّر بما سلف في علمك أنّ حقيقة كل إنسان وكلّ شيء هي صورة معلوميّته لله تعالى أزلا وهي إذ ذاك على صورة علمية في حقيقته ولوازمها القريبة ولوازم لوازمها وعوارضها ولواحقها .
وكل ذلك ذاتية حقيقية له ، ليس بجعل الله فيه ، لكونها غير موجودة إذ ذاك لها في أعيانها ، بل هي للحق في الحق ، وأنّه لا يمكن أن يكون في الوجود العيني ولا أن تتعلَّق القدرة والإيجاد به إلَّا بحسب ما اقتضته حقيقته أزلا ، سواء كان معتنى به ومجتبى مصطفى من الأنبياء والأولياء أو غيره.
وإذا كان الأمر على ذلك ، فلا يؤتيه الله ما يؤتيه من الخير على اختلاف أنواعه وأصنافه إلَّا بموجب ما اقتضته عينه الثابتة أو حقيقته أزلا ، ولا يأتيه كذلك الشرّ أيضا إلَّا من نفسه ، وإليه الإشارة ما أَصابَكَ من حَسَنَةٍ فَمِنَ الله " أي ايجاد عين الخير والحسنة ليس إلَّا من الله ، فإنّه المفيض للخير الحقيقي الذي لا شرّ فيه وهو الوجود ، والخير كلَّه كما قيل في الوجود ، ولكنّ الله يوجد خيرك منك ويأتيك به .
بمعنى أنّه محقّق ما كان بالقوّة فيك ويظهره بالفعل فيه لك ، وكذلك ضدّ الخير ، ولكنّ الشرّ لمّا كان من أحكام العدم ، فإنّ الشرّ كلَّه في العدم فلا يضاف الشرّ إلَّا إليك وإلى عدم قابليتك في عينك ، كضدّه ، فافهم .


قال رضي الله عنه : (ويقيم صاحب هذا الشهود معاذير الموجودات كلها عنهم وإن لم يعتذروا ، ويعلم أنّه منه كلّ ما هو فيه كما ذكرناه في أنّ العلم تابع للمعلوم ) .
يجيب رضي الله عنه عن سؤال مقدّر من جاهل بالأمر لو قال إنّ العلم الأزليّ الذي قلنا إنّ الله علمه كذلك ، يعني جعله العلم كذلك بمعنى جعله العلم كذلك أنّ العلم تابع للمعلوم ، يعني إنّما يتعلَّق العلم بكل معلوم بحسبه ، وإلَّا لا يكون علما .

قال رضي الله عنه : « فيقول لنفسه » أي كلّ أحد يقول لنفسه « إذا جاءه ما لا يوافق غرضه : « يداك أوكتا وفوك نفخ والله يقول الحقّ وهو يهدى السّبيل ".

قال العبد : المثل مشهور يضرب لمن يتحسّر ويضجر عمّا يرد عليه منه وقد ورد في العبارة النبوية المصطفوية ما هو أحسن منه وأدلّ على التحقيق إن تدبّرته بالنظر الدقيق وهو قوله عليه السّلام : " من وجد خيرا فليحمد الله أي هو ينبوع الرحمة والخير ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلَّا نفسه " .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فصّ حكمة قلبية في كلمة شعيبيّة .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:27 pm

12 -  فصّ حكمة قلبية في كلمة شعيبيّة .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الشعيبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
12 - فصّ حكمة قلبية في كلمة شعيبيّة
إضافة هذه الحكمة إلى الكلمة الشعيبية ، لكونها على شعب كثيرة ، كما أنّ القلب الإنساني ذو شعب كثيرة ، لتقلَّبه بين إصبعي الرحمن.
وكون شعيب حكمه وحكمه بحكمه لشعوبه وقبائله بالنصيحة والأمر بإيفاء الحقوق ، والإقلاع عن البخس والنقص ، والعدل والعذل على الجور ، وذلك عدل أقامه الله في النشأة الإنسانية بوجود القلب .
فإنّ منشأ العدل وقسمة مادّة الحياة الطبيعية وهي الدم للأعضاء الآلية والأعضاء المتشابهة الأجزاء علوا وسفلا من القلب ، فإنّ الله يوصلها من القلب إلى الكلّ بقدر استحقاق كلّ عضو عضو واستعداده بميزان العدل .
 
كان الغالب على دعوة شعيب الأمر بالعدل وإقامة الموازين والمكاييل والأقدار .
كما قال : " وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ " كلّ هذه الإشارات تدلّ على رعاية العدل وأحدية الجمع والاعتدال .
وكما أنّ العدل في حفظ صحّة جميع البدن وسقمه إلى القلب ، والقلب له أحدية جمع القوى الروحانية والقوى الجسمانية ومن القلب ينشعب الروح الطبيعي إلى كل عضو عضو من أعلى البدن وأسفله على ميزان العدل ، فيبعث لكل عضو ما يلائمه من الروح الطبيعي ، فافهم .
واستفاد منه موسى عليه السّلام علم الصحبة والسياسة ، وأمره بالتخلَّي عن العامّة إلَّا في وقت معلوم وقدر موزون ، وكان الغالب على موسى عليه السّلام الظاهر .
 فحصل له بصحبته جميع مقام الجمع .
قال رضي الله عنه : " اعلم : أنّ القلب - أعني قلب العارف بالله - هو من رحمة الله ، وهو أوسع منها ، فإنّه وسع الحق - جلّ جلاله - ورحمته لم  تسعه ، هذا لسان عموم من باب الإشارة ، فإنّ الحق راحم ليس بمرحوم ، فلا حكم للرحمة فيه " .
يشير رضي الله عنه إلى قوله تعالى على لسان أكمل الرسل عليه السّلام أنّه قال :
"ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي " ففيه إشارة أيضا إلى ما ذكر آنفا من
قول أبي يزيد رضي الله عنه : لو أنّ العرش وما حواه مائة ألف ألف مرّة ، في زاوية من زوايا قلب العارف ، ما أحسّ به .
وإذا كان كذلك والعرش مستوى الرحمن برحمته العامّة التي عمّت العالمين ، والرحمة إنّما تنزل من العرش المحيط بالكرسيّ الذي وسع السماوات والأرضين ، فإنّها في جوفه كحلقة ملقاة في أرض فلاة ، ومع هذا ، فهو كما ذكرنا لو كان في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحسّ به فالقلب أوسع من الرحمة التي وسعها العرش بما وسع المرحومين جميعا .
 
وأمّا كونه لسان العموم فلما عمّت علوم علماء الرسوم المؤمن ، بقوله : « ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي » وأنّه راحم غير مرحوم ، وأنّ الرحمة التي هي صفة من صفاته الذاتية أو نسبة من النسب الإلهية لا تحيط به تعالى ، فإنّها لو أحاطت به تعالى ، لوسعته ، ولا تحيط به فلا تسعه ، مع أنّ القلب وسعه بما أخبر عن نفسه وتقرّر في العموم .
قال رضي الله عنه : « وأمّا الإشارة من لسان الخصوص فإنّ الله وصف نفسه بالنفس وهو من التنفيس ، وأنّ الأسماء الإلهية عين المسمّى وليست إلَّا هو ، وأنّها طالبة ما تعطيه من الحقائق ، وليست الحقائق التي تطلبها الأسماء الإلهية إلَّا العالم ، فالألوهية تطلب المألوه ، والربوبية تطلب المربوب ، وإلَّا فلا عين لها إلَّا به وجودا وتقديرا ، والحق من حيث ذاته غنيّ عن العالمين ، والربوبية ما لها هذا الحكم ، فبقي الأمر بين ما تطلبه الربوبية وبين ما تستحقّه الذات من الغنى عن العالم ، وليست الربوبية على الحقيقة والإنصاف إلَّا عين هذه الذات " .
 
يعني رضي الله عنه : أنّ الربوبية لكونها ذاتية للربّ هي عينه ، لأنّها لو لم تكن عينه ، لكانت غيره من جميع الوجوه ، فلم تكن الذات بدونها ربّا ، واحتاجت إلى ذلك الغير في كونها ربّا والذات غنيّة ، وربوبيتها ليست غيرها ، فهي عينها .
 
قال - رضي الله عنه - : « فلمّا تعارض الأمر بحكم النسب ، ورد في الخبر ما وصف
الحق به نفسه من الشفقة على عباده ، فأوّل ما نفّس عن الربوبية  بنفسه المنسوب إلى الرحمن بإيجاده العالم الذي تطلبه الربوبية بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهية ، فثبت من هذا الوجه أنّ رحمته وسعت كل شيء « ووسعت ما وسعه القلب وهو الحق » فهي أوسع من القلب” .
 
ولكن يقال في « كلّ شيء » : إنّ الشيء حيث أضيف الكلّ إليه جزئي مخصوص تخصّص بحسبه ، فيكون معناه كلّ واحد واحد من الأشياء ، وحينئذ لا يتناول الحق ، لأنّه يتعالى عن أن يكون جزئيّا ، وكذلك القلب الذي وسع الحق ، فإنّه كلَّي ، لكونه أحدية جمع جميع الحقائق القابلية المظهرية ، فلا يدخل تحت « كلّ شيء » إلَّا أن يكون معنى « كلّ شيء » جميع الأشياء .
قال رضي الله عنه " أو مساوية له في السعة" .
يعني الرحمة ، من كونها وسعت الحق كما وسعه القلب .
 
قال رضي الله عنه : « هذا مضى . ثمّ لتعلم أنّ الله تعالى كما ثبت في الصحيح يتحوّل في الصور عند التجلَّي . وأنّ الحق تعالى إذا وسعه القلب ، لا يسع معه غيره من المخلوقات ،
فكأنّه يملؤه ،ومعنى هذا أنّه إذا نظر إلى الحق عند تجلَّيه له ، لا يمكن أن ينظر معه إلى غيره" 
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ أحدية الحق الذي لا يقتضي معيّة غيره تقتضي بأن لا يتعلَّق النظر القلبي عند التجلَّي إلَّا به لا غير .
قال رضي الله عنه : " وقلب العارف من السعة كما قال أبو يزيد البسطاميّ سلام الله عليه : لو أنّ العرش وما حواه مائة ألف ألف مرّة في زاوية من زوايا قلب العارف ، ما أحسّ به .
وقال الجنيد - رضي الله عنه - : في هذا المعنى : المحدث إذا قرن بالقديم لم يبق له أثر ، وقلب يسع القديم كيف يحسّ بالمحدث موجودا ؟!."
 
يشير رضي الله عنه : إلى أن لا وجود للمحدث من دون الله ولا معه ، لعدم الإثنينية في مقام وحدته .
قال رضي الله عنه : " وإذا كان الحق يتنوّع تجلَّيه في الصور ، فبالضرورة يتّسع القلب ويضيق بحسب الصور التي يقع فيها التجلَّي الإلهيّ ، فإنّه لا يفضل من القلب شيء عن صورة ما يقع فيها التجلَّي .
فإنّ القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محلّ فصّ الخاتم من الخاتم لا يفضل ، بل يكون على قدره وشكله من الاستدارة إن كان الفصّ مستديرا ، أو من التربيع والتسديس والتثمين وغير ذلك من الأشكال إن كان الفصّ مربّعا أو مسدّسا أو مثمّنا ، أو ما كان من الأشكال .
فإنّ محلَّه من الخاتم يكون مثله لا غير ، وهذا عكس ما تشير إليه الطائفة من أنّ الحق يتجلَّى على قدر استعداد العبد ، وهذا ليس كذلك ، فإنّ العبد يظهر للحق على قدر الصورة التي يتجلَّى له فيها الحق " .
قال العبد : مرآتية العبد الكامل أو قلبه للحق ليست كمرآتية غيره ، فإنّ العبد الكامل ليست له حيثية معيّنة ولا كيفية مقيّدة ولا قابلية جزئيّة من وجه دون وجه فيكون تجلَّي الحقّ له بحسبه ، بل حسب العبد بحسب ربّه ، بل هو هيولى لقبول صور تجلَّيه فيه ، وغيره ليس كذلك ، فإنّ لغيره استعدادا معيّنا وقابلية مخصوصة وخصوصية مميّزة له عن غيره ، فيقع التجلَّي بحسبه وبحسب خصوص قابليته ، فيتّسع التجلَّي ويضيق ويتكيّف بكيفية قلبه الجزئي .
 
وهذا حقيقة تحوّل الحق في الصور يوم القيامة لأهل المحشر على العموم ، والأمر في الإنسان الكامل وقلب المؤمن الذي هو مرآة المؤمن بعكس ذلك .
فإنّ قلبه يتقلَّب في التجلَّي للمتجلَّي بحسب المتجلَّى من أيّ حضرة تجلَّى ، فإنّ هذا العبد يتجلَّى بالتجلَّي كيف كان ، ولقلب هذا العبد السعة المذكورة لا لغيره ، ولا خلاف في أصل البحث إنّ الحقّ يتجلَّى بقدر استعداد القلب ، فإنّه إذا كانت القلوب ذوات الأقدار والهيئات المخصوصة ، فالتجلَّي فيها بحسبها .
وهذا ما أشار إليه رضي الله عنه : من صور الأشكال المستديرة والمثلَّثة وغيرها ، ولكنّ القلب إذا لم يكن ممّا له حيثية معيّنة أو صفة مخصوصة مقيّدة أو الغالب عليه حكم أو كيفية على التعيين ، بل كان - كما مرّ هيولانيّ القبول ، دائم الإقبال والتوجّه إلى الحق المطلق بإطلاق قابليته وكلَّية قبوله الإحاطي الأحدي الجمعي وتلقّيه الكمالي ، فهو بحسب تجلَّي الربّ .
 
والذي أشار إليه الشيخ رضي الله عنه في:  « و تحرير هذه المسألة أنّ لله تجلَّيين :
تجلَّي غيب وتجلَّي شهادة فمن تجلَّي الغيب يعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب وهو التجلَّي الذاتيّ الذي الغيب حقيقته ، وهو الهوية التي يستحقّها بقوله عن نفسه : « هو » فلا يزال « هو » له دائما أبدا ، فإذا حصل للقلب هذا الاستعداد ، تجلَّى له التجلَّي الشهوديّ في الشهادة ، فرآه فظهر بصورة ما تجلَّى له كما ذكرناه .
فهو - تعالى - أعطاه الاستعداد بقوله : " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ُ " ، ثمّ رفع الحجاب بينه وبين عبده فرآه في صورة معتقده ، فهو عين اعتقاده ، فلا يشهد القلب ولا العين أبدا إلَّا صورة معتقده في الحق » .
فتلك الإشارة إلى الاستعدادات المجعولة الظاهرة من غيب العين الثابتة واستعدادها الغيبيّ غير المجعول ، فإنّ الهوية المشار إليها بالنسبة إلى المتجلَّى له غيب عينه الثابتة ، والتجلَّي الغيبيّ الذاتي يفيض من الذات والهوية الذاتية على الذوات والهويات الغيبية التي للأعيان الثابتة ، فتوجد من ذلك الاستعداد الكلَّي غير المجعول هذه الاستعدادات الجزئية المجعولة للتجلَّيات الشهادية من الحضرات الأسمائية الإلهية ، ولكن مع هذا فإنّ كل ما ذكر مترتّب على الاستعدادات الخصوصية التي تعطي أربابها الاعتقادات الجزئية التقييدية .
فإذا تجلَّى الحق مرآة قابلة لجميع الصور الاعتقادية ، رأى كلّ أحد صور معتقدة فيه لا غير ، فما رأى سوى نفسه وما جعله في نفسه من صور الاعتقادات .
والعبد الكامل ليس كذلك ، فإنّ له استعدادا كلَّيا ، وقابلية أحدية جمعيّة ، وخصوصه الإطلاق عن كل قيد ، والسراح عن كل حصر ، والخروج عن كلّ طور .
فهو يقابل - بإطلاقه عن نقوش القيود الاعتقادية - إطلاق الحق .
ويقابل كذلك كلّ حضرة حضرة من الحضرات - التي يكون منها وفيها وبحسبها التجلَّي بما يناسبه ممّا فيه من تلك الحضرة مرآة مجلوّة مستعدّة مهيّأة لتجلَّيات تلك الحضرة .
فيقبل جميع التجلَّيات مع الآنات بمرائيه ومجاليه التي فيه من غير مزاحمة ولا خلط ولا حبط ، والتجلَّي الذاتيّ الغيبيّ دائم الإشراق من الغيب المطلق الإلهيّ الذاتيّ على غيب قلبه المطلق الإلهي الأحدي الجمعي الكمالي ، جعلنا الله وإيّاك من أهله ، بحوله وطوله .
 
قال رضي الله عنه : « فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته ، وهو الذي تجلَّي له فيعرفه ، فلا يرى العين إلَّا الحق الاعتقاديّ ، ولا خفاء بتنوّع الاعتقادات ، فمن قيّده أنكره في غير ما قيّده به ، وأقرّ به فيما قيّده به إذا تجلَّى .
ومن أطلقه عن التقييد ، لم ينكره ، وأقرّ له في كل صورة يتحوّل فيها ، ويعطيه من نفسه قدر صورة ما تجلَّى له فيها إلى ما لا يتناهى ، فإنّ صورة التجلَّي ما لها نهاية يقف عندها ، وكذلك العلم بالله ما له نهاية في العارفين يقف عندها ، بل هو العارف في كل زمان يطلب الزيادة من العلم به " رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " ، " رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " ، " رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " إلى ما لا يتناهى من الطرفين .
هذا إذا قلت : حق وخلق ، فإذا نظرت في قوله : " كنت رجله التي يسعى بها ، ويده التي يبطش بها ، ولسانه الذي يتكلَّم به " إلى غير ذلك من القوى ومحالَّها التي هي الأعضاء ، لم تفرق .
فقلت : الأمر حق كلَّه أو خلق كلَّه ، فهو حق بنسبة وهو خلق بنسبة والعين واحدة ، فعين صورة ما يتجلَّى عين صورة من يقبل ذلك التجلَّي ، فهو المتجلَّي والمتجلَّى له ، فانظر ما أعجب أمر الله من حيث هويته ومن حيث نسبته إلى العالم في حقائق الأسماء الحسنى " .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ هذه الأسماء المختلفة الواقعة على هذه العين الواحدة إنّما هي بالاعتبارات ، فإذا اعتبرت أحدية الذات .
قلت : حقيقة واحدة ليس غيرها أصلا ورأسا .
وإن اعتبرت تحقّقها الذاتيّ في عينها .
قلت : حق .
وإن اعتبرت إطلاقها الذاتيّ ،
قلت : ذات مطلقة عن كل اعتبار . وإن اعتبرت تعيّنها في مراتب الظهور
قلت : شهادة . وإن اعتبرت لا تعيّنه ،
قلت : غيب حقيقي . وإن اعتبرت الظهور في الكثرة ،
قلت : خلق كلَّه . وإن اعتبرت أحدية العين في التعيّن واللاتعيّن ،
قلت : حق كلَّه لا غير . وإن اعتبرت أنّ ظاهره مجلى لباطنه أبدا ،
قلت : هو المتجلَّي والمتجلَّى له .
ولا عجب أعجب من حقيقة بذاتها تقتضي هذه الاعتبارات وهي صادقة فيها ، وذلك بحقيقة تجلَّيها في صور لا تتناهى أبدا دائما ، فلا يغيب عنها في جميع صورها كلَّها إذا تجلَّى في صورة على التعيين .
فإنّها في عين تعيّنها في كل عين عين ومعتقد معتقد متنزّهة عن الحصر على إطلاقها ولا تعيّنها الذاتي المطلق عن كل قيد ، وفي عين لا تعيّنها وإطلاقها عن كل تعيّن ظاهرة بكل عين لكل عين ، وكلّ ذلك لها بالفعل من حيث هي هي في حقيقتها ، وبالقوّة بالنسبة إلى اعتبار المعتبر .
فأعجب من هذا العجب ، وإن تحقّقت فلا تعجب وحدّث عن البحر ، فلا حرج ولا عجب ، سبحانه وتعالى عن أن يكون معه غيره في الوجود .
قال رضي الله عنه :
فمن ثمّ ؟ وما ثمّ ؟   ..... وعين « ثمّ » هو ثمّة
يستفهم رضي الله عنه على بصيرة بـ « من » و " ما " في نفس الحقيقة عنها ، ويثبت أنّ الحق هو هو في كل عين عين .
« ثمّ » أي في الواقع الموجود المشهود .
قال رضي الله عنه :
فمن قد عمّه خصّ  .... ومن قد خصّه عمّه.
أي : الحق الذي عمّ ما ثمّ بالوجود خصّ كلّ متعيّن بخصوصية وحكم وصورة وهو إن خصّه كذلك بخصوصية تخصيصه بعين عين ، فقد عمّها بالحقّية والوجود ، فكان عين الكلّ هو هو ولا غير .
 
قال - رضي الله عنه - :
فما عين سوى عين  .... فنور عينه ظلمة
فمن يغفل عن هذا     ..... يجد في نفسه غمّة
ولا يعرف ما قلنا     .... سوى عبد له همّة

"إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ "  لتقلَّبه في أنواع الصور والصفات .
ولم يقل : لمن كان له عقل ، فإنّ العقل قيد يحصر الأمر في نعت واحد والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر ، فما هو ذكرى لمن كان له عقل ، وهم أصحاب الاعتقادات الذين يكفّر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا  وما لهم من ناصرين " .
قال العبد : نسب الله - تعالى - الذكرى من عبيده لمن كان له قلب ، وأضافها أيضا في آية أخرى إلى ذوي الألباب ،
فقال : " إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لأُولِي الأَلْبابِ "  وكذلك قلب كلّ شيء لبّه ، ولا يذكر اللبّ إلَّا اللبّ من ذوي الألباب ، ولبّ كلّ شيء حقّه من الحق ، فالحق الذي في كل شيء وفي كل خلق هو لبّ ذلك الشيء .
وإلى ذلك أشار لأهل الإشارات ، بقوله : "كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ " .
 أي لا تحقّق له ولا حقيقة إلَّا حقيقة الحقيّة ، وهو ما يشير إليه المحقّق المحنّك : في كلّ شيء إنّ له وجها ، فذلك الوجه هو لبّ ذلك الشيء وحقّه وحصتّه الخصيصة به من مطلق الحق الساري في حقيقة كل شيء بأحدية الجمع والوجود ، وهو الحق المستجنّ .
الذي يشير إليه شيخنا رضي الله عنه في كتاب « مفتاح غيب الجمع والوجود » وفي « النفحات » و « إعجاز البيان » وغيرها من تصانيفه : والقلب وإن كان هو ذلك اللبّ من كلّ شيء ، ولكنّ الحق الذي هذا القلب عرشه لبّ اللبّ .
ثمّ اعلم : أنّ في معنى القلب مثل ما في لفظ حقيقة القلب لتقلَّب حقيقة القلب في أطوار القبول للتجلَّيات غير المتناهية ، وبين لفظة « القلب » ومعنى « القبول » و « القابلية » اشتراك لفظي ومعنوي وحقيقي ، ولولا قلبيّة بعض حروف للقلب والقابل ، وقبليّته وبعديّته ، لكان هو هو ، وقلب الشيء لغة أن يجعل أوّله آخره أو ظاهره باطنه ، جمعا وفرادى .
وكيف ما قلت وقلبت لفظ القلب فإنّ القبول والقابلية معه بالدوران .
 
وأمّا العقل لغة فهو القيد والربط والضبط والتشكيك والوشي ، فمقتضاه التقييد ، وحقيقة الذكرى بالحق عن الحق المطلق عن كل قيد حتى قيد الإطلاق الذي يقابله التقيّد ، تنافي العقل الذي حقيقته القيد والضبط .
ولهذا أظهرت هذه الحضرة القيد أوّلا في العقل الأوّل الذي عقل نور التجلَّي المطلق من المتجلَّي المطلق باستعداده الخصوصي التقييدي ، فأقامه الله لمظهرية هذا السرّ وهو القيد بحقيقته تقييد النور المطلق .
فقال له الحق : اكتب ، أي قيّد واجمع علمي في خلقي إلى يوم القيامة ، وذلك قيد لقيد في قيد ، وليس له القبول للمطلق مطلقا على الإطلاق دائما ، وقبول جميع التجلَّيات غير المتناهية دائما أبدا ليس إلَّا للحقيقة الإنسانية الأزلية الأبدية الكمالية الجمعية الأحدية ، فهي قلب الوجود الحق ، وكلّ تجلّ وظهور فإنّما هو قلب ظاهر التجلَّي بباطنه أو بالعكس .
أي تقليبه ، فإنّ باطن التجلَّي هو المتجلَّي بذلك التجلَّي ، وهو الذي ينقلب إلى نفسه وينقلب عند التجلَّي من عين المتجلَّى له ويقبل على المتجلَّي ويقبل تجلَّيه عليه ثانيا وثالثا ورابعا وخامسا وسادسا وسابعا إلى ما ما لا يتناهى.
 وليس ذلك تقلب القلب حتى ينقلب القلب قابلا ، وينقلب الحق إلى نفسه بالقبول ، وينقلب أبدا في أطوار التعيّنات وأنوار تنوّعات التجلَّيات ، فهو كلّ يوم أي كلّ آن من الزمان في شأن ، وما أعظم شأن ذي الشأن الذي هذا شأنه في كلّ آن وأنّ الآن هو يوم الذات لا ينقسم أبدا من الزمان .
ثمّ اعلم : أنّ من بعض صور التقلَّبات القلبية الإنسانية أيضا ضبط ما يرد عليه منه ، وربط ما فيه ومنه وبه ، وحصر ما لكلّ مقام ومرتبة بذلك المقام والمرتبة ، فالعقل للقلب منه فيه ، والقلب للعقل فيه بحسبه ، فللقلب عقل مطلق دائم ، كهو .
وللعقل قلب قابل لما يرد عليه كهو ، فإنّ العقل إنّما يعقل من الله ويقبل ، ويقبل ما يرد عليه من الحق الحقيقة قلبيّة في قابليّته لكنّه قبول معيّن لتجلّ معيّن بقابلية معيّنة إلى أمد مقيّد معيّن لا غير ، ولكنّ قبول كل تجلّ في كل آن وزمان لا يكون إلَّا للحقيقة القلبية الإنسانية الكمالية الإلهية الأحدية الجمعية التي أشرنا إليها وهي حقيقة الحقائق وقد مرّ حديثها
 
مرارا ، فتذكَّر ، إن شاء الله تعالى " فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ " ( وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الأَلْبابِ ) جعلنا الله وإيّاك منهم في أهله بفضله .
قال رضي الله عنه : « فإنّ الإله المعتقد ما له حكم في إله المعتقد الآخر ، فصاحب الاعتقاد يذبّ عنه - أي عن الأمر الذي اعتقده في إلهه - وينصره ، وذلك الذي في اعتقاده لا ينصره ، ولهذا لا يكون له أثر في اعتقاد المنازع [ له ، وكذا المنازع ] ما له نصرة من إلهه الذي في اعتقاده ، فما لهم من ناصرين » يعني : فيهم ومنهم . « فنفى الحق النصرة عن آلهة الاعتقادات على انفراد كل معتقد على حدته ، والمنصور المجموع ، والناصر المجموع " .
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ النصّ الوارد بنفي النصرة وارد بنفيها عن كل واحد من أهل الاعتقادات على انفراد نصرة المجموع بقوله : « وَما لَهُمْ من ناصِرِينَ » ولكنّه ما نفى نصرة كلّ واحد لمعتقده ، فالكلّ منصور بنصرة كل واحد واحد من المعتقدين معتقده ، وكذلك كل واحد ناصر لمعتقده لا للكلّ ، فما لكل واحد منهم من ناصرين ، بل ناصر واحد هو هو لا غير .
قال رضي الله عنه : « فالحق عند العارف هو المعروف الذي لا ينكر فأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة " .
يعني رضي الله عنه : أهل الله الذين هم أهله في الدنيا هم أهل الله في الآخرة وهم الذين لا ينكرون الحق في أيّ صورة تجلَّى من صور تجلَّياته الاعتقادية والإشهادية .
قال رضي الله عنه : « فلهذا قال : « لمن كان له قلب » يعلم تقلَّب الحق في الصور بتقليبه في الأشكال ، فمن نفسه عرف نفسه ، وليست نفسه بغير لهوية الحق ، ولا شيء من الكون - ممّا هو كائن ويكون - بغير لهوية الحق بل هو عين الهوية " .
يعني : أنّ الحق الواحد الأحد الذي لا موجود على الحقيقة ولا مشهود في الوجود إلَّا هو ،

فما ثمّ ما يقال فيه : إنّه غير الهوية ، وإلَّا لزم تحقّق الاثنينية في الحقيقة وهي واحدة وحدة حقيقية ، هذا خلف .
.
يتبع


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة نوفمبر 22, 2019 1:34 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فصّ حكمة قلبية في كلمة شعيبيّة الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 7:31 pm

12 -  فصّ حكمة قلبية في كلمة شعيبيّة الجزء الثاني .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الشعيبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
12 - فصّ حكمة قلبية في كلمة شعيبيّة
قال رضي الله عنه : " فهو العارف والعالم والمقرّ في هذه الصورة ، وهو الذي لا عارف ولا عالم ، وهو المنكر في هذه الصورة الأخرى ، هذا حظَّ من عرف الحق من التجلَّي " .
يشير - رضي الله عنه - إلى أنّ المعرفة الحاصلة لأهل التجلَّي من التجلَّي بالمتجلَّي تقتضي أن يكون إقراره وإنكاره بحسب اعتقاده وبحسب ما تجلَّى له المتجلَّي في صورة اعتقاده ، والعارف هو الذي يعرف الحق بحقيقته ويعرف تجلَّي الحق له بالحق ، وهو العالم إذ لا معلوم ولا معروف على الحقيقة إلَّا الحق .

قال رضي الله عنه : « والشهود في عين الجمع ، وهو قوله : " لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ " يتقلَّب في تقليبه .
وأمّا أهل الإيمان فهم المقلَّدة الذين قلَّدوا الأنبياء والرسل ، فيما أخبروا به عن الحق ، لا من قلَّد أصحاب الأفكار والمتأوّلين للأخبار الواردة بحملها على أدلَّتهم العقلية ، فهؤلاء الذين قلَّدوا الرسل عليهم السّلام هم المرادون بقوله : " أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ " لما وردت به الأخبار الإلهية على ألسنة الأنبياء و " هُوَ " يعني هذا الذي ألقى السمع "شَهِيدٌ " ينبّه على حضرة الخيال واستعمالها ، وهو قوله عليه السّلام في الإحسان : "أن تعبد الله كأنّك تراه " والله في قبلة المصلَّي ، فلذلك هو شهيد " .

قال العبد  اعلم : أنّ الشهود قد يكون بمعنى الحضور بالمشهود ، وقد يكون بمعنى الرؤية والشهود للمبصر بالبصر ، وقد يكون للحقائق بالبصائر ، وقد يكون بأحدية جمع البصائر بالأبصار .
وللشهود مراتب : فقد يشهد التجلَّي في حضرة الخيال ، وقد يكون المشهود ممثّلا في عالم الحسّ ، كما مثّلت الجنّة للرسول في عرض الحائط ، وكتمثّل جبرئيل عليه السّلام في صورة دحية والبشر السويّ المذكور في القرآن .
وتحريض الرسول على تمثيل الحق في حضرة الخيال ، بقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله في الثناء على العالمين العابدين له : « قد مثّلوني في أعينهم » إنّما هو إرشاد وترقية لهمّة العارف ، أن يرى ويشهد الحقائق والمعاني ظاهرة كفاحا ، فإنّ في قوّة الحقيقة الإنسانية ذلك ، فاعرفه .

وقوله : « كأنّك تراه » استحضار لصورة المعبود بموجب المعتقد ، فإذا قوي الاستحضار وغلب الحال ، كان المعلوم مشهودا بالبصيرة ، وإذا كمل الشهود كان مشهودا بأحدية جمع البصر والبصيرة .
كما أشرنا إليه في الغرّاء الداليّة لنا :
ومتّحد أبصارنا ببصائر   .... لإبصار وجه الحق حقا حدائد
" فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ " .
وهذا أكمل ما في مقام الشهود ، أن يشهد الحق كما يشهد الحق نفسه ، يعني شهود الحق نفسه في نفسه بنفسه وبه فيه ، فافهم فإذا تحقّق العبد بهذا المقام ، فهو الشاهد وهو المشهود ، وذلك أوّل مراتب الولاية ، فهذا المشاهد الشاهد وليّ الله والله وليّه .
 
قال رضي الله عنه : " من قلَّد صاحب نظر فكري وتقيّد به ، فليس هو الذي ألقى السمع وهو شهيد ، فإنّ هذا الذي ألقى السمع ، لا بدّ أن يكون شهيدا لما ذكرنا ومتى لم يكن شهيدا لما ذكرناه ، فما هو المراد بهذه الآية ، فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم : " إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا من الَّذِينَ اتَّبَعُوا " والرسل لا يتبرّؤون من أتباعهم الذين اتّبعوهم " .
يشير رضي الله عنه إلى أنّ نتائج النظر العقلي تقييدية حاصرة للأمر فيما هو خلاف الواقع ، فإذا قلَّدهم مقلَّد لهم وألقى إليهم السمع ، فكأنّه لم يبلغ إلى العلَّة الغائيّة من التقليد وإلقاء السمع وهو الشهود ، لكون المشهود الموجود خلاف الحصر في معيّن مقيّد ، بل كون المشهود عين كل معيّن وغير متعيّن غير مقيّد ، بل على إطلاقه الذاتي الوجودي ، فافهم ، فإنّ الفكر ليس من مقتضى الشهود ، ولكنّ الإيمان بأنّه مشهود يوجب طلب الشهود أوّلا في التمثّل والتخيّل ، ثمّ في الشهود والرؤية الحقيقيين آخرا بما ذكرنا من اتّحاد البصر بالبصيرة ، فتحقيق ذلك التحقيق والله وليّ التوفيق .

قال رضي الله عنه : « فحقّق يا وليّي ما ذكرته لك في هذه الحكمة القلبية . وأمّا اختصاصها بشعيب فلما فيها من التشعيب أي شعبها لا تنحصر ، لأنّ كل اعتقاد شعبة ، فهي شعب كلَّها أعني الاعتقادات ، فإذا انكشف الغطاء انكشف لكل واحد بحسب معتقده ، وقد ينكشف بخلاف معتقده في الحكم ، وهو قوله : "وَبَدا لَهُمْ من الله ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ "  فأكثرهم في الحكم كالمعتزلي يعتقد في الله نفوذ الوعيد في العاصي إذا مات على غير توبة ، فإذا مات وكان عند الله مرحوما قد سبقت له عناية بأنّه لا يعاقب ، وجد الله غفورا رحيما ، فبدا له من الله ما لم يكن يحتسب" .
هذا ظاهر بما تقرّر آنفا أنّ التجلَّي يوم القيامة بصورة الاعتقاد ، والمتجلَّي هو الإله المعتقد - اسم مفعول - ولكن لمّا كان هذا التحوّل الإلهي الرحماني في صورة الاعتقادات ليقرّبه عبدة العلامات الاعتقادية ، فيرحمهم ويوجروا ويربحوا على ربّهم .
وكان ذلك في هذه الصورة الخاصّة موجودا في التجلَّي على خلاف اعتقاده ، تجلَّى له الحق الرحمن الوجيه في صورة غير معتقده ، لما في ذلك من فائدة عائدة على عبده ، ولا محذور في ذلك ، فإنّ الله تجلَّى له بنفسه في صورة معتقده ، ولكنّ المجازاة وقعت على غير معتقده ، فبدا له من الله ما لم يكن يحتسب ، فعلم المعتزلي عند ذلك أنّ الله أعظم ممّا كان اعتقده وقيّده وعساه يرزق الترقي - إن شاء الله تعالى - في تفاصيل هذه الرؤية ، وما ذلك على الله بعزيز .

قال رضي الله عنه : « وأمّا في الهوية فإنّ بعض العباد يجزم في اعتقاده أنّ الله كذا وكذا ، فإذا انكشف الغطاء ورأى في صورة معتقدة وهي حق فاعتقدها وانحلَّت العقدة فزال الاعتقاد وعاد علما بالمشاهدة وبعد احتداد البصر لا يرجع كليل النظر ، فيبدو لبعض العبيد باختلاف التجلَّي في الصورة عند الرؤية خلاف معتقده ، لأنّه لا يتكرّر ، فيصدق عليه في الهوية ، وبدا لهم من الله في هويّته ما لم يكونوا يحتسبون فيها ، قبل كشف الغطاء " .
قال العبد : ظاهر التحقيق يقتضي أن لا ترقّي بعد الموت ، لانقطاع علمه وعمله واختتامهما على ما كان عليه حال وفاته .
كما أشار إليه الصادق عليه السّلام بقوله : « إذا مات ابن آدم انقطع عمله » وحيث لم يشهد ولم ير الحق في حياته الدنيا ، وكان أعمى عن إبصار الحق ورؤيته ، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا ، وليس المراد عمى البصر الجسمانيّ ، " فَإِنَّها لا تَعْمَى الأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ ".
 ولكن رحمة الله من حيث باطن الحقيقة أن يحصل لبعض العبيد ، المؤمن بأهل كشف الغطاء في الدنيا ترقّ في تفاصيل ما آمنوا به أو ألقوا السمع إلى مجملات أصول وفصول من قوانين الحقيقة والتوحيد ، فإنّ القوم من لا يشقى بهم جليسهم ، ولا سيّما وخاتم الأولياء المحمديين الخصوصيين أمدّ بهمّته جميع الأرواح الإنسانية ، فخلَّف لمن خلف بعده من المؤمن قواعد علميّة بيّنة ، وضوابط كشفية يقينية ، يكمّل استعداداتهم للترقّي إلى مراقي أهل الشهود .

ثمّ إنّه لحق في معاريجه وإسراءاته رضي الله عنه الجمهور من الأنبياء والأولياء والصحابة الماضين في برازخهم ، فاجتمع بجميعهم كالحلَّاج وسهل وجنيد وغيرهم من الأكابر ، وكان يوافقهم ويباحثهم في صور معتقداتهم في الله وعلومهم ومعارفهم ، وينبّههم على ما فوق مدركهم ، ويرقّيهم ، ويحلّ عقد اعتقاداتهم ، ويفيدهم ما لم يكن عندهم بحسب عنايته بهم ، ويهبهم من علوم التوحيد وحقيقة الشهود ، من مشرب أحدية جمع الجمع والوجود .
ثمّ يرحل عنهم إلى من فوقهم هكذا حتى أتى على آخرهم رضي الله عنهم  كما هو مذكور في كتاب « التجلَّيات » له وفي كتاب « الحجب » وفي « التنزّلات الموصلية » وفي " الإسراء والعبادلة " ، فليطلب كلّ ذلك طالبه منها ، والله الموفّق .

قال رضي الله عنه : « وقد ذكرنا صورة الترقّي بعد الموت في المعارف الإلهية في كتاب « التجلَّيات » لنا عند ذكرنا بعض من اجتمعنا [ به ] من الطائفة في الكشف ، وما أفدناهم في هذه المسألة ممّا لم يكن عندهم ، ومن أعجب الأمر أنّه » أي الإنسان « في الترقّي دائما ولا يشعر بذلك ، للطافة الحجاب ورقّته وتشابه الصور مثل قوله : " وَأُتُوا به مُتَشابِهاً " وليس هو الواحد عين الآخر ، فإنّ الشبيهين عند العارف [ - من حيث ] إنّهما شبيهان - غيران وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد ، كما يعلم أنّ مدلول الأسماء الإلهية - وإن اختلفت حقائقها وكثرت - أنّها عين واحدة ، فهذه كثرة معقولة في واحد العين ، فيكون في التجلَّي كثرة مشهودة في عين واحدة ، كما أنّ الهيولى تؤخذ في حدّ كلّ صورة [ وهي ] - مع كثرة الصورة واختلافها - ترجع في الحقيقة إلى جوهر واحد هو هيولاها ، فمن عرف نفسه بهذه المعرفة ، فقد عرف ربّه ، فإنّه على صورته خلقه ، بل هو عين هويته وحقيقته » .

قال العبد : اعلم أنّ للعبد من حيث استعداده الذاتيّ استعدادات غير متناهية ، مجعولة بحسب التجلَّيات والآنات وأطوار الوجود دنيا وآخرة برزخا وحشرا وفي الجنان ولثبت الرؤية وغيرهما من حيث يشعر ولا يشعر .
وكلّ ما دخل في الوجود ووجد صار واجب الوجود بواجب الوجود لذاته بذاته ، فلا ينقلب أبدا عدما ، فهو مع الآنات في الترقّي ، فإنّه دائم القبول للتجلَّيات الوجودية الدائمة أبد الآباد ، ولكنّه قد لا يشعر بذلك إن كان من أهل الحجاب ، للطافته ورقّته .
وأنّه أبدا في تجلَّيات تتوالى عليه ، وتزداد - بكل استعداد لتجلّ - تجلَّيات أخر علمية أو شهودية أو حاليّة أو مقامية أو جمعا أو أحدية جمع ، ولتشابه صور التجلَّي لا يعثر على ذلك كالأرزاق التي تؤتى بها متشابهة ، " كُلَّما رُزِقُوا مِنْها من ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا من قَبْلُ " ومعلوم أنّ هذا الرزق الآتي في زمان غير الآتي في غيره ، والكلّ رزق.
والفرق بين التعيّنات ظاهر وبيّن عند أهل الكشف ، خفيّ عند أهل الحجاب ، لأنّ الشبيهين على كل تقدير ، بينهما تغاير في التعيّن ، فهما غيران ، ولكنّ الصحيح لا يقتضي الغيرية في الحقيقة ، لكون العين واحدة مترائية ومتظاهرة في صور متشابهة غير متناهية من الكثرة .
كما أنّ مدلول القادر والخالق والرازق إنّما هو الله ، فإنّه هو الرزّاق القادر الخالق ، ولكن صور التجلَّي من جهة القادرية والخالقية والرازقية متغايرة ، والمسمّى واحد بلا خلاف .

ومثال ذلك على ما مثّله رضي الله عنه الهيولى تؤخذ ولا بد في حدّ كل صورة من حيث إنّ الصورة لا توجد إلَّا حالة في محلّ هو هيولاها ، وليست في الوجود إلَّا عينها ، لعدم امتياز أحدهما عن الآخر إلَّا عقلا لا وجودا ، فالكثرة في الصورة ، والجوهر واحد هو الأصل ، فالصورة عرض حالّ في جوهر هو محلَّه ، ولا يوجد إلَّا به وفيه بل هو هو في الوجود .
فكذلك كثرة صور التجلَّيات في عين واحدة هو حقيقة المتجلَّي الحقّ " وَلِلَّه ِ الْمَثَلُ الأَعْلى ".
فإنّ الصورة حالة في المادّة ، فهي محلَّها والفاعل لها فيها غيرهما على ما عرف في العرف الفلسفي الظاهر ، لا في نفس الأمر ، فإنّ التحقيق يقضي أنّ الكلّ في الكلّ من الكلّ عين الكلّ ، والحلول لا يتعقّل إلَّا بعد البينونة ولا بينونة ، فإنّه بإجماع الخصم لا وجود لأحدهما بدون الآخر ، فالقابلية والفاعلية والانفعال نسب في جوهر واحد هي أحكام له فيه ومنه ، فافهم ذلك واستشرف منه إلى ما نحن بصدد بيانه .

ثم اعلم : أنّ الأمر في الإنسان الكامل كذلك ، فإنّ قلبه يتقلَّب مع الحق في كل منقلب ، فيكون مع كل آن في شأن بربّه ، ومن عرف نفسه بهذه المثابة ، فقد عرف ربّه الذي هو كذلك ، لكونه خلق على صورته ، وهو هويّته .

قال رضي الله عنه : « ولهذا ما عثر أحد من العلماء والحكماء "يعني الظاهريّين" على معرفة النفس وحقيقتها إلَّا الإلهيّون من الرسل والصوفية ، وأمّا أصحاب النظر وأرباب الفكر - من القدماء والمتكلَّمين في كلامهم في النفس وماهيتها - فما منهم من عثر على حقيقتها ، ولا يعطيها النظر الفكري أبدا ، فمن طلب العلم بها من طريق النظر الفكري ، فقد استسمن ذا ورم ، ونفخ في غير ضرم ، لا جرم أنّهم من " الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ".

قال العبد اعلم : أنّ حقيقة النفوس كلَّها من النفس الواحدة التي هي نفس الحق ، وأمّا صور النفوس فإنّها تجلَّيات نورية في النفس الرحماني ، تنفّس الحق بها عن الصور الجسمانية الطبيعية ، فإن كانت - أعني النفس - جزئية ، فهي صورة من صور النفس الكلية الواحدة الرحمانية متفرّجة في مادّة نفسية نورية رحمانية .
وإن كانت نفسا كلية من النفوس للإنسان الكامل ، فهي عين نفس الحق ظهرت في مرتبة حقيقة هذا العبد على نحو من الصورة ، ونفس الحق الإنسانية الواحدة هي التي خلقت منها النفوس كلَّها ، فقبلت في الصورة الذكورة والأنوثة من حيث حقيقتها ،الذاتيتين لها ، وهما الفعل والانفعال.

قال : " خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً " فتلك النفس الواحدة - التي خلقنا منها ، ومنها خلق زوجها - هي نفس الحق التي يحذّركم منها ، وقد أمرنا أن نجعلها وقاية لربّنا في معرفتنا بها .
ونجعل الربّ وقاية لها عن كل ما يخاف ويحذر ممّا يذمّ ويحمد ، ونضيف المحامد كلَّها إلى النفس من كونها عين نفس الحق ، ونضيف المذامّ كلَّها إليها كذلك من كونها نفسا .

فإنّها ذات جهتين تقبل النسبة إلينا من كونها صور حقائقها الذاتية التي هي عينها ، فهي كثيرة لا تتناهى صور جزئيّاتها ، وكذلك تقبل النسبة إلى الحق من كونها نفس الحق الظاهرة في نفسه من مقامي قرب الفرائض والنوافل التي لها من جهتيها ، فإنّ الحق هو عين هويّتنا من كونه عين سمعنا وبصرنا ويدنا ورجلنا وسائر قوانا ، وعين نفوسنا وأعياننا ، ونحن صورة التي نقول على ألسنتنا ، فنحن لسانه الذي يقول : سمع الله لمن حمده ، فنحن من هذا الوجه عين سمعه وبصره ولسانه ، فنحن بحسبه من هذا الوجه ، ومن الوجه الآخر هو ظاهرنا كما ذكرنا .
فإذا ظهر بنا لنا ، فنحن وقايته عن الكثرة المشهودة في أحديته العينية ، إذ نحن الأعضاء والجوارح .
وإن ظهر هو في أحدية عينه ، فنحن باطنه وهو عين قوانا وأعضائنا ونفوسنا ولمّا كانت للنفس هذه السعة ، فهي من حيث توحّدها وأحديتها نفس الحق .
ومن حيث نسبها وشعبها غير المتناهية عيننا ، فمتى عرفناها بهذه السعة ، عرفناها عين الحق حقّ معرفتها .
وتحقّقنا بحقيقتها في قوله : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » فإنّ هذه النفس الواحدة من حيث هويتها الغيبية الواحدة هي نفس الحق ، ومن حيث أنانيّاتها وإنيّاتها الفرقانية نحن ، فإنّ لها إنّيات متعدّدة غير متناهية من حيث شخصياتها ، وهي صور نسب الهوية النفسية النفسية الرحمانية أو الأنانية كالأينية الظاهرة الطاهرة للهوية الباطنية ، والظاهر ظاهر الباطن وبالعكس .
فإن ظهرت النفس في تعيّنها بالهوية الواحدة ، استغرقتنا في هويتها الواحدة ، فكنّا باطنها مستهلكين فيها ، فنحن فيها حينئذ هي ، لا نحن .

وإن ظهرت النفس في صور إنيّاتها ، ظهرنا وكانت هي هويّتنا الباطنة ، فتحقّقت الوقاية لها من جهتها ، فعرفت واحدة كثيرة ، واحدة من حيث العين ، كثيرة من حيث الأين والبين ، والله بأحدية جمعه يقرب الأين ، ويرفع البين ، ويقرّ بذلك العين .
وأمّا تعيّنها فمن حيث أحدية الجمع النفسي الرحماني الذي به نفّس الحق عن حقائقنا العينية عن الكونه العدمية التي كنّا غيبا فيها ، وهي العدمية النسبية من حيث أعياننا ، فتنفّس الحق من قبلنا وحيثيتنا ، ومن جهة أعياننا المستهلكة نفّس بذلك النفس الرحماني عنّا من ضيق كان قائما بحقائقنا في الاستهلاك ، تحت قهر الأحدية ، فأوجد أعياننا بعين نفسه ونفس نفسه الذي رحمنا به ونفّس عنّا ، فنفوسنا من حيث الحقيقة والعين نفس الحق ، ومن حيث تعيّناتها بشخصياتها أنفاسه الرحمانية المتعيّنة في حقائقنا وأعياننا ، فظهرنا بنفس الحق في نفس الحق .
فافهم إن كنت نفسهم ، والله الملهم .

وأمّا المتفلسفة من حكماء الرسوم والأفكار ، قديما وحديثا ، فما تحقّقوا بحقيقتها ، ولم يبلغ علمهم منها إلَّا إلى التعريف الرسمي من حيث صورتها الحجابية .
فتكلَّموا في صورها وقواها وكيفية تعلَّقها بالبدن ، وأنّها جوهر أو عرض ، وداخل البدن أو خارجه ، أو لا داخل ولا خارج ، دخولا وخروجا جسمانيّين ، فقد يصدق عليها كلّ ذلك من حيث المعنى .
فإنّ الجسم والقوى الجسمانية من كونها محالّ ظهور قوى النفس وحقائقها ومظاهرها ، فما هي خارجة عنها ، ولكن ما خاض أحد في بيان حقيقتها وإنّيتها وهويّتها وعينها وغيبها وحقيقتها وخليقتها وعبوديّتها وربوبيّتها ، وكل منهم بذل جهده وأقام قصده ، والكلّ مصيب من وجه ، مخطئ من وجه ، وإن طلبت التحقّق بها بموجب الكشف والشهود ، فعليك بشرح الغرّاء التائيّة لنا ، وهي ألف بيت نظمناها في علم الحقيقة واستقصينا فيها القول على النفس وأسرارها ، فإن ظفرت بها ظفرت بعلمها إن شاء الله تعالى .

قال رضي الله عنه : « فمن طلب الأمر من غير طريقه ، فما ظفر بتحقيقه ، وما أحسن ما قال الله تعالى في حق العالم وتبدّله مع الأنفاس في خلق جديد في عين واحدة ، فقال في حق طائفة بل أكثر العالم " بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ " فلا يعرفون تجديد الأمر مع الأنفاس .
لكن قد عثرت عليه الأشاعرة في بعض الموجودات وهي الأعراض ، وعثرت عليه الحسبانية في العالم كلَّه ، وجهّلهم أهل النظر أجمعين .
ولكن أخطأ الفريقان :
أمّا خطأ الحسبانية فبكونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدّل في العالم بأسره على أحدية عين الجوهر المعقول الذي قبل هذه الصورة ولا يوجد إلَّا بها كما لا تعقل إلَّا به .
فلو قالوا بذلك فازوا بدرجة التحقيق في الأمر .
وأمّا الأشاعرة فما علموا أنّ العالم كلَّه مجموع أعراض فهو يتبدّل في كل زمان ، إذ العرض لا يبقى زمانين " .

قال العبد اعلم : أنّ صور العالم على ما عرّف عند الجمهور من أهل الحجاب :
بأنّه سوى الحق وغيره وهي أغيار بعضها للبعض ظاهر موجود مشهود ، والحق عندهم مغيب مفقود لا يعلم بالحقيقة والإحاطة ، وغير مشهود بما عرّفوا وعرفوا من الشهود .

وأمّا عند العارف المحقّق الكامل ، والمحنّك الفاضل ، فالحق هو الموجود المشهود بكل شهود في كل وجود ، والعالم متوهّم مفقود .
وأنّه مجموع أسامي موضوعة على كثرة متوهّمة أو متعقّلة وهي في الوجود والشهود واحدة ،فهي كثرة متوهّمة في جوهر واحد موجود مشهود.
ومع كونها متوهّمة فإنّها مضمحلَّة في أحدية العين .
وإنّما العالم جوهر واحد هو مجموع أعراض توحّدت فتجوهرت جوهرا واحدا تتراءى فيه صور لا تتناهى أبدا ، فهذه الصور - من حيث إنّها تراء وتظاهر وتمثّل - لا تحقّق لها بنفسها ، بل بجوهرها وفيه .
فهي أعراض جمعت إلى جوهر واحد وصارت جوهرا واحدا أو هي جوهر واحد لا حقيقة في الحقيقة إلَّا له ، وإذا كان العالم مجموع أعراض ، فإنّ الأعراض لا تبقى زمانين ، والجوهر المشار إليه يتبدّل فيه الأعراض ، وهو يتقلَّب فيها ، ولا يتبدّل ولا يتغيّر .

وبيان كون العالم مجموع أعراض :
أنّ العالم لا يخلو من أن يكون جوهرا ، أو عرضا ، أو مجموع جواهر وأعراض ، أو لا يكون واحدا منها ، لا جائز أن لا يكون شيئا منها ، وإلَّا فهو لا شيء ولا وجود له ، وانحصر الأمر في هذا التقسيم لانحصار الأمر بين الوجود والعدم .
ثم نقول : لا جائز أن يكون جوهرا لا عرض فيه ، لعدم وجود جوهر بلا عرض وعدم تحقّق هيولى بلا صورة .
ولأنّا نقول أيضا : إن كان الجوهر ما يقوم بذاته ولا يكون موجودا في موضوع ، بل موجودا لا في موضوع .
فالعلم إذن ليس بجوهر ، لأنّه لا قيام ولا وجود له من ذاته ، بل قيامه بوجود مستفاد من الحق ، فليس العالم ولا شيء من العالم بجوهر قائم بذاته .
وأيضا فإنّ الجوهرية أمر اعتباري في ذات الجوهر وماهيته ، ولا تحقّق للجوهرية إلَّا بالجوهر ولا تعيّن للجوهر إلَّا بالجوهرية المعقولة ، وهو كون الجوهر موجودا لا في موضوع ، وهذا أمر اعتباري ، والأمور الاعتبارية لا وجود لها إلَّا في الاعتبار والعقل أو الذهن ، والوجود أيضا على ما عرّفوا في عرفهم الخاصّ عرض ، ولا يشهد أيضا من العالم إلَّا الصور والأضواء والسطوح والأبعاد وهي أعراض ، فبطل أن يكون العالم جوهرا أو جوهرا بلا أعراض ، والحسّ والعقل يشهدان بذلك .

ولا جائز أيضا أن يكون مجموع أعراض وجواهر ، فإنّ القائم بنفسه وحقيقته لا في موضوع آخر هو الوجود الحق المطلق ، فإنّه المتحقّق بنفسه لنفسه حقيقة لا بغيره ولا في غيره ، وهو يتعالى عن أن يكون جوهر العالم أو يقوم به عرض أو جزءا من مجموع .
 
وإذا صحّ أنّه ليس بجوهر أو جواهر بلا أعراض ولا قائما بذاته في ذاته ولا مجموعا من جواهر وأعراض ، لزم أن يكون مجموع أعراض ، وإذا كان العالم مجموع أعراض فإنّه يتبدّل برمّته وكلَّيته في نفس ، ولأن لا ينقسم من الزمان ، ولا يشعر بذلك ، للطافة الحجاب وهو تشابه الصور والأمثال .

وأيضا فإنّ العالم ممكن الوجود على كل حال أو واجبة لا بذاته ، بل بالواجب بالذات ، وامتنع امتناع وجوده بالإجماع ، فلزم أن يكون إمّا ممكنا أو واجبا .

لا جائز أن يكون واجبا بذاته ، فإنّه الحق ، فلو كان واجبا بالواجب بذاته ، فقيامه إذا بالواجب بالذات لا بنفسه ، وإن كان ممكنا فلا وجود له إلَّا بالمرجّح ولا تحقّق له إلَّا بالوجود المستفاد من الموجد المرجّح .
.

يتبع


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة نوفمبر 22, 2019 1:37 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فصّ حكمة قلبية في كلمة شعيبيّة الجزء الثالث .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 1:34 am

12 -  فصّ حكمة قلبية في كلمة شعيبيّة الجزء الثالث .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص الشعيبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثالث
12 - فصّ حكمة قلبية في كلمة شعيبيّة
فهو إذن بدون ذلك غير موجود ، بل هو معدوم في عينه ، إذ لم يكن ، فهو لعينه عدمي يطلب العدم الأصلي لعينه ، ولكنّ الموجد المرجّح يوالي ويواصل بنور الوجود وإفاضته عليه .

ويوجده مع الآنات ، فتتجدّد الصور والأعراض ، والصور والأشكال من الوجود المطلق للحق ، ولا يفيض من الحق إلَّا الحق ، فيتحقّق به ما لا تحقّق له في عينه ، فيوجد هذه الأعراض والصور في هذه العين الواحدة التي هي كالمراة لهذه الصور المترائية فيه تماثيل وتمثّلات بها.
 
 فلو شعر الذين شعروا بما شعروا من تبدّل المجموع وهم السوفسطائية المسمّون حسبانية ، أنّ وراء هذه التبدّلات والأبدال ، والتمثّلات والأمثال حقيقة حق لا يتبدّل عن مقتضى ذاته ، ولكن من شأنه الظهور بهذه الصور عند التجلَّي والتعيّن ، وأنّه عين الوجود الحق ، لكانوا من أهل العثور على حقيقة الأمر .
ولكنّهم شعروا بالتبدّل في مجموع العالم ، ثم لم يثبتوا فتزلزلوا ونفوا الحقيقة .
فقالوا : وإذ صحّ تبدّل العالم وتغيّره جملة وتفصيلا ، فلا حقيقة له .
فلو ثبتوا وأثبتوا الحقيقة الأحدية الثابتة القابلة لهذه الصور العرضية لا من خارج ، بل من عينه ، وأنّها لا تقدح الكثرة العرضية والتعيّن والتجدّد في حقيقة هذه العين الأحدية ، لفازوا بالحق .
 
والأشاعرة شعروا بأنّ العرض لا يبقى زمانين ، وأعراض العالم تتبدّل مع الآنات ، ولم يشعروا مع ذلك أنّها مجموع أعراض ، وأن لا شيء من العالم بجوهر قائم بنفسه ، وأنّ الموجود القائم بعينه في عينه لا في موضوع سواه هو الحق ، فأخطئوا ، فلو أثبتوا - حين أثبتوا جوهر العالم واحدا - أنّ ذلك الواحد هو الوجود الحق المتعيّن بهذه الصور كلَّها ، لكانوا من الفائزين بالأمر على الحقيقة ، فتبيّن بما ذكرنا خطأ الفريقين لمن عقل عن الله ، وما غفل عن التحقيق ، والله وليّ التسديد والتوفيق .

قال رضي الله عنه : « ويظهر ذلك في الحدود للأشياء ، فإنّهم إذا حدّوا الشيء تبيّن في حدّهم تلك الأعراض ، وأنّ هذه الأعراض المذكورة في حدّه عين هذا الجوهر وحقيقته القائم بنفسه ، ومن حيث هو عرض لا يقوم بنفسه ، فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه من يقوم بنفسه كالتحيّز في حدّ الجوهر القائم بنفسه الذاتي » .
يعني على قول الأشاعرة مثلا « وقبوله الأعراض حدّ له ذاتيّ ، ولا شكّ أنّ القبول عرض ، إذ لا يكون إلَّا في قابل ، لأنّه لا يقوم بنفسه ، وهو ذاتي للجوهر ، والتحيّز عرض ولا يكون إلَّا في متحيّز ، فلا يقوم بنفسه ، وليس القبول والتحيّز بأمر زائد على عين الجوهر المحدود ، لأنّ الحدود الذاتية هي عين المحدود وهويّته ، فقد صار ما لا يبقى زمانين - وهو العرض - يبقى زمانين وأزمنة ، وعاد ما لا يقوم بنفسه يقوم بنفسه ، وهم لا يشعرون لما هم عليه » .
يعني رضي الله عنه : القائلون بأنّ الجوهر هو ما يقوم بنفسه مع تحقّق أنّ أجزاء حدّه الذاتي وحقائق حقيقته الذاتية لا تحقّق لها في أنفسها ، فإنّها أعراض ، فإنّ التحيّز للجسم - وهو الجوهر المتحيّز - والجوهرية وقبول الكمّ والكيف وغيرها من الأعراض ، كالأبعاد من الطول والعرض والعمق .

كلَّها معان لا تحقّق لها ولا قيام إلَّا في أمر هو المجموع من هذه الأعراض ، لأنّ الجوهر الطويل العريض العميق ليس بشيء زائد على مجموع هذه الأعراض ، وكونه مجموع هذه الأعراض أو أمرا غير مذكور ولا مشهور معنى أيضا معقول لا وجود له بدون هذه الأمور التي لا تحقّق لها في أعيانها ولا قيام .
فهم - مع قولهم بأنّ العرض لا يبقى زمانين ، وأنّ أجزاء هذا المحدود أعراض ، ووجوب الاعتراف بأنّ لا زائد على هذه الأجزاء ، بعدم إثباتهم أمرا زائدا قائما بنفسه - كيف لم يقولوا بأنّ العالم مجموع أعراض ، أو أنّه يتبدّل مع الآنات ، خطأ بيّن .
فلم يشعروا بتبدّل الأعراض المجموعة تبدّلا جمعيا وحدانيا ، لا يشعر به إلَّا من شعر بتبدّل صورة النور المشهود في المصباح مثلا بشهادة العقل الصحيح أنّ الجزء المشتعل من مادّة الدهن والفتيل في كلّ آن آن يفنى ولا يبقى ويتلاشى ويتعلَّق النار القائم بها النور بجزء متّصل بذلك الجزء الأوّل المنطفئ .

فباتّصال التعلَّق وتواليه وتعاقبه مع الآنات يظهر الاتّصال بين التعيّنات النورية المنطفئة والمشتعلة على الدوام بلا توقّف بحيث لا يدرك الحسّ فاصلا بين صور الاشتعال والانطفاء ، فيظنّ أنّ النور الظاهر أوّل الليل هو بعينه ذلك النور المشهود في آخره .
ومع أنّ حقيقة النور واحدة ولكنّ التعيّنات متغايرة لا شكّ فيه ولا ريب .
فمن عثر على هذا التبدّل من ذوي الحسّ السليم والعقل الصحيح ، واعترف به ، فقد يعثر على تبدّل مجموع الصور من العالم مع الآنات ، والتبدّل أيضا عرض .
فلو أطلعه الله على المادّة المشتعلة أو العين الواحدة المظهرة بتعيّنها هذه الصور من نفسها في نفسها ، للحق بأهل الحق والتحقيق ، والله وليّ التوفيق .
 
قال رضي الله عنه : " وهؤلاء هم في لبس من خلق جديد" .
يعني أهل الحجاب الذين يقولون بوجود الغيرية والسوي .


قال رضي الله عنه : « وأمّا أهل الكشف فإنّهم يرون أنّ الله يتجلَّى في كلّ نفس ، ولا يكرّر التجلَّي " .
أي لا يعيد عين التجلَّي الأوّل ، فإنّ حقيقة التكرار بالنسبة إلى مطلق التجلَّي من حيث تعيّنه من مراتب الأسماء متحقّقة ، ولكنّ التكرار بالنسبة إلى كل تعيّن معيّن محال عقلا وكشفا .
فإن اعتبرنا حقيقة التجلَّي الواحد الذاتيّ ، فلا يتصوّر فيه التكرار أصلا ورأسا .
فإنّه تجلّ واحد أزلا ، وأبدا ، ولكن ظهوراته وتعيّناته بحسب حضرات التجلَّي ومراتب الأسماء وخصوصيّات القوابل والمظاهر ، والتجلَّي في كل آن وزمان يتجدّد ويتعدّد ، ولا تكرار فيه ، فإنّ القبول الأوّل غير القبول الثاني ، فتجدّد التجلَّيات بحسب قبول القوابل وتعدّدها .


قال رضي الله عنه : « ويرون أيضا أن كل شهود يعطي خلقا جديدا ، ويذهب بخلق جديد » .
يعني رضي الله عنه : أنّ التجلَّى الواحد - بالنظر إلى دوام انبعاثه من ينبوع الجود بتنوّع نور الوجود بحسب القوابل - يتعيّن بلا مكث ، وينسلخ متقلَّصا إلى أصله ، ويعقبه ما بعده بالتعيّن على التوالي والدوام .
فهو من كونه متعيّنا في قوابل بحسبها يعطي خلقا جديدا ، وبالنظر إلى انسلاخه يذهب ذلك التعيّن الذي هو الخلق ، فلا يزال الخلق يتجدّد بتجدّد التعيّنات .


ولا يزال التجلَّي يتعيّن بتعيّن الاستعدادات ، فالتجلَّي المتعيّن في قابلية العالم مثلا في الآن راجع إلى الغيب بما عليه من خلقه الخلق الجديد وبدله قائم بمثل صورته وشبهه .
فإنّ التجلَّي هو المظهر لصور العالم من استعداده الكلَّي ، وإذا ظهر في كل آن بكل صورة ، غاب الوجود المتعيّن بصورة ظهر بها ، وخلقه بمثل الصورة الغائبة حاضرا هكذا أبدا دائما .


قال رضي الله عنه : « فذهابه هو الفناء عند التجلَّي والبقاء لما يعطيه التجلَّي الأخير فافهم».
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ البقاء للوجود الحق الذي تظهر فيه هذه الصور مع الآنات ، والفاني هو التعيّن بما تعيّن به فيه قبله ، ومع قطع النظر عن هذه الاعتبارات ، فلا فناء ولا بقاء ، ولا تجلَّي ولا حجاب ، ولا بخل ولا نحل ، ولا بعاد ولا اقتراب .

 
.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة نوفمبر 22, 2019 1:38 am عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فصّ حكمة ملكية في كلمة لوطية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 1:34 am

13 - فصّ حكمة ملكية في كلمة لوطية .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

فص الحكمة اللوطية على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

13 - فصّ حكمة ملكية في كلمة لوطية

سبب استناد هذه الحكمة الملكية إلى هذه الكلمة الكمالية يذكر في شرح نصّ الفصّ ، وقد ذكرنا ما فيه مقنع .
أضيفت حكمته إلى الملك من طلبه القوّة والركن الشديد ، فإنّ الملك القوّة والشدّة ، كما سيأتيك .
قال رضي الله عنه : ( الملك : الشدّة . والملك : الشديد .
يقال : ملكت العجين إذا شددت عجنه ، قال قيس بن الحيطمة يصف طعنه :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها …..  يرى قائم من دونها ما وراءها
أي شددت بها كفّي يعني الطعنة ، فهو قول الله عن لوط : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ".
فقال صلى الله عليه وسلم : « يرحم الله أخي لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد » فنبّه صلى الله عليه وسلم أنّه كان مع الله من كونه شديدا ، والذي قصد لوط عليه السّلام القبيلة بالركن الشديد ، والمقاومة بقوله : " لو أنّ لي بكم قوّة ". )
يشير رضي الله عنه : إلى سبب استناد حكمته إلى لوط من كونه مع القويّ الشديد ، حتى يقوى على أعداء الله ، ويشدّد على أولياء الشيطان ، وكذلك كان عليه السّلام فإنّ هذا النفس من شديد في شدّة ، ولولا القوّة التي كان عليها ، لما قهر الأعداء بقوّة همّته وشدّة أثر باطنه ظاهرا .
 
قال رضي الله عنه: ( وهي الهمّة هنا ) يعني القوّة المذكورة في قوله : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " .
قال رضي الله عنه  : ( من البشر خاصّة ).
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لكونه صلى الله عليه وسلم سمع الله يقول : " الله الَّذِي خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ "  بالأصالة " ثُمَّ جَعَلَ من بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً " فعرضت القوّة بالجعل فهي عرضيّة " ثُمَّ جَعَلَ من بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ".
 فالجعل تعلَّق بالشيبة ، وأمّا الضعف فهو رجوع إلى أصل خلقه .
وهو قوله : "خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ " فردّه لما خلقه منه " ثمّ " يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً " فذكر أنّه ردّ إلى الضعف الأوّل . فحكم الشيخ حكم الطفل في الضعف .
وما بعث نبيّ إلَّا بعد تمام الأربعين ، وهو زمان أخذه في النقص والضعف ، فلهذا قال : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " مع كون ذلك يطلب همّة مؤثّرة) .
 
قال العبد : كلّ هذه الحكم والأسرار ظاهرة بيّنة الإشارة لأهل الخصوص بلغتهم ، وهي أنّ المخاطب بهذا الخطاب ظاهرية الخلق وحجابيّتهم من جسمانيّتهم .
فإنّ كناية الكاف من قوله : « خلقكم » وفي قول لوط : " بكم " عائدة إلى التعيّن والحجابية التي لأنانيّة كلّ شيء ، ولا شكّ أنّها من الخلقية ، والخلقية صورة عرضية من أصل عدميّ في حقيقة الممكن من جهة إمكانه ، فإنّ أصل الممكن يقتضي الضعف ، إذ القوّة والشدّة من حقائق الوجود ، وأصل خلقيّته من العدم الإمكانى الذاتي له ، فكان له الضعف بالأصالة ، والقوّة بالجعل من حيث ترجيح الحق وتقويته جانب الوجود بالنسبة إلى الممكن ، هذا سرّ خلق الله لنا بالأصالة من ضعف ، وحكمة كون القوّة له عرضية .
 
وأمّا حكمة الشّيبة من باب الإشارة بلسان أهل الذوق ، فهي أنّ الشعور التي على ظاهر الإنسان صور الشعور الذي لباطن الإنسان بالأشياء ، ولمّا كان شعور كل إنسان بكل شيء في المبدأ أوّلا من حيث حجابيات الأشياء وتعيّناتها ، وهو علمه بما سوى الله من كونه سواه وغيره وحجابا عليه ، فلهذا غلب على لون الشعور وصبغها في بدء النشأة حجابية ظلمانية كالسواد وقبيله ، وإشارة إلى إظهار الحجابية التعيّنية والظلمة الكونية على نوريّته الوجودية أوّلا بالنسبة إليه كذلك ، فإنّه في زعمه وزعم أمثاله غير الله وسواه .
 
ثمّ بعد تكامل الإنسان في قواه الروحانية والإلهية النورانية وغلبتها على القوى الظلمانية الجسمانية واستيلاء حقيقته على خلقيته وشعوره بحقيّات الأشياء من حيث حقائقها ووجوداتها من جهة ما يدري ولا يدري .
فإنّ الحقيّة الخفيّة في الخلقية التعيّنية غالبة في الآخر ولا بدّ ، ولم يعثر عليها في العموم ، فقد علم ذلك أهل الخصوص والخلوص ، والله غالب على أمره .
وقد سبقت رحمته غضبه ، فلا بدّ أن يغلب في شعوره النورية والبياض على الظلمة والسواد بظهور خفيّات الحقائق على خلصانها وحجابياتها ، فاعرف ذلك وتنبّه ، تنبّه على ما بيّنت ممّا تبيّنت ، والله الموفّق .
 
ولا تظنّنّ من قولنا : شعور باطن الإنسان بخلقيات الأستار وحجابياتها أو بحقّياتها ، الشعور الفكريّ الذهنيّ ، فلا يعنى بذلك إلَّا شعور باطن النفس وهي التعلَّقات والتعشّقات النفسية المنبعثة بالتعلَّق في أوّل النشء بحجابيات الأشياء وظلمانياتها ، فافهم هذه اللطيفة الروحانية الشريفة في سرّ غلبة الشيب آخرا وعموم غلبة السواد على الشعور الظاهرة على الإنسان أوّلا .
 
وأمّا من لا يظهر عليه حكم الشيب فهو صورة من لم يدرك طول عمره إلَّا الحجابية الغيرية ، وذلك في العموم ، وفي الخصوص غلبة الغيب على الشهادة بالنور الأسود الذي هو من أعلى الأنوار ، فافهم .
وأمّا معنى قوله عن لوط عليه السّلام : لمّا سمع " الله الَّذِي خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ " فإنّه سمع بسمع روحه روح هذه الآية من روح محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم في عالم
 
الأرواح ، حين بعثه إلى الأرواح نبيّا ، وكان آدم بين الماء والطين ، فسمع الآية روح لوط كذلك.
وذلك عين تحقّقه عليه السّلام بأنّ الله خلقه وسائر بني نوعه من ضعف من حيث إنّه كان نطفة ، ثمّ صار علقة ، ثمّ مضغة مخلَّقة وغير مخلَّقة ، ثم جنينا حيّا مولودا ، ثمّ طفلا رضيعا ، وصبيّا وشابّا وشيخا ومائتا ، ثمّ الله ينشئ النشأة الآخرة ، فتحقّق عليه السّلام كيف خلق من ضعف ، وكيف ردّ إلى ضعف ، وهذا الاعتبار يحصل للأنبياء المكمّلين وحيا ، وللأولياء إخبارا وإلقاء وواردا وتجلَّيا بغتة ، ولغيرهم بالفكر والتدريج ، فافهم .
 
قال رضي الله عنه : ( فإن قلت : وما يمنعه من الهمّة المؤثّرة وهي موجودة في السالكين والأتباع ، والرسل أولى بها ؟
قلنا : صدقت ولكن نقصك علم آخر ، وذلك أنّ المعرفة لا تترك للهمّة تصرّفا ، فكلَّما علت معرفته نقص تصرّفه بالهمّة ، وذلك لوجهين : الوجه الواحد لتحقّقه بمقام العبودية ونظره إلى أصل خلقه الطبيعي .
والوجه الآخر أحدية المتصرّف والمتصرّف فيه ، فلا يرى ، على من يرسل همّته ؟ )
يعني : لا يرى من يرسل همّته عليه ، ويكون مفعول « يرى » محذوفا بمعنى لا يرى أحدا ويكون « على من يرسل همّته » بيان علَّة عدم التصرّف ، فحذف المرئيّ لما لم تتعلَّق به الرؤية ، والتقدير : لا يرى أحدا غير الحق ، فعلى من يرسل همّته ؟ وهو صحيح فيه حذف واستفهام للمخاطب عمّن يرسل همّته .
 
قال رضي الله عنه : ( فيمنعه ذلك ، وفي هذا المشهد يرى أنّ المنازع له ما عدل عن حقيقته التي هو عليها في حال ثبوت عينه وحال عدمه ، فما ظهر في الوجود إلَّا ما كان له في حال العدم في الثبوت ، فما تعدّى حقيقته ، ولا أخلّ بطريقته ، فتسميته لذلك نزاعا إنّما هو أمر عرضي أظهره الحجاب على أعين الناس .
كما قال الله تعالى عنهم :  " وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظاهِراً من الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ"
وهو من المقلوب ، فإنّه من قولهم : " قُلُوبُنا غُلْفٌ " ي في غلاف ، وهو الكنّ الذي ستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه . فهذا وأمثاله يمنع العارف من التصرّف في العالم  . )
قال العبد : هذا ظاهر جليّ ، ولكن هاهنا بحث لطيف دقيق ، لعمر الله فيه تحقيق ، وهو أنّ شهود أحدية التصرّف والمتصرّف والمتصرّف فيه ، كما يوجب التوقّف عن التصرّف ، فكذلك يقتضي بالتصرّف ، فإنّ التصرّف من حيث وقع وممّن كان ، فليس إلَّا للحق ، فلو تصرّف العارف بأحدية عين المتصرّف والمتصرّف فيه بكلّ ما تصرّف في الأكوان .
فليس ذلك التصرّف إلَّا للحق ومن الحق ، ولا سيّما وأحدية العين توجب أن يكون لحقيقة العبد كلّ ما لحقيقة الربّ من التصرّف والتأثير ، وإلَّا يلزم أن يكون ناقص الاستعداد والقابلية في المظهرية الكاملة الجامعة الكليّة الإلهية ، حيث لم يتحقّق بكمال ظهور الربوبية والإلهية بالتأثير والتصرّف من حقيقته ، والحقيقة الكمالية الإنسانية الإلهية ، لها كلّ ما للحق من الحقائق ، وكلّ ما للعبد من العبدانية الإمكانية الكيانية أيضا كذلك على الوجه الأكمل ، ولها أيضا الجمع وأحدية الجمع وغيرها .
 
وإنّما منع العارف الكامل عن التصرّف ما ذكرنا أوّلا من وجوب ظهور العبد بعبدانيته تحقيقا ، وردّ أمانة الربوبية العرضية إلى الله تأدّبا .
فإنّ ذلك له تعالى بالفعل ، وللعبد الظهور بالعبودية ، وأتى بالفعل ، وذلك بالقوّة ، وعرضيّ ، فإنّ ظهور التصرّف عن هذا العبد الكامل فليس ذلك بتسلَّط الهمّة ، بل تجلَّى من عين الحقيقة من غير إخلال بمقام العبودية ، ولكنّ التصدّي لذلك والظهور به خلاف التحقيق .
 
والموجب لتوقّف العبد الكامل العارف عن التصدّي للتصرّف والتسخير بإرسال الهمّة وتسليطها هو أنّ الكامل مستفرغ بكليّته لله وشهوده من حيث إطلاقه الحقيقي الذاتي ، فلا التفات له إلى تسليط الهمّة الكلَّية إلى الكوائن الجزئية بالتوجّه الكلَّي وجمع الخاطر ، فلا يجتمع الإنسان في نفسه لهمّته إلَّا للتوجّه الأحدي الجمعي الكمالي إلى الله الواحد الأحد ، وأن تتقيّد الهمّة المطلقة عن كل قيد ، المتعلَّقة أبدا بالذات المطلقة بمثل ذلك ، كما أشار إليه - رضي الله عنه - بقوله : « فأمثاله » فافهم .
 
ولكن للحق ظهور بجميع التصرّفات الإلهية والتأثيرات الربّانية ، من عين العبد الكامل من غير تقييد منه بذلك ولا إرسال همّة ولا تسليط نفس ، وهو مشهود موجود ، ولله الحمد ، فتحقّق يا أخي بكلّ هذه الحقائق ، فإنّها غاية في المعرفة بالله " وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ".
 
قال رضي الله عنه : ( قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن قائد للشيخ أبي السعود بن الشبل : لم لا تتصرّف ؟
فقال أبو السعود : تركت الحق يتصرّف لي كما يشاء .
يريد قوله تعالى آمرا : " فَاتَّخِذْه ُ وَكِيلًا " ، فالوكيل هو المتصرّف ولا سيّما وقد سمع الله يقول : " وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه ِ " فعلم أبو السعود والعارفون أنّ الأمر الذي بيده ليس له ، وأنّه مستخلف فيه .
ثمّ قال له الحقّ : هذا الأمر استخلفتك فيه وملَّكتك إيّاه اتّخذني فيه وكيلا ، فامتثل أبو السعود أمر الله واتّخذه وكيلا ، فكيف تبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر همّة يتصرّف بها والهمّة لا تتعقّل إلَّا بالجمعية التي لا متّسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه ؟ !
وهذه المعرفة تفرّقه عن هذه الجمعية ، فيظهر العارف التامّ المعرفة بغاية العجز والضعف .
قال بعض الأبدال للشيخ عبد الرزّاق سلام الله عليه : قل للشيخ أبي مدين بعد السلام عليه : يا أبا مدين ! لم لا يعتاص علينا شيء وأنت تعتاص عليك الأشياء ونحن نرغب في مقامك وأنت لا ترغب في مقامنا ؟  وكذلك كان .
يعني : كان تعتاص عليه أمور « مع كون أبي مدين رضي الله عنه كان عنده ذلك المقام وغيره ونحن أتمّ في مقام الضعف والعجز منه ومع هذا قال له هذا البدل ما قال ، وهذا من ذلك القبيل .
 
وقال صلى الله عليه وسلَّم في هذا المقام عن أمر الله له بذلك : " ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ " والرسول يحكم ما يوحى إليه به ، ما عنده غير ذلك .
فإن أوحي إليه بالتصرّف فيه بجزم ، تصرّف ، وإن منع امتنع ، وإن خيّر اختار ترك التصرّف ، إلَّا أن يكون ناقص المعرفة ) .
قال العبد : نقصان معرفة المتصرّف المخيّر قد يكون من حيث عدم العلم بأنّ حقيقة الفعل والتأثير والتصرّف من خصوص الحضرة اللاهوتية ، وأنّها ذاتية لحقيقة الله ، عرضية في العبد ، وأنّ الوقوف مع العبودية للعبد أولى ، لكون العبودة ذاتية له ، وأنّ الظهور بالذاتيات أعلى وأشرف من الظهور بالربوبية العرضية .
 
وقد يكون من حيث عدم التأدّب مع المرتبة الإلهية ، وأنّ استخلاف الله فيما خلَّف فيه ، واتّخاذه وكيلا كلَّيا أعلى مقام المعرفة والتحقيق ، ولهذا كمل الرسل والورثة بحكم ما يوحى إليهم ، فإن أوحي إليهم بالتصرّف ، كانوا مأمورين بذلك ، فتصرّفوا كتصرّفهم في قومهم بالهلاك والنجاة . وإن أوحي إليهم بالامتناع تأدّبوا ووقفوا أدبا .
وإن أوحى إليهم بالاختيار بين التصرّف وتركه ، علموا أنّه لو كان الأرجح في علم الله خلاف ما أمروا به ، لما خيّروا ، بل أمروا به ، وحيث خيّروا فالخيرة في الأدب والوقوف بمقتضى الحقائق .
 
قال رضي الله عنه :- ( قال أبو السعود لأصحابه الموقنين به : إنّ الله أعطاني التصرّف منذ خمس عشرة سنة ، فتركناه تطرّفا ، هذا لسان إدلال ، وأمّا نحن فما تركناه تطرّفا وهو تركه إيثارا وإنّما تركناه لكمال المعرفة ، فإنّ المعرفة لا تقتضيه بحكم الاختيار فمتى تصرّف العارف بالهمّة في العالم ، فعن أمر إلهيّ وجبر لا باختيار .
ولا شكّ أنّ مقام الرسالة يقتضي التصرّف لقبول الرسالة التي جاء بها ، فيظهر عليه ما يصدّقه عند أمّته وقومه ، ليظهر دين الله ، والوليّ ليس كذلك.
 ومع هذا فلا يطلبه الرسول في الظاهر ، لأنّ للرسول الشفقة على قومه ، فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجّة عليهم ، فإنّ في ذلك هلاكهم ، فيبقي عليهم ، وقد علم الرسول أيضا أنّ هذا الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة منهم من يؤمن به عند ذلك ، ومنهم من يعرفه ويجحده ، ولا يظهر التصديق به ظلما وعلوّا وحسدا ، ومنهم من يلحق ذلك بالسحر والإيهام .
 
فلمّا رأت الرسل ذلك ، وأنّه لا يؤمن إلَّا من أنار الله قلبه بنور الإيمان ، ومتى لم ينظر الشخص بذلك النور المسمّى إيمانا ، فلا ينفع في حقّه الأمر المعجز ، فقصرت الهمم عن طلب الأمر المعجز ، لما لم يعمّ أثرها في الناظرين  و لا في قلوبهم ، كما جاء في حق أكمل الرسل وأعلم الخلق وأكملهم في الحال " إِنَّكَ لا تَهْدِي من أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ " إلى صراط مستقيم « ولو كان للهمّة أثر ، ولا بدّ ولم يكن أحد أكمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلى ولا أقوى همّة منه وما أثّرت في إسلام أبي طالب عمّه ، وفيه نزلت الآية التي ذكرناها .
ولذلك قال في الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه ما عليه " إِلَّا الْبَلاغُ " وقال : " لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ".
 
وزاد في سورة القصص ، " وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " أي بالذين أعطوه العلم بهدايتهم في حال عدمهم وأعيانهم الثابتة ، فأثبت أنّ العلم تابع للمعلوم ، فمن كان مؤمنا في ثبوت عينه وحال عدمه ، ظهر بتلك الصورة في حال وجوده وقد علم الله بذلك منه أنّه هكذا يكون .
فلذلك قال: " وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ "  فلمّا قال مثل هذا ، قال أيضا " ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ " لأنّ قولي على حدّ علمي في خلقي " وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ".
أي ما قدّرت عليهم الكفر الذي يشقيهم ، ثمّ طلبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به ، بل ما عاملناهم إلَّا بحسب ما علمناهم وما علمناهم إلَّا بما أعطونا من نفوسهم ممّا هم عليه ، فإن كان ظلم فهم الظالمون .
ولذلك قال :" وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ "  فما ظلمهم الله .
ولذلك ما قلنا لهم إلَّا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم ، وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ، و لا نقول كذا.
فما قلنا إلَّا ما علمنا أنّا نقول ، فلنا القول منّا ، ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السماع منهم .
قال كلّ منّا ومنهم  ..... والأخذ عنّا وعنهم  
إن لا يكونون منّا  .... فنحن لا شكّ منهم  )
 
قال العبد : يشير رضي الله عنه : بكلّ ذلك إلى أنّ كمال المعرفة والعلم بحقائق الأمور يوجب كمال الأدب مع الله تعالى وعدم التصدّي والظهور بالتصرّف والتأثير بالهمّة.
 فإنّ العالم المحقّق يعلم أنّ الأمور الكائنة في الوجود لا تكون إلَّا بموجب ما كانت عليه في العلم الأزلي، ولا يجري في العالم إلَّا ما جرى في علم الله أزلا بجريانه ، فتنزّهت الهمم العالية العالمة بهذا عن تعليق الهمّة بما لا يكون .
إذ الواقع ما علموا أنّ يقع ، فلا فائدة في تعليق الهمّة ، وغير الواقع لا يقع بتعليق الهمّة به ، ولا يقع إلَّا ممّن يكون ناقص المعرفة ، كما أشار إليه من قبل ، فتحقّق أنّ الأمر بين فاعل عالم بما في قوّة القابل وبين قابل لا يقبل إلَّا ما في استعداده الذاتي غير المجعول .
فكان الأمر كما أشار منّا ومنهم ، منّا من حيث حضرة الجمع الأسمائي ، ومنهم من حيث الأعيان المظهرة بالوجود الحقّ حقائق الأسماء بقابلياتهم واستعداداتهم الخصوصية الذاتية ، وأخذه العلم الحقيقي منّا ، فإنّا نعطي منه من يشاء ما نشاء .
هذا ظاهر ما في هذا الشطر ، والذي فوق هذا أنّ العلم مأخوذ من المعلوم ، والمعلوم نحن ، فإنّا إنّما نعلم أنفسنا منّا ، إذ لا معلوم إلَّا نحن ، فالأخذ منّا ، وذلك العلم من الله متعلَّق أوّلا بنفسه ، ثمّ بالعالم الذي هو مظاهر حقائق نفسه ، وهذا معنى عاد في هذا الشطر .
 
وأمّا الشطر الآخر وهو أن يكون الأخذ عنهم ، أي عن حقائق العالم وأعيانه - فهذا ظاهر ، فإنّ العلم بالعالم إنّما يؤخذ من أعيان العالم وحقائقه ، وأنّهم أي المعلومات من أعيان العالم إن لم يكونوا منّا من كوننا أعيانهم بلا تبعيض ، ولم يكونوا من حقائقهم مجعولين بجعل منّا ، فنحن معاشر الأسماء لا شكّ ، نكون منهم ، فإنّهم يعيّنون الوجود ويسمّون الحق بأسمائه ، فنحن من حيث حضرة الجمع الأسمائي منهم .
 
ومعنى آخر أن يكونوا بموجبنا وحسبنا مطلقا ، وليس في وسعهم ذلك ، لكون كلّ عين عين مخصوصا بخصوص ، ولكنّا لسعتنا لا شكّ نكون بموجب ما منهم عليهم ممّا يوجب عليهم ، فنكون بحسبهم .
 
قال رضي الله عنه : ( فتحقّق يا وليّي هذه الحكمة الملكية في الكلمة اللوطية ، فإنّها لباب المعرفة ) .
يعني : أنّ لباب المعرفة والعلم الحقيقي يوجب إقامة أعذار الخلائق من العلم بسرّ القدر .
ثمّ قال رضي الله عنه  :
( فقد بان لك السرّ   .... وقد اتّضح الأمر
وقد أدرج في الشفع  .... الذي قيل هو الوتر.)
 
يعني رضي الله عنه : من السرّ سرّ القدر وبالأمر أمر الوجود الحق أنّه بحسب ذلك السرّ ، وأنّ الواحد الحق الذي هو الوجود مدرج في الشفع الذي هو القابل ، وإنّما كان شفعا لظهوره في ثاني مرتبة الوتر .
وإنّما كان وترا لعدم الشافع التالي ، فالوتر بتحقّق الثاني شفع ، وبلا هو ، وتر ، فافهم .


.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة نوفمبر 22, 2019 1:42 am عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فصّ حكمة قدريّة في كلمة عزيريّة .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي Emptyالجمعة نوفمبر 22, 2019 1:35 am

14 -  فصّ حكمة قدريّة في كلمة عزيريّة .شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
14 -  فصّ حكمة قدريّة في كلمة عزيريّة   
استناد هذه الحكمة إلى الكلمة العزيرية قد ذكر فيما تقدّم ، ويذكر في شرح المتن وفيه من كون العزيز عليه السّلام طلب العلم بكيفية تعلَّق القدرة بالمقدور وهو من سرّ القدر .
"" فأضيفت حكمة عزيرية عليه السّلام إلى القدر لطلبه العثور على سرّ القدر ،وكان الغالب على حاله القدر والتقدير ." فَأَماتَه ُ الله مِائَةَ عامٍ"  
ولما سأله الله تعالى : " كَمْ لَبِثْتَ " عن قد ما لبث  ، قال بالتقدير : " لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ ".
 وقوله : " أَنَّى يُحْيِي هذِه ِ الله بَعْدَ مَوْتِها "  استفهام استعظام وتعجّب عن كيفية تعلَّق القدر بالمقدور بالنظر الظاهر على ما سيأتيك نبؤه عن قريب .""
وذلك في قوله : " أَنَّى يُحْيِي هذِه ِ الله بَعْدَ مَوْتِها " ظاهر الدلالة اللفظية على الاستبعاد والاستعظام أن يحيي الأرض الميّتة بعد الموت والدثور ، وليس في استعدادها الحاليّ قبول الإحياء وليس ذلك كذلك .
فإنّ الحقيقة على خلاف ذلك ، والاستبعاد من حيث النظر العقلي من حيث الإمكان الخاصّ ، ولا يستبعد مثله - ممّن شرّفه الله تعالى بالنبوّة - إحياء الله الموتى ، ولكنّ المراد طلب العلم بكيفية تعلَّق القدرة الإلهية بالمقدور حقيقة كما نذكر .
 
قال رضي الله عنه : ( اعلم : أنّ القضاء حكم الله في الأشياء ، وحكم الله على حدّ علمه بها وفيها ، وعلم الله في الأشياء على حدّ ما أعطته المعلومات ممّا هي عليه في نفسها ، والقدر توقيت ما هي عليه الأشياء في عينها من غير مزيد ،فما حكم القضاء على الأشياء إلَّا بها ، وهذا هو عين سرّ القدر " لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ " " فَلِلَّه ِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ")


يشير « رضي الله عنه » إلى أنّ الحكم الإلهي على الأشياء هو بموجب ما اقتضته الأشياء من الحكم الكامن في عينها ، ولا سيّما حكم الحاكم العليم الحكيم لا يقضي بخلاف ما علم من مقتضى عين المعلوم .
وإذا علم الحاكم ما في استعداد المحكوم عليه وقابليته من الحكم ، فحينئذ يحكم عليه بما يستعدّ له ويقتضيه وهو في وسعه وطاقته من غير مزيد حكم من خارج ذات المعلوم المحكوم عليه ممّا ليس في وسعه ، فتخصّصه المشيّة بموجب خصوصه الذاتي ،وتعيّن الحكم بحسب تعيّنه في العلم الأزلي وعلى قدره لاغير .
ثمّ اعلم : أنّ القضاء هو الحكم الكلَّي الأحدي من الله الواحد الأحد في كل مقضيّ عليه بكل حكم يقتضيه المحكوم عليه .
والقدر توقيت ذلك الحكم وتقديره بحسب إقرار المعلومات إلَّا بما هو عليه في نفسه بلا زيادة أمر على ذلك.
فلا يقال كما قالت الجهلة البطلة الظلمة في حكمهم على الله :
 إنّه قدّر على الكافر والجاهل والعاصي الكفر والمعصية والجهل ، ثمّ يؤاخذه عليه ويطالبه بما ليس في قوّته ووسعه ، بل الله سبحانه إنّما كتب عليه وقضى وقدّر بموجب ما اقتضاه المحكوم عليه أزلا باستعداده الخاصّ غير المجعول من الله أن يحكم عليه بالظهور على ما كان عليه .
وإظهار ما فيه كامن بالإيجاد وإفاضة الوجود عليه .
ولا يقال : إنّ الله جعل فيه ذلك الاستعداد الخاصّ إذا وجده في العلم كذلك أو وضعه فيه وما شاكل هذه العبارات ، لأنّ البحث والنزاع قبل الإيجاد .
فلا يقال : إنّ الله أوجدها قبل إيجادها أو وضع فيها ما ليس فيها ، وإذ لم يجعل الله في المعلومات الأزلية قبل إيجادها ما كان خارجا عنها ، ممّا لا يكون ملائمها أو يلائمها من الكمال والنقص ، والمحمود والمذموم ، والنفع والضرّ .
"وَما ظَلَمَهُمُ الله وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ " ." فَلِلَّه ِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ " علينا بنا ، فإنّ حكمه علينا بموجب حكمته وعلمه ، ومقتضى ذاته وحكمته وعلمه أن يحكم على الأشياء بما هي عليها في أعيانها .
 
قال رضي الله عنه  : (فالحاكم في التحقيق تابع لعين المسألة التي يحكم فيها بما تقتضي ذاتها ، فالمحكوم عليه بما هو فيه حاكم على الحاكم أن يحكم عليه بذلك ، فكل حاكم محكوم بما حكم به وفيه ، كان الحاكم من كان .  فتحقّق هذه المسألة ،فإنّ القدر ما جهل إلَّا لشدّة ظهوره ، فلم يعرف ،وكثر فيه الطلب والإلحاح).


يعني رضي الله عنه : أنّ الحاكم الحكمية  إنّما يحكم - كما ذكرنا - على المحكوم عليه بمقتضى حقيقة المحكوم عليه ، ولا يقدّر له إلَّا على قدره وبقدره من غير زيادة ولا نقصان ، ولا تتعلَّق القدرة إلَّا بالمقدور بحسب قدره ووسعه لا غير ، فالحاكم محكوم حكم المحكوم عليه بما يقتضيه ، وقضاؤه عليه تابع لاقتضائه .
أعني : قضاء الله المقضيّ عليه بالمقضيّ به بحسب اقتضاء المقضيّ عليه من القاضي أن يقضي عليه بما اقتضاه لذاته لا غير ، وهذا ظاهر ، بيّن الوضوح ، ولشدّة وضوحه ذهل عنه وجهل به وطلب من غير موضعه ، فلم يعثر على أصله وسببه ، وليس فوق هذا البيان في سرّ القدر بيان إلَّا ما شاء الله الواسع العليم ، علَّام الغيوب ، وعليه التكلان وهو المستعان .


قال رضي الله عنه  : ( واعلم : أنّ الرسل صلوات الله عليهم - من حيث هم رسل ، لا من حيث هم أولياء وعارفون - على مراتب ما هي عليه أممهم ، فما عندهم من العلم الذي أرسلوا به إلَّا قدر ما تحتاج إليه أمّة ذلك الرسول ، لا زائد ولا ناقص .
والأمم متفاضلة يزيد بعضها على بعض ، فيتفاضل الرسل في علم الإرسال بتفاضل أممها ، وهو قوله تعالى : " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ " كما هم أيضا فيما يرجع إلى ذواتهم من العلوم والأحكام متفاضلون بحسب استعداداتهم ، وهو قوله : " وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ " ).
يشير رضي الله عنه : إلى أنّ الرسول برسالته إلى أمّة لا بدّ له من العلم بالرسالة والمرسل - اسم فاعل - من كونه مرسلا وبالمرسل إليه من حيث ما فيه صلاحه دنيا وآخرة ، فهو من كونه رسولا لا يلزمه من العلم إلَّا ما يحتاج إليه المرسل إليه - أعني الأمّة - وتتمّ به الرسالة لا غير ، ولكنّ الرسول - من كونه عالما بالله عارفا به وليّا له - قد يؤتيه الله من العلم ما فيه كماله الخصيص به .


وأمّا التفضيل والتفاضل بينهم من كونهم رسلا وأنبياء فبسعة فلك الرسالة أو عظمها وحيطتها وعمومها ، فإنّ كثرة إيحائها في عمومها تستدعي كثرة علومها ، وقد يكون لهم تفاضل في العلم بالله وعلوّ المقام وقوّة الحال وغير ذلك .
ولكنّ الرسل ما داموا رسلا وكانوا يمهّدون في إبلاغ الرسالة سبلا ، ليس عليهم ولا لهم إلَّا ما يحتاجون إليه في أداء الرسالة وتبليغ الدعوة لا غير ، وقد يطوي الله عنهم العلوم التي لا تقتضيها الرسالة وتنافيها ظاهرا كالعلم بسرّ القدر .
فإنّه يوجب فتور الهمّة عن طلب ما هو غير مقدور ، ودعوى من يعلم أنّ الله قدّر عليه الكفر والجحود والعصيان ، ومقتضى الرسالة الجدّ والعزم والجزم في كلّ ذلك ، فوجب طي ما يوجب الفتور فيما هو بصدده .


قال رضي الله عنه : ( وقال تعالى في خلق الخلق : "وَالله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ في الرِّزْقِ " والرزق منه ما هو روحاني - كالعلوم - وحسّيّ كالأغذية ، وما ينزّله الحقّ إلَّا بقدر معلوم ، وهو الاستحقاق الذي يطلبه الخلق .
فإنّ الله " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ُ " فينزّل بقدر ما يشاء من نفسه ، وما يشاء إلَّا ما علم فحكم به ، وما علم - كما قلناه إلَّا بما أعطاه المعلوم ، فالتوقيت في الأصل للمعلوم ، والقضاء والعلم والإرادة والمشيّة تبع للقدر ، فسرّ القدر من أجلّ العلوم ، لا يفهمه الله إلَّا لمن اختصّه بالمعرفة التامّة ، فالعلم به يعطي الراحة الكلَّية للعالم به ، ويعطي العذاب الأليم للعالم به أيضا ، فهو يعطي النقيضين ، وبه وصف الحقّ نفسه بالغضب والرضا ، وبه تقابلت الأسماء الإلهية ) .


قال العبد : أمّا الراحة فلأنّ العالم بسرّ القدر يتحقّق أنّه لا يكون إلَّا ما أعطته عينه الثابتة أزلا ، والذي أعطته حقيقته أزلا لا يتخلَّف ولا يتغيّر ولا يتبدّل أبدا ، فيريح نفسه من طلب ما لا يدرك إلَّا ما علم أنّ إدراكه بالطلب أيضا في القدر .
قال العبد : ولمّا فتح الله لي في حقيقة سرّ القدر ورزقني التحقّق به ، رأيت في مبشّرة كأنّي في مسجد أو معبد مجموع في دائر حيطانه طاقات رفيعة مرفوعة ، فيها شموع مضيئة موضوعة ، فرأيت في طاقة منها كتابا متوسّط الحجم على قطع كبير أسود الجلد محكما قديما ، فأخذت الكتاب وفتحته باسم الله .
فإذا مكتوب عليه : « كتاب سرّ سرور النوم واليقظة »
فسررت بوجدانه ، وكأنّي كنت عمرا في طلبه ، فأخذته في حضني تحت صنعي ، حتى أطالعه بالتدبّر والتأمّل على الواجب ، ثمّ استيقظت .
فسررت بذلك ، ثمّ علمت أنّي أوتيت سرّ القدر ، وعلمت أنّي أسرّ بسرّ القدر في نومي الذي هو مدّة عمري في النشأة الدنياوية ، ويريحني الله عن طلب ما لم يقدّر لي ، ثمّ أسرّ به أيضا إن شاء الله العليم القدير الحكيم ، إذا استيقظت من هذا النوم عند لقاء الله الموعود المنتظر عند انقضاء الأجل المعلوم ، والحمد لله أوّلا وآخرا وباطنا وظاهرا .
وأمّا كون هذا السرّ يعطي العذاب الأليم فلأنّه يرى أعيانا على أكمل استعداد ، ويتأتّى لهم التحقّق بكل كمال وفضيلة في الدنيا والآخرة وفيما يتعلَّق بالله خاصّة ، وقد تحقّق أنّه ليس في استعداده الذاتي ومقتضى حقيقته الظهور بكلّ كمال إنساني إلهي دنيا وآخرة أو في إحداهما دون الأخرى وإن تيسّر البعض .
فيرى أنّه نقص في كمال العبدانية المظهرية ، فيتألَّم ويتحسّر ويتضجّر يتحيّر أيضا من القدر على عدم بلوغه إلى ما يبلغه غيره ، وأنّه ما ينال ذلك السعي والجهد ، فتتضاعف حسراته وآلامه بالقدر لذلك ، فلهذا معنى سرّ القدر من كونه يعطي العذاب الأليم .
والوجه الآخر في ذلك أنّه يؤمر بما يعلم أنّه ليس في استعداده الإتيان به ، كما سنذكره في الذوق المحمدي إن شاء الله تعالى .


وأمّا ترتّب الرضا والغضب الإلهيّين عليه فلأنّ الغضب يترتّب على الحكم العدمي الذي يفضي إلى عدم القابلية والاستعداد والأهلية والصلاحية لإتيان ما فيه سعادته وكماله .
فيتعيّن الغضب الإلهي بموجب ذلك .
وإذا كان مستعدّا لقبول الرحمة والفيض والعناية ، والإتيان بالأعمال والأخلاق والعلوم والأحوال المقتضية للسعادة في خصوص قابليته ، فيترتّب على ذلك ، الرضا من الله .


وأمّا تقابل الأسماء بسرّ القدر فلأنّ أعيانا معينة تقتضي بحقائقها واستعداداتها الذاتية تعيّن الوجود الحق فيها بحسب خصوصياتها الذاتية العينية ، على نحو أو أنحاء يتحقّق بتعيّنها وتسميتها للوجود الحق أسماء إلهية جمالية لطفية أو كمالية قهرية جلالية .
وأعيانا أخر كذلك تقتضي تعيّن الوجود في خصوصياتها بضدّ ما قبلت الأعيان الأولى ، فيظهر التقابل ، فإنّ زيدا - مثلا - تعيّن في مظهريته الاسم « اللطيف » وتعيّن في خصوص مظهرية عمرو القابل ، فتقابل الاسمان - بحسب خصوصيتيهما في قابليتيهما المتقابلتين بالمنافاة - متقابلين كذلك ، هكذا جميع الأسماء ، فتحقّق بذلك إن شاء الله تعالى .


قال رضي الله عنه : ( فحقيقته تحكم في الوجود المطلق والوجود المقيّد ، لا يمكن أن يكون شيء أتمّ منها ولا أقوى ولا أحكم ، لعموم حكمها المتعدّي وغير المتعدّي ) .
أمّا حكمها في الوجود المطلق - وهو الله تعالى - فإنّه يقتضي ويحكم أن يحكم الحق على كلّ عين عين بما في استعداده وقابليته وعلى قدره لا غير ، فلا يحكم الحق عليها إلَّا بما استدعت منه أن يحكم عليه بذلك ، فإنّه " لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَها " كما ذكر مرارا .
وأمّا حكمه في الخلائق فكذلك ، لا يمكن لعين من الأعيان الخلقية ، أن يظهر في الوجود ذاتا وصفة ونعتا وخلقا وفعلا وغيرها إلَّا بقدر خصوصية قابليته واستعداده الذاتي ، كما ذكرته أيضا ، وهذا سرّ القدر .
وسرّ هذا السرّ : أنّ هذه الأعيان الثابتة أو حقائق الأشياء أو صور معلومياتها للحق أزلا أو ماهياتها أو هويّاتها بحسب الأذواق والمشاهد ليست أمورا خارجة عن الحق .
قد علمها أزلا وتعيّنت في علمه على ما هي عليه ، بل هي نسب ذاتية عينية للحق أو شؤون أو أسماء ذاتية وسمات عينية وحروف عينية ، فلا يمكن أن تتغيّر عن حقائقها .
فإنّها حقائق ذاتيات ، وذاتيات الحق لا تقبل الجعل والتغيّر والتبديل والمزيد والنقصان .
وإن شئت تفهّما فنضرب لك مثلا قريب المأخذ للعقل المنوّر المنصف المتّصف بالحقيّة من كون الواحد جامعا في حقيقته الأحدية الجمعية على النصفية والثلثية والربعية وغيرها من النسب ، فإنّها نسب ذاتية للواحد ، لا تقدح في أحديته .
وإن لم يكن لها بناه كثرة إذا أظهرها الواحد بالفعل لأعيانها ، ولكنّها - من كونها في الواحد عينه - لا تتعيّن بظهور ، ولا يتميّز بعضها عن بعض ، فافهم من هذا ذاك ، إن شاء الله .


قال رضي الله عنه : « ولمّا كانت الأنبياء لا يأخذون علومها إلَّا من الوحي الإلهي الخاصّ ، فقلوبهم ساذجة من النظر العقلي ، لعلمهم بقصور العقل من حيث نظره الفكري عن إدراك الأمور على ما هي عليه .
والإخبار أيضا يقصر عن إدراك ما لا ينال إلَّا بالذوق ، فلم يبق العلم الكامل إلَّا في التجلَّي الإلهي ، وما يكشف الحق عن أعين البصائر والأبصار من الأغطية ، فتدرك الأمور قديمها وحديثها ، ووجودها وعدمها ، ومحالها وواجبها وجائزها ، على ما هي عليها في حقائقها وأعيانها .
فلمّا كان مطلب العزير عليه السّلام على الطريقة الخاصّة لذلك ، وقع العتب عليه ، كما ورد الخبر .
فلو طلب الكشف الذي ذكرناه ربما ما كان يقع عليه عتب في ذلك ، والدليل على سذاجة قلبه قوله في بعض الوجوه : " أَنَّى يُحْيِي هذِه ِ الله بَعْدَ مَوْتِها " ) .
وورد الجواب على صورة العتب ، وهو لوقوع السؤال منه على أمر يقتضي خلاف ما هو بصدده من الرسالة والأمر والنهي على صيغة الاستبعاد والاستعظام في مقام عظيم يصغر بالنسبة إليه كل عظيم .
فإن كان مطلبه هو سرّ القدر من كيفية تعلَّق القدرة بالمقدور من قوله : " أَنَّى يُحْيِي هذِه ِ الله بَعْدَ مَوْتِها " من طريقة الوحي والإخبار المعهود عند الرسل ، فقد طلبه من الوجه الذي لا يعطى ، فلا جرم ورد الجواب على صورة العتب الموهم عند من لا تحقّق له بحقائق المخاطبات الإلهية .


قال رضي الله عنه : ( وأمّا عندنا فصورته عليه السّلام في قوله هذا كقول إبراهيم عليه السّلام في قوله : " رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى " ويقتضي ذلك ، الجواب بالفعل الذي أظهره الحق فيه في قوله : " فَأَماتَه ُ الله مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَه ُ " .
فقال له : " وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً " ، فعاين كيف تنبت الأجسام معاينة تحقيق ، فأراه الكيفية .
فسأل عن القدر الذي لا يدرك إلَّا بالكشف للأشياء في حال ثبوتها في عدمها ، فما أعطي ذلك ، فإنّ ذلك من خصائص الاطَّلاع الإلهي ، فمن المحال أن يعلمه إلَّا هو ، وقد يطلع الله من شاء من عباده على بعض الأمور من ذلك .
واعلم : أنّها لا تسمّى مفاتح إلَّا في حال الفتح ، وحال الفتح هو حال تعلَّق التكوين بالأشياء ، أو قل إن شئت : حال تعلَّق القدرة بالمقدور ، ولا ذوق لغير الله في ذلك ، فلا يقع فيها تجلّ ولا كشف ، إذ لا قدرة ولا فعل إلَّا لله خاصّة ، إذ له الوجود المطلق الذي لا يتقيّد ) .


قال العبد : علَّل رضي الله عنه نفي العلم بتعلَّق القدرة بالمقدور ذوقا عن غير الحق ، وأثبته لله خاصّة بقوله : « إذ له الوجود المطلق » لأنّ الوجود المطلق الحقيقيّ لا يتقيّد بعين دون عين ، ولا تحقّق دون خلق ، ولا تعيّن دون حقّ ، فإنّه في الحق المطلق عينه مطلقا كذلك .
وفي الحقائق الغيبية العينية العلمية عينها ، وفي الإله عينه ، فهو القدير الذي تتعلَّق قدرته بالمقدورات وعين المقدورات المقدّرة بالفعل والانفعال والتأثير والتأثّر الذاتي من نفسه لنفسه في نفسه ، فلا بدّ أن يختصّ به ذوقا .
ولا قدم لعين معيّن من الأعيان في ذلك ذوقا ، فقد تعلَّقت الحقيقة التي سمّيت قدرة في الإلهية - وهي الفعل الذاتي والتأثير في الذات - بجميع المقدورات .
حيث لم يوجد عين من الأعيان ، فانفعلت المقدورات بالذات والاستعداد الذاتي ، وكان الحق هو عين كل مقدور وقدرها ، فوقع الفعل والانفعال والتأثير والتأثّر بين فاعل هو عين المنفعل ، وعين الأثر والقدر ، فإن لم يكن وجودا مطلقا يعمّ ويستغرق القادر والقدرة والمقدور والفعل والفاعل والانفعال والمنفعل ، لم يعلم هذا السرّ ذوقا ، فهو مخصوص بالحق أي الوجود المطلق دون الخلق .
وأيضا : إذا كان الوجود مقيّدا بعين ، فلو فرضنا اطَّلاع ذلك العين ذوقا بتعلَّق القدرة بها من حيث قدرها ، وكون الحق عينها ، فليس لها أن يطَّلع على تعلَّق القدرة المطلقة بمقدور آخر ذوقا ، لتقيّد الوجود بها بحسب قدرها ، ثمّ تعلَّق القدرة المطلقة من القدير المطلق تعلَّق مطلق ليس لمقيّد فيه ذوق ولا قدم إلَّا من انطلق من قيوده ، وانحلّ عن عقد عقوده ، فلم يحضر الأمر في معهوده ومشهوده من ختوم الكمّل وكمّل الختوم .
صلوات الله الكاملات ، والتحيّات الفاضلات ، والتجلَّيات الشاملات عليهم .


قال رضي الله عنه : ( فلمّا رأينا عتب الحق له عليه السّلام في سؤال عن القدر ، علمنا أنّه طلب هذا الاطَّلاع ، فطلب أن تكون له قدرة تتعلَّق بالمقدور ، ولا يمكن ذلك إلَّا لمن يكون له الوجود المطلق ) .
أي عن أن يتقيّد بالقادر وحده بالمقدور وحده ، والعلم بتعلَّق القدرة بالمقدور يتعلَّق بتعقّل أحدية عين القادر والمقدور ، ولا ذوق إلَّا لله فيه خاصّة ، لكونه هو هو وحده لا شريك له ، وفيه إشارة منه إلى أنّ طلب سرّ القدر من طريقة الكشف والتجلَّي والتعريف الإلهي والإعلام غير ممنوع ولا مدفوع .
فإنّ ذلك موجود مشهود معهود عند من شاء الله ، ولكن اطَّلاع الخلق على كيفية تعلَّق القدرة الإلهية بالمقدورات حال تعلَّقها به وتعلَّقه بها مخصوص ، وقد فات ذلك العلم بتجلَّي تعلَّق القدرة الكلَّية الإلهية العظمى بجميع المقدورات كلَّها مطلقا أزلا قبل الإيجاد أو حال الإيجاد ، وبقي ظهور سرّ توقيت ذلك أبد الأبد .


أو كان مطلب عزير عليه السّلام طلب القدرة على الإيجاد ، فيشهد كيفية تعلَّق القدرة بالمقدور ، وذلك حقيقته الإلهية ، فإنّ الإلهية هي القدرة على إبداع الإيجاد واختراعه ، فهي مخصوصة أيضا بالحق ، فتعيّن العتب عليه ، فلو طلب الكشف بذلك ، كشف له من حضرة العلم ، فشاهد إقدار المقدورات في قدرة القدير ، بحسب ما شاء بموجب ما علم وتعيّن في علمه صور معلوماته ، فحصل المطلوب بلا طلب ما طلب على ما ذكرنا ، فافهم .


قال رضي الله عنه : « فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق ذوقا ، فإنّ الكيفيات لا تدرك إلَّا بالذوق.
وأمّا ما رويناه ممّا أوحى الله به إليه : « لئن لم تنته لأمحونّ اسمك عن ديوان النبوّة » أي أرفع عنك طريق الخبر وأعطيك الأمور على التجلَّي ، والتجلَّي لا يكون إلَّا بما أنت عليه من الاستعداد الذي به يقع الإدراك الذوقي ، فتعلم أنّك ما أدركت إلَّا بحسب استعدادك .
فتنظر في هذا الأمر الذي طلبت ، فإذا لم تره تعلم أنّه ليس عندك الاستعداد الذي تطلبه ، وأنّ ذلك من خصائص الذات الإلهية.
وقد علمت أنّ الله أعطى كلّ شيء خلقه ، ولم يعطك هذا الاستعداد الخاصّ فما هو خلقك ولو كان خلقك لأعطاكه الحقّ الذي أخبر أنّه أعطى كلّ شيء خلقه فتكون أنت الذي ينتهي عن مثل هذا السؤال من نفسك ، لا تحتاج فيه عن نهي إلهي ) .


يشير رضي الله عنه إلى أنّ الكشف بسرّ القدر يعطي الأدب الحقيقيّ في السؤال والانتهاء عن السؤال ، فإنّ من خصائصه الاطَّلاع على مقتضى الوجود المطلق الإلهي .
والاطَّلاع على مقتضى العين الثابتة التي للسائل ، وخصوص استعداده الذاتي غير المجعول ، فإذا لم يشهد ما يطلب في نوع استعداده الذاتي ، انتهى عن طلبه وسؤاله ضرورة .


قال رضي الله عنه : ( وهذا عناية من الله - تعالى - بالعزير عليه السّلام علم ذلك من علمه ، وجهل ذلك من جهله .
واعلم : أنّ الولاية هي الفلك المحيط العامّ ، ولهذا لم تنقطع ، ولها الإنباء العامّ ، وأمّا نبوّة التشريع والرسالة فمنقطعة ، وفي محمّد صلى الله عليه وسلم قد انقطعت ، فلا نبيّ بعده - يعني مشرّعا أو مشرّعا له - ولا رسول وهو المشرّع . وهذا الحديث قصم ظهور أولياء الله ، لأنّه يتضمّن انقطاع ذوق العبودة الكاملة التامّة ، فلا يطلق عليها اسمها الخاصّ بها .
فإنّ العبد يريد أن لا يشارك سيّده - وهو الله - في اسم ، والله لم يتسمّ بنبيّ ولا برسول ، وتسمّى بالوليّ واتّصف بهذا الاسم ، فقال : " الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا " وقال : " وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ " وهذا الاسم باق جار على عباد الله دنيا وآخرة ، فلم يبق اسم يختصّ به العبد دون الحق بانقطاع النبوّة والرسالة ) .


يشير رضي الله عنه:  إلى أنّ رجال الكمال من أهل الله لا يفتخرون بما هو عرضيّ لهم من الربوبية وأسماء الربّ ، ولا يظهرون بها ، وإنّما يظهرون بالذاتيات وهي العبودية ، ويقتضي كمال التحقّق بالعبودية أن لا يشاركوا الحق في اسم كالوليّ .
وأن يظهروا ويتسمّوا باسم يخصّهم من حيث العبودية المحضة ، وليس ذلك إلَّا النبيّ والرسول ، ولم يتسمّ الله بهما ، فلمّا انقطعت النبوّة والرسالة ، لم يبق لهم منهما اسم يتسمّون به ، فانقصم ظهور استظهارهم لأجل ذلك ، وهذا سرّ عزيز المنال ، لم يعثر عليه قبله ، ومن قبله قالوا بغيره .
قال رضي الله عنه : ( إلَّا أنّ الله لطف بعباده ، فأبقى لهم النبوّة العامّة التي لا تشريع فيها ، وأبقى لهم التشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام ، وأبقى لهم الوراثة .
فقال : « العلماء ورثة الأنبياء » وما ثمّ ميراث في ذلك إلَّا فيما اجتهدوا فيه من الأحكام فشرّعوه ، فإذا رأيت النبيّ يتكلَّم بكلام خارج عن التشريع ، فمن حيث هو وليّ وعارف ، ولهذا مقامه من حيث هو عالم أتمّ وأكمل منه من حيث هو رسول أو ذو شرع وتشريع ، فإذا سمعت أحدا من أهل الله يقول أو ينقل إليك عنه أنّه قال :
الولاية أعلى من النبوّة ، فليس يريد ذلك القائل إلَّا ما ذكرناه ، أو يقول : إنّ الوليّ فوق النبيّ أو الرسول ، فإنّه يعني بذلك في شخص ، وهو أنّ الرسول من حيث هو وليّ أتمّ منه من حيث هو نبيّ ورسول ، لا أنّ الوليّ التابع له أعلى منه ، فإنّ التابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه ، إذ لو أدركه لم يكن تابعا ، فافهم ، فمرجع الرسول والنبيّ المشرّع إلى الولاية والعلم ، ألا ترى أنّ الله قد أمره بطلب الزيادة من العلم لا من غيره.
فقال له آمرا : " وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " وذلك أنّك تعلم أنّ الشرع تكليف بأعمال مخصوصة أو نهي عن أعمال مخصوصة ومحلَّها هذه الدار ، فهي منقطعة والولاية ليست كذلك ، إذ لو انقطعت لانقطعت من حيث هي كما انقطعت الرسالة من حيث هي لم يبق لها اسم ، والوليّ اسم باق لله ، فهو لعبيده تخلَّقا وتحقّقا وتعلَّقا » .
قال العبد : يشير رضي الله عنه إلى حقيقتي النبوّة والولاية ، وقد وقع في ذلك خبط عظيم بين العوامّ من حيث جهلهم بهذه الحقائق .
فلو عرفوا حقائق المراتب على ما هي عليها في نفسها وفي علم الله تعالى ، لعلموا الأمر على ما هو عليه ، وقد استقصينا القول في بيان هذه الحقائق وتوابعها ولوازمها في كتاب « النبوّة والولاية » لنا ، وفي كتاب « الختمية » أيضا .
ولقد سبق في الفصّ الشيثي ما فيه مقنع ، وقد يزيد في هذا المقام في الحواشي ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وفيما أجمل الشيخ جمل تفاصيل نذكرها وفيه غنية ، وهو أوضح ، والله الموفّق .
 
قال رضي الله عنه : ( فقوله للعزير : « لئن لم تنته » عن السؤال عن ماهيّة القدر « لأمحوّن اسمك من ديوان النبوّة » فيأتيك الأمر على الكشف بالتجلَّي ويزول عنك اسم النبيّ والرسول ، وتبقى له ولايته إلَّا أنّه لمّا دلَّت قرينة الحال أنّ هذا الخطاب يجري مجرى الوعيد ، علم من اقترنت عنده هذه الحالة مع الخطاب أنّه وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية في هذه الدار ، إذ النبوّة والرسالة خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تجري عليه الولاية من المراتب ، فيعلم أنّه أعلى من الوليّ الذي لا نبوّة تشريع عنده ولا رسالته ، ومن اقترنت عنده حالة أخرى تقتضيها مرتبة النبوّة أيضا يثبت عنده أنّه وعد لا وعيد ، وأنّ سؤاله عليه السّلام مقبول ، إذ النبيّ هو الوليّ الخاصّ ) .
يعني : أنّ الخاصّ يستلزم العام ، فتبقى لعزيز بعد محو اسمه من ديوان النبوّة ولايته فينال الأمر بالكشف والتجلَّي اللذين هما طريقتا حصول هذا السرّ المطلوب والمسؤول المرغوب .


قال رضي الله عنه : ( « ويعرف بقرينة الحال » أي الشخص الذي اقترنت عنده القرينة الأخرى « أنّ النبيّ عليه السّلام من حيث ما له في الولاية هذا الاختصاص محال أن يقدم على ما يعلم أنّ الله يكرهه منه ، أو يقدم على ما يعلم أنّ حصوله محال .
وإذا اقترنت هذه الأحوال عند من اقترنت وتقرّرت أخرج هذا الخطاب الإلهي عنده في قوله : « لأمحونّ اسمك من ديوان النبوّة » مخرج الوعد ، وصار خبرا يدلّ على مرتبة باقية ، وهي المرتبة الباقية على الأنبياء والرسل في الدار الآخرة التي ليست بمحلّ لشرع يكون عليه أحد من خلق الله في جنّة ولا نار بعد الدخول فيهما .
وإنّما قيّدناه بالدخول في الدارين الجنّة والنار ، لما شرع الله يوم القيامة لأصحاب العثرات والأطفال الصغار والمجانين يوم القيامة ، فيحشر هؤلاء في صعيد واحد لإقامة العدل والمؤاخذة بالجريمة والثواب العملي في أصحاب الجنّة ، فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل من الناس ، بعث فيهم نبيّ من أفضلهم وتمثّل لهم نار يأتي بها هذا النبيّ المبعوث في ذلك اليوم ، فيقول لهم : أنا رسول الحق إليكم ، فيقع عندهم التصديق  ويقع التكذيب عند بعضهم .
ويقول لهم : اقتحموا هذه النار بأنفسكم ، فمن أطاعني نجا ودخل الجنّة ، ومن عصاني وخالف أمري هلك وكان أهل النار .
فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها ، سعد ونال الثواب العمليّ ، ووجد تلك النار بردا وسلاما ، ومن عصاه استحقّ العقوبة ، ودخل النار ، ونزل فيها بعمله المخالف ، ليقوم العدل من الله من عباده وكذلك قوله : " يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ "  أي أمر عظيم من أمور الآخرة .
" وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ " فهذا تكليف وتشريع ، فمنهم من يستطيع ، ومنهم من لا يستطيع وهم الذين قال الله فيهم : " وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ " كما لم يستطع في الدنيا  امتثال أمر الله بعض العباد كأبي جهل وغيره .
فهذا قدر ما بقي من التشريع في الآخرة يوم القيامة قبل دخول الجنّة والنار ، فلهذا قيّدناه ، والحمد لله » .
قال العبد : كلّ هذا التشريع تكليف بأمر ونهي ومحلَّه الدنيا ، والذين لم يستأهلوا في الدنيا وحسمت أعمارهم ، وبعد الدار الدنيا لا دار إلَّا الجنّة والنار ، واستحقاق الدخول فيهما وإن كان بفضل الله أو بسخطه ، فإنّهما بحسب الأعمال الصالحة أو غيرها ، وهؤلاء ليس لهم عمل ، فأبقى الله تعالى من حضرة الاسم الحكم وحضرة الاسم العدل قدرا من الشرع  وأخّر هذا القدر من التشريع ، لظهور الاستحقاق ونيل الثواب والعقاب ، بحسب الإجابة والطاعة أو المعصية والمخالفة ، والله عليم حكيم .

 
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح الشيخ مؤيد الدين الجندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 2انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» شرح الشيخ مصطفى سليمان بالي زاده الحنفي أفندي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
» شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر
» كتاب فصوص الحكم الشيخ الاكبر محيي الدين بن العربي الطائي الحاتمي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: