منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 12:34 pm

خطبة الكتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محمد ابن العربي الطائي الحاتمي تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

خطبة الكتاب على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
فاتحة الكتاب " خطبة الكتاب "
(الحمد للَّه منزِّل الحكم على قلوب الكَلِم ... إلى قوله وسلم).
الحكمة هي العلم بحقائق الأشياء والعمل بمقتضاها، فلها إذن ناحيتان:
ناحية نظرية وأخرى عملية، وهي بهذا المعنى مرادفة للفلسفة بقسميها النظري والعملي.
وعلى هذا التعريف تكون الحكمة أعم من «العلم» الذي هو إدراك حقائق الأشياء على ما هي عليه، أو محاولة ذلك الإدراك، وأعم من «المعرفة» كذلك.
هذا هو المعنى الاصطلاحي الشائع لكلمة الحكمة.
ولكن الصوفية منذ عصر مبكر استعملوا الحكمة في معنى خاص يتفق من ناحية مع مدلولها الفلسفي ويختلف من ناحية أخرى عند ما ننظر إليه في ضوء نظريتهم العامة في طبيعة المعرفة الإنسانية وطرق تحصيلها. ذلك أنهم قابلوا بين «الحكمة» و «الكتاب»
مستندين إلى الآية الكريمة «كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ». سورة البقرة آية 151.
وقالوا إن المراد بالكتاب تعاليم الدين الخاصة بالشرائع والأحكام، أو ما سموه أحياناً «العلم الظاهر»، والمراد بالحكمة التعاليم الباطنية التي اختص بها الرسول صلى اللَّه عليه وسلم وورثها ورثته من بعده، وأطلقوا على ذلك اسم العلم الباطن.
وليس العلم الباطن عندهم سوى علم الطريق الصوفي وما ينكشف للصوفية من حقائق الأشياء ومعاني الغيب.
فكأنهم بذلك وجدوا أساساً لطريقتهم في نصوص القرآن نفسه، كما نسبوا علم هذه الطريقة إلى النبي وعدوا أنفسهم ورثة هذا العلم الحافظين له المختصين به.
ولا يختلف ابن العربي عن غيره من الصوفية في استعمال كلمة الحكمة التي يوردها في عنوان كل فص من فصوص كتابه إلا في أنه يرى أنها الإرث الباطني الذي ورثه جميع الأنبياء والأولياء لا عن النبي محمد بل عن الحقيقة المحمدية، أو أنها العلم الذي أخذه هؤلاء جميعاً من مشكاة النبي.
وهو لا يشير إلى الأنبياء والأولياء بهذين الاسمين وإنما يسميهم «الكَلِم» جمع كلمة ومعناها عنده الإنسان الكامل أي الإنسان الذي حقق في وجوده كل معاني الكمال الإلهي، وتجلت فيه كل الصفات الإلهية فأصبح من أجل ذلك أحق الموجودات بأن يكون خليفة اللَّه في كونه- لا في أرضه فحسب.
وليست هذه الكلم سوى الأنبياء والأولياء وإن كان كل موجود من الموجودات كلمة من كلمات اللَّه لأنه المظهر الخارجي لكلمة التكوين.
«قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً». سورة الكهف آية 109.
والمراد «بالكلَم» هنا وفي سائر فصول الكتاب بوجه أخص حقائق الأنبياء والأولياء لا أشخاصهم، وعلى رأسهم جميعاً «الكلمة» التي هي الحقيقة المحمدية.
وللمؤلف نظرية خاصة في هذا الموضوع سنعرض لها في مواضعها من الكتاب.
ويذهب القيصري في شرحه على الفصوص إلى أن لفظ «الكلمة» متصل بلفظ النَّفَس، وكما أن الكلمات التي نتلفظ بها ليست إلا تعينات في ذات النفس الذي يخرج من أجوافنا، كذلك ليست كلمات اللَّه إلا تعينات في النفس الرحماني الذي يطلق عليه متصوفة هذه الطائفة اسم جوهر الوجود.
ولكن نظرية ابن عربي في الكلمة أعمق من هذا وأبعد غوراً، وهي كما سنرى نظرية معقدة تمت بصلات وثيقة إلى نظريات أخرى في الفلسفة اليونانية والرواقية واليهودية.
(راجع أيضاً مقالتي عن نظريات الاسلاميين في الكلمة بمجلة كلية الآداب بجامعة فؤاد سنة 1934).
ومن خصائص «الحكمة» التي أشرنا إليها أنها تنزل على القلوب لا على العقول، ولهذا قال «منزل الحكم على قلوب الكلم»، وفي هذا تمييز صريح لها عن الفلسفة التي هي نتاج عقلي صرف.
فالقلب عند الصوفية هو محل الكشف والإلهام وأداة المعرفة والمرآة التي تتجلى على صفحتها معاني الغيب.
ثم أراد المؤلف أن يذكر حكمة من هذه الحكم التي تنزل على قلوب الكلم فأشار إلى العلم بأحدية الطريق الأمم.
والطريق الأمم في مذهبه هو الطريق الواحد المستقيم الذي تؤدي إليه الأديان كلها مهما اختلفت عقائدها وتعددت مذاهبها، وليس هذا الطريق سوى وحدة الوجود ووحدة المعبود.
إذ ليس في الوجود سوى اللَّه وآثاره، ولا معبود إلا هو مجلي من مجالي المعبود على الإطلاق، المحبوب على الإطلاق، الجميل على الإطلاق وهو اللَّه.
هذا هو دين الحب الذي أشار إليه ابن عربي في قوله:
أدين بدين الحب أنَّى توجهت  ....   ركائبه فالحب ديني وإيماني
وفيه يقول أيضاً:
عقد الخلائق في الإله عقائداً ..... وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه
"ممد الهمم من خزائن الجود والكرم".
المراد بالهمة الإرادة وهي الإقبال بالنفس في حال جمعيتها والتوجه إلى اللَّه والتهيؤ لقبول فيضه. فأحوال الصوفية أحوال إرادية لا صلة لها بالإدراك العقلي المنطقي، والفيض يمد همة الصوفي لا عقله.
أما المراد بخزائن الجود والكرم فقد يكون أحد أمرين:
الأول: العلم الباطن أو الغيبي الذي قال الصوفية إنه يفيض عليهم من مشكاة خاتم الرسل، وبذلك يكون محمد صلى اللَّه عليه وسلم أو الحقيقة المحمدية أو روح محمد مبدأ كل كشف وإلهام ومصدر كل علم باطني، وهذه بالفعل ناحية من نواحي نظرية ابن عربي في الكلمة.
الثاني: أن المراد بخزائن الجود والكرم الأسماء الإلهية المتجلية في الموجودات على اختلاف أنواعها.
فمحمد يمد المخلوقات بها لأنه هو وحده المظهر الكامل لها جميعها وبذلك استحق اسم عبد اللَّه، واللَّه اسم جامع لجميع الأسماء الإلهية ولأن محمداً أو حقيقة محمد واسطة الخلق وحلقة الاتصال بين الذات الإلهية والمظاهر الكونية.
فهو بمثابة العقل الأول في الفلسفة الأفلاطونية الحديثة وبمثابة المسيح في الفلسفة المسيحية وبمثابة «المطاع» في فلسفة الغزالي.
هذه أيضاً ناحية من نواحي نظرية المؤلف في «الكلمة».
.
قبل أن تقرا لـ  د. أبو العلا عفيفي رحمه الله:
د أبو العلا عفيفي رحمه الله ليس متصوف سالك فى الله وإنما تعلم التصوف بفهم وعيون الغرب العلماني للعمل والإرتزاق ولبناء مستقبل علمي وسطهم ليحظي بتقديرهم والاعتراف به كخبير متخصص وأستاذ فى علوم و مخطوطات الشيخ الأكبر ابن العربي فى وسطهم الفلسفي والعلمي على مستوى العالم وكان له ذلك.
لكن لا ينكر فضله الكبير في البحث و جمع ومقارنة و تحقيق مخطوطات الشيخ الأكبر وتراثه العلمي فضل كبير في البحث وجمع ومقارنة وتحقيق مخطوطات الشيخ الأكبر ومحاولة شرحها جل عمره .
لكنه تشبع وانصبغ بما تعلمه من التصوف العقلي في الغرب العلماني  حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كمبردج 1930 برسالته عن "فلسفة ابن عربي الصوفية " تحت اشراف المستشرق البريطاني رينولد نيكلسون.
في أن التصوف ووحدة الوجود وأصوله الآفلوطونية والغنوصية وغيرها من نتائج أفكار العقل النظري والواردات الشيطانية التي لا ضوابط حاكمة لها من قواعد وقيود الشرع الحنيف المنزل من عند الله سبحانه.
فالحق سبحانه وإن تجلي أو تنزل أو ظهر في كل شيء وعلى كل شيء وفى كل وجهه فـ هو الله الأحد الفرد الصمد لاشريك له ليس كمثله شيء  
والعبد عبد وإن تجلي الله عليه أو كلمه أو اتخذه أو وليا أو نبيا او رسولا وعلمه الأسماء كلها وجعله خليفة له يتصرف فى الأكوان فهو مازال عبدا مفتقرا إلى الله تعالى دائما فى كل شيءفالرب رب وإن تنزل . و العبد عبد وإن علا.
فقراءة تعليقات د أبو العلا عفيفي عادة مهمة ولكن تجاوز عن تفسيراته وتعريفاته الفلسفية الغربية العلمانية لوحدة الوجود فهى خطأ وليس ما يريده الشيخ رضي الله عنه يقينا وكذلك كل الأئمة الأولياء الكمل منذ رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا وحتى الآن والى يوم يبعثون وما بعد يوم يبعثون  .
فالعقل وحده وهو أعظم أدوات الفلاسفة في التأمل عاجزا تماما بل هو أعمى عن إدراك كل الحقائق والمخلوقات فى عالم الملك والملكوت والجبروت واللاهوت.
كذالك السموات على ما هي عليه مفتقرا لسلطان الله لينفذ في معارجها كذلك لمشاهدة التجليات والحضرات الإلهية لكي الأسماء والصفات والأفعال ألهية ببصر وسمع الله سبحانه  فضلا عن التأييد الإلهي للفهم عنه.
فالحق سبحانه القديم الأزلي السر و النور الساري في كل ما خلق وإلا صار للعدم. والى ذلك أعلمنا سبحانه فأشار بـالحقيقة السارية في كل شيء " لا حول ولا قوة الا بالله" وحدها كافية للدلالة على سريانه في كل شيء ووجه لمن أراد الدليل وتفم مراد الرسول والأنبياء والشيخ وكل الأولياء أن كل الكون مفتقر تعالى إليه  دائما أبدا وفى كل لحظة .
قال تعالى :" إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) سورة فاطر".
قال تعالى : " قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) سورة المائدة"
قال تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) سورة ".
قال تعالى : "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) سورة الشورى " .
فالله سبحانه وتعالى يكلم ويخاطب من يشاء من عباده بما شاء كيفما شاء وأينما شاء ولاقيد ولاحد لهذا او يرسل رسولا عدا الوحي الذي رفعه الله سبحانه بعد خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم ويعلم من يشاء بما يشاء فلا سلطان لأحد من الخلق عليه.
فالله سبحانه وتعالى النور والسر الساري في كل شيء أزلا وسرمدا خلقا وايجادا واظهارا ومحوا وإحفاء واعداما و زولا غير مفتر للشيء . وكل الكون مفتقر اليه دائما فى كل شيء.
أين كل هذا من علوم أفلاطون والغنوصية والبوذية وغيرها من تلك العلوم الشيطانية النفسية التي أوجدها ليسلبوا عقول الناس و يضيعوا أعمارهم "ليضلوا عن سبيل الله" , فمن أراد الله سبحانه أخذ آيات وشرع الله وتجرد له وأخلص له وصدق معه وينتظر ما سيفتح الله به وقتما يشاء سبحانه .
وعرضت كلامه لأهميته لاكتمال الموسوعة في إيراد أهم التفاسير المتاحة ولأن النص الأساسي للموسوعة هو الذي أورده من دراسته معتمدا على عدد كبير من المخطوطات الموثقة عن كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر رضي الله عنه.
أخيرا فطالب الحق يكفيه دليل ليعرف اما المعاند النزق أوالجاهل أو من ران على قلبه لا يكفية الف دليل.
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.
.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 2:46 pm

01 - فص حكمة ألهية فى كلمة آدمية كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محمد ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الآدمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفص الأول "حكمة ألهية فى كلمة آدمية"
(1) الكلمة الآدمية.
(1) لا يقصد بآدم هنا آدم أبو البشر، و إنما الجنس البشري برمته: الإنسان من حيث هو إنسان أو الحقيقة الإنسانية. 
يدل على ذلك ما يورده المؤلف عن النشأة الإنسانية و أنها النشأة الوحيدة التي تتجلى فيها الكمالات الإلهية في أعظم صورها، و ما يذكره من أمر خلافة الإنسان في الكون و فضله على الملائكة و استحقاقه مرتبة الخلافة دونهم، و كلامه عن الكون الجامع و العالم الصغير الذي يقابله بالعالم الكبير و نحو ذلك.

(2) «لما شاء الحق سبحانه ... و لا تجليه له».
(2) «لما» لا تشير إلى زمان لأن المشيئة الإلهية لا تتعلق بزمان دون آخر:
و لكن المسألة تقريب للأذهان و شرح للحكمة الإلهية في ظهور الإنسان بالصورة التي ظهر بها.
و قد شاء الحق سبحانه أن يظهر الإنسان على هذه الصورة، لا لأن الذات الإلهية تطلب وجود الخلق، فإن الذات الإلهية غنيّة عن العالمين، بل لأن الأسماء الإلهية تطلب ذلك الوجود و تفتقر إليه إذ لا وجود لها إلا به و لا معنى لها إلا فيه.
أليس ذلك الوجود إلا مظهر تلك الأسماء و مجاليها؟ بل أ ليس الكون كما يقول ابن عربي سوى الأسماء التي أطلقها اللَّه على نفسه؟ و لهذا قال «لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى إلخ» أي لما شاء ظهور الخلق عامة و ظهور الإنسان بوجه خاص و كانت هذه المشيئة من حيث أسماؤه لا من حيث ذاته، أظهر الوجود فبِهِ عُرف، و أظهر الإنسان فكان أعرف مخلوق بربه. «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعْرَفَ فخلقت الخلق فبِه عرفوني».
هذا هو سر الخلق كما يقول به الحديث القدسي أو ما يدعي الصوفية أنه حديث قدسي.
فغاية الخلق إذن هي أن يرى اللَّه سبحانه نفسه في صورة تتجلى فيها صفاته و أسماؤه، أو بعبارة أخرى يرى نفسه في مرآة العالم. و ليست رؤية الشي ء نفسه في نفسه مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة لأن هذه الرؤية الثانية يعطيها المحل المنظور فيه أي تعطيها طبيعة المرآة. ففي العالم تجلى الوجود الإلهي و بالعالم عرفت صفات اللَّه و أسماؤه أي عرفت ألوهيّته. فنحن نعرفه في أنفسنا بقدر ما نعرف من حقيقة تلك النفوس و بقدر ما يتجلى في تلك النفوس من صفات الكمال الإلهي: و هذا معنى قول القائل «من عرف نفسه فقد عرف ربه».
شاء الحق إذن أن يرى أعيان أسمائه- أي يرى تعينات هذه الأسماء في الوجود الخارجي، و إن شئت قلت أن يرى عينه إذ ليست عينه سوى ذاته المتصفة بالأسماء، فظهر في الوجود ما ظهر و على النحو الذي ظهر عليه و كشف عن «الكنز المخفي» الذي هو الذات المطلقة المجردة عن العلاقات و النسب، و لكن لم يكشف عنها في إطلاقها و تجردها، بل في تقييدها و تعينها.
و شاء الحق أن تظهر أعيان أسمائه- أو أن تظهر عينه- في صورة جامعة شاملة تحصر صفات الموجودات كلها في نفسها فخلق الإنسان، ذلك الكون الجامع الذي ظهرت فيه حقائق الوجود من أعلاه إلى أسفله كما سيتبيّن فيما بعد.


(3) «و من شأن الحكم الإلهي ... و القابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس».
(3) هذا شروع في وصف ما يسميه ابن عربي بالخلق، و في الحقيقة لا معنى لفعل الخلق في مذهب يقول بوحدة الوجود كمذهبه، و لكنه يستعمل كلمة الخلق و غيرها مجاراة للعرف و يقرأ فيها من المعاني ما يشاء مما يتفق و مذهبه.
من شأن الحكم الإلهي في الخلق أن يحصل التهيؤ و الاستعداد من الأمر المخلوق فتفيض عليه روح من اللَّه عبّر عنها في قصة خلق آدم بالنفخ، و لو لا ذلك الاستعداد من المخلوق و تهيؤه لقبول الفيض الوجودي ما وُجد. فكل محل تمَّ فيه الاستعداد للوجود على نحوٍ ما، قَبِلَ روحاً إلهياً فوجد في العالم الخارجي على هذا النحو. أي أن روح اللَّه سارية في الموجودات جميعها، و ليست الموجودات الخارجية سوى صور و أشباح اتصفت بصفة الوجود بفضل سريان تلك الروح الإلهية فيها.
و قد يفهم من هذا الكلام أن ابن عربي يقول باثنينية الخالق و المخلوق أو الحق و الخلق: أو الوجود الظاهر و اللَّه. و ليس في الحقيقة أثر للاثنينية في مذهبه.
و كل ما يشعر بالاثنينية يجب تفسيره على أنه اثنينية اعتبارية. فليس في الوجود- في نظره- إلا حقيقة واحدة إذا نظرنا إليها من جهة سميناها حقاً و فاعلًا و خالقاً، و إذا نظرنا إليها من جهة أخرى سميناها خلقاً و قابلًا و مخلوقاً. و ليس على وجه التحقيق في مذهبه خلق بمعنى الإيجاد من العدم، إذ يستحيل في اعتقاده الوجود عن العدم المحض. و إنما أصل كل وجود و سبب كل وجود فيض إلهي دائم (يعبر عنه أحياناً بالتجلي الإلهي) يمد كل موجود في كل لحظة بروح من اللَّه فيراه الناظر في الصور المتعددة التي يظهر فيها. ذلك هو الخلق في اصطلاح ابن عربي: تجل إلهي دائم فيما لا يحصى عدده من صور الموجودات، و تغير دائم و تحول في الصور في كل آن. ذلك هو الذي يطلق عليه أحياناً اسم «الخلق الجديد» و يقول إنه هو المشار إليه في قوله تعالى «بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ».
«و القابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس»:
القابل هو الصورة، و قوابل الموجودات صورها المعقولة التي ليس لها وجود عيني و إن كان لها وجود غيبي: فهي بهذا المعنى وجودات ممكنة أو وجودات بالقوة. و قد تكلم ابن عربي عن نوعين من الفيض الإلهي: الفيض الأقدس و الفيض المقدس، و الأول سابق على الثاني في منطق النظام الوجودي لا في الواقع، إذ الفيض الأقدس هو تجلي الذات الأحدية لنفسها في صور جميع الممكنات التي يتصور وجودها فيها بالقوة. فهو أول درجة من درجات التعينات في طبيعة «الوجود المطلق»، و لكنها تعينات معقولة لا وجود لها في عالم الأعيان الحسية بل هي مجرد قوابل للوجود. و هذه الحقائق المعقولة، أو الصور المعقولة للممكنات هي التي يطلق عليها ابن عربي اسم «الأعيان الثابتة» للموجودات و هي شي ء أشبه ما يكون بالصور الأفلاطونية و إن كانت تختلف عنها من بعض الوجوه. و سيأتي مزيد شرح لهذه الأعيان الثابتة في مواضع أخرى.
أما الفيض المقدس: و هو الذي يوصف عادة باسم «التجلي الوجودي» أو تجلي الواحد في صور الكثرة الوجودية، فهو ظهور الأعيان الثابتة من العالم المعقول إلى العالم المحسوس: أو هو ظهور ما بالقوة في صورة ما بالفعل، و ظهور الموجودات الخارجية على نحو ما هي عليه في ثبوتها الأزلي. و ليس في الوجود شي ء يكون في ظهوره على خلاف ما كان عليه في ثبوته. 
هذا هو سر القدر الذي يشير إليه المؤلف في الفص السادس عشر و غيره و هو يذكرنا في بعض نواحيه «بالانسجام الأزلي» الذي يتحدث عنه «ليبنتز».
و كما قلنا إن الفيض الأقدس هو تجلي الحق لذاته في الصور المعقولة للكائنات، نستطيع أن نقول هنا إن الفيض المقدس هو تجلي الحق في صور أعيانها، فهو بذلك الدرجة الثانية من درجات التعين في طبيعة الوجود المطلق.
و قد تشير كلمة «الفيض» إلى تأثر ابن عربي بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة و نظام الفيوضات فيها، و لكن على الرغم من استعماله لكثير من مصطلحات هذه الفلسفة و أساليبها لا نزال نجد مذهبه الخاص قائماً بنفسه متميزاً عن هذه الفلسفة في أخص صفاتها. 
و يكفي أن نقرر هنا أن مذهب ابن عربي صريح في القول بوحدة الوجود و الفلسفة الأفلاطونية الحديثة ليست مذهب وحدة وجود بالمعنى الدقيق، و أن الفيوضات التي يتكلم عنها ابن عربي ليست إلا تجليات لحقيقة واحدة في صور مختلفة أو بطرق مختلفة، في حين أنها في فلسفة أفلاطون سلسلة من الموجودات يفيض كل منها عن الوجود السابق عليه و يتصل به اتصال المعلول بعلته.


(4) «فكانت الملائكة له ... العالم أعلاه و أسفله».
(4) لما اقتضت الإرادة الإلهية ظهور العالم، أو ظهور مرآة للوجود يرى الحق فيها نفسه، اقتضى الأمر جلاء تلك المرآة لتتحقق فيها معاني الرؤية فكان آدم (الإنسان) عين ذلك الجلاء: إذ لولاه لظلت مرآة الوجود مظلمة معتمة لا ينعكس عليها كمال إلهي فيُرَى أو يُعرَف. 
و غاية الخلق- كما قلنا- أن يعرف اللَّه و تدرك آثاره و كمالاته. و إذا عرفنا أن جلاء المرآة في لغة ابن عربي معناه كشف أسرار الوجود بنور العقل و القلب، و لا يكون ذلك إلا للإنسان، أدركنا منزلة الإنسان عنده من اللَّه و من الوجود عامة. فالإنسان من اللَّه بمنزلة إنسان العين من العين، و هو من الوجود قلب الوجود النابض و عقله المدرك لحقائقة.
و في الإنسان قوى كثيرة روحية و حسية، و كذلك في العالم مثل هذه القوى.
و كل قوة سواء أ كانت في الإنسان أم في العالم محجوبة بذاتها، مشغولة بنفسها لا ترى في الوجود أفضل منها. و لهذا الحجاب زعمت الملائكة أنهم أفضل من آدم فلم يسجدوا له. 
و لهذا الحجاب أيضاً عميت قوى الإنسان فلم تنظر كل منها إلى كمالات الأخرى و لم تنظر إلى كمالات النشأة الانسانية في جملتها، و هي النشأة التي فيها- فيما يزعم أهلها- الأهليةُ لكل منصب عال و درجة رفيعة عند اللَّه.
ذلك لأن النشأة الانسانية هي المظهر الأسمى للجمعية الإلهية التي هي أسماء اللَّه و صفاته، و فيها وحدها تتجلى جميع الصفات التي توجد في العالم متفرقة في أجزائه. 
ففيها أولًا- ما يرجع إلى الجناب الإلهي: أي الذات الإلهية متصفة بالأسماء.
و ثانياً- ما يرجع إلى حقيقة الحقائق- و هي بمثابة العقل الأول في فلسفة أفلوطين. أي فيها العقل الذي هو مظهر العقل الإلهي الكلي.
و ثالثاً- ما يرجع إلى الطبيعة الكلية التي قبلت صور الوجود من أعلاه إلى أسفله.
و رابعاً- فيها فوق ذلك الناحية العنصرية و هي الجسم البشري المراد بقوله «النشأة الحاملة لهذه الأوصاف».
ففي الإنسان جسم و طبيعة و عقل و روح: أو هو كائن جسماني و طبيعي و عقلي و إلهي. و لا يدانيه في هذه الصفات كائن آخر و لذلك استحق الخلافة عن اللَّه و استحق أن يسمى العالم الأصغر.
و قد وضع شراح الفصوص على هذه الفقرة شروحاً كثيرة كلها غامضة و مضطربة لصعوبة النص و التفافِه و تعقده، و لكني آثرت أن أقرأ النص و أفسره على النحو الآتي:
«فكل قوة منها (أي من قوة النشأة الانسانية) محجوبة بنفسها لا ترى أفضل من ذاتها، و أن فيها (أي و لا ترى أن فيها- أي في النشأة الانسانية) فيما تزعم الأهليةَ لكل منصب عال و منزلة رفيعة عند اللَّه، لما عندها (أي عند النشأة الانسانية) من الجمعية الإلهية مما يرجع من ذلك (أي من الجمعية الإلهية) إلى الجناب الإلهي، و إلى حقيقة الحقائق، و إلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية التي حصرت قوابل العالم كله- أعلاه و أسفله- في النشأة (أي البدنية) الحاملة لهذه الأوصاف (الثلاثة)


(5) «فلهذا سمي إنساناً فإِنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم».
(5) يستعمل ابن عربي كلمة «الرحمة» هنا بمعنى منح اللَّه الوجودَ للأشياء. و هو يتكلم عن نوعين من الرحمة سيأتي ذكرهما في الفص السادس عشر. 
و قد سبق أن ذكرنا أن الإنسان في نظره هو الغاية القصوى من الخلق، أو هو الوسيلة لتحقيق هذه الغاية لأن اللَّه خلق العالم لكي يُعرَف، و الإنسان وحده هو الذي يعرفه المعرفة اللائقة به و المعرفة الكاملة. 
و من هنا ندرك سر كون الإنسان سبباً في نزول الرحمة بكل مخلوق- أو سبباً في وجود كل مخلوق، لأن الكمال الإلهي الذي شاء اللَّه أن يُعْرَف و الذي لا يعرفه حق معرفته إلا الإنسان، لا يدرَك إلا في العالم و في الإنسان معاً: يدرَك تفصيلًا في الأول و جملة في الثاني. و بهذا المعنى يمكن أن يقال إن الإنسان علة في وجود هذا الكون.


(6) «فهو الإنسان الحادث الأزلي ... و الكلمة الفاصلة الجامعة».
(6) في الإنسان الذي أسلفنا وصفه ناحيتان: ناحية حادثة و هي ما يتصل منه بالصورة البدنية العنصرية، و ناحية أزلية أبدية، و هي ما يتصل منه بالجانب الإلهي. 
فهو حق و خلق، و قديم و حادث و سرمدي و فانٍ و ما إلى ذلك من صفات الأضداد. و قد جمع الإنسان- بل كل ما في الوجود- بين صفات الأضداد هذه من أجل أن فيه الناحيتين: اللاهوتية و الناسوتية. و هذه الفكرة من الأفكار الأساسية في مذهب ابن عربي لا يكاد يغفل ذكرها في كل فصل من فصول كتابه، بل عليها يقوم كل مذهبه في وحدة الوجود.
أما كون الإنسان «الكلمة الفاصلة الجامعة» فلأنه يقف حداً فاصلًا بين اللَّه و العالم لأنه صورة اللَّه و العالم هو المرآة التي تنعكس عليها هذه الصورة، و اللَّه هو الذات التي الإنسان صورة لها. 
و لهذا يطلق عليه ابن عربي أحياناً- أو بعبارة أدق- يطلق على الإنسان الكامل لا مطلق إنسان- اسم البرزخ و هو اسم يظهر أنه استعارة من فلسفة فيلون اليهودي الاسكندري لأن فيلون يصف الإنسان بهذا الوصف. و أما كونه «كلمة جامعة» فلأنه يجمع في نفسه- كما قلنا- كل الأسماء الإلهية بمعنى أنه مجلى لها.


(7) «فلا يزال العالم محفوظاً ما دام فيه هذا الإنسان الكامل ... أبدياً».
(7) ليس الإنسان- الإنسان الكامل- هو العلة الغائيّة من الوجود فحسب، بل هو الحافظ للوجود و السبب في استمراره. 
أما أنه العلة الغائيّة من الوجود فقد شرحناه، و أما كونه سبب استمرار الوجود فلأن العلة إذا وجدت وجد معلولها، و إذا انعدمت انعدم معلولها الخاص، فإذا زال الإنسان من العالم، و هو المقصود بالذات من خلق العالم، لزم أن يزول العالم: أي لزم أن تنحل الصور الكونية و ترجع إلى أصلها و هو الذات الإلهية الواحدة. و هذا معنى قول المؤلف «و انتقل الأمر إلى الآخرة» إذ المراد بالآخرة ذات الحق التي عنها صدر كل شي ء و إليها يرجع كل شي ء، بالدنيا، العالم الخارجي: عالم الظواهر. و خلاصة الفقرة أنه إذا زالت علة ظهور الحق في صور الوجود زال العالم الذي هو مجموع هذه الصور و بقيت الذات الإلهية وحدها غير ظاهرة في شي ء و لا معروفة لأحد.


( 8.) «و ليس للملائكة جمعية آدم ... تقديس آدم».
( 8.) ليس للملائكة جمعية آدم لأنهم لا تتمثل فيهم جميع الأسماء الإلهية التي تتمثل في الجنس البشري. 
و لذلك لما علَّم اللَّه آدم الأسماء كلها- و علَّم هنا مأخوذة بمعنى أظهرها فيه- و جعله خليفة عنه في أرضه، أنكر الملائكة الذين لم يدركوا سر ذلك الأمر منزلة آدم و قالوا «أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ؟» و كل شي ء في الوجود يسبح اللَّه و يقدسه بحسب منزلته من الوجود و بحسب ما أودع اللَّه فيه من مظاهر أسمائه، لأن التسبيح و التقديس هنا ليس معناهما إلا إظهار الكمال الإلهي الذي يتجلى في الموجود بمقتضى طبيعة الموجود نفسه.
و لذلك قال تعالى «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» لأن الشي ء لا يفقه تسبيح غيره و تقديسه للَّه إلا إذا كان ذلك الغير مماثلًا له في طبيعته، و لهذا لم تفقه الملائكة تسبيح آدم و لا تقديسه، و لا هي سبحت اللَّه و قدسته تسبيح آدم و تقديسه.
و كلما كان الكائن أعلى درجةً في الوجود من غيره، أي كلما كان مظهراً لعدد أكبر من صفات اللَّه و أسمائه، كان أعظم في تسبيحه و تقديسه للَّه. و الإنسان من بين الكائنات كلها هو الذي يسبح اللَّه و يقدسه أعلى مراتب التسبيح و التقديس، لأنه مظهر الكمالات الإلهية جميعها.
غير أن ما يسميه ابن عربي «كمالًا» يجب ألا يفهم منه الكمال الخلقي وحده، بل الكمال عنده كل صفة وجودية، أو كل صفة تحقق الوجود في ناحية من نواحيه سواء أ كانت الصفة أخلاقية أم غير أخلاقية، خيراً أم شراً. فالطاعة من العبد كمال و هي من مظاهر اسم المنعم أو اسم الرحيم أو ما شاكلهما من أسماء الجمال.
و المعصية من العبد كمال أيضاً لأنها صفة وجودية و هي من مظاهر اسم الجبار أو المنتقم أو المعذب أو ما شاكلها. و من هنا كانت الطبيعة الانسانية أكمل من طبيعة الملائكة لأنها تحقق من معاني الوجود ما لا تحققه الطبيعة الملائكية.
فطبيعة الإنسان بدنية روحية معاً، و طبيعة الملائكة روحية فقط.
قارن الفص السابع عشر في شرح المؤلف للآية «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (س 17 آية 44).


(9) «اعلم أن الأمور الكلية ... فهي باطنة لا تزال عن الوجود العيني».
(9) الأمور الكلية هي المعقولات أو المثل في فلسفة أفلاطون، و المراد بها هنا الصفات الإلهية المتجلية في الخلق على نسب متفاوتة. 
و لابن العربي رأي خاص في وجودها يختلف تماماً عن رأي أفلاطون في المثل. فالأمور الكلية في مذهبه معان عقلية ليس لها وجود عيني- أي خارجي- مستقل عن الأشياء التي لها حكم فيها و نسبة إليها، و لكن لها أثراً في كل ما له وجود عيني. و قوله «فهي باطنة لا تزال عن الوجود العيني» يمكن قراءته فهي باطنة لا تزال (بفتح تاء تزال) أي فهي باطنة عن الوجود العيني لا تزال كذلك. و يمكن قراءتها لا تزال (بضم التاء) أي لا تنمحي
أو لا تفارق الوجود العيني. أي أن الكلي إن كان له وجود خارجي فوجوده في أفراده لا يفارقها.
و نسبة الأمر الكلي إلى أفراده نسبة واحدة سواء أ كان المتصف به شيئاً مؤقتاً أم غير مؤقت، حادثاً أم قديماً. فنسبة العلم مثلًا إلى جميع من يتصفون به واحدة إذ نقول في كل من اتصف بالعلم إنه عالم، و كذلك نقول في الحياة و في الإرادة. و لكن الأمر الكلي من ناحية أخرى يعود إليه حكم من الموجودات العينية التي يتحقق فيها بحسب طبيعة تلك الموجودات، فيوصف بالقدم إذا اتصف به القديم و بالحدوث إذا اتصف به الحادث.


(10) «ثم لتعلم أنه لما كان الأمر على ما قلناه ... إلا للوجوب الذاتي»:
(10) لما شرح معنى المحدَث (و المراد به العالم) و أنه هو الممكن المفتقر في وجوده إلى غيره لا الذي له أولية في الزمان، أخذ يشرح الصلة بينه و بين محدِثه الذي هو واجب الوجود. 
فقال إن طبيعة واجب الوجود اقتضت وجود المحدَث لذاتها، و لذا كان المحدَث واجب الوجود بغيره. و اقتضت طبيعة الواجب الوجود كذلك أن يكون المحدَث (العالم) على صورة من أوجده فيظهر فيه كل شي ء من اسم و صفة عدا وجوب الوجود الذاتي و هي الصفة التي انفرد بها اللَّه.
و لما كان العالم صورة واجب الوجود بهذا المعنى أحالنا اللَّه في العلم به على النظر في الحادث بما فيه أنفسنا، و بذلك عرفناه و استدللنا بأنفسنا عليه. 
وهنا يصل ابن عربي إلى النقطة الختامية في هذا الموضوع و يعرج مرة أخرى على مذهبه في وحدة الوجود فيقول «فمما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف إلا الوجوبَ الخاص الذاتي»
بل إن الأنبياء أنفسهم (ألسِنة التراجم) يصفون اللَّه بهذه الأوصاف و يصف هو نفسه لنا بها أو بنا، فنحن صفاته لأننا مظهره، و علمنا به علمنا بنا و منَّا، لأننا نراه في المرآة، و يستحيل علينا أن نراه بدونها، و المرآة العالم الذي نحن جزء منه.


(11) «فبهذا صح له الأزل و القدم .. في عين آخريته»:
(11) ظهر مما تقدم أن الحق و الخلق وجهان لشي ء واحد هو الحقيقة المطلقة أَو الوجود المطلق لا فرق بينهما إلا في وجوب الوجود الذي يتصف به الحق، و إمكان الوجود أو الافتقار الذاتي الذي هو من طبيعة الخلق. 
و عن وجوب الوجود تتفرع كل الصفات التي يتميز بها الحق عن الخلق كالقدم و الأزلية و الأبدية و غيرها.
فالحق قديم أي لا أول لوجوده لأنه يستحيل عليه المسبوقية بالعدم. فهذا معنى من معاني الأولية انتفى عنه.
و لكنه يصف نفسه بأنه الأول و الآخر فلا بد أن يكون المراد بالأولية هنا أنه مبدأ الوجود و الأصل الذي صدر عنه كل وجود، كما أن المراد بالآخرية رجوع كل موجود في آخر الأمر إليه كما قال «وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ».
و لهذا قال المؤلف «فهو الأول في عين آخريته» أي أن أوليته و آخريته يرجعان إلى سبب واحد هو افتقار الموجودات إليه. فالأزل و الأبد إذن من صفات الواحد الحق وحده، و الوجود الزماني المحدود من صفات الكثرة. و لا يمكن أن تكون أولية الحق تعالى مثل أولية الوجود المقيد بمعنى افتتاح الوجود عن العدم، و إلا لم يصدق عليه أن يكون آخراً لأن الآخرية حينئذ تكون بمعنى آخرية الموجودات المقيدة أيضاً و الموجودات المقيدة أو الممكنات غير متناهية.


(12) «فالعالم بين كثيف و لطيف و هو عين الحجاب على نفسه، فلا يدرك الحق إدراكه نفسه».
(12) في العالم أجسام و أرواح و هي المرادة بالكثيف و اللطيف، و كلها حُجُبٌ تستر الذات الإلهية و تمنعها من الظهور عارية عن كل تعين، كما تحول بيننا و بين إدراك تلك الذات على حقيقتها.
و قد استشهد الصوفية في هذا المعنى بحديث كثيراً ما رددوه و ذهبوا في تأويله كل مذهب و هو أن للَّه سبعين ألف حجاب من نور و ظلمة لو كشفها لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه البصر من خلقه».
قال أصحاب وحدة الوجود المراد بالوجه الذات الإلهية و بالحجب التعينات الكونية.
فالعالم الذي هو صورة اللَّه هو عين الحجاب الذي يستر اللَّه، و لا يدرك العالم من اللَّه إلا بمقدار ما يتجلى فيه من أسرار الحق. و لهذا لا يدرك شي ء من العالم الحقَّ كما يدرك الحق نفسه.
و هذا اعتراف صريح من ابن عربي بأن الوجود المطلق بعيد المنال حتى على ذوق الصوفي، و منه يتبين أن دعواه في وحدة الوجود لا تقوم على الكشف و الاستدلال، و إنما هي فرض افترضه و عجز عن تأييده.
و قد يقال إن المراد بالعالم «العالم الأكبر» لا الإنسان و إن الإنسان وحده هو الذي يستطيع إدراك الحق و إدراك الوحدة الوجودية لأنه الصورة الكاملة للوجود.
و لكن ابن عربي أميل إلى الأخذ بالمعنى الأول. لا فكاك للإنسان من عقاله و لا تخلص له من صورته إلا بالموت: و ما دام في تعينه، و ما دامت له إنِّيَّة تميزه عن غيره فهو عاجز عن إدراك الحق و الوصول إليه.
و لهذا أجمع الصوفية على ضرورة العمل لرفع ذلك الحجاب- حجاب الانِّية، و جعلوا غاية طريقتهم الفناء عن الصفات البشرية المشار إليها بالانِّية. قال الحسين بن منصور الحلاج و قد أشقاه عذاب الحجاب:
بيني و بينك إنِّيِّي ينازعني    ... فارفع بفضلك إنِّيِّي من البين
و لكن الحلاج كان حلولياً و لم يكن من أصحاب وحدة الوجود فهو يطلب محو صفاته التي يشعر أنها عائق له دون الوصول إلى اللَّه و حلول الصفات الإلهية محلها. و هذا معنى لا يرمي إليه أصحاب وحدة الوجود عند ما يتكلمون عن الفناء، بل الفناء عندهم حال يتحقق فيها الصوفي من اتحاد موجود بالفعل كان قد حجبه عنه اشتغاله بإنيته: فليس في الامر في زعمهم تحول في الصفات و لا صيرورة و لا حلول، و إنما هو تحقق من زوال الصور الفانية و بقاء الذات الأبدية. أما حقيقة هذه الذات المطلقة فلا يرقى إليها إنسان أياً كان.
و ابن عربي صريح في هذا كل الصراحة حيث يقول: «فلا يزال الحق من هذه الحقيقة غير معلوم علم ذوق و شهود، لأنه لا قَدم للحادث في ذلك» (الفصل الأول).


(13) «فالكل مفتقر ما الكل مستغني» إلى آخر الأبيات:
(13) المراد بالكل الحق و الخلق أو اللَّه و العالم. و الكل في نظره مفتقر لأن الحق و الخلق وجهان لحقيقة واحدة مفتقر كل واحد من وجهيها إلى الآخر. 
أما افتقار الخلق إلى الحق فظاهر إذ قد بينا أن الخلق ليس إلا الصورة و المظهر الخارجي للحق: فبالحق وجوده و من الحق يستمد ذلك الوجود على الدوام.
و لو لا أن الحق سبحانه قد طبع صورته على صفحة العالم، أو كما يقول المؤلف «لو لا سريان الحق في الموجودات بالصورة»، ما كان للعالم وجود. و قد ذكرنا أيضاً أن العالم من ناحية أخرى ليس إلا الصفات و الأسماء الإلهية التي وصف الحق بها نفسه و وصفناه نحن بها. فليس للعالم وجود، بل ليس له معنى إلا بالإضافة إلى الحق.
أما افتقار الحق إلى الخلق و يقصد ابن العربي بالحق اللَّه لا الذات الإلهية المجردة عن كل وصف و كل نسبة (و هي التي ترادف في فلسفة أفلوطين «الواحد») فراجع إلى أن للحق من الأسماء و الصفات ما لا يتحقق إلا عن طريق العالم الذي هو مظهرها.
و لو لا هذا المظهر الأسمائي و الصفاتي لظل الحق ذلك «الكنز المخفي» الذي أشار إليه الحديث القدسي الذي أَسلفنا ذكره.
فالافتقار من الخلق إلى الحق و من الحق إلى الخلق في نظر ابن عربي حقيقة لا كناية فيها. و لكنه يصف الحق أحياناً بأنه الغني على الإطلاق، و بهذا يقصد الذات الإلهية العارية عن الصفات و الأسماء، و هذا ما أشار إليه البيت الثاني.


(14) «فقوله «اتقوا ربكم»: اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم ... أدباء عالمين.
(14) مهما يكن التفسير الذي نأخذ به في شرح هذه العبارة، فإن كلمتي «اتقوا» و «ربكم» ليستا مستعملتين في معنييهما للعاديين. 
«اتقوا» مأخوذة من الوقاية لا من التقوى، و الرب مأخوذ بمعنى الاسم الإلهي أو الأسماء الإلهية الظاهرة في مجلى من مجالي الوجود. و رب كل موجود هو الاسم الإلهي الظاهر فيه على ما سيبينه المؤلف في الفص الاسماعيلي. 
أما قوله «اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم» إلخ فيمكن فهمه بمعنيين:
 الأول اجعلوا الصورة التي هي مجلى الاسم الإلهي وقاية لذلك الاسم فإنه لا وجود للاسم و لا معنى له إلا بها، ولا تنسوا أن الاسم الإلهي أيضاً وقاية للصورة إذ لا وجود لها إلا به.
و المعنى الثاني وهو أدنى إلى المراد و أكثر تمشياً مع بقية الفقرة أن يقال إن الصورة الخارجية للإنسان هي جسمه و هو المشار إليه بقوله «ما ظهر» و الصورة الباطنية له هي ذلك الجزء الإلهي فيه المقوم لصورته و هو المعبر عنه بالرب.
فالمراد أن ينسب الإنسان كل الصفات البدنية إلى البدن وحده و بذلك يقي ربه لأن صفات البدن ذميمة، و قصر الوصف بها على البدن وقاية للرب.
و أن ينسب كل الصفات الروحية إلى الصورة الباطنية (و هي الرب) و في هذا وقاية للبدن، لأن صفات الرب صفات حمد أو مدح: و من له صفات الحمد يحتمي به من له صفات الذم.
و معنى العبارة كلها: إن كان ذم فانسبوه لأنفسكم و احموا اللَّه منه، و إن كان مدح فانسبوه إلى اللَّه (الذي هو فيكم) و احتموا به.
و لذلك قال المؤلف «فكونوا وقايته في الذم و اجعلوه وقايتكم في الحمد».
.
قبل أن تقرا لـ  د.أبو العلا عفيفي رحمه الله:
د.أبو العلا عفيفي رحمه الله ليس متصوف سالك فى الله وإنما تعلم التصوف بفهم وعيون الغرب العلماني للعمل والإرتزاق ولبناء مستقبل علمي وسطهم ليحظي بتقديرهم والاعتراف به كخبير متخصص وأستاذ فى علوم و مخطوطات الشيخ الأكبر ابن العربي فى وسطهم الفلسفي والعلمي على مستوى العالم وكان له ذلك.
لكن لا ينكر فضله الكبير في البحث و جمع ومقارنة و تحقيق مخطوطات الشيخ الأكبر وتراثه العلمي فضل كبير في البحث وجمع ومقارنة وتحقيق مخطوطات الشيخ الأكبر ومحاولة شرحها جل عمره .
لكنه تشبع وانصبغ بما تعلمه من التصوف العقلي في الغرب العلماني  حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كمبردج 1930 برسالته عن "فلسفة ابن عربي الصوفية " تحت اشراف المستشرق البريطاني رينولد نيكلسون.
في أن التصوف ووحدة الوجود وأصوله الآفلوطونية والغنوصية وغيرها من نتائج أفكار العقل النظري والواردات الشيطانية التي لا ضوابط حاكمة لها من قواعد وقيود الشرع الحنيف المنزل من عند الله سبحانه.
فالحق سبحانه وإن تجلي أو تنزل أو ظهر في كل شيء وعلى كل شيء وفى كل وجهه فـ هو الله الأحد الفرد الصمد لاشريك له ليس كمثله شيء.
والعبد عبد وإن تجلي الله عليه أو كلمه أو اتخذه أو وليا أو نبيا او رسولا وعلمه الأسماء كلها وجعله خليفة له يتصرف فى الأكوان فهو مازال عبدا مفتقرا إلى الله تعالى دائما في كل شيءفالرب رب وإن تنزل . و العبد عبد وإن علا.
فقراءة تعليقات د أبو العلا عفيفي عادة مهمة ولكن تجاوز عن تفسيراته وتعريفاته الفلسفية الغربية العلمانية لوحدة الوجود فهى خطأ وليس ما يريده الشيخ رضي الله عنه يقينا وكذلك كل الأئمة الأولياء الكمل منذ رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا وحتى الآن والى يوم يبعثون وما بعد يوم يبعثون  .
فالعقل وحده وهو أعظم أدوات الفلاسفة في التأمل عاجزا تماما بل هو أعمى عن إدراك كل الحقائق والمخلوقات فى عالم الملك والملكوت والجبروت واللاهوت.
كذالك السموات على ما هي عليه مفتقرا لسلطان الله لينفذ في معارجها . كذلك لمشاهدة التجليات والحضرات الإلهية لكي الأسماء والصفات والأفعال ألهية ببصر وسمع الله سبحانه  فضلا عن التأييد الإلهي للفهم عنه.
فالحق سبحانه القديم الأزلي السر و النور الساري في كل ما خلق وإلا صار للعدم. والى ذلك أعلمنا سبحانه فأشار بـالحقيقة السارية في كل شيء " لا حول ولا قوة الا بالله" وحدها الحقيقة الحاكمة ازلا وسرمدا على الوجود كله و كافية لإثبات سريان انوار قدرته وحكمته وارادته تعالى في كل شيء و كل وجهه لمن أراد الدليل وتفهم مراد الرسول والأنبياء والشيخ وكل الأولياء أن كل الكون مفتقر تعالى إليه  دائما أبدا فى كل لحظة .
قال تعالى :" إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) سورة فاطر".
قال تعالى : " قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) سورة المائدة"
قال تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) سورة ".
قال تعالى : "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) سورة الشورى " .
فالله سبحانه وتعالى يكلم ويخاطب من يشاء من عباده بما شاء كيفما شاء وأينما شاء ولاقيد ولاحد لهذا او يرسل رسولا عدا الوحي الذي رفعه الله سبحانه بعد خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم ويعلم من يشاء بما يشاء فلا سلطان لأحد من الخلق عليه.
فالله سبحانه وتعالى النور والسر الساري في كل شيء أزلا وسرمدا خلقا وايجادا واظهارا ومحوا وإحفاء واعداما و زولا غير مفتر للشيء . وكل الكون مفتقر اليه دائما فى كل شيء.
أين كل هذا من علوم أفلاطون والغنوصية والبوذية وغيرها من تلك العلوم الشيطانية النفسية التي أوجدها ليسلبوا عقول الناس و يضيعوا أعمارهم "ليضلوا عن سبيل الله" , فمن أراد الله سبحانه أخذ آيات وشرع الله وتجرد له وأخلص له وصدق معه وينتظر ما سيفتح الله به وقتما يشاء سبحانه .
وعرضت كلامه لأهميته لاكتمال الموسوعة في إيراد أهم التفاسير المتاحة ولأن النص الأساسي للموسوعة هو الذي أورده من دراسته معتمدا على عدد كبير من المخطوطات الموثقة عن كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر رضي الله عنه.
أخيرا فطالب الحق يكفيه دليل ليعرف أما المعاند النزق أوالجاهل أو من ران على قلبه لا يكفيه الف دليل.
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 3:02 pm

02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الشيثي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفص الثاني حكمة نفثية في كلمة شيثية
(1) «شيث».
(1) رأينا في الفص السابق أن المراد بآدم هو الصورة الإلهية الجامعة لكل حقائق الوجود، و أن الحق سبحانه لما أحب أن يُعرف تجلى لنفسه في نفسه في هذه الصورة التي كانت بمثابة المرآة و رأى جميع كمالاته فيها فجعلها الغاية من الوجود و خلق العالم الأكبر من أجلها. 
فآدم بهذا المعنى هو الحق متجلياً بصورة العالم المعقول و حاوياً في نفسه جميع صفات عالم الممكنات.

و هنا نرى ابن عربي يرمز بشيث ابن آدم إلى تَجَلٍ آخر للحق: و هو تجليه في صورة المبدأ الخالق الذي يمنح الوجود لكل موجود- أو باصطلاح المؤلف- يظهر في وجود كل موجود. و لما كان من طبيعة الحق أن يخلق- أي أن الخلق فعل ضروري له- و الخلق هنا معناه الظهور بالوجود لا الإيجاد من العدم- كان هذا التجلي الثاني- نتيجة لازمة عن التجلي الأول كما أن الابن نتيجة طبيعية و لازمة للأب.
و ليس الخلق إيجاداً من عدم كما قلنا و إنما هو ظهور أو خروج أو تجل:
و لذلك اختار له المؤلف كلمة النفخ أو النفث و سمى حكمة شيث بالحكمة النفثية.
و كلمة النفخ أو النفث تشير إلى خروج شي ء من شي ء أو فيض شي ء عن شي ء.
أما الوجود ذاته الذي يمنحه الحق لأعيان الموجودات فكثيراً ما يشار إليه «بنَفَسِ الرحمن» أو «النَّفَس الرحماني» و من هنا جاء استعمال الرحمة بمعنى منح الوجود.
(2) «العطايا و المنح الإلهية».
(2) ما ذا تكون العطايا و المنح التي يهبها اللَّه للعالَم في مذهب يقول بوحدة الوجود سوى الذات الإلهية و صفاتها؟ 
فذاته تعالى سارية في ذوات جميع الموجودات، و صفاته هي الصور الأولى المتعينة في صفات العالم الخارجي. لهذا قسم المؤلف العطايا و المنح إلى ذاتية و أسمائية. و يستوي في مذهب كهذا أن يسأل العبد ربه أن يمنحه كيت و كيت من صفات الوجود بأن يتجلى له فيها و أن لا يسأل، فإن الحق يتجلى في كل موجود بحسب الاستعداد الأزلي لذلك الموجود لا يغيّر من ذلك سؤال و لا دعاء. و كل موجود له عينه الثابتة في الأزل يظهر وجوده الخارجي بمقتضاها. هذا هو القانون العام في فلسفة ابن عربي لا يتحول عنه قيد شعرة مهما اختلفت الأساليب التي يعبر بها عنه. 
من الجهل إذن السؤال أو الدعاء، فإن كل شي ء قد قدِّر أزلًا و سيكون على نحو ما قدر: طاعة أو معصية، خيراً أو شراً، حسناً أو قبحاً، اللهم إلا إذا قدر كذلك أن شيئاً ما لا ينال إلا بالسؤال أو الدعاء. أما الصوفي الكامل فلا يسأل شيئاً بل يراقب قلبه في كل آن ليقف على مدى استعداده الروحي، لأن قلب الصوفي- و هو مرآته التي التي يرى فيها تجلي الحق- يتغير في كل لحظة مع تغير التجلي الإلهي. 
و اللحظة التي يكون فيها الصوفي حاضراً بقلبه مع اللَّه و يدرك فيها ناحية من نواحي استعداده الروحي هي التي يسميها الصوفية «الوقت». و لذلك قالوا: الصوفي بِحُكْم وقته، و الصوفي ابن وقته.

و من الصوفية- و هم الصنف الأدنى- من يسأل لا للاستعجال و لا غيره و إنما امتثالًا لأمر اللَّه في قوله «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»: و ليس المراد بالاستجابة منح الشي ء المسئول فيه دائماً، فإن المسئول فيه لا يتحقق إلا إذا اقتضته طبيعة الشي ء نفسه و وافق السؤال فيه الوقت المقدَّر له. أما إذا اختلف الوقت فلا استجابة إلا الاستجابة بلفظ «لبَّيك» التي يفرق ابن عربي بينها و بين الاستجابة الحقيقية التي يلزم عنها منح المطلوب.


(3) «فالاستعداد أخفى سؤال».
(3) ذكر المؤلف ثلاثة أنواع من السؤال: السؤال باللفظ أو الدعاء، و السؤال بالحال، و السؤال بالاستعداد. 
أما السؤال باللفظ فقد شرحناه و بينا أنه لا أثر له مطلقاً في الإجابة عن المسئول. و أما السؤال بالحال فراجع في الحقيقة إلى السؤال بالاستعداد، فإن الحال التي تطلب شيئاً ما تتوقف على طبيعة استعداد صاحبها، فلحال الصحة أو المرض مثلًا مطالب، و لكن الصحة و المرض يتوقفان على طبيعة الصحيح و المريض. فلم يبق بعد السؤال باللفظ إذن إلا السؤال بالاستعداد: أي ما تتطلبه طبيعة كل موجود من صفات الوجود. هذا هو السؤال بالمعنى الصحيح، و هذا هو السؤال الذي يستجيب له الحق استجابة حقيقية.
فإذا قدر لشي ء ما أزلًا أن يكون على نحو ما من الوجود و طلبت طبيعة ذلك الشي ء ما قدِّر لها، تحقق في الحال ما طلبت. و ليس ما يجري من الأحداث على مسرح الوجود إلا ذاك.
هنا تظهر جبرية ابن عربي واضحة جلية. و لكنها ليست جبرية ميكانيكية أو مادية ترجع لطبيعة جامدة غير عاقلة، بل هي نوع من الانسجام الأزلي  Pre -established harmony  الذي قال به ليبنتز. كما أنها ليست الجبرية التي قال بها غير ابن عربي من المسلمين، لأن الجبرية الاسلامية ثنوية تفترض وجود اللَّه و العالم، أما ابن عربي فيدين بحقيقة وجودية واحدة. فنظام الوجود القائم و ما طبع في جبلته من القوانين التي هي في واقع الأمر قوانين إلهية و طبيعية معاً، كل ذلك هو الذي يقرر مصير العالم في أية لحظة من لحظاته. و هذه النزعة أقرب ما تكون إلى نزعة الرواقية في إلهيّاتهم.
أما النتيجة العملية لهذا المذهب من الناحية الصوفية، فالرضا المطلق بقضاء اللَّه و قدره، و محاولة الصوفي التخلص- ما أمكنه- من ربقة العبودية الشخصية، ليحقق في نفسه الوحدة الذاتية مع الحق.


(4) «و من هنا يقول اللَّه تعالى «حَتَّى نَعْلَمَ» ... الكشف و الوجود».
(4) تشعر العبارة «حَتَّى نَعْلَمَ» - إذا أخذت على ظاهرها- بأن علم اللَّه بالأشياء غير أزلي لأنه متعلق بالموجودات الكائنة الفاسدة الموجودة في الزمان و المكان. 
و قد حاول بعض المتكلمين نفي هذا عن العلم الإلهي بأن نسبوا الحدوث في العلم للتعلق لا للعلم نفسه. أما العلم الإلهي فهو قديم. و لكن ابن عربي يرد عليهم في هذه النقطة بقوله إنهم أثبتوا صفة العلم زائدة على الذات الإلهية و جعلوا تعلق العلم بالمعلوم للعلم لا للذات. 
و لكن الذات و صفاتها شي ء واحد في نظر المحققين أمثاله (و في نظر المعتزلة أيضاً)، فالتعلق للذات المتصفة بالعلم لا للعلم. و كذلك الحال في القدرة و الإرادة و الصفات الأخرى. 
فإذا قيل تعلق علم اللَّه بكيت و كيت كان معنى ذلك تعلقت الذات الإلهية المتصفة بالعلم بكيت و كيت. 
و لكن ذات الحق هي في الواقع- في مذهبه- ذات المعلوم: و على ذلك لا يرى أن الحق يكتسب علماً بالمعلوم عند ما يظهر ذلك المعلوم في الوجود، كما لا يرى بَعْديةً زمانية في العلم الإلهي، و إن افترض قبلية و بعدية اعتبارية في الذات الإلهية التي تُصوِّرت على أنها كانت ثم أصبحت. فعلم اللَّه بالأشياء في العالم العقلي هو علمه بأعيانها الثابتة التي هي ذاته المفصلة في علمه. أي هي علمه بذاته في هذا المقام.
و علمه تعالى بالموجودات الخارجية هو نفس ذلك العلم منكشفاً له في صفحة الوجود: أو هو علم بذاته متجلياً في أعيان الموجودات، فالبعدية موجودة بهذا المعنى. و عليه يلزم أن نفهم «حَتَّى نَعْلَمَ» على ظاهرها و ألا نؤولها.


(5) «و الأمر كما قلناه و ذهبنا إليه. و قد بينا هذا في الفتوحات المكية».
(5) الأمر الذي قد بينه هو أن الحق سبحانه قد منح من ذاته و صفاته كل موجود ذي ذات و صفات. و هذا هو التجلي الإلهي: أي الظهور في الصور أو التعينات الكونية.
و لا يكون التجلي الإلهي لشي ء إلا بحسب استعداد المتجلي له، و لهذا لا يرى إنسان إلا صورته في مرآة الحق. أما الحق في ذاته فلا يُرَى و لا يُعْلَم لأنه لا يتجلى في صورة مطلقة. و قد ضرب المؤلف لهذه الرؤية الإلهية مثلًا بالمرآة و الصورة المشاهدة فيها، فإن الناظر إلى نفسه في المرآة يرى صورته هو و لا يرى جرم المرآة مهما حاول ذلك. 
فكذلك الحق الذي هو مرآة الوجود لا يرى إلا صوره المتجلية في مرايا الوجود. و لكن التشبيه بالمرآة و الصورة قد استُغِلَّ في معنى آخر، فشبه الخلق بالمرآة و الحق بالصورة الظاهرة فيها. 
فكما أن الحق مرآة الخلق، كذلك الخلق مرآة الحق. و في هذا يقول المؤلف: فهو (أي الحق) مرآتك في رؤيتك نفسك، و أنت مرآته في رؤيته أسماءه و ظهور أحكامها: و ليست (أي هذه الأسماء و أحكامها» سوى عينه.

أما المرجع المشار إليه في الفتوحات المكية فوارد في الجزء الأول ص 397 في الكلام عن المراة و صورتها.


(6) فالمرسلون، من كونهم أولياء، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء».
(6) يعتبر ابن عربي «الولاية» أساس المراتب الروحية كلها. فكل رسول ولي و كل نبي ولي. 
و أخص صفات الولي أياً كان المعرفة: أي العلم الباطن الذي يلقى في القلب إلقاء و لا يكتسب بالعقل عن طريق البرهان، و هو مختلف عن العلم الموحى به في مسائل التشريع. 
و قد يستعمل ابن عربي كلمة «الإنسان الكامل» مرادفة لكلمة «ولي» بهذا المعنى، فالأنبياء أولياء لأنهم فوق معرفتهم الكاملة باللَّه يعلمون شيئاً من عالم الغيب. و الرسل أولياء لأنهم يجمعون بين معرفتهم الكاملة باللَّه و بين العلم الخاص بالشرائع التي أرسلوا بها.
و النبوة و الرسالة تنقطعان لأنهما مقيدتان بالزمان و المكان، أما الولاية فلا تنقطع أبداً، لأن المعرفة الكاملة باللَّه لا تحد بزمان أو مكان و لا تتوقف على أي عامل عرضي.
و هناك فرق آخر و هو أن العلم الشرعي يوحى به إلى الرسول على لسان المَلك، أما العلم الباطن عند الولي- سواء أ كان رسولًا أو نبياً أو محض ولي، فهو إرث يرثه الولي من خاتم الأولياء الذي يرثه بدوره من منبع الفيض الروحي جميعه: روح
محمد أو الحقيقة المحمدية. و خاتم الأولياء وحده من بين ورثة العلم الباطن هو الذي يأخذ علمه مباشرة عن روح محمد التي يرمز إليها الصوفية عادة باسم «القطب» و لا يقصد بالحقيقة المحمدية أو روح محمد، محمدٌ النبي بل حقيقته القديمة التي تقابل العقل الأول عند أفلاطون و «الكلمة» عند المسيحيين، و التي يقول ابن عربي إنها المقصودة في الحديث كنت نبياً و آدم بين الماء و الطين، لا بمعنى قدِّر لي أن أكون نبياً قبل خلق آدم كما يدل عليه ظاهر الحديث، بل بمعنى وجدت حقيقتي أو روحي التي هي العقل الإلهي قبل أن يوجد آدم.


(7) «و في هذا الحال الخاص تقدم (أي محمد) على الأسماء الإلهية».
(7) يقتبس الصوفية عادة في هذا المقام الحديث القائل إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم هو أول من يفتح باب الشفاعة فيشفع في الخلق، ثم الأنبياء ثم الأولياء ثم المؤمنون، و آخر من يشفع هو أرحم الراحمين». 
و إذا فهمنا أن ابن عربي يقصد بالاسم الرحمن الاسم الجامع للأسماء الإلهية كلها مستشهداً على ذلك بقوله تعالى «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ»، و إذا كانت شفاعة «الرحمن» ستكون يوم القيامة آخر الشفاعات: إذا كان كل ذلك، أدركنا كيف قدم محمد الشفيع على الأسماء الإلهية. و ليس التقدم المذكور تقدماً بالإطلاق، بل هو في هذا المقام الخاص الذي هو مقام الشفاعة. أما حكمة تأخر الاسم الرحمن فلكي تعم الشفاعة كل شي ء لقوله تعالى «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ».


(8.) «و أسماء اللَّه لا تتناهى لأنها تعلم بما يكون عنها ... أو حضرات الأسماء».
(8.) سبق أن ذكرنا في تعليقاتنا على الفص الأول كيف اعتبر ابن عربي الموجودات صفات للحق وصف بها نفسه و وصفناه نحن بها. 
و لما كانت الموجودات لا تتناهى عدداً، كانت الأسماء الإلهية التي تتجلى في هذه الموجودات لا تتناهى عدداً أيضاً.
و لكن الموجودات مع عدم تناهيها أفراداً و أشخاصاً، يمكن حصرها في عدد متناه من
الأجناس و الأنواع. و كذلك الأسماء الإلهية التي لا ينحصر عددها يمكن ردها إلى أصول عامة محصورة العدد، و هذه الأصول هي أمهات الأسماء و هي المعروفة بالأسماء الحسنى أو الحضرات الأسمائية. و معنى الحضرة هنا هو المجلى الذي يظهر فيه أثر إلهي من نوع خاص، أو هو المجال الذي يظهر فيه فعل إلهي. فحضرة الرحمن هي مجموعة المجالي التي يظهر فيها أثر للرحمة الإلهية، و إن كانت حالات الرحمة لا تتناهى عدّا لأن الكائنات المرحومة لا تتناهى عدّا. و حضرة الجبار هي المجال الذي يظهر فيه الحق بهذا الوصف و إن كانت حالات الجبروت لا تتناهى عدّا و هكذا. فالذي لا يتناهى عدّا هو فروع الأسماء أو مظاهرها لا أمهاتها.
و أهم مرجع شرح فيه ابن عربي الأسماء الإلهية و تصنيفاتها هو كتابة «إنشاء الدوائر» الذي نشره الأستاذ نيبرغ. قارن شرح القيصري على الفصوص.  المقدمة ص 11 - 15.


(9) «فما في الحضرة الإلهية لاتساعها شي ء يتكرر أصلًا».
(9) ليس في الوجود سوى ذات واحدة و عدد لا يتناهى من نسب و إضافات يكنَّى عنها بالأسماء الإلهية، و تسمى حين تظهر في الصور الخارجية باسم الموجودات أو التعينات. 
فالوحدة- و هي ما يقع فيه الاشتراك بين جميع الموجودات- ترجع إلى الذات: إلى الحق في ذاته. و الكثرة- و هي ما يقع فيه الاختلاف بين الموجودات- ترجع إلى هذه الإضافات و النسب: إلى الخلق. و لكن الحق و الخلق وجهان لوجود واحد أو حقيقة واحدة. و إذا نظرت إلى هذه الحقيقة من ناحية الكثرة أو التعدد وجدت اختلافاً كبيراً في مظاهرها و تمايزاً يكفي في تشخيص كل منها و إعطائه فرديته. و وجدت فوق ذلك أن لا واحد من هذه المظاهر عين الآخر، بل لا مظهر منها في لحظة هو عينه في اللحظة التي تليه. 
و هذا هو الذي أشار إليه المؤلف بقوله «فما في الحضرة الإلهية مع اتساعها شي ء يتكرر أصلًا». كل شي ء يخلَقُ خلقاً جديداً في كل آن. فالوجود هو المسرح الأكبر الذي تتعاقب فيه الصور في الظهور عليه أبداً و أزلًا، و لا تظهر صورة منها عليه مرتين.

هذا هو الخلق الجديد الذي يشرحه المؤلف بإسهاب في الفص السادس عشر و سنعرض له في موضعه.


(10) «و هذا العلم كان علم شيث، و روحه هو الممد ... »
(10) ذكرنا في التعليق الأول على هذا الفص أن «شيث» ليس إلا رمزاً للحق في التجلي الثاني أو التجلي الأسمائي الذي ظهر فيه الحق بصورة المبدأ الخالق الذي أعطى كل موجود وجوده و أظهر فيه ما أظهر من معاني أسمائه. 
و من هنا يظهر لِمَ يعتبر ابن عربي العلم بالأسماء الإلهية و تجلياتها وقفاً على شيث الذي يستمد من روحه كل من تكلم في هذا الموضوع. يقول الصوفية إن شيث وحده هو الذي بيده مفاتيح الغيب. و ليست مفاتيح الغيب هذه إلا الأسماء الإلهية، لأنها دلالات على الغيب المطلق الذي هو الذات الإلهية: أو هي مفاتيح الكنز الخفي الذي أحب الظهور فأظهرته.


(11) «فما في أحد من اللَّه شي ء، و ما في أحد من سوى نفسه شيء».
(11) تدل هذه العبارة في ظاهرها على أن ابن عربي قد وقع في تناقض شنيع مع نفسه و أنكر في جملة واحدة ما فصله في وحدة الوجود في صفحات بل كتب.
و الحقيقة ألا تناقض في أقواله إذا وقفنا على مراميه.
قد ذكرنا في تعليقات الفص الأول أن الفيض عنده فيضان: الفيض الأقدس و هو تجلى الحق لنفسه في صور أعيان الممكنات الثابتة، أو في الصور المعقولة للوجود الممكن. و كل عين من هذه الأعيان الثابتة تحمل في نفسها مستقبل تاريخها و ما قدر لها أن تكون عند ما تتحقق بالفعل و تأخذ مكانها بين الموجودات الخارجية. فهي لا تخضع في تحققها لشي ء ما إلا لقوانينها الذاتية التي هي جزء من قوانين الوجود العيني الذي نسميه بالعالم. فهي بهذا المعنى صورة من صور الحق و وجودها العيني عند ما توجد صورة من صور وجوده. و لكن اللَّه- الذات المطلقة- ليس له من حيث إطلاقه وغناؤه الذاتي عنها وعن غيرها نسبة ما إليها و لا لها هي نسبة إليه. 
فليس فيها من ذلك المطلق شي ء. و ليس فيها مما يحقق وجودها إلا طبيعتها الخاصة.

فما في موجود من الموجودات شي ء من اللَّه (المطلق) عينه على النحو الذي تعين به، و إنما وجود كل شي ء راجع إلى نفسه. 
و وجود الأشياء في الصور التي هي عليها هو الفيض الثاني أو الفيض المقدس. فإذا فهمنا العبارة السابقة من ناحية صلتها بهذا الفيض، ارتفع التناقض الظاهري بينها و بين مذهب المؤلف في وحدة الوجود.

على أنه يمكن تفسير العبارة بمعنى آخر يتمشى تماماً مع مذهب ابن عربي العام و يتأيد بما أورده هو بالفص العيسوي. 
و ذلك أن اللَّه عنده هو الوجود المطلق، و كل موجود من الموجودات صورة له. و الصورة- إذا أخذت في جزئيتها- ليست اللَّه في إطلاقه. 
و إذن فليست الصورة هي اللَّه و إن كانت مجلى له و قد كفر الذين قالوا إن اللَّه هو المسيح عيسى بن مريم لأنهم حصروا الحق الذي لا تتناهى صوره في تلك الصورة الجزئية المعينة، و كان الأولى بهم أن يقولوا إن المسيح صورة من صور الحق التي لا تتناهى.

على أن ابن العربي لا يكتفي بنسبة التحقق في الوجود إلى ذوات الأشياء نفسها، بل ينسب إليها أيضاً كل وحي و كل علم إلهامي أو ذوقي. فلا منبع لعلم في الإنسان إلا نفسه. 
و في هذا يقول: «فأي صاحب كشف شاهد صورة تلقي إليه ما لم يكن عنده من المعارف، و تمنحه ما لم يكن قبل ذلك في يده، فتلك الصورة عينه لا غيره». 
فالاستعداد الأزلي في الموجود هو الذي يعين وجوده و يكيّف ما يوحى إليه من العلم.

و إذا كان الأمر على ما وصفنا، فما معنى القول بأن اللَّه قادر على كل شي ء، و أنه فعال لما يريد؟ ما معنى الإمكان الذي يتكلم عنه المتكلمون؟ 
ما معنى أن الممكن هو ما يستوي وجوده و عدمه فإن شاء اللَّه أوجده و إن شاء لم يوجده؟ 
أليس كل شي ء مقدراً أزلًا في عينه الثابتة فإذا ظهر في الوجود كان ظهوره بحسب ما تقتضيه تلك العين؟
 ألا تتنافى هذه الجبرية العنيفة مع وجود إله مختار يفعل في الوجود ما يشاء و كيف يشاء؟

هذه أسئلة يحاول ابن العربي أن يجيب عنها في الفقرة التالية عند ما يشرح معنى الإمكان و الممكن. يقول لما ثبت عند بعض النظار أن اللَّه فعال لما يشاء، جوزوا عليه ما يناقض الحكمة و ما عليه الأمر في نفسه. فالممكن عندهم ما كان وجوده من اللَّه (واجب الوجود بالذات) و في إمكان اللَّه أن يوجده على أي نحو أراد، حتى و لو كان ذلك الوجود منافياً للحكمة و لطبيعة الوجود إطلاقاً. و لكن هذا التفسير دفع ببعض المتكلمين الآخرين إلى إنكار وجود الممكنات، و قالوا لا وجود إلا لواجب الوجود: و واجب الوجود إما واجب الوجود بذاته أو واجب الوجود بغيره. أما الممكن إطلاقاً فلا يمكن تحقق وجوده. 
أما ابن عربي فقد توسط بين الأمرين و قسم الوجود إلى واجب و ممكن ثم قال إن الممكن هو واجب الوجود بالغير. 
يقول «و المحقق يثبت الإمكان و يعرف حضرته، و الممكن ما هو الممكن، و من أين هو ممكن، و هو بعينه واجب الوجود بالغير، و من أين صح عليه اسم الغير الذي اقتضى له الوجوب».

و الحقيقة أن «الغَيريَّة» هنا غيرية اعتبارية، و أن واجب الوجود بالغير ليس إلا مظهراً لواجب الوجود بالذات، و أن كل ما يجري على أي شي ء من أحكام الوجود ضروري، و يستوي أن تنسب هذه الضرورة إلى العين أو إلى الذات المتجلية في صورة العين لأن الكل واحد. و لم يجب ابن عربي على الإشكال الذي أثاره نظار المتكلمين، و إنما شرح ناحية من نواحي مذهبه في وحدة الوجود.


(12) «و على قدم شيث يكون آخر مولود يولد من هذا النوع الإنساني».
(12) ذهب شراح الفصوص في تفسير هذا الفص الرمزي مذاهب شتى و تضاربت فيه آراؤهم. 
فمنهم من اعتبر «آخر مولود يولد في النوع الانساني» ولداً حقيقيًّا يحمل جميع أسرار شيث على نحو ما حمل شيث أسرار آدم. و لكنهم اختلفوا بعد ذلك: فذهب بعضهم إلى أن المراد به ختم الولاية العامة الذي قالوا إنه عيسى عليه السلام.
أما ختم الولاية الخاصة (الولاية المحمدية) فهو ابن عربي نفسه على نحو ما صرح في كتاب الفتوحات المكية (الجزء الأول ص 319).
و ذهب البعض الآخر إلى أنه مطلق ولي يولد آخر الزمان، و يدعو الناس إلى اللَّه فلا تجاب دعوته لغلبة حكم الشهوة على عقول بني الإنسان في ذلك العهد.
و عليه فهو غير عيسى، لأن عيسى سينزل آخر الزمان إلى الأرض و يحكم فيها بشريعة محمد و يرد الإسلام إلى سيرته الأولى.
و هذه تفسيرات لا تشبع غلة و لا تتفق مع روح مذهب المؤلف و لا مع أسلوبه. فالأولى أن نعتبر العبارة رمزية ثم نأخذ في حل رموزها.
يبدو أن المراد بالولد الذي هو آخر ما يولد للنوع الانساني هو «القلب» (أو العقل) كما يفهمه الصوفية، و أن المراد بأخته التي ولدت معه النفسُ الانسانية، و أن المراد بالصين الذي ولد فيها الولد القرار البعيد للطبيعة البشرية أو موضع السر منها: يؤيد ذلك أن كلمة الصين استعملت في غير هذا المقام للدلالة على البعد في مثل قول النبي عليه السلام «اطلبوا العلم و لو في الصين».
و يُشير قوله «يكون رأسه عند رجليها» إلى تغلب النفس الحيوانية على القلب و قهرها له في وقت ما من أوقات تطور الإنسان. أما الناس الذين دعاهم هذا الولد إلى اللَّه فلم يستجيبوا له، فالمراد بهم قوى النفس و جنودها التي لا تخضع لسلطان العقل.
فإذا قبض اللَّه ذلك الولد إليه- و قبض مؤمني زمانه- و هي قوى الإنسان الروحية التي تستجيب لدعوته- بقي من بقي من الناس مثل البهائم. و مهما كثر النكاح بين رجالهم و نسائهم- أي بين القوى الفاعلة و القوى المنفعلة في الإنسان- فلن تستطيع أن تلد ذلك المولود لأنه من طبيعة غير طبيعتها.
و في الفقرات الأخيرة من الفص ما يشير إشارة قوية إلى أن المراد بالمولود العقل الانساني (أو القلب) الذي هو «الفصل» المميز للإنسان عن سائر أنواع الحيوان، و آخر ما ظهر في النشأة الإنسانية من القوى.
.
قبل أن تقرا لـ  د. أبو العلا عفيفي رحمه الله:
د أبو العلا عفيفي رحمه الله ليس متصوف سالك فى الله وإنما تعلم التصوف بفهم وعيون الغرب العلماني للعمل والإرتزاق ولبناء مستقبل علمي وسطهم ليحظي بتقديرهم والاعتراف به كخبير متخصص وأستاذ فى علوم و مخطوطات الشيخ الأكبر ابن العربي فى وسطهم الفلسفي والعلمي على مستوى العالم وكان له ذلك.

لكن لا ينكر فضله الكبير في البحث و جمع ومقارنة و تحقيق مخطوطات الشيخ الأكبر وتراثه العلمي فضل كبير في البحث وجمع ومقارنة وتحقيق مخطوطات الشيخ الأكبر ومحاولة شرحها جل عمره . 
لكنه تشبع و إنصبغ بما تعلمه من التصوف العقلي في الغرب العلماني حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كمبردج 1930 برسالته عن "فلسفة ابن عربي الصوفية " تحت اشراف المستشرق البريطاني رينولد نيكلسون.
في أن التصوف ووحدة الوجود وأصوله الآفلوطونية والغنوصية وغيرها من نتائج أفكار العقل النظري والواردات الشيطانية التي لا ضوابط حاكمة لها من قواعد وقيود الشرع الحنيف المنزل من عند الله سبحانه. 

فالحق سبحانه وإن تجلي أو تنزل أو ظهر في كل شيء وعلى كل شيء وفى كل وجهه فـ هو الله الأحد الفرد الصمد لاشريك له ليس كمثله شيء.

والعبد عبد وإن تجلي الله عليه أو كلمه أو اتخذه أو وليا أو نبيا او رسولا وعلمه الأسماء كلها وجعله خليفة له يتصرف فى الأكوان فهو مازال عبدا مفتقرا إلى الله تعالى دائما في كل شيء. فالرب رب وإن تنزل . و العبد عبد وإن علا.
فقراءة تعليقات د أبو العلا عفيفي عادة مهمة ولكن تجاوز عن تفسيراته وتعريفاته الفلسفية الغربية العلمانية لوحدة الوجود فهى خطأ وليس ما يريده الشيخ رضي الله عنه يقينا وكذلك كل الأئمة الأولياء الكمل منذ رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا وحتى الآن والى يوم يبعثون وما بعد يوم يبعثون  .
فالعقل وحده وهو أعظم أدوات الفلاسفة في التأمل عاجزا تماما بل هو أعمى عن إدراك كل الحقائق والمخلوقات فى عالم الملك والملكوت والجبروت و اللاهوت .
كذالك السموات على ما هي عليه مفتقرا لسلطان الله لينفذ في معارجها . كذلك لمشاهدة التجليات والحضرات الإلهية لكي الأسماء والصفات والأفعال ألهية ببصر وسمع الله سبحانه  فضلا عن التأييد الإلهي للفهم عنه.
فالحق سبحانه القديم الأزلي السر و النور الساري في كل ما خلق وإلا صار للعدم. والى ذلك أعلمنا سبحانه فأشار بـالحقيقة السارية في كل شيء لا حول ولا قوة الا بالله" وحدها الحقيقة الحاكمة ازلا وسرمدا على الوجود كله و كافية لإثبات سريان انوار قدرته وحكمته وارادته تعالى في كل شيء و كل وجهه لمن أراد الدليل وتفهم مراد الرسول والأنبياء والشيخ وكل الأولياء أن كل الكون مفتقر تعالى إليه  دائما أبدا فى كل لحظة .
قال تعالى :" إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) سورة فاطر".
قال تعالى : " قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) سورة المائدة"
قال تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (11) سورة ".
قال تعالى : "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) سورة الشورى " .
فالله سبحانه وتعالى يكلم ويخاطب من يشاء من عباده بما شاء كيفما شاء وأينما شاء ولاقيد ولاحد لهذا او يرسل رسولا عدا الوحي الذي رفعه الله سبحانه بعد خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم ويعلم من يشاء بما يشاء فلا سلطان لأحد من الخلق عليه.
فالله سبحانه وتعالى النور والسر الساري في كل شيء أزلا وسرمدا خلقا وايجادا واظهارا ومحوا وإحفاء واعداما و زولا غير مفتر للشيء . وكل الكون مفتقر اليه دائما فى كل شيء.
أين كل هذا من علوم أفلاطون والغنوصية والبوذية وغيرها من تلك العلوم الشيطانية النفسية التي أوجدها ليسلبوا عقول الناس و يضيعوا أعمارهم "ليضلوا عن سبيل الله" ,فمن أراد الله سبحانه أخذ آيات وشرع الله وتجرد له وأخلص له وصدق معه وينتظر ما سيفتح الله به وقتما يشاء سبحانه.
وعرضت كلامه لأهميته لاكتمال الموسوعة في إيراد أهم التفاسير المتاحة ولأن النص الأساسي للموسوعة هو الذي أورده من دراسته معتمدا على عدد كبير من المخطوطات الموثقة عن كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر رضي الله عنه.
أخيرا فطالب الحق يكفيه دليل ليعرف أما المعاند النزق أوالجاهل أو من ران على قلبه لا يكفيه الف دليل.

وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.
.


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الجمعة أغسطس 02, 2019 11:29 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 3:30 pm

03 - فص حكمة سبُّوحيَّة في كلمة نُوحِيَّة .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص النوحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
03 - الفص الثالث فص حكمة سبُّوحيَّة في كلمة نُوحِيَّة
(1) حكمة سبُّوحيَّة في كلمة نُوحِيَّة
(1) فليس المراد بالتشبيه و التنزيه هنا ما أراده المتكلمون عند ما تحدثوا في الصفات الإلهية فنفوها أو أثبتوها، و على أي نحو أثبتها المثبتون أو نفاها النافون، بل المراد بهما معنى آخر لم يسبق ابن عربي إليه سابق، و هو المعنى الوحيد الذي يتمشى مع نظريته العامة.
أما المتكلمون فقصدوا بتنزيه اللَّه أنه يتعالى عن كل وصف و كل حد.
لأن الصفات التي يمكننا أن نصفه بها إما منتزعة من صفات المحدثات أو سلوب لها، فإذا وصفناه بصفات المحدثات ألحقناه بها و هذا محال، و إن وصفناه بسلوبها لم نصفه بشي ء، فالأوْلى بنا ألّا نصفه بوصف ما.
فإن ورد في القرآن من الآيات ما يصف اللَّه بصفة تشعر بالتشبيه أو التمثيل وجب تأويله. و كذلك فعل المعتزلة أكبر المدافعين عن التنزيه مستندين إلى قوله تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ». فاللَّه يجب ألّا يوصف بصفة من صفات المخلوقات، و إن وصفه واصف فيجب ألا يكون ذلك إلا بصفة المخالفة للحوادث و ما يلزم عنها لزوماً منطقياً كالقدم و البقاء و الضرورة و الإطلاق و ما شاكل ذلك.
أما التشبيه فكان قولَ أهل السنة الذين أخذوا آيات التشبيه على ظاهرها سواء منها ما أشعر بالتمثيل أو التجسيم، و لو أنهم- تحاشياً للوقوع في تجسيم صريح- قالوا إن اللَّه يتصف بهذه الصفات، و لكن على نحو لا نعرفه- بلا كيف.
أما ابن عربي فيستعمل كلمتي التنزيه و التشبيه بمعنى «الإطلاق» و «التقيد».
فاللَّه منزه بمعنى أنه إذا نظر إليه من ناحية ذاته فهو يتعالى عن كل وصف و كل حد و تقييد. و هو بهذا المعنى غني عن العالمين يحيط بكل شي ء و لا يحيط به شي ء و لا عِلْم، سار في كل موجود غير متعين في موجود دون آخر. فلا يصدق عليه وصف إلا الإطلاق، و في الإطلاق تنزيهه.
و لكن اللَّه من ناحية أخرى مشبه، و ذلك إذا نظرنا إليه من حيث تعينات ذاته في صور الوجود. فهو يسمع و يبصر مثلًا- لا بمعنى أن سمعه و بصره يشبهان سمع المخلوقات و بصرهم، بل بمعنى أنه متجل في صورة كل من يسمع و ما يسمع، و كل من يبصر و ما يبصر، أو أنه جوهر كل ما يسمع و يبصر. و هذا تفسير للتنزيه و التشبيه يخرجهما لا شك عن معناهما الأصلي، و لكنه تفسير لا غنى عنه- لابن عربي- في تكوين فلسفته العامة في طبيعة الوجود. هذا التفسير هو أساس قوله بأن الحقيقة وحدة و كثرة، ظاهرة و باطنة، و حق و خلق، و رب و عبد، و أنها قديمة و حادثة، و خالقة و مخلوقة إلى غير ذلك من المتناقضات التي لا يكل قلمه عن ترديدها.
و التنزيه و التشبيه بهذا المعنى متضايفان متكاملان لا يقوم أحدهما بدون الآخر. هذا إذا قلنا بثنوية الصفات: حق و خلق، إله و عالم، وحدة و كثرة.
أما إذا وقفنا عند الوحدة الوجودية فقط، فليس هنالك ما يقال!. و هذا ما يدفع بنا إلى ذكر نوع آخر من التنزيه تكلم عنه ابن عربي، و هو التنزيه الذي تتصف به الذات الإلهية في ذاتها، بعيدة عن كل تعين، مجردة عن كل نسبة إلى الوجود الخارجي. و لكن هذا التنزيه- و يظهر أنه يشير به إلى التنزيه المطلق الذي أشرنا إليه- لا يدركه عقل، و لا يمكن أن يدركه عقل، بل إن مجرد إدراك العقل له تحديد، و هو فوق كل تحديد. و لهذا قال: «اعلم أيدك اللَّه بروح منه أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد و التقييد». و ليس هذا التنزيه الذي يشير إليه إلا التنزيه المطلق. لأن التنزيه حكم، و الحكم تقييد و تحديد للمحكوم عليه. و غاية المنزِّه أن يقول إن اللَّه تعالى
مخالف لجميع الحوادث، و هذا القول في نفسه تحديد و تقييد.
و لذلك لم يرتض من معاني التنزيه إلا المعنى الذي شرحناه.
و المنزه في نظره- إذا فهم التنزيه بالمعنى الثاني- إما جاهل و هو الفيلسوف الذي ينكر الشرائع و ما ورد فيها، و إما سيِّئُ الأدب و هو المعتزلي الذي يقول بالتنزيه المطلق و كأنه يتجاهل ما ورد في القرآن من آيات صريحة تشعر بالتشبيه.

(2) «فإن للحق في كل خلق ظهوراً ... فالحق محدود بكل حد».

(2) هذه الجملة من أصرح ما قال به ابن عربي في التعبير عن وحدة الوجود و عن ناحيتي التنزيه و التشبيه اللتين أسلفنا ذكرهما.
 يقول: فهو (أي الحق) الظاهر في كل مفهوم (أي مدرك بالفهم) و هو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال إن العالم صورته و هويته». فظهور الحق تقييده و هذا هو التشبيه، و بطونه إطلاقه و هو التنزيه. و لذلك إذا أردنا أن نضع له تعريفاً وجب أن يؤخذ في التعريف الظاهر و الباطن جميعاً. و قوله «فيؤخذ في حد الإنسان مثلًا ظاهره و باطنه» يمكن أن يفسر بمعنى فإن أريد تعريف الإنسان مثلًا وجب أن يؤخذ في التعريف ظاهره (أي الإنسان) و باطنه، بأن يشير التعريف إلى حيوانيته و عقله.
و يمكن أن تفسر على أن الضمير في ظاهره و باطنه يعود على الحق: أي يؤخذ في تعريف الإنسان ما بطن فيه من الحق و ما ظهر.
و على الاعتبار الأول يكون تعريف الإنسان بأنه الحيوان الناطق مثالًا لما يجب أن يكون عليه تعريف الحق أو تعريف أي شي ء من أنه يشمل الظاهر و الباطن.
و على الاعتبار الثاني يكون تعريف الإنسان مثالًا يتبين فيه كيف تدخل صفات الحق الظاهرة و الباطنة في تعريفات الأشياء، إذ أن النطق في الإنسان مظهر من مظاهر الاسم «الباطن» و الحيوانية مظهر من مظاهر الاسم «الظاهر»: و هما من الأسماء الإلهية. هذا هو التفسير الذي ارتضاه كل من القيصري و بالي في شرحهما على الفصوص. راجع الأول ص 82 و الثاني ص 68. و إذا أخذ في تعريف الشي ء ظاهره و باطنه، وجب أن نأخذ في تعريف الحق ظاهره و باطنه أيضاً.
أما باطنه فهو الذات الأحدية، و أما ظاهره فالعالم بجميع ما فيه. فيلزم منه أن يحتوي تعريف الحق جميع تعريفات الموجودات.
و إلى ذلك الإشارة في قوله «فالحق محدود بكل حد» أي أن حدّه مجموع حدود الأشياء.
و لكن لما كانت صور العالم لا تتناهى و لا يحاط بها، و لا تعلم حدود كل صورة إلا بقدر ما حصل لكل عالم من العلم بصورته، استحال الوصول إلى حد للحق، كما استحالت المعرفة الكاملة به. فعلى قدر علم العالم بنفسه يكون علمه بربه، و على قدر معرفته بحده لنفسه و لغيره يكون حده لربه. و هذا معنى العبارة المأثورة: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»
و معنى قوله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ». 
يقول ابن العربي: «من حيث إنك صورته و هو روحك» فيفهم «الحق» على أنها اللَّه لا الحقيقة: أي حتى يظهر للناظر في الآفاق و في نفسه أن الذي رآه هو الحق.


(3) «و صور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلًا ... لا بالمجاز» .
(3) يقول: «و صور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلًا» لما سبق أن ذكرناه من أن الصورة لا تقوم بذاتها، و أن كل صورة في الوجود تفتقر إلى الحق. 
فلا يمكن أن يزول الحق عن العالم و يبقى العالم عالماً، كما لا يمكن أن تزول الحياة عن الإنسان و يبقى إنساناً، أو يقال فيه إنه إنسان إلَّا على سبيل المجاز فقط. و قوله:
«فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز» يمكن أن تفهم على وجهين، فإن الهاء في له إما أن تعود على العالم و إما أن تعود على الحق. فإن أعدنا الضمير على العالم كان معنى الجملة أن العالم له صفة الإلهية من جهة أن الحق فيه على الدوام لا يزايل صورته، و أن صفة الإلهية تطلق على العالم بطريق الحقيقة لا المجاز، لأن الحق موجود بالفعل في صورة العالم يدبرها كما تدبر الروح جسم الإنسان و هو حي.
فإن زالت الحياة عن الإنسان لا يقال فيه إنه إنسان على الحقيقة.
و كذلك إن زال الحق عن صورة العالم لا يقال إنه عالم على الحقيقة. و لكن الحق لا يمكن زواله عن صورة العالم أصلًا، لذلك كان وصف الإلهية- الذي هو للحق بالأصالة- وصفاً للعالم أيضاً على طريق الحقيقة لا المجاز.
و يظهر أن هذا هو المعنى المراد لأنه يتمشى مع ما يلي من النصوص.
و يمكن أن يعود الضمير في «له» على الحق، و يكون معنى الجملة أن الحق لما كان موجوداً بذاته في صور العالم لا يُزَالُ عنها أصلًا، و لما كان العالم صورة له تتجلى فيها صفاته و أسماؤه، كان وصف الحق بالألوهية وصفاً حقيقيًّا لا مجازياً، لأن العالم مألوه يفتقر في وجوده إلى إله و وجود المألوه يفترض وجود الإله لا محالة.
غير أن معنى الحقيقة و المجاز لا يظهر في هذه الحالة ظهوره في الحالة الأولى.
و الواقع أنه لا فرق في مذهب يقول بوحدة الوجود كمذهب ابن عربي أن تنسب الألوهية للحق من وجه أو إلى العالم من وجه آخر، فإن الحقيقة واحدة في الحالين و إن اختلفت بالاعتبار. يؤيد ذلك ما يقوله في الفقرة التالية مباشرة من أن اللَّه هو المثنِي و المثنَى عليه. فإن جميع ما في الوجود من كائنات ناطقة و غير ناطقة روحية أو مادية، حية أو غير حية، تلهج بالثناء على اللَّه بمعنى أنها مظاهر تتجلى فيها عظمته و كماله، و لكنه ثناء صامت لا يدركه الإنسان عادة- و لذلك قال: «وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (قرآن س 17 آية 46). و لكن إلى الحق ترجع عواقب ذلك الثناء. فالثناء منه و عليه: منه لأنه الظاهر في صورة المثني: و عليه لأنه الباطن الذي يوجه كل الثناء إليه.

(4) «فإن قلت بالتنزيه ... الأبيات».
(4) هذه الأبيات تلخص لنا مذهب ابن عربي في التشبيه و التنزيه، و قد شرحنا معناهما فلا داعي للمزيد في هذا الشرح.
و لكنا سنجمل معنى الأبيات إجمالًا في صورة أبسط و أدنى إلى الفهم.
إن قلت بالتنزيه المطلق وحده قيدت الحق لأن كل تنزيه فيه معنى التقييد.
و إن قلت بالتشبيه وحده، قيّدت الحق و حصرته.
و الصحيح أن تقول بالتنزيه و التشبيه معاً من وجهين مختلفين، و هذا هو ما تقتضيه المعرفة الصوفية.
إن الذين يثبتون وجود الحق و الخلق- اللَّه و العالم- على أنهما وجودان مختلفان و حقيقتان منفصلتان مشركون. و الذين يقولون بوجود حقيقة واحدة مفردة موحدون.
فإن قلت بالاثنينية فاحذر التشبيه و إلا وقعت في التجسيم.
و إن قلت بالفردية، فاحذر التنزيه المطلق، لأن في ذلك إغفالًا لوجود العالم الذي هو أحد وجهي الحقيقة الفردية.
و إذا فهمت من التنزيه الإطلاق، و من التشبيه التقييد، و نظرت إلى الحق على أنه في عين الوجود مسرَّحاً و مقيداً، أدركت أنك هو من وجه، و أنك لست هو من وجه. قارن ما ورد في الفص السابع في الصلة بين الحق و الخلق.
و يلتمس ابن العربي- كعادته- أساساً من القرآن يبني عليه نظريته في التنزيه و التشبيه فيقول: إن قوله تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ، وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» تعبر عن هذا المعنى أحسن تعبير. فإننا إما أن نعتبر الكاف في قوله «كَمِثْلِهِ» زائدة و بذلك يصبح معنى الآية ليس مثله شي ء و هو تنزيه- و باقي الآية و هو قوله «وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» تشبيه لأنه وصف للحق بأوصاف المحدثات التي تسمع و تبصر. و إما أن نعتبر الكاف في قوله «كَمِثْلِهِ» غير زائدة، و بذلك يصبح الجزء الأول من الآية ليس مثل مثله شي ء، و هذا تشبيه لأنه أثبت المثل للَّه و نفى مثل المثل. و قوله «وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» تنزيه بمعنى أنه وحده الذي يسمع و يبصر في صورة كل من يسمع و يبصر. فالآية- في نظره- تجمع بين التنزيه و التشبيه في كلتا الحالتين.

(5) «فإن القرآن يتضمن الفرقان».
(5) استعملت الكلمتان في القرآن للدلالة على التنزيل الحكيم، أما ابن العربي فيستعملهما هنا بمعنى التفرقة و الجمع، كما لا يفهم الصوفية عادة من مقامي التفرقة (أو الفرق) و الجمع - بل بمعنى أن الفرقان هو الدعوة إلى تنزيه اللَّه تعالى دون تشبيهه، و أن القرآن هو الدعوة إلى الجمع بين التنزيه و التشبيه. 
فمن يدعو إلى تنزيه اللَّه- كما فعل نوح- و لا يلتفت إلى التشبيه، كان فرقانياً.
و من يدعو إلى تنزيهه و تشبيهه معاً- كما فعل محمد- كان قرآنياً.
و لا أظن أن ابن العربي استعمل كلمة القرآن بهذا المعنى لأن المنزَّل عليه القرآن جمع في دعوته بين التنزيه و التشبيه، بل وجد أن من معاني «قرأ» الجمع و الضم فاستعمل كلمة القرآن هذا الاستعمال الغريب.
و يدور هذا الجزء من الفص- من قوله: «لو أن نوحاً عليه السلام جمع لقومه بين الدعوتين» إلى الآخر حول مشكلة التنزيه و التشبيه مستخلصة من الآيات القرآنية الواردة في سورة نوح من الآية 5 - 28، بعد أن يلجأ المؤلف في تفسيرها إلى نوع غريب حقاً من التأويل يشهد له بالعبقرية، و لكنه كان في غنى عنه- هنا و في أي مقام آخر استشهد بالقرآن ليؤيد نظريته في وحدة الوجود- لو أنه فضل الصراحة في القول و جهر به بدلًا من الدوران حول النصوص و تأويلها إلى غير معانيها و تحميلها ما لا تحتمل.
يتمثل لنا نوح في هذه الآيات في صورة الرجل الذي يدعو قومه إلى مطلق التنزيه فيتصامون عنه و لا يعيرونه التفاتاً، لأنها دعوة إلى مستحيل- إلى شي ء مجرد لا يمت لهم بصلة و لا يعرفون عنه شيئاً، بل لا يمكنهم أن يعرفوا عنه شيئاً.
دعاهم إلى «الفرقان» - إلى إله منزَّه مخالف لجميع المحدثات- فلم يفهموا دعوته، و لو دعاهم إلى «القرآن» فجمع في دعوته بين التنزيه و التشبيه، و بيَّن لهم وجهي الحقيقة للبّوا دعوته و فهموا مقصده.
و يلتمس ابن العربي كل سبب ليجعل من الإسلام مذهباً في وحدة الوجود و ينسب إلى نبي الإسلام القول بهذه النظرية.
و هنا موقف من المواقف التي أراد أن يسجل فيها على القرآن و صاحب القرآن الدعوة إلى الحقيقة الواحدة التي هي من وجه منزهة و من وجه مشبهة.
و لكن القرآن و إن قال بالتنزيه و التشبيه، لا يستعملهما في المعنى الذي يقول به أصحاب وحدة الوجود. فقرآن ابن عربي الذي يقابله بالفرقان غير قرآن المسلمين، و إن كان التلاعب بالألفاظ قد يؤدي إلى الخلط بينهما.
يقول: «و لهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى اللَّه عليه و سلم و هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. فليس كمثله شي ء يجمع الأمرين (أي التنزيه و التشبيه) في أمر واحد». و لكن المعنى ليس بخاف الآن بعد الذي ذكرناه.

(6) «دعاهم ليغفر لهم».
(6) معنى الآية دعاهم نوح إلى اللَّه ليغفر اللَّه لهم ذنوبهم. و لكن «يغفر» هنا مأخوذة بمعناها الحرفي من غفر بمعنى ستر. و الستر ضد الكشف و الظهور.
و على ذلك يفهم ابن عربي الآية على معنى أن نوحاً عليه السلام دعا قومه إلى الستر المطلق لا إلى مقام الكشف و الظهور، لأن الحق المنزَّه سترٌ أو غيب محض لا تدركه العقول و لا الأبصار- و لم يَدْعُهُمْ إلى مقام الظهور و هو تجلي الحق في صور الموجودات.
و لذلك كان جوابهم سلسلة من أعمال الستر، فإنهم وضعوا أصابعهم في آذانهم و استغشوا ثيابهم إلخ، فكانت إجابتهم من مثل دعوته.

(7) «و هو في المحمديين «وَ أَنْفِقُوا ... » إلى قوله: كما قال الترمذي.
(7) الفرق بين قوم نوح و قوم محمد في نظر ابن عربي هو أن النوحيين ادعوا لأنفسهم الحق في المُلك الذي هو العالم و اعتبروا اللَّه وكيلًا عنهم متصرفاً فيهم.
و هذا ما جعل نوحاً يدعوهم إلى التنزيه. لأنهم من العالم و العالم منهم: أما الحق فهو الوكيل المنزه عن شئونهم. أما المحمديون (فيما يزعم ابن العربي) فادعوا أن المُلك للَّه و أن الإنسان خليفة اللَّه على المُلك أو وكيل اللَّه عنه فيه.
و هذا ما دعاهم إلى القول بالتنزيه و التشبيه. أما التنزيه فمن ناحية نسبة الملك إلى اللَّه على الحقيقة، و أما التشبيه فلنسبة الخلافة إلى الإنسان في مُلك اللَّه. قال تعالى «وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ».
و إذا عرفنا معنى الخلافة الانسانية في مذهب ابن عربي، أدركنا الإشارة بها إلى التشبيه.
فالإنسان خليفة اللَّه في العالم بمعنى أنه وحده هو الموجود الذي تتجلى فيه صفات اللَّه و أسماؤه في صورة كاملة كما شرحناه في الفص الأول.
أما الإشارة الواردة عن الترمذي فمذكور في الفتوحات المكية أيضاً (ج 2 ص 66) في إجابات ابن عربي عن المائة و الخمسة و الخمسين سؤالًا التي سألها الحكيم محمد بن علي الترمذي المتوفى سنة 285.
و السؤال الخاص بمالك الملك هو السؤال السادس عشر و نصه: «كم مجالس ملك الملك؟»

(8) «فأجابوه مكراً كما دعاهم».
(8) معنى هذه العبارة أن نوحاً لما دعا قومه إلى عبادة اللَّه على سبيل التنزيه قد مكر بهم و خدعهم. و يرى ابن عربي أن كل من يدعو إلى اللَّه على هذا الوجه يمكر بمن يدعوه و يخدعه. و ذلك أن المدعو مهما كانت عقيدته و مهما كان معبوده لا يعبد في الحقيقة إلا اللَّه، لأنه لا يعبد إلا مجلى من مجالي الحق في الوجود.
فدعوته إلى اللَّه مكر به، لأنها تحمله على الاعتقاد بأنه يعبد شيئاً آخر سوى اللَّه و ما في الوجود سوى.
أما مكر قوم نوح فظاهر من عبارتهم: «لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ، وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً»: لأنهم إن تركوا هذه الآلهة، فقد جهلوا من الحق على قدر ما تركوا. ذلك لأن للحق في كل معبود وجهاً لا يُعبَد المعبود إلا من أجله.
و هنا يفهم ابن عربي نصاً آخر من القرآن على أنه تقرير لوحدة الوجود من حيث صلتها بعبادة اللَّه فيقول في (مذهب) المحمديين: «وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» أي حكم: بمعنى قدَّر أزلًا أنكم لن تعبدوا إلا إياه، لا بمعنى أمر أ لا تعبدوا سواه.
يدل على ذلك قوله في العبارة التالية «فالعالِم يعلم من عُبِدَ، و في أي صورة ظهر حتى عُبِدَ».

(9) «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا».
(9) هنا خلط عجيب بين الآيات القرآنية و تخريج أعجب. يقول المؤلف: «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ» لأنفسهم المصطفين الذين أوتوا الكتاب- أول الثلاثة».
أخذ الظالمين في قوله: «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» (سورة نوح آية 25) بمعنى الظالمين في قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ» (سورة فاطر آية 29).
و لذلك وصفهم بأنهم أول الثلاثة الذين أورثهم اللَّه الكتاب و اصطفاهم من بين عباده.
فهم ليسوا ظالمين على الإطلاق فتحقق عليهم الدعوة بالضلال، و لكنهم ظالمون لأنفسهم، لأنهم حرموا نفوسهم متع الحياة و زهدوا في الدنيا و ما فيها و وصلوا إلى مقام الفناء في اللَّه.
و جعلهم أول الثلاثة المصطفين لأن الذي وصل إلى مقام الفناء في الذات و اتصف بجميع صفات الكمالات أفضل من المقتصد و هو المعتدل الذي يلزم طريق التوسط في الأمور، و من السابق بالخيرات.
هذا هو المعنى الذي أراد ابن عربي أن يفهمه من كلمة «الظالمين» الواردة في الآية. أما كلمة الضلال، ففهمها على أن المراد بها «الحيرة»، و الحيرة التي هي نوع خاص، هي حيرة الصوفي يرى الحق في كل شي ء، و يرى الواحد كثيراً، و الكثير واحداً، و الأول آخراً و الآخر أولًا، و الظاهر باطناً و الباطن ظاهراً إلى غير ذلك من الأمور المتناقضة التي توقع في الحيرة.
و لكنها ليست حيرة الارتباك و قصور الفهم، بل حيرة النفس الهائمة على وجهها الدائبة الحركة في دائرة الوجود. من أي نقطة بدأت حركتها على محيط الدائرة وصلت إلى «الحق» الذي هو مركزها.
و لذلك يقول ابن عربي: «فالحائر له الدور و الحركة الدورية حول القطب»، و ليس القطب سوى اللَّه.
أما تسمية هذه الحيرة بالحيرة المحمدية فلسببين:
الأول ما ذكرناه من أن ابن عربي يعتبر القول بالتنزيه و التشبيه بالمعنى الذي يفهمه منهما في مذهبه في وحدة الوجود عقيدة محمدية.
و الثاني استناداً إلى الحديث الذي أورده الصوفية من أن النبي صلى اللَّه عليه و سلم قال: «رب زدني فيك تحيراً».
ظهر إذن أن الحيرة حيرتان :
حيرة الجهل التي تورث الارتباك و الألم و تولد اليأس و هي حيرة الفلاسفة الذين يعتمدون في فهم الوجود على العقل وحده.

و إليهم أشار ابن العربي بقوله: أصحاب الطريق المستطيل أي غير الدائري. و لم يستعمل كلمة المستقيم بدلًا من المستطيل لاحتمال أن يفهم من كلمة المستقيم معنى الصواب.
و الحيرة الأخرى حيرة العارف باللَّه- و هي التي طلب النبي الزيادة منها، لأن العارف بالحق، المشاهد لتجليه في مرآة الوجود، يفيض قلبه نوراً إذ تنعكس على صفحته تلك التحليات و يستولي عليه نوع من الحيرة، و لكنها حيرة العجب و الدهشة، و حيرة السعادة العظمى، و حيرة الوصول إلى المأمول لا حيرة الحرمان لعل لحظة من لحظات تلك الحيرة هي التي أنطقت الحسين بن منصور الحلاج حينما قال شطحته المشهورة: «أنا الحق! فإنني ما زلت أبداً بالحق حقاً».

(10) «قال نوح رب ما قال إلهي ... ثبوت التلوين».
(10) الربوبية صفة للَّه من حيث كونه رباً يُدعى و يستعان به و يتوكل عليه، و من حيث أفعاله و آثاره في الإنسان و في العالم برمته.
و الألوهية صفة للَّه من حيث كونه إلهاً يعبد و يقدس و يجل و يكرم و يخشى إلخ.
و أخص صفات الربوبية أن الرب مسئول و المربوب سائل، و أخص صفات الألوهية أن الإله معبود و المألوه عابد.
و لهذا جاءت الشريعة في العبادة باسم اللَّه و في السؤال باسم الرب.
فيقول المصلي:
«اللَّه أكبر» «سبحان اللَّه» «لا إله إلا اللَّه».
و يقول في الدعاء: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ» «رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» إلخ.
هذا هو الاصطلاح العام، أما اصطلاح ابن عربي الخاص فالرب هو الحق في صفة من صفاته. و لهذا يطلق على الأسماء الإلهية اسم الأرباب.
أما اللَّه فاسم يطلق على الذات العلية متصفة بجميع الصفات.
و على هذا التعريف يفرق بين الربوبية و الألوهية فيقول إن الألوهية دائمة التلوين- أي دائمة التغير لأن اللَّه دائم التجلي في الصور. أما الربوبية التي لكل اسم من الأسماء الإلهية فثابتة له لا تتغير.
و لهذا وجب علينا في السؤال أن ندعو اللَّه باسم خاص يتصل بقضاء حاجاتنا.
فيجب على المريض مثلًا أن يدعوه باسم الشافي، و على المذنب أن يدعوه باسم العفوّ أو الغفور، و على المحتاج أن يدعوه باسم المعطي و هكذا.
«فثبوت التلوين» إذن من صفات اللَّه الرب، لا من صفات اللَّه إطلاقاً. و المراد بالتلوين هنا الحال.
و هذا الجُزء من الفص رمزي إلى أقصى حد. و قد أشار المؤلف إلى بعض معاني ألفاظه، و بيّن أنه يستعملها في غير ما وضعت له عادة، و لكن المعنى الإجمالي لا يزال غامضاً.
لذلك أردنا تلخيصه ليعطي الصورة المرادة منه.
كان قوم نوح عبدة أوثان، فدعاهم إلى عبادة إله واحد منزه عن صفات المحدثات. و لكنهم أعرضوا عن دعوته لأنهم كانوا محجوبين عن الحقيقة المطلقة- اللَّه- بمعبوداتهم التي لم تكن في واقع الأمر سوى مجالي أسماء اللَّه.
فدعا عليهم نوح بالهلاك و الدمار بقوله: «لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً». و معنى هذا في أسلوب المؤلف الرمزي أنه دعا اللَّه أن يحرر هؤلاء القوم من قيود الوثنية التي تحصر «الحق» في هذا المجلى أو ذلك «و أن يمن عليهم بشهوده في كل مجلى معبود أو غير معبود. فكأنه دعا عليهم بالفناء الصوفي- لا بالدمار و الهلاك.
دعا عليهم بفناء الحجب لتنكشف لهم الحقيقة في إطلاقها. و قال: «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ» أي إن تتركهم و شأنهم أوقعوا الحيرة في قلوب الناس- و هي الحيرة المحمدية التي أشرنا إليها- بأن يدلوهم على ما في نشأتهم من عبودية و ربوبية، و ما فيها من خَلْقية و حقية. و هذه هي الحيرة التي
ينشدها كل صوفي يدين بوحدة الوجود. و هؤلاء الذين يوقعون الناس في الحيرة لا يلدون «إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً». و الفاجر من فجر بمعنى خرج و ظهر- أي الذي يظهر أسرار الربوبية بأن يظهر في مجاليها.

و الكافر من كفر بمعنى ستر و أخفى:
أي الذي يستر بصورته الخارجية ما استتر فيها من الذات الإلهية. و الواقع أنه ليس في الوجود إلا فاجر و كافر بهذا المعنى!
«وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً». سبق أن ذكرنا أن «الظالمين» فهمت على أن المراد بها الظالمون لأنفسهم (راجع هامش 9) و نذكر هنا أنها مشتقة من الظلام.
و الظلام أو العماء اسم لعالم الغيب: و الغيب المطلق هو اللَّه. فقوله لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي هلاكاً أو فناء و هذا دعاء لهم لا عليهم.

(11) «و من أراد أن يقف على أسرار نوح ... »

(11) هذه العبارة تشير إلى أن ابن عربي يؤمن بنظرية أرواح الكواكب، و أن لكل كوكب روحاً خاصاً به و علماً لا يشاركه فيه غيره. و لقد كان فلك الشمس دائماً منبع الأسرار يمد بها روح من اتصل بروحه من الكائنات الأرضية.
و قد ذكر المؤلف هذه المسألة في كتابه المعروف باسم التنزلات الموصلية، و أشار إلى المعارف و الأسرار التي استمدها نوح من روح فلك الشمس و هي التي يسميه «يوح».
يوجد كتاب التنزلات مخطوطاً بدار الكتب المصرية رقم 340 مجاميع.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس أغسطس 01, 2019 6:37 pm

04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسيَّة .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإدريسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
04 - الفص الرابع فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسيَّة
(1) إدريس: أشار إليه في الفص الثاني و العشرين باسم إلياس و نسب إليه الحكمة الإيناسية.
(1) تضارب أقوال مؤرخي الإسلام و المفسرين كل أنواع التضارب في وصف هذا النبي، و جعلوا منه شخصية أسطورية أكثر منها حقيقية.
و قد بلغ تناقضهم في الرأي أقصاه عند ما تكلموا في الزمن الذي عاش فيه و الحياة التي حييها.
ويظهر أنهم نقلوا ما ورد إليهم عنه من المعلومات نقلًا خلا من كل نقد و تحليل.
وربما كان لهم بعض العذر في ذلك: فإدريس أقدم من الإسلام و المسلمين.
و قد وقع الخلط في أمره منذ بدأ الناس يكتبون عنه، أو عن الشخصية الأسطورية الأخرى المعروفة باسم «هرميس» الذي قال كتاب العرب إنه النبي إدريس.
فإن الكتابات التي كتبت عن «هرميس» في القرنين الأولين بعد الميلاد ملأى بالفوضى و الاضطراب و لا غرابة في ذلك فقد كان ذلك العصر أحفل عصور الثقافة الهلينية جميعها بأنواع المزج و التلفيق الفكري.
كان «هرميس» عند الإغريق اسماً لعطارد الذي سموه فيما بعد باسم «طوط» الإله المصري القديم المعروف بإله القمر، و المشهور بعلوم الرياضة و الفلك و علوم الحكمة بوجه عام.
ثم أصبح في وقت من الأوقات إله العالم العقلي عند الإغريق و المصريين على السواء، و إن كان المصريون أضافوا إلى مهماته مهمة اختبار أرواح الموتى لمعرفة مدى أهليتها و استحقاقها للدخول في فلك الشمس.
و قد لعب «هرميس» دوراً هاماً في تطور الفكر الهليني المتأخر، و نسب إليه
عدد غير قليل من الكتب في الحكمة و علوم الأسرار- السحر و علم النجوم و الكيمياء.
و بعض هذه الكتب مزيج غريب من الفلسفة الأفلاطونية و الفلسفة المصرية القديمة مع شيء من الأساطير اليونانية.
فلما فتح العرب مصر و الشام وجدوا تلك المؤلفات الهرميسية، لا في صورتها الأصلية، بل بعد أن عمل فيها التفكير اليهودي عمله و ترك فيها طابعه الخاص. وسرعان ما اقتبسوا منها وتمثلوا أفكارها و أضافوا إلى هذه الأفكار أو نقصوا منها.
فبعد أن كان هناك هرميس واحد أصبح الهرامسة عند العرب ثلاثة:
الأول هرميس الذي هو «أخنوخ» و هذا هو الذي سموه إدريس.
يحكي القفطي و اليعقوبي و ابن أبي أصيبعة أنه عاش في صعيد مصر قبل الطوفان، و أنه جاب أقطار الأرض باحثاً عن الحكمة ثم رفعه اللَّه إليه.
قالوا و قد كان أول من تكلم في الجواهر العلوية و حركات الأفلاك إلخ إلخ. و لا داعي لذكر باقي الهرامسة لعدم حاجتنا إليهم هنا.
و ليس هناك من شك في أن العرب قد عرفوا بعض الكتب الهرميسية، و الكتب التي ترجمت حياة هرميس. يقول القفطي إنه نقل بعض صفحات من كتاب لهرميس في الحديث الذي دار بينه و بين طوط.
و ليس هناك من شك أيضاً أن بعض مؤلفات كبار المسلمين مثل رسالة حي ابن يقظان لابن سينا و مؤلفات ابن العربي  و السهروردي المقتول تمت بصلة وثيقة إلى الكتابات الهرميسية. فحي بن يقظان مثلًا ليس إلا اسماً وضعه ابن سينا للعقل الفعال الذي يشرح أسرار الكون على نحو ما يشرح بومندريس في الكتابات الهرميسية أسرار الوجود لابنه طوط.
و ليس إدريس في فصنا هذا سوى روح مجرد يَسكن فلك الشمس، و هو الفلك الذي قال قدماء المصريين إنه مقام روحانية هرميس و وكلوا إلى هرميس اختيار أرواح الموتى قبل دخولهم فيه.
و يبحث هذا الفص في بعض نواحي المسألة الكبرى التي بحث فيها الفص السابق، أعني مسألة التنزيه الإلهي، و لذلك سمي بالحكمة القدوسية في حين سمي سابقة بالحكمة السبُّوحية:
و القدوس و السبُوح من أسماء اللَّه و معناهما المنزه، و إن كانوا يقولون إن القدوس أخص في معنى التنزيه من السبّوح .
و أبلغ: إذ التسبيح تنزيه اللَّه عن الشريك و عن صفات النقص كالعجز و أمثاله، في حين أن التقديس تنزيه اللَّه عما سبق و عن كل صفات الممكنات و لوازمها- حتى كمالاتها- و عن كل ما يتوهم و يتعقل في حقه تعالى من الأحكام الموجبة للتحديد و التقييد.
بعبارة أخرى التقديس هو نهاية التجريد، و لا يقول به إلا النفوس المجردة التي لا صلة لها بالعلائق المادية.
ولذلك نسب في هذا الفص إلى إدريس، و هو النبي الذي رفعه اللَّه إلى السماء بعد أن خلع عنه بدنه و قطع علاقته بالعالم المادي كما تقول بذلك الأخبار.
والفرق بين تنزيه نوح و تنزيه إدريس أن تنزيه الأول عقلي و تنزيه الثاني ذوقي.
و الذي لا شك فيه عندي أن ابن العربي  لا يذكر نوحاً أو إدريس أو غيرهما من الأنبياء، على أنها شخصيات تاريخية حقيقية، و لا يصورها لنا التصوير الذي نعرفه في القرآن أو غيره من الكتب المقدسة، و إنما هي مثل يضربها و أدوات يستخدمها في شرح أجزاء مذهبه.
فليس نوح عنده إلا مثالًا للرجل الذي يقول بتنزيه اللَّه تعالى متبعاً في ذلك مجرد العقل، غير ناظر إلى ما ورد في القرآن من آيات التشبيه، و غير مؤمن بأن للحق صوراً و مجالي في الوجود العالمي.
و ليس إدريس عنده كذلك إلا مثالًا لما يمكن أن تكون عليه النفس المجردة في موقفها من اللَّه.
و هذه النفس- إن وجدت- لا يمكن أن تقف من اللَّه إلا موقف التقديس بالمعنى الذي شرحناه.


(2) العلو:
(2) ومن لوازم القول بالتقديس وصف اللَّه بالعلو: وهو وصف ورد في القرآن الكريم: و العلي من أسماء اللَّه الحسنى.
و لكن ما ذا عسى أن يكون معنى «العلي» و معنى «العلو» في مذهب يقول بوحدة الوجود؟ نظر ابن العربي  إلى الخلق فوجد أن اتصاف أي مخلوق بالعلو إما من أجل المكان أو من أجل المكانة (أي المنزلة).
و أن علو المخلوق لا يكون له لذاته، بل يوصف به لعلو مكانه أو مكانته، بحيث لو زالت صفة العلو عنهما زالت عنه.
بل إن الوصف بالعلو قد يأتي نصاً في المكان أو المكانة. يقول اللَّه تعالى «وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا». و نقول نحن في فلان إنه في مكانة عالية من قومه.
فالإنسان، و هو أعلى الموجودات، ينسب له العلو بالتبعية إما إلى المكان و إما إلى المكانة.
و قد وصف اللَّه تعالى نفسه بالعلو فقال: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى»، و قال «وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» *. و لكن ابن العربي  يتساءل: «على مَنْ و ما ثم إلا هو؟»
و «عن ما ذا و ما هو إلا هو»؟
أي على أي شي ء من الموجودات عَلَا الحق و ليس في الوجود إلا هو؟ و عن أي شي ء استفاد الحق العلو و لا شي ء إلا و هو هو؟ إنه عين الموجودات من حيث وجودها، فلا يمكن إذن أن نفاضل بينه و بينها، لأن العلو الذي يسمح بالمفاضلة هو العلو بالاضافة، و علو الحق علو بذاته لا بالاضافة.
و لكن للأمر ناحية أخرى فإن هذه الكثرة الوجودية التي نسميها العالم و ننسب إليها العلو الإضافي ليس لها في ذاتها وجود حقيقي، و إنما يرجع وجودها إلى الذات الواحدة أو العين الواحدة التي لها العلو بالذات. إن الكثرة وهمية لا حقيقية، و كذلك ما نصفها به من العلو. و لذلك ينفي ابن العربي  عن العالم علو الإضافة من هذه الناحية.
و خلاصة القول أننا إذا راعينا الوحدة في ذاتها، نسبنا إليها العلو المطلق الخالي من كل مفاضلة و من كل إضافة، و نفينا العلو الإضافي بين الموجودات. و إذا راعينا الوحدة في الكثرة أثبتنا العلو الإضافي، و لكن نسبناه إلى الوحدة من حيث تعدد وجودها.
و إذا راعينا الكثرة وحدها نسبنا إليها العلو الإضافي. أما العلو الذي يقتضي المفاضلة
بين اللَّه و العالم، فلا مكان و لا معنى له في مذهب ابن العربي .


(3) وهو فكل الشمس .... و كرة التراب
(3)  بعد أن ذكر المؤلف أن اللَّه لما رفع إدريس إليه أسكن روحه المجردة في فلك الشمس، أراد أن يبين أن هذا الفلك أعلى الأفلاك كلها. أي أعلاها في المكانة لأنه المحور أو القطب الذي تدور عليه جميعها.
وذكر خمسة عشر فلكاً- منها ما هو فلك بالمعنى العلمي الاصطلاحي و منها ما هو في الحقيقة غير فلك، و لكنه عد الجميع أفلاكاً كما سنرى. تصور فلك الشمس في وسط الأفلاك، و ذكر سبعة فوقه، هي فلك المريخ (الأحمر)، و فلك المشتري، و فلك كيوان (زحل)، و فلك المنازل، و الفلك الأطلس (أي الذي لا كوكب فيه) و هو فلك البروج، و فلك الكرسي، و فلك العرش.
و الظاهر- كما يقول القاشاني- أنه يريد بهذين الأخيرين النفس الكلية و العقل الكلي و هما من مراتب الوجود و لكنه سماهما فلكين مجازاً، كما سمى كرة الماء و كرة التراب إلخ أفلاكاً مجازاً.
وتحت فلك الشمس سبعة أفلاك أخرى هي: فلك الزهرة، و فلك الكاتب (أي عطارد) و فلك القمر، و كرة الأثير، و كرة الهواء، و كرة الماء، و كرة التراب.
ليس لهذا الوصف نظير في كلام الفلكيين و لا كلام الفلاسفة بل هو مزيج غريب من الفلك و الفلسفة و القرآن فقد أضاف صاحبنا إلى أفلاك الكواكب العناصر الأربعة التي قال بها أنباذقليس، كما أضاف العرش و الكرسي اللذين ذكرهما القرآن.
وقد ذكر هو نفسه أنه خرج على المألوف عند أصحاب الفلك و الفلاسفة في كتابه الفتوحات المكية (ج 2 ص 895) حيث يشرح المسألة بالتفصيل.
فهو يسمي الفلك الأطلس مثلًا فلك التكوين- أي فلك الكون و الفساد- و يقول إنه هو فلك البروج. و الفلكيون يسمون فلك البروج فلك المنازل.
و لكن الظاهر أن ابن العربي  لا يريد أن يضع نظرية فلكية هنا، و إنما يريد أن يشير إلى مراتب الوجود أعلاها و أدناها.


(4) وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ
(4)  لم يشأ ابن العربي  أن يفهم «وَ اللَّهُ مَعَكُمْ» على معنى و اللَّه في عونكم، أو و اللَّه ينصركم أو ما شاكل ذلك، بل فهم المعية في قوله «مَعَكُمْ» بمعنى المشاركة- فأصبح معنى الآية و أنتم الأعلون و اللَّه معكم في هذا الوصف أو في هذا العلو.
و لكن هذا الفهم للآية لا يستقيم حتى مع ما ذكره هو نفسه من أنواع العلو، و ما قرره من الصلة بين اللَّه و العالم.
فإنه قسّم العلو إلى إضافي و ذاتي، و قال إن العلو الإضافي لا يكون إلا في الموجودات الممكنة- فيقال هذا الشي ء أعلى من ذلك- أو في الحق إذا نظر إلى ذاته الظاهرة بصور الموجودات الممكنة.
و لكن هذه الموجودات المتكثرة ليست شيئاً آخر غير الذات، فالمعية إذن لا معنى لها لأن المعية تشير إلى الاثنينية و ليس في الأمر اثنينية على الحقيقة.
أما إذا فهمنا «العلو» على أنه العلو الذاتي، فلا يكون إلا للحق الظاهر بصور الموجودات لا للموجودات نفسها.
و على هذا الوجه لا معنى للمعية أيضاً لأنه لا مشاركة في هذا النوع من العلو.


(5) والعين واحدة من المجموع في المجموع .
(5) بعد أن أفاض في شرح العلو الإضافي والعلو الذاتي وقال إن الأول توصف به الموجودات الحادثة كالملائكة والناس من أجل مكانة عالية وضعهم اللَّه فيها، وإن العلو الذاتي لا يوصف به إلا الحق، نظر إلى المسألة نظرة أخرى في ضوء مذهبه في وحدة الوجود.
قال: إن الحقيقة واحدة وإن تكثرت بالصور و التعينات.
بل إن تكثرها بالصور تكثر وهمي قضى به حكم العقل القاصر غير المستند إلى الكشف والذوق.
ولو كشف الحجاب عن العقل لرأى الكل في واحد، و لرأى «أن العين واحدة
من المجموع في المجموع» ليست الكثرة الوجودية إلّا صوراً للمرايا الأزلية التي ترى فيها ذات الحق و صفاته و أسماؤه.
و هذه المرايا الأزلية هي الأعيان الثابتة للموجودات و هي على ما هي عليه من العدم- ما شمَّت رائحة للوجود الخارجي، لأنها ليست سوى صور معقولة في العلم الإلهي.
فالكثرة الخارجية إذن- إن قلنا بوجودها- حقيقة واحدة في جوهرها، أو هي مجالٍ كثيرة لحقيقة واحدة.
فالعلو إذن ليس قاصراً على شي ء دون شي ء- لأن كل شي ء مظهر للحق العلي- بل هو صفة عامة لجميع الأشياء، و لكن في ذات واحد.
و لذلك قال: «فما في العالم (أي في جملته) من هذه الحيثية- أي من ناحية وحدته الذاتية- علو إضافة، لكن الوجوه الوجودية متفاضلة.
و إذا كان الأمر على ما وصفنا، و أن الوجود كله حقيقة واحدة: إن نظرنا إليه من وجه قلنا إنه حق و إن نظرنا إليه من وجه آخر سميناه خلقاً. أو إن نظرنا إليه من حيث الذات قلنا إنه واحد، و إن نظرنا إليه من حيث الصفات و الأسماء قلنا إنه كثير و متعدد،
و إذا كان الأمر كما قلنا: إن نظرنا إلى الوجود من حيث وحدته قلنا إنه عليٌّ بالذات، و إن نظرنا إليه من حيث كثرته، قلنا إنه عليُّ بالإضافة. أقول: إذا فهمنا كل ذلك أدركنا لم وُصِف الحق بالأضداد و لِمَ وُصِفَ أي شي ء في الوجود بالأضداد.
تقول في الحق إنه كذا من الموجودات- أي من حيث تعينه- و ليس بكذا، أي من حيث ذاته.
فهو هو بتقييده، و ليس هو بإطلاقه. و كذلك الحال في صفات الأضداد التي وُصِفَ بها الحق، كوصفه بأنه الأول و الآخر و الظاهر و الباطن.
فهو الأول و الباطن من حيث الذات، و هو الآخر و الظاهر من حيث الصفات و الأسماء، أو هو الأول و الباطن من حيث وحدته، و هو الآخر و الظاهر من حيث كثرته.
و هذا هو معنى قول أبي سعيد الخراز: «إن اللَّه لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد».
و ابن العربي  أشد ما يكون جرأة و أقرب ما يكون إلى القول بوحدة الوجود المادية حيث يقول: «فهو (أي الحق) ظاهر لنفسه باطن عنه، و هو المسمى أبا سعيد الخراز و غير ذلك من أسماء المحدثات».
أما قوله «و هو عين ما بطن في حال ظهوره» فمعناه أن الحق إذا ظهر في صورة من صور الوجود كان عين ما بطن و عين ما ظهر من ذلك الشي ء الذي ظهر بصورته، لأن الظهور و البطون أمران اعتباريان بالنسبة إلينا في حال نظرنا إلى الأشياء. أما فيما يتعلق بالحق فلا ناظر و لا منظور فالحق ظاهر. بنفس المعنى الذي هو باطن، و هو باطن بنفس المعنى الذي هو ظاهر. و كذلك الحال في صفات الأضداد الأخرى التي وصف الحق بها نفسه.


(6) فاختلطت الأمور و ظهرت الأعداد بالواحد .
(6) سبق أن أشرنا إلى التمثيل بالمرآة و الصور في شرح العلاقة بين الحق و الخلق أو الواحد و الكثرة، و هنا يشرح المؤلف نفس هذه العلاقة بتمثيل آخر هو التمثيل بالواحد و الأعداد.
فالموازاة تامة في نظره بين الواحد الحسابي والأعداد المتفرعة عن الواحد و المعدودات، و بين الذات الإلهية و الأسماء (أو أعيان الأسماء التي هي الأعيان الثابتة) و الموجودات الخارجية في العالم.
و كما أن الواحد الحسابي أصل جميع الأعداد لأن الأعداد ليست سوى مظاهر أو صور أو درجات فيه، كذلك الكثرة الوجودية ليست سوى مظاهر أو صور للذات الواحدة.
و لكن الأعداد حقائق معقولة لا وجود لها إلا في الذهن، فإذا وصفناها بالوجود الخارجي، وجب أن يكون ذلك من أجل وجودها في المعدودات.
كذلك الحال في الذات الواحدة و الأعيان الثابتة و الموجودات الخارجية.
فظهور الذات في صور الأعيان الثابتة هو ظهور لها في صور معقولة صرفة ليس لها وجود عيني خارجي.
فإذا وصفنا هذه الأعيان الثابتة بالوجود، وجب أن يكون ذلك من أجل وجودها في صور الموجودات الخارجية.
من هذا يتبين أننا لن ندرك حقيقة الوجود إدراكاً تاماً إلا إذا فهمنا الصلة بين الذات الإلهية و بين أسمائها و مظاهرها- كما أننا لن ندرك حقيقة معنى العدد إلا إذا فهمنا الصلة بين الواحد الحسابي و بين الأعداد و مظاهر الأعداد التي هي المعدودات.
و لكن يجب ألا يخرج هذا عن كونه مجرد تمثيل يريد ابن العربي  أن يوضح به نظريته، و هو مع ذلك تمثيل مع الفارق: فإن الواحد العددي معنى مجرد يوجد بجملته في كل عدد، و لا كذلك الحق في تعينه بصور الأعيان الثابتة، اللهم إلا إذا اعتبر الحق في إطلاقه مجرد معنى و هذا لم يقل به صراحة.
كل مرتبة من مراتب العدد حقيقة واحدة تتميز عن غيرها، و ليست مجرد مجموع من الآحاد. فالثلاثة مثلًا مجموع من الآحاد، و كذلك الأربعة و المائة و ما فوق ذلك و ما دونه، و لكن كلًا من هذه الأعداد حقيقة معقولة واحدة تختلف عن غيرها من الحقائق العددية الأخرى.
و يختلف كل عدد عن غيره بخصوصية فيه كما يختلف النوع عن غيره من الأنواع الداخلة تحت جنس واحد بخصوصية فيه هي الفصل النوعي.
وتشترك الأعداد كلها في أنها مجموع آحاد كما تشترك أنواع الجنس الواحد في صفات ذلك الجنس.
وبهذا المعنى نستطيع أن نقول إن عدداً ما هو عين عدد آخر ونستطيع أن نقول في الوقت نفسه إنه غيره. فهو عينه من حيث تكرر الواحد في كليهما، وهو غيره من حيث خصوصية كل منهما.
وهذا معنى قوله: «فما تنفك تُثْبِتُ عين ما هو منفي عندك لذاته».
ولكن يجب ألا يتبادر إلى الذهن أن النفي والإثبات واقعان على شي ء واحد باعتبار واحد وإلا كان في الحكم تناقض، بل هما واقعان على شي ء واحد باعتبارين مختلفين.
فإذا قلنا إن العدد «خمسة» هو عين العدد «ستة» كان ذلك باعتبار أن كلًا منهما هو «الواحد» مكرراً.
وإذا قلنا إنهما متغايران، كان ذلك باعتبار خصوصية كل منهما.
بل إن «العينية» نفسها مختلفة في الاعتبارين. فإذا قلنا إن خمسة عين ستة كانت العينية جزئية (أو غير مطلقة) وإذا قلنا إن خمسة ليست عين ستة كان المقصود هو العينية المطلقة.
على أن العبارة: «فما تنفك تثبت عين ما هو منفي» يمكن أن تفسر تفسيراً آخر على أن المراد بالمثبت والمنفي هو العدد «واحد»: فأنت تثبت وجود الواحد في الأعداد المركبة منه ولكنك تنفي وجوده في ذاته.
وهذا راجع إلى أنهم لا يعتبرون «الواحد» عدداً و إن كانوا يعتبرونه أصل جميع الأعداد.

(7) فَمَن الطبيعة و من الظاهر منها؟
(7) بعد أن انتهى من تشبيه العلاقة بين الحق والخلق بالعلاقة بين «الواحد» والأعداد و ذكر في عبارات جريئة وحدة الحق و الخلق بقوله فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق: كل ذلك من عين واحدة:
لا، بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة سأل: «مَنِ الطبيعة و من الظاهر منها»
و قال من الطبيعة؟
ولم يقل ما الطبيعة؟ دلالة على أنه يريد الإشارة إلى عاقل.
الطبيعة عنده اسم آخر للَّه، هي أشبه بقوة عامة سارية في الكون بأسره، سواء منه ما كان عنصري النشأة أو غير عنصري.
ويستعمل الفلاسفة «الطبيعي» في مقابلة العنصري ويقصرون الأول على الأجرام السماوية وحدها.
ولكن ابن العربي  يستعمل اسم الطبيعة ذلك الاستعمال الشامل ويقصد بها تلك القوة التي تعطي كل موجود صفاته وخصائصه- أو تعطيه على حد قولهم «طبيعته» من غير أن يعتريها في ذاتها نقص أو تغير.
هذا هو تعبيره الفلسفي، أما تعبيره الصوفي فهو أن الطبيعة هي الذات الإلهية متجلية في صورة الاسم «الموجد».
فكل ما ظهر في الوجود كان عن هذه «الطبيعة»، بل هو عينها لا تزيد شيئاً بما يظهر عنها ولا تنقص شيئاً بما لا يظهر.
وهذا كلام يذكرنا بما يقال اليوم من استحالة فناء المادة أو الطاقة. الطبيعة إذن هي الذات الإلهية السارية في الوجود بأسره. «وعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة.
لا، بل صورة واحدة في مرايا مختلفة». وقد سبق أن شرحنا معنى هذا كله.

( 8 )  و من عرف ما قلناه لم يَحَرْ، و إن كان في مزيد علم فليس إلا من حكم المحل .
( 8 )  يقول القيصري ص 116 «إنْ هنا يجوز أن تكون شرطية:
وعلى الأول (و هو أخذها بمعنى لو) يكون معناه و من عرف ما قلناه لم يحر.
و إن كان هذا العارف في مزيد العلم بالوجوه الإلهية كما قال عليه السلام رب زدني علماً، فليس عدم الحيرة هنا إلا من حكم المحل و هو العين الثابتة التي لهذا العارف ...
وعلى الثاني يكون معناه و إن كان التحير حاصلًا في مزيد العلم فليس ذلك التحير إلا من حكم المحل و هو عين الحائر».
و سواء فهمنا المعنى الأول و هو أن الذي عرف حقيقة الوجود على الوجه الذي شرحناه لا تعتريه حيرة حتى و لو كان في مقام الاستزادة من العلم، لأن عدم الحيرة حال ثابتة له من الأزل في عينه الثابتة.
أو على المعنى الثاني وهو أن الذي عرف حقيقة الوجود على نحو ما وصفناه لا تعتريه حيرة. فإن كانت حيرته حاصلة في استزادته من العلم فليست هذه الحيرة إلا حالًا ثابتة له أزلًا: سواء أكان هذا أم ذلك، فإن المؤلف يريد أن يقرر هنا حقيقة طالما أشار إليها.
و هي أن كل شي ء مقدر أزلًا لا انفكاك عنه و لا محيص منه حتى حالات النفس من حيرة أو عدم حيرة- من علم أو جهل. كل ذلك مقدر أزلًا في العين الثابتة لكل موجود، وهي المشار إليها هنا باسم المحل.

(9)  فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال ... و لا هي غيره
(9)  رجع إلى الكلام في العلو من ناحية جديدة: فذكر أن العلو الذاتي لا يكون إلا للَّه من حيث له الكمال المطلق المستغرق لجميع الموجودات و النسب.
وهذا معناه أنه يفهم الكمال على أنه التحقق الوجودي لا على أنه الكمال الأخلاقي، أي الأمر
المحمود عرفاً أو عقلًا أو شرعاً. بل الكمال عنده يشمل هذه كما يشمل الأمور الوجودية غير المحمودة عرفاً أو عقلًا أو شرعاً. فاللَّه هو العلي بذاته من ناحية أنه الموجود المطلق المتصف بكل نعت الظاهر بصورة كل منعوت.
و لذلك قال: «و ليس ذلك (أي العلو) إلا لمسمى اللَّه خاصة». وأما غير مسمى اللَّه فإما أن يكون مجلى له أو صورة فيه.
فإذا كان مجلى وقع التفاضل بينه و بين غيره من المجالي في صفة العلو.
و إن كان صورة فيه- و المراد بالصور هنا أسماء اللَّه تعالى- كان للصورة نفس الكمال الذاتي الذي لمسمى اللَّه لأنها عينه، إذ الاسم عين الذات في رأيه. وهذا رأي قال به المعتزلة من قبل و لكنه يفضل أن ينسبه إلى صوفي هو أبو القاسم بن قَسِي.
أما قوله: «و لا يقال هي هو و لا هي غيره» فالمراد «بهو» مسمى اللَّه خاصة أو الحضرة الأسمائية و هذا يختلف عن «هو» بمعنى الذات الإلهية.
و إذا كانت أعيان الموجودات معتبرة صوراً للذات الواحدة كما هي صور للأسماء الإلهية، أمكننا أن نقول إنها هي الذات بالمعنى الذي أشرنا إليه سالفاً: أي إذا أردنا أن نقرر وجود الذات. ولكننا يمكننا أن نقول أيضاً إن صور الموجودات هي هو إذا فهمنا هو على أنه مسمى الذات- اللَّه- أي أنها هي هو بمعنى أنها مجال أو مظاهر لوجوده، لا بمعنى أن أي مجلى منها هو الذات إطلاقاً كما قال المسيحيون في المسيح.
وفي الوقت نفسه لا معنى لقولنا إن أي مجلى من المجالي هو غير الذات لأنه لا يوجد غير!
على أن العبارة يمكن فهمها فهماً آخر إذا أعدنا الضمير «هي» على الصورة الواردة في قوله: «فالذي لمسمى اللَّه هو الذي لتلك الصورة».
وقد شرحنا إن المراد بالصورة الاسم الإلهي أياً كان. فمعنى الجملة على هذا أن الاسم الإلهي أياً كان لا يقال فيه إنه هو عين الذات المتصفة بجميع الأسماء كما لا يقال إنه غيرها.


(10)  أبو القاسم ابن قسي
(10) هو الصوفي الأندلسي أبو القاسم بن قسي شيخ طائفة المريدين، و من كبار المشايخ الذين كان لهم نفوذ وآمال سياسية و روحية في عصره.
قاد طائفته في ثورة جريئة ضد المرابطين في الأندلس، ولكنه باء بالفشل وقتل في معركة سنة 546 هـ.
والذي يهمنا من أمره هنا هو أنه ألف كتاباً في التصوف سماه «خلع النعلين» إشارة إلى قوله تعالى: « إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى » (قرآن طه 20 آية 12) و أن ابن العربي لقي ابن أبي القاسم في سفرة من سفراته في تونس سنة  590 هـ و قرأ معه كتاب أبيه ثم وضع عليه شرحاً مفصلًا.
و يوجد الكتاب مع شرح ابن العربي عليه في نسخة خطية نادرة في مكتبة أيا صوفيا باستامبول تحت رقم 1869.  A .S و قد اطلعت عليه فوجدت فيه كثيراً من الخلط و الاضطراب مما حملني على الاعتقاد بأن كثيراً من التحريف قد أدخل عليه.
و لا نعلم لابن قسي كتاباً آخر غير هذا.
و قد أشار ابن العربي إلى ابن قسي إشارات عدة في كثير من مؤلفاته لا سيما الفتوحات المكية.
و أغلب هذه الإشارات منصب على فكرة ابن قسي في أن كل اسم من أسماء اللَّه يتسمى بجميع الأسماء الإلهية: و هي الفكرة التي ناقشناها آنفاً.
و أهم المواضع التي أشير إليه فيها في الفتوحات هي:
فتوحات 1 ص 176، 388، 407، 943،
فتوحات 2 ص 68، 79، 211، 340، 907،
فتوحات 3 ص 8 - 9، 18، 428، 465،
فتوحات 4 ص 164 راجع أيضاً حاجي خليفة ج 3 ص 171 - 2 و بروكلمان ج 1 ص 434.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 05 - فص حكمة مُهَيَّميَّة في كلمة إبراهيمية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة أغسطس 02, 2019 9:04 am

05 - فص حكمة مُهَيَّميَّة في كلمة إبراهيمية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإبراهيمي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفص الخامس فص حكمة مُهَيَّميَّة في كلمة إبراهيمية
(1) الحكمة المُهَيَّميَّة و إبراهيم.
(1) كلمة مُهيَّمِيَّة مشتقة من الهيام أو الهيمان و هو الإفراط في العشق، و قد نسبت الحكمة المهيمية إلى إبراهيم لأن اللَّه تعالى نص على اتخاذه خليلًا في قوله: «وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا».
و الخليل المحب المفرط في محبته المخلص لمحبوبه. هذا هو لسان الظاهر كما يقولون، و لكننا إذا ما قرأنا الفص الإبراهيمي و أدركنا مرامي المؤلف فيه، وجدنا معاني أخرى لإبراهيم و الخليل و الهيمان، و أنها مجرد رموز قصد بها ما وراءها.
و ليس هناك من شك في أن اسم إبراهيم لم يستعمل علماً على النبي المعروف، و إنما رُمز به لنوع الإنسان الكامل الذي يعتبر جميع الأنبياء و الرسل و الأولياء أفراداً له.
و الإنسان الكامل في مذهب صاحبنا هو المجلي التام الشامل لجميع الأسماء و الصفات الإلهية، أو هو المجلى الكامل للحق على ما قررنا آنفاً.
و إنما اختير إبراهيم ليقوم بهذا الدور هنا لمجرد الإشارة إليه بأنه خليل اللَّه، و الخليل إذا أخذت لا على أنها من الخُلَّة أي الصداقة، بل على أنها من التخلل و هو السريان- و هذا بالضبط ما يفعله المؤلف- فهمنا لِمَ اعتبر إبراهيم مثالًا أعلى من أمثلة الإنسان الكامل.
و أي مجلى من مجالي الحق أحق بأن يوصف بالكمال من الإنسان الكامل الذي سرى فيه الحق و تخلل جميع قواه و جوارحه فأظهر بذلك جميع كمالات الصفات و الأسماء الإلهية.
إن سريان الحق في صور الموجودات جميعها أمر تقتضيه طبيعة مذهب ابن عربي في وحدة الوجود- و قد أشرنا إلى ذلك من قبل- و لكنه يريد أن يبين هنا أن هذا السريان- أو هذا التخلل- يتفاوت في الموجودات في الدرجة بحسب ما يتجلى في كل منها من الصفات و الأسماء الإلهية.
و من سوء الحظ أنه يلجأ في توضيح العلاقة بين الحق و الخلق أو بين الوحدة و الكثرة إلى التمثيل بالسريان و التخلل و التغذية و ما إلى ذلك، لأن مثل هذه التشبيهات الساذجة تشعر بالمادية أو الجسمية كما تشعر بالاثنينية: اثنينية المتخلِّل و المتخلَّل، و ليس في حقيقة الأمر في مذهبه مادية و لا اثنينية.
دعونا إذن من تشبيهه الذات المتخللة لجميع صور الموجودات باللون الذي يتخلل الجسم الملون، و شبيهه تلك الذات أيضاً بالماء الذي يتخلل الصوفة، فإن هذه التشبيهات وأمثالها ليست سوى وسائل محسوسة و ساذجة لإيضاح شيء هو في نفسه غير محسوس وغير ساذج. الحق و الخلق في نظره وجهان للحقيقة المطلقة: فكل تمييز بينهما لا بدّ أن يعد في نهاية الأمر تمييزاً اعتبارياً.
وليس في مذهبه ما يسمح بالقول بالاثنينية اللهم إلا اثنينية الصفات: أي الصفات التي يتميز بها الحق عن الخلق والأخرى التي يتميز بها الخلق عن الحق.
ولكن هذا المعنى لا ينطبق على اللون والمتلون اللذين يذكرهما.
يقول: إن اللون يتخلل المتلون فيكون العرض بحيث يكون الجوهر، كذلك الحق يتخلل صور الموجودات.
وهذا تشبيه قاصر و مضلل: إذ اللون شي ء غير المتلون، والحق- في نظره- ليس سوى الخلق، وإذ اللون عرض والمتلون جوهر، والحق لا يمكن وصفه بأنه عرض.
و يزداد الأمر حرجاً و تعقيداً عند ما نراه يقول إن كلًا من الحق و الخلق يتخلل الآخر أو يغذيه، و هو قول يشعر بالحلول.  ولكن لا محل للحلول في مذهبه.
فيجب إذن أن نفهم هذه الأقاويل وأمثالها على أنها عبارات مجازية قصد بها تفسير أمر تعجز الألفاظ عن التعبير عنه ولا يقوى على إدراكه إلا الذوق الصوفي وحده، إذ الذوق الصوفي هو الذي يدرك سريان «الواحد» الحق في الكثرة الوجودية وتقويمه إياها كما يدرك كمال ذلك «الواحد» في مظاهر أسمائه وصفاته.

(2) «أ لا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات ... حق للحق؟»
(2) لما كانت الحقيقة الوجودية واحدة لزم أن ننسب إليها جميع صفات الموجودات المحمود منها و المذموم، لأن التفرقة بين صفات الأشياء على أساس المدح و الذم تفرقة أخلاقية أو دينية و هي بذلك اعتبارية لا حقيقية.
أما الموجودات في ذاتها فلا توصف بأنها محمودة أو مذمومة، كما أن الأفعال في ذاتها لا توصف بأنها خير أو شر.
و كل ما يمكن أن يقال في أي موجود هو أنه مجلى يظهر فيه الحق بصفة أو صفات هي كيت و كيت سواء أكانت هذه الصفات مما اصطلح العرف أو الشرع أو القانون الخلقي على تسميتها محمودة أو مذمومة أو لم تكن.
وإذا كان الأمر كذلك فيستوي أن نقول إن «الحق» يظهر بصفات المحدثات المحمود منها و المذموم، و أن نقول إن الخلق يظهر بصفات الحق.
أما أن الحق يظهر بصفات المحدثات فقد أخبر بذلك عن نفسه في مثل قوله:
«وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ»، و قوله: «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ»، و قوله: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» إلى غير ذلك من الآيات.
غير أنه يجب ألا يغرب عنا ما ذكرناه آنفاً في مسألة التنزيه و التشبيه، أن ابن العربي لا يفهم هذه الآيات على أنها دالة على مجرد التشبيه- كما يقول المشبهة- بل يفهم منها أن الحق هو الظاهر في صورة كل من اصطلحنا على تسميته ماكراً، و أنه الظاهر في صورة المستهزئ و المؤذي و غير ذلك.
و قد أوضح ذلك المعنى بما لا مزيد عليه في الفص السابق (الفص الرابع) حيث قال: «بل هو العين الواحدة و هو العيون الكثيرة ...
قال- يا أبتِ افعل ما تؤمر- و الولد عين أبيه (لأنهما مظهران لذات واحدة) فما رأى يذبح سوى نفسه.
و فداه بذبح عظيم- فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان و ظهر بصورة ولد ... و خلق منها زوجها فما نكح (أي آدم) سوى نفسه: فمنه الصاحبة و الولد و الأمر واحد في العدد».
ليس بغريب إذن أن يأتي هنا و يقول إن الحق يظهر بصفات المحدثات.
الكرم أو نحوها من الصفات التي اصطلح على نسبتها عادة إلى اللَّه.

(3) «ثم إن الذات لو تعرّت عن هذه النسب لم تكن إلهاً .. فيتميز بعضنا عن بعض».
(3) يفرق ابن عربي بين الذات الإلهية المعرّاة عن كل نسبة وجودية، المجردة من أية علاقة زمانية بالوجود الخارجي، البعيدة عن متناول الإدراك، و بين الذات الإلهية المتصفة بالألوهية:
أي بين «الواحد» و اللَّه. أما الذات المجردة فليست إلهاً، لأن الألوهية تقتضي المألوهية و لا معنى لها و لا وجود بدونها: فالحق الوهّاب يفترض الخلق الموهوب، و الحق الرحيم يفترض الخلق المرحوم و هكذا.
و هذا معنى قوله: «فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلهاً». و لا تعرف الألوهية و صفاتها إلا إذا عرفت المألوهية و صفاتها و هذا هو معنى قوله: «من عرف نفسه عرف ربه» أي من عرف عبوديته عرف ربوبية الرب.
و لو أن مدعياً ادعى أن في الإمكان أن يعرف «اللَّه» من غير نظر في العالم- كما ذهب إليه بعض الحكماء و أبو حامد الغزالي، لأجابه ابن عربي بقوله: ليس من المستحيل أن يصل العقل عن طريق النظر الصرف إلى افتراض وجود موجود واجب الوجود: خارج عن حدود الزمان و المكان: أزلي قديم إلخ ..
غير أن هذا الموجود إذا جردته عن جميع الصفات و الأسماء التي يتكوّن منها مفهوم الألوهية لا يكون إلهاً.
و قد برهن أرسطو على وجود محرك أول لأنه رأى أن الحركة لا يمكن أن تذهب إلى غير نهاية، و برهن فلاسفة المسلمين على وجوب واجب الوجود، و لكن لا المحرك الأول الذي أثبته أرسطو و لا واجب الوجود- إذا قرر وجوده بعيداً عن العالم و نسبه- بإله بالمعنى الديني. هذه أدلة قد ترضي الفلاسفة أو غير الإلهيين: أما الإلهيون فلا يقنعون بها.
تتوقف فكرة الألوهية إذن- في نظره- على التأمل في المخلوقات، بما في ذلك أنفسنا. لأن العلم بالصفات و الأسماء التي يتكوّن منها مفهوم الألوهية لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق العلم بصفات الموجودات الحادثة- بما في ذلك صفاتنا.
و هذا في نظره سر الخلق: فإن الحق لم يظهر بصور الموجودات إلا ليعرف- لا في ذاته- بل من حيث كونه إلهاً. يقول الحديث القدسي:
«كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني»: أي كنت ذاتاً أزلية قديمة معرّاة عن النسب و الإضافات فعكستُ جميع ما في هذه الذات من كمالات على مرآة الوجود، فإذا عرفت صور هذه الكمالات و مجاليها عُرفتْ كمالاتي.
بهذا المعنى نقول إن وجود الخلق دليل على وجود الحق، و لكن هناك معنى آخر به نستطيع أن نقول إن الحق عين الدليل على نفسه و على ألوهيته، و هذا لا يكون إلا إذا اعتبرنا أن العالم في ذاته عدم محض لا وجود له إلا بالحق: فإذا علمنا عن طريق النظر في العالم ألوهية الحق، ثم أدركنا أن العالم ليس في الواقع سوى تجلي الحق في صور الأعيان الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه، أدركنا أن الحق عين الدليل على نفسه.
و لكن هذا الإدراك ذوقي كشفي كما يقول المؤلف.
و هناك علم كشفي آخر، و هو إدراك صور الوجود في مرآة الحق و إدراك أنه هو الظاهر بجميع هذه الصور مهما تعدّدت و تنوعت صفاتها و أشكالها.
و صاحب هذا الكشف لا يسأل لِمَ فعل به الحق كيت و كيت: لأنه يعرف أن لا اثنينية في الأمر و أن كل ما يظهر به من صفات الوجود إنما هو من مقتضيات عينه الثابتة، فلا يلومن إلا نفسه.
نلاحظ إذن ثلاث درجات من المعرفة يتطور فيها الذوق الصوفي المتجه نحو إدراك الوحدة الوجودية:
ففي الدرجة الأولى ينكشف للسالك معنى الألوهية عن طريق النظر في صفات المألوهية و هي صفات العالم، و يتخذ الصوفي من العالم دليلًا على وجود الحق.
و في الدرجة الثانية ينكشف له أن الحق عين الدليل على نفسه لأن العالم لا وجود له إلا به. فهو بعد العلم بألوهية الحق عن طريق النظر في العالم يقول في كشفه الثاني إنه لا وجود إلا لهذا الإله. و هذا هو المراد بقول المؤلف: و هذا بعد العلم به (أي بالحق) منا (أي بواسطتنا) أنه إله لنا.
و في الدرجة الثالثة ينكشف له وحدة الوجود و أن كل شي ء هو في الحقيقة عين الآخر و أن كل ما يظهر في الوجود إنما يظهر عن عين واحدة لا عن غيرها.
و في هذا الكشف تنمحي الاثنينية- اثنينيّة الحق و الخلق- كما ينمحي التعدد المشاهد بالحسّ بين الموجودات. فإن قيل فما معنى حكم اللَّه و قضاؤه في الأشياء؟
أجاب ابن العربي: «ما يحكم علينا إلا بنا: لا، بل نحن نحكم علينا بنا و لكن فيه» أي في الحق.

(4) «فإن قلت فما فائدة قوله تعالى: «فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ»؟
(4) هنا يشرح ابن العربي جزءاً من نظريته الأخلاقية المتفرعة عن نظريته العامة في وحدة الوجود.
إذا كان الوجود على الحقيقة واحداً و إذا كان كل ما يظهر فيه من خير و شر و من معصية و طاعة مقدراً أزلًا بمقتضى طبيعة الوجود نفسه كما شرحناه آنفاً، لزم ضرورة أن يكون في الكون مهتدون و غير مهتدين، و أن يكون فيه خير و شر و طاعة و معصية و جمال و قبح و نفع و ضر، لأن هذه كلها أمور تقتضيها طبيعة الوجود ذاتها.
و قد شاء الحق- و مشيئته هي إرادته الأزلية التي هي قانون الوجود العام- أن يكون في الخلق مهتدون و غير مهتدين، و قضت بذلك طبيعة الوجود و لا مردّ لقضائها، فامتنع وجود الهداية العامة لامتناع المشيئة-.
و ما كان للمشيئة الذاتية التي اقتضت أعيان الموجودات على ما هي عليه في ذاتها أن تشاء غير ما هو عليه الأمر في نفسه.
و لذلك جاءت الآية ب «لو» التي تفيد امتناع شي ء لامتناع شي ء آخر. إن اللَّه يعلم الأشياء على ما هي عليه و يريدها كما يعلمها- أي كما هي عليه أو كما توجبه أعيانها الثابتة في الأزل، و لهذا قال المؤلف: «فمشيئته أحدية
التعلق».
هذه هي الدائرة الفكرية التي يدور فيها ابن عربي طول الوقت، نراه ينتهي فيها دائماً إلى حيث ابتدأ. ينفي الشي ء ثم يحاول إثباته فينتهي به الإثبات إلى النفي، و يثبت الشي ء ثم يحاول نفيه فينتهي به النفي إلى الإثبات.
و لا عجب في ذلك ففكرة وحدة الوجود تحمل هذا التناقض في نفسها، لا سيما في مذهب رجل يعتبر وحدة الوجود بديهية من البديهيات ثم يأبى إلا أن يحتفظ بالصورة التقليدية التي بها الإسلام للَّه. فإذا ما تعارض ذلك مع مذهبه أخذ يهدم تلك الصورة و يضيع معالمها.
يتكلم عن علم اللَّه و إرادته كما يتكلم المسلمون، ثم يبدو له أن الموجودات و كل ما يظهر عنها ثابتة قارّة في ذات الحق ثبوتاً أزلياً: فيقول إن الحق أرادها كما علمها، و علمها بما أعطته هي من ذاتها، فأرادها على ما هي عليه، و لو أراد غير ذلك ما وقع!
أليس هذا تعطيلًا للإرادة؟
أو أ ليس هذا نفياً للإرادة بعد إثباتها؟
راجع عن التقدير الأزلي للوجود الفص الأول (التعليق 3)
والفص الثاني (التعليق 3)
والفص الثامن في قوله في الإنسان إنه منعم ذاته و معذبها فلا يذمنَّ إلا نفسه و لا يحمدن إلا نفسه. راجع أيضاً معنى القضاء و القدر في الفص الرابع عشر.

(5) «و إنما ورد الخطاب الإلهي بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون».
(5) هذه تتمة لما سبق لأنه يفسر لما ذا ورد في القرآن قوله «لَوْ شاءَ» * و «إِنْ يَشَا»
[أي لا تتعلق بالممكن إلا من ناحية واحدة هي ناحية إيجاده على ما هو عليه. يخاطب بمثل ذلك و إنما يدرك الأمر على النحو الذي ذكرناه.  و لهذا كثر المؤمنون الذين يأخذون بظاهر الآيات و يعملون العقل في فهمها، و قلّ العارفون الواقفون على حقيقة الأمور ذوقاً و كشفاً.]
و أمثالهما مع أن الأمر لا مجال فيه لتغيير و لا تبديل.
الجواب على ذلك أن هذه هي الأساليب التي يفهمها المخاطبون الذين يعتمدون على النظر العقلي لا على الكشف إذ العقل ينسب إلى اللَّه قدرة لا نهاية لها و إرادة لا حد لاختيارها.
و لكن هذا جهل بطبيعة الوجود و سوء أدب مع اللَّه، لأن الخروج على طبيعة الوجود ينافي الحكمة و لا يزيد في كمال الألوهية شيئاً. أما صاحب الكشف فلا.

(6) «ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك ... ما تعيَّن عليه».
(6) هذا هو القانون العالم الذي يبني عليه ابن عربي نظريته في الوجود و في الجبرية التي شرحناها.
كل ما في الوجود الظاهر إنما هو صورة لِما كان عليه في حال ثبوته الأزلي.
لا بدَّ من ذلك و لا يمكن أن يتصوّر غيره. و لكن إذا كان الأمر كذلك فمن الموجود؟
أهو الحق أم الخلق؟  هذه مسألة اعتبارية.
فإنك إذا قلت إن وجودك الخارجي هو وجود الحق لا وجودك كان الحكم لك- من حيث الصورة- في هذا الوجود، لأنك تعيِّنه و تعطيه صفاته.
و إن ثبت في نظرك أن لك وجوداً كان الحكم لك أيضاً، و لم يكن للحق حكم فيك إلا إفاضة الوجود عليك.
و في هذه الحالة لا تحمد إلا نفسك و لا تذمّ إلا نفسك.
أما الحق فيجب أن نحمده دائماً لإفاضته الوجود عليك.
و بما أن الخلق لا وجود له إلا بالحق، و بما أن الحق الظاهر بصور الموجودات قد قبل جميع أحكام هذه الموجودات حتى ظهر بها في صورها، قال: «فأنت غذاؤه بالأحكام و هو غذاؤك بالوجود»: لأنه لولاه لما وُجِدتَ و لولاك ما ظهر.

(7) «فالأمر منه إليك و منك إليه».
(7) يصح أن تفهم كلمة «الأمر» هنا بمعنى أمر الوجود: أي فأمر الوجود من الحق إلى الخلق و من الخلق إلى الحق.
و لكن يظهر أن المراد بها الطلب و هي مع ذلك مستعملة استعمالًا مجازياً:
لأن العبد لا يأمر الحق بفعل شي ء بمعنى أنه يكلِّفه فعله، بل بمعنى أن حاله تقتضي حصول ذلك الفعل، و اقتضاء الحال ضروري لا مفر منه لأنه تابع للعين الثابتة في الأزل.
و قد سبق أن ذكرنا أن الإرادة الإلهية لا تتعلق إلا بهذه الناحية من الموجود:
أي بالناحية التي تقتضيها طبيعة أعيان الموجودات الثابتة. أما أمر الحق فالمراد به إعطاء كل شي ء خلقه على حد تعبير الآية القرآنية، أي تحقيق الأعيان الثابتة للموجودات بإظهارها في العالم الخارجي على نحو ما تطلبه طبائعها.
و لكن هذا هو الأمر التكويني لا التكليفي و بينهما فرق هام يبني عليه ابن العربي نتائج بعيدة الأثر في مذهبه. فظهور العاصي بمعصيته خاضع للأمر التكويني لأنه إنما ظهر بفعل اقتضته طبيعة عينه الثابتة و قضى اللَّه أن يكون ذلك كذلك من الأزل.
و لكن الذي اقتضته طبيعة العين الثابتة و قضى به اللَّه «فعل» فقط لا يوصف في ذاته بأنه معصية أو طاعة: و لذلك يجب ألا يقال إن اللَّه قدّر المعصية أزلًا و قضى بظهورها: و إنما سُمّي معصية عند ما قيس بالمقاييس الدينية التي هي الأوامر التكليفية.
هذه مسألة سيعرض لها المؤلف في موضع آخر عند كلامه عن فرعون الذي يرى أنه أطاع الأمر التكويني و إن كان قد عصى الأمر التكليفي.
أما إذا وصفنا كل أمر بأنه تكليف، فيلزم أن نقول إن الخلق مكلَّف من قِبَل الحق، و إن الحق مكلَّف من قِبل الخلق.
و لكن جرى العرف بإطلاق هذا الوصف على الخلق دون الحق، و هذا معنى قوله: «غير أنك تُسمى مكلّفاً:
و ما كلفك إلا بما قلت له كلفني بحالك، و بما أنت عليه.
و لا يسمى (أي الحق) مكلّفاً- اسم مفعول».

(8) «فيحمدني و أحمده» الأبيات.
(8) تشير هذه الأبيات إلى الموازاة التامة بين الحق و الخلق اللذين هما وجها الحقيقة المطلقة. و ياء المتكلم هنا كناية عن الخلق و هاء الغائب كناية عن الحق.
الحمد و العبادة متبادَلان بين الحق و الخلق: فالحق يحمد الخلق و يعبده بإفاضة الوجود عليه، و الخلق يحمد الحق و يعبده بإظهاره كمالاته في الوجود الخارجي.
و في استعمال كلمة العبادة في جانب الحق شي ء من الشناعة، و لكن ليس بغريب أن تستعمل في لغة وحدة الوجود.
و المراد بالحمد و العبادة أن كلًا من الحق و الخلق في خدمة الآخر و طاعته و الخدمة و الطاعة أخصُّ صفات العبادة.
كلٌ من الحق و الخلق يخدم الآخر و يطيعه: فالحق يفيض الوجود على الخلق، و الخلق يُظهِرُ للعيان كمالات الحق: و الخلق يطيع الحق فيما يأمره به، و الحق يطيع الخلق بمنحه الوجود الخاص الذي تطلبه عين الموجود.
و قوله: «ففي حالٍ أُقِرُّ به» إلخ .. أي في حال الجمع التي يشعر فيها الصوفي بوحدة الحق و الخلق و يفنى عن نفسه و عن كل ما سوى اللَّه، يقرّ بالحق على أنه وحده هو الموجود.
فإذا ما صار إلى حال الصحو و هي حال الفرق و أدرك أعيان الموجودات أنكر أنها هي الحق: و هي في واقع الأمر ليست الحق و إنما هي مجالٍ و مظاهر له.
هذا إذا فهمنا «الحال» بمعنى حال الفناء أو حال الجمع:
و بذلك تكون الوحدة المشار إليها «وحدة الشهود» لا وحدة الوجود.
و لكن يظهر أن المراد بالحال مطلق حال لا حال معينة، و بذلك يصبح معنى البيت:
«ففي حال من الأحوال أقرّ بوجود الحق في كل شيء و لكني أعوذ فأنكر أنه هو أعيان الموجودات الخارجية».
و هذا هو الأقرب إلى المراد و الأدنى إلى أسلوب المؤلف الذي يحلو له تكرار الكلمات المتناقضة التي يوردها على الحقيقة الوجودية الواحدة باعتبارين مختلفين:
من أنها حق و خلق و واحد و كثرة: معروفة مجهولة، غنية مفتقرة، حادثة قديمة إلخ ..
«فيعرفني و أنكره، و أعرفه فأشهده» أي فيعرفني الحق في جميع أحوالي و مقاماتي لأنه ذاتي، وأنكر وجوده في أعيان الموجودات الحادثة على أنها هي هو، و لكني أعرفه معرفة ذوقية كشفية وأعلم أنه عين كل شي ء فأشهده في كل شي ء جمعاً و تفصيلًا.
«لذاك الحق أوجدني، فأعلمه فأوجده»: أي لهذه الغاية- و هي أن اللَّه يُعْرَف و تعرف كمالاته الصفاتية و الأسمائية أوجد اللَّه العالم بما فيه الإنسان:
و بهذا ورد الخبر القائل: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعْرَف فخلقت الخلق فبِهِ عرفوني» و هو الحديث الذي يشير إليه البيت السادس من هذه الأبيات.
أما قوله فأعلمه فأوجده فالإشارة ليست إلى الذات الإلهية التي هي فوق كل علم و كل إدراك، بل إلى إله المعتقدات و هو الحق مصوَّراً في كل نفس بصورة معتقد هذه النفس و بحسب علم كل معتقد. فالإنسان لا يخلق اللَّه و إنما يخلق إله معتقده:
و لهذا قال «فأعلمه فأوجده» أي فأعلم الحق بحسب ما يتجلى لي من أسمائه و صفاته في صور الكائنات فأخلق من ذلك إلهاً أعتقد فيه و أعبده.
و هذا معنى قوله في موضع آخر: «فاللَّه عبارة لمن فهم الإشارة» و معنى قوله «فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلهاً».
هذا هو الحق المخلوق، و هو الحق المتغير في صور المعتقدات.
«و حقّق فيَّ مقصده» أي و حقّق فيَّ مقصده من الخلق، لأن العلة الغائية من الخلق هي أن يعرف اللَّه كما سبق أن ذكرنا. و قد تحقّقت هذه الغاية في الإنسان خاصة لأن الإنسان- لا سيما الإنسان الكامل- هو الذي يعرف الحق المعرفة الكاملة.


(9) «و لما كان للخليل هذه المرتبة .. و جعله ابن مَسَرَّة مع ميكائيل للأرزاق».
(9) جواب «لما» سنَّ القِرى: و قوله لذلك متعلق بالفعل سنَّ: فالجملة تقرأ هكذا «و لما كان للخليل هذه المرتبة التي بها سُمِّي خليلًا، سنَّ القِرى لذلك».
والمراد بالمرتبة أي مرتبة العرفان أو مرتبة الإنسان الكامل الظاهر فيه الحق بأكمل صوره، المغذِّي لذات الحق بجميع صفات الكمال الوجودية.
يقول «و لذلك سن القرى» و القرى الضيافة و فيه يقدّم الغذاء للمضيفين: و ليس إبراهيم وحده هو الذي يقدِّم «الغذاء» للحق: أي ليس وحده هو الذي يغذي الذات الإلهية بإظهار أحكامها فإن المؤلف يقول:
إذا شاء الإله يريد رزقاً له فالكون أجمعه غذاء
و لكن إبراهيم و أمثال إبراهيم من الكمل يقدمون ذلك الغذاء على الوجه الأكمل.
أما قوله «و جعله ابن مسرة مع ميكائيل للأرزاق» فوارد شرحه بالتفصيل في كتاب الفتوحات المكية (ج 1 ص 191) في وصف العرش وَ حَمَلَتِه.
و هو وصف يفهمه ابن العربي فهماً رمزياً خاصاً يتفق مع مذهبه العام في وحدة الوجود، و ليس لابن مسرة فيه سوى الألفاظ.

(10) «ابن مَسَرَّة».
(10) هو عبد اللَّه بن مسرّة الجبلي المتوفى سنة 319 هـ.
كان من كبار النظار على مذهب المعتزلة، و يظهر أنه كان عظيم النفوذ في أتباعه الذين يرى الأستاذ آسين بلاسيوس أنهم تألفت منهم مدرسة كلامية أو فلسفية في الأندلس.
و لكننا لا نكاد نعلم عن ابن مسرة و أتباعه هؤلاء شيئاً اللهم إلا إشارات عابرة في الفتوحات المكية (و قد ذكرتها) و في الفصل لابن حزم (ج 2 ص 126، ج 4 ص 80، 198 - 200) و تاريخ الحكماء للقفطي ص 15 - 16، و طبقات الأمم لابن صاعد الأندلسي.
و هي إشارات لا يمكن الاعتماد عليها في تأسيس مذهب فلسفي لابن مسرة و لا لمدرسته.
و مع ذلك حاول الأستاذ بلاسيوس- استناداً إلى هذه الإشارات وحدها- أن يصوّر لابن مسرة مذهباً و أن يؤسس له مدرسة و ادعى أن مدرسة من مدارس التصوف في الأندلس ظهرت في مدينة المرِية كان لها أثر في تكوين فلسفة ابن عربي و كانت في الوقت نفسه متأثرة بمدرسة ابن مسرة هذا.
و لكنها دعوى عريضة لا أساس لها، أو على الأقل ليس من الوثائق التأريخية التي بين أيدينا ما يدعمها.
و قد رددت عليها بشيء من التفصيل في كتابي «فلسفة ابن عربي الصوفية» الذي نشر بالانجليزية سنة 1939.
أما الذي يعنينا من أمر ابن مسرة هنا فهو وصفه للعرش و حملته الثمانية وفقاً لقوله تعالى: «وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ».
و المراد بالعرش المُلك أو العالم جملة.
قال: روينا عن ابن مسرة الجبلي من أكبر أهل الطريق علماً و حالًا و كشفاً: العرش المحمول هو المُلك، و هو محصور في جسم و روح و غذاء و مرتبة:
فآدم و إسرافيل للصور، و جبريل و محمد للأرواح، و ميكائيل و إبراهيم للأرزاق، و مالك و رضوان للوعد و الوعيد» فتوحات ج 1 ص 191.

(11) «فنحن له كما ثبتت أدلتنا ونحن لنا- الأبيات».
(11) المعنى الظاهر نحن منسوبون له من جهة و منسوبون لأنفسنا من جهة أخرى،
فلنا نسبتان: نسبة إلى الحق و أخرى إلى الخلق كما برهنت على ذلك أدلتنا الكشفية الذوقية.
و قد يكون المراد نحن غذاء له نقوِّم وجوده كما يقوّم الغذاء المتغذي: و نحن غذاء لأنفسنا و هذا بعيد:
«و ليس له سوى كوني فنحن له كنحن بنا
معناه ليس للحق فيَّ سوى أنه أعطاني الوجود: و الكون هنا بمعنى التكوين أي سوى إظهاري في الخارج لا إيجادي من العدم فإن الخلق ليس له هذا المعنى في مذهب المؤلف كما ذكرنا.
أما أنني وجدت على هذا النحو أو ذلك، أو بهذه الصفة أو تلك فذلك أمر راجع إلى طبيعة عيني الثابتة.
و لذلك قال «فليس له سوى كوني».
و معنى قوله «فنحن له كنحن بنا» أن الجملة «نحن له» تساوي أو تشابه الجملة «نحن بنا». و في رواية «نحن لنا».
و المراد أن قول القائل إننا منسوبون إلى الحق تساوي من وجه آخر نحن منسوبون إلى أنفسنا أو نحن ظاهرون في الوجود بأعياننا و هو إشارة إلى النسبتين السابقتين.
و لهذا قال: «فلي وجهان هو و أنا» أي من وجه يقال إنني هو، و من وجه آخر يقال إنني أنا: فتنمحي إنيتي في الأولى و تثبت هويته، و تثبت إنيتي في الثانية و تنمحي هويته.
هذا فيما يتعلق بالخلق: له أن يقول إنه هو الحق لأن وجوده عين الوجود المطلق متعيناً، و له أن يقول إنه الخلق إذا أشار إلى الوجود المتعين.
أما الحق فليست له نسبة حقيقيّة إليّ أي أنا: لأن الأنانية أو الإنية هي الوجود المتعين و لا ينسب الحق إلى أي وجود متعين دون غيره.
و لهذا قال و ليس له أنا بأنا. «و لكن فيَّ مظهره فنحن له كمثل إنا».
أي و كل ما يمكن أن يقال هو إنه ظهر فيَّ- لا أنه أنا: و لذلك كفّر ابن عربي المسيحيين في قولهم «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» .
فللمسيح أن يقول إنه هو الحق على معنى أن كل شيء هو الحق: و ليس للحق أن يقول أنا المسيح عيسى بن مريم.
«فنحن له كمثل إنا» أي كمثل الإناء لأن صورنا تحمل الذات الإلهية كما يحمل الإناء ما فيه.
وليس المراد الاثنينية فإن الصورة ليست سوى الذات المتعينة.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة أغسطس 02, 2019 9:15 am

06 - فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإسحاقي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفص السادس فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية
(1) الحكمة الحقية في الكلمةالإسحاقية
(1) يبحث الجزء الأكبر من هذا الفص في الأحلام "الرؤيا" ومنزلتها من المذهب الفلسفي العام الذي وضعه ابن العربي، و لذا وجب مقارنة ما ورد عن الأحلام هنا بما ذكره عنها في الفص التاسع لأن كلًا من الفصين يكمل الآخر.
و موضوع الأحلام متعدد النواحي، متصل بمسائل كثيرة أثارها المؤلف في الفصوص و الفتوحات و في غيرهما من مؤلفاته فهو متصل بنظريته في الوجود و مراتبه التي يسميها بالحضرات الخمس، و متصل بنظريته في النفس الإنسانية و قواها و مظاهر حياتها، و متصل كذلك بالوحي و الإلهام و مظاهر النبوءة عامة.
و لهذا كان لهذا البحث قيمته و خطره.
و قد ذكرت الأحلام هنا مقترنة باسم «إسحاق» لأن ابن العربي يعتقد أن «إسحاق» هو الابن الذي رأى إبراهيم في منامه أنه يذبحه ثم فداه اللَّه بالذبح العظيم و ابن العربي واحد من عدد قليل جداً من المسلمين الذين يرون هذا الرأي، و يشاركه فيه أبو العلاء المعري في قوله في سقط الزند:
فلو صح التناسخ كنت عيسى  .... و كان أبوك إسحاق الذبيحا
أما جمهور المفسرين فيرون أن الابن المذكور في القصة هو إسماعيل لا إسحاق و يستشهدون على هذا بقول النبي صلى اللَّه عليه و سلم «أنا ابن الذبيحين» يريد أباه عبد اللَّه الذي وقعت عليه القرعة من بين اخوته عند ما أراد أبوه عبد المطلب أن يفي بنذر كان نذره في قصة مشهورة.
و الأب الثاني الذي أشار إليه الحديث هو إسماعيل الذي يعتبره العرب أباً لهم جميعاً.
و يتفق رأي ابن العربي و المعري مع الرأي السائد عند العبرانيين: (راجع سفر التكوين الفصل 22). أما القرآن فلا يبين اسماً خاصاً: راجع س 37، الآيات 101 - 111.

(2) «فداء نبي ذبح ذبح لقربان» الأبيات.
(2) ترد الأبيات الأربعة الأولى منها في الفتوحات (ج 1 ص 749) في معرض الكلام عن زكاة الغنم. و هي تشرح بوجه عام مراتب الموجودات المختلفة و قيمة كل منها إذا قدم قرباناً إلى اللَّه. و في الأبيات الختامية مقارنة بين صفتي الإنسان:
صفة العبودية و صفة الربوبية. و لذلك يجب مقارنتها بما يذكره المؤلف في موضوع التصرُّف في الفص الثالث عشر. «أ لم تدر أن الأمر فيه مرتب وفاء لأرباح و نقص لخسران؟»
يصح أن نفهم «فيه» بمعنى في الفداء أو بمعنى في اللَّه. و على الأول يكون معنى البيت: أ لم تعلم أن الامر في القرابين أنها مرتبة بحسب قيمتها لاختلافها في الدرجة، فمنها العظيم الذي يتقرّب به صاحبه إلى اللَّه و ينال رضى اللَّه به، و منها الحقير الذي يبوء صاحبه بالخسران.
و يصحّ أن يكون معنى الترتيب هنا الموازاة التامة بين القربان و الجزاء المعطى عليه، أو بينه و بين الغاية المقصودة منه: أي أن أمر القرابين مرتّب بحيث إن أعظمها هو ما عظم الباعث عليه و الغاية منه، و أحقرها هو ما حقر الباعث عليه و الغاية منه، و في وفاء النوع الأول أرباح و في نقص النوع الثاني خسران.
و أعظم القرابين كلها هي النفس و أعظم تضحية هي التضحية بها.
فالفداء المذكور في الأبيات إنما هو رمز للفناء الصوفي في اللَّه، و كبش الفداء هو النفس، و ذبح الكبش صورة فناء النفس.
و قد اختار الكبش رمزاً للنفس و لم يختر غيره من الحيوانات لأن الغنم أولى الحيوانات كلها بالذبح لأنها خلقت له دون غيره، و لذلك قال في بيت سابق إن البُدْن و لو أنها أعلى قيمة من الغنم- أي من ناحية ثمنها- أقل منها قيمة في القرابين لأنها ليست للذبح وحده بل تستعمل في الركوب و جرّ الأثقال مثلًا. فالشاة الوادعة الأليفة التي تستسلم للذبح هي صورة النفس الصوفية الوادعة التي تستسلم للفناء. أما «الأرباح» المذكورة في القربان فيقابلها «البقاء» (الذي هو ضد الفناء).
و البقاء في عرف أصحاب وحدة الوجود هو الحال التي يتحقق فيها الصوفي من اتحاده الذاتي بالحق. هذا إذا حصل «الوفاء» أي إذا تم الفناء على وجهه الأكمل، فإن فناء الصوفي عن نفسه ليس أمراً سلبياً محضاً، و ليس أمراً عدمياً، بل يعقبه «بقاء» أي بقاء بالحق.
و كل فناء غير هذا ناقص لا يؤدي الغرض المقصود منه و لهذا كانت عاقبته الخسران المبين.
أما أخذ «فيه» بمعنى «في الحق» أو «في اللَّه» ففيه شي ء من التعسف لأن اللَّه لم يُذْكر في الأبيات السابقة فيعاد عليه الضمير، و لكنه مع ذلك فهم يستقيم مع ما يلي من الأبيات. و إذا أخذنا به أصبح معنى البيت: أن أمر الخلق- أو أمر الوجود كله مرتّب في الحق على درجات. فمن وفَّى بالميثاق الذي أخذه اللَّه عليه (و هو الميثاق المشار إليه في قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى: قرآن س 7 آية 179) و هو ميثاق الربوبية- بأن حقق في نفسه كل معاني العبودية- فقد ربح. و من قصر في الوفاء بذلك العهد فقد خسر.
و لهذا يذكر المؤلف بعد ذلك مباشرة أنواع المخلوقات و درجاتها في العبودية و ما يقابل هذه الدرجات من درجات القرب من اللَّه. فأرقى المخلوقات عبودية أدناها في سلّم التطور، و أرقى المخلوقات في سلم التطور أبعدها من العبودية الكاملة و أبعدها من اللَّه. و لن يرقى الإنسان إلى درجة العبودية الكاملة- في نظر ابن العربي- حتى يحقق حيوانيته، بل جماديته، أي حتى ينمحي فيه كل أثر للعقل و للصفات التابعة له المميزة للإنسان عن غيره من أنواع الحيوان الأخرى، ثم يفنى عن صفاته الحيوانية و النباتية.
يقول إن أكمل صفات العبودية في الإنسان صفة الجمادية (الفتوحات ج 1 ص 893).

(3) «بذا قال سهل و المحقق مثلنا فإنا و إياهم بمنزل إحسان»
(3) الإشارة هنا إلى سهل بن عبد اللَّه التستري الصوفي الكبير المتوفى سنة 283.
و يذهب ابن عربي إلى أن التستري كان يرى أن الإنسان قد امتاز عن سائر الحيوانات بل عن سائر المخلوقات بالعقل، و أنه لذلك قد اختلف عنهم جميعاً بأنه لا يعرف اللَّه معرفة فطرية كما يعرفونه، و إنما يعرف الإنسان اللَّه بطريق النظر العقلي، و هي معرفة مكتسبة غير فطرية و غير موصلة لليقين. أما معرفة سائر الخلق ففطرية (راجع الفتوحات ج 3 ص 53، ج 1 ص 893).
أما منزل «الإحسان» فمقام من مقامات الصوفية، و هو مقام الكشف و الشهود. سمّي بذلك لما ورد في الحديث من أن النبي صلى اللَّه عليه و سلم سُئل عن الإحسان ما هو؟ فقال: «الإحسان أن تعبد اللَّه كأنك تراه» و من قوله تعالى: «ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا». فمقام الإحسان وراء مقامي التقوى و الإيمان و أعلى منهما. و لكن أصحاب وحدة الوجود لا يقصدون هنا مجرد الحضور بالقلب في العبادة و الإقبال بجميع الهمة على اللَّه حتى لكأن العابد يراه متمثلًا في محرابه، بل يريدون المقام الذي تنكشف فيه وحدة الحق و الخلق و يشاهد فيه الصوفي الحقيقة المطلقة شاملة لكل شي ء لا فرق فيها بين مشاهِد و مشاهَد. هذا هو المقام الذي صاح فيه الحلاج بقوله أنا الحق!

(4) «و لا تلتفت قولًا ... في نص قرآن».
(4) أي و لا تلتفت إلى قول أصحاب النظر من المتكلمين الذين لا يعرفون الحق إلا بالبرهان و لا يشاهدونه مشاهدة أصحاب الأذواق.
«و لا تبذر السمراء في أرض عميان» مثال يُضرب لمن يضع الشي ء في غير
موضعه: أي و لا تبذر الحنطة السمراء في أرض من لا يستطيع رؤيتها، و هم المحجوبون عن العلم الذوقي. فهؤلاء صمٌ مع أنهم يسمعون، و بكمٌ مع أنهم يتكلمون، و عميٌ مع أنهم يبصرون: صم عن الحق، و بكم لأنهم لا يتكلمون بما هو حق، و عمي لأنهم لا يشاهدون الحق. و قد أخبرنا عنهم اللَّه تعالى في نص قرآني هو «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ».

(5) الرؤيا (الأحلام).
(5) من الصعب الوصول إلى فكرة واضحة عن الأحلام و منزلتها من المذهب الفلسفي العام الذي وضعه ابن عربي في طبيعة الوجود لأن كلامه فيها مزيج من الفلسفة و علم النفس و التصوف، و كثيراً ما يتردد الإنسان في اعتبار نظريته في الأحلام نظرية في طبيعة الوجود، أو نظرية في علم النفس، أو جزءاً من نظريته العامة في الكشف الصوفي.
و لا شك أن الناحية السيكولوجية أظهر من غيرها فيما ذكره في هذا الفص عن الأحلام، و لكن بعض النواحي الميتافيزيقية يجب شرحها ليستطيع القارئ فهم النظرية في جملتها.
يقسم ابن العربي الوجود إلى خمس مراتب يسميها الحضرات الخمس و يعتبر الأحلام- أو بعبارة أدق بعض الأحلام و هي الرؤيا الصادقة- من مظاهر حضرة من هذه الحضرات هي حضرة الخيال أو حضرة المثال. و عالم المثال عنده عالم حقيقي توجد فيه صور الأشياء على وجه بين اللطافة و الكثافة: أي بين الروحانية المحضة و المادية الصرفة. و هذا هو الذي يسميه عالم المثال المطلق أو عالم المثال المنفصل. و لكنه يتحدث كذلك عن عالم المثال المقيد أو المتصل و يقصد به عالم الخيال الإنساني.
و يجب ألا نخلط بين عالم المثال المطلق و بين عالم المثل عند أفلاطون على الرغم من ورود كلمة المثال في التعبيرين، فإن عالم المثال المطلق لا يحتوي معاني مجردة،
بل يحتوي صوراً مقدارية محسوسة تشبه المعاني المجردة (التي هي أشبه بالمثل الأفلاطونية) في العالم المعقول، كما تشبه الموجودات الخارجية في العالم المحسوس.
و ليس عالم المثال المقيد- أو عالم الخيال- سوى المرآة التي تنعكس عليها صور عالم المثال المطلق في العقل الإنساني: فالمخيلة هي القوة التي تصل الإنسان بعالم المثال، و ليست القوة التي تخلق ما لا وجود له أو تستحضر في الذهن صورة الموجود المحسوس. نعم قد تفعل المخيلة ذلك أحياناً فتخلق صوراً ليس لها ما يقابلها من الحقائق في عالم من العوالم الخمسة التي أشرنا إليها: لأنها في حركة دائمة و نشاط مستمر في النوم و اليقظة. فإذا أثرت فيها الحواس أو قوى أخرى اضطربت وظيفتها الحقيقية فخلقت صوراً على غير مثال. أما إذا تحررت تماماً من أثر الحواس و القوى النفسية الأخرى و بلغ نشاطها كماله- و لا يكون ذلك إلا في النوم- فإن صور العالم المثالي تنطبع عليها كما تنطبع صور الشي ء المرئي على المرآة و تحصل الرؤيا الصادقة.
و ليس بغريب أن يعدّ ابن عربي المخيلة التي وصفناها بهذا الوصف قوة من قوى القلب، فإنه يقول إن قلب النائم يصبح- و قد اتصل بالعالم العلوي هذا الاتصال- أشبه شي ء بمجرى غير مضطرب من الماء الصافي ينعكس عليه جميع ما هنالك من صور الحقائق النورانية.
أما هذه الصور فليست إلا أشباحاً و ظلالًا أو رموزاً لتلك الحقائق التي وراءها. و لذلك يرى وجوب تأويل الأحلام و تعبير الرؤيا.
لم يرَ إبراهيم إذن في منامه إلا رمزاً- رأى كبش القربان يتمثل في مخيلته بصورة ابنه، و لم يرَ ابنه مطلقاً، و لكن خيل إليه أنه رآه كانت رؤياه صادقة بمعنى أنها كانت رمزاً لحقيقة من الحقائق، و لكن كان يعوزها التأويل. غير أن إبراهيم لم يؤول ما رأى و همَّ بذبح ابنه ففداه اللَّه بالكبش.
فالذي كان له وجود في العالم المثالي، و الذي وجد بالفعل في العالم المحسوس، هو الكبش المقدّم للقربان، و قد ظهرت صورته في مخيلة إبراهيم فاستبدلتها بصورة
ابنه. و لهذا قال: «ففداه لما وقع في ذهن إبراهيم عليه السلام، ما هو فداء في نفس الأمر عند اللَّه».
و هناك طائفة من الأحلام تنكشف فيها حقائق الأشياء للقلب مباشرة من غير وساطة القوة المتخيلة، و مثل هذه الأحلام لا رمزية فيها، فهي في غنى عن التأويل.

(6) «علمنا في رؤيتنا الحق تعالى في صورة يردها الدليل العقلي أن نعبِّر ... ».
(6) لما فرغ من الكلام في تأويل الصور في الأحلام شرع يتحدث عن تأويل صور الحق في الموجودات، فقال كل تقييد للحق في صورة من الصور يرده الدليل العقلي، و ذلك لما بيناه من أن العقل لا يثبت للحق إلا التنزيه المطلق أي التحرر التام من كل تقييد و تحديد في أي صورة من الصور مهما كان نوعها. هذا هو رأي الفلاسفة و قد ذكرنا رده عليهم. و لكن بعض الناس لا يذهب إلى ذلك الحد من التنزيه، بل يقبلون أن يروا اللَّه في بعض الصور و يردونه في صور أخرى، و هؤلاء هم المؤمنون الذين يؤمنون بما جاء في القرآن مُشعِراً بالتشبيه، إلا أنهم يؤولون الصور التي توجب النقصان بالصور الكمالية التي جاء بها الشرع. و هذا معنى قوله بالحق المشروع أي الثابت في الشرع. و قد ورد في الحديث أن الحق يتجلى يوم القيامة في بعض الصور فيقبل ثم يتجلى في بعض الصور الأخرى فينكر.
و ليست هذه الصور سوى صور معتقداتنا فيه. فكل منا يقبله يوم القيامة في صورة معتقدة و ينكره في صورة معتقد غيره.
هذا هو «الحق المشروع»: أي اللَّه كما وصفه الشرع: لا اللَّه كما هو عليه في ذاته. أي هذا هو الحق الذي يتجلى لنا في هذا العالم في صور الأحلام و الذي ندركه في صور الموجودات، و هو الذي يتجلى لنا يوم القيامة (و ليوم القيامة معنى خاص عند ابن عربي) في صور معتقداتنا. فالمؤمن يرى من الواجب عليه أن يسلم بتجلي الحق في الصور. فإذا ما تجلى له في صورة لا تليق بالجناب الإلهي
- كما يحدث ذلك في الأحلام مثلًا- رد هذه الصورة أو أوَّلها إلى غيرها أكمل منها، و نسب النقص إما إلى نفسه (و هو المراد بالرائي) أو إلى المكان و الزمان اللذين رأى الصورة فيهما، أو إلى الاثنين معاً. و أغلب ما يكون النقص في الصورة من الرائي نفسه لأن الصورة من عمله كما أن الاعتقاد من عمله. أ ليست الصور التي يتجلى فيها الحق لكل منا هي الأسماء و الصفات الإلهية الظاهر أثرها فينا، المكيفة بأحوالنا العقلية و الروحية؟ فإذا جاءت هذه الصور موافقة للعقل مقبولة عنده فلا تأويل، كما أن صور الحق التي يتجلى فيها يوم القيامة لا تؤول و لا تنكر إذا أتت مطابقة لصور المعتقدات.

(7) «فللواحد الرحمن في كل موطن» الأبيات.
(7) بعد أن ذكر أن للحق صوراً يقبلها العقل و صوراً أخرى يردها و ينكرها، شرع يقول إن للحق صوراً لا نهاية لعددها و لا نهاية للمواطن التي تظهر فيها.
و بعض هذه الصور خفي و بعضها جلي. فإن قلت إن هذه الصورة أو تلك هي الحق فقد قلت صدقاً لأنها مجلى من مجاليه و مظهراً من مظاهره. و إن قلت إنها شي ء آخر غير الحق أوَّلتها كما تؤول الصورة المرئية في الأحلام: و هذا معنى قوله «أنت عابر» و ليس قولك أن الصورة المرئية غير الحق إنكاراً لها، بل هو إثبات لها من حيث هي رمز يدل على مرموز إليه و المرموز إليه هو الحق. و من هنا نستطيع أن نقول مع المؤلف.
إنما الكون خيال و هو حق في الحقيقة فمن حيث هو خيال وجب تأويل الصور التي تظهر فيه وردها إلى حقيقتها.
فهو خيال و هو حق في آن واحد. و ليس ظهور الحق في صورة من الصور بأولى من ظهوره في صورة أخرى لأن الحكم في المواطن التي تظهر فيها الصور واحد في الجميع: إذ أنه ظهور للحق في صور الخلق. و هذا معنى قوله «و لكنه (أي الحكم) بالحق للخلق سافر».
غير أن العقول التي لا يؤيدها الكشف و لا ينعم أصحابها بنعمة الذوق تنكر
بعض صور الحق إذا تجلت لها في نومها أو في يقظتها. و بعضها يقبل هذه الصور إذا التمس لها دليلًا من الشرع: فيقبلون الصور المجردة البحتة و يقبلون الصور المتخيلة. و هو قوله: «فيقبل في مجرى العقول و في الذي يسمى خيالًا .... »
و لكن أهل الكشف الذين يشير إليهم باسم «النواظر» و يشاهدون الحق في كل شي ء و يقبلونه في كل صورة هم وحدهم الذين يدركون الأمر على حقيقته.
فأهل الكشف أصحاب الذوق يرون اللَّه في كل شي ء و يعبدونه في كل مجلى و تتسع قلوبهم لكل صورة من صوره. أ لا يقول الحديث القدسي: «ما وسعني أرضي و لا سمائي و لكن وسعني قلب عبدي المؤمن»؟ هذه هي سعة قلب المؤمن في مذهب وحدة الوجود: لا يسع إلا الحق لأنه يشاهد الحق في كل صورة ترد عليه، و لا يشاهد هذه الصور أبداً من حيث هي صور أو من حيث هي خلق، و لا يحسّ لها من هذه الناحية وجوداً. و لهذا قال في الأبيات التالية:
لو أن ما قد خلق اللَّه ما لاح بقلبي فجره الساطع
أي لو أن جميع ما خلق اللَّه كان موجوداً بقلبي ما شعرت بنوره الساطع و هو وجوده لأنني لا أشعر إلا بوجود الحق. و في البيت تقديم و تأخير تقديره ما ذكرت.

( 8 ) «و العارف يخلق بالهمة ما يكون له وجود من خارج محل الهمة».
( 8 ) من وظيفة القوة المتخيلة الخلق و الابتكار، فهي تخلق من الأشياء ما لا وجود له إلا فيها، و هذا أمر عام يدركه كل إنسان من نفسه. و لكن ابن عربي يتكلم عن قوة أخرى لا وجود لها إلا في «العارف» يسميها «الهمة» تستطيع أن تخلق أموراً وجودية خارجة عن محلها: أي أن العارف يستطيع أن يخلق أشياء- لا في خياله و لا في خيال غيره كما يفعل السحرة و المشعوذون- بل في العالم الخارجي.
و لكننا قد ذكرنا مراراً أن «عملية الخلق» لا مكان لها و لا معنى في مذهب يقول بوحدة الوجود، و بيَّنَّا في مناسبات كثيرة أن ابن عربي لا يفهم من خلق اللَّه للأشياء أكثر من أنه يمنح الوجود الخارجي للأعيان التي لها وجود بالعمل في العالم المعقول- أو بعبارة أخرى- إن الدور الذي يقوم به الخالق في الخلق هو أن يجعل ما هو موجود بالقوة موجوداً بالفعل و لكن في ذاته. أما الخلق بمعنى الإيجاد من العدم فأمر غير معقول و غير ممكن في نظره. 
يقول:
يا خالق الأشياء في نفسه   .... أنت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه   ..... فيك فأنت الضيق الواسع
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لخلق اللَّه الأشياء، فما معنى نسبة قوة خالقه إلى العارف أو إلى أي إنسان؟
إن أداة الخلق عند العارف هي «الهمة» و هي قوة غريبة لا نعرف بالضبط ماهيتها يُسَلطها العارف على أي شيء يريد أن يحدث به أثراً فيحدث ذلك الأثر، أو أي شيء يريد وجوده فيحدث ذلك الوجود.
و يقول في فتوحاته (ج 1 ص 77) إنها معروفة عند المتكلمين باسم «الإخلاص»، و عند الصوفية باسم «الحضور»، و عند العارفين باسم «الهمة» و لكنه يفضّل أن يسميها «بالعناية الإلهية».
و لكن هذه لقوة لا يمكن أن يفهمها أو يدرك عملها إلا الذين منحوها و جربوها مهما كانت الأسماء التي نسميها بها. و هؤلاء الذين منّ اللَّه عليهم بها قليلون.
و يبدو لي أننا نستطيع أن نفهم قوة الخلق عند الصوفي على وجهين:
الوجه الأول: أن الصوفي في الحال الخاصة التي يسمونها حال «الفناء» يستطيع أن يخلق، أو يحدث أي أثر في العالم الخارجي يريد إحداثه، بمعنى أن اللَّه يخلق على يديه ذلك الأثر المطلوب.
فالفعل فعل الحق، و لكن بوساطة العارف الذي فني عن صفاته البشرية و بقي بصفاته الإلهية و تحقق بها.
و ليس للعارف- على هذه النظرية- سوى الوساطة في إظهار قوة الخلق عند اللَّه.
و لهذا التفسير نظير في رأي الأشاعرة في خلق العبد لأفعاله، و هو قريب أيضاً من رأى ملبرانش في صدور الأفعال الإنسانية و غيرها، و من النظرية الفلسفية التي تُعرف في العصر الحديث باسم نظرية الظروف أو المناسبات  Occasionalism : و معناها أن كل فعل إنما هو في الحقيقة للَّه، و لكنه يظهر على نحو ما يظهر إذا تحققت ظروف خاصة- إنسانية أو غير إنسانية- حتى لكأنما يخيل إلينا أن الظروف هي التي أوجدته، و في الحقيقة لم يوجده سوى اللَّه.
و قد يقال: و لِمَ خُص «العارف» بهذا في نظرية ابن العربي و هو ميسور لكل إنسان، بل لكل موجود، إذ يُجري الحق على أيدي الموجودات ما يشاء و يفعل ما يريد بوساطتها؟
و الجواب على هذا أن الخلق الانساني يحتاج إلى جمعية الهمة: أي التوجه التام بقوى الإنسان الروحية في أعلى مظاهرها و أصفى حالاتها، إلى خلق ما يريد خلقه أو تغيير ما يراد تغييره. و لا يتسنى ذلك إلا للعارف أو الإنسان الكامل كما يُسمى أحياناً.
و لعل هذا هو المعنى الذي أشار إليه ابن عربي في قوله في الفص الخامس عشر: «و هذه مسألة لا يمكن أن تعرف إلا ذوقاً كأبي يزيد حين نفخ في النملة التي قتلها فحييت فعلم عند ذلك بمن ينفخ فنفخ». 
و قوله في الفص السادس عشر:
«و إنما قلنا ذلك لأنا نعرف أن أجرام العالم تنفعل لهمم النفوس إذا أقيمت في مقام الجمعية و قد عاينا ذلك في هذا الطريق».
و الوجه الثاني في فهم خلْق العارف هو الذي يشرحه المؤلف في عرض كلامه عن الحضرات الخمس.
و هنا يفسر أيضاً كيف يحفظ العارف ما خلق من الأشياء.
كل ما هو موجود إنما يوجد في حضرة أو أكثر من حضرة من الحضرات الخمس التي هي حضرة الغيب المطلق- أو حضرة الذات- و حضرة العقول، و حضرة الأرواح، و حضرة المثال، و حضرة الحس.
و قد سمَّى شراح الفصوص هذه الحضرات أو هذه العوالم بأسماء مختلفة، و لكن لا أثر لهذا الاختلاف في فهمنا للنظرية العامة التي وصفها ابن العربي (راجع مثلا شرح القيصري ص 148، و شرح القاشاني ص 166، و قارن ما ذكره الجرجاني في التعريفات ص 61).
و تشبه هذه الحضرات من بعض الوجوه الفيوضات الأفلوطينية، و هي مرتّبة ترتيباً تنازلياً بحيث إن كل حضرة من الحضرات ينعكس عليها ما في الحضرة التي فوقها و ينعكس ما فيها هي في الحضرة التي دونها.
و قد يكون للأشياء وجود في حضرة من الحضرات العليا و لا يكون لها وجود في الحضرات الدنيا، و قد يكون للشي ء وجود في جميع الحضرات.
فإذا قلنا إن العارف يخلق بهمته شيئاً من الأشياء، كان معنى هذا أنه يُظْهِر في حضرة الحس شيئاً له وجود بالفعل في حضرة أخرى أعلى منها- لا أنه يخرج إلى الوجود شيئاً لم يكن موجوداً من قبل.
فهو بتركيزه همته في صورة شي ء من الأشياء في حضرة من الحضرات يستطيع أن يخرجها إلى حيز الوجود الخارجي في صورة محسوسة، و بحفظه لصورة شيء في حضرة من الحضرات العلوية يحفظ صورته في الحضرات السفلية.
والعكس صحيح أيضاً: أي أنه إذا حفظ بقوة همته صورة شيء في حضرة من الحضرات السفلية، يحفظ صورة ذلك الشيء في حضرة علوية، فإن بقاء المعلول يقتضي بقاء علته.
و لهذا قال: «فإذا غفل العارف عن حضرة ما- أو عن حضرات- و هو شاهد حضرة ما من الحضرات، حافظ لما فيها من صورة خلقه، انحفظت جميع الصور بحفظه تلك الصورة الواحدة في الحضرة التي ما غفل عنها».
و يفسر ابن العربي قوة الخلق عند اللَّه على هذا النحو أيضاً- إلا أن الفرق بين خلْق اللَّه و خلْق الإنسان هو أن الإنسان لا بدّ أن يغفل عن واحدة أو أكثر من واحدة من الحضرات الخمس، في حين أن اللَّه لا يغفل عن مشاهدة صور ما يخلق من الأشياء في أية حضرة من الحضرات.
هكذا تصور ابن العربي مسألة الخلق الصادر عن اللَّه أو عن أي إنسان منحه اللَّه قوة الخلق، و هو لا يرى تناقضاً في افتراض وجود صور مختلفة للشيء الواحد في عوالم مختلفة، و لا في وجود الشيء الواحد في مكانين مختلفين، و لا في وجود شيخه في مكان ما و وجود روح ذلك الشيخ ماثلة أمامه تحدثه.
بل هو يفسر بنظريته هذه كثيراً من المعجزات و خوارق العادات.
و أما قوله: «فإن تلك الحضرة التي يبقى لك الحضور فيها مع الصورة، مثلها مثل الكتاب ... إلخ.
فمعناه أن حضور العارف في حضرة من الحضرات يتحقق بتركيز جميع قواه الروحية في صورة ما من صور تلك الحضرة: فإذا تم له ذلك الحضور أصبحت له هذه الحضرة بمثابة المرآة التي يرى فيها جميع ما في الحضرات الأخرى، أو كالكتاب الذي قال اللَّه فيه: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ»، لأنه يرى في هذا الكتاب جميع ما في الوجود من واقع و غير واقع أي ما هو موجود بالفعل و ما هو موجود بالقوة.

(9) «و لا يعرف ما قلناه إلا من كان قرآناً في نفسه».
(9) أي و لا يفهم هذه المسألة إلا «الإنسان الكامل» الذي هو الكون الجامع لحقائق الوجود كلها في نفسه و الذي تتمثل فيه جميع الصفات و الأسماء الإلهية. فهو كالقرآن يحوي كل شيء.
وهنا نجد المؤلف يستعمل كلمتي القرآن و الفرقان- كما استعملهما في الفص الثالث- بمعنى الجمع و الفرق.
والمراد بالجمع الحال التي لا تتميز فيها بين العبد و الرب- و هي حال الفناء الصوفي، و المراد بالفرق الحال التي يقع فيها هذا التمييز.
و أما قوله: «فإن المتقي اللَّه يجعل له فرقاناً» فإشارة إلى الآية: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً» (س 8 آية 27)، و لكنه يفسر التقوى و الفرقان بطريقته الخاصة.
وقد أشرنا إليها فيما سبق و لا بأس من أن نزيد المسألة شرحاً هنا.
يأخذ «المتقي» على أنها مشتقة من الوقاية لا من التقوى:
و من يتقي اللَّه بهذا المعنى ليس هو من يخاف اللَّه، بل هو الذي يتخذ اللَّه وقاية له: أي يعتبر الذات الإلهية وقاية و حماية لصورته الانسانية، و بذلك يفرِّق (من الفرقان) بين الناحيتين اللتين فيه و هما ناحية اللاهوت و ناحية الناسوت. هذا هو مقام الفرقان.
أما مقام «القرآن» فليس فيه هذا التمييز أو هذه التفرقة.
غير أن «الفرقان» قد يحصل قبل دخول الصوفي في حال الفناء (و هي حال القرآن) و قد يحصل بعد خروجه منها.
أما إذا فرّق بين لاهوته و ناسوته قبل الفناء فهو جاهل بوحدته الذاتية مع الحق: أي جاهل بالوحدة التي لا انفصام لها بين اللاهوت و الناسوت.
و أما إذا فرَّق بعد الفناء فلعلمه بأن الحق و الخلق (اللاهوت و الناسوت) و لو أن بينهما اتحاداً ذاتياً- كما دلت عليه حال الفناء.
إلا أن الخلق متميز من الحق امتياز الصورة من الجوهر الذي هي صورة له.
و هذا ما دلّ عليه حال «البقاء». هذا «فرقان» أيضاً و لكنه «فرقان» بعد «قرآن» أو هو كما يقول الصوفية «بقاء بعد فناء» أو «صحو بعد محو».
قال ابن الفارض في تائيته:
و في الصحو بعد المحو لم أكُ  ..... غيرها و ذاتي بذاتي إذ تحلت تجلت

(10) «فوقتاً يكون العبد رباً بلا شك» الأبيات.
(10) نشرح هذه الأبيات جهتي الحق و الخلق في الإنسان و هما الجهتان اللتان يعبر عنهما أحياناً باسم اللاهوت و الناسوت و أحياناً باسم الربوبية و العبودية.
و قد سبق أن ذكرنا أنهما جهتان اعتباريتان لحقيقة واحدة و أن لا ثنوية في مذهب ابن عربي. 
فبأحد الاعتبارين نستطيع أن نقول إن الإنسان عبد لربه، و بالاعتبار الآخر نستطيع أن نقول إنه هو الرب. 
فهو عبد في مقام الفرق أو الفرقان، و ربّ في مقام الجمع أو القرآن كما قدمنا.
و في المقام الأول لا يتحقق العبد من اتحاده الذاتي بربه: 
فهو لا يزال يفرّق بين عبوديته و ربوبية الرب، مع أن اللاهوت جزء من حقيقته كالناسوت تماماً و إن كان لا يعرف ذلك.
و هذا هو المقام الذي يدفع بصاحبه إلى طلب مقام أعلى و هو معنى قوله: فمن كونه عبداً يرى عين نفسه و تتسع الآمال منه بلا شك و هي الآمال في الوصول إلى مقام الوحدة.
أما إذا حصل في المقام الثاني فإنه يحِسُّ بربوبيته و يشعر أن الكون كله طوع أمره. هذا هو المقام الذي صاح فيه الحلاج بقوله أنا الحق!
ينمحي في هذا المقام الفرق بين العبد و الرب و يشعر صاحبه أن كل ما في الوجود يطالبه بحاجاته.
فإذا غفل لحظة واحدة عن هذا المقام «و رأى عينه» كما يقول- أي لاحظ جانب عبوديته، أدرك عجزه المطلق عن أن يجيب مطالب الوجود و أدرك افتقاره المطلق إلى اللَّه.
و هذا معنى قوله:
و يعجز عما طالبوه بذاته   .... لذا ترَ بعض العارفين به يبكي
و لما كان المقام الثاني هو مقام الفناء التام و محو جميع آثار العبودية، و هذا مستحيل في هذا العالم، لأن العارف مهما بلغ من درجات الفناء لا يتحرر تماماً من نفسه، نصح ابن عربي الصوفية ألا يدعوا مقام الربوبية و أن يبقوا على عبوديتهم في قوله:
فكن عبد رب لا تكن رب عبده  .... فتذهب بالتعليق في النار و السبك
أي فتفنى بواسطة تعلقك بالربوبية في نارها المحرقة التي لا تبقي على شيء من عبوديتك.
و لأصحاب وحدة الوجود عبارات كثيرة في هذا المعنى منها أن الحق غيور و أن الرب غيور- أي لا يحب أن يرى غيره، فإذا ظهر بطلت الغيرية.
و منها كلامهم في سبحات وجه اللَّه التي تحرق كل من نظر إليها و هكذا.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة أغسطس 02, 2019 9:35 am

07 - فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الإسماعيلي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفص السابع فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية
(1) فص الحكمة العلية في الكلمة الإسماعيلية
(1) يشرح هذا الفص بعض نواحي العلاقة بين الحق و الخلق- أو بين الواحد و الكثير- و هو الموضوع الذي أشار إليه المؤلف في أواخر الفص السابق.
و لكنه يزيده هنا تفصيلًا بالإضافة إلى الأسماء الإلهية التي يطلق عليها اسم الأرباب، و ما يقابل هذه الأسماء من مظاهر العالم الخارجي، و هي ما يطلق عليه اسم العبيد. و في خلال مناقشته لهذا الموضوع يشير المؤلف- لا سيما في الأبيات الواردة في آخر الفص- إلى بعض آرائه الهامة في مسألة الثواب و العقاب و النعيم و الشقاء في الدار الآخرة.
إن الموجود الذي نطلق عليه اسم «اللَّه» أحديٌّ بذاته كلٌ بأسمائه: أعني أننا إذا نظرنا إليه من حيث ذاته حكمنا بواحديته و وحدته، و إذا نظرنا إليه من ناحية ظهوره في الموجودات بصورة الأسماء، حكمنا بكثرته. و هذا هو معنى «كل» إذ الكل هو المجموع المؤلف: أي الواحد الذي يحتوي الكثرة.
و قد سبق أن ذكرنا أن كل موجود إنما هو مجلى أو مظهر من مظاهر الحق في صور اسم أو أكثر من اسم من الأسماء الإلهية، بل ذكرنا أن العالم الذي هو جماع الموجودات كلها هو عين الأسماء التي سمَّى اللَّه بها نفسه و سميناه نحن بها.
و نزيد هنا أن كل اسم خاص من الأسماء التي تظهر في موجود من الموجودات هو «ربّ» هذا الموجود.
و لكنا قلنا إن كل اسم إلهي هو في الوقت نفسه عين الذات الإلهية لا غيرها، و على هذا كان كل موجود مظهراً لربه الخاص (الذي هو الاسم الإلهي) و مظهراً للذات الإلهية المسماة بهذا الاسم. و يستحيل أن يكون أي موجود من الموجودات المتعينة المتكثرة مظهراً للحق الذي هو «الكل» أو مظهراً لجميع الأسماء الإلهية (الأرباب). و لهذا قال «و كل موجود فما له من اللَّه إلا ربُّه خاصةً: يستحيل أن يكون له «الكل».

(2) «فأحديته مجموع كله بالقوة».
(2) الضمير في كله عائد إلى «مسمَّى اللَّه»: أي فأحدية مسمى اللَّه هي عبارة عن كونه مجموع الأسماء الإلهية كلها المتعينة فيه بالقوة. و قلنا المتعينة فيه بالقوة دون الفعل لأنها كالكليات لا تتعين بالفعل إلا في مظاهرها الخارجية التي هي الموجودات.
فهي موجودة في الذات الإلهية بالقوة و الإجمال و في العالم الواقعي بالفعل و التفصيل و إليه الإشارة بقول القائل:
كل الجمال غذاء وجهك  ..... مجملًا لكنه في العالمين مفصل
و في استعمال كلمة الأحدية بالنسبة لمسمى اللَّه الجامع لجميع الأسماء خروج على الاصطلاح الذي جرى عليه المؤلف في مواضع أخرى، إذ أنه يقصر صفة «الأحدية» على وحدة الذات المجردة عن جميع الأسماء و الصفات، و يستعمل «الواحدية» لوصف الذات المتصفة بالأسماء و الصفات، و يتكلم عن حضرتين: حضرة الأحدية و حضرة الواحدية. 
و حضرة الواحدية هذه هي أيضاً حضرة الأعيان الثابتة التي تجلى فيها الحق لنفسه في صور أعيان هذه هي أيضاً حضرة الأعيان الثابتة التي تجلى فيها الحق لنفسه في صور أعيان الممكنات الثابتة: و هي التجلي العلمي و الفيض الأقدس الذي أشرنا إليه (قارن الفص الأول).
و مما يدل على أنه يقصر الوصف بالأحدية على الذات الإلهية قوله في الجملة السابقة «و أما الأحدية الإلهية فما لواحد فيها قدم لأنه لا يقال لواحد منها شي ء و لآخر منها شي ء لأنها لا تقبل التبعيض». فالحق من حيث ذاته لا يوجد على سبيل التجزئة و التبعيض في أي شي ء لأن هذا يتنافى مع وحدته المطلقة.

(3) «و لهذا قال سهْل إن للربوبية سراً و هو «أنت»، يخاطب كل عين، لو ظهر لبطلت الربوبية».
(3) كلمة ظهر هنا بمعنى زال لا بمعنى وضح أو برز أو خرج إلى الوجود. و للكلمة هذا المعنى في اللغة العربية كما أن لها المعنى الثاني.
قال الشاعر:
و عيَّرها الواشون أني أحبها و تلك ....  شكاة ظاهر عنك عارها أي زائل.
قارن شرح القيصري (ص 153 - 154) و بالي (ص 130).
و المراد «بأنت» عالم الخلق إذ «أنت» ضمير المخاطب و هو إشارة إلى الظاهر: و لذلك رمزوا لعالم الغيب بهو الذي هو ضمير الغائب. و يصح أن يكون المراد ب «أنت» الأعيان الثابت للموجودات. و سواء أريد عالم الخلق الظاهر أو أعيان الموجودات الثابتة، فالربوبية صفة تزول عن الحق إذا زال أثرها و هو المربوبون. و قد سبق أن قلنا إن الأسماء الإلهية هي الأرباب المتجلية في الأشياء.
فالربوبية إذن هي حضرة الأفعال: أو المجال الذي تظهر فيه آثار الأسماء الإلهية.
فهي قائمة ما قامت الموجودات أو ما قامت أعيانها الثابتة، كما أن العلة قائمة ما قام معلولها: فإن زال المعلول زالت علته (على فرض عدم وجود علة غيرها).
و لكن أعيان الموجودات الثابتة لا تزول عن الوجود أبداً و إن زالت صورها الخارجية العارضة. إذن لن تزول الربوبية عن الحق.
و قد أشار ابن العربي  إلى هذا المعنى في الفص الخامس عشر في قوله:
فلولاه و لولانا ..... لما كان الذي كانا
أي فلو لا الحق الذي هو علة وجودنا، و لولانا أي لو لا أعياننا التي هي علة ظهوره لما وُجد هذا النظام الكوني على النحو الذي وُجد عليه، و لما سمي الحق حقاً و لا رباً.

(4) «و كذا كل موجود عند ربه مرضي»
(4) كل موجود- من حيث هو مظهر لاسم من الأسماء الإلهية (رب من الأرباب) مرضي عند ذلك الرب، و كيف لا يكون مرضياً عند ربه و هو سر ربوبيته؟
و لا فرق في ذلك بين من يظهر بصور العاصي و من يظهر بصورة المطيع، و من يظهر بصورة الكافر و من يظهر بصورة المؤمن، لأن للَّه نوعين من الصفات:
صفات الجمال و صفات الجلال. فللعصاة و الكفار و نحوهم أربابُهم كالجبار و القهار و المضل و المعذب و هي ظاهرة فيهم. 
و للطائعين و المؤمنين و نحوهم أربابهم كالهادي و الرحيم و الودود و هي ظاهرة فيهم.
يجب إذن أن نفرّق بين كون العبد مرضياً عند ربه، و كونه مرضياً في نظر الدين أو الأخلاق، لأنه يكفي في الرضا الأول أن يكون فعل العبد مظهراً من المظاهر التي يتحقق فيها معنى اسم من الأسماء الإلهية مهما كان ذلك الفعل. و يلزم للرضا الثاني أن يأتي فعل العبد مطابقاً لأمر من أمور الدين أو قانون من قوانين الأخلاق. 
و لا تناقض بين الاثنين في رأي المؤلف: أي لا تناقض بين أن يكون العاصي مرضياً عند ربه الخاص و غير مرضي عنه في نظر الدين أو العرف أو الأخلاق.
و قد شرحنا وجهاً من وجوه هذه النظرية في كلامنا عن نظرية ابن العربي  في جبرية الأفعال و ما ذكره عن الأمر التكويني و الأمر التكليفي (الفص الخامس التعليق السابع) و سيأتي تفصيل ذلك في الفص السابع عشر.
و من ناحية أخرى لا تعارض بين أن يكون العبد مرضياً عند ربّ من الأرباب غير مرضي عند ربّ آخر، لأن كل موجود يأخذ مربوبيته من الكل الأسمائي بحسب ما يناسبه و يلائم طبيعته و استعداده. 
و لذلك تظهر الأسماء الإلهية في الموجودات بحسب ما تقتضيه طبيعة أعيان الموجودات ذاتها.

(5) «و لهذا منع أهل اللَّه التجلي في الأحدية».
(5) كل ما هو موجود في عالم الظواهر إنما هو مجلى أو مظهر للواحد الحق: أي هو صورة جزئية للكل المطلق.
و لذا لا يقال في أي موجود إنه الحق إطلاقاً و إنما يقال إن الحق تجلى فيه في صورة من صوره التي لا تحصى. أما الأحدية الذاتية فلا يقع فيها التجلي أبداً: أي أن الحق لا يظهر بأحديته في أي شي ء. بل إن من التناقض أن تقول إنني شاهدت الحق في أحديته، لأن المشاهدة نسبة بين طرفين:
مشاهِد و مشاهَد، و هذه النسبة تتنافى مع الوحدة. فما دام للأنا وجود فالاثنينية- لا الأحدية- موجودة. و لهذا كله ينكر ابن العربي  إدراك الوحدة الوجودية في هذا العالم، و من الحمق في نظره أن نقول إن العبد في حال الفناء يصير «حقاً» لأنه لا صيرورة في مذهبه إذ الصيرورة تقتضي الاثنينية و الاثنينية تناقض الوحدة.
فمذهب وحدة الوجود الذي يقول به ابن العربي  إذن دعوى تؤيدها فطرة العقل أكثر مما يؤيدها الذوق الصوفي. هو لا يقول إن الوجود وحدة لأن ذلك ينكشف له في حاله، فقد رأينا أنه يقرر استحالة تجلي الحق في الوحدة، و إنما يعتبر القول بالوحدة الوجودية أولية من أوليات العقل غنية عن الدليل. 
أما التجربة الصوفية فحال تتحقق فيها ذوقاً بوحدتك الذاتية مع الحق. فالقضية الأولى و الأساسية في مذهبه هي أن الوجود كله واحد و هو وجود الحق. أما إذا ذكرت أنك تشاهد الحق أو تتحد به أو تفنى عن نفسك فيه، أو ما شاكل ذلك من العبارات، فإنك واقع لا محالة في الاثنينية. 
و ما دام الناس يتكلمون عن الحق و يصفونه، و يتكلمون عن أنفسهم و عن إدراكهم للحق، فهم اثنينيون، و لكن الشعور باثنينية الذات المدركة و الموضوع المدرَك شي ء، و القول باثنينيتهما شي ء آخر. و ابن العربي  إن سلّم بالأول لا يسلم بالثاني.
ثم هو يوضح استحالة تجلي الحق في الأحدية بما لا مزيد عليه في العبارة التالية فيقول: إن نظرت الحق به أي إن اعتبرت وجودك هو وجود الحق و أسقطت وجودك الخاص، كان الحق هو الناظر لنفسه و كان حكمك لا معنى له. و إن اعتبرت الوجودين- و هو معنى قوله و إن نظرته بك- زالت الأحدية. 
و كذلك إذا اعتبرت الوجودين- وجوده و وجودك- و قلت إنك نظرته بك، ثم به (في حال فنائك فيه) و هو معنى قوله: «و إن نظرته به و بك» زالت الأحدية أيضاً.
قارن ذلك بالتعليق الثاني عشر في الفص الأول، و التعليق العاشر في الفص السادس.

(6) «فَفَضَل اسماعيل غيره من الأعيان ... إلى قوله جنتي التي بها سِتْري».
(6) لم يفضل اسماعيل غيره من أعيان الموجودات إلا بأن اللَّه تعالى نص على أنه مرضيٌ عند ربه في قوله: «وَ كانَ يَامُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا» (س 19 آية 56) و إلا فكل موجود مرضي عند ربه كما قدمنا.
و كل نفس مطمئنةٌ راضية بربها مرضية عنده. و إذن لا يخاطب اللَّه تعالى في قوله «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً» نفساً دون نفس، و إنما يخاطب النفوس جميعاً، بل الموجودات جميعاً. 
ألم يأمرها أن ترجع إلى ربها الخاص الظاهر فيها لا إلى اللَّه الذي هو الكل؟ 
و أ ليس ربها هذا هو الذي دعاها فلبته و عرفته من الكل؟ 
ثم قال لها: «فَادْخُلِي فِي عِبادِي» أي عبادي الذين عرفوا أربابهم فصاروا راضين بهم مرضيين عندهم بأفعالهم، و لم يطلبوا إلا ما يفيض عليهم من هؤلاء الأرباب. 
و قال: «وَ ادْخُلِي جَنَّتِي». يقول ابن العربي  «جنتي التي بها سِتري» فيأخذ كلمة الجنة على أنها مشتقة من «جَنَّ» بمعنى ستر.
فجنة الحق في كل متعيّن من الموجودات هي الصورة التي تختفي فيها ذاته و تستتر.
و لهذا قال «و ليس جنتي سواك، فأنت تسترني بذاتك».
و قد أمر اللَّه كل نفس مطمئنة- و هي النفس التي تعلم نسبتها إليه و نسبته إليها على وجه الحقيقة- أن تدخل جنته: أي أمرها أن تعود إلى صورتها فتنظر فيها و تتأمل ما فيها من الحق الذي تخفيه و تستره، فتحقق انها الصورة التي تجلت فيها صفات الحق و أسماؤه. و هذا معنى قولهم: «مَن عرف نفسه فقد عرف ربه»، و معنى الحديث «خلق اللَّه آدم على صورته».
هذه هي الجنة في عرف ابن العربي : هي السعادة العظمى التي يدركها الإنسان عند ما ينزل إلى أعماق نفسه و يتأمل صورته فتنكشف له وحدة الحق و الخلق. 
هي إدراك القديم من خلال الحادث، و الخالد من خلال المتغير الفاني. هي إدراك عظمة الوجود و جماله و كماله خلال النظر إلى صورة المرآة. و لكنها جنة العارف لا جنة المؤمن لأن نعيمها عقلي روحي صرف، راجع إلى معرفة العارف بمدى قربه من
الحق، لا: بل إلى تحققه بالوحدة الذاتية بينه و بين الحق.

(7) «فلا أُعرَف إلا بك كما أنك لا تكون إلا بي ... - إلى قوله- من حيث أنت»
(7) لا يعرف الحق سبحانه من حيث ذاته، فهي الكنز المخفي الذي أشرنا إليه مراراً، و انما يعرف من حيث صفاته و أسماؤه متجلية في صفحة الوجود، فلا يعرف أحد من اللَّه إلا بقدر ما يعرف من الوجود، و يجهل كل واحد من اللَّه بقدر ما يجهل من الوجود.
فمعرفة الحق إذن متوقفة على العارف، و وجود العارف متوقف على الحق. فالخلق إذن معروف، و لكنه من ناحية أخرى مجهول لا يُعرف و لا يمكن أن يُعرَف و تلك الناحية هي ذاته التي هي ذات الحق. و في هذا يقول: «و أنا لا أعرف، فأنت لا تعرف».
أما المعرفتان اللتان يشير إليهما فهما:
أولًا: معرفة الحق عن طريق الخلق- و هي التي يسميها المؤلف «معرفة به من حيث أنت» و هذه هي معرفة الفلاسفة و النظار المتكلمين.
ثانياً: معرفة الحق عن طريق الخلق في الحق- و هي التي يسميها «معرفة به بك من حيث هو لا من حيث أنت» و هي معرفة أهل الكشف و الذوق من الصوفية.
ففي الأولى يتأمل الإنسان في نفسه من حيث هو موجود ممكن الوجود، فيقف على صفاتها التي هي الحدوث و الفناء و الافتقار و التغير و نحو ذلك. 
و بمقابلة هذه الصفات بما يجب أن يتصف به الحق واجب الوجود من الصفات، يستنتج هذه الصفات و ينسبها إلى الحق. 
فالوجود الإنساني ممكن، إذن يلزم أن يكون وجود الحق واجباً لذاته. و وجود الإنسان متغير فانٍ، إذن يلزم أن يكون وجود الحق أزلياً غير متغير. 
و النفس الإنسانية مصدر الشر، إذن يجب أن تكون طبيعة الحق خيراً محضاً و هكذا. 
و لكن هذا هو العلم الأدنى باللَّه، و العلم الذي لا يشبع عاطفة و لا يرضي روحاً متعطشة و إن أقنع العقل من بعض الوجوه. 
بل إنه لا يقنع العقل و لا يبعث الطمأنينة في القلب لأنه سلسلة من صفات السلب، و المعرفة السلبية معرفة بلا شيء.
أما المعرفة الثانية فهي أكمل المعرفتين إذ هي وليدة النظر في النفس و استكناه صفاتها، ثم التحقق بأنها صورة خاصة أو مجلى خاص من مجالي الحق، و أن فيها- من هذه الحيثية- قد تجلت كل الصفات الكمالية للحق.
فالمعرفة الأولى هي معرفة الإنسان بالحق عن طريق معرفته بنفسه، و الثانية هي معرفة الإنسان بالحق عن طريق معرفته بنفسه التي يتجلى فيها الحق. 
و في الأولى يعرف الإنسان نفسه على أنها خلق فقط. أما في الثانية فيعرفها على أنها خلق و حق معاً.

(8) «فأنت عبد و أنت رب» الأبيات.
(8) هذه نتيجة لازمة لما سبق. لكل موجود- بما في ذلك الإنسان- ناحيتان:
ناحية العبودية و ناحية الربوبية. فهو عبد بمعنى أنه المحل الذي يظهر فيه حكم رب من الأرباب (الأسماء الإلهية). و يعرف كل عبد ربه الخاص بالنظر إلى ذاته الخاصة و التأمل في صفاتها. و هذه هي المعرفة الأولى التي أشرنا إليها سابقاً.
و لكنه من ناحية أخرى رب لربه: و هذا معنى قوله: «و أنت رب لمن له فيه أنت عبد». 
و ذلك لظهور حكم العبد في الرب - أي في الاسم الإلهي المتجلي فيه. 
هذا إذا فهمنا كلمة «رب» بالمعنى الذي يستعملها فيه ابن العربي  غالباً و هو أي اسم من الأسماء الإلهية. 
و لكن هناك معنى آخر به نستطيع أن نسمي الإنسان أو أي موجود من الموجودات عبداً و رباً معاً. 
و يظهر أن هذا المعنى هو المشار إليه في البيتين الباقيين. 
الإنسان رب من حيث هويته التي هي إحدى تعينات هوية الحق، و هو عبد من حيث انه مخاطب بلسان الشرع: و هو المشار إليه بخطاب العهد في قوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى!» (قرآن س 7 آية 171).
فمن وجهة نظر أصحاب وحدة الوجود كل إنسان- بل كل موجود «رب»: و من جهة نظر الشرع كل موجود سوى اللَّه «عبد».
أما قوله «فكل عقد عليه شخص يحله من سواه عقد» فمعناه أن كل عبد يعتقد اعتقاداً خاصاً في ربه يستمده من النظر في نفسه، و بذلك اختلفت الاعتقادات في الأرباب كما اختلفت الأرباب. و لكن الاعتقادات كلها صور من معتقد واحد: كما أن الأرباب كلها صور في مرآة رب الأرباب. قال ابن العربي  يشير إلى العقيدة الصحيحة التي يعتبرها أساساً لكل العقائد:
عقد الخلائق في الإله عقائداً .... و أنا اعتقدت جميع ما عقدوه

(9) «فتقابلت الحضرتان تقابل الأمثال و الأمثال أضداد».
(9) المراد بالحضرتين حضرتا العبودية و الربوبية. و قد تقابلتا تقابل الأمثال من حيث أنهما اشتركتا في الوجود الإلهي و إن اختلفتا بالتعين و الاعتبار و كذلك اشتركتا في أن كلا منهما راضية مرضية.
أما قوله «و الأمثال أضداد» فمعناه أن المثلين لا يمكن أن يتفقا في جميع الصفات و إلا كانا شيئاً واحداً، بل لا بد من تغايرهما من وجه من الوجوه. فكل مثلين إذن متحدان من ناحية، متغايران من ناحية أخرى، و هذا هو معنى تقابلهما بالتضاد. و لذلك لم نقل إن العبد رب و إن الرب عبد إطلاقاً، بل بينا جهة الاعتبار و وضحنا جانب العبودية و جانب الربوبية في كل حالة.
و لكنه بعد أن أثبت وجود الأمثال و الأضداد في عالم الكثرة أراد أن ينفيهما في عالم الوحدة، فقال «فما ثم مثل» أي فما توجد مماثلة حقيقية بين حضرتي الربوبية و العبودية لتمايزهما.
و لما كان الوجود منحصراً في هاتين الحضرتين قال فما في الوجود مثل: أي فما في الوجود الحقيقي مماثلة، كما أنه ليس فيه تضاد لأن التضاد نوع من التماثل لاشتراك الضدين في الضدية. و خلص من ذلك كله إلى أن الوجود كله حقيقة واحدة و الحقيقة الواحدة لا تضاد فيها.
و لهذا قال: فلم يبق إلا «الحق» لم يبق كائن فما ثم موصول و ما ثم بائن بذا جاء برهان العيان فما أرى بعيني إلا عينه إذ أعاين أي لم يبق إلا «الواحد الحق» الذي لا كثرة فيه و كل كائن سواه لا وجود له. و لذا قال لا شي ء موصول بآخر بالمماثلة، و لا شي ء بائن (مختلف) عن غيره بالمغايرة. هذا هو الذي يؤيده الشهود القلبي و تعاينه عين البصيرة. أما الذي يبقى على التمييز بين العبد و الرب، و يقول بالمغايرة بينهما، فهو الجاهل بحقيقة الأمر المحجوب عن مشاهدة الوحدة، الخائف من أن يكون هو الحق:
و هو معنى قوله: "ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ" أن يكونه لعلمه بالتمييز».

(10) «و لا يُلقَى عليك الوحي في غير و لا تلقِي».
(10) إذا كان الوجود واحداً لا فرق بين حقه و خلقه و لا بين ربه و عبده فما معنى الثنوية في الوحي؟
أي ما معنى قولنا ان الوحي ينزل من الحق إلى الخلق أو من الرب إلى العبد؟ 
لا نزول و لا وساطة في النزول في مذهب ابن العربي ، فما يلقَى الوحي في غير ذات الحق و لا من غير ذات الحق، أو كما يقولون، لا يلقى الوحي إلا من مقام الجمع إلى مقام التفصيل. الوحي إذن انبعاث من ذات النفس الإنسانية و كشف عن أعماقها، أو هو فيض من الروح الكلي الساري في جميع النفوس الجزئية المتحد بها على الدوام.
و ليس ابن العربي  أقل حرصاً في تشبثه بوحدة عالم الروح من أفلوطين (راجع تساعيات أفلوطين ترجمة ما كِنَّا مجلد 3 ص 13 - 14). بل هو أقوى من سلفه في القول بهذا المعنى و أبعد من التناقض لأنه لا يقرر وحدة النفوس فحسب، بل وحدة الوجود كله.
و قد كان ابن العربي أشد ما يكون صراحة عند ما نفى الوحي- بل كل المعارف الباطنية- بطريق الوساطة في قوله في الفص الشيثي «فأي صاحب كشف شاهد صورة تلقى إليه ما لم يكن عنده من المعارف، و تمنحه ما لم يكن قبل ذلك في يده، فتلك الصورة عينه لا غيره: فمن شجرة نفسه جنى ثمرة غرسه، كالصورة الظاهرة منه في مقابلة الجسم الصقيل ليس غيره، إلا أن المحل أو الحضرة التي رأى فيها صورة نفسه تلقى إليه، ينقلب من وجه لحقيقة تلك الحضرة».
و كان كذلك اشد ما يكون جرأة عند ما فسر ظهور جبريل للنبي صلى اللَّه عليه و سلم بأنه لم يكن سوى تصوير و خلق من خيال النبي، كما يصور خيال المحب و يجسد أمامه محبوبه فيخاطبه و يناجيه و يسمع كلامه، و هو في الحقيقة لا يخاطب إلا نفسه و لا يسمع إلا كلامه. قال في الفتوحات المكية (في الجزء الثاني ص 429) «و لقد بلغ بي قوة الخيال أن كان حبي يجسد لي محبوبي من خارج لعيني، كما كان يتجسد جبريل لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم، فلا أقدر أنظر إليه، و يخاطبني و أصغي إليه و أفهم عنه».

(11) «قد زال الإمكان في حق الحق لما فيه من طلب المرجح» إلى آخر الأبيات.
(11) في القرآن آيات كثيرة تدل على الوعد و الوعيد على السواء. فقد وعد اللَّه عباده المتقين نعيم الجنة.
و وعد الكفار و العاصين عذاب جهنم. فإمكان وفائه تعالى بوعيده مساو تماماً لإمكان وفائه بوعده.
و لكن ابن العربي يذهب إلى أن الممكن هو الوفاء بالوعد دون الوعيد: لأنه لكي يتحقق أي أمر ممكن لا بد من وجود مرجح- إذ الممكنُ وجودُه و عدمُه سواء.
فإذا وجد فلا بد من وجود مرجح لوجوده على عدم وجوده. و ليس للوفاء بالوعيد مرجح إلا المعصية:
و لكن اللَّه قد غفر لعباده جميع معاصيهم في قوله: «وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ»، و قوله: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» (س 39 آية 54) و نحوهما.
و إذا زال المرجح الوحيد لإمكان الوفاء بالوعيد زال ذلك الإمكان نفسه.
و لهذا قال: فلم يبق إلا صادق الوعد وحده و ما لوعيد الحق عين تُعَايَنُ نعم سيكون في الدار الآخرة جنة و نار، و لكن مآل الجميع فيهما إلى النعيم، و إن اختلف نعيم دار الشقاء عن نعيم دار السعادة بحسب تجلي الحق لأهل كل من الدارين (و قد ذكرنا معنى الجنة و معنى تجلي الحق فيها فيما مضى: راجع التعليق السادس من هذا الفص).
ستكون النار إذن برداً و سلاماً كنار إبراهيم، و سيكون عذابها عذوبة كما يقول، و سيكون حظ أهل النار نوعاً من أنواع النعيم.
و لكن أمراً واحداً يجب أن نلتفت إليه و هو أن ابن العربي  مع قوله بالسعادة الأبدية لكل إنسان، يفرق بين درجات هذه السعادة و بين طبقات المنعمين بها على حسب درجات معرفتهم باللَّه. فأهل النار مع ما هم فيه من النعيم معذبون بآلام الحجاب.
و أهل الجنة في أرقى درجات النعيم لمعرفتهم الكاملة باللَّه. و جنة كل إنسان و ناره درجته من هذه المعرفة.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة أغسطس 02, 2019 9:57 am

08 - فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليعقوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
08 - الفص الثامن فص حكمة روحية في كلمة يعقوبية
(1) الحكمة الروحية في الكلمة اليعقوبية
(1) يبحث هذا الفص في المعاني المختلفة لكلمة «دين» و ما يتصل بها من معاني «الإسلام» و «الانقياد» و «الجزاء» و «العادة».
و قد ربط ابن العربي بين هذه المعاني و معنى الدين الذي يرتضيه ربطاً بارعاً محكماً و وضح مفهومات هذه الألفاظ توضيحاً دقيقاً على طريقته الخاصة بحيث وصل في النهاية إلى الغاية التي ينشدها و هي أن «الدين» هو دين وحدة الوجود لا الدين الشرعي الذي جاءت به الرسل.
أما الصلة بين هذه الحكمة و بين يعقوب فيظهر أنها لا تتعدى اقتران اسمه بكلمة الدين في قوله تعالى: "وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" .
و من عادة ابن العربي أن يلتمس مثل هذه الآيات التي لها اتصال ما بالأنبياء فينسب حِكمَه إليهم، و يتخذ من الآيات أساساً لهذه الحكم يستخرج منها ما يشاء مما يتفق مع روح مذهبه.
و قد قرئت كلمة «رَوْحية» الواردة في عنوان الفص بفتح الراء من الرَّوح و هو الراحة لورودها في قول يعقوب لبنيه: «يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» (س 12 آية 87)، كما قرئت بضم الراء من الرُّوح لاتصال الدين الذي هو موضوع الفص بالروح.
و الدين نوعان: دين يأتي من عند اللَّه على يد من عرّفهم اللَّه به و هم الرسل، و على يد غيرهم ممن أخذوه عنهم. و دين من عند الخلق، و هو القوانين الحكمية
التي وضعها الخلق لصلاحهم في دينهم و دنياهم. و من هذه القوانين الحكمية نظم الرهبانية التي نزلت في حقها الآية: «وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلخ». و يرى ابن العربي أن اللَّه قد اعتبر و أقر هذا الدين الذي وضعه الخلق، مخالفاً في ذلك جمهور المفسرين الذين يفهمون من الآية إنكار الرهبنة.
و الدين المعروف المعهود هو الأول، و هو الذي أتت به الرسل من عند اللَّه و اصطفاه اللَّه على غيره من الأديان بدليل قوله: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ».
و لكن اللَّه تعالى يقول: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ»، و يقول: «فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ».
و الإسلام الانقياد، فمعنى «الدين» إذن الانقياد، و الانقياد من عمل العبد: فالدين من عمل العبد.
أما الذي من عند اللَّه فهو الشرع الذي ينقاد إليه العبد.
بهذا المعنى اذن تستوي الأديان كلها لأنها تشترك في ذلك المعنى العام الذي هو الانقياد، و بهذا المعنى أيضاً نقول ان الأديان كلها من عمل العبد.
و لهذا قال: «فالعبد هو المنشئ للدين، و الحق هو الواضع للأحكام».
و قال فيما بعد: «فالدين كله للَّه، و الدين منك لا منه إلا بحكم الأصالة»: أي فالدين كله انقياد للَّه، و لكنه صادر منك لا من اللَّه لأن الانقياد عملك، و لا ينسب إلى اللَّه إلا بحكم أنه أصلك و أنت مظهره.
غير أن الانقياد في الحقيقة ليس قاصراً على العبد، فإن عمل العبد من طاعة أو معصية يقتضي الجزاء بالثواب أو بالعقاب، أو بطلب التجاوز و العفو في حالة المعصية، و لا بد من ذلك.
فحال العبد إذن لها حكمها في الحق إذ أنها تؤثر فيه فتجعله ينقاد هو أيضاً فيثيب العبد أو يعاقبه أو يعفو عنه. هذا هو الدين بمعنى الجزاء. بعد هذا كله: أي بعد أن شرح المؤلف الدين بمعنى الانقياد و الدين بمعنى الجزاء، و بعد أن بيَّن الانقياد من جانب العبد و الانقياد من جانب الحق، ضرب بكل ذلك عرض الحائط و قال: «و لكن هذا لسان الظاهر»: أما باطن المسألة و حقيقتها فتفسير يعطيه لها مستمد من نظريته في وحدة الوجود. ليس الجزاء في حقيقة الأمر عوضاً يعطيه الحق للعبد على أفعاله، و لكنه تجلي الحق في مرآة وجوده، أو تجليه في صور وجود العالم.
فهو يعطي هذه الصور التي يتجلى فيها مظاهِرَها الوجودية المختلفة- لا على سبيل العوض، و لا إثابة على طاعة أو عقاباً على معصية، بل لأن ذواتها أو أعيانها الثابتة قد اقتضته أن يعطيها ما يعطيها.
فإذا ظهرت هذه الذوات بمظهر يستحق الذم فهي المذمومة و هي التي جلبت الذم على نفسها، و إن ظهرت بمظهر يستحق الحمد فهي المحمودة و هي التي جلبت الحمد على نفسها.
و لهذا قال: «فلا يعود على الممكنات من الحق إلا ما تعطيه ذواتهم في أحوالها» ... ثم قال في العبد: «فلا يذمن إلا نفسه و لا يحمدن إلا نفسه».
فالجزاء بمعناه الحقيقي هو كل ما يعطيه الحق من نفسه للوجود بحسب طبيعة الموجود.

هذا هو الدين العام الذي يقول به ابن العربي، و هذا هو القانون الأعلى الذي يخضع له الوجود في نظره. و في هذا أيضاً تظهر جبريته الصارخة التي فصلنا القول فيها فيما سبق. و قد قضى فيها لا على معنى الدين فحسب، بل على معنى الثواب و العقاب كذلك.

(2) «وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها» و هي النواميس الحكمية ... في العرف».
(2) يذهب كل من القاشاني و القيصري إلى أن قوله «بالطريقة الخاصة» متعلق بابتدعوها: أي أنهم ابتدعوا الرهبانية بوضع طريقة خاصة معلومة في العرف كطريقة التصوف عند المسلمين، و طريقة الرهبنة عند المسيحيين. 
و أنا أفضل أن يكون الجار و المجرور متعلقاً بقوله «يجي ء» اي لم يجي ء الرسول بهذه النواميس الحكمية من عند اللَّه بالطريقة الخاصة المعلومة في العرف. و هذه الطريقة الخاصة هي أن الرسول يدعي أنه آت برسالة من عند اللَّه ثم يؤيد هذه الدعوى بالمعجزة.

(3) «جعل في قلوبهم تعظيم ما شرعوه- يطلبون بذلك رضوان اللَّه- على غير الطريقة النبوية المعروفة بالتعريف الإلهي».
(3) يصح أن تفهم هذه الجملة على أحد الوجهين الآتيين: الأول: أن التعظيم المطلوب منهم لما شرعوه إنما طلب على غير الطريقة المعروفة في إرسال الرسل
: لأن هؤلاء إنما يكون تعظيمهم لما أتوا به بعد ظهور المعجزة على أيديهم- و هذا هو المشار إليه بالتعريف الإلهي: أي تعريف اللَّه الناس بهم.
الوجه الثاني: أن ما شرعوه إنما كان على غير الطريقة النبوية المعروفة: أي أنه شي ء غير ما جاءت به الرسل و زائد عليه. و ذلك كصوم الدهر و الإقلال من الطعام و الخلوة و كثرة الذكر و عدم الاختلاط بالناس و ما شاكل ذلك. و هذا الوجه هو الأقرب إلى المراد.
أما عن الرهبانية فلسنا بحاجة إلى أن نذهب بعيداً لنعرف موقف الإسلام منها، فسيرة النبي صلى اللَّه عليه و سلم و سيرة صحابته و التابعين مثال واضح لحياة رجال زهدوا في الدنيا و لكنهم لم يهجروها، و عبدوا اللَّه و لكنهم لم ينقطعوا إليه، و أحلوا الطيبات من الرزق و لم يحرموها. أخذوا بفضيلة الوسط فلم يفرطوا و لم يفرَّطوا.
و في أقوال النبي لعثمان بن مظعون الذي ترهبن في زمنه أعظم شاهد على ما نقول (راجع تلبيس إبليس ص 219 - 220).
و قد وردت في الرهبانية آية: «وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» (يوسف : آية 28) و ورد الحديث: «لا رهبانية في الإسلام».
أما الحديث فيقال إنه وضع في القرن الثالث الهجري تأييداً للآية و حسماً للنزاع في معناها.
و أما الآية فاختلف فيها المفسرون و القراء. فمنهم من رأى فيها معنى التحريم كالزمخشري، و منهم من رأى الإباحة كابن مجاهد و الجنيد الصوفي. و لكن الرأي الغالب عند علماء المسلمين هو الأول.
و يكفي النص على أن الرهبانية بدعة ليكسبها معنى التحريم أو الكراهية.
أما ابن العربي فقد فسر هذه الآية تفسيراً مختلفاً تماماً عن تفسير أي مسلم قبله:
فهو يرى:
أولًا: أن الرهبانية التي يقول إنها «النواميس الحكمية»، معتبرة عند اللَّه شأنها شأن الدين.
ثانياً: أن اللَّه جعل في قلوب الذين ابتدعوها تعظيم ما ابتدعوه.
ثالثاً: أنهم رعوها- و أنهم ما رعوها حق رعايتها إلا ابتغاء رضوان اللَّه.
رابعاً: أن اللَّه آتى الذين آمنوا (أي بها) أجرهم- و كثير منهم «فاسقون» أي خارجون عن الانقياد إليها و القيام بحقها.

(4) «و معقول العادة أن يعود الأمر بعينه إلى حاله، و ليس هذا ثَمَّ».
(4) لما فسر «الجزاء» بأنه «عادة» بمعنى أنه ما يعود على العبد من خير أو شر بحسب ما تقتضيه أحوال عينه الثابتة، أراد ألا يفهم من العادة معنى التكرار في هذا المقام.
فقال إن العادة امر يعود بعينه إلى حاله: أي أمر يتكرر و ليس هذا حاصلًا فيما نتحدث عنه: أي في «الجزاء» على رأي القيصري و جامي و بالي: أو في «الدين» على رأي القاشاني: فليس في «الدين» تكرار أصلًا إذا فهمنا الدين بمعنى أنه تجلي الحق الدائم في صور الموجودات: فإن هذه الصور في تغير مستمر، و كل تجلٍ في صورة غيره في الصورة الأخرى.
فالجوهر الواحد يظهر في ما لا يتناهى من الصور و يلبس في كل مظهر ثوباً جديداً، و لا شي ء في الوجود يعيد نفسه أو يتكرر أصلا فإن الصور أو الاعراض كما تقول الأشاعرة لا تبقى زمانين.
هذا هو «الخلق الجديد» الذي يشرحه ابن العربي في الفص السادس عشر.
و ليس في «الجزاء» تكرار إذا فهمنا الجزاء بمعنى أنه ما يعطيه الحق لأعيان الموجودات مما تقتضيه طبيعة هذه الأعيان ذاتها.
و إذا كان ما يظهر من صفات الوجود في عين من الأعيان مختلفاً عما يظهر منها في عين أخرى لاختلاف مقتضيات
طبيعتهما، استحال التكرار لاستحالة اتفاق أعيان الموجودات في أحوالها.
فوجود الحق في صور الموجودات أشبه بوجود الإنسانية في أفراد الإنسان.
فزيد إنسان و عمرو إنسان و بكر إنسان، «و ما عادت الإنسانية إذ لو عادت لتكثرت، و هي حقيقة واحدة و الواحد لا يتكثر في نفسه».
(قارن الفص الثاني: التعليق التاسع) و إذا فهمنا الجزاء بمعنى ما يجنيه الإنسان ثمرة لعمله، خيراً كان ذلك أو شراً، كان فيه معنى العوْد- أي أنه عاد عليه ما تقتضيه حاله مما سماه العرف في الخير ثواباً و في الشر عقاباً- و لم يكن فيه معنى التكرار، لأن جزاء كل إنسان خاص به قاصر عليه. و لما كان الجزاء لا يلاحظ فيه معنى العِوَض، بل هو ضرورة تقضي بها طبيعة الأشياء قال:

(5) «فإنها من سر القدر المتحكم في الخلائق».
(5) أي فإن مسألة «الجزاء» جزء من القانون العام المتحكم في الخلق: و هو الذي يسميه سر القدر.
و معناه- كما قلنا من قبل (التعليق الثاني و الثالث على الفص الثاني) أن ما كنت عليه في ثبوتك ظهرت به في وجودك. و ليس ما تظهر به في وجودك سوى ما يعطيك اللَّه إياه. و هكذا ندور في هذه الدائرة المغلقة التي يدور فيها ابن العربي في جميع تفكيره- و ننتهي إلى النتيجة الحتمية الآتية:
و هي أن الجزاء بالمعنى الديني لا وجود له في قاموس مصطلحاته. فلا مجازي يعطي الجزاء مراعياً عمل العبد و استحقاقه، و لا مجازىً يعطَى ما يعطاه من أجل عمله و استحقاقه.

(6) «و الحق على وجهين في الحكم في أحوال المكلفين».
(6) قد شرح المؤلف بعض نواحي هذه المسألة فيما سبق من هذا الفص، و في الفص الخامس حيث قرر أن الإنسان (بل كل موجود) هو الذي يعين مصير نفسه و يجلب لها السعادة أو الشقاء.
و أن كل ما يترتب على أفعاله من حمد أو ذم راجع إلى عينه الثابتة التي اقتضت ظهور هذه الأفعال عنه من الأزل.
أما هنا فتعالج هذه المسألة مرة أخرى، و لكن من وجهة نظر الأديان- أي من ناحية تكليف العبد و حكم اللَّه على أفعاله.
يقول: للحق وجهان في الحكم على أحوال و أعمال المكلفين:
الوجه الأول الحكم عليها من ناحية الإرادة الإلهية،
و الوجه الثاني الحكم عليها من ناحية الأمر الإلهي.
و الأول هو الحكم الإرادي
و الثاني الحكم التكليفي.
فاللَّه يأمر العبد بأن يفعل كيت و كيت أو ينهاه عن فعل كيت و كيت، و يريد في الوقت نفسه أن هذه الأوامر و النواهي يطيعها بعض الناس و يعصاها البعض الآخر. و لا غضاضة في مذهب ابن العربي أن نقول إن اللَّه يريد وقوع المعصية: ذلك لأن الإرادة الإلهية تتعلق بالفعل بحسب ما يقتضيه علم الحق بذلك الفعل و فاعله، و يتعلق علم الحق بالفاعل بحسب ما يعطيه المعلوم من ذاته.
فاللَّه لا يعلم إلا ما هو واقع لا محالة، و هو لا يريد إلا ما يعلم.
بهذا المعنى يقول ابن العربي إن كل إنسان يطيع الإرادة الإلهية لأنه لا يفعل من الأشياء إلا ما كان متفقاً مع الإرادة الإلهية.
و كان الأوْلى به أن يقول إن الإرادة الإلهية تطيع أفعال العباد و تخضع لها، لأن اللَّه لا يريد فعلا- طاعة كان أو معصية- إلا إذا كان ذلك الفعل متحقق الوقوع، و كان مما تقضي به طبيعة الفاعل ذاتها.
و لكن ليس كل إنسان يطيع الأمر الإلهي الذي هو الأمر التكليفي:
فإن أتى فعل العبد مطابقاً لما أُمر به أو نهي عنه سمي ذلك منه طاعة، و إن خالف ما أُمر به أو نُهي عنه سمي معصية.
و على ذلك كان كفر فرعون و معاصي العباد جميعاً في اتفاق تام مع ما أراده اللَّه و ما علمه أزلا، لا يختلفون في ذلك مطلقاً عمن أتت أفعالهم موافقة لأوامر الدين.
و خلاصة القول أن أفعال العباد لا توصف في ذاتها بأنها طاعة أو معصية:
خير أو شر، بل هي أفعال تقضي بها طبيعة الوجود: و إنما تدخل في دائرة تلك الأحكام لسبب عارض و هو تطبيق المعايير الدينية أو الأخلاقية عليها.
راجع ما قلناه في الأمر التكليفي و الأمر التكويني:
الفص الخامس التعليقات 4، 5، 6، 7.


(7) «فالرسول و الوارث خادم الأمر الإلهي بالإرادة، لا خادم الإرادة».
(7) مهَّد ابن العربي لهذه المسألة بذكر الطبيب الذي يخدم المريض بأن يستغل طبيعته في العلاج، و هو في الحقيقة خادم لأحوال مريضه، و هي أحوال تقضي بها طبيعة المريض ذاته.
كذلك الرسل و ورثتهم أطباء نفوس يخدمون من أرسلوا إليهم من الخلق، و لكنهم في الواقع خدم لأحوال هؤلاء الخلق، تلك الأحوال التي تقضي بها طبائعهم.
فإن قيل إن الرسل و ورثتهم خدم للأمر الإلهي كان ذلك بمعنى أنهم مرسلون لتبليغ رسالة إلهية إلى الخلق بأمر من اللَّه، و أن اللَّه أراد منهم تبليغ هذه الرسالة.
و لكنهم لا يخدمون الإرادة الإلهية من حيث طاعة الخلق و معصيتهم، و إلا لم يبلغوا رسالة اللَّه إلى الذين أراد اللَّه أن يكونوا من العاصين لها.
فهم يخاطبون بالأمر الإلهي جميع الخلق على السواء: العاصين منهم و المطيعين، غير عالمين بمن قدرت له الطاعة و من قدرت عليه المعصية.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة أغسطس 02, 2019 11:08 am

09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليوسيفي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفص التاسع حكمة نورية في كلمة يوسفية
(1) حكمة نورية في كلمة يوسفية
(1) يبحث هذا الفص في «عالم المثال» و ما يتصل به من القوة الخيالية في الإنسان و ما ينكشف للإنسان بواسطة اتصاله بالعالم المثالي من صور الوجود الروحاني كالصور التي ترى في الأحلام.
و العالم المثالي نوراني كما يقولون- أي غير مادي- جرياً على الاصطلاح الفارسي- في تسمية كل روحي لطيف نوراً، و كل مادي كثيف ظلمةً، و لكن الصور النورانية التي يحتويها قد تبدو في العالم المحسوس متجسدة متشخصة، و تدرَك فيه على نحو ما تدرك الكائنات المادية.
و أهم مسألة يعرض المؤلف لذكرها هنا مسألة الرؤيا وصلتها بقوة الخيال في الإنسان من جهة، و بالعالم المثالي من جهة أخرى، ثم صلة الرؤيا بالوحي و منزلتها منه.
غير أنه لا يقف عند هذا الحد، بل يصبغ المسألة صبغة ميتافيزيقية أخرى فيتوسع في معنى الخيال بحيث يجعله الحضرة- أو الحال- التي تظهر فيها الحقائق الوجودية في صور رمزية. فكل ما يظهر للحس أو للعقل مما يجب تأويله لمعرفة حقيقته خيال. و لهذا لم يتردد في القول بأن حياتنا كلها حلم من الأحلام، و أن كل ما نراه من صور الوجود الخارجي خيال في خيال، و أن النور الحقيقي أو الوجود الحقيقي هو اللَّه. بعد ذلك يشرح بالتفصيل معنى وجود العالم و نسبته إلى اللَّه، و معنى الوحدة و الكثرة و العلاقة العِلّية بين اللَّه و العالم.
أما اقتران اسم يوسف بهذه «الحكمة النورية» فلصلته بتأويل الأحلام كما
ورد في قصته، لأن يوسف قد كشف عن العالم المثالي على الوجه الأكمل، و كان عالماً بالمراد من الصور المرئية المثالية.
و المراد «بالحكمة النورية» المعرفة الخاصة بذلك العالم النوراني الذي هو عالم المثال. فبهذه الحكمة نعرف أسرار هذا العالم و ندرك صلته بحضرة الخيال في الإنسان. و لهذا قال «انبساط نورها على حضرة الخيال»: أي انها تلقي الضوء على ما خفي من ظواهر حضرة الخيال. هذا إذا أعدنا الضمير في نورها على الحكمة النورية.
و لكن القيصري و جامي يعيدان الضمير على «الكلمة اليوسفية» أي روحانية يوسف التي يقولان إن نورها منبسط على حضرة الخيال، بحيث إن كل من يعلم علم الرؤيا من بعده إنما يأخذ عن مرتبته و يستمد من روحانيته. و ليس لهذا التخريج ما يؤيده من نصوص الكتاب.

(2) «و قال يوسف عليه السلام: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ... إلى في خزانة خياله».
(2) يذهب إلى أن ما يُرى في الأحلام على صورته الواقعية أو على صورة أخرى غير صورته قد يكون نتيجة قصد و إرادة من الرائي أو من المرئي أو من كليهما، و قد يحصل عن غير قصد و لا إرادة منهما.
فإذا وقعت الرؤيا نتيجة لقصد و إرادة كان للقاصد علم بما قصد، و إذا وقعت من غير قصد و إرادة من أحد، لم يكن للمرئي علم بما رآه الرائي و لا للرائي علم بما رأى إلا بعد حصول الرؤية.
و هذا النوع أدخل في باب الرؤيا الصادقة و أكمل لأنه إدراك مباشر لما في خزانة الخيال. و قد كانت رؤية يوسف لإخوته في صورة الكواكب، و لأبيه و خالته في صورة الشمس و القمر غيرَ مرادة له و لا لأحد من المرئيين بدليل أنه لم يكن يعلم عن هذا الأمر شيئاً و أنهم لم يكن لهم علم بما رآه. و لذلك أدرك يعقوب قيمة رؤيا ابنه و صدقها فقال له «يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً».
أما الرؤيا عن قصد من الرائي فأمر يرى إمكانه معظم الصوفية. و يحدثنا ابن العربي نفسه أنه كان يستطيع في أي وقت شاء أن يستحضر في حلمه أو في يقظته صور مشايخه فتتمثل أمامه و يخاطبها بما يريد. و لعل غير الصوفية أيضاً يزعمون هذا الزعم و إن كانوا لا يذهبون في تفسير هذه الظاهرة مذهبهم. راجع ما ذكرناه عن الهمة و خلق الأشياء بواسطتها: الفص السادس: التعليق الثامن: قارن ما يذكره المؤلف عن «الصدق» في كتابه مواقع النجوم ص 83 - 85. راجع أيضاً شذرات الذهب لابن العماد ج 5 ص 196 في كلام صدر الدين القونوي عن تمكن شيخه ابن العربي من الاجتماع بروح من شاء في نومه أو يقظته.

(3) «و سأبسط من القول في هذه الحضرة بلسان يوسف المحمدي».
(3) حاول أن يعقد صلة بين الرؤيا التي رآها يوسف في منامه ثم أوَّلها و قال بعد أن تحققت: «هذا تَاوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا»، و بين قول النبي صلى اللَّه عليه و سلم: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا».
فقال إن الأصل هو ما قال النبي محمد عليه السلام و هو أن الناس نيام و أن كل ما يرونه أحلام، و أن يوسف لما رأى رؤيته ثم أوَّلها فيما بعد إنما خيل إليه أنه استيقظ من نومه، و لكنه لم يستيقظ و لم يزل في نومه حتى مات: و كذلك كل إنسان و هذا معنى قوله «فكان (أي يوسف) بمنزلة من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤيا رآها ثم عبَّرها، و لم يعلم أنه في النوم عينه ما برح». فاليقظة إذن هي النوم بعينه، و ليس ما نسميه نوماً إلا حالًا من حالاتها، و ليس ما نراه في اليقظة أو في المنام إلا خيالًا يجب تأويله.
و لهذا يفرِّق بين يوسف النبي الذي وصف العالم المحسوس بأنه العالم الحق و قابل بينه و بين عالم الأحلام في قوله: «هذا تَاوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا»، و بين ما يسميه «يوسف المحمدي» أي يوسف الذي يتكلم بلسان محمد و يشرح قوله: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» بالمعنى الذي أشرنا إليه
و الذي يزيده المؤلف تفصيلا فيما بعد.

(4) «اعلم أن المقول عليه «سوى الحق» أو مسمى العالم ... كالظل للشخص و هو ظل اللَّه».
(4) في هذا الجزء من الفص أثر واضح للفلسفة الزرادشتية: على الأقل في الاصطلاحات و التشبيهات التي يستعملها ابن العربي إن لم يكن في صميم الأفكار ذاتها.
فهو يرى أن الحقيقة الوجودية لها ناحيتان- و قد أشرنا إلى بعض خصائص هاتين الناحيتين فيما سبق- الحق، و ما سوى الحق: أو اللَّه و العالم و يرمز لهما بالنور و الظلمة، أو بالشخص و ظله. و لكن لكي يكون لشخص من الأشخاص ظل، يلزم أن توجد ذات يقع منها الظل، و ذات أخرى أو ذوات يقع عليها الظل، و نور يسبب الظل. و كذلك الحال في ذلك الظل الوجودي الذي يتكلم عنه. فالحق هو الذات التي يمتد منها الظل، و أعيان الممكنات هي الذوات التي يقع عليها الظل- لطيفاً في عالمها المعقول، كثيفاً في عالمها المحسوس- و النور هو اسم اللَّه الذي تجلى به على الممكنات فأظهر الحد ما بين الحق و الخلق.
و يتصوره ابن العربي على أنه أشبه شي ء بالقوة الخالقة في طبيعة الوجود تدفعه دائماً إلى الظهور و التعَيُّن في الصور.
"يقول القيصري إن اسم النور يطلق على الوجود الإضافي أي الوجود الذي يمنحه اللَّه العالم و على العلم الإلهي و على الضياء إذ كل منها مظهر للأشياء. اما الوجود فظاهر لأنه لولاه لبقي أعيان العالم في كتم العدم، و أما العلم فلأنه لولاه لم يدرك شي ء بل لا يوجد فضلا عن كونه مدركا، و أما الضياء فلأنه لولاه الأعيان الوجودية في الظلم الساترة لها "
و بالاسم النور يقع إدراكنا للموجودات لأنه يظهرها، و نحن ندرك من الحق بقدر ما ندرك من الأشياء التي وقع عليها ظل وجوده.
فإذا أثبتنا أن للعالم وجوداً (مستمداً من وجود الحق) كان للظل وجود واقعي و كانت الحقيقة ثنائية.
أما إذا قدرنا عدم وجود العالم، فإن الظل يكون أمراً معقولا موجوداً بالقوة لا بالفعل و تكون الحقيقة واحدية. فالمسألة إذن مسألة اعتبار و تقدير: إذا نظرنا إلى الحقيقة من جهة قلنا إنها واحدة، و إذا نظرنا إليها من جهة أخرى قلنا إنها اثنينية.
و ظاهر من هذا الكلام أن ابن العربي كان يشعر بنفس القلق العقلي الذي شعر به زرادشت من جراء محاولة التوفيق بين التوحيد الديني و الثنوية الفلسفية، و لكنه وَجَدَ- خلافاً لزرادشت- مخرجاً من هذا التناقض في نظريته في وحدة الوجود التي تقبل جميع الاعتبارات و تنمحي فيها جميع المتناقضات.

(5) «و لكن باسم النور وقع الإدراك، و امتد هذا الظل على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول».
(5) ذكرنا في التعليق السابق كيف اعتبر الاسم الإلهي «النور» مبدأ الخلق أو مبدأ ظهور التعينات في الذات الإلهية، و يظهر أنه يعتبره هنا مبدأ التعقل أو الإدراك في الذات الإلهية.
فكأنه بهذا المعنى مرادف للعلم أو العقل، إذ به امتد ظل الوجود الإلهي على أعيان الممكنات الثابتة في العلم القديم أو في العالم المعقول المشار إليه باسم «الغيب المجهول». و به عرف الحق نفسه بنفسه لما رأى صورة نفسه في مرآة الوجود الإضافي متمثلة في جميع الصور المعقولة التي احتوتها ذاته بالقوة. و ليس النور- بهذا المعنى- مبدأ الإدراك في الحق وحده، بل في كل ما يدرِك و من يدرِك من الكائنات. هو العقل الواعي الساري في الوجود.
و يذهب الصوفية الذين يستعملون هذه اللغة الاشراقية إلى أن هذا المعنى المزدوج لكلمة النور مشار إليه في قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» فيقولون إنه نور السموات بمعنى أنه العقل الكلي الإلهي، و نور الأرض بمعنى أنه مبدأ وجود العالم أو مبدأ الخلق فيه.

(6) و كذلك أعيان الممكنات ليست نيرة لأنها معدومة و إن اتصفت بالثبوت، لكن لم تتصف بالوجود إذ الوجود نور».
(6) شرح قبل ذلك فيضان الوجود عن الواحد الحق: و عبَّر عن هذا المعنى هنا بامتداد ظل الوجود على الموجودات.
و لكنه يرى أن هذا الظل يختلف كثافة و لطافة بمقدار بعده أو قربه من مصدره. فالعالم المحسوس يمثل أكثف الظلال: و العالم المعقول ألطفها، و عالم المثال- الذي هو عالم الأرواح- بين بين. و هذا بالضبط ما يقوله أفلوطين في فيوضاته و لكن بلغة أخرى.
و لما كانت أعيان الممكنات- التي هي الصورة المعقولة للموجودات- من جملة هذه الظلال، و إن كانت أقربها جميعاً إلى مصدر الظل، قال إنها ليست نيِّرة لأنها الظل الأول الذي أخذ في التكاثف شيئاً فشيئاً حتى بلغ منتهى الظلمة في العالم المحسوس.
أما وصفه هذه الأعيان بأنها معدومة و إن كانت ثابتة، فذلك لأنه يفرِّق بين الثبوت و الوجود. و الأعيان ثابتة أي موجودة في العلم الإلهي على نحو ما توجد المعاني في العقول الانسانية و ليس لها وجود في العالم الخارجي، و هذا معنى عدمها. أما الوجود فيقصد به التحقيق في العالم الخارجي في الزمان و المكان، و لا يكون ذلك إلا لأشخاص الأعيان الثابتة.

(7) «و إذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهَّم ما له وجود حقيقي، و هذا معنى الخيال».
(7) بعد أن شرح العلاقة بين اللَّه و العالم مستعملًا التمثيل بالظل و صاحب الظل على نحو ما شرح نفس الموضوع من قبل مستعملًا التمثيل بالمرايا و صورها، انتهى إلى النتيجة الحتمية التي أرادها، و هي أن ليس للعالم وجود حقيقي في ذاته، بل هو أمر متوهم، أي متوهم وجوده إلى جانب وجود اللَّه، إذ ليس في الحقيقة إلا وجود واحد.
و هذا هو معنى الخيال: يريك الشي ء في صورة أخرى، فإذا تأملته و أوَّلته أدركت أنه هو هو.
غير أننا يجب أن نكرر هنا ما ذكرناه من قبل عن التمثيل بالمرايا و صورها، و ضروب التمثيل الأخرى التي يستعملها ابن العربي- و ذلك أن كل تمثيل من هذا النوع لا يخلو من شي ء من الغموض و التضليل من ناحية أنه أمر محسوس يراد به إيضاح ما هو في نفسه غير محسوس، و من ناحية أنه يشعر بالاثنينية حيث ليس في الأمر اثنينية و لا كثرة بأي وجه.
فليس من الممكن أن نتصور الشخص و ظله إلا على أنهما شيئان متميزان مهما قيل من أن الظل لا وجود له بدون الشخص و من أنه يستحيل عليه الانفكاك عنه. فاتصال الظل بالشخص و افتقاره في وجوده إليه شي ء، و القول بأنهما حقيقة واحدة شي ء آخر.
و لكن هذه هي الدعوى التي يدعيها ابن العربي في الصلة بين اللَّه و العالم عند ما يشبه العالم بظل اللَّه و يقول يستحيل على الظل الانفكاك عن ذاته هل ظل الشي ء عين ذاته: أم هو أثر من آثاره و عرض من أعراضه؟
و هل للذات وجود في الظل الممتد عنها كما أن للحق وجوداً في صور الممكنات؟
هذه و أمثالها أسئلة فيها من جفاف المنطق ما لا تتحمله المعاني الشعرية التي يوضح بها ابن العربي نظريته فيجب إذن ألا ينظر إلى لوازم كل هذه التشبيهات و ألا نحكِّم منطق العقل في المسائل الذوقية و الشعرية.
و هناك تمثيل آخر يذكره بعد التمثيل بالظل مباشرة و يوضح به اختلاف تجلي الحق باختلاف صور الممكنات، لأنه يُشَبّه الحق بالنور الذي لا لون له، و يشبه الخلق بالزجاج الملون، و يقول إن الحق يظهر في صور الموجودات بحسب ما تقتضيه طبيعة هذه الصور كما يظهر النور المرئي خلال الزجاج الأخضر أخضَرَ، و المرئي خلال الزجاج الأحمر أحمر و هكذا. فاللون هو الذي حجب النور عن أن يظهر على حقيقته، كما أن صور الممكنات هي التي حجبت الحق عن الظهور بذاته في صورة غير متعينة.
فالنور هو الحق أو الذات الإلهية، و الزجاج هو العالم، و الألوان هي صور الوجود المختلفة. و الذات الإلهية لا لون لها: أي ليس لها في نفسها صفات و لا خصائص و لا نسب، و إنما تظهر بهذه الصفات و الخصائص و النسب إذا نظر إليها خلال الموجودات التي لها هذه الأوصاف.
و هذا معنى قوله: «و هكذا تُرَاهُ» - أي و هكذا تُرَى النور- «ضربَ مثالٍ لحقيقتك بربك» أي ذكرنا لك النور الملون لنضرب لك مثالا يوضح حقيقتك مع ربك.

(8) «مع هذا عين الظل موجود فإن الضمير من «سمعه» يعود عليه».
(8) الإشارة في قوله من «سمعه» تعود على الحديث القدسي الذي يكثر ابن العربي من الاستشهاد به، أي حديث قرب النوافل الذي يقول اللَّه فيه: «لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به ... » إلخ ..
و إعادة الضمير في «سمعه» على الظل في الفص السابق معناه إعادته على العبد الذي هو ظل الحق، و في هذا إثبات لوجود الظل. هذا إذا ذكرنا الخلق في مقابلة الحق، و العالم في مقابلة اللَّه، و الظل في مقابلة الشخص. و هو لسان الشرع في الظاهر: أما لسان الباطن فليس إلا الوحدة و هي ما يشير إليه الحديث في قوله فإذا أحببته كنت سمعه: أي تحقق العبد الكامل أنني أنا سمعه و بصره و جميع قواه: أو تحقق من الوحدة الوجودية الحاصلة بالفعل، لا من أن الحق يصير سمعه بعد أن لم يكن، أو بصره بعد أن لم يكن، إذ لا صيرورة في الأمر بل الوحدة حاصلة بالفعل. و قد ذكر حديث قرب النوافل ليستشهد به على وجود بعض الكائنات التي هي أقرب من غيرها إلى الحق و أدنى إلى صورته الجامعة الشاملة و هي صورة الإنسان الكامل، و لكن حتى في حالة الإنسان الكامل الذي هو من ألطف ظلال الوجود لا نزال نتحدث عن اثنينية الحق و العبد، لأننا نثبت وجود الظل فما بالك بالظلال الأخرى التي هي أكثر كثافة و أظلم؟ أي ما بالك بما بقي من مظاهر الوجود الأخرى؟

(9) «فقد بان لك بما هو كل اسم عين الاسم الآخر و بما هو غير الاسم الآخر. فبما هو عينه هو الحق، و بما هو غيره هو الحق المتخيّل الذي كنا بصدده».
(9) أي ظهر لك بأي معنى يمكن اعتبار كل اسم من الأسماء الإلهية عين كل اسم آخر، و بأي معنى يمكن اعتباره غيره: و هو يشير هنا إلى ما سبق أن شرحه في مواضع أخرى من هذا الكتاب أعْنِي أن لكل اسم من الأسماء دلالتين: أولاهما دلالته على الذات الإلهية و الأخرى دلالته على الصفة الخاصة التي يتميز بها من غيره من الأسماء.
و لذا كانت الأسماء كلها متحدة من وجه، مختلفة من وجه آخر:
فهي متحدة لدلالتها جميعاً على الذات الإلهية التي هي عينها، و مختلفة من حيث دلالة كل منها على الصفة المعينة الخاصة به.
و لما كان الظاهر في صور الوجود الخارجي (المعبر عنه بالعالم) هو الحق- لا من حيث ذاته المجردة المعراة عن جميع الأوصاف و النسب- بل الحق من حيث أسماؤه و صفاته، فرَّق بين الحق الحقيقي و الحق المتخيل الذي هو العالم، و جعل الأول اسماً للَّه من حيث هو في ذاته، و الثاني اسماً له من حيث تجليه في الخلق، ثم جعل الحق المتخيَّل دليلًا على اللَّه حيث قال: «فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه، و لا ثبت كونه إلا بعينه».

(10) «فمن وقف مع الكثرة كان مع العالم و مع الأسماء الإلهية و أسماء العالم، و من وقف مع الأحدية كان مع الحق من حيث ذاته الغنية عن العالمين».
(10) بعد أن بيَّن الفرق بين الحق و الخلق، أو بين اللَّه و العالم- شرع في ذكر أهم الخصائص التي يمتاز بها كل منهما، فقال إن الصفة الأساسية للوجود الحق هي الوحدة، و للوجود الظاهر هي الكثرة.
فمن قال بالكثرة نظر إلى الحقيقة الوجودية من حيث ظهورها في العالم و هو كثرة من الأعيان، و من حيث تجليها في الأسماء الإلهية و هي أيضاً كثرة معقولة لتمايز كل منها عن الآخر و وجود النسب و الإضافات فيها، و من حيث ظهورها في أسماء العالم أي في صفاته الخاصة به كالحدوث و الإمكان و التغير و ما شاكل ذلك.
أما من قال بالوحدة فقد نظر إلى الحقيقة الوجودية من حيث ذاتها التي لا كثرة فيها بوجه من الوجوه.
فهي تتعالى حتى عن الكثرة الاعتبارية العقلية التي هي كثرة الاتصاف بالأسماء. فهي غنية لا عن أعيان العالم فحسب، بل و عن الأوصاف أيضاً.
و يستوي في الحقيقة أن نقول إن من وقف مع الكثرة كان مع العالم و مع الأسماء الإلهية كما قال، أو أن نعكس القضية فنقول إن من وقف مع العالم و مع الأسماء الإلهية كان مع الكثرة لأن كلًا من الطرفين لازم عن الآخر.
كما يستوي أن نقول كما قال «و من وقف مع الأحدية كان مع الحق من حيث ذاته»، و أن نعكس فنقول «و من وقف مع الحق من حيث ذاته كان مع الأحدية»: و ذلك للسبب عينه.
و كل من قال بالكثرة وحدها محجوب لأنه لا يرى سوى وجه واحد من الحقيقة و كذلك كل من قال بالوحدة دون الكثرة.
لأنه لا يرى سوى الوجه الآخر من الحقيقة. أما العارفون بالأمر على ما هو عليه فيرون الوحدة في الكثرة و يشاهدون الحق في الخلق، و يقررون وحدة الحق بعد أن يتحققوا أن الخلق لا وجود له في ذاته و لا من ذاته.
و هذه معان عرض لها المؤلف فيما مضى مستعملًا لغة أخرى. راجع مثلًا قوله في التنزيه و التشبيه في الفص الثالث.

(11) «و ظهرت الكثرة بنعوته المعلومة عندنا»
(11) قد يفهم هذا بمعنى أن الكثرة ظهرت في الذات الإلهية الواحدة لتجليها في الأسماء و النعوت الإلهية التي نعرفها، أو بمعنى أن الكثرة ظهرت لظهور الذات بالأوصاف المعلومة فينا: أي لظهورها في صور الممكنات و صفاتها.
و يظهر أن هذا أقرب إلى مراده بدليل قوله فيما بعد «فنحن نلد و نولد و نحن نستند إليه و نحن أكفاء بعضنا لبعض» و غير ذلك من الصفات التي هي صفات للخلق و لكن في ذات الحق. أما الذات نفسها فغنية عن كل هذا و لذا صدق فيها قوله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «1» اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» (سورة الإخلاص).
" ابن العربي يستعمل في هذا الفص نفسه اسم الأحد للدلالة على الذات الإلهية المجردة عن الأسماء و الصفات و على الحق المتصف بهذه الأسماء و الصفات. يقول: «فاحدية اللَّه من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا أحدية الكثرة، و أحدية اللَّه من حيث الغنى عنا و عن الأسماء أحدية العين. و كلاهما يطلق عليه الاسم الأحد"
على أن الفرق بين التفسيرين ليس بالأمر الخطير، فإن صفات الخلق ليست سوى المجالي الوجودية لصفات الحق، و إذا نظرنا إلى الذات الإلهية من حيث صفاتها كانت الكثرة فيها كثرة بالقوة، أما إذا نظرنا إليها بالاضافة إلى صفات الممكنات كانت الكثرة فيها بالفعل.
و يذهب ابن العربي إلى أن سورة الإخلاص قد جمعت جميع الصفات التي يمكن أن ننسبها إلى الحق من حيث ذاته، و ذلك في قوله: «و ما للحق نَسَبٌ إلا هذه السورة- سورة الإخلاص-. و لعل السر في هذا أنها مجموعة صفات سلبية محضة: و مثل هذه الصفات أقصى ما يمكن أن توصف به ذات مجردة غنية عن العالمين، منزهة حتى عن أن تعلم و توصف. أما قوله: «و ما للحق نسبٌ» ففيه إشارة إلى سبب نزول السورة و هو أن الكفار سألوا النبي عليه السلام أن ينسب إليهم ربه: أي يصفه، فنزل هذا النَّسَب.
و قد أخطأ من قرأ «و ما للحقِ نَسبٌ» بكسر النون لأن نسب الحق إلى الموجودات لا تتناهى، فلا يمكن عدُّها في سورة واحدة و لا في القرآن كله.

(12) «حتى تعلم من أين أو من أي حقيقة إلهية اتصف ما سوى اللَّه بالفقر ... إلى قوله و لا سببية يفتقر العالم إليها سوى الأسماء الإلهية».
(12) يشرح في هذا الجزء قدراً كبيراً من نظريته في العلية: و قد سبق أن ذكرنا أنه يرى أن حدوث العالم ليس في أنه وُجد عن عدم، بل في ظهوره في الصور التي ظهر فيها.
أي أن العالم- أو ما سوى الحق- معلول في صورته لا في ذاته، إذ ذاته هي ذات الحق. فهو من هذه الناحية مفتقر افتقاراً كلياً إلى اللَّه، أو بعبارة أدق إلى الأسماء الإلهية، لأنها هي التي تعطي الوجود الخارجي صُوَره بتجليها فيه.
و لذا قال: «و لا سببية للحق يفتقر العالم إليها سوى الأسماء الإلهية».
فالعالم مفتقر في وجوده إلى اللَّه بهذا المعنى إذ لا وجود له من ذاته، و قد وهم من أثبت له وجوداً غير وجود الحق، كما وهم من أثبت للظل وجوداً غير وجود العين التي امتد منها الظل.
و لكن للعالم افتقاراً آخر بعضه إلى بعض، و هو الافتقار النسبي. و ذلك أن الموجودات يتصل بعضها ببعض داخل العالم اتصالا علياً و يؤثر بعضها في بعض و يتأثر به.
فهناك إذن نوعان من المعلولية: معلولية العالم في جملته: و معلولية أجزاء العالم بافتقار بعضها إلى بعض.
و لكن إذا أدركنا أن مذهباً كمذهب ابن العربي يرجع كل ما هو فعل و علية إلى الحق، و كل ما هو انفعال و قبول و معلولية إلى الخلق، عرفنا أن ذلك الافتقار النسبي ليس إلا اسماً على غير مسمى، و أن الفاعل على الإطلاق و العلة على الإطلاق هي الحق.
أما الحق فإن نظرنا إلى ذاته قلنا إنه غني على الإطلاق، و إن نظرنا إليه من حيث أسماؤه قلنا إنه مفتقر إلى العالم في إظهار كمالات هذه الأسماء ... و هذا معنى قوله:
فالكل مفتقر ما الكل مستغني هذا هو الحق قد قلنا لا نكني
(الفص الأول) غير أن العالم أيضاً قد يوصف بالغناء بمعنى أن بعض أجزائه مستغن عن البعض الآخر من وجه و إن كان مفتقراً إليه من وجه آخر.
فالعالم (أي بعض أجزائه) يوصف بالغناء في الوجه الذي لا تكون به حاجة إلى غيره. و هذا معنى قوله «و اتصف العالم بالغناء: أي بغناء بعضه عن بعض من وجه ما هو عين ما افتقر إلى بعضه به»
هذا إذا فهمنا ما (في قوله من وجه ما هو) على انها نافية: أي غناء بعضه عن بعض من وجه غير الوجه الذي به يفتقر بعضه إلى بعض. و هذا تفسير كل من القاشاني (ص 180) و جامي (ج 2 ص 60)، و لكن القيصري (ص 188) يفهم ما على أنها موصولة و يفسر العبارة كلها على النحو الآتي: و اتصف العالم بالغناء أي بغناء بعضه عن بعض من الوجه الذي افتقر ذلك البعض إلى بعض آخر بسبب ذلك الوجه.
و المقصود أن وجه الغنى هو بعينه وجه الافتقار. فإذا فرضنا أن ا، ب، ح أجزاء في العالم و فرضنا أن ب غنية عن ا و مفتقرة إلى ح، كان وجه غنائها عن ا هو بعينه وجه افتقارها إلى ح. أما تفسير القاشاني و جامي فيجعل الوجهين منفصلين مستقلين.

(13) «و الأسماء الإلهية كل اسم يفتقر إلى العالم إليه من عالم مثله أو عين الحق. فهو اللَّه لا غيره».
(13) سبق أن شرحنا بعض نواحي نظرية ابن العربي العلية، و قلنا إن الحق- في نظره- هو العلة الأولى و الأخيرة في كل ما يظهر في الوجود، و لكن لا الحق من حيث ذاته بل من حيث أسماؤه. و هنا نراه يشرح معنى الأسماء الإلهية شرحاً جديداً، و إن كان أشار إليه من طرف خفي فيما مضى، و يبين بأي معنى من المعاني يمكن اعتبارها عِلل الوجود.
ليست الأسماء الإلهية قاصرة على مجموعة الأسماء المعروفة بأسماء اللَّه الحسنى، فإن هذه أمهات الأسماء فقط، و لكنها تشمل أيضاً كل اسم يفتقر العالم إليه من عالم مثله أو (من) عين الحق: أي أنها تشمل أسماء كل الأشياء التي تحدث آثاراً عِليَّة في غيرها.
فالأسماء الإلهية إذن نوعان: نوع يفتقر إليه بعض أجزاء العالم و يكون من جنس الجزء المفتقر- و هذا معنى قوله: «يفتقر العالم إليه من عالم مثله»
و ذلك مثل الأب بالنسبة إلى الابن، فإن الابن مفتقر في وجوده إلى الأب الذي هو من نوعه، و مثل النار بالنسبة إلى الجسم الساخن فإنهما من عالم واحد هو عالم الجماد.
و لا يتردد ابن العربي في أن يعد اسم الأب و النار و نحوهما من الموجودات التي تعتبر عللًا في موجودات أخرى من الأسماء الإلهية.
و بهذا المعنى يصبح العالم كله كتاباً لا نهائياً من أسماء اللَّه. أ لم يقل في مكان آخر إننا نحن (أي العالم) الأسماء الإلهية التي وصف بها الحق نفسه و نصفه نحن بها؟
ألم يقل إن الحق هو المسمى أبا سعيد الخراز و غير ذلك من المحدثات؟
أما النوع الآخر من الأسماء فهو كل اسم تتصف به الذات الإلهية: كالخالق و المصور و الرحيم و الغفار و القادر و غيرها من الأسماء الحسنى.
و قد سميت هذه الأسماء بالأمهات لأنها بمثابة الأصول التي يمكن أن يرد إليها أسماء النوع الأول، أو لأن أسماء النوع الأول يمكن أن تعتبر مظاهر أو محالي لها.
فاسم الأب مثلًا يمكن أن يعتبر مظهراً للاسم الخالق أو الرازق أو الحفيظ من ناحية أن الأب سبب في وجود الابن و أنه يتعهده بالغذاء و يحفظه مما يؤذيه.
و كذلك النار يمكن اعتبارها مظهراً من مظاهر الاسم الإلهي «القهار» أو القادر أو نحوهما.
وَ لِمَ نذهب إلى هذا النوع من التأويل البعيد و ابن العربي نفسه يعتبر جميع الموجودات مجالي لوجود الحق و تعينات فيه؟
و إذا كان الامر كذلك ألا يلزم أن تكون اسماؤها أسماء له؟
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة أغسطس 02, 2019 11:18 am

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الهودي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
10 - الفص العاشر حكمة أحدية في كلمة هودية
(1) «أحديَّة الصراط المستقيم».
(1) شرحنا من قبل في مناسبات عدة بعض نواحي «الأحدية»: فتكلمنا عن أحدية الذات الإلهية المنزهة عن الوصف المجردة عن جميع النسب و الإضافات، التي لا يرقى إليها عقل و لا يحيط بها علم.
و تكلمنا عن أحدية الأسماء الإلهية التي وصفناها بأنها أحدية الكثرة من حيث إن الأسماء الإلهية دلالات مختلفة على ذات واحدة، و مجالٍ متعددة في عين واحدة هي عين الحق.
و لنا أن نسمي هذه الأحدية أيضاً أحدية الاثنينية لأنها مقام الجمع بين الحق و الخلق: اللَّه و العالم أو الذات الإلهية و الأسماء.
و هنا نجد نوعاً ثالثاً من الأحدية يتحدث عنه ابن العربي و هو أحدية الأفعال التي يشير إليها في فاتحة هذا الفص باسم الصراط المستقيم و في فاتحة الكتاب (الفصوص) باسم الطريق الأمم.
و معنى الصراط المستقيم- أو الطريق الأمم- الطريق الذي يسير فيه الكون بأسره و تلتقي عنده جميع الطرق مهما تشعبت و اختلفت و افترقت.
و هو الطريق الذي خطته يد القدر من الأزل: لا يعتريه تغيير و لا تبديل، و لا يحيد عنه موجود أياً كان.
و لنا أن ننظر إليه من نواح متعددة: فمن ناحية أفعال العباد- بل أفعال الكائنات كلها- هو طريق الجبرية التي يخضع لها كل كائن فيما يصدر عنه من الأفعال و الآثار، فإن جميع ما يظهر في الوجود إنما يخضع لطبيعة الوجود ذاتها.
و هذا معنى أحدية الأفعال لأن الأفعال تظهر بمقتضى قوانين الوجود الحتمية التي هي قوانين الحق.
و هذا الطريق الجبري نفسه هو الطريق الذي يسير فيه العالم كله في نظامه
و تركيبه و حركاته و سكناته و تغيراته، و لكنه ليس طريق الجبرية الميكانيكية أو المادية التي يتكلم عنها بعض المحدثين أو التي تكلم عنها الرواقيون.
و إذا نظرنا إلى الطريق المستقيم هذا من ناحية الدين و المعتقدات وجدناه اسماً آخر لمذهب وحدة الوجود التي تلتقي فيها جميع الأديان و تتلاءم جميع العقائد.
و تظهر الأحدية فيه من ناحية أن المعبود على الإطلاق و في أي صورة عُبِدَ، هو اللَّه لا غيره. هذه هي ناحية الاحدية الملحوظة في هذا الفص و إن كانت النواحي الاخرى لم يغفل ذكرها تماماً.
 
(2) «و المآل إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، و هي السابقة».
(2) يَستعمل كلمة الرحمة من الناحية الميتافيزيقية الصرفة بمعنى منح اللَّه الوجود لأي موجود. و لما كان الحق سبحانه هو واهب الوجود للموجودات جميعاً وسعت رحمته كل شيء.
قال تعالى: «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»: لم يقل كل إنسان فقط و لا كل إنسان خير أو مطيع. فالشرور و المعاصي إذن من رحمة اللَّه لأنها من الموجودات التي وسعتها الرحمة.
و لكننا إذا نظرنا إلى المسألة في دائرة الاحكام الخلقية، كان للرحمة معنى آخر مختلف بعض الشي ء عن المعنى السابق لأنها تصبح مرادفة لكلمة الرضا:
فرحم اللَّه فلاناً بهذا المعنى مرادف لقولنا رضي اللَّه عن فعله و أثابه عليه.
و لكن حتى بهذا المعنى نستطيع أن نقول إن اللَّه يرضى عن جميع الأفعال خيرها و شرها و أن رحمته وسعت الأفعال كلها:
أولًا: لأن جميع الأفعال تصدر بمقتضى الإرادة الإلهية خاضعة للأمر التكويني- كما قلنا- و إن كانت في الصورة مخالفة للأمر الديني الذي هو الامر التكليفي.
ثانياً: لأن جميع الأفعال خير في ذاتها و لا توصف بالشر إلا بطريق العرض.
و إذا كانت شرية الأفعال عرضية فغضب اللَّه من أجلها عرضي أيضاً (قارن ما قلناه في صدق الوعد لا الوعيد).
أما أسبقية الرحمة فلأن اللَّه تعالى أوجد بها الأشياء في صور أعيانها الثابتة على نحو ما ظهرت عليه في وجودها، و قبل أن يوجد تمييز بين خير و شر أو طاعة و معصية.
 
(3) «إذا دان لك الخلق فقد دان لك الحق» الأبيات
(3) الحق و الخلق، أو الوحدة و الكثرة- و في الإنسان اللاهوت و الناسوت- وجها الحقيقة الوجودية كما أسلفنا شرحه. فإن خضع جانب الخلق في أي مخلوق لتصرف الإنسان، خضع تبعاً له جانب الحق في ذلك المخلوق، لأن في كل خلق وجهاً من وجوه الحق.
و لكن إذا خضع جانب الحق في أي موجود متعين فليس من الضروري أن يخضع الخلق في جملته لأن الحق المذعن لا ينحصر في الوجه الذي تجلى به لك و أذعن. فليس من الضروري أن تنقاد الخلائق الأخرى لأن تجليات الحق فيهم بحكم مجاليهم. فقد يخالف وجهه الذي تجلى به لك الوجوه التي تجلى بها لهم.
و قد ذهب الجامي (ج 2 ص 64) إلى أن المراد بالحق مرتبة الجمع و المراد بالخلق مرتبة الفرق: أي أننا إذا نظرنا إلى الكثرة (الخلق) لزم أن ننظر إلى الوحدة التي تضمها جميعاً (الحق) و هذه الوحدة هي الذات الإلهية. أما إذا نظرنا إلى الوحدة فقد لا نفكر مطلقاً في الكثرة التي تتجلى فيها.
«فما في الكون موجود تراه ما له نطق» إما أن نفهم هذا بمعنى أن كل موجود ينطق بتسبيح اللَّه و تقديسه من حيث إنه مجلى من مجالي الحق و مظهر من مظاهر كماله كما قال تعالى: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ».
أو نفهم النطق بمعنى التفكير و التعقل: أي فليس في الكون إلا ما فيه فكر و عقل مهما اختلفت درجات العقل في الموجودات، و إن كنا لا ندرك عقولا غير العقول الإنسانية، و لا نتصل بها لعدم وجود المناسبة بيننا و بينها. و كلا التفسيرين جائز و له ما يؤيده من كلام المؤلف.
 
(4) «اعلم أن العلوم الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل اللَّه مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة».
(4) المراد بالعلوم الإلهية العلوم التي موضوعها اللَّه و صفاته و أسماؤه. و هي تحتوي العلم بأحكام الأسماء الإلهية و لوازمها و كيفية ظهورها في مظاهر الوجود، كما تحتوي العلم بأعيان الموجودات الثابتة و أعيانها الخارجية من حيث هي مظاهر للحق. على الأقل هذا معنى العلوم الإلهية في عرف أصحاب وحدة الوجود، و لغيرهم أن يفهموها فهماً آخر.
أما المراد بالذوق فهو كما يقول القيصري «ما يجده العالِم على سبيل الوجدان و الكشف لا البرهان و الكسب، و لا على طريق الأخذ بالايمان و التقليد» (مطلع خصوص الكلم: صفحة 193). هو العلم الذي يلقى في القلب إلقاء فيذوق الملقى إليه معانيه و لا يستطيع التعبير عنها و لا وصفها.
و العلم الذوقي و لو أنه من نوع واحد إلا أنه يختلف باختلاف القوى التي يحصل بواسطتها، سواء أ كانت هذه القوى روحية كقوى النفس أو حسية كالجوارح.
أما حصوله عن طريق الجوارح فكما يدل عليه حديث قرب النوافل الذي يقرر أن الحق يصير سمع العبد و بصره و يده و لسانه.
و يفسره الصوفية بأن العبد في حال الفناء يسمع و يبصر و يبطش بالحق في الحق، و تؤدي إليه كل من هذه الجوارح من المعاني ما يدركه ذوقاً و لا يمكنه الإفصاح عنه.
أما العلوم الذوقية الحاصلة عن طريق القوى النفسية العليا كالقلب و الوهم و الخيال فقد سبقت الإشارة إليها في مناسبات أخرى.
و قوله «ترجع إلى عين واحدة» إما المراد به أن القوى التي تحصل بها العلوم الذوقية ترجع كلها إلى ذات واحدة هي ذات الحق أو ذات العبد على الرغم من اختلافها، أو أن العلوم الذوقية على الرغم من اختلاف أنواعها ترجع إلى أصل واحد لاشتراكها جميعاً في صفات و خصائص معينة. كالماء الذي هو حقيقة واحدة مع أن منه العذب الفرات و الملح الأجاج.
 
(5) «و هذه الحكمة من علم الأرْجُل».
(5) أي هذه الحكمة الأحدية على نحو ما فسرناها في التعليقات السابقة من علم الأرجل المشار إليه في قوله تعالى: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» (قرآن س 5 آية 66) .
أي و لو أنهم أقاموا أحكام ما أنزل إليهم من ربهم و عملوا به و تدبروا معانيه و كشفوا حقائقه، لفاضت عليهم العلوم الإلهية من غير كسب و عمل و هو الأكل من فوق، و لفازوا بالعلوم الحاصلة لهم من سلوكهم في طريق الحق و تصفية بواطنهم و هو الأكل من تحت الأرجل بدليل قوله: «فإن الطريق الذي هو الصراط هو للسلوك عليه و المشي فيه».
و يشرح القاشاني (ص 186) الأكل من فوق و الأكل من تحت الأرجل شرحاً آخر فيفهم الأول بمعنى علم أسرار الفواعل التي هي الأسماء الإلهية، و الثاني بمعنى علم القوابل السفلية التي هي العالم و ما فيه.
و لو عرف الناس أسرار الوجود و أحكامه عن طريق تدبر ما انزل إليهم من ربهم لكشفت لهم الحكمة الاحدية.
 
(6) «فما مشوا بنفوسهم و إنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب».
(6) عين القرب هي المقام الذي يصل إليه السالك و يتحقق فيه من وحدته الذاتية مع الحق، و هو الغاية التي يتجه إليها جميع الصوفية من القائلين بوحدة الوجود.
و هم لا يسيرون في طريقهم بحكم الاختيار، بل يساقون إليه سوقاً بحكم الجبر المسيطر على كل الوجود في مذهب ابن العربي. فالسالك الواصل إلى هذه الغاية مجبر على وصوله، و السالك الذي حرم الوصول إليها مجبر على الحرمان.
و إلى الصنفين أشار بأهل الجنة و أهل جهنم: إذ الأولون حاصلون في عين القرب من اللَّه، و الآخرون حاصلون في عين البعد عنه.
و ليس للجنة و لا لجهنم معنى عنده إلا ذاك. فإنه يعرف جهنم بأنها البعد الذي يتوهمه الإنسان بينه و بين الحق. و في جهنم عذاب أليم و ذل عظيم هما عذاب الحجاب و ذله، و لكن مآل أهل جهنم إلى النعيم كما قلنا من قبل لأنهم يحصلون بعد فترة من عذاب البعد في عين القرب من اللَّه. قارن الأبيات الواردة في آخر الفص السابع و التعليق الحادي عشر عليها.
 
(7) «فهو حق مشهود في خلق متوهم».
(7) تحتمل هذه العبارة أحد المعنيين الآتيين: الأول أن العبد أو أي ممكن من الممكنات هو الحق المرئي في الصور، و أن الصور لا وجود لها في ذاتها.
فكل من أثبت لها وجوداً مستقلًا عن وجود الحق فقد وهم. الثاني أن العبد أو أي ممكن من الممكنات هو الحق الذي ينكشف للصوفي في شهوده. أما الصور التي يدركها الحس فهي صور متوهمة لا وجود لها في ذاتها.
و ليس هناك كبير فرق بين المعنيين بدليل أنه يجملهما معاً في قوله بعد ذلك مباشرة «فالخلق معقول و الحق محسوس مشهود عند المؤمنين و أهل الكشف و الوجود» فينكر وجود الخلق إلا في صورة عقلية متوهمة، و يثبت وجود الحق وجوداً محسوساً مشهوداً: أي وجوداً يقربه الحس و الذوق معاً.
و الوجود الوارد في قوله: «أهل الكشف و الوجود» اسم يستعمله الصوفية مرادفاً لكلمة الفناء: أي فناء الصفات البشرية و بقاء الصفات الإلهية: فهو الحال الذي لا يشاهد فيه الصوفي إلا الوجود الحقيقي الذي هو وجود الحق. و ليس الوجد الصوفي إلا مقدمة لحالة الوجود هذه.
راجع القشيري في الرسالة ص 34 و تعريفات الجرجاني ص 171.
 
( 8 ) «و بقيت على هياكلهم الحياة الخاصة بهم من الحق التي تنطق بها الجلود و الأيدي و الأرجل و عذبات الأسواط و الأفخاذ»:
( 8 ) تشير العبارة المذكورة إلى قوله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (س 24 آية 24).
ويجمع معظم شرّاح الفصوص على أن المؤلف يشير هنا إلى نوعين من الحياة: الحياة الفائضة من الحق مباشرة على جميع الممكنات ما وصف منها عادة بالحياة و ما لم يوصف، و الحياة المتعينة في كل كائن على حدة و هي نفسه التي تدبر بدنه و تبدو أنها تختفي بفناء البدن.
وهذه الأخيرة متصلة بالبدن مفتقرة إليه في تدبيرها له، و تفنى من حيث هي مدبّرة له بفنائه.
ولكن الأولى لا تفنى أبداً ولا تنقطع لأنها سارية في جميع الموجودات، موجودة حيثما توجد ذات الحق.
فالذي أفنته الريح من قوم عاد إنما هو حياتهم أو نفوسهم المدبرة لأجسامهم، و لكنهم بقوا بالحياة الأخرى الخاصة بهم الناشئة من تجلي الحق سبحانه عليهم بالاسم الحي الساري في كل شي ء. و هذا معنى قوله: «و بقيت على هياكلهم الحياة الخاصة بهم من الحق».
و هذه الحياة الخاصة هي التي تنطق بها الجلود و الأيدي و الأرجل إلخ .. يوم القيامة.
أما إذا اعتبرنا هلاك قوم عاد بالريح التي أرسلها اللَّه عليهم رمزاً لفناء الإنسان في اللَّه و تحققه بوحدته الذاتية معه، و إشارة إلى زوال ما يتخيل العبد أنه حجاب حقيقي بينه و بين ربه، فإن «مساكنهم» الواردة في قوله تعالى: «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» تصبح أيضاً رمزاً على الصورة الانسانية و ما فيها من جسم و روح لا وجود لهما في ذاتهما.
فلما زالوا من الوجود بقي الحق الذي هو عينهم. و كذلك العارف إذا فني بصورته- أي إذا تحقق أنه لا وجود له في ذاته بقي بالحق.
 
(9) «و من غيرته «حرم الفواحش»: و ليس الفحش إلا ما ظهر، و أما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له».
(9) يصف الصوفية اللَّه سبحانه بالغيرة على أنحاء شتى: فيرى بعضهم أنه غيور بمعنى أنه لا يحب أن ينكشف السر الذي بينه و بين عبده. و يرى الآخرون أنه غيور يمنع أن يحبَّ أو يعبد، إلى غير ذلك من المعاني.
و يستندون في نسبة هذه الصفة إلى اللَّه حديث يروونه عن النبي و هو قوله عليه السلام: «إن سعداً لغيور و أنا أغير منه و اللَّه أغير منا». و لكن الغيرة التي يتكلم عنها ابن العربي شيء آخر لم يسبق لأحد من الصوفية أن ذكره: فهو في الوقت الذي يستعمل الكلمة فيه في معناها العادي و هو دفع منافسة الغير في أمر محبوب، يقول إنها مرادفة لكلمة الغير أو الغيرية!.
ثم يأتي فيفسر كلمة الفواحش بأنها الأمور التي ظهرت و كان الأوْلى إخفاؤها.
و يقسّم الفواحش قسمين:
ما ظهر منها و هي الأمور التي تدرك بالحس في العالم الخارجي.
و ما بطن- و هو الذات الإلهية.
و فحشها (أي ظهورها) واضح لمن ظهرت له: أي واضح لمن عرف أنها الظاهرة في أعيان الممكنات.
بعد هذه الألاعيب اللفظية التي لا يقره عليها لغة و لا عُرْف، يمهد ابن العربي الطريق لشرح نظريته في وحدة الوجود. فكأنه يريد أن يقول إن الحق غيور لا يريد أن يطلع المحجوبون من غير أهل الكشف على سر قدره و هو ظهوره في أعيان الممكنات، و لذا حرّم الفواحش أي الأمور الظاهرة: أي و لذا حرّم اعتبار الأعيان الظاهرة موجودات لها وجود مستقل عن وجوده. و هذا نوع من الغيرة و الغيرة ساترة للحقيقة لأنها من الغير و الغير أنت أي الوجود الظاهر المعبر عنه بالخلق.
 
(10) «و ما رأينا قط من عند اللَّه في حقه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أوصله إلينا فيما يرجع إليه إلا بالتحديد تنزيهاً كان أو غير تنزيه».
(10) يرى المتكلمون أن في القرآن و الحديث ما يدل صراحة على تنزيه اللَّه أحياناً، و فيهما ما يشعر بالتشبيه أحياناً أخرى. و لكنهم اختلفوا في معنى التشبيه و كيفيته.
أما ابن العربي فيرى أن كل ما ورد في وصف اللَّه فيه معنى التحديد سواء أريد به التشبيه أو التنزيه. إذ مجرد الوصف تحديد للموصوف.
فوصف اللَّه بأنه كان في عماء ليس فوقه هواء و لا تحته هواء تحديد.
و وصفه بأنه ينزل إلى السماء الدنيا و أنه في السموات و في الأرض و أنه مَعَنَا أينما كنا، كل ذلك تحديد.
بل إن وصفه بأنه ليس كمثله شي ء تحديد لأنه تمييز له عن المحدود، و من تميز عن المحدود فهو محدود بأنه ليس مثل هذا المحدود.
و قد سبق أن ذكرنا في تعليقاتنا على الفص الثالث أن ابن العربي لا يرضى من معاني التنزيه إلا الإطلاق، و أن هذا الوصف لا يصدق إلا على الذات الإلهية التي لا يمكن وصفها بغير ذلك.
و كأنه خشي بعد أن ذكر أن الحق هو الظاهر في صور الممكنات، المتعين بتعينها، أن يُرَدَّ عليه بالأدلة النقلية التي تُنزه الحق عن صفات الخلق و ترفع عنه صفة التحديد، فأجاب بما أجاب به من أن كل ما ورد في وصف الحق تحديد له.
على أن للتحديد معنى آخر عنده و هو التعريف، و قد أشرنا إليه في التعليق الثاني على الفص الثالث.
و يظهر أنه هو المراد في قوله بعد الذي شرحناه مباشرة «فهو (أي الحق) محدود بحد كل محدود.
فما يحد شي ء إلا و هو حد الحق» أي أننا إذا أردنا وضع تعريف للحق لا للذات المجردة المعراة عن جميع النسب و الإضافات- كان تعريفه مجموع تعريفات الموجودات.
أما الذات الإلهية من حيث هي فغير معروفة و غير قابلة للتعريف.
 
(11) «فيه منه إن نظر ت بوجه تعوذي»
(11) هذا الوجه هو وجه الأحدية، فإنك إذا افترضت وحدة الوجود و قلت إن العالم ليس إلا صورة الحق المتجلي في أسمائه و صفاته، و إن ما فيه مما يسمى عادة شراً ليس إلا مجلى لبعض أسمائه، و ما فيه مما يسمى خيراً ليس إلا مجلى لأسماء أخرى.
لزم أن تقول إن الاستعاذة بالحق من أي شيء إنما هي به منه، أو استعاذة ببعض أسمائه من أسمائه الأخرى.
و على هذا يفسر قولنا: «أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم» بأن معناه أعوذ باسم اللَّه الهادي من اسمه المضل.
و بهذه الطريقة فسروا قول النبي «أعوذ بك منك»: أي أعوذ برضاك من سخطك أو ما شاكل ذلك.
 
(12) «و لهذا الكرب تنفس فنسب النَّفَس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صور العالم التي قلنا هي ظاهر الحق».
(12) النَّفَس هنا عبارة عن الوجود العام المنبسط على أعيان الموجودات، كما أنه يستعمل مرادفاً لكلمة الهيولى الحاملة لصور الوجود و هي الذات الإلهية.
و قد أضيف النفس إلى الاسم الرحمن من قوله عليه السلام: «إني أجد نفس الرحمن من قِبَل اليمن».
و قد ذكرنا أن من معاني الرحمة عند ابن العربي منح الأشياء الوجود و إظهارها بالصور التي تظهر فيها. فبالنفس الرحماني أظهر الحق الوجود- أو ظهر في صوره فنفَّس عن الكرب الذي كان في باطنه لأن التنفس فيه تفريج عن المكروب.
و هذا التشبيه الذي لا يخلو من شناعة في حق الجناب الإلهي يشير إلى حقيقة هامة و هي أن طبيعة الوجود طبيعة خالقة تأبى إلا الظهور و الإعلان عما كمن فيها، و أن خروج ما بالقوة إلى ما بالفعل فيض دائم من وجود الحق إلى وجود الخلق من الوجود الحقيقي إلى الوجود الإضافي. و لو لا هذا الفيض و الظهور لظل الوجود سراً منطوياً على نفسه يضطرب في ذات الحق كما يضطرب النّفَس في ذات المكروب.
و لكلمة النَّفَس المستعملة هنا مغزى آخر يجب أن نشير إليه و هي صلتها بكلمة التكوين «كن» التي هي صورة خارجة من صور النَّفَس. و لكن هذا لازم من لوازم التشبيه الذي استعمله ابن العربي و هو مولع باستقصاء جميع لوازم تشبيهاته.
 
(13) «و لو لا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور و لا وصفته بخلع الصور عن نفسه».
(13) أثبت فيما مضى جواز التحديد على الحق بظهوره في صور المحدودات و حدَّه بحدودها، و استدل على قوله هذا ببعض الآيات و الأحاديث التي تشعر بالتشبيه و من ثم بالتحديد.
و قال هنا و لو لا أن التحديد واقع بالفعل في حق اللَّه ما وصفه الرسل بالتحول في الصور.
فقد ورد في حديث عن النبي صلى اللَّه عليه و سلم أنه قال: «إن الحق يتجلى يوم القيامة للخلق في صورة منكرة فيقول: أنا ربكم الأعلى فيقولون نعوذ باللَّه منك، فيتجلى في صورة عقائدهم فيسجدون له».
أي إذا كان الحق يظهر يوم القيامة في الصور المحدودة التي تُعْرَف و تُنْكَر فلِمَ لا يظهر في الدنيا بصورة محدودة أيضاً؟
و لكن ابن العربي نفسه لا يفهم من هذا الحديث إلا أن كل عبد يعرف اللَّه في صورة معتقده الخاص و ينكره في صور معتقدات الآخرين، و أن هذا في رأيه عين الحجاب، لأن الذوق و الكشف يؤيدان أن الحق هو الظاهر في صور المعتقدات جميعاً.
و لا أحسبه يرى في وصف الحق بالتجلي في الصور يوم القيامة إلا ضرباً من التمثيل.
و إذا كان الأمر كذلك، و إذا ثبت أن كل صورة من صور الحق في معتقداتنا لا بدّ، و أن ينالها التحديد و التقييد، لأن العقل الانساني لا يدرك إلا المحدد المقيَّد، فكيف يستدل بهذه الحقيقة السيكولوجية على صحة دعوى ميتافيزيقية تقول بأن الحق هو عين ما ظهر في صورة كل محدود و مقيد؟
أما دعوته إلى عدم حصر الحق في صورة معينة من صور المعتقدات فظاهرة في قوله فيما بعد «فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص و تكفر بما سواه فيفوتك خير كثير، بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه. فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها» إلخ إلخ ...
و يشير إلى إله المعتقدات بأنه إله مجعول أي مخلوق في الاعتقاد في قوله «فالإله في الاعتقادات بالجعل».
 
(14) «فمن عباد اللَّه من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى جهنم» ... إلى آخر الفص.
(14) بعد أن شرح اختلاف الناس في اعتقاداتهم في اللَّه و بيّن أن كلًا منهم يراه في الصورة التي يصوّرها له اعتقاده و يقضي بها استعداده، ذكر أن الكل مصيب في رأيه- و إن كانت درجة الإصابة تتسع و تضيق بحسب اتساع الاعتقاد و ضيقه و أن كل مصيب مأجور، و كل مأجور سعيد.
فكأن مآل الناس جميعاً فيما يتعلق بعقائدهم في اللَّه هو السعادة و النعيم في الدار الآخرة، كما سبق أن بيّن أن مآلهم فيما يتعلق بأعمالهم النعيم أيضاً.
و ليست جنة ابن العربي و لا جهنمه إلا الحالة الروحية التي تكون عليها النفس الجزئية بعد مفارقتها البدن و أهم عامل في سعادتها أو شقائها درجة معرفتها باللَّه و بالوحدة الذاتية في الوجود.
فمن عرف هذه الوحدة حق معرفتها و تحقق بها حظي بالسعادة العظمى، و من جهل تلك الوحدة جهل سر الوجود و حقيقته و مصدره و مصيره، و كان حظه الشقاوة و العذاب.
و لكنه عذاب موقوت يرتفع برفع الحجاب أي برفع الجهل. فإذا ما انكشفت الحقيقة، زال معنى جهنم في حق أهلها و حلّ محله النعيم المقيم.
و هو نعيم خاص بهم إما بفقد الألم الذي كانوا يجدونه في حالة جهلهم، أو بشعورهم بنعيم آخر مستقل كنعيم أهل الجنان في الجنان.
قارن التعليقين الثاني و السادس على هذا الفص.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 11 - فص حكمة فاتحية في كلمة صالحية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء أغسطس 21, 2019 4:22 am

11 - فص حكمة فاتحية في كلمة صالحية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الصالحي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
11 - فص حكمة فاتحية في كلمة صالحية
(1) الحكمة الفتوحية
(1) تشرح هذه الحكمة معنى الخلق كما يفهمه ابن العربي.
والخلق عنده فتوح- جمع فتح- أي سلسلة من التجليات و الظهور لا إحداث لوجود من عدم.
وقد تؤخذ كلمة «الفتوح» على أنها مفرد لا جمع و معناها حصول شيء مما لم يتوقع ذلك منه، وهذا المعنى متحقق في ظهور ناقة صالح من الجبل و في ظهور الحق بصور الخلق في نظر الجاهل المحجوب.
وبعض النسخ يعنون هذه الحكمة بالحكمة الفاتحية نسبة إلى الاسم الفاتح الذي فتح الحق به الوجود.
وهذا أيضاً متمشٍ مع رأي متصوفة وحدة الوجود لأنهم يعتبرون «الخلق» فتحاً لصور الموجودات في الذات الأزلية لا إنشاء و لا إبداعاً لها.
والحقيقة أن كل اسم من الأسماء الإلهية «فاتح» بهذا المعنى.
ولهذا سموا هذه الأسماء مفاتح الغيب وقالوا إنها المشارة إليها في قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لايَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» (قرآن س 6 آية 59).


(2) «من الآيات آيات الركائب» الأبيات.
(2) الركائب في الأصل الإبل و لكنها مستعملة هنا بمعنى أعمّ بحيث تشمل الإبل و غيرها مما يمكن أن يركب.
ومن المعجزات التي خصّ اللَّه بها الأنبياء ناقة صالح و براق محمد عليهما السلام.
هذا هو المعنى الظاهر للشطر الأول من البيت الأول، و لكن له معنى آخر باطناً يدل عليه ما بقي من الأبيات. فكلمة الركائب في الحقيقة رمز لصور النفوس الحيوانية التي هي ركائب للنفوس الناطقة، كما أن الأبدان ركائب للنفوس الحيوانية.
وبهذا المعنى يكون لكل نبي، بل و لكل إنسان ركيبة تسير به حيث تقتضيها طبيعتها، و هذا معنى قوله و ذلك لاختلاف في المذاهب. و لكن مهما اختلفت مذاهب السير و تعددت و تباينت فإنها تتجه كلها نحو هدف واحد هو الحق.
غير أن بعض أصحاب تلك الركائب يسيرون بها في الطريق الحق و يصلون بها إلى اللَّه و هؤلاء هم أهل الكشف و الشهود، و بعضهم يقطعون بها البراري القفرة و الصحاري المجدبة التي يتيهون فيها و يحارون لكثرة ما يغْلب عليهم من ظلمات العقل و البدن جميعاً و هؤلاء هم المحجوبون من الفلاسفة و المتكلمين و غيرهم الذين يصفهم بالجنائب أي المبعدين عن الحقائق. قال الشاعر:
هواي مع الركب اليمانين مصعد .... جنيب و جثماني بمكة موثق
و ابن العربي أعدل من أن يبخس الناس أشياءهم و ينكر على المجتهدين ثمرة اجتهادهم. فالمهتدون القائمون بالحق و الضالون في غيابة الجهل في نظره سواء من حيث إن كلًا منهم يتبع في سيره إلى الحق ذلك النور الذي قدِّر له أن يسير فيه- قَلَّ ذلك النور أو عظم- و تنكشف له فتوح الغيب و أسراره، و ليس الغيب إلا الذات الإلهية، و ليست أسرارها إلا الوجود الظاهر. فكل منهم تنكشف له حقائق الغيب و أسراره على نحو يتفق و ذلك النور الذي يسير فيه، و هو إما نور القلب و الشهود أو نور العقل و البرهان، و بذلك يصل إلى الاعتقاد الخاص في اللَّه و هو ما أشرنا إليه في الفص السابق.
وهذا هو مجمل البيت الأخير:
وكل منهم يأتيه منه فتوح غيوبه من كل جانب ولا معنى للقول بأن الضمير في «منهم» يعود على القائمين بالحق دون غيرهم.


(3) «اعلم وفقك اللَّه أن الأمر مبني في نفسه على الفردية و لها التثليث ... و عن هذه الحضرة وجد العالم».
(3) تلعب فكرة التثليث دوراً هاماً جداً في فلسفة ابن العربي: و غريب حقاً أن يكون لها هذا الشأن في تفكير صوفي مسلم، و لكن صاحبنا خرج على كل مألوف و مقرر عند المسلمين، فِلمَ لا يقتبس من المسيحية كما اقتبس من غيرها ما دام في استطاعته أن يصبغ كل ما يقتبسه بصبغة نظريته في وحدة الوجود؟
أصل الوجود كله هو الواحد الحق و لكنه من حيث ظهور الوجود عنه- لا من حيث ذاته المطلقة وحدها- مثلث الصفات لأنه من حيث جوهره ذاتٌ.
و من حيث صلته بالوجود الظاهر مريدٌ و آمرٌ.
و لذا كان أساس الإيجاد الفرديةَ الأولى التي لها هذا التثليث: الذات الإلهية، و الإرادة و الأمر (الذي يعبّر عنه بالقول).
و لا تظهر هذه الفردية الثلاثية في الموجِد وحده، بل تظهر كذلك في الشيء الموجود، و بغيرها لا يصح تكوينه و اتصافه بالوجود، فهو أيضاً ذاتٌ مطيعة لإرادة الموجِد ممتثلة أمره.
و بذا حصلت المقابلة التامة بين الثالوثين: ثالوث الحق و ثالوث الخلق.
""إضافة الجامع : ثالوث الحق الذات – الصفات – الأسماء
ثالوث الخلق : النساء - والطيب - وجعلت قرة عيني في الصلاة
قال الشيخ علاء الدين المهائمي : حب (النساء) لحب الذات، (والطيب) لحب الصفات، ("وجعلت قرة عيني في الصلاة" )؛ لحب الأسماء . ""
أو بين الثالوث الموجِد و الثالوث المكوّن و ظهر الوجود عن الواحد.
و لكن وضع المسألة بهذه الصورة قد يشعر بأن ابن العربي يدين بفكرة الخلق بالمعنى المعروف، و أن للخالق إرادة مطلقة و أمراً حقيقيًّا في الوجود.
في حين أنه ينكر بتاتاً الخلق بمعنى الإيجاد من العدم، و يبطل عمل الإرادة الإلهية- كما رأينا- بإخضاعها لنوع من الجبرية لا تستطيع عنه انفكاكاً، و يفسر الأمر من قِبَل الخالق و الامتثال من قِبَل المخلوق بأنه لسان حال، كأن الخالق في فعله و المخلوق في انفعاله ينطقان بلسان الحال أن بينهما نوعاً من التأثير و التأثر.
لا على أنهما حقيقتان منفصلتان إحداهما عن الأخرى، بل على أنهما وجهان لحقيقة واحدة.
فكأن فكرة الخلق و الإيجاد عند ابن العربي فكرة قضى بها المنطق لا طبيعة الوجود.
فهي نظرية في العلّية منطقية لا وجودية.
و يمكننا أن نوضح هذه العلاقة المنطقية بين الثالوثين اللذين يمثلان الحقيقة الوجودية على النحو الآتي:

الحقيقة الوجودية على نحوين:
الأول، الحق (الفاعل) ذات: إرادة
قول الثاني، الخلق (القابل) ذات: سماع امتثال
و تظهر فكرة التثليث المسيحية واضحة كل الوضوح في هذه المسألة و في كل ما ذكره ابن العربي في الحب :
تثلث محبوبي و قد كان واحداً ... كما صير الأقنام بالذات أقنما
و الإنتاج و الإيجاد في عالمي الكائنات و المعاني :" يقول مثلا إن الاستدلال القياسي قائم على التثليث لأنه يشترط فيه ثلاث قضايا و ثلاثة حدود."
و فيما ذكره عن «الكلمة» التي يعتبرها الواسطة في الخلق.
و لكنه لم يتأثر بالمسيحية نفسها بقدر ما تأثر بفلسفتها التي وصلته على النحو الذي صاغها فيه مفكر و الآباء المسيحيين بالإسكندرية منصبغة إلى حد كبير بأفكار إسلامية أدخلها عليها بعض فلاسفة الإسلام و متصوفية أمثال الحسين بن منصور الحلاج.
و مع هذا كله تختلف فكرة التثليث عند ابن العربي اختلافاً جوهرياً عن نظيرتها في المسيحية، فإن تثليثه لا يخرج عن كونه اعتبارياً و في الصفات لا في الأقانيم، و هو فوق كل هذا حاصل من وجهي الحقيقة الوجودية على السواء.

(4) «كما يقول الآمر الذي يُخاف فلا يعصى لعبده قمْ فيقوم العبد امتثالا لأمر سيده ... لا من فعل السيد».
(4) هكذا يتصور ابن العربي الخلق- أو بعبارة أدق هكذا يقضي على فكرة الخلق و يعطل الإرادة الإلهية.
لا شيء في عالمه يُخْلَق من عدم، و إنما الخلق إخراج ما له وجود بالفعل في حضرة أخرى من حضرات الوجود إلى حضرة الوجود الخارجي، أو هو إظهار الشيء في صورة غير الصورة التي كان عليها من قبل.
فالعالم عنده حقيقة أزلية دائمة لا تفنى و لا تتغير إلا في صورها. أما ذات العالم أو جوهره فلا يخضع لقانون الكون و الفساد.
فإذا أراد اللَّه خلق شي ء من الأشياء أمره أن يكون فيكون.
و الكوْن أو التكوُّن من فعل الشي ء نفسه لا من فعل اللَّه. بل ليس للَّه في إيجاد الشي ء إلا قوله له «كن»، كالسيد الذي لا تعْصى أوامره.
يقول لعبده قم فيقوم: فليس للسيد في قيام العبد سوى أمره له بالقيام.
و القيام من فعل العبد لا من فعل السيد. أين الخلق هنا و أين القدرة عليه؟ بل أين إرادة الخلق؟ إن منطق مذهبه يقتضيه ألا يستعمل كلمة «الخلق» بمعناها الديني و إلا وقع في تناقض شنيع مع نفسه.
و هو بالفعل لا يستعملها أبداً بهذا المعنى، و لكن حرصه على أن يتخذ من آيات القرآن أصولًا لآرائه ليصور هذه الآراء تصويراً دينياً في ظاهرها، يجره في أغلب الأحيان إلى استعمال كلمات «الخلق» و نحوها، فيبقي على الألفاظ في صورتها و يقرأ في معانيها ما شاء له مذهبه في وحدة الوجود أن يقرأه.
و قد يقال كيف يخاطب الشي ء و يؤمر و هو بعد لم يكن؟
كيف يشبَّه الشيء المخلوق- قبل خلقه- بالعبد الذي يمتثل أمر سيده؟
أليس هذا قياساً مع الفارق؟
وأليس من التناقض أن نقول إن الشيء قبل أن يكون يؤمر بأن يكون؟
و الجواب على كل هذه الأسئلة ليس بالأمر العسير على ابن العربي:
فقد ذكرنا أنه يرى أن الأشياء قبل وجودها الظاهر ليست أموراً عدمية صرفة، بل لها وجود ثابت في العالم المعقول: و هو وجود بالقوة.
فالأمر الإلهي يخرجها من القوة إلى الفعل بمقتضى طبيعتها. و لكن تشبيه الخالق و المخلوق- حتى بالمعنى الذي يفهمه- بالسيد و العبد تشبيه لا يخلو من فجاجة، وهو- كغيره من التشبيهات الأخرى التي يستعملها- يزيد آراءه الميتافيزيقية غموضاً أكثر مما يوضحها.

(5) «و الشرط المخصوص أن يكون الحكم أعم من العلة أو مساوياً لها ...نتيجة غير صادقة».
(5) المراد بالحكم هنا المحكوم به في نتيجة القياس- أي الحد الأكبر، و بالعلة الحد الأوسط. و من المسائل المقررة في المنطق أنه يشترط لصحة النتيجة أن يكون الحد الأكبر في القياس أعم من الحد الأوسط أو مساوياً له.
و الأول كقولنا:
كل حيوان جسم الإنسان حيوان: الإنسان جسم. فجسم- و هي الحد الأكبر أعم من حيوان. و الثاني كقولنا:
كل حيوان حساس الإنسان حيوان: الإنسان حساس. فحساس و هي الحد الأكبر مساوٍ لحيوان.
و قد ذكر القياس هنا ليستدل به على أن التثليث أساس الإنتاج في المعنويات كما أنه أساس الإنتاج في الخلق.

(6) «و هذا موجود في العالم مثل إضافة الأفعال إلى العبد معراة عن نسبتها إلى اللَّه، أو إضافة التكوين الذي نحن بصدده إلى اللَّه مطلقاً».
(6) بعد أن ذكر أن الدليل القياسي قائم على التثليث وبيَّن شروطه المنطقية قال إن مخالفة هذه الشروط تؤدي إلى نتائج غير صحيحة وذكر نتيجتين من هذه النتائج:
الاولى أن أفعال العبد هي من عمله و هو رأي المعتزلة،
و الثانية أن الخلق من فعل اللَّه و هو رأي جمهور المسلمين.
و السبب في عدم صحة هذه النتائج هو عدم توافر شرط التثليث فيها.
أما رأي المعتزلة في نسبة الأفعال إلى العبد فيَرد عليه بأن العبد لا يمكن أن يكون خالقاً لأفعاله لأنه مجرد قابل، و لا يمكن للقابل المحض أن يأتي فعلًا من الأفعال إلا إذا اكتسب قوة الفعل من فاعل- و الفاعل في كل شيء هو اللَّه.
فنسبة الفعل إلى العبد معراة عن إضافته إلى اللَّه خطأ أتى من أنهم لم يقيموا دليلهم على التثليث الآتي و هو «قابل» - «فاعل» - «فعل».
و لو أقاموه على هذا التثليث لوصلوا إلى نتيجة أخرى.
و بمثل هذه الطريقة نستطيع أن نرد على القائلين بنسبة التكوين إلى اللَّه مطلقاً دون نظر إلى المكوَّن. نعم إن الممكن في ذاته لا قوة فيه على الوجود.
و لكنه لكي يوجد امتثالًا لأمر اللَّه يجب أن تكون فيه القدرة و الاستعداد على أن يوجد. فمن الخطأ إذن أن ننسب التكوين إلى اللَّه وحده و نهمل إمكانية الممكن.
بل الواجب أن نبني دليلنا على التثليث الآتي و هو: الممكن في قوته أن يكون: اللَّه الآمر بأن يكون: التكوين.


(7) «فالوجه الخاص هو تكرار «الحادث»، و الشرط الخاص عموم العلة».
(7) الإشارة هنا إلى كلمة «الحادث» الواردة في القياس الذي ذكره و هو:
كل حادث فله سبب و العالم حادث.
: العالم له سبب فكلمة «الحادث» و هي الحد الأوسط مكررة في القياس لورودها في المقدمتين.
أما العلة التي أشار إليها فهي علة وجود العالم و هي أن له سبباً، فهي الحد الأكبر في القياس. و قد استعمل كلمة «العلة» في هذه المسألة بمعنيين مختلفين يجب الالتفات إليهما و إلا وقع الخلط و الإبهام في فهم كلامه. فقد استعمل «العلة» أولًا بمعنى الحد الأوسط في القياس لأن الحد الأوسط علة الإنتاج من ناحية أنه الرابطة بين الحدين الأكبر و الأصغر، ثم استعملها في مثال خاص- و هو المثال الذي يثبت فيه سببية العالم- بمعنى علة وجود العالم.


(8) «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ».
(8) أي فلله الحجة البالغة على عباده فيما يأتونه من الأفعال. و أي حجة أبلغ في إدانة العبد من أن يكون كل ما يظهر به في ظاهره من حكم ما استقر في باطنه؟
فالفعل فعله و ليس للحق فيه إلا أن يمنح ذلك الفعل الوجود، أو الفعل فعل الحق في صورة العبد و بذا تكون الحجة البالغة للحق على نفسه.
وأياً ما كان مصدر الفعل فالجبرية ظاهرة فيه.
راجع ما ذكرناه عن نظريته في الجبر فيما سبق.
ولكن ابن العربي- كعادته- لا يترك المسألة عند هذا الحد: أي لا يقف عند حد التقرير الفلسفي فيها، بل يلتمس لها التأييد من جانب التصوف أيضاً.
فالإنسان- في نظره- لا يدرك صدور الأفعال عن الأشياء نفسها و ما استقر في بواطنها بالعقل أو حيلة الدليل: و إنما يدرك ذلك بالذوق و الشهود.
فبالذوق وحده يدرك صاحب الكشف سريان الحق في الوجود و ظهور كل ما يظهر منه بحسب طبيعة الوجود ذاتها.
و لذا يقيم المعاذير للموجودات كلها فيما يظهر عنها مما يلائم أغراضها- و هو ما يسمى عادة بالخير- و ما لا يلائم أغراضها و هو الذي يسمى عادة بالشر.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 10:13 pm

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

12 - فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية
(1) القلب.
(1) القلب عند ابن العربي كما هو عند سائر الصوفية الأداة التي تحصل بها المعرفة باللَّه وبالأسرار الإلهية: بل بكل ما ينطوي تحت عنوان العلم الباطن: فهو أداة إدراك وذوق لا مركز حب وعاطفة.
أما مركز الحب عندهم فهو الروح، وإن كانوا ينسبون الحب إلى القلب أحياناً.
وهنالك طريق ثالث للاتصال الروحي عندهم وهو «السر» الذي هو مركز التأمل في اللَّه.
وليس غريباً أن يعدّ الصوفية القلب مركزاً للإدراك لا للعاطفة فإنهم نحوا في ذلك منحى القرآن الذي صور القلب هذا التصوير فجعله محلًا للإيمان ومركزاً للفهم والتدبر الصحيحين.
يقول: «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟» (س محمد- 22).
«أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» (س المجادلة- 21) «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَاوِيلِهِ» (س آل عمران- 6) وما شاكل ذلك.
وليس المراد بالقلب تلك المضغة الصنوبرية الجاثمة في الجانب الأيسر من الصدر- وإن كانت متصلة به اتصالًا ما، لا يعرف كنهه.
بل هو القوة الخفية التي تدرك الحقائق الإلهية إدراكاً واضحاً جلياً لا يخالطه شك.
وإذا أشرق فيه نور الإيمان وصفا من غشاوات البدن وشهواته انعكس عليه العلم الإلهي: أو على حد تعبير ابن العربي: انكشف ما فيه من العلم الإلهي فشاهد فيه صاحبه صفحة الوجود: بل شاهد فيه الحق ذاته.
وهذا في نظره معنى الحديث القدسي الذي يقول اللَّه تعالى فيه: «ما وسعني أرضي وا سمائي و لكن وسعني قلب عبدي المؤمن».
ولكن قلب أي عبد مؤمن؟
يقول ابن العربي هو قلب العارف الذي يدور مع الحق أينما دار، ويشاهده في كل تجلّ من تجلياته.
هو القلب الذي لا يشاهد سوى الحق.
ولكن القلب محجوب عادة عن الحق مشغول عنه بما سواه، تتنازعه عوامل العقل والشهوة.
ولذا كان مجال نضال دائم بين جنود الحق وجنود الشيطان، يطلب كلٌ الظفر به لنفسه. وتتلخص حياة السالك في الطريق الصوفي في تدبير الوسائل التي يقهر بها شيطان النفس ويظفر بالحق.
وللقلب بابان تدخل المعرفة الإلهية من أحدهما، وتدخل الأوهام إليه من الآخر. وهذا عالَمٌ وذلك عالم آخر كما يقول جلال الدين الرومي. فغاية الصوفي تخليص القلب من أثر الأوهام بطرد كل خاطر يتصل بما سوى اللَّه.
وقد أنكر الصوفية على العقل القدرة على فهم الألوهية وأسرارها قائلين إن العقل مقيد بمنطقهِ في دائرة الأمور المحدودة المتناهية. أما الحق فلا حد له ولا نهاية.
ومن ناحية أخرى يرى العقل الأمور على أكثر من وجه، ويرى الشي ء الواحد ونقيضه، ويدافع عن كل منهما بحجج متكافئة في القوة والإقناع.
ثم هو فوق ذلك يسدل على الحقائق ستاراً كثيفاً من الألفاظ، بل لقد يعني بالألفاظ التي هي رموز الحقائق ويغفل عن الحقائق نفسها.
وقد أفنى الفلاسفة أعمارهم في الاشتغال بألفاظ جوفاء لا طائل تحتها. أما الصوفية فينظرون إلى الحقائق ذاتها ثم يمسكون عن الحديث عنها أو لا يجدون من الألفاظ ما يستطيعون به التعبير عما يشاهدونه.

(2) اعلم إن القلب- أعني قلب العارف- هو من رحمة اللَّه، وهو أوسع منها، فإنه وسع الحق جلّ جلاله».
(2) موضوع الكلام هنا هو قلب العارف لا القلب الإنساني إطلاقاً، و العارف هو المولى أو الإنسان الكامل الذي تحققت فيه كل صفات الوجود فكان مظهراً تاماً و كوناً جامعاً لها.
والقلب من رحمة اللَّه لأنه شيء من الأشياء التي وسعتها الرحمة الإلهية في قوله تعالى: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ»، أي هو شيء من الأشياء التي منحها اللَّه الوجود نعمة منه وفضلًا، إذ جرينا على تفسير الرحمة الإلهية في هذا الكتاب بمعنى إسباغ اللَّه الوجود على الأشياء.
ورحمة اللَّه التي وسعت كل شي ء في الوجود أي في الوجود المخلوق أو في عالم الوجود الإضافي- لا تسع الحق تعالى لأن وجوده لا يوصف بأنه ممنوح أو معطى، بل هو له من ذاته وواجب له لذاته.
ولكن قلب العارف يسع الحق بدليل قوله تعالى: «ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن». ولهذا كان القلب أوسع من الرحمة.
بأي معنى إذن وعلى أي وجه وسع قلب العارف الحقَّ جل جلاله؟ هذه مسألة ظهر فيها اختلاف بين الصوفية لاختلاف مشاربهم ومذاهبهم. أما أهل السنة منهم فيذهبون إلى أن قلب المؤمن الصادق في إيمانه لا يتسع لشي ء من الأشياء مع الحق لأنه مشغول به عمن سواه. فهو لا يفكر إلا في الحق ولا يرى شيئاً سوى الحق ولا يخطر به خاطر إلا كان متصلًا بالحق. فني عن نفسه وعن كل ما سوى الحق وبقي بالحق وحده.
وهذا رأي عامة الناس وطريقتهم في فهم احتواء القلب للحق.
وأما الخاصة والمقصود بهم دائماً صوفية وحدة الوجود فيفهمون احتواء قلب العارف على الحق بأحد الوجهين الآتيين:
الأول: أن قلب العارف يشاهد الحق في كل مجلى و يراه في كل شي ء و يعبده في كل صورة من صور المعتقدات. فهو هيولي الاعتقاد كلها كما أشار إليه من قبل. فهو يحتوي الحق بمعنى أنه مجتمع صور الاعتقادات في الحق. و المراد بالحق هنا «الحق المخلوق في الاعتقاد» لا الحق من حيث هو في ذاته. و في هذا المعنى قال ابن العربي:
عقد الخلائق في الإله عقائدا ..... وأنا شهدت جميع ما اعتقدوه
الثاني: أن العارف هو الإنسان الكامل الذي جمع كل صفات الوجود في نفسه فكان بذلك صورة كاملة للحق. و لما كان قلب العارف بمثابة المرآة التي ينعكس عليها وجوده الذي هو صورة مصغرة من وجود الحق، شاهد الحق في مرآة قلبه و هذا معنى احتواء قلبه عليه. و لا يحتوي قلب إنسان آخر- بل و لا قلب موجود آخر- الحق بهذا المعنى لأنه لا ينعكس على مرايا قلوبهم إلا صور ناقصة للحق ينتزعونها من صور وجودهم الخاصة.


(3) «و رحمته لا تسعه. هذا لسان العموم من باب الإشارة، فإن الحق راحم ليس بمرحوم فلا حكم للرحمة فيه».
(3) المسألة هنا: هل الرحمة تسع الحق كما تسع الخلق: و هل لها حكم في الحق؟
يقول إن لغة العموم- و هي لغة أهل الظاهر تثبت أن الرحمة لا تسع الحق لأنه راحم غير مرحوم: اي منْح الوجود للأشياء- و هو المراد بالرحمة- من فعل الحق، أما الحق فلا يوصف بأنه مرحوم بهذا المعنى. هذا إذا نظرنا إلى الحق في ذاته، أما إذا نظرنا إليه من حيث تجليه في صور الممكنات و ظهوره بها فللرحمة حكم فيه أيضاً، فإن الوجود يفيض على هذه الممكنات فتظهر بالصور التي هي عليها، و هذا هو الرحمة بعينها. هذه هي لغة أهل الخصوص التي شرع بعد ذلك في شرحها.
و لم يزد في هذا الشرح على ما ذكره سالفاً و كرره مراراً من انتشار النفس الرحماني على صور الموجودات و ظهور الحق بمظاهرها: و انتهى من كل هذا إلى أن الرحمة الإلهية قد وسعت الحق أيضاً، بل هي أوسع من القلب أو مساوية له في السعة.
راجع ما ذكر عن المعنى الخاص للرحمة في الفص الأول و الفص السادس عشر و ما ذكر عن العطايا و المنح في الفص الثاني.

(4) «فالألوهية تطلب المألوه و الربوبية تطلب المربوب».
(4) هذا بيان لسبب وجود العالم و ظهوره بالصورة التي هو عليها. و ذلك أن الأسماء الإلهية التي هي عين مسمى الحق تطلب ما تعطيه للوجود من الحقائق أي تطلب مظهراً خارجياً تحقِّق و تظهر فيه كمالاتها. وليس ذلك المظهر إلا العالم.
فلا بدّ إذن من هذا الظهور و لا بدّ من وجود العالم، و إلا لم يكن للأسماء الإلهية معنى. و الطلب هنا- في قوله: «طالبة ما تعطيه من الحقائق» إشارة إلى ضرورة عقلية هي ضرورة وجود أحد المتضايفين إذا وجد الآخر. فالأسماء الإلهية تطلب- أي تطلب عقلًا ما يحقق معانيها و هذه هي متضايفاتها: فإنه لا معنى لوصف الحق بأنه عالم إلا إذا وجد المعلوم، و لا معنى لوصفه بالألوهية إلا إذا وجد المألوه، و لا بالربوبية إلا إذا وجد المربوب و هكذا.
و في الأسماء الإلهية طائفتان متمايزتان مختلفتان: 
إحداهما الأسماء التي يتصف بها الحق من حيث كونه إلهاً- أي معبوداً- و من هذه تتكوّن الألوهية.
و الأخرى الأسماء التي يتصف بها الحق من حيث كونه مدبِّراً للوجود و متصرفاً فيه: 
و منها تتكون الربوبية. فمن حيث ألوهية الحق يُعْبَد و يُخَاف و يقدّس و يسبّح بحمده و يدعَى و يُتَضرّع إليه إلى غير ذلك من الأفعال التي يقوم بها المألوهون إزاء إلههم. 
و من حيث كونه رباً يرزق الخلق و يدبّر الكون و يجيب المضطر إذا دعاه، و غير ذلك مما يقوم به الرب نحو المربوبين. فالألوهية إذن تطلب المألوهين، و الربوبية تطلب المربوبين، و لا وجود لإحداهما- بل و لا تقدير لوجود إحداهما إلا بوجود أو تقدير وجود ما يضايفها. 
و قد صرح ابن العربي بهذا المعنى في موضع آخر من الفصوص بقوله: «فنحن بمألوهيتنا قد جعلناه إلهاً».
هذا كلام يقضي به منطق العقل و منطق أي مذهب من مذاهب الدين، و لكن ما معناه و ما قيمته في مذهب ابن العربي و هو يقول بوحدة الوجود: أي بوحدة الإله و المألوه و الرب و المربوب؟ لا يزال إله ابن العربي يُعْبَد و يقدّس
و يسبّح بحمده: و لكن بمعان خاصة وضعها لهذه الألفاظ، و قد سبق شرح بعضها. و هو معبود و مقدّس و مسبّح بحمده من حيث إنه «الكل»، و الذي يعبده و يقدسه و يسبح بحمده هي أفراد الموجودات أو صورها. فالألوهية و المألوهية، و إن لم يكن لهما المعنى الديني الخاص الذي نعرفه، ليسا خلواً من معنى فلسفي له قيمته و خطره في مذهبه. 
على أنه قد يُشْرِب ذلك المعنى الفلسفي أحياناً روحاً دينية عالية و يبث فيه عاطفة دينية قوية لا تقلّ في قوتها و لا في حرارتها عن عاطفة أي رجل ديني. فالعبد- مع أنه وجه من وجوه الحق و مجلى من مجاليه- لم يزل مفتقراً إلى الحق الذي هو أصله- مستمداً وجوده من وجوده، لا قيمة و لا وجود له في ذاته. و أي افتقار أعظم من افتقار الصورة- و هي في ذاتها عدم محض- إلى من يقومها و يوجدها؟
فشأن ابن العربي في هذا الصدد شأن «اسبنورا»: لم يخْفُتْ في قلبه صوت العاطفة الدينية، و إن قضى عقله على كل معنى من المعاني التي تحملها ألفاظ الدين- أعني دين المذاهب و النحل و هو الدين بمعناه الضيق. 
أما دينه فهو الدين العالمي الواسع الذي وجد أصوله و مبرراته في رحبة وحدة الوجود.
على أن الألوهية و الربوبية من جهة أخرى مفتقرتان إلى المألوهين و المربوبين، و لا بد من ذلك لكي ينعكس كل من المتضايفين على الآخر تمام الانعكاس و يتكافآ وجوداً و عدماً. 
فإذا قلنا إن الحق غني عن العالمين، كان المراد بذلك الذات الإلهية التي لا نسبة لها مطلقاً إلى الوجود من حيث هي، لا الحق الذي هو إله و رب.

(5) «فلما تعارض الأمر بحكم النسب ورد في الخبر ما وصف الحق به نفسه من الشفقة على عباده».
(5) لا تعارض و لا تناقض في الذات الإلهية من حيث ما هي عليه في نفسها، و لكن التعارض و التناقض حاصلان فيها من حيث الأسماء الإلهية و الصفات التي هي نسب و إضافات بين الذات الواحدة و مظاهرها الكونية الكثيرة.
و المظاهر الكونية متعارضة متناقضة فلا بد من وقوع التعارض و التناقض في نِسَبِها إلى الذات. فالحق موصوف بصفات متضادة كالأول و الآخر و الظاهر و الباطن و الجميل و الجليل، و هو- في مذهب ابن العربي- موصوف أيضاً بصفات المحدثات لأنه هو الظاهر في صورها الكثيرة المتباينة.
ففي هذه الحضرة فقط و في هذا المقام وحده، و هو مقام الكثرة (لا مقام الوحدة الذي هو حضرة الذات) وصف الحق نفسه بالشفقة على عباده و برحمته إياهم، فإن شفقته و رحمته يتجليان في منح الوجود للكثرة الوجودية التي هي العالم. و لهذا قال: «فلما تعارض الأمر بحكم النسب»: أي فلما وقعت المعارضة في الذات الإلهية من أجل نسبها إلى الكثرة الوجودية، خلق اللَّه العالم. و خلق العالم هو عين شفقته به.


(6) «فلا يزال «هو» له دائماً أبداً».
(6) ذكر في الفقرة السابقة أن للحق تجليين: تجلي غيب و تجلي شهادة. فتجليه في الغيب هو تجليه لذاته في ذاته في الصور المعقولة لأعيان الممكنات و هذه هي حضرة الأسماء و الفيض الأقدس الذي شرحناه في الفص الأول.
و تجليه في الشهادة هو ظهوره في صور أعيان الممكنات في العالم الخارجي، و هو الفيض المقدّس المشار إليه هنالك.
فالتجليان هما هذان الفيضان أو الحضرتان المتقابلتان و هما أيضاً المرموز إليهما بالاسمين الإلهيين: الأول و الآخر أو الباطن و الظاهر: عالم الغيب و عالم الشهادة.
و لما كان الضمير «هو» يشير إلى المفرد التائب كان رمزاً على عالم الغيب، و وجب إطلاقه على الحق في تجليه الأول وحده، و لهذا قال: «فلا يزال «هو» له (أي للحق) دائماً أبداً. و لا يطلق «هو» على عالم الشهادة لأنه كثرة مظهرية لا ذات واحدة، كما أنه لا يقال على أي موجود من الموجودات إنه هو الحق. و لهذا كفَّر ابن العربي النصارى في قولهم: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» * لأنهم قصدوا أنه عيسى ابن مريم دون غيره.
و في تجلي الغيب يحصل الاستعداد الذي يكون عليه قلب العارف. و قد ذهب جمهور الصوفية إلى أن الحق يتجلى لقلب كل عبد بحسب استعداد ذلك القلب، و لكن ابن العربي يخالفهم في هذا الرأي و يذهب إلى أن قلب العارف يتلون في كل لحظة بلون الصورة التي يتجلى له الحق فيها، فهو هيولي الصورة أو الاعتقاد كما أشرنا.
و لهذا قال: «فإن العبد- و يقصد به العارف خاصة- يظهر للحق: و المراد يظهر قلبه للحق: على قدر الصورة التي يتجلى له فيها الحق». و قد شرح هذا المعنى من قبل في قوله: «فإن القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محل فص الخاتم من الخاتم لا يفضل: بل يكون على قدره و شكله».
فكأن المسألة إذن ليست مسألة استعداد للقلب يحصل تجلي الحق بمقتضاه، فيراه القلب على هذا النحو أو ذلك و يدركه في هذه الصورة أو تلك، بل المسألة مسألة مرآة تنعكس عليها صور جميع الموجودات فيدركها قلب العارف على أنها صور للحق و يتشكل بشكلها و يتلون بلونها و يضيق و يتسع بضيقها و سعتها، لأن القلب من هذه الصور كفصّ الخاتم من الخاتم.
على أن هذا لا يمنعنا من أن نسمي قدرة القلب على قبول جميع صور التجلي الإلهي استعداداً أيضاً و أن قلب العارف قد قدّر له ذلك في عالم الغيب كما قدر لغيره ألا يدرك من صور التجلي إلا صورة واحدة.
و لكن الأولى أن نقول إن تفسير الصوفية لتجلي الحق في قلب العبد تفسير صوفي، و تفسير ابن العربي تفسير فلسفي متأثر بمذهبه في وحدة الوجود.
 
(7) «فلا يشهد القلب و لا العين أبداً إلا صورة معتقده في الحق».
(7) بعد أن شرح معنى احتواء قلب العارف للحق ومشاهدته له، أراد أن يفسر ذلك «الحق» المشهود، فقال إنه صورة معتقد العارف.
فالعارف يشهد جميع صور المعتقدات لأنه لا يتقيد بصورة دون أخرى، و إن شئت فقل أنه يشهد الحق المخلوق في المعتقدات في هذه الصورة، بينما يشهده غيره في صورة خاصة و لا يراه إلا فيها.  وهؤلاء هم أصحاب الاعتقادات الخاصة.
وفي هذه العبارة اعتراف صريح من ابن العربي بأن «الحق» في ذاته ليس مشهوداً لأحد في هذه الدنيا، وإنكار صريح على الصوفية الذين يدّعون أنهم يشاهدون «الحق» في حال وجدهم وفنائهم.
فليس الحق في نظره مشهوداً لأحد من حيث ذاته المقدسة المنزهة عن جميع النسب والإضافات وكل ما يتصل بالوجود الخارجي.
وليس الحق مشهوداً لأحد من حيث إنه ذات موصوفة بالصفات والأسماء، إلا عن طريق المجالي والمظاهر الوجودية التي يتألف منها العالم.
ولكن «الحق» مشهود في كل قلب- وفي قلب العارف بوجه خاص في صور معتقدات صاحب هذا القلب.
فإن عبَّرنا عن هذه المسألة بلغة التجليات كما يعبر عنها هو أحياناً، نقول إن تجلي الحق في ذاته غير مشهود لأحد، و كذلك تجليه في الحضرة العلمية في أسمائه و صفاته، و لكنه مشهود في تجليه في صور الإله المخلوق في المعتقدات.


(8) «فالأمر لا يتناهى من الطرفين».
(8) المعرفة الحقيقية بالحق هو أنك لا تقيده في صورة خاصة فتقر به و تنكر ما عداها، بل تطلقه إطلاقاً في جميع الصور الوجودية على السواء- أو في جميع صور الاعتقادات على السواء و صور الوجود لا تتناهى فمعرفتك بالحق لا تتناهى.
و لذلك قال: «و كذلك العلم باللَّه ما له غاية في العارف يقف عندها. و كيف يقف العلم باللَّه عند غاية، و العلم به مستمد من العلم بمظاهر الوجود المتغيرة المتبدلة في كل آن من الآنات، و الخلق الجديد « يشير الشيخ ابن العربي في مثل هذا المقام إلى قوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ» (قرآن س 50 آية 14) و يشرح الخلق الجديد بهذا المعنى. وقد عالج هذه المسألة في الفص السادس عشر.
الذي هو تحول الحق في الصور هو قانون الوجود؟
والمراد بالطرفين اللذين لا نهاية لهما هو «العلم بالحق» والحق نفسه من حيث ما هو معلوم. و لا نهائية المعلوم تفضي حتماً إلى لا نهائية العلم.
 
(9) «و ما يعرف ما قلنا سوى عبد له همَّه»
(9) أي لا يعرف حقيقة الوجود و أنه واحد على الرغم من كثرته، و عامٌّ على الرغم من تخصصه، و نور كله على الرغم من وجود الظلمة فيه، إلا عبد وهبه اللَّه تلك القوة الخفية الغامضة التي يسميها الصوفية بالهمة.
و قد سبق أن شرحنا ناحية هامة من نواحي هذه القوة في التعليق الثامن على الفص السادس، و هي وظيفة همة العارف في الخلق و تسخير الأشياء. أما هنا فيشير ابن العربي إلى ناحية أخرى في الهمة، و هي وظيفتها كأداة لتحصيل المعرفة بالأمور التي يعجز العقل عن إدراكها. فهي من هذا الوجه مرادفة للذوق الصوفي.
و معنى الهمة توجه القلب و قصده بجميع قواه الروحانية إلى فعل أمر من الأمور أو كشف حقيقة من الحقائق:
فهي عند الصوفية وسيلة من وسائل التصرف و طريق من طرق المعرفة في آن واحد. فهي القوة التي تنفعل لها أجرام العالم إذا أقيمت النفوس في مقام الجمعية (الفص السادس عشر)،
و هي القوة التي تخترق الحجب الكثيفة التي يسد لها العقل على الحقائق و تدرك كنه هذه الحقائق ذوقاً.
و حقيقة الحقائق كلها عند ابن العربي هي وحدة الوجود. فالقلب وحده- عن طريق هذه القوة هو الذي يدرك الحقيقة الوجودية في وحدتها. أما العقل فمقضيّ عليه بالعجز و القصور في هذا الميدان، لأنه لا يستطيع التحرر أبداً من عبوديته لمنهجه و هو منهج تحليل «الكل» إلى أجزائه.


(10) «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ»، (قرآن س 50 آية 36) إلى قوله فإن الرسل لا يتبرأون من أتباعهم الذي اتبعوهم».
(10) فسر هذه الآية تفسيراً باطنياً خاصاً- كعادته- أخرجها به عن معناها و بنى عليها نظرية معتقدة في معرفة العباد بالحق و مدى صحة هذه المعرفة في حالة كل منهم.
قسم طالبي المعرفة بالحق ثلاثة أقسام:
الأول أصحاب القلوب وهم الكاملون من الصوفية.
والثاني أصحاب العقول وهم الفلاسفة والمتكلمون.
و الثالث المؤمنون الذين يأخذون علمهم بالتقليد من أنبيائهم.
أما أصحاب القلوب فيعرفون الحق بالشهود و الذوق، و يرونه في كل مجلى و يقرون به في كل صورة.
فهم يدورون مع الحق أينما دار، و يشاهدون وجهه (ذاته) في كل مشهد.
ألم يقل الحق في كتابه: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ»؟ (قرآن س 2 آية 115).
و أما أصحاب العقول من الفلاسفة و المتكلمين فهم أهل الاعتقادات الخاصة الذين حصروا الحق في صور خاصة- و الحق يأبَى الحصر.
و هؤلاء هم الذين «يكفر بعضهم ببعض و يلعن بعضهم بعضاً» من أجل ما وهموا أن الحق في هذا المعتقَد أو ذاك أو في هذه الصورة العقلية أو تلك. و ليس لهؤلاء القوم شهود للحق في قلوبهم، و إن كانت له صور معقولة مجردة في عقولهم.
و أما المقلدون الذين قلدوا الأنبياء و الرسل فيما أخبروا به عن الحق- و هم المشار إليهم بقوله: «أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ» فلهم في الحق أيضاً اعتقادات خاصة و صور معينة.
ولكنهم أصحاب شهود بدليل قوله: «وَهُوَ شَهِيدٌ» لأنهم يشاهدون الحق بنوع ما في صلواتهم و أدعيتهم و يمثلونه بين أيديهم اتباعاً لأمر النبي صلى اللَّه عليه و سلم في قوله: «أعبد اللَّه كأنك تراه»: أي تصوره على نحو ما في قبلتك و أنت تعبده حتى لكأنك تراه.
و ليس هذا شهود قلب كشهود العارفين من الصوفية و إنما هو شهود خيال.


(11) «وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ - في هويته- ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ».
(11) أشار فيما سبق إلى الحديث القائل إن اللَّه يتجلى لعباده يوم القيامة في صورة فينكرونه و يستعيذون منه، و في صورة أخرى فيعرفونه و يسجدون له، و قال:
إن هذه الصور ليست سوى صور الاعتقاد التي يعرف فيها أصحابها الحق أو ينكرونه. و يشرح هنا معنى قوله تعالى «وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» بنفس المعنى: أي أن الحق تعالى يظهر لعباده يوم القيامة بصور لم يكونوا يتوقعونها و لا خطرت لهم ببال. و هذه الصور هي صور الاعتقاد المتعلق بحكم من أحكام اللَّه أو بهويَّة اللَّه ذاتها. فالمعتزلي مثلًا يعتقد أن العاصي إذا مات على غير توبة عاقبه اللَّه، فإذا رأى يوم القيامة أن من مات كذلك رحمه اللَّه و عفا عنه للعناية الإلهية السابقة في حقه، انكشف له خلاف معتقده. و هذا معنى تجلي الحق له يوم القيامة بصورة لم يكن يحتسبها.
أما في هوية الحق، فإن بعض العباد يعتقد أنه كذا و كذا ثم يتجلى الحق لهم في صورة هوية أخرى تخالف معتقدهم فيبدو لهم من اللَّه ما لم يكونوا يحتسبون.
و الأمر الخطير في المسألة أن ابن العربي يفسر يوم القيامة و كل ما يتصل به من أمور الآخرة تفسيراً جديداً يتمشى مع مذهبه في وحدة الوجود و لا يمت إلى المعاني الإسلامية بصلة. فيوم القيامة هو يوم يقظة الروح الانسانية، أو يوم عودة النفس الجزئية إلى النفس الكلية: أو هو الوقت الذي تتحقق فيه النفس الجزئية من وحدتها الذاتية بـ «الكل».
وعند هذه العودة- أو عند هذا التحقق تنمحي صور الاعتقادات الخاصة و يشاهَدُ الحق في كل شي ء و في صورة كل معتقد. فإذا ظهر الحق و وقع الشهود من العبد: أي إذا ارتفعت حجب المعتقدات الجزئية، ارتفعت كذلك الحواجز و الفوارق بين الحق و العبد- بين الواحد و الكثير- و استيقظت النفس من سباتها العميق فوجدت أنها هي هو:
وشاهدت الحق بعد رفع الغطاء ببصر لا يعتريه كلال، وحق فيها قول الحق:
«لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (قرآن س 50 آية 22).


(12) «و من أعجب الأمور أنه في الترقي دائماً و لا يشعر بذلك للطافة الحجاب و رقته و تشابه الصور».
(12) الضمير في أنه يعود على الإنسان، و لكن الأمر ليس قاصراً على الإنسان، بل شاملًا للوجود كله: إذ كل شي ء في ترق دائم من حيث إنه في خلق متجدد في كل آن، و الخلق الجديد إظهار للحق فيما لا يتناهى من صور الممكنات التي يتحقق فيها وجوده.
فإذا نظرنا إلى الخلق من ناحية الحق، قلنا إن الحق «ينزل» إلى أعيان الممكنات ويتجلى فيها، وإذا نظرنا إليه من ناحية الممكنات نفسها وإظهارها للحق، قلنا إنها «تصعد» أو «ترقى» إليه. ولا تزال الممكنات في هذا النوع من الترقي نحو الحق لأن الحق لا يزال يتجلى لها في مختلف صورها.
وهو بتجليه لها أو فيها يظهر وجوده ويتحقق، وهي بقبولها ذلك التجلي يتحقق وجودها فيه.
فالترقي المذكور إذن هو التجلي الإلهي في الصور، وهو فيض الوجود الدائم من الحق إلى الخلق، سواء في هذه الدار أو في الدار الآخرة- لا بداية له ولا نهاية:
هو الفيض المقدس الذي أشرنا إليه سابقاً.
ولكنه فيض يختلف اختلافاً جوهرياً عن الفيض الذي يتحدث عنه أفلوطين، لأن الفيوضات الأفلوطينية وإن كانت ترجع إلى أصل واحد، ليست هي هذا الواحد ولا مظهراً من مظاهره كما أنها لا تلحقه أبداً ولا ترد إليه بحال.
والتجليات عند ابن العربي هي الحق نفسه مهما اختلفت صورها.
أما ما ذكرناه من هذه الدار والدار الآخرة فليس لهما معنى عنده إلا حال ظهور الموجودات في صورة ما وحال اختفاء هذه الصورة.
فالدار الآخرة موجودة في هذا العالم، بل موجودة في كل آن بالنسبة إلى كل موجود. هي جزء من ذلك الزمان الأزلي الذي تظهر فيه صور الموجودات وتختفي على الدوام.
 
(13) «لكن عثرت عليه الأشاعرة في بعض الموجودات وهي الأعراض، وعثرت عليه الحسبانية في العالم كله».
(13) بعد أن فسر «الخلق» بأنه محض ظهور الحق في صور أعيان الممكنات على نحو يتجدد في كل آن منذ الأزل، وبعد أن قرر أن هذا هو الخلق الجديد الذي ذكره القرآن، أشار إلى أقرب مذاهب مفكري الإسلام من مذهبه.
فقال إن الأشاعرة أدركوا جزءاً من هذه الحقيقة في نظريتهم في تجدد الأعراض، وأدركها الحسبانية في نظريتهم في طبيعة العالم كله.
قال الأشاعرة إن العالم مؤلف من جوهر و أعراض، و إن الأعراض في تغير و تبدل مستمرين بحيث لا يبقى واحد في جوهر آنين، و نسبوا كل صور الموجودات و كثرتها و تعددها إلى اختلاف الأعراض المتجددة على الجوهر الواحد.
ولا شك عندي أن هذه النظرية الذرية التي قالوا بها وإن كانت بعيدة كل البعد عن فكرة وحدة الوجود، لأن الأشاعرة يثبتون وجود إله خالق إلى جانب الجواهر والأعراض كان لها أكبر الأثر في الإيحاء بفكرة وحدة الوجود التي قال بها ابن العربي.
لأنه لمّا أحلّ «الحق» محل جوهر الأشاعرة استقامت له نظريته وأصبحت نظرية واحدية بعد أن كانت ثنائية، وأصبح الوجود منحصراً في الجوهر الواحد (الذات في اصطلاحه) والأعراض التي تختلف عليه (الصور الوجودية في مذهبه): وسقطت من نظرية الأشاعرة فكرة الخلق بالمعنى الصحيح، وأصبح ظهور الصور في الذات الواحدة أمراً تلقائياً ضرورياً.
وأقوى وجوه الشبه بين نظرية الأشاعرة ونظريته هو أن الأشاعرة ردوا الكثرة الوجودية في العالم إلى جوهر واحد مؤلف من ذرات أو جواهر فردة لا نهاية لعددها، وقالوا إن هذه الذرات لا يمكن معرفتها ولا وصفها إلا عن طريق ما يعرض لها من الأعراض التي تتغير وتتبدل في كل آن. فإذا اجتمعت على نحو ما أو افترقت ولحقها هذا العرض أو ذاك، ظهرت بصورة من صور الوجود سرعان ما تخلعها وتلبس صورة أخرى غيرها.
هكذا تظهر الموجودات وتتبين لنا صفاتها التي يسمونها بالأعراض.
و لكن الأشاعرة يختلفون عن ابن العربي في أنهم يرون أن مجرد التغيير في العالم العالم دليل قاطع على حدوثه و إمكانه و افتقاره إلى محدث يحدثه و يحدث فيه ذلك التغير.
و لكن ابن العربي اعتبر الحدوث و الافتقار قاصرين على الصور، و لم ير داعياً لفرض خالق أو محدث للذوات.
و من مواضع الشبه أيضاً بين نظريتهم و نظريته مسألة تجدد الأعراض الذي سماه هو بالخلق الجديد كما أسلفنا.
أما الحسبانية (بكسر الحاء أو ضمها) فهم فرقة من السوفسطائيين زعمت أن كل شي ء في العالم، جوهراً كان أو عرضاً، متغير متبدل، وأن الدوام والاستقرار لا يحملان على شي ء ما، وإذن لا يمكن أن يكونا صفتين تتميز بهما الحقيقة.
بل الحقيقة ليس لها وجود إلا فيما تدركه الآن، وهي حقيقة بالإضافة إليك.
وكلمة حسبانية مشتقة من «حَسِبَ» بمعنى طن أو اعتقد.
فالحقيقة حقيقة في حسبان هذا الشخص أو ذاك لا في ذاتها.
و كلا الفريقين الأشاعرة و الحسبانية مخطئ في نظر ابن العربي: و لو أنهما لَمَسَا جانباً من الحق: فالأشاعرة لم يدركوا العالم على حقيقته: أي لم يدركوا أن العالم جملة من الأعراض و الظواهر يقوِّمها جوهر واحد هو الذات الإلهية، بل افترضوا وجود جوهر أو جواهر إلى جانب هذه الذات حيث لا وجود لهذه الجواهر. أما الحسبانية فلم يدركوا أن وراء هذه الظواهر المدركة بالحس، المتغيرة على الدوام، جوهراً غير محسوس لا يتغير و لا يقبل الانقسام في ذاته، فقصروا الحقيقة على ما هو متغير و محسوس: مع أن الأمور المتغيرة ليست إلا صوراً و لا يمكن أن توجد أو تتصور موجودة إلا في ذلك الجوهر غير المحسوس الذي يقومها.


(14) «كالتحيز في حد الجوهر القائم بنفسه الذاتي وقبوله للأعراض حد له ذاتي».
(14) يشير إلى أن تعريف الأشاعرة للأشياء يدل على فساد نظريتهم لأنهم يعرفون
الجسم مثلًا بأنه المتحيز القابل للأبعاد الثلاثة: والتحيز والقبول فصلان وعرضان ذاتيان في نظر الأشاعرة لأنهما صفتان أساسيتان داخلتان في ماهية الجسم.
والعرض الذاتي عندهم هو كل ما كان جزءاً من ماهية المعرف كالنطق في تعريف الإنسان والحساسية في تعريف الحيوان والتحيز في تعريف الجسم.
وإذا كانت الحدود بالذاتيات، والذاتيات عندهم أعراض، والأعراض متغيرة لا تبقى زمانين كما يقولون، إذن يخرج من الأشياء التي لا تقوم بنفسها وهي الأعراض ما يقوم بنفسه وهو الجوهر المحدود: إذ الجوهر المحدود عين ماهيته في الخارج غيرها في الذهن ويبقى زمانين وأزمنة كثيرة مع أنهم قالوا إنه لا يبقى زمانين. وهذا باطل.
وقد جاء بطلان مذهبهم من أنهم عرَّفوا الأشياء بأنها مجموعة أعراض وأن هذه الأعراض هي عين جواهر الأشياء ولم يفرضوا وجود جوهر واحد يقوِّم هذه الأعراض جميعها
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين نوفمبر 11, 2019 10:14 pm

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية

(1) فص حكمة ملكية في كلمة لوطية
(1) من أهم المسائل التي تثار في هذا الفص مسألة «القوة»: مصدرها و ظهورها في الإنسان، وصلتها بقوته الروحية المسماة بالهمة، و متى يجب عليه أن يستخدمها في التصرف بوساطة هذه القوة، و متى ينبغي عليه أن يكف عن هذا التصرف.
ويظهر أن المراد بقوم لوط شهوات النفس البهيمية، وبلوط نفسه تلك القوة الروحية التي تضبط هذه الشهوات وتتصرف فيها.
فهو رمز إما للهمة نفسها أو لقوة روحية أعلى تعرف كيف ومتى تستخدم الهمة.
وقد سبق أن شرحنا معنى الهمة وبيَّنَّا بعض نواحيها ووظائفها في الفص السادس (التعليق الثامن) والفص الثاني عشر (التعليق التاسع).
أما في هذا الفص فيشرح المؤلف التصرف بها ويفسر كيف يفهم العارف التصرف ولِمَ يحجم عنه مع قدرته عليه مستنداً في ذلك إلى نظريته العامة في وحدة الوجود.
يقول إن الإنسان خُلِقَ من ضعف، فلا حول ولا قوة له في ذاته، لأنه لا وجود له في ذاته، والقوة مظهر من مظاهر الوجود، بل الموجود الحقيقي والقويُّ الحقيقي هو الحق وحده.
فإذا آنس الإنسان من نفسه قوة فالحق واهب هذه القوة، بل هو صاحبها ومالكها، ولكن في صورته.
أي أن الإنسان يظهر بالقوة لأنه مظهر الحق والحق قوي في ذاته، والإنسان قوي بالعرض.
هذا دوران أو طوران للإنسان وإن شئت فقل اعتباران: ضعف أصيل وعجز ذاتي ثم قوة إضافية أو عرضية.
وهنالك دور ثالث وهو دور العارف الذي يأنس من نفسه تلك القوة العارضة كما يحسها سائر المخلوقات، و لكنه يدرك أن هذه القوة ليست له، بل للقويِّ على الإطلاق و هو اللَّه،
ويدرك أن من الجهل وسوء الأدب مع اللَّه التصرف بها فيترك التصرف لصاحبه ويرجع بنفسه إلى الحال الأولى التي هي حال العجز المطلق.
هذا هو التفسير الصوفي الفلسفي الذي وضعه ابن العربي لقوله تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً» (قرآن س 30 آية 54) و لعله يفهم الشيبة على أنها رمز لحالة النضوج في المعرفة الصوفية.


(2) «وذلك أن المعرفة لا تترك للهمة تصرفاً. فكلما علت معرفته نقص تصرفه بالهمة».
(2) يدعي جمهور الصوفية أن العارفين منهم المتحققين بمقام الولاية والواصلين إلى درجة القرب من اللَّه، تظهر على أيديهم الكرامات وخوارق العادات، ويرسلون هممهم على من يريدون وما يريدون فيتصرفون في الجميع و يسخرون الناس و الأشياء.
و لكن ابن العربي الذي يخضع لمنطق مذهبه في وحدة الوجود يرى أن هذه دعوى لا أساس لها عند العارف المحقق الواقف على الأمر كما هو عليه.
إذ العارف الذي وصل إلى مقام الجمع- أو مقام الفناء كما يسمونه- و تحقق من الوحدة الوجودية للأشياء و من وحدته الذاتية مع الحق، يترك التصرف مع قدرته عليه، و يزهد فيه، و إن تصرف عرف من هو المتصرِّف و من المتصرِّف فيه، و بأي معنى نَسَبَ التصرف إلى نفسه.
إنه يدرك في هذا المقام أنه مجرد صورة لا وجود ولا قيمة لها في ذاتها وهذا هو التحقق بالعبودية الكاملة ويدرك من ناحية أخرى أحدية المتصرِّف والمتصرِّف فيه فلا يرى غيراً يسلط عليه همته أو يرسل عليه تصرّفه.
فهو من جهة يرى أن إرادته ليست سوى إرادة الحق فيه، ومن جهة أخرى يرى أن غيره من الموجودات التي يؤثر فيها بهمته وتصرفه ليست سوى مجال للحق، بل هي عين الحق لا غيره: فكيف عن التصرف ويدرك أنه ليس له من الأمر شيء.
هذا سبب، و هناك سبب آخر من أجله ترك العارفون من الصوفية التصرف و تبرءوا منه: و ذلك أنهم أدركوا أنه لا شي ء يظهر في الوجود إلا بحسب ما كان عليه في حال ثبوته الأزلي: أي أدركوا أن الأمور مقررة مقدرة أزلًا، و أن لا قوة في الوجود أياً ما كانت تستطيع أن تمحو كلمة واحدة مما خطته يد القدر:
ففيم إذن يتصرفون؟ و لِمَ يتصرفون؟
إن المنازع الذي يعصي رسول اللَّه لم يتعد حقيقته ولا أخل بطريقته: إنه يسير في الطريق التي رسمتها له طبيعة الوجود ولا مفر له من أن يسير فيها.
ومهما يحاول الرسول رده عن هذه الطريق بهمته أو بغيرها لا يجديه ذلك فتيلًا.
ألم يقل الحق لنبيه عليه السلام: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ؟»
وقال «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ».
على أن هذا المنازع ليس إلا منازعاً في الصورة، ومن قبيل العرض البحت، وإلا فهو في حقيقة الأمر مطيع خاضع لقانون الوجود الذي هو القانون الإلهي.
راجع ما قلناه عن الأمر التكويني و الأمر التكليفي و ما ذكرناه عن نظرية المؤلف في الجبرية.
(الفص الخامس: التعليق 4، 5، 6، و الفص السابع التعليق 4، و الفص الثامن التعليق 6، و الفص العاشر التعليق 6 إلخ).


(3) «والهمة لا تفعل إلا بالجمعية التي لا متسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه».
(3) الظاهر أن المراد بالجمعية هنا جمعية القلب، أي تركيزه و توجيه نشاطه الروحي نحو أمر من الأمور أو شي ء من الأشياء بقصد التصرف فيه حسبما يريد العارف.
 ولكن هذه الجمعية القلبية لا تتم أبداً لصاحب المعرفة الكاملة لأن شعوره بالعجز و القصور، و إدراكه أن ما أودع فيه من القدرة على التصرف في الأشياء ليس له و أنه مجرد أداة في يد الحق، يقفان حائلًا دون حصول هذه الجمعية في قلبه.
وإذا لم تحصل الجمعية القلبية في العارف لا يحدث التصرف، وهذا هو معنى ترك كبار الصوفية للتصرف مع قدرتهم عليه كما فعل الشيخ أبو السعود بن الشبل البغدادي تلميذ الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكما فعل الشيخ العارف أبو مدين المغربي، بل كما كان عليه حال ابن العربي نفسه الذي يصف نفسه بأنه كان أتم في مقام الضعف والعجز من أبي مدين.
فالتحقق بمقام الضعف والعجز هو الذي يمنع هؤلاء الصوفية من إطلاق تصرفهم في الموجودات، وهو أيضاً مقام التحقق بالعبودية الكاملة.
وهنا نسمع صوت العاطفة الدينية ينبعث من قلب شيخ وحدة الوجود حيث يجرد الإنسان (الصورة) من كل حول وقوة وقدرة على التصرف- بل على الفعل أياً كان نوعه، ويلبسه ثوب الافتقار المطلق، ويعزو القوة الحقيقية والقدرة المطلقة إلى الحق الواحد المتجلي في جميع الصور.
على أن الجمعية المشار إليها يمكن أن تفهم على وجه آخر، وفي بعض ما سبق من النصوص ما يؤيد هذا الوجه.
فقد يكون المراد بها مقام الجمع: 
أي مقام الفناء والتحقق بالوحدة الذاتية بين الحق والخلق.
وقد سبق أن أشرنا إلى أن هذا المقام متعذر على السالكين الكاملين ما داموا في هذه الدنيا وما دام لهم شعور بفرديتهم.
ويكفي أن يقول الصوفي «أنا» ليثبت «مقام الفرق».
ولهذا يَسْخَر ابن العربي من أولئك الصوفية الذين خدعوا أنفسهم فتكلموا عن الوصول و الاتحاد و الوحدة و ما شاكلها. يقول «و لهذا منع أهل الحق التجلي في الأحدية» راجع الفص السابع التعليق الخامس: و الفص الثاني عشر: التعليق 6، 7 إلخ إلخ.


(4) «فمتى تصرف العارف بالهمة في العالم فعن أمر إلهي وجبر لا باختيار».
(4) هذه ناحية جديدة من نواحي نظرية ابن العربي في الجبر.
كل شي ء في عالم هذا الرجل يخضع لقانون الجبرية الأزلية حتى الاعتقادات والطاعات والمعاصي، والتصرف بالفعل في العالم وعدم التصرف فيه.
فبعد أن شرح معنى التصرف وقيمته في نظر العارف الكامل، وبيَّن أنه قوة يتمكن بها الإنسان من إحداث ما يشاء من الآثار في العالم الخارجي، ويحجم العارفون عن استخدامها لعلمهم بمصدرها وحقيقتها، ذكر أن الأنبياء قد أعطوا هذه القوة ليظهروا بما تأتي به من المعجزات بين الناس فيحملوهم على الاعتقاد برسالتهم والتصديق بهم.
هذا حق للأنبياء المرسلين، ولكنهم لو أدركوا الأمر على حقيقته كما يدركه العارفون وهم لا شك يدركونه- لصدفوا عن التصرف وتركوه جانباً، إلا أن يكون اللَّه قد قدر أزلا أنهم سيتصرفون على نحو ما، تحقيقاً لغرض معين.
هذا جانب من جوانب الجبرية في الموضوع. وهناك جانب آخر لا يقل عنه في أهميته.
إذا كانت اعتقادات الخلق في الحق مقدرة أزلًا، وإذا كان كل إنسان يولد عاصياً أو مطيعاً نتيجة لما طبعت عليه عينه الثابتة في العلم القديم، وإذا كان التصديق بالرسل والتكذيب بهم جزءاً من النظام العالم المقرر أزلًا، فما قيمة تصرف الأنبياء وإظهارهم المعجزات؟
نعم يقول اللَّه عز وجل «وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» * و لكنه يقول أيضاً «وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» * أي الذين اقتضت أعيانهم الثابتة هدايتهم فعلم اللَّه ذلك منهم أزلًا، و علم أنهم لن يحولوا عن طريق الهداية أبداً كما أن أهل الضلال لن يحولوا عن طريق ضلالهم مهما بذل رسلهم من تصرف و أظهروا من معجزات.


(5) «فالكل منا ومنهم .... والأخذ عنا وعنهم»
إن لا يكونون منا ... فنحن لا شك منهم
(5) شرح بما لا مزيد عليه من الوضوح أن الهداية و الضلال مقدران أزلا على كل مهتد و ضال، و أن ذلك التقدير الأزلي راجع إلى طبيعة الأشياء ذاتها، و أنه و ليس شيئاً آخر فرضته قوة خارجة عن القوة السارية في الوجود بأسره.
فإن قيل أن الكفر مقدر على الكافر، و إن الإيمان مقدر على المؤمن، كان معنى ذلك أن العين الثابتة في العلم الإلهي اقتضت كفر الكافر و إيمان المؤمن لا أن الحق تعالى قدر الكفر على الكافر ثم طالبه بما ليس في وسعه أن يأتي به.
هكذا فهم ابن العربي العدالة الإلهية وهي عدالة سلبية أو عدالة معطلة لأن العدالة الحقيقية عمل إرادي يصدر ممن في قدرته أن يعدل وأن يظلم، والحق في نظر ابن العربي ليس له إلا إرادة الموجود الثابت، أو ليس له إرادة أصلًا.
نعم لم يفرض الحق على العبد الكفر ثم يطالبه بالإيمان وإلا كان ذلك عين الظلم، ولكنه لم يفرض عليه شيئاً إطلاقاً، وإنما فرض على العبد الكفر عينُه الثابتة أو طبيعة وجوده:
فإن كان ظلم فهو الظالم لنفسه.
ويحق لنا أن نقول أيضاً، وإن كان عدل فهو العادل في حق نفسه- ولكنا عرفنا فيما سبق أن ابن العربي لا يعتبر الكفر والمعصية ولا أي نوع من أنواع المخالفة للشرع ظلماً أو فجوراً أو شراً إلا من ناحية الدين: أي من ناحية ما ورد في الشرع من أوامر ونواه.
أما في ذاتها فكل أفعال العباد مرضية في نظر أربابها، مقبولة في نظر الحق، عادلة لا ظلم فيها لأنها تطابق تمام المطابقة قوانين الوجود.
بعد كل هذا ذكر البيتين الآنفي الذكر وختم بهما الفص: وفيهما الشيء الكثير من الغموض مما دعا إلى اختلاف الشراح في فهمهما اختلافاً كبيراً.
فكلمة «الكل» الواردة في البيت الأول قد تشير إلى كل «ما هو موجود»، أو إلى كل ما ذكره قبل ذلك من الكلام عن الأمر الإلهي (الأمر التكليفي) و طاعة العبد.
و على المعنى الأول يكون معنى البيت: فكل ما هو موجود ينتسب لنا (الحق) من وجه، و ينتسب لهم (الخلق) من وجه آخر: أي أن الوجود حق و خلق، أو حق في خلق كما بيَّن ذلك مراراً.
وعلى المعنى الثاني يكون معناه: 
فكل ما ذكرناه من أمر وطاعة صادر منا- لأنا نأمر العباد ونطيعهم بأن ننقاد إلى ما تتطلبه أعيانهم من حقائق الوجود وصادر منهم لأنهم يأمروننا بأن يطالبونا بما تقتضيه أعيانهم، و في الوقت نفسه هم يطيعون أوامرنا.
فالأمر والطاعة من الطرفين على قدم المساواة وكذلك يقع الإبهام في كلمة «الأخذ» التي قد تفهم بمعنى استمداد المعرفة، أو استمداد الوجود، وعلى المعنى الأول يستمد العبد معرفته الحقيقية من الحق.
ويستمد الحق علمه بالعبد من ذات العبد وعينه الثابتة.
وعلى المعنى الثاني يستمد العبد وجوده من الحق، ويستمد الحق وجوده الظاهر ووجود ألوهيته من الخلق.
بل إن اللبس قد وقع في الضمائر الواردة في البيتين في قوله منا وعنا، ومنهم وعنهم.
فقد أخذت الضمائر على أنها كلها عائدة على المخلوقات، وأخذت على أن الضميرين في «منَّا» و «عنَّا» عائدان على الحق، و في «منهم» «وعنهم» عائدان على الخلق، وأخذت على أن الضميرين في منا و عنا عائذان على الخلق، وفي منهم و عنهم عائدان على الأسماء الإلهية.
وقد فهم البيت الثاني «إن لا يكونون منا فنحن لا شك منهم»
بمعنى إن لم ينتسبوا إلى الحق، أو إن لم يتحقق وجودهم بوجوده، أو إن لم يستمدوا علمهم منه- فإن الحق لا شك ينتسب إليهم (بالمعنى المتقدم)، أو يوجد في الظاهر بوجودهم أو يستمد علمه بهم منهم.
و نستطيع أن نلخص البيتين إجمالًا في أن كل ما هو موجود بالقوة أو بالفعل له وجهان:
وجه إلى الحق و آخر إلى الخلق: وجه إلى الفاعل و آخر إلى القابل، و أن الحقيقة الوجودية لا تكون إلا عن الوجهين جميعاً. فهما الصفتان المتكاملتان في «الواحد».
فالربوبية وما يلزمها من الأسماء لا وجود لها إلا بالمربوبين، والعبودية وما يلحقها من الصفات لا تَحَقُّق لها من غير الأرباب.
فكل من الربوبية والعبودية إذن لا معنى لها- بل ولا تحقق- إلا بالأخرى.
وكذلك الحال في الألوهية والمألوهية.
فإذا قدَّرنا أن العالم مستقل في وجوده عن اللَّه أصبحت الألوهية اسماً على غير مسمى: وهذا معنى قوله: «إن لا يكونون منا فنحن لا شك منهم»، لأن الأسماء الإلهية التي تطلب المألوهين، و منها يتكوّن مفهوم الألوهية، تصبح في هذه الحالة لغواً من القول. على هذا التقدير يستقيم المعنى في البيتين، ولكن لسوء الحظ ليس في الفص ذكر سابق للأسماء الإلهية حتى تعود عليها الضمائر في منهم وعنهم.
والأقرب إلى روح الفص أن نعيد الضمائر في منا وعنا على اللَّه، وفي منهم وعنهم على العباد، لا سيما وقد ورد البيتان بعد شرح الآية القرآنية التي ينصف اللَّه بها نفسه من العباد في قوله «وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
 
(6)  «و قد أدرج في الشفع الذي قيل هو الوتر»
(6) الشفع هو العالم و الوتر هو الواحد الحق- الذات الإلهية أو المطلق.
والمراد أن الذات الإلهية المطلقة قد أدرجت في العالم كما أدرج العدد «واحد» في العدد «اثنين».
وهذا التمثيل الرياضي البديع يشرح لنا نظرية ابن العربي شرحاً دقيقاً ويميز بينها و بين النظريات الأخرى التي قد تختلط بها كنظرية الحلول أو نظرية الفيوضات التي قال بها أفلوطين.
ليس العالم فيضاً عن «الواحد المطلق» كما قال أفلوطين، بل هو هو ذلك الواحد متجلياً في صورة الممكنات المتعينة: أي أنه «المطلق» الذي جرده العقل من إطلاقه عند ما تصوره في صورته المقيدة.
فكما أن «الواحد» العددي هو جوهر الاثنين والثلاثة وسائر الأعداد، وكما أن الأعداد ليست في الحقيقة إلا صوراً معقولة للواحد المندرج فيها جميعاً، كذلك الحال في الواحد الحق والكثرة الوجودية التي نسميها بالعالم.
فالواحد العددي ليس له إلا دلالة واحدة وإشارة واحدة و هي إشارته إلى ذاته و دلالته على هذه الذاتية.
أما الأعداد الأخرى فلكل منها دلالتان أو إشارتان: دلالته على نفسه كدلالة الاثنين على الاثنين والثلاثة على الثلاثة وهكذا.
ودلالته على «الواحد» المتكرر أو المندرج فيه.
هكذا الوتر و الشفع: 
الحق و العالم أو بعبارة أدق الذات الإلهية و العالم. فإن الذات الإلهية إذا نظر إليها معراة عن جميع العلاقات والنسب لم يكن لها دلالة ولا إشارة إلا على نفسها و إلى نفسها.
أما العالم الذي هو كثرة من صور الوجود فله إشارتان: 
إشارة إلى نفسه.
وإشارة إلى الذات المندرجة في كل صورة من صوره.
والحقيقة أن الوتر هو الشفع، ولكنهما متغايران في الذهن، كما أن الواحد العددي هو عين الأعداد كلها، ولكنه مغاير لها ذهناً
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالسبت نوفمبر 23, 2019 12:46 am

14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص العزيري على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية

(1) فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية
(1) يتصل موضوع هذا الفص اتصالًا وثيقاً بموضوع الفص السابق في كثير من الوجوه لأنه يبحث في مشكلة القضاء والقدر التي هي مشكلة عالم الغيب حيث التقدير الأزلي والجبرية التي يخضع لها الوجود بأسره.
وقد شرحنا في مواطن أخرى من هذا الكتاب معنى «سر القدر» وما يتصل به من بعض المسائل، و لكننا لم نشر بعد إلى الصلة بين القضاء والقدر، ولا بين القدر ومسألة الخلق، كما أننا لم نتعرض لذكر معرفة الإنسان بعالم الغيب ومدى إمكان هذه المعرفة.
وهذه كلها أمور يناقشها المؤلف في هذا الفص.
وقد صوِّر لنا عُزَيْراً في صورة النبي الذي ينشد المعرفة بعالم الغيب عن طريق الوحي ويطلب الاطلاع على سر القدر، وساق لنا الآية التي أخبر اللَّه عز وجل فيها عن عزير أنه قال في قرية من القرى «أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟»، مظهراً بذلك شكه وعَجَبه، ومستلهماً من اللَّه حكمته الأزلية في إماته القرية. ثم بيَّن أن العلم بسر القدر ليس مما يوحَى به إلى الأنبياء، وإنما هو أمر ينكشف للعارفين من الأولياء انكشافاً ذوقياً، وهنا نراه يقابل بين الأنبياء والأولياء من جهة، وبين علم الأولين ومعرفة الآخرين من جهة أخرى.
والحقيقة: أن مسألة عزير عن القرية ليس لها كبير صلة بموضوع الفص ولكنه يتخذ الآيات القرآنية الواردة فيها أساساً يبني عليه آراءه في القضاء والقدر ويخرج منها المعاني الفلسفية والصوفية التي يريدها.


(2) «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» (قرآن س 6 آية 150).
(2) أي فللّه الحجة البالغة على عباده، لأنهم استحقوا الثواب والعقاب بذواتهم، فمنهم تصدر الأفعال، و في ذواتهم تتقرر من الأزل.
و لا يحكم قضاء اللَّه على الأشياء إلا بها- أي بمقتضى طبيعتها، فهي الحاكمة على نفسها بما استقر في أعيانها الثابتة. و ليس للَّه في الأمر إلا أن تقتضي عنايته تحقق ما في هذه الأعيان على ما هي عليه.
فإن فَعَلَ الإنسان الخير فمن استعداده الأزلي لفعل الخير، و إن فعل الشر فمن استعداده الأزلي لفعل الشر، و هو يجني في الحالين ثمرة غرسه، أو ثمرة ما غُرسَ في جبلته.
فإن قيل فما معنى الجزاء، و ما معنى الثواب و العقاب في مذهب جبري كهذا المذهب، أجاب ابن العربي أن الثواب و العقاب ليسا إلا اسمين لما عليه حال العباد من طاعة أو معصية، و ما يعقب هذه الحالة من لذة أو ألم في حياة العباد في هذه الدنيا نتيجة لأفعال طاعتهم أو معصيتهم. بل إن هذه الحال نفسها من جملة الأحوال التي تقتضيها أعيان العباد في فطرتها الأولى.
فكما أن العبد مفطور على فعل الخير أو الشر ومفطور على عمل الطاعة أو المعصية، كذلك هو مفطور على أن يكون شقياً أو سعيداً بأفعاله.
ومعنى هذا أن الثواب والعقاب ليسا جزاء من اللَّه يقضي به في الدار الآخرة، بل هما أقرب ما يكون إلى الجزاء الطبيعي الذي يجلبه على الفاعل فعله.
قارن ما ورد في الثواب والعقاب وحمد الإنسان وذمه نفسه: الفص الخامس: التعليقان 6، 7، والسابع: التعليق 11، والثامن التعليقان 5، 6، والعاشر: التعليق 2 إلخ.
 
(3) «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» (قرآن س 17 آية 55).
(3) التفاضل حاصل بين الرسل كما نصت عليه الآية المذكورة وبين النبيين بدليل قوله تعالى «ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ»، بل بين الناس عامة كما قال تعالى «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ».
وعلى هذه الآيات يبني ابن العربي نظرية لا تخلو من طرافة في معنى أفضلية بعض الرسل على بعض، وأفضلية بعض الخلق على بعض، كما يشير إلى اختلاف الرسل في رسالاتهم باختلاف الأمم التي أرسلوا إليها.
فاللَّه قد فضل بعض الرسل على بعض- لا بمعنى أنه خص بعضهم بفضل ما وحرم الآخرين منه، أو أكرم بعضهم أكثر مما أكرم غيره، أو غير ذلك مما هو أدخل في المعاني الخلقية، ولكنه بمعنى أنه أرسل بعض الرسل برسالات لم يرسل بها غيرهم لاختلاف الأمم في مدى استعدادهم لقبول الرسالات الإلهية والعمل بها.
فاختلفت الرسل، واختلفت رسالاتهم باختلاف أممهم.
وفي هذا الاختلاف معنى التفاضل، ولكنه ليس تفاضلًا أخلاقياً ولا تفاضلًا يستند إلى قيمة الرسول عند اللَّه. ليس أحد من الرسل أفضل من الآخر في عمله ولا في درجة قربه من اللَّه، ولكن الرسل يتفاوتون فيما أرسلوا به من الشرائع والأحكام، كل في الزمان والمكان وإلى الأمة التي هي أحق من غيرها برسالته.
فالشرائع إذن تختلف بساطة وتعقيداً كما تختلف في أنواعها، ويحددها في حالة كل رسول طبيعة الأمة التي أرسل إليها وظروفها، فهي متفاضلة أي مختلفة متفاوتة، وكذلك الرسل المرسلون بها.
ولكن لكل رسول نوعين من العلم يختلف فيهما عن غيره من الرسل:
الأول العلم الخاص بشريعته: وهذا مقيد كما قلنا بظروف الأمة التي بعث إليها.
الثاني علم بالأمور الأخرى غير المتصلة بشريعته وهذا مقيد بطبيعته هو واستعداده.
أما الأنبياء فيقع التفاضل بينهم- أي الاختلاف- في النوع الثاني فقط، ومن أهم أجزائه العلم بالمغيبات وأما غير الأنبياء والرسل من الخلق فيقع التفاضل بينهم في الرزق، والرزق منه ما هو مادي كالأغذية ومنه ما هو روحاني كالعلوم. ولا يعطي الحق العباد من الرزق إلا بقدر استحقاقهم، واستحقاقهم هو استعدادهم أو ما تتطلبه حقائقهم وأعيانهم الثابتة. فالتفاضل في الأحوال الثلاثة اختلاف وزيادة ونقص لا تمييز وأفضلية.
 
(4) «فالتوقيت في الأصل للمعلوم، والقضاء و العلم و الإرادة و المشيئة تبع للقدر».
(4) عرَّف «القدر» في أول الفص بأنه «توقيت ما هي عليه الأشياء في عينها من غير مزيد»، كما عرَّف القضاء بأنه «حكم اللَّه في الأشياء».
فالقدر هو تعيين حدوث شي ء من الأشياء على ما هو عليه في عينه الثابتة في وقت معين، والقضاء هو حكم اللَّه في الأشياء أن تكون كيت وكيت على النحو الذي قدِّر لها أن تكون عليه.
وعليه كان القدر سابقاً على القضاء.
واللَّه ينفذ حكمه في الأشياء بحسب علمه بها، وعلمه بها راجع إلى ما تعطيه الأشياء نفسها مما هي عليه في ذاتها.
فكأن القضاء والعلم تابعان للمعلوم، وكذلك الإرادة والمشيئة.
أما القدر، وهو تعيين الوقت، فسابق على هذه كلها.
وهو راجع إلى الشي ء المقدر نفسه- المشار إليه بالمعلوم.
و يظهر أنه يستعمل كلمتي الإرادة و المشيئة بمعنيين مختلفين جرياً على عادته (راجع الفص الثالث و العشرين) مع أنه لا فرق بينهما في الاصطلاح العادي.
فالارادة عنده تتعلق بوجود ما لا وجود له فقط، و لكن المشيئة تتعلق بوجود ما لا وجود له كما تتعلق بعدم ما هو موجود.
وهذه التفرقة نفسها ملاحظة في القرآن الكريم الذي يظهر أن ابن العربي أخذها منه. يقول اللَّه تعالى «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً».
و يقول «وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ»، «إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَ يَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ» *.
 
(5) «فسِرُّ القدر من أجلِّ العلوم ... فالعلم به يعطي الراحة الكلية للعالِم به، و يعطي العذاب الأليم للعالم به أيضاً».
(5) سر القدر إما الأعيان الثابتة للموجودات الحاصلة من الأزل في العلم القديم، أو كون الموجودات تظهر في وجودها على نحو ما كانت عليه في ثبوتها.
فالعلم بسر القدر إذن هو العلم بسر الوجود و حقيقته، لأن به ينكشف معنى الوجود و معنى شيئية الأشياء، و كيف ظهرت على النحو الذي ظهرت عليه.
كذلك تنكشف به الصلة بين الحق وبين هذا النظام الوجودي الذي نسميه بالعالم، ويظهر للعالم به كيف يقرر كل موجود مصيرَه بنفسه.
لا عجب إذن أن العلم بسر القدر مصدر راحة تامة لصاحبه ومصدر عذاب أليم له أيضاً.
فهو مصدر راحة من حيث إنه يكشف لصاحبه أن كل ما يجري في الوجود إنما هو نتيجة للقوانين المغروسة في طبيعة الوجود ذاتها، وأن كل إنسان مقدّر عليه أن يكون ما هو عليه في الواقع، وأن يظهر بالصورة التي ظهر فيها.
لا مناص من ذلك ولا معدى عنه.
ومن شأن هذا العلم أن يبعث في نفس صاحبه الرضا التام بكل ما يحكم به القضاء، وأن يوقفه من الوجود كله موقف التفاؤل.
وأي شيء أدعى للتفاؤل وأجلب لرضا النفس من أن تعلم أن كل ما يصد منها إنما هو من غرس يدها ومن مقتضى طبيعتها، وأن كل جزاء تلقاه إنما هو جزاء عادل؟
وأي رحابة صدر بل أي تسامح أعظم من ذلك الذي يشعر به الواقف على سر القدر وهو ينظر إلى غيره من العباد وقد ضلوا سواء السبيل وارتكبوا المعاصي و الآثام؟
بل أي الناس أقبل منه لما يأتي به قضاء اللَّه المحتوم من محن وآلام، وأبعد عن الشكوى ولو كانت إلى اللَّه؟
ولكن العلم بسر القدر كما يورث صاحبه كل الراحة والطمأنينة النفسية والتفاؤل، يورثه، من ناحية أخرى الألم والقلق والتشاؤم، لأنه يرى في الكون شقاءً كثيراً وآلاماً مبرحة ومعاصي ترتكب ضد أوامر الدين ونواهيه، ولكنه قد لا يعلم في الوقت نفسه إذا كان الخلاص من كل هذه الشرور وقد قُدِّر أيضاً في طبيعة الوجود كما قدرت الشرور ذاتها.
 
والعلم بسر القدر من مكنونات أسرار اللَّه وحده، ولكنه قد يطلع عليه من يختصه بفضله من عباده، وهؤلاء قد يقفون على سر القدر مجملًا أو مفصلًا، وبذلك يعلمون ما في علم اللَّه، وتنكشف لهم أعيان الموجودات الثابتة وانتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى.
وبذلك يأخذون العلم بحقائق الأشياء من نفس المعدن الذي يأخذ اللَّه منه علمه بها.
راجع الفص الثاني.
 
(6) «وبه وصف الحق نفسه بالغضب والرضا، وبه تقابلت الأسماء الإلهية».
(6) سر القدر هو القانون المتحكم في الوجود كما قلنا، ومن أجله وصف الحق نفسه بالغضب والرضا بل وسائر الأسماء الإلهية المتقابلة.
والمراد بالغضب هنا جملة الصفات الإلهية التي يسميها الصوفية «صفات الجلال»، وبالرضا جملة الصفات التي يسمونها «صفات الجمال».
وكلا النوعين يتصف به الحق من حيث صلته بالخلق أو بالعالم.
وقد ذكرنا أن كل ما يظهر في الوجود إنما يظهر بالصورة التي تقتضيها عينه الثابتة. فمن الموجودات ما تتجلى فيه جميع الصفات الوجودية كالإنسان الكامل، ومنها ما هو دون ذلك كسائر بني الإنسان، ومنها ما هو على حظ من الوجود أدنى من ذلك كالحيوان والنبات والجماد.
ومن الخلق من تصدر أفعاله موافقة لأوامر الشرع، ومنهم من يخالفه.
وكذلك منهم من قدر له أن يفعل ما يسميه العرف خيراً ومن يفعل ما يسميه العرف شراً وهكذا.
وهذه تفرقة نجدها في الديانات المنزلة جميعها، ونجد أن الحق قد وصف نفسه بالرضا بالاضافة إلى نوع من الخلق وبالغضب بالاضافة إلى نوع آخر.
ولكن «الحق» كما يتصوره ابن العربي ليس ذلك الإله الذي يغضب ويرضى ويحب ويكره كما تتحدث عنه الأديان، لأنه ليس «شخصية» تتجمع فيها هذه الصفات، وإنما هو الوجود كله، أو هو باطن الوجود والعالَمِ ظاهره.
لم يبق إذن إلا أن نقول إن هذه الصفات إن هي إلا أسماء تعبر عن نسب أو إضافات بين الحق والخلق من وجهة نظر خاصة هي وجهة نظر الدين.
فإذا أتى الإنسان معصية مثلًا اقتضى ذلك- من ناحية الدين- عقابه وغضب اللَّه عليه.
ولكن ابن العربي لا يقول بالعقاب، ولا بغضب اللَّه إلا من ناحية أنه مجرد اسم أطلق عليه. بإزاء العبد العاصي.
إن منطق مذهبه في الجبر لا يسمح إلا بهذا وإلا تناقض مع نفسه، فإن العالم الذي تصور كل ما يجري فيه خاضعاً لطبيعة وجوده لا يمكن أن يكون به متسع لغضب اللَّه ورضاه.
وقد صرح نفسه بذلك في الفص السابع عند ما قال: والسعيد من كان عنده مرضياً، وما ثَمَّ إلا من هو مرضي عند ربه (أي الاسم الذي يتجلى فيه).
قارن التعليق الرابع على هذا الفص.
أما تقابل الأسماء- ود أشار إليه فيما مضى بتقابل الحضرتين- فراجع إلى أن الوجود الواحد الذي هو الحق، يتجلى في صور أعيان الممكنات كل أنواع التجلي الممكنة ويظهر فيها بكل أنواع الأسماء المتقابلة.
ولهذا لا تحدِّد الجبرية التي يقول بها ابن العربي الوجود المقيد وحده (الخلق) بل الوجود المطلق أيضاً (الحق).
وهذا ظاهر في قوله: «فحقيقته (حقيقة سر القدر) تحكم في الوجود المطلق والوجود المقيد، لا يمكن أن يكون شي ء أتم منها ولا أقوى ولا أعظم لعموم حكمها المتعدي وغير المتعدي».
 
(7) «مطلب العُزَيْر».
(7) لما مرّ عُزير ببيت المقدس (أورشليم) بعد أن هدمه «نبوخادنصر» ورأى القرية خاوية على عروشها صاح قائلًا: «أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟» (قرآن س 2 آية 261).
فأماته اللَّه مائة عام ثم بعثه وطلب منه أن ينظر إلى طعامه الذي لم يفسد، وإلى حماره الذي مات وبلي فلم يبق منه إلا عظامه، فإذا به يرى الحمار وهو يبعث حياً وتكسى عظامه باللحم.
هذه هي القصة كما وردت في القرآن، ويفهم منها عادة أن عزيراً قد داخله الشك وتملكه العجب من بعث أورشليم الحربة وأهلها إلى الحياة مرة أخرى، فأراه اللَّه بعث الأجسام رأي العين فيما فعل بحماره.
ولكن ابن العربي لا يفهم أن هذا كان مطلب عزير، فعزير- في نظره- لم يشك في إحياء اللَّه الموتى ولم يستعظم ذلك على اللَّه، وإنما أراد أن يعرف سرّ القدر في الخلق: أي أراد أن يعرف كيف خلق اللَّه الخلق وأخرجه إلى الوجود، لا كيف يحيي ميتاً أو أمواتاً بالذات، وأراد أن يعرف ذلك عن طريق الوحي وهو الطريق الذي يتلقى به الأنبياء علمهم من اللَّه.
وبعبارة أخرى أراد عزير أن يقف على أحوال الممكنات في أعيانها الثابتة في العلم الإلهي القديم- أو بلغة ابن العربي نفسه- أراد أن يعرف «مفاتح الغيب» التي لا يعلمها إلا اللَّه وحده بدليل قوله: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» (قرآن س 6 آية 59).
ولذلك لم يحبه إلى طلبه حيث لا إجابة على مثل ذلك، إذ لا وسيلة إلى العلم به عن طريق الوحي.
وكل ما أجيب به كان برهاناً عملياً في كيفية إحياء اللَّه الموتى، تنبيهاً لعزير بأن يقطع عن مطلبه الأصلي.
ولكنه ألحّ في السؤال حتى عاتبه اللَّه- كما ورد بذلك الخبر- بقوله له: «لئن لم تنته لأمحونّ اسمك من ديوان النبوة لأن طريق الأنبياء إلى العلم هو الوحي- أي ولأثبتنّ اسمك في ديوان طائفة أخرى هي أصحاب الكشف والذوق الذين خصَّهم اللَّه بالعلم بمثل ذلك.
فكأنه أراد بهذا العتاب تنبيه عزير إلى أن مثل هذا الطلب لا ينبغي أن يكون من نبي ولا أن يصدر منه على هذه الصورة، لأن ذلك ليس من علم الأنبياء، بل هو من علم اللَّه الذي قد يطلع عليه من شاء من خاصة أوليائه بطريق الكشف لا الوحي.
على أن العتب قد وقع على عزير من طريق آخر، وذلك أنه أراد أن يقف على سرّ الخلق أي حال تعلق القدرة الإلهية بالموجودات، ولا ذوق لغير اللَّه في ذلك إذ لا قدرة ولا فعل إلا للَّه خاصة.
فكأنه بهذا السؤال أراد أن يكون له ما للَّه: أي أراد أن تكون له قدرة تتعلق بالمقدور، فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق.
ومما يدلنا على أنه طلب هذا المطلب المستحيل إلحاحه في السؤال بعد أن أراه اللَّه كيفية إحياء الموتى، و لو أنه أراد معرفة هذه الكيفية لاكتفى بالدليل العملي الذي أظهره اللَّه له، و لكنه تمادى في السؤال فعاتبه اللَّه.
 
(8) «واعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العام».
(8) أعظم ما يمتاز به الولي المسلم في نظر ابن العربي هو تحققه بالوحدة الذاتية مع الحق، وفناؤه التام فيه، وإدراكه ذوقاً أن الكثرة الوجودية عين الوحدة.
هذه أيضاً هي صفات «الإنسان الكامل» عنده، ولذلك كانت الولاية صفة عامة أو قدراً مشتركاً بين أفراد الإنسان الكامل جميعهم، لا فرق في ذلك بين ولي أو نبي أو رسول.
كل هؤلاء يجمعهم عنصر واحد هو عنصر الولاية- بالمعنى الذي أسلفناه- وتفرقهم صفات أخرى يمتاز بها كل منهم عن الآخر، و هي صفات عارضة لا تتنافى مع جوهرهم الذي هو الولاية.
فالنبي ولي اختص إلى جانب ولايته بالقدرة على الإنباء ولإخبار بالمغيبات، والرسول ولي اختص إلى جانب ولايته بتبليغ رسالة إلهية إلى الناس.
والولي ولي وحسب، ولو أنه يستطيع هو الآخر أن يطلع على عالم الغيب في بعض أحواله، ولكن ليس له هذا المقام بين الناس.
والولاية- بهذا المعنى- لا تنقطع ما دام في الناس من يصل إلى مقامها، بينما تنقطع الرسالة والنبوة الخاصة، بل إنهما قد انقطعا فعلًا بموت النبي محمد صلى اللَّه عليه وسلم آخر الأنبياء والمرسلين الذي قال «لا نبي بعدي»: أي لا نبي بعده مشرِّعاً أو مشرَّعاً له ولا رسول: والنبي المشرِّع هو الرسول مثل موسى وعيسى ومحمد، والمشرَّع له هو الداخل في شريعة مشرِّع. مثل أنبياء بني إسرائيل.
يقول ابن العربي «وقد قصم هذا الحديث ظهور أولياء اللَّه» لأن الكاملين من الأولياء لا يريدون أن يتسموا باسم من الأسماء الإلهية تحقيقاً لعبوديتهم الخالصة، واسم «الولي» من الأسماء التي أطلقها الحق على نفسه في مثل قوله تعالى: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا» وقوله: «وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ».
فلم يبق للكاملين إذن اسم يختصون به دون الحق لانقطاع اسمي النبوة والرسالة، بل لم يبق لهم سوى اسم الولي الذي يشاركون فيه سيدهم وهذا عزيز عليهم، لأن مقامهم الحقيقي الجدير بهم هو مقام العبودية الخالصة وما يلزمها من صفات.
 
(9) «فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع فمن حيث هو ولي وعارف».
(9) المراد بالنبي هنا أي نبي كان، وقد سبق أن ذكرنا أن كل رسول وكل نبي هو إلى جانب رسالته أو نبوته ولي.
فإذا رأيت نبياً من الأنبياء يتكلم بكلام لا وجود له ولا أصل له في الشرع الخاص الذي يتبعه، فإنما يأتيه علمه بما يتكلم فيه من جهة ولايته لا من جهة نبوته.
وبعبارة أخرى يريد ابن العربي أن يقول إن هذا العلم هو من علم الوراثة، ككلام الصوفية في التخلق بأخلاق اللَّه وكلامهم في قرب النوافل والفرائض وفي مقام التوكل والرضا والتسليم والفناء والتوحيد والجمع والفرق وما شاكل ذلك مما يمكن إدخاله تحت «الرهبانية» التي قال اللَّه فيها إن أتباع عيسى بن مريم ابتدعوها ولم يكتبها اللَّه عليهم.
ولكن الرهبانية ليست قاصرة على المسيحيين، فإن الإسلام فيما يوازيها وهي تعاليم الزهاد والصوفية، وكلها مستمد- في نظر الصوفية- من العلم الباطن الذي ورثوه عن صاحب هذا العلم وهو محمد عليه السلام: فإن محمداً كان له في زعمهم علمان: علم بظاهر الشرع وهذا هو الذي أوحى اللَّه به إليه، وعلم بباطن الشرع ورَّثه أولياء المسلمين من بعده.
على هذه النظرية التي شرح فيها ابن العربي ماهية الرسالة والنبوة والولاية بنى دفاعه عن الرهبانية والتصوف، ونظر إلى تعاليم الصوفية على أنها جزء من تعاليم الإسلام بمعنى أعمّ من المعنى الذي يفهمه الناس عادة- لا الإسلام الذي يحتوي قواعد الشرع المنزل وحده، بل الإسلام الذي يحتوي هذه، كما يحتوي علم باطن الشريعة الذي أشرق في قلب النبي من عالم الغيب بلا وساطة، وانكشف له من حيث هو ولي لا من حيث هو نبي، والذي ما زال ينكشف في كل ولي مسلم من بعده.


و يظهر لي أنه لا تناقض مطلقاً بين هذه النظرية و ما ذكره القرآن عن الرهبانية التي ابتدعها المسيحيون، بل أرى- على العكس من ذلك- أن نظرية ابن العربي تفسر لنا الآية القرآنية المشكلة التي وردت فيها الإشارة إلى الرهبانية تفسيراً معقولًا (راجع القرآن س 57 آية 27).
فالقرآن يقول إن الرهبانية نظام ابتدع ابتداعاً ولم يكتبه اللَّه على أصحابه:
ومعنى هذا أنه لم يكن في وقت من الأوقات جزءاً من شرع منزل.
ألا يمكن أن يكون هذا الابتداع من عمل قلوب الأولياء، وراجعاً إلى طبيعة بواطنهم كما يقول ابن العربي؟
بل إنه ليذهب إلى أبعد من ذلك كما يدل عليه الفص فيما بعد، فيضع العلم الباطن في درجة أعلى من علم الشرع الذي هو علم الظاهر كما فعل أوائل الصوفية، ويعتبر أي رسول من حيث هو ولي أتم وأكمل منه من حيث هو رسول أو نبي: أي أن الولي فوق الرسول والنبي في شخص واحد، لا أن مطلق ولي أفضل من مطلق نبي أو رسول كما فهم بعض الكتاب خطأ.
 
(10) «والولي اسم باق للَّه تعالى، فهو لعبيده تخلقاً وتحققاً وتعلقاً».
(10) «الولي» اسم من أسماء اللَّه كما قلنا، ولكنه يطلق على العبد أيضاً إذا اكتملت فيه صفات الولاية ووصل إلى مقامها.
وأخص صفات الولاية الاسلامية في نظر ابن العربي هي الفناء في اللَّه والتحقق بالوحدة الذاتية بين الحق والخلق.
فإذا وصل الصوفي إلى هذا المقام فقد وصل إلى غاية الطريق الصوفي كما يرسمه متصوفه وحدة الوجود، وحق له أن يسمي نفسه لا باسم الولي وحده، بل بأي اسم من الأسماء الإلهية.
وللفناء عندهم درجات لكل منها اسم خاص: فإذا فني الصوفي عن صفاته البشرية وتخلق بصفات الألوهية سموا ذلك تخلقاً، وإن فني عن ذاته وتحقق بوحدته مع الحق، سموا ذلك تحققاً، وإن بقي بعد الفناء، وعرف أن لا وجود له ولا قوام إلا باللَّه وحصل في مقام القرب الدائم منه، سموا ذلك تعلقاً.
ولكن ابن العربي قد استعمل هذه الألفاظ الثلاثة استعمالًا آخر في رسالة في «شرح أسماء اللَّه الحسنى» فأضاف هذه الصفات إلى الأسماء ذاتها لا إلى المتصفين بها، أو اعتبرها دلالات مع نسب ثلاث بين الحق والخلق، أو بين الواحد والكثرة. فالتخلق هو نسبة كل اسم من الأسماء الإلهية إلى الخلق: أي ظهوره وتجليه في الكثرة الوجودية.
والتحقق هو دلالته على الحق (اللَّه) من حيث ذاته.
أي أن التخلق يشير إلى جهة الكثرة في حين أن التحقق يشير إلى جهة الوحدة. أما التعلق فهو دلالة الأسماء الإلهية على النسبة بين الحق والخلق.
الوسيلة التي بها يصير ما بالقوة موجوداً بالفعل.
 
(11) «إذ النبوة والرسالة خصوص رتبة في الولاية».
(11) لما كان كل نبي و كل رسول ولياً، كانت النبوة و الرسالة مرتبتين خاصتين تلحقان بالولاية و تزولان عنها بزوال أسبابهما، كما تزول عن المَلِك صفة الملكية فيرجع إلى ما كان عليه.
والنبوة والرسالة من شئون هذا العالم لاتصال أصحابهما به. أما الولاية فلا صلة لها بشأن من شئون العالم، ولذلك لم يكن لها زمان دون زمان.
وسواء فهمنا خطاب اللَّه لعُزَيْر في قوله: «لئن لم تنته لأمحونّ اسمك من ديوان النبوة» بمعنى الوعد أو بمعنى الوعيد، فإن النبوة وهي إحدى مراتب الولاية- مقضي عليها بالانقطاع لأنها من الصفات التي تزول عمن يتصفون بها. أما الولاية فلا زوال لها.
فإذا أخرج هذا الخطاب الإلهي مخرج الوعد، دلّ على أن اللَّه تعالى أبقى على عُزير مرتبة الولاية التي هي مرتبة جميع الأنبياء و الرسل في الدار الآخرة التي لا تشريع فيها.
 
(12) «لما شرع يوم القيامة لأصحاب الفترات والأطفال الصغار و المجانين».
(12) لما ذكر أن لا شرع ولا تكليف في الدار الآخرة، قيده بأن ذلك لا يكون بعد دخول الخلق الجنة أو النار.
أما قبل الدخول في الدارين فسيكون في الآخرة تشريع وتكليف لأصحاب الفترات وصغار الأطفال والمجانين، وتكليف لبعض الخلق بالسجود بين يدي اللَّه كما يَدل عليه قوله تعالى: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ».
أما الأطفال فسيحشرهم اللَّه في دور الرشد، وأما المجانين فسيرد إليهم صوابهم ثم يجمع الجميع في صعيد واحد ويُرسَل إليهم رسول من أفضلهم يأتي لهم بنار عظيمة ويطلب إلى من آمن به منهم أن يلقي بنفسه فيها، فيطيعه بعضهم ويقتحم هذه النار ويعصاه البعض الآخر.
فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه في النار وجدها برداً وسلاماً كنار إبراهيم واستحق بطاعته الجنة: ومن عصاه استحق العقوبة بنار جهنم.
هذا لسان أهل الظاهر يردده ابن العربي في كتابه من غير أن يحاول وضع تأويل باطني عليه، ولكن لا بدّ لنا من تأويل عباراته وإلا وقع في تناقض صريح لأنه قرر في مواضع أخرى من هذا الكتاب ما يفهمه من معنى الدار الآخرة ومعنى الجنة والنار والثواب والعقاب وما إلى ذلك.
إذا كانت الدار الآخرة في مذهبه ليست إلا الحال التي يكون عليها الموجود بعد اختفاء صورته وظهوره بصورة أخرى، وإذا كانت الجنة والنار ليستا سوى مقامين من مقامات المعرفة بحقيقة الوجود، فما ذا يا ترى يقصد بالأطفال والمجانين وبحشرهم على النحو الذي وصفه، أمام نبي يدعوهم إلى اقتحام نار أعدها لاختيار إيمانهم به أو تكذيبهم به؟
 
إنني لا أرى مخرجاً من التناقض الذي يوقعه فيه أخذ هذه العبارات على ظاهرها إلا أن نفترض أن الأطفال والمجانين رمز للقاصرين عند تحصيل المعرفة الكاملة بالحق، وأن النبي الذي يرسل لهم يوم القيامة رمز للشخص الذي يرشد هؤلاء لضالين إلى معرفة الطريق المؤدية إلى اللَّه- أو هو رمز للصوفي العارف الذي يرشد مريديه، وأن النار التي يدعوهم إلى اقتحامها رمز للطريق الصوفي الشاق الذي يطالبهم بالدخول فيه، فإذا سلكوه فازوا بالمعرفة التي هي جنتهم، وإذا أبوا الدخول فيه شقوا بالجهل الذي هو نارهم

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 15 - عشر حكمة نبوية في كلمة عيسوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 11:06 am

15 - عشر حكمة نبوية في كلمة عيسوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
15 - عشر حكمة نبوية في كلمة عيسوية
الجزء الأول
(1) «الحكمة النبوية في الكلمة العيسوية».
(1) يظهر أن السبب في نسبة الحكمة النبوية إلى عيسى واختصاصه بالنبوة أكثر من الرسالة، هو ما ورد في القرآن من الآيات التي تنص على نبوته منذ ولادته حتى أنطقه اللَّه بما يثبت ذلك وهو لم يزل بعد في المهد صبياً.

قال عيسى يخاطب قومه ويدافع عن أمه التي حام شك الناس حولها: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» (قرآن س 19 آية 32).
هذا من ناحية: ومن ناحية أخرى يعتقد المسلمون أن عيسى سينزل من السماء آخر الزمان ويحكم في الناس بشريعة محمد صلى اللَّه عليه وسلم ويعيد الإسلام إلى سيرته الأولى: أي أنه سيكون نبياً تابعاً لا نبياً رسولًا ولا مشرّعاً وهذه هي النبوة العامة أو النبوة المطلقة التي تختلف عن النبوة الخاصة التي هي نبوة التشريع.
ولهذا يعتبره ابن العربي خاتم الأنبياء: 
أي خاتم من تكون لهم هذه النبوة العامة. أما خاتم الأنبياء المشرعين فمحمد عليه السلام.
على أن عيسى- إذا نظر إليه من ناحية حياته في هذه الدنيا- قد كان نبياً رسولًا، لأن كل رسول له إلى جانب رسالته صفتا النبوة والولاية كما ذكرنا.
وجانب النبوة فيه يختلف عن جانب الرسالة وينحصر في قدرته على الإخبار بما هو في عالم الغيب، تلك القدرة التي تظهر في كل نبي عند سن الأربعين.
ولا يتردد ابن عوبي في أن يسمي تلك النبوة العامة التي هي قدر مشترك بين الأنبياء
والرسل جميعاً بالاسم الذي أطلقه عليها الغزالي وهو النبوة المكتسبة، بل يذهب إلى أبعد من ذلك فيرى أن في إمكان الأولياء اكتساب هذه القوة بعد وصولهم إلى درجة خاصة في معراجهم الروحي (راجع الفتوحات ج 2 ص 3، 4).
 

(2) «عن ماء مريم أو عن نفخ جبرين»
(تكون الروح في ذات مطهرة ... من الطبيعة تدعوها بسجين)
(لأجل ذلك قد طالت إقامته  … فيها فزاد على ألف بتعيين)
(روح من الله لا من غيره فلذا ... أحيا الموات وأنشا الطير من طين)
(2) يفهم البيتان الأولان من هذه الأبيات بمعنى الاستفهام، ولكن الأفضل أن يفهما بمعنى الإخبار
و أن تفهم «أو» الواردة في الشطر الأول من البيت الأول بمعنى «و» لأنه يريد أن يقرر أن طبيعة المسيح ركّبت على هذا النحو أي ركبت من مادة محققة هي ماء مريم و من روح هي روح جبريل المعبر عنها بالنفخ.
ويؤيد هذا التفسير ما يلي من نصوص الكتاب فيما بعد. فابن العربي لا يتساءل عما إذا كانت كلمة اللَّه قد تكوّن منها المسيح في صورة مادية بحتة- هي ماء مريم، أو في صورة روحية بحتة هي النفخ المذكور، وإنما يريد أن يضع أمامنا نظريته الخاصة في طبيعة المسيح، وهي نظرية لا تخلو حقاً من طرافة وغرابة معاً.

تكوّن المسيح في رأيه من عنصرين أحدهما مادي وهو ماء أمه والآخر روحي وهو كلمة (روح) اللَّه التي ألقاها جبريل إلى مريم بواسطة النفخ بعد أن تمثل لها في صورة البشر السويِّ.
أما كلمة «الذات» الواردة في الشطر الأول من البيت الثاني فيمكن أن تؤخذ على أنها ذات المسيح أي مادة جسمه، أو ذات أمه التي تكوَّن فيها.
ومعنى تطهيرها من الطبيعة تخليصها من شوائب الطبيعة التي تعرضها للفساد.

فكأنه يريد أن يقول إن جسم المسيح ولو أنه طبيعي، إلا أنه غير عنصري لأن الأجسام الطبيعية نوعان: عنصرية كالأجسام الأرضية، وغير عنصرية كالأجرام السماوية وكجسم عيسى لهذا السبب قد طالت إقامة عيسى في العالم ولم يعتبر جسمه الفساد الذي يصيب الأجسام الأرضية الأخرى، وستطول إقامته في السماء حتى ينزل إلى الأرض آخر الزمان ويحكم بشرع محمد كما ذكرنا.
وقد وردت كلمة «سجّين» في القرآن (في س 83 آية 7، ) بمعنى الكتاب المرقوم الذي أحصى فيه اللَّه أعمال الفجار.

ولكنها مشتقة من سجن على رأي أبي عبيدة، واستعملت بمعنى «جهنم» أو واد خاص بالفجار فيها، أو كتاب الفجار الذي سيطلعهم اللَّه عليه في جهنم وغير ذلك.
ولكن مما لا شك فيه أن ابن العربي يستعملها بمعنى السجن جرياً على عادة الصوفية والفلاسفة الاسلاميين الذين أخذوا بنظرية أفلاطون في طبيعة الجسم والنفس، فنظروا إلى الطبيعة (البدن) على أنه سجن النفس وجحيم المؤمنين في هذه الدنيا.

(3) «روح من اللَّه لا من غيره فلذا أحيا الموات و أنشا الطير من طين»
(3) يذهب الفلاسفة المسلمون الذين تأثروا بنظرية أفلوطين في الفيوضات إلى أن أول ما فاض عن «الواحد» هو «العقل الأول» ثم توالت الفيوضات بعد ذلك في نظام تنازلي حتى انتهى الأمر بالعقل الفعال آخر العقول و مبدأ الحياة الناطقة في كل ما يحتوي عليه فلك ما تحت القمر.
فالعقول البشرية في نظرهم ليست سوى تعينات أو صور للعقل الفعال:
تهبط على الأجسام وتبقى بها زمناً محدوداً، فإذا فارقتها رجعت إلى أصلها واتصلت به.
أما فلاسفة الصوفية فلم يصوروا المسألة هذا التصوير بالرغم من استعمالهم ألفاظ الفيض والصدور وما إليها.
فمذهب ابن العربي على الأقل- وهو في مقدمة المذاهب الصوفية الفلسفية في الإسلام- يحمل طابع وحدة الوجود التي لا أرى أنها تتفق تماماً مع نظرية الفيوضات الأفلوطينية.
نعم يستعمل كلمة الفيض وما يتصل بها من اصطلاحات، وقد يذكر فيوضات أفلوطين بأسمائها وعلى النحو الذي ذكره هذا الفيلسوف، ولكن للفيض عنده معنى يختلف تماماً عن معنى أصحاب الأفلاطونية الحديثة كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
فالوجود فائض عن «الواحد» - على مذهبه- بمعنى أن «الواحد» متجلّ في صور أعيان الممكنات التي لا تتناهى: كان ذلك منذ الأزل وسيبقى كذلك على الدوام.
لم يجد ابن العربي وأصحابه إذن حرجاً كما وجد الفلاسفة المشاءون من المسلمين- في القول بأن الكثرة قد صدرت عن الواحد بالمعنى الذي ذكرناه: أي أن الواحد قد ظهر بصور الأعيان المتكثرة في الوجود الخارجي.

ولم يأخذ بالقاعدة التي أخذ بها المشاءون وجعلوها أساساً لمذهبهم، وهي أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، بل قال إن الواحد قد صدر عنه العقل الأول كما صدر عنه الأرواح المهيمة و أرواح الكاملين من الخلق كالأنبياء و الأولياء، بل و روح كل موجود (و ليس في الوجود إلا ما له روح).
بعبارة أخرى صدر عن الواحد الحق كل شيء، لأنه حقيقة كل شيء والمتجلي في كل شيء.

فالمسيح الذي هو روح من اللَّه صدر عن اللَّه بهذا المعنى:
أي أن اللَّه قد تجلى في صورته كما تجلى في صور ما لا يحصى من الممكنات الأخرى، وليس كما يقول القيصري إنه صدر عن اللَّه لأنه في الصف الأول من الأرواح التي صدرت مباشرة عن اللَّه، بينما صدر غيره من الأرواح عن اللَّه بوساطة العقل الأول أو العقول الكونية الأخرى.
وفي هذا التأويل بمعنى من الأفلاطونية الحديثة لا تحتمله فلسفة ابن العربي العامة ولا يتفق مع ما سيرد من النصوص في هذا الفص.
ومن كون المسيح روحاً من اللَّه، أو من كونه مجلى من المجالي الإلهية التي لا تحصى، كانت له القدرة على الخلق و إحياء الموتى و غير ذلك مما لا ينسب عادة إلا إلى اللَّه.
والحقيقة أن في نسبة هذه الأفعال إلى المسيح شيئاً من التجوز، لأن الخالق على الإطلاق والمحيي على الإطلاق هو اللَّه، ولم يكن في هذه الحالة سوى اللَّه في الصورة العيسوية الخاصة.

(4) «جبريل عليه السلام و هو الروح».
(4) ليس من الغريب أن يكون لجبريل في مذهب ابن العربي شأن آخر غير شأن جبريل الملك الموكل بالوحي، فقد أشرنا فيما مضى إلى أنه يرى أن الوحي تلقائي ينكشف للموحَى إليه من ذاته، حيث لا يحتاج لوساطة ملك أو غيره (الفص السابع: التعليق العاشر).
جبريل عنده هو مبدأ الحياة في الكون:
هو الروح الكلي المنبث في الوجود بأسره على ما في الموجودات من تفاوت في درجات الحياة ومقدرتهم على الظهور بمظاهرها.
وليس في الوجود في مذهبه إلا ما هو حي وما هو ناطق، وإن كنا قاصرين عن إدراك هاتين الناحيتين في كثير من الموجودات.
فيجب إذن ألا نسارع إلى إنكار وجودهما في بعض الكائنات لأننا عجزنا عن إدراكهما فيها عن طريق العقل أو الحس.
فجبريل ليس إلا الحق ذاته متجلياً في صورة ذلك الروح الكلي، وما ظهر منه في أي موجود من الموجودات هو «لاهوت» هذا الموجود أو جهة الحق فيه : كما أن الصورة التي يظهر فيها هي ناسوته  أو جهة الخلق فيه.

"" يستعمل ابن العربي كلمة اللاهوت للدلالة على «ذلك القدر من الحياة السارية في الأشياء» والناسوت «للمحل القائم به الروح».
وقد استعمل الاصطلاحين من قبله الحلاج كما استعمل كلمتي الطول والعرض.
قارن الفتوحات ج 1 ص 219 حيث يشرح ابن العربي نظرية الحلاج.
على أن كلمة الروح قد تطلق مجازاً على الناسوت من ناحية أنه محلها الذي تقوم به. ""
 وإن شئت فقل إن الروح والمادة هما وجها الحقيقة الوجودية اللذان أطلقنا عليهما اسم الحق والخلق، أو الباطن والظاهر فيما سبق.

وهذه نظرة إلى الحق لا من ناحية إطلاقه وتنزهه عن الخلق، بل من ناحية تعينه ووجوده فيه. فهو تلك القوة التي لا تطأ شيئاً في الوجود إلا دبت فيه الحياة، وهو الذي قبض السامري قبضة من أثره وصنع منها عجل بني إسرائيل، وهو الذي نفخ في مريم فولدت عيسى عليه السلام.

وليس من الخطأ أن نقول إن هذا الروح المعبر عنه بجبريل يشبه من بعض الوجوه النفس الكلية التي قال بها أفلوطين، ولكن من الخطأ أن نغفل الفرق الذي أشرنا إليه مراراً بين منزلة جبريل في مذهب ابن العربي ومنزلة النفس الكلية في مذهب أفلوطين في الفيوضات.
وبالرغم من تصوير المسألة هذا التصوير الفلسفي يأبى ابن العربي وأتباعه إلا أن يخلعوا على جبريل بعض الصفات غير الفلسفية ويعينوا له مكاناً خاصاً من الوجود.

فهم يقولون إنه هو المدبّر للأفلاك السبعة وكل ما يوجد فيها، و إن مقامه سدرة المنتهى (قرآن 53 آية 14) التي هي صورة الفلك السابع.
وهذا مخالف لما ذهب إليه الفلاسفة الإسلاميون من أن لكل فلك نفساً أو عقلًا يدبره و أن آخر العقول- و هو العقل الفعال- هو الذي يدبر فلك ما تحت القمر أو فلك الكون و الفساد.

"" يقول القاشاني: وأما روح فلك القمر الذي سماه الفلاسفة العقل الفعال فالعرفاء (الصوفية) يسمونه اسماعيل وهو ليس بإسماعيل النبي عليه السلام بل هو ملك مسلط على عالم الكون والفساد من إعوان جبريل وأتباعه وليس له حكم فيما فوق فلك القمر كما لا حكم لجبريل فيما فوق السدرة» شرح الفصوص ص 259 - 260.""


(5) «فحصل لها حضور تام مع اللَّه وهو الروح المعنوي».
(5) لما تمثل جبريل لمريم في صورة البشر السوي ولم يكن في الحقيقة إلا صورة من خلق خيالها كما يقول ابن العربي خافت واستعاذت باللَّه منه وتوجهت بكل ما فيها من جمعية روحية إلى اللَّه، فحصل لها حضور تام معه، فَنِيَتْ فيه عن نفسها وكانت على أتم استعداد لقبول الكلمة الإلهية التي هي روح عيسى أو حقيقته.
وليس وصف عيسى بالكلمة اختصاصاً له، فإن كل موجود كلمة من كلمات اللَّه التي لا تنفد كما قال عزّ وجل «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً».
فعيسى إحدى هذه الكلمات: أما الكلمة بالألف واللام فاسم يقصره ابن العربي على الحقيقة المحمدية أو الروح المحمدي الذي يصفه بجميع الصفات التي يصف بها المسيحيون الكلمة (المسيح) في نظريتهم.

أما إلقاء الكلمة الإلهية إلى مريم فمعناه ظهور الكلمة الإلهية في مظهر خارجي بالصورة العيسوية كما ينقل الرسول كلام اللَّه لأمته بأن يصوغ المعاني العقلية التي لا صورة لها ولا جرس في صورة ألفاظ خارجية تسمع وتقرأ.

(6) «فَسَرَتْ الشهوة في مريم فخلق جسم عيسى من ماء محقق من مريم و من ماء متوهم من جبريل».
(6) لم يجد ابن العربي صعوبة في تعليل لاهوتية "هوية" المسيح، ولكن الصعوبة التي واجهته كانت في تعليل ناسوتيته، لأن المسيح في نظره كما هو في نظر المسلمين جميعاً إنسان بكل معاني الكلمة: له جسم كسائر الأجسام بالرغم من أنه لم يكن له أب بشري.
حاول ابن العربي أن يعلل هذه الظاهرة الغريبة فوضع لها تفسيراً أعتقد أنه لم يسبق إليه وقرّب ما أمكنه التقريب بين ولادة المسيح الشاذة والقانون الطبيعي العام، وبين تكوين جسد المسيح وتكوين غيره من الأجساد.

يقول إن عيسى لم يكن له أب من البشر فلم يتكوّن جسده من امتزاج ماء ذلك الأب بماء أمه على نحو ما تجري به العادة، ولكن لما ظهر جبريل لمريم في صورة بشرية وأخبرها بأنه رسول من عند اللَّه جاء ليهب لها غلاماً زكيّاً، سرت فيها الشهوة لما توهمت أن هذا الشاب الجميل يريد مواقعتها وجرى ماؤها.

وفي هذه اللحظة نفخ جبريل فيها روح اللَّه فامتزجت رطوبة النفخ التي هي الماء المتوهم بمائها الحقيقي وتكوّن جسد عيسى.
ولم يكن ذلك النفخ سوى الروح الإلهي الذي مسّ ماء مريم فسرت فيه الحياة.
ولا يرى القيصري (شرحه على الفصوص ص 252 - 3) أن تولد المولود من ماء المرأة وحدها أمر مستحيل لاحتمال وجود جراثيم اللقاح فيها.
وعدم جريان العادة بذلك لا ينهض دليلًا عنده على استحالته.

(7) «ويحتمل أن يكون العامل فيه «تنفخ» فيكون طائراً من حيث صورته الجسمية الحسية».
(7) يبحث عن العامل في المجرور «بِإِذْنِ اللَّهِ» في قوله تعالى في حق عيسى «وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي»: هل هو «يكون» فيكون المعنى «فيكون بإذن اللَّه طيراً»، أو «تنفخ» فيكون المعنى «فتنفخ فيه بإذن اللَّه فيكون طيراً؟» بعبارة أخرى هل كان خلق الطير من الطين من عمل عيسى بواسطة النفخ الذي أذن اللَّه له به، أم كان الخلق بإذن اللَّه و لم يكن لعيسى فيه سوى النفخ؟
إذا قلنا إن عيسى لم يكن سوى أداة في الخلق من حيث إنه سوَّى الطين في صور كهيئة الطير و نفخ فيها، و إن الخالق في الحقيقة هو اللَّه، كان قولنا هذا أشبه بقول الأشاعرة في خلق الأفعال أو أشبه بنظرية ديكارت و ملبرانش في تفسير الحركة، و هي النظرية المعروفة بنظرية المصادفة  Occasionalism : ولكن هذا تفسير لا يتمشى مع الروح العامة لمذهب يقول بوحدة الوجود.
وإذا قلنا إن خلق الطير من الطين كان من عمل عيسى نفسه، لزم أن يكون تحقق هذا الفعل راجعاً إلى أن اللَّه أمره بالنفخ في الطير المصور في الطين.

والتفسير الصحيح المتمشي مع مذهب المؤلف هو أن الخالق للطير من الطين هو اللَّه المتجلى في الصورة العيسوية، والذي صدر عنه كل ما صدر عن عيسى من الأعمال الخارقة للعادة كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغيرهما:
أي أنه ليس في الأمر ثنوية كما يذهب إليه الأشاعرة وأصحاب مذهب المصادفة: خالق يفعل كل شيء، ومحل يظهر فيه فعل الخلق، أو إنسان يظهر على يديه ذلك الفعل.
كما أن الخلق لم يكن لعيسى مستقلًا عن اللَّه.
و يذهب القيصري إلى أن خلق الطير من الطين كان من فعل عيسى نفسه و أنه كان من جملة المعجزات التي ظهر بها في قومه.
وإذا كان كذلك فلا يكفي أن يكون عيسى قد صنع أجسام الطير من الطين، وأنه نفخ فيها، في حين أن الذي خلق الطير الحقيقي منها هو اللَّه، لأن هياكل الطير الطينية ليست طيراً والمنصوص عليه هو أن عيسى خلق طيراً.
ولذلك يعيد الضمير في قوله «من حيث صورته الجسمية» إلى عيسى نفسه لا إلى الطير: أي أن الطين صار طيراً بواسطة نفخ عيسى الصادر عن صورته الجسمية المحسوسة- لا أن الطين صار طيراً من حيث صورته الجسمية المحسوسة.
ولكني أرى أن القيصري في نسبته الخلق إلى عيسى، مهما كان فيه من تأييد لمعجزته، قد خرج على روح مذهب ابن العربي في وحدة الوجود.
 

(8) «ولو أتى جبريل أيضاً بصورته النورية الخارجة عن العناصر والأركان إذ لا يخرج عن طبيعته إلخ»:
(8) إن السر في أن عيسى أحيا الموتى وخلق من الطين طيراً بالمعنى المتقدم وهو في صورة بشرية، يرجع إلى أن جبريل الروح تمثل لأمه مريم في صورة بشرية، ولو أنه أتى إليها في صورة أخرى لما كان عيسى ليستطيع أن يفعل ما فعل إلا إذا ظهر هو الآخر بهذه الصورة لأن جبريل كان له بمثابة الأب والولد سر أبيه.
أما أن جبريل لا يخرج عن طبيعته فمعناه أنه لا يتجاوز في عمله من حيث هو مبدأ الحياة في عالم الكائنات الحية الفلك السابع أو سدرة المنتهى التي هي حد الفلك السابع: وهو آخر الأفلاك في العالم الطبيعي.
فجبريل يستطيع الظهور بأية صورة شاء من صور الأفلاك السبعة بما في ذلك فلك الأرض، بل يستطيع أن يظهر في صورته النورية المحضة الخارجة عن العناصر والأركان، ولكنه لا يستطيع أن يتعدى حدود الطبيعة: إذ ليس وراء الطبيعة إلا الواحد الحق المنزه عن جميع الصفات.
و الطبيعة طبيعتان:
نورية و عنصرية.
أو طبيعة عنصرية و طبيعة غير عنصرية.
 و هي تفرقة أخذها مفكرو الإسلام عن أرسطو الذي ميز بين الطبيعة الأثيرية التي هي مادة الأفلاك.
والطبيعة العنصرية التي هي عادة عالم الكون والفساد.
فإذا قلنا إن جبريل يستطيع أن يظهر بأية صورة في عالم الطبيعة بناحيتيه، كان معنى هذا أنه مبدأ الحياة الساري في كل صورة من صور هذا العالم.

(9) «ولذلك نُسِبُوا إلى الكفر وهو الستر لأنهم ستروا اللَّه الذي أحيا الموتى بصورة بشرية عيسى».
(9) لما أحيا عيسى الموتى و خلق الطير من الطين و أتى بغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، ذهب الناس في أمره مذاهب شتى.
فمنهم من قال بحلول اللَّه فيه فنسب كل هذه الخوارق إلى اللَّه «المستور» خلف الصورة العيسوية: وهذا هو الكفر في نظر ابن العربي إذ الكفر معناه «الستر»
والإشارة هنا إلى قوله تعالى «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ».
ولكن بأي معنى، ومن أي وجه كفر الذين قالوا إن اللَّه هو المسيح عيسى ابن مريم؟
يقول إنهم لم يكفروا بقولهم إن اللَّه هو المسيح، ولا بقولهم إن المسيح هو عيسى ابن مريم، ولكنهم كفروا بالقولين معاً: أي بقولهم إن اللَّه هو المسيح عيسى ابن مريم وحده دون غيره.
فكفرهم راجع إلى قولهم بالحلول!.
أي سترهم الحق وراء الصورة العيسوية وقولهم إنه حال في هذه الصورة دون غيرها:
مع أن الحق لم يحلّ في صورة المسيح ولا في غيرها، وإنما تجلى في كل صورة من صور الوجود بما فيها صورة المسيح.
وقد كان السبب في كفرهم جهلهم بطبيعة الوجود وتقييدهم الحق بصورة معينة مع أنه منزه عن التقييد، إذ لا صورة من صور الوجود أحق به من غيرها.

(10) «وكان النفخ من الصورة، فقد كانت و لا نفخ، فما هو النفخ من حدِّها الذاتي».
(10) ظهر جبريل لمريم في صورة بشرية ثم نفخ فيها كلمة اللَّه: أي أنه كان في هذه الصورة ولا نفخ. فالنفخ إذن ليست جزءاً من حد الْبَشَر ولو أنه يصدر عنه.
أي أن ظهور جبريل في صورة بشرية شيء ونفخه في مريم بهذه الصورة شيء آخر.
كذلك الحال في ظهور الحق في صورة عيسى، فإنه لا يلزم منه أن تكون الألوهية التي هي صفة ذاتية للحق صفة لهذه الصورة الخاصة.
أي أن تجلي الحق في أية صورة من صور الوجود شيء وكونه عين هذه الصورة شيء آخر: أو أن الألوهية ليست جزءاً من حد الصورة التي يتجلى فيها اللَّه، كما أن النفخ ليس جزءاً من حد الصورة البشرية التي ظهر فيها جبريل.
كان النفخ إذن من جبريل الروح لا من الصورة التي ظهر فيها.
ولهذا ينسب النفخ إليه لا إليها، كما أن الألوهية تنسب إلى اللَّه لا إلى الصورة التي يتجلى فيها.

(11) «كما قال تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ*. نفخ فيه هو تعالى من روحه فنسب الروح في كونه وعينه إليه تعالى».
(11) الإشارة هنا إلى قوله عز و جل «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» (قرآن س 38 آية 72) فنسب الروح في كون الإنسان و في عينه إلى نفسه تعالى.
أي نسبها إلى نفسه عند ما وصف كيفية خلق الإنسان وعند ما أشار إلى عينه. أما الأولى فتعبر عنها الآية في قوله «سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ» وأما الثانية فتعبر عنها في قوله «مِنْ رُوحِي» لأن عين الإنسان الحقيقية هي روحه التي هي روح اللَّه.
أما في حالة عيسى فالأمر بخلاف ذلك، لأن اللَّه تعالى عند ما خلق الإنسان سوى صورته أولًا ثم نفخ فيه من روحه فظهر في الوجود بهذه الصورة الخاصة.
ولكن عيسى جاءت تسوية صورته الجسمية بعد أن تلقت أمه كلمة اللَّه: أي بعد أن نفخ فيها روح اللَّه.
وقد اقتضى ذلك أن الروح الإلهي قد سرى في جميع جسد عيسى قبل أن يسوى ذلك الجسد في الصورة الخاصة.
ومعنى هذا أن تسوية جسمه وصورته البشرية قد تمّا معاً بالنفخ الروحي.
وفي هذا تعليل لما قلناه من قبل (التعليق الثاني) من أن جسد المسيح ليس جسداً عنصرياً يخضع للكون والفساد كسائر أجساد البشر ولكنه طبيعي نوري: أو طبيعي غير عنصري.


(12) «فالموجودات كلها كلمات اللَّه التي لا تنفد فإنها عن «كنْ».
(12) سبق أن أشرنا (التعليق الخامس) إلى أن ابن العربي يعتبر كل شيء في الوجود كلمة من كلمات اللَّه من حيث إن الموجودات جميعها مظاهر للكلمة الإلهية أو العقل الإلهي الذي غالباً ما يسميه بالروح المحمدي أو الحقيقة المحمدية، كما يطلق عليه أحيانا اسم جبريل على نحو ما رأينا فيما سبق.
وقد سميت الموجودات «كلمات» من حيث إنها مخلوقة بكلمة التكوين «كن» هذا كلام أهل الظاهر.
أما حقيقة المسألة وباطنها فالكلمة «كن» رمز للعقل الإلهي الذي هو واسطة في الخلق بين الواحد الحق والكثرة الوجودية التي هي أعيان العالم.
فهو البرزخ الذي تمر به الموجودات من وجود بالقوة- وجود معقول- إلى وجود بالفعل و هذه صفة من الصفات التي يصف بها ابن العربي ما يسميه بالكلمة  Logos وبالحقيقة المحمدية و الإنسان الكامل وغير ذلك من الأسماء.
فنحن لا نتردد إذن في القول بأن كلمة التكوين هي الحقيقة المحمدية أو الروح المحمدي- ولكن لا الكلمة القولية «كن» بل الكلمة الوجودية على حَدِّ تعبير شراح الفصوص.
وعلى هذا تكون الكثرة الوجودية كلمات للَّه من حيث هي تعينات جزئية أو مظاهر للكلمة بالمعنى المتقدم.
وإذا صح لنا أن نقول إن الكلمات التي يتلفظ بها الإنسان إنما هي صور للنَّفَس الخارج من صدره، أمكننا أن نقول بالقياس إلى ذلك إن الكلمات الوجودية صور خارجية للنفس الرحماني أو للذات الإلهية.
ولا يبعد أن يكون مصدر هذه التعبيرات متصلًا بالآية القرآنية: «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي» (س 18 آية 109) ولكنني أعتقد أن الاصطلاح قد تسرب إلى مفكري الإسلام من فلاسفة الأفلاطونية الحديثة بالاسكندرية ومن كتابات فلاسفة اليهود الذين عاشوا فيها لا سيما فيلون.
يتساءل ابن العربي بعد ذلك فيقول «فهل تنسب الكلمة إليه (إلى اللَّه) بحسب ما هو عليه فلا تعلم ماهيتها، أو ينزل هو تعالى إلى صورة من يقول «كُنْ» فيكون قول كن حقيقة لتلك الصورة التي نزل إليها وظهر فيها»؟
أما إذا أخذنا كلمة التكوين بهذا المعنى الميتافيزيقي على أن المراد بها العقل الإلهي أو الحقيقة المحمدية التي هي واسطة في الخلق، ونسبناها إلى الواحد الحق، كانت غير معلومة الماهية كما أن الحق نفسه غير معلوم الماهية.

وأما إذا فهمناها على حرفيتها فلا يمكن نسبتها إلى الحق مطلقاً لأن الحق يتعالى عن التلفظ والنطق بالكلمات.
وإذن يجب نسبتها إلى من ينزل الحق إلى صورته وتكون له القدرة على الخلق كما كان الحال في عيسى عليه السلام وابي يزيد البسطامي الصوفي، فإن الحق قد نزل إلى صورة هذين- كما نزل إلى صور غيرهما من الموجودات التي لا تحصى- وكانت لهما القدرة على الخلق وقالا لمخلوقاتهما كوني فكانت.
في هذه الحالة تكون نسبة الكلمة التكوينية إلى الصورة التي نزل إليها الحق نسبة حقيقية.


غير أننا إذا أضفنا الخلق إلى عيسى أو أبي يزيد أو أي كائن آخر يجب ألا ننسى أن الخالق في الحقيقة ليس هو صورة عيسى أو أبي يزيد أو غيرهما، وإنما هو النازل إلى تلك الصور- أي هو الروح الإلهي الساري في هذه الصور.
ففي نسبة الخلق إلى المخلوقات ضرب من التجوز، كما أن في نسبة كلمة التكوين- من حيث هي كلمة- إلى الحق ضرباً من المجاز، وهي لا تنسب على الحقيقة إلا إلى واحد من المخلوقات لأنها من عالم الخلق.
 

(13) «وإنا عينه فاعلم إذا ما قلت إنسانا»
(13) كثرت في هذا البيت وفي البيت الذي يليه الألفاظ المزدوجة المعنى فانبهم المراد وكثرت في تأويله الآراء.
فكلمتا «عين» و «إنسان» إما أن يفهما بمعنى العين الجارحة وإنسان العين أو العين الباطنة وإنسانها الذي هو موضع السر منها، وإما أن يفهما بمعنى الذات الإلهية و العالم: العين الذات، والإنسان الإنسان الكبير العالم.
واللبس واقع حتى في كلمة «إنّا» فقد يكون المراد بها الجنس البشري، الإنسان الذي هو أكمل المخلوقات، وقد يكون المراد بها المخلوقات كلها أو ما يطلق عليه سوى اللَّه.
ولكل من هذه التفسيرات أساس من كلام ابن العربي نفسه.

فالبيت إذن يحتمل أحد التأويلين الآتيين:
1 - إنك إذا تكلمت عن الإنسان الذي هو الإنسان الكبير أو العالم فاعلم أنه عين الذات الإلهية لا غيرها، و هو عينها من حيث هو ظاهرها و هي باطنه.
أو إن شئت فقل إن العالم عين الأسماء الإلهية التي هي عين الذات.
2 - إنك إن تكلمت عن الإنسان الذي هو الجنس البشري فاعلم أنه من حيث كمال صورته التي تتجلى فيها جميع كمالات الحق، عين الحق التي يرى بها نفسه في مرآة الوجود.
وقد أشار إلى هذا المعنى ذاته في الفص الأول في قوله: «لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها:
وإن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله إلخ إلخ». فبالانسان تحققت الغاية من الوجود وهي أن يُعْرَف الحق، وهو يعرف عن طريق الإنسان الذي يعرف الحق في نفسه وفي غيره: فهو عينه لأنه أكمل مجلى من مجاليه، و هو له بمثابة العين الباصرة الذي يدرك بها صاحبها ما حوله من الوجود.
وإلى هذا المعنى أيضاً أشار الحسين بن منصور الحلاج في بيتيه المشهورين.
سبحان من أظهرنا سوتُه سرَّ سنا لاهوته الثاقب
حتى بدا لخلقه ظاهراً في صورة الآكل والشارب.

غير أننا يجب ألا نغفل عن الفرق الكبير بين الحلاج وابن العربي:
فالأول حلولي يرى أن اللَّه قد يحل في الإنسان فتظهر بذلك كمالاته وأسرار ألوهيته.
أما الثاني فاتحادي يرى أن الإنسان هو المظهر الكامل الدائم للَّه، وأنه لا فرق بين ناسوت ولاهوت إلا بالاعتبار.
ولذلك قال: فكن حقاً وكن خلقاً تكن باللَّه رحمانا
أي اعتبر نفسك هذا أو ذاك، فأنت حق من وجه وخلق من وجه، وأنت حق وخلق معاً.
وإذا نظرت إلى نفسك هذه النظرة كنت مظهراً كاملا للاسم «الرحمن» الذي هو جماع الأسماء الإلهية كلها.
وقد عرفنا فيما سبق أن المراد بالاسم الرحمن الاسم الذي يعطي الموجودات حظها من الوجود الذي تتطلبه أعيانها.
فهو مرادف للوجود المطلق الذي هو الحق.
وعلى ذلك فالإنسان هو المظهر الكامل للوجود كما أنه المظهر الكامل للأسماء (قارن الفص الأول: التعليق الخامس).
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 15 - عشر حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثاني .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 11:07 am

15 - عشر حكمة نبوية في كلمة عيسوية الجزء الثاني .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص العيسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
15 - عشر حكمة نبوية في كلمة عيسوية
الجزء الثاني
(14) «وغذ خلقه منه تكن رَوْحاً وريحاناً»
(14) ذكر فيما مضى تشبيه الحق الساري في الخلق بالغذاء الذي يسري في الجسم و يقومه (الفص الخامس: التعليق الأول).
و المراد بالبيت: اعتبر الحق غذاء للخلق لأنه هو الذي يمد الخلق بوجودهم و حياتهم كما يمد الغذاء الجسم المتغذي بحياته. وقد عبر عن هذه الحياة بالريحان.
أما الروح بفتح الراء وسكون الواو فهو الراحة، والمراد به التفريج عن الكرب الذي كانت تضطرب به أعيان الموجودات التائقة إلى الوجود كيما تمنَحَ الوجود.
والخطاب هنا موجه إلى الإنسان الكامل "الخليفة" الذي هو سر الوجود وعلته.
فبوجوده عمت الرحمة جميع الموجودات كما قلنا، وشملتهم الراحة واستنشقوا رائحة الريحان.
على أن «التغذية» ليست من الحق للخلق فحسب، بل هي من الخلق للحق
أيضاً، فإن الخلق يغذي الحق بإظهار كمالات أسمائه وصفاته التي لم تكن لتوجد لو لا وجود الخلق.
ولذلك قال: «فأعطيناه ما يبدو به فينا وأعطانا» أي فأعطيناه الظهور وأعطانا الوجود.
«فصار الأمر مقسوما بإياه. وإيانا» أي فصار أمر الوجود منقسماً بين الحق والخلق: إذ هو حق في خلق وخلق في حق، أو فصار المعطى منقسماً إلى ما يعطيه الحق للخلق وما يعطيه الخلق للحق.
«فأحياه الذي يدري بقلبي حين أحيانا» الضمير في أحياه عائد على الحق، والجار والمجرور في «بقلبي» متعلق بأحيا أو بيدري.
والمعنى أن الجزء الخاص في القلب الذي له صفة المعرفة قد أحيا اللَّه في القلب كما أحيا اللَّه الناس.
ومعنى إحياء اللَّه في القلب إيجاد صورة له فيه من صور المعتقدات.
وهذا معنى طرفه ابن العربي مراراً فيما مضى.
وفي ذلك قوله: «لذاك الحق أوجدني فأعلمه فأوجده»
(الفص الخامس) وقد يكون للبيت معنى آخر وهو الذي ذهب إليه «بالي» في شرحه على الفصوص إذ اعتبر الضمير في أحياه عائداً على القلب المتأخر لفظاً المتقدم معنى: 
فأصبح معنى البيت على حد فهمه: أحيا قلبي بالحياة العلمية الحقُّ الذي يدري قلبي ويعلم استعداده الأزلي:
فهو يحيينا بالحياة العلمية الروحية كما أحيانا بالحياة الحسية.
«فكنا فيه أكوانا و أعيانا و أزمانا»
«كان» في كنا تفيد الاستمرار لا الزمان الماضي المنقطع كما في قوله تعالى: «كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» *.
و المراد أننا على الدوام في الحق: ففيه كوننا و وجودنا و فيه دواتنا التي هي أعياننا.
و هذا إشارة إلى ما يسميه أصحاب وحدة الوجود بمقام قرب الفرائض، و هو مقام الوحدة الذاتية الحاصلة بالفعل بين الحق و الخلق.
و لكن هناك مقاماً آخر هو مقام قرب النوافل الذي يشير إليه الحديث القدسي «لا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع و بصره الذي به يبصر إلخ» و في هذا المقام يتحقق العبد من وحدته الذاتية مع الحق فهو مقام اثنينية و الأول مقام أحدية.
و لا ضرورة إلى ما ذهب إليه «بالي» من إرجاع الضمير في «فيه» إلى عالم الغيب إذ لا ذكر له في الأبيات:
«و ليس بِدَائِمٍ فينا و لكن ذاك أحيانا»
الإشارة هنا إلى التجلي الشهودي لا التجلي الوجودي كما يقول «جامي» (شرح الفصوص ج 2 ص 172).
فالحق يتجلى بالتجلي الوجودي في الخلق على الدوام، و لكنه لا يتجلى بالتجلي الشهودي- أي لا يدركه الخلق إدراكاً ذوقياً شهودياً إلا في بعض الأحيان.
و ليس إدراك الحق بالشهود رؤية بعين البصر أو البصيرة فهذا أمر برهن ابن العربي على استحالته في مواطن عدة من هذا الكتاب، و إنما المراد إدراك الوحدة الوجودية ذوقاً في مقام يسميه مقام الشهود و هو مقام الفناء.


(15) «فلذلك قَبِلَ النَّفَسُ الإلهي صور العالم».
(15) يظهر من ناحية الاشتقاق اللغوي أن كلمتي «النَّفْس» والنّفَس آتيتان من أصل واحد، و لعل هذا راجع إلى اعتقاد القدماء بأن النفْس- أو الروح- جوهر لطيف شفاف أكثر ما يكون شبهاً بالهواء الذي منه النَّفَس الحيواني.
ولهذا كان من السهل تصور انتقال الروح إلى الجسم بواسطة النفخ كما صرح بذلك القرآن في حكاية خلق آدم وعيسى:
قال في الأول: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» *،
و قال في الثاني: «وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا».
فالنفخ الإلهي كناية عن منح الحياة للجسم المنفوخ فيه، و النَّفَس الإلهي كناية عن النَّفْس أو الروح الإلهي.
و لكن القرآن لم يتكلم عن نَفَسٍ إلهي يقبل صور الموجودات أو عن نَفْسٍ إلهية تتفتح فيها صور العالم، أي أن القرآن لم يحدثنا عن جوهر روحي عام تتعين فيه صور الموجودات في العالم، و إن ذكر لنا أن اللَّه هو واهب الحياة لكل كائن حي.
ولذلك كان من الواجب أن نبحث عن أصل ما يقوله ابن العربي في هذا الصدد في مصدر آخر غير القرآن، وأغلب الظن عندي أنه استمد فكرة النفس الكلية التي تفتحت فيها صور العالم، من الكتابات الهلينية المتأخرة المتأثرة بالفلسفة الهرميسية.
فقد ذكر في المقالة التاسعة من مجموعة الفلسفة الهرميسية إن نَفَس الحياة الساري في العالم على الدوام يمد الأجسام بما يتعاقب عليها من الصفات، ويجعل من العالم كتلة واحدة حية.
 
وفي موضع آخر «إن الحياة والعقل يُنْفَخان نفخاً في كل ذي روح من الموجودات، وإن اللَّه قد نفخ الحياة والعقل في العالم منذ أنشأته».
وليس هذا النّفَس الساري في الوجود الذي نفخ به اللَّه في كل كائن، سوى ما يسميه ابن العربي بالنفس الرحماني على ما بين الفكرتين من اختلاف في التفاصيل.
وسواء أ قلنا- كما يقول النص- إن النَّفَس الإلهي قد قبل صور العالم أو إن صور العالم قد قبلته، فإننا في الحالين يجب ألا نفهم من القبول والإعطاء معناهما الحرفي، فإن اثنينية القابل والفاعل ليست إلا اثنينية اعتبارية كما قررنا فيما سبق.
 
ولما ذكر النفس الرحماني وقارن بينه وبين النفس الحيواني رأى أن ينسب إلى النفس جميع ما يستلزمه من التَّنفيس، وقبول صور الحروف والكلمات، ووجود الفاعل (النافخ) والقابل (المنفوخ فيه) وحرارة النَّفَس ثم برودته، ورطوبته، و صعوده و هبوطه و غير ذلك.
أما التَّنْفيس وقبول صور الكلمات فقد مر ذكرهما، وأما الفاعل والقابل فهما الطبيعة وهيولى العالم على التوالي.
و المراد بالطبيعة القوة الكلية السارية في جميع الموجودات عقولًا كانت أو نفوساً، مجردة كانت أو غير مجردة.
ولهذا اعتبر العناصر وما فوق العناصر من أرواح علوية و ما تولد عنها، و أرواح السموات السبع، من صور الطبيعة.
أما الفلاسفة المشاءون من المسلمين فالطبيعة عندهم هي القوة السارية في الأجسام، بها يصل الجسم إلى كماله الطبيعي. فهي لذلك نوع من الطبيعة الكلية كما يفهمها الصوفية.
و نسبة الطبيعة الكلية إلى النفس الرحماني كما يقول القيصري (ص 261) أشبه بنسبة الصورة النوعية إلى الجسم الكلي أو أشبه بنسبة جسم معين إلى الجسم من حيث هو.
 
(16) «وأما أرواح السماوات السبع وأعيانها فهي عنصرية».
(16) في كلام ابن العربي شيء من التخبط في هذا الموضوع، فقد ذكر فيما مضى ما يُفْهَم منه أن الأجرام السماوية غير عنصرية بالرغم من أنها طبيعية، وهذا هو سر بقائها وعدم خضوعها لقانون الكون والفساد.
ولكنه يقول هنا إن أرواح السماوات السبع وأعيانها عنصرية لأنها تكونت من دخان العناصر الذي هو ألطف وأدق صور المادة.
وقد وردت كلمة «الدخان» في القرآن بصدد خلق السماوات في قوله تعالى «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (س 41 آية 10)، ولكنها وردت أيضاً في هذا المعنى في نصوص أقدم من القرآن ذكر فيها الدخان على أنه عنصر خامس وأنه أعلى العناصر وأنقاها وألطفها.
 (راجع  Hermetica P. 115, 123)
وعلى ذلك انقسمت الأشياء الطبيعية إلى قسمين: عنصرية وهي ما تألفت من العناصر الأربعة في العالم الطبيعي، وما تألفت من دخان العناصر وهي الأجرام الفلكية والأرواح التي تدبرها، وكذلك كل ما تولد عن هذين.
أما الطبيعية غير العنصرية فهي الأرواح التي فوق السماوات السبع وهي المجردات من النفوس والعقول، مثل روح العرش وروح الكرسي وغيرهما.
وطبيعة هذه نورية لا عنصرية: أي غير مادية كما أسلفنا.
فهناك إذن فرق بين طبيعة الملائكة المتولدة في الأفلاك والملائكة التي فوقها، لأن طبيعة الأولى عنصرية
كطبيعة أجرام الأفلاك نفسها، في حين أن طبيعته الثانية نورانية.
 
(17) «فلهذا أُخْرِج العالم عن صورة من أوجدهم وليس إلا النَّفَس الإلهي».
(17) ليس المراد بإخراج العالم هنا خلقه من العدم، بل إظهاره بالصورة التي هو عليها.
و الذي أخرج العالم بالصورة التي هو عليها هو النّفَس الإلهي الذي قبل جميع صور الوجود، أو هو حضرة الأسماء الإلهية كما سبق أن ذكرنا.
فالعالم الذي هو «الإنسان الكبير» خلق على صورة الحق- بل هو صورة الحق، كما أن آدم- العالم الأصغر- قد خلق على صورة الحق.
و الفرق بين الصورتين أن الأولى صورة مفصلة و الأخرى مجملة، و الأولى مركبة من أكوان و صور مختلفة، و الأخرى كون واحد جامع يحتوي ما في العالم كله أعلاه و أسفله.
ولما كان النفس الإلهي قد قبل الأضداد وتفتحت فيه الكثرة الوجودية المتناقضة كل أنواع التناقض، ظهر العالم بصورة من أوجده فانعكس فيه كل ما هو في الأصل الذي صدر عنه وظهر فيه التقابل و التناقض ايضاً.
و يستوي عند ابن العربي أن نقول إن الأسماء الإلهية تعددت و تناقضت لظهور أحكام الكثرة الوجودية فيها، أو أن العالم وقع فيه الكثرة و التناقض من أجل ظهور أحكام الأسماء الإلهية فيه.


(18) «ثم إن هذا الشخص الانساني عَجَنَ طينته بيديه وهما متقابلتان و إن كانت كلتا يديه يمينا».
(18) الشخص الانساني هو آدم أو الجنس البشري. و قد عجن اللَّه صورته بيديه المتقابلتين أي أظهر فيه كمالات أسمائه و صفاته المتقابلة: و هي أسماء الجمال و أسماء الجلال.
على أن الأسماء و الصفات الإلهية المتقابلة لم تظهر في الصورة الانسانية وحدها، بل هي ماثلة في جميع مظاهر الوجود.
أما وصفه يدي الحق بأن كلتيهما يمين فيرجع فيما أرى إلى سببين:
الأول: أن اليد اليمنى أقوى وأشدُّ في عملها عادة من اليد اليسرى.
وإذا فهمنا أنه يريد باليدين هنا أسماء الجمال و أسماء الجلال، أدركنا أنه يريد أن يقول إن جميع الأسماء الإلهية متكافئة في قوة فعلها و تأثيرها في الوجود، و إن الصفات الإلهية المتقابلة أيضاً متكافئة في قوة ظهورها في الموجودات.
الثاني: أن اليد اليمنى عادة هي اليد التي تعطي. فكأنه يريد أن يقول إن الأسماء الإلهية والصفات متكافئة في إعطاء الوجود ما هو عليه من الصفات والخصائص.
فاختلفت اليدان ظاهراً فقط واتحدتا في الحقيقة، وقد اختلفتا لأن الطبيعة التي يؤثران فيها مختلفة متقابلة، ولا يؤثر فيها إلا ما يناسبها.


(19) «ولما أوجده باليدين سمّاه بَشَراً للمباشرة اللائقة بهذا الجناب».
(19) عقد صلة لفظية ولكنها بعيدة بين كلمتي «بَشَر» و «مباشرة» وقال إن الإنسان سمِّيَ بشراً لأن الحق تعالى باشر عجن طينته بيديه بطريقة تليق بالجناب الإلهي.
والمباشرة التي تليق بالجناب الإلهي في نظر ابن العربي ليست المباشرة «بلا كيف» كما كان يقول مثبتو الصفات، بل إظهار الكمالات الإلهية المودعة في الأسماء (المعبر عنها باليدين) في الصورة البشرية التي خلقها اللَّه على صورته (قارن الفص الأول).
على أن كلمة «الجناب» قد يراد بها جناب الإنسان: أي أن يدي الحق توجهتا إلى خلق الإنسان ومباشرة ذلك الخلق على نحو يليق بالكرامة الانسانية.
ولكن التفسير الأول أولى وأدنى إلى المراد.
ولما كان الإنسان وحده هو الذي توجهت يدا الحق إلى مباشرة خلقه على نحو ما شرحنا، كان أفضل الأنواع العنصرية إطلاقاً.
ولكنه لم يفضلها إلا بأن الحق باشر خلقه بيديه جميعاً: أي أنه أظهر فيه جميع كمالات أسمائه وصفاته، وغيره من الكائنات العنصرية لا تظهر فيه هذه الكمالات مجتمعة. فالإنسان- من هذا الوجه- أفضل من الملائكة العنصريين: أي ملائكة السماوات السبع.
أما من فوق هؤلاء من الملائكة فهم أفضل منه.
ولهذا قال اللَّه لإبليس لما أبى السجود لآدم «أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ؟» أي أستكبرت على من هو عنصري مثلك، أم كنت من العالين عن العناصر؟


(20) «فأول أثر كان للنَّفَس إنما كان في ذلك الجناب، ثم لم يزل الأمر ينزل بتنفيس العموم إلى آخر ما وجد».
(20) قد ذكرنا مراراً أن الأسماء الإلهية يقتضي تطبيقها وجود المألوه الذي هو العالَم وأنه على حد قول المؤلف لو لا التَّنفيس عن هذه الأسماء بإظهار آثارها في الصور الوجودية التي ظهرت فيها، لأحست بكرب عظيم لما يحتبس فيها حينئذ من قوة خالقة لاتحد ما تخلقه.
و في هذا التصوير المجازي للقوة الخالقة في الوجود معنى فلسفي عميق، إذ يتصور ابن العربي الحقيقة الوجودية على أنها شيء يندفع من ذاته إلى الظهور دائماً و يتحوَّل في كل لحظة ما استقر فيه من كوامن القوة إلى صور وجودية فعلية.
وأول أثر ظهر لهذا التَّنْفيس الوجودي كان في حق الحق ذاته، لأن أول مرحلة من مراحل ظهور الحق كانت تجليه لنفسه في نفسه في صور أعيان الممكنات، أو في الحضرة الأسمائية وهي الفيض الأقدس الذي أشرنا إليه (راجع الفص الأول: التعليق الثالث).
ثم توالت الفيوضات بعد ذلك في صورة تنازلية إلى آخر ما وجد من الممكنات، وهذا هو المعبر عنه بالفيض المقدس.
وفي كل فيض: أي في كل حال يتجلى فيها الحق في الخلق، «تنفيس» بالمعنى الذي شرحناه.


(21) «فالكل في عين النَّفس كالضوء في ذات الْغَلَس» الأبيات
(21) النّفَس بمثابة الجوهر الهيولاني الذي تتفتح فيه صور الموجودات، و إذا أخذناه في إطلاقه و عدم تعينه كان بعيداً عن الإدراك و التصور، و هذا هو السر في تشبيهه بالظلمة الحالكة.
أما إذا نظرنا إليه من ناحية ظهور «الكل» فيه أمكننا أن ندرك صور «الكل» في فحمة هذا الظلام، لما سكب الحق على هذه  الصور من نور الوجود و لما كان الظلام لا يمكن إدراكه إلا عن طريق ما يتخلله من النور، لم ندرك «النّفَس الإلهي» إلا عن طريق ما تفتح فيه من صور الوجود.
و لكن كيف ظهر الخلق في الحق؟
أو كيف تفتحت صور الوجود في النّفَس الإلهي؟
كيف ظهر الخلق؟
هذا سؤال حاول الاجابة عنه أهل النظر بالبرهان، و أجاب عنه الصوفية بالكشف، و طريق أهل النظر عقلي منطقي، و طريق الصوفية ذوقي شهودي.
أما الأولون فلما طلبوا حقيقة الأمر وأعياهم مطلبها قعدوا عن طلبها واستكانوا.
وأما الآخرون فجدوا في الطلب حتى وصلوا إلى غايتهم و شاهدوا الأمر شهوداً عينياً ليس فيه لبْسٌ أو تأويل.
أما صاحب النظر فيرى أمر الخلق كما يرى النائم حلماً من الأحلام: أي أنه يرى رمز الحقيقة لا الحقيقة نفسها.
وإلى اصحاب النظر (الفلاسفة) يشير بقوله:
والعلم بالبرهان في سلخ النهار لمن نعس أي والعلم بمسألة الخلق وظهور الكل في النفس الإلهي من خواص الناعسين الذين تبدو لهم الحقيقة في ثوب من الخيال، فيطلبون تأويلها كما تبدو للنائم الحقائق في صور الأحلام.
وسلخ النهار رمز لآخر مرحلة من مراحل السلوك إلى الحق.
فيرى الذي قد قلته رؤيا تدل على النفس أي فيرى الأمر الذي شرحته كما يرى الحالم رؤياه لا كما يرى العارف رؤيته.
فيريحه من كل غم في تلاوته عبس أي فتريحه هذه الرؤيا الناقصة من كل غم يشعر به من جراء الحيرة العقلية التي يشعر بها إزاء هذه المشكلة.
والمراد بعبس هنا القلق والحيرة لا السورة القرآنية المسماة بهذا الاسم (س 80).
 
أما أصحاب الكشف والشهود فيشير إليهم بقوله:
و لقد تجلى للذي قد جاء في طلب القبس أي و لقد تجلى هذا الأمر و ظهر على حقيقته لأولئك الذين جدوا في الطلب وسعوا وراء النور (اللَّه).
والإشارة هنا إلى موسى الذي قال لأهله «امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً. فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» (قرآن س 20 آية 10 - 11).
فموسى جاء في طلب القبس فرآه ناراً و هو نور.
وكذلك كل سالك إلى اللَّه يطلب هذا النور.
فرآه ناراً وهو نور في الملوك وفي العسس أي أن موسى رأى الحق في صورة النار و هي في الحقيقة النور الذي ظهر في كل شيء في الوجود:
أعلاه وهو المشار إليه بالملوك- وأسفله، وهو المشار إليه بالعسس.
واستعمال كلمة العسس للمظاهر الوجودية الدنيا لا يخلو من مغزى، لأن العسس وهم حرّاس الليل، لا يظهرون في صورة كاملة واضحة لاشتمال الليل عليهم، وكذلك المظاهر الوجودية الدنيا لا يظهر فيها كمالات النور الإلهي واضحة لقصور استعدادها عن قبول ذلك النور.
أما الملوك وهم أظهر الناس، فهم رمز للمجالي الإلهية العليا التي قبل استعدادها أكبر قسط من النور الإلهي.
ويمكن أن يكون معنى البيت- كما يفهمه القيصري أن الحق (النور) ظهر للكاملين من العارفين وهم الملوك ولأولئك الذين هم أقل حظاً في الكمال منهم وهم العسس.
 
بعد ذلك أشار إلى إفلاس طرق الفلاسفة في الوصول إلى الحقيقة وابتئائهم في قوله:
فإذا فهمت مقالتي فاعلم بأنك مبتئس
ثم عرج على قصة موسى ثانية فقال لو أنه طلب الحق في صورة أخرى غير صورة القبس لرآه في الصورة التي طلبه فيها، لأن الحق يظهر في كل صورة من صور الموجودات ولا يخيب أمل عبده فيه.
فمن طلب الحق في شيء وجده:
وهذا بالضبط الحق المعتقد فيه لا الحق المطلق كما أشرنا إلى ذلك من قبل. فمن الجهل إذن في نظر ابن العربي أن تطلب الحق في صورة معينة وتقول هو ذي دون غيرها من الصور، فان ذلك عين الكفر الذي وقع فيه المسيحيون.
بل اطلبه في أية صورة من الصور ولا تحصره فيها فإن الحقيقة تمنع من الحصر والتقييد.
اجعل قلبك هيولى المعتقدات كلها وشاهد الحق في كل شيء. هذا هو الدين العام الذي يدعو إليه ابن العربي وقد سبق شرحه فيما مضى (راجع مثلا الفص 12 التعليق 2).
أما الإشارة إلى طلب موسى ففي قوله: لو كان يطلب غير ذا لرآه فيه وما نكس.
 
(22) «مقام حتى نعلم».
(22) هذا هو مقام الفرق أي مقام التمييز بين الواحد والكثرة.
و قد قام الحق بالنسبة لعيسى عليه السلام في هذا المقام عند ما سأله عن صحة ما نسب إليه من الأقوال مما ورد ذكره في القرآن في سورة المائدة: (آية 116 - 117) .
و ترجع تسمية هذا المقام «بمقام حتى نعلم» إلى قوله تعالى: «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ" (قرآن س 47 آية 31).
فهنا وضع الحق نفسه في مقام من يأخذ علمه بالناس من الناس أنفسهم مع أن علمه قديم سابق عليهم. هذا إذا نظرنا إلى اثنينية العالم والمعلوم- الحق والخلق- ولكن الحقيقة تأبى الاثنينية إذ العالم عين المعلوم.
وكذلك الحال في عيسى الذي أقامه الحق مقام المسئول وطلب منه معرفة حقيقة ما قاله الناس في ألوهيته.
هذا مقام «حَتَّى نَعْلَمَ» أيضاً، وهو مقام اثنينية اعتبارية ووحدة حقيقية.
وغني عن البيان أن ما أورده الحق سبحانه في القرآن من حديث بينه وبين عيسى إنما قصد به أمراً آخر غير ما يقصده ابن العربي:
ويستوي عنده أن هذا الحديث قد وقع بالفعل أو لم يقع، ولكنه يأخذه على أنه مثال يوضح به وحدة السائل والمسئول ووجود الكثرة في عين الوحدة.
ولذلك فسر جميع الآيات التي وردت في هذا الخطاب تفسيراً يتفق مع مذهبه في وحدة الوجود: كقوله مثلًا في تفسير: «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ» أي علمته «لأنك أنت القائل، ومن قال أمراً فقد علم ما قال: وأنت اللسان الذي أتكلم به» إلخ.
وكقوله: «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي»: والمتكلم الحق.
ولا أعلم ما فيها (بدلًا من قوله تعالى: وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ).
فنفى العلم عن هوية عيسى من حيث هويته لا من حيث إنه قائل و ذو أثر».
يريد بذلك أننا إذا نظرنا إلى عيسى من حيث هو صورة من صور الحق قلنا إنه ليس له علم بذاته.
وإذا نظرنا إليه من حيث إنه الحق متجلياً بهذه الصورة العيسوية الخاصة التي قالت ما قالت، نسبنا إليه العالم.
والمراد بالأثر خلق عيسى الأشياء وتصرفه فيها.
فالعلم المنفي عن عيسى إنما نفي عنه من حيث صورته الشخصية لا من حيث حقيقته.
 
(23) «فانظر إلى هذه التنبئة الروحية الإلهية ما ألطفها وأدقها».
(23) أوردت المخطوطات التي رجعت إليها كلمة «تثنية».
ويرفض القيصري هذه القراءة لسببين:
الأول: أن الاثنينية لا يمكن أن توصف بأنها روحية إلهية بينما يمكن وصف التنبئة بهما.
الثاني: أَن عنوان الفص هو الحكمة النبوية لا الحكمة الثنوية. والنبوية والتنبئة مشتقان من أصل واحد.
ولرفض القيصري ما يبرره، ولكنه يجب ألا نفسي أن ابن العربي يفيض في هذا الجزء من الفص في شرح الآيات القرآنية السالف ذكرها على أساس فكرته في وحدة الاثنينية والجمع (راجع شرح القيصري ص 268).
 
(24) «إذ لا يؤمر إلا من يتصور منه الامتثال وإن لم يفعل».
(24) شرحنا في أكثر من موضع في هذا الكتاب معنى الأمر الإلهي وفرقنا بين الأمر التكليفي والأمر التكويني.
وكذلك شرحنا الصلة بين الأمر الإلهي والجزاء على طاعة العبد ومعصيته.
كل من يؤمر بأمر إلهي يتصوَّر منه الامتثال لهذا الأمر، وإلا كان أمر من لا يتصور منه الامتثال ضرباً من العبث.
ولكن العباد منهم من يمتثل ومنهم من لا يمتثل حسبما قدر في طبيعتهم من الأزل.
فإن بعض أعيان الموجودات طبعت أزلًا على الطاعة في حين طبع غيرها على المعصية.
ولكن هذا لا يمنع في نظر ابن العربي من توجيه الأوامر الإلهية إلى الجميع على السواء، لأن الجميع يتصور في حقهم امتثال ما أمروا به.
ومهما تكن استجابة العبد لأوامر اللَّه التكليفية، فإنها امتثال تام لأوامره التكوينية:
أي أن العبد الذي يعصي الأمر التكليفي إنما يطيع بفعله هذا الأمر الإلهي التكويني.
(قارن الفص الثامن التعليق 1، 2، 6).
 
(25) «فكان الغيب ستراً لهم عما يراد بالمشهود الحاضر».
(25) المراد بالغيب ضمير الغائب «هم» في مثل قوله تعالى: «هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» *.
والمشهود الحاضر هو الحق الظاهر المتجلي في صور أعيان الممكنات. هذا إذا نظرنا إلى الحقيقة الوجودية من حيث إنها «حق».
أما إذا نظرنا إليها من حيث إنها خلق وأثبتنا للخلق وجوداً، فقد سترنا الحق وراء صورها.
وهذا معنى قوله أن الغيب (و المراد به الخلق المشار إليه بالضمير هم) ستر للمشهود الحاضر.
أما أن الحق هو المشهود الحاضر، فذلك لأن أعيان الممكنات في ذاتها عدم محض ولم تبرح كذلك لأنها صور معقولة في عالم الغيب العلمي:
وهذا هو الوجه الذي يرتضيه ابن العربي الذي يُغَلب جانب الحق على جانب الخلق دائماً في وحدته الوجودية.
وقد اختار قوله تعالى: «هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» لا ليوضح فكرته بضمير الغائب الوارد فيها فحسب، بل ليفهم كذلك كلمة «كفروا» فهماً خاصاً يدعم به هذه الفكرة.
فكفروا هنا ليست بمعنى لم يؤمنوا، بل بمعنى ستروا أو أخفوا، وهذا هو المعنى الحرفي للكلمة. فهم كفروا أي ستروا الحق وراء صورهم فأخفوا بذلك حقيقتهم. إن العالم كله حجاب على الحق، فمن أثبت للعالم وجوداً فقد وضع أكثف حجاب بينه وبين الحق.
 
(26) «حتى إذا حضروا تكون الخميرة قد تحكمت في العجين فصيرته مثلها»
(26) العجين هو الناحية البشرية في الإنسان- الناسوت. والخميرة ما في الإنسان من لاهوتية يستطيع بها الوصول إلى مقام الفناء في اللَّه، و يتحقق بوحدته الذاتية معه، بعد أن يتخلص من قيود عبودية أنانيته.
والحضور هو الوصول إلى هذا المقام. فإذا حصل العبد في مقام الفناء غلبت لاهوتيته ناسوتيته أو انمحت ناسوتيته وتحقق بالوحدة الكاملة .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين ديسمبر 30, 2019 7:34 pm

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص السليماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم

16 - فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية

(1) حكمة رحمانية في كلمة سليمانية
(1) يبحث هذا الفص في مسألتين هامتين إلى جانب مسائل أخرى كثيرة تتصل بهما: الأولى الرحمة الإلهية: معناها و أقسامها.
و قد سبقت الإشارة إلى الرحمة في النصوص التي علقنا عليها. و لكننا هنا بإزاء شرح أوفى لأحد قسمي الرحمة و هو رحمة الوجوب.
و ليس لاقتران اسم سليمان عليه السلام بالحكمة الرحمانية في عنوان الفص من سبب ظاهر إلا ما ورد في القرآن في قصته مع بلقيس و الكتاب الذي أرسله إليها يدعوها فيه إلى اللَّه، و في فاتحة الكتاب قوله: «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
فليس هذا الاقتران إذن إلا أمراً عرضياً صرفاً، و لو ذكر اسم رسول آخر غير سليمان في معرض ذكر سليمان لسميت الحكمة باسمه.
""أضاف الجامع :  الورود بالقرآن كفي به علما و أمرا ممن هو المسبب وهو الأسباب وهو المحل المختار و الزمان لإظهاره في الخلق وسريان حاكمية أثاره في كل ما خلق الله . جل شان الله ""
و لكن هذا شأن ابن العربي في اختيار معظم عناوين فصوصه.
المسألة الثانية الهامة هي مسألة الملك و الخلافة و التصرف، و هذه أيضاً متصلة بسليمان على نحو ما فصله القرآن في شأنها.
 
(2) «فأخذ بعض الناس في تقديم اسم سليمان على اسم اللَّه تعالى، و لم يكن كذلك».
(2) يذهب بعض المفسرين إلى أن سليمان عليه السلام قد ذَكَر اسمه قبل اسم اللَّه تعالى في كتابه إلى بلقيس عند ما قال: «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»،
و لكن ابن العربي يخطئ، هذا الرأي لما يقتضيه من نسبة الجهل و عدم البصر بما يليق نحو الجناب الإلهي إلى رسول كسليمان.
و حجته في ذلك أن الجملة الأولى و هي «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ» ليست جزءاً من كلام سليمان إلى بلقيس، بل هي إخبار منها لقومها بأنها أُلْقِيَ إليها كتاب من سليمان.
أما أول الكتاب فهو «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
و من الناس من يعتبر الجملة الأولى جزءاً من كتاب سليمان إلى بلقيس و يلتمس لسليمان عذراً في تقديم اسمه على اسم اللَّه و لا يعد ذلك جهلًا من الرسول،
بل عملًا قصد به إلى غاية خاصة، و ذلك أن سليمان لما علم أنه ليس من عادة الملوك الاحتفاء برسالات الأنبياء و لا تكريم حامليها،
بل لقد يدفعهم الشطط في امتهانها و تحقيرها إلى تمزيقها أو إحراقها أو التمثيل بها أي نوع من أنواع التمثيل كما فعل كسرى بكتاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم، لما علم سليمان كل ذلك، قدم اسمه على اسم اللَّه لكي يعرض اسم هو أولًا لمثل هذه الاهانة إن وقعت.
و هذا تعليل في نظر ابن العربي في غاية الضعف، إذ لو كان في نية بلقيس أن تمتهن كتاب سليمان بالإحراق أو التمزيق لأصابت هذه الاهانة كل ما فيه، و لما منعها من فعلها تقديم أحد الاسمين على الآخر.
 
(3) «فأتى سليمان بالرحمتين: رحمة الامتنان و رحمة الوجوب اللتان هما الرحمن الرحيم».
(3) على هذين الاسمين الإلهيين: الرحمن والرحيم الوارد ذكرهما في كتاب سليمان إلى بلقيس، والواردان أيضاً في فاتحة كل سورة من سور القرآن الكريم بنى ابن العربي فكرة فلسفية من أخصب الأفكار في مذهبه.
وليس بين الاسمين من الناحية اللغوية كبير فرق، ولكنهما يستعملان في اصطلاحة الخاص للدلالة على «الحق» باعتبارين مختلفين تمام الاختلاف.
فالرحمن هو واهب رحمة الامتنان، والرحيم هو واهب رحمة الوجوب. ورحمة الامتنان هي الرحمة العامة الشاملة لجميع الخلق، وليست إلا منح كل موجود وجوده على النحو الذي هو عليه في غير مقابلة أو عوض. فهي الرحمة التي أشار اللَّه إليها في قوله: «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»،
هي مرادفة للوجود أو لمنح الوجود على سبيل المنة، و ليس لها أي صلة بمعاني الشفقة أو العطف أو العفو، و إن كنا نستطيع أن نقول في ضرب من التجوز ان الحق تجلى في صور الممكنات و خلع عليها وجوده شفقة منه بها و عطفاً منه عليها.
أما رحمة الوجوب فهي التي أوجبها الحق على نفسه في قوله: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»، و في قوله: «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إلخ».
و قد يراد بها إحدى رحمتين:
الأولى: ما يمنحه الحق من الوجود للكائنات بحسب ما هي عليه في أعيانها الثابتة، فإن هذه الأعيان تطلب بمقتضى طبيعتها و ما جبلت عليه أن يكون وجودها على نحو خاص، و ليس للحق الا أن يمنحها ذلك الوجود لأنها توجب عليه ذلك إلخ. و ليس هذا الوجوب و هذه الضرورة إلا الجبرية التي أشرنا إليها فيما سبق.
(راجع الفص الثاني التعليق 3 و الفص الخامس التعليق 4 و 6 و 7 إلخ إلخ).
الثانية: ما يمنحه الحق من رحمته للعباد بحسب أفعالهم. و هذه أيضاً واجبة عليه لأن العدل يقتضيها.وهو مذهب المعتزلة. 
وإليه أشار بقوله: «فإنه كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ سبحانه ليكون ذلك للعبد- بما ذكره الحق من الأعمال التي يأتي بها هذا العبد- حقاً على اللَّه تعالى أوجبه له على نفسه يستحق بها هذه الرحمة».
ولكن لما كان منح اللَّه الخلق ما يستحقون سواء بحسب ما تقتضيه أعيانهم الثابتة أو بحسب ما تقتضيه أعمالهم، داخلًا تحت الفعل الإلهي الأعم وهو منح اللَّه الوجود لجميع الموجودات، لما كان كذلك، دخل الاسم الرحيم في الاسم الرحمن دخول تضمن كما يقول، وكان الاسم الرحمن هو الواهب الرحمة، أي واهب الوجود اطلاقاً سواء أ كان الوجود محض امتنان من الحق للخلق، أو حقاً عليه لهم.
وقد عولجت بعض نواحي هذه المسألة الهامة في شيء من التفصيل فيما مضى.
راجع صلتها بمدح اللَّه لأفعال العبد وذمها: الفص السابع: التعليق 4، وصلتها بمسألة العقاب والثواب في نفس الفص: التعليق 11، ومنزلتها من مذهب المؤلف في الجبر. الفص الخامس: التعليقات 4، 6، 7 والفص الثامن: التعليق 6.
وعن المعنى الميتافيزيقي و المعنى الخلقي للرحمة: الفص العاشر: التعليق 2 و افتتاح الفص الحادي و العشرين.
 
(4) «و من كان من العبيد بهذه المثابة فإنه يعلم من هو العامل منه».
(4) أي و من كان من العبيد يمنحه اللَّه رحمة الوجوب استحقاقاً لأفعاله فإنه يعلم مَنْ هو الفاعل لأفعاله على الحقيقة! و الفاعل لجميع الأفعال على الحقيقة هو اللَّه.
وقد يكون المراد بها أيضاً أن العبد الذي يمنحه اللَّه رحمة الوجوب جزاء لأفعاله يعلم ما يَفْعَل منه: أي يعلم العضو الذي يقوم بالعمل فيستحق الجزاء.
ويؤيد هذا التأويل أن المؤلف أخذ بعد ذلك مباشرة في شرح أعضاء الإنسان المقسَّم بينها العمل، ولكنه يعود إلى المعنى الأول وهو المعنى المتصل بمذهبه في وحدة الوجود حيث يقول «وقد أخبر الحق أنه تعالى هويَّة كل عضو منها. فلم يكن العامل غير الحق والصورة للعبد».
فعلى الوجهين جميعاً نراه يقرر أن الأفعال كلها للحق لأنه هوية كل فاعل وهويته سارية- أو على حد قوله- مدرجة في جميع ما يفعل ومن يفعل، لا فرق في ذلك بين عاقل وغير عاقل وبين حي وغير حي.
ولكن هويته مدرجة في صور الفاعلين على نحو وجود المعنى الكلي في جزئياته لا على نحو وجود المتمكن في المكان. فنظريته إذن ليست نظرية حلول أو اثنينية، كما أنها لا تشبه نظرية الأشاعرة في خلق الأفعال لأن اللَّه لا يخلق الفعل على يد العبد ويتخذ من العبد أداة لظهوره كما يقولون، بل يفعل الفعل الصادر عن صورة العبد وهو في الوقت نفسه عين تلك الصورة: وهذا ما لا يمكن للأشاعرة أن يسلموا به.
 
(5) «بل هي من المُلْك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، يعني الظهور به في عالم الشهادة».
(5) بعد أن شرح أن الأفعال كلها للَّه وإن ظهرت على أيدي العباد، وأن الفرق بين نسبتها إلى الحق ونسبتها إلى الخلق ليس إلا الفرق بين اسم اللَّه الباطن واسمه الظاهر، أو اسمه الأول واسمه الآخر.
قال إن هذا علم لا يغيب عن سليمان، بل هو جزء من الملك الذي طلبه سليمان من اللَّه حيث قال «وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» و لم يكن ذلك المُلْك شيئاً خاصاً به دون غيره، بل كان مُلكاً منحه اللَّه أناساً قبل سليمان و بعده.
ولكن سليمان وحده اختص من بين سائر الخلق بالظهور به في عالم الشهادة. فقد منح اللَّه سليمان قوة التصرف في الكائنات حيها و ميتها، إنسها و جنها و هي قوة منحها غير سليمان من قبله و من بعده.
ولكنه وحده كان مأموراً من اللَّه بالظهور بها لأن اللَّه أعطاه الخلافة الظاهرية وهي المُلك: و هذه من مستلزماته.
 
(6) «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ حتى الأسماء الإلهية: أعني حقائق النسب، فامتَنَّ عليها بنا».
(6) النسب هنا هي النسب بين الحق و الخلق أو بين الواحد و الكثير- اللَّه و العالم وليست هذه النسب سوى الأسماء الإلهية- لا مجرد الألفاظ الدالة على هذه الأسماء، بل حقائق الأسماء.
ومن رحمة اللَّه الامتنانية التي وسعت كل شيء رحمته بهذه الأسماء بأن حقق وجودها عن طريق وجود مظاهرها ومجاليها وهي العالم المرموز إليه «بنا» في قوله «فامتن عليها بنا».
فنحن (العالم) نتيجة رحمة الامتنان التي رحم بها الحق الأسماء الإلهية لأنه بإيجادنا أوجدها، وإيجاد أي شيء هو عين الرحمة به، لا فرق في ذلك بين ما هو خير وما هو شر، وما هو حسن و ما هو قبيح، و ما هو طاعة و ما هو معصية.
فإن هذه كلها معان تضاف إلى مقولة الوجود لاعتبارات خاصة خارجة عن مفهوم الوجود ذاته.
والذي تتعلق به رحمة الامتنان هو الوجود من حيث هو وجود لا من حيث هو وجود شر أو خير أو وجود طاعة أو معصية.
أما ظهور الأشياء في الوجود على النحو الذي هي عليه فمن رحمة الوجوب لا من رحمة الامتنان، لأن ظهور أي موجود بصفة ما أو على نحو ما راجع إلى طبيعة الموجود ذاته و ما توجبه هذه الطبيعة.
ولهذا قال «ثم أوجبها على نفسه»، أي في قوله «فَسَأَكْتُبُها» بظهورها لنا: أي بظهور العالم لنا على النحو الذي ظهر فيه.
 
(7) «فعلى من امتن و ما ثَمَّ إلا هو؟ إلا أنه لا بد من حكم لسان التفصيل».
(7) بعد أن بيَّن أن الحق سبحانه قد أفاض برحمة امتنانه الوجود على الخلق بأن ظهر في صوره، قال إن الحق هو هوية الخلق و لا اثنينية في الأمر على الإطلاق.
فلم يمتن الحق إلا على نفسه و لم يرحم إلا نفسه: أي لم يظهر هذا الوجود الإضافي إلا في ذاته.
و لكن هذه لغة الوحدة أو لغة الجمع على حد قول الصوفية.
و هنالك لغة الكثرة في مقام التفصيل الذي هو مقام الفرق، و هذا المقام له حكمه، و إلا كيف نفسر اختلاف الخلق في الصور و تفاوتهم في درجات معرفتهم و ما إلى ذلك من الفروق التي نلمسها في نواحي الوجود؟
لا يمكن أن نفسر هذا كله إلا إذا تكلمنا بلسان الفرق بين الذات الواحدة وصورها الوجودية المختلفة مع اتحاد هذه الصور في العين.
هذا، وقد قرأ بعض الشراح كلمة التفضيل (بالضاد) بدلًا من التفصيل (بالصاد) قائلين إن المراد أننا يجب أن نعترف بمبدإ التفضيل بين الصور الوجودية بالرغم من اتحادها في العين- لكي نفسر اختلاف ما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم وغيرها.
ولكن القراءة الأولى أدق في نظري.
وليست المفاضلة في مقام التفصيل الوجودي حاصلة بين المظاهر الوجودية وحدها، بل هي حاصلة كذلك بين الصفات الإلهية ذاتها. فالعلم أفضل من الإرادة في تعلق كل منهما بالأمور المعلومة والمرادة، والإرادة أفضل من القدرة في تعلق كل منهما.
وكذلك السمع والبصر الإلهي وجميع الأسماء الإلهية على درجات في تفاضل بعضها على بعض.
أما فضل العلم الإلهي على الإرادة فلعمومه وشمول تعلقه بكل ما هو معلوم سواء أ كان أمراً وجودياً أم عدمياً، موجوداً بالقوة أم بالفعل، ممكن الوجود أم مستحيل الوجود.
وأما فضل الإرادة على القدرة فلتقدمها عليها و لأن تعلقها أعم من تعلق القدرة.
 
(8) «وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. فأثبت بصفة تعم كل سامع بصير من حيوان».
(8) السميع والبصير اسمان من أسماء اللَّه. ويمكن أن يقال إن التفاضل واقع بينهما على نحو ما تتفاضل الأسماء الإلهية كما ذكرنا. ولكن فيلسوف وحدة الوجود يفسرهما تفسيراً آخر.
وهو أن الحق سبحانه عند ما وصف نفسه بأنه السميع والبصير لم يرد مجرد حمل صفتي السمع والبصر على نفسه، بل أراد فوق ذلك أن يقرر أنه وحده هو الذي يسمع في كل ما يسمع ومن يسمع، والذي يبصر في كل ما يبصر ومن يبصر.
هذه هي ناحية التشبيه في مذهب ابن العربي الذي أشرنا إليه، وهو تشبيه يكاد يوقعه في التجسيم المحض.
ولكنه يخفف من شناعة هذا التشبيه بما يذكره عن تنزيه الحق بمعنى إطلاقه- في ذاته- عن كل قيد وكل تحديد.
فهو ليس هذا السامع أو ذاك، ولا هذا المبصر أو ذاك، بل هو عين كل ما يسمع وما يبصر. وبهذا يصدق على الحق أنه «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» لأنه لا يشبه أي شيء من المخلوقات وإن كان عين المخلوقات جميعها.
وعلى هذا، إذا فهمنا التفاضل بين السميع والبصير على معنى أنه حاصل بين صفتين من الصفات الإلهية، قلنا إن صفة البصر أكمل وأفضل من صفة السمع.
وإذا فهمنا السميع والبصير بمعنى الحق الذي يسمع في ذات كل سامع، ويبصر في ذات كل مبصر، كان التفاضل حاصلًا بين صور الموجودات لا بين صفتين من الصفات الإلهية. قارن في مسألة التنزيه والتشبيه الفص الثالث: تعليق 1، 2 إلخ.
 
(9) «و ما ثَمَّ إلا حيوان ... إلى قوله فإنها الدار الحيوان».
(9) ليست الحياة قاصرة على نوع معين من المخلوقات كما يظن المحجوبون بل هي مبدأ عام سار في الوجود بأسره.
وهذا معنى قوله «فما ثَمَّ إلا حيوان»: أي فما في الوجود إلا ذو حياة، وإن كانت هذه حقيقة تخفى عن إدراك بعض الأفهام وتتجلى للبعض الآخر بطريق الكشف والذوق.
أما سريان الحياة في الوجود كله فلأنها صفة من صفات الحق تتجلى في كل موجود بحسب استعداده وأهليته، ولذا بدت واضحة جلية في بعض الكائنات فوصف بأنه حي، وبدت في غيرها أقل وضوحاً وجلاء فلم يوصف بالحياة.
ولو علم الناس سريان جميع الصفات الإلهية من العلم والحياة والقدرة والسمع والبصر ونحوها في الموجودات لما قالوا بغير ما قال الشيخ: ولكنهم في هذه الدنيا محجوبون عن مثل هذه الحقائق التي لا يرقى إلى إدراكها إلا القليلون.
ولكن ثمة مقاماً ينكشف لكل إنسان فيه وجه الحقيقة ويرفع عن قلبه الحجاب- ولعله يريد بهذا المقام «الموت» الذي تتحرر فيه الروح من قيود البدن- أو «الفناء الصوفي» الذي يتحقق فيه هذا التحرر أيضاً، فيدرك الإنسان الحياة في كل شيء ويشهدها في كل موجود.
وهذا المقام هو الذي سماه بالدار الآخرة وقال إنها المعنية بقوله تعالى «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (س العنكبوت آية 64).
 
(10) «فمن عمَّ إدراكه كان الحق فيه أظهر في الحكم ممن ليس له هذا العموم»
(10) تحتمل هذه العبارة الغامضة أحد معنيين و ذلك بحسب ما نفهمه من كلمتي «الحق» و «الحكم».
فيصح أن يكون المراد بها أن من عم إدراكه فنظر إلى الوجود نظرة شاملة وشاهد وجود الحق في كل شيء وحياتَه في كل شيء، كان الحق (أي الصواب) أظهر في حكمه ممن قصرت أفهامهم عن إدراك هذه المعاني.
ويصح من ناحية أخرى أن يكون المراد أن من عم إدراكه للوجود (بالمعنى المتقدم)، كان الحق (أي اللَّه) فيه أظهر منه في غيره في الناحية التي يحكم بها عليه.
فإن حُكِمَ على الحق بأنه حي مثلًا كان «الحق الحي» أظهر فيه منه في غيره من المخلوقات، و إن حكم عليه بأنه سميع أو بصير كان «الحق السميع» أو «الحق البصير» في ذلك الحاكم أظهر منه في غيره و هكذا.
وكلا التأويلين يحتمله مذهب المؤلف في وحدة الوجود، و إن كان التأويل الأول أظهر.
 
(11) «وأما فضل العالِم من الصنف الإنساني على العالِم من الجن بأسرار التصريف وخواص الأشياء فمعلوم بالقدر الزماني».
(11) يشير إلى مسألة نقل عرش بلقيس إلى مجلس سليمان وما قاله كل من العفريت و الرجل الذي عنده علم من الكتاب في ذلك.
قال الأول: «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ»، وقال الآخر: «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ».
ويظهر فضل الثاني على الأول- كما يقول- في القدر الزماني الذي حدده لنقل العرش.
فإن زمن القيام من المكان مدة يمكن قياسها، وهي أعظم بكثير من زمن ارتداد الطرف من شيء مرئي إلى الشخص الرائي. بل إن زمن ارتداد الطرف لحظة لا يمكن قياسها، لأن الزمان الذي يتحرك فيه البصر ليرى شيئاً من الأشياء هو عين الزمان الذي تقع فيه الرؤية مهما بعدت المسافة بين الرائي والمرئي.
لهذا كان آصف بن برخيا، و هو الرجل الذي عنده علم من الكتاب، أَتم في علمه وفي عمله من العفريت.
لكن ما ذا حدث لعرش بلقيس؟
هل نقل من مكانه إلى مجلس سليمان في اللحظة التي ذكرها آصف؟
يقول ابن العربي إنه لم يحدث انتقال من مكان إلى مكان، كما أن سليمان ومن كان في حضرته لم يتخيلوا أنهم رأوا العرش في حين أنهم لم يروه بدليل قوله تعالى «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي».
لم يحدث هذا ولا ذاك وإنما الذي حدث هو خلق جديد للعرش: أي إعدام له في مكانه الأصلي وإيجاد له في مجلس سليمان: كل ذلك في لحظة واحدة. و أن الذي قام بذلك هو آصف بن برخيا الذي كانت له قوة على التصرف في الأشياء و علم بخصائصها و أسرارها.
 
(12) «الخلق الجديد».
(12) بيّنا في التعليق السابق كيف فسر ابن العربي مسألة عرش بلقيس على أساس فكرته في الخلق الجديد، ولكن أمر الخلق الجديد ليس قاصراً على هذه المسألة، بل هو فكرة من أخصب أفكاره يفسر بها كثيراً من المشكلات العويصة الأخرى سواء ما اتصل من ذلك بمسائل ما بعد الطبيعة وما اتصل منها بالتصوف.
فالعليَّة والتعدد والتغير وما إلى ذلك من صفات العالم الخارجي متصلة اتصالًا وثيقاً بفكرته في الخلق الجديد، وكذلك مسألة خلق الأفعال على أيدي العباد وبأي معنى يعتبرهم فاعلين لها وبأي معنى يعتبرهم غير فاعلين وهكذا.
بل إن مسألة الخلق الجديد عنده هي مسألة الخلق إطلاقاً: يفسر بها بأي معنى يصح لنا أن نتحدث عن خلق العالم.
ليس الخلق في نظر ابن العربي إيجاداً لشيء لا وجود له، فهذا مستحيل عقلًا وعملًا، ولا هو فعل قام به الحق في زمن مضى دفعة واحدة ثم انتهى منه، بل هو حركة أزلية دائمة، عنها يظهر الوجود في كل آن في ثوب جديد وتتعاقب عليه الصور التي لا تتناهى عدّا من غير أن تزيد فيه أو تنقص منه شيئاً في جوهره وذاته.
 
فالخلق بمعنى الإيجاد من العدم أو الابتداع على غير مثال سابق، والخالق بمعنى الموجد من العدم أو المبدع على غير مثال سابق، لا محل لهما في مذهبه: و إنما الخالق عنده هو جوهر أزلي أبدي يظهر في كل آن في صور ما لا يحصى من الموجودات، فإذا ما اختفت فيه تلك، تجلَّى في غيرها في اللحظة التي تليها.
 
والمخلوق هو هذه الصور المتغيرة الفانية التي لا قوام لها في ذاتها: أو هي الأعراض التي تتعاقب على هذا الجوهر الثابت الدائم.
وفي هذا تكرار لنظرية الأشاعرة في الجواهر والأعراض و قولهم بالتجدد الدائم للأعراض على نحو ما أشرنا إليه في الفص الثاني عشر (التعليق 13) فما يسميه ابن العربي الخلق الجديد أو تجديد الخلق مع الأنفاس هو بعينه ما يسميه الأشاعرة تجديد الأعراض و إن اختلفت الفكرة الأساسية في المذهبين.
 
ففي هذا البحر اللانهائي من الوجود تتقلَّب الموجودات في كل آن في صور جديدة أو تخلق خلقاً جديداً على حد قول ابن العربي، وإن كان هذا التغير، أو هذا الخلق، غير مدرك بالحسّ.
وهذا في نظره سرّ ما يشعر به الناس من لبس في شأنه. قال تعالى: «بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ» (سورة ق آية 15) وغني عن البيان أن الآية لا صلة لها بشيء مما يقوله.
وعند ما يتحدث عن الفناء الصوفي يضيف إلى معناه العادي معنى فلسفياً متصلًا شديد الاتصال بهذا الخلق الجديد.
فالفناء ليس معناه محو صفات الصوفي أو ذاته، أو تحققه في مقام خاص بوحدته الذاتية مع الحق فحسب، بل هو رمز على محو صور المحدثات محواً مستمراً في كل آن من الآنات، وبقائها في الجوهر الواحد المطلق- الحق. فالفناء ليس معنى يتعارض مع فعل الخلق، بل هو أحد وجهي هذا الفعل، والوجه الآخر هو البقاء.
والخلق سلسلة من التجليات الإلهية: كل حلقة منها ابتداء ظهور صورة من صور الوجود واختفاء صورة أخرى. أي أن اختفاء صور الموجودات في الواحد الحق- وهو فناؤها- هو في الوقت ذاته عين ظهورها في صور تجليات إلهية أخرى- وهو البقاء.
وهذا معنى قوله في الفص الثاني عشر «ويرون أيضاً شهوداً أن كل تجلٍ يعطي خلقاً جديداً ويذهب بخلق: فذهابه هو الفناء عند التجلي والبقاء لما يعطيه التجلي الآخر».
 
ليس بغريب إذن ألا يكون للدار الآخرة بمعناها الديني موضع من فلسفة ابن العربي. فإن العالم الذي هو تجلي الحق الدائم أزلي كما هو أبدي. يصرح عن هذا المعنى كل الصراحة في فتوحاته حيث يقول «النهاية في العالم غير حاصلة، والغاية من العالم غير حاصلة، فلا تزال الآخرة دائمة التكوين عن العالم» «فتوحات ج 1 ص 338 س 15 من أعلى»
وليس دوام تكون الآخرة عن العالم إلا أنها اسم لفناء صور الموجودات عند ما تفنى، كما أن العالم اسم لبقاء صورها عند ما تبقى: أي أن الدنيا و الآخرة مجرد اسمين للوجهين اللذين ينطوي عليهما الخلق الجديد.
 
(13) «ولا علم لأحد بهذا القدر، بل الإنسان لا يشعر به من نفسه أنه في كل نَفَس لا يكون ثم يكون».
(13) أي أن الإنسان لا علم له بهذا التغير الدائم الجاري في الكون بأسره، ولا يحس من نفسه أنه في كل نَفَسٍ و في كل آن ينعدم ثم يخلق من جديد.
ولكن انعدام أي شيء ثم وجوده يقعان في آن واحد من غير أن تنقضي بينهما فترة من الزمان.
ولا يقال إن «ثُمَّ» تقتضي التراخي أو المهلة فإنها ليست كذلك دائماً، فقد تشير إلى ترتب عِلِّيٍ بين علة و معلول يتلاقيان في الزمان الواحد، مثل هز الرديني و اضطرابه في قول أبي داود جارية (أو جويرة) بن الحجاج.
كهز الرديني تحت العجاج  .... جرى في الأنابيب ثم اضطرب
فإن هز الرديني علة في حدوث الاضطراب به و هما حاصلان في الرمح في آن واحد.
و كذلك الحال في «ثُمَّ» إذا استعملت في تفسير معنى الخلق الجديد.
 
(14) «وأما علمه فقوله تعالى «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» - مع نقيض الحكم».
(14) اختص اللَّه سليمان في جملة ما اختصه به من النعم بالعلم والحكم، ولكنه علم من نوع خاص يختلف عن علم أبيه داود الذي ذكره اللَّه أيضاً على سبيل المنة في قوله «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً» «سورة الأنبياء آية 79».
والعبارة تشير هنا إلى نوعي العلم اللذان وهبهما اللَّه داود وسليمان، ونوعي الحكم اللذان صدرا عنهما في قصة الحرث والغنم المشهورة.
فإنه لما نفشت غنم بعض القوم في حرث بعضهم شكا إلى داود وكان بمحضره ابنه سليمان. فقضى داود لصاحب الحرث أن يأخذ الغنم عوضاً عن التلف الذي أحدثته بحرثه.
ولكن ابنه سليمان الذي لم تتجاوز سنه الحادية عشرة حينئذ قضى لصاحب الحرث بأن ينتفع بالغنم: لبنها وصوفها ونتاجها: إلى أن يصلح حرثه: فوافق داود على حكم ابنه سليمان.
هذه هي القصة كما يرويها المفسرون، ولكن ابن العربي يعتبر حكمي داود وسليمان فيها مثالين لنوعين مختلفين من المعرفة يسمى الأول علماً والثاني فهماً- مستنداً إلى الآية: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ».
فحكم داود كان نوعاً من العلم وهبه اللَّه إياه كما وهبه لغيره من بني الإنسان:
أو هو العلم الإنساني العادي المبني على الروية والتفكير أما علم سليمان- الفهم- فهو علم اللَّه خاصة يهبه لمن يشاء من عباده فيظهر فيهم بظهوره تعالى في صورهم، وذلك عند فنائهم فيه وتحققهم بوحدتهم الذاتية معه.
فلم يكن سليمان هو الذي أصدر الحكم بل الحق هو الذي تكلم بلسان الصورة السليمانية الخاصة ولذلك يسميه ابن العربي «ترجمان حق في مقعد صدق».
ومهما يكن من أمر القصة نفسها، بل ومن أمر ما أصدره كل من داود وسليمان فيها من حكم، فإن التفرقة التي وضعها ابن العربي بين العلم والفهم:
أو بين العقل والذوق، تفرقة لها قيمتها في فهم نظريته الإبستمولوجية (الخاصة بطبيعة المعرفة). ومن سوء الحظ أنه ساق هذه القصة مثلًا يوضح به ما يريد، لأنني لا أرى أن حكم سليمان فيها يمت إلى العلم الذوقي في كثير أو قليل على الرغم من أنه كان حكماً أدق وأكثر توفيقاً من حكم أبيه.
 
وأفضل من هذا بكثير المثال الثاني الذي ساقه ليوضح به الفرق بين نوعي المعرفة الآنفي الذكر، وهو مثال العلم عن طريق الاجتهاد. 
فإن الاجتهاد نوعان: 
مصيب وهو ما يأتي موافقاً لحكم اللَّه في مسألة من مسائل الدين بحيث لو تولاها اللَّه بنفسه 
أو أوحى في شأنها إلى رسوله لما حكم فيها بغير ما حكم صاحب هذا الاجتهاد المصيب.
 
وهذا النوع من الاجتهاد وقف على الكاملين من أولياء اللَّه الذين يستمدون علمهم بالشرع من نفس المعدن الذي يستمد منه الرسول. فهم يأخذون علمهم عن الله مباشرة، وبألسنتهم ينطق الله. 
يقول ابن العربي في وصف نوع من أنواع الفتح على الولي «ويكون التنزل على صاحب هذا الفتح من المرتبة التي نزل فيها القرآن خاصة ... فإن كلام الله لا يزال ينزل على قلوب أولياء الله تلاوة، فينظر الولي ما تلي عليه مثل ما ينظر النبي فيما أنزل عليه فيعلم ما أريد به في تلك التلاوة كما يعلم النبي ما أنزل عليه فيحكم بحسب ما يقتضيه الأمر» «الفتوحات ج 2 ص 666 س 10 وما بعده.»
وذا هو المعنى الذي أشار إليه فيما سبق عند ما ذكر النبوة العامة- لا نبوة التشريع- وقال إنها لم تنقض بموت النبي. 
وغني عن البيان أن هذا النوع من العلم لا يصدق عليه اسم «علم الاجتهاد» بأي معنى من معانيه، لأنه لا معنى لاجتهاد الحكم فيه نتيجة للوحي ولا يكون لصاحبه من الأثر فيه إلا تلقي ما يوحى به إليه.
هذا النوع من العلم الاجتهادي هو الذي يذكره ابن العربي في محاذاة علم سليمان.
وأما النوع الثاني فهو الاجتهاد المخطئ الذي لا يأتي موافقا لحكم الله في مسألة من مسائل الدين.
وهو وليد التفكير والاستدلال لا الوحي أو الإلهام، وقد ذكره في محاذاة علم داود.
ولصاحب النوع الأول عنده أجران: أجر لاجتهاده، وأجر لأنه أصاب في اجتهاده. أما صاحب النوع الثاني فليس له إلا أجر واحد لاجتهاده فقط.
 
(15) «فنحن معه بالتضمين، و هو معنا بالتصريح».
(15) لما كان كل ما هو موجود مظهرا ومجلى للوجود الحق، وأعيان الممكنات باقية على حالة عدمها أو موجودة بالوجود الحق، كان الحق معنا (أي الموجودات) ظاهرا صريحا كما قال: «و هو معكم أين ما كنتم» و كانت أعياننا معه باطنا و ضمنا.
هذا إذا فهمنا التصريح والتضمين بمعنى الظهور والبطون أو الفعل والقوة اللذين هما وجها الحقيقة الوجودية.
أما إذا فهمناهما بمعناهما المنطقي على أنهما من أوصاف القضايا، أمكننا أن نقول- اعتمادا على ما ذكرناه آنفا من أن الوجود الحقيقي هو وجود الحق- إن القول الصريح هو «أن الحق هو الموجود»، فإذا أضفنا لأنفسنا وجودا- كما نضيف للظلال وجودا في حين أنها لا جود لها في ذاتها- كان قولنا «نحن موجودون» متضمنا في قولنا «إن الحق موجود».
وكذلك الحال في المشي على الصراط المستقيم الذي هو صراط الوجود، فإن الحق على هذا الصراط صريحا، ونحن عليه بالتبعية لأنه ليس في الوجود إلا الحق، وأعياننا العدمية على الصراط المستقيم بتبعيته.
وهذا معنى كونه آخذا بنواصينا في قوله تعالى: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم».
ومعنى هذا كله أنك إذا نظرت إلى الحقيقة الوجودية من حيث إنها «الحق» كان الوجود الظاهر (العالم) شيئا موجودا فيه بالقوة أو متضمنا كما يقول، وإذا نظرت إليها من حيث إنها الخلق الظاهر، قلت إن ذلك الظاهر مجلى للحق و مظهر و إن الحق متضمن فيه
 
(16) «و أما التسخير الذي اختص به سليمان و فضل به غيره إلخ ... ».
(16) قد شرحنا بعض نواحي التسخير و التصرف في مواضع سابقة من هذا الكتاب
(راجع الفص السادس: التعليق 9، و الفص الثالث عشر كله) و ليس بين معنييهما كبير فرق إلا أن التسخير إخضاع الشيء لقوة خارجة عنه تعمل فيه، و التصرف هو استخدام تلك القوة لإحداث أي تغير في الشيء المسخر.
و يظهر أن ابن العربي يفرق بين نوعين مختلفين من التسخير:
الأول التسخير الحاصل بوساطة قوة خاصة يطلق عليها الصوفية اسم «الهمة».
والثاني تسخير الأشياء بمجرد الأمر من غير استعانة بتلك القوة.
ويلزم من هذا أن من تسخر له الأشياء بوساطة الهمة لا بد أن يكون قد وصل إلى درجة روحية خاصة هي درجة الجمعية التي يوجه بها همته نحو الشيء المراد فيحصل عليه: سواء أكان ذلك من الأمور المتصلة بعالمنا الأرضي أم بالعوالم السماوية الأخرى.
و في هذا يقول: «و إنما قلنا ذلك لأنا نعرف أن أجرام العالم تنفعل لِهَمَم النفوس إذا أقيمت في مقام الجمعية، و قد عاينا ذلك في هذا الطريق».
وهذا صريح في أن هذا النوع من التسخير يكون بقوة مكتسبة يحصل عليها السالك إلى اللَّه أثناء سلوكه، إلا أن بعض السالكين يستخدمها، والبعض الآخر يمتنع من استعمالها (قارن الفص السادس).
أما النوع الثاني من التسخير فهو قوة يهبها اللَّه لمن يشاء من غير كسب ولا رياضة ولا توجيه لهمة أو نحوها.
وقد كان سليمان ممن أوتوا هذه القوة فجرت له الريح رخاء حيث أصاب، وخضعت له الشياطين وغيرها من قوى الطبيعة، ولم يكن عليه سوى أن يأمرها فتأتمر ويطلب منها الفعل فتفعل.
وهذا النوع من التسخير في نظر المؤلف أفضل من الأول وأرقى، لأنه تأثير مباشرة في الأشياء غير مفتقر إلى فعل الإرادة وجمعيتها.
ومعنى هذا أن سليمان- ومن أُعْطُوا موهبته في التسخير قد تحققت فيهم الناحية اللاهوتية إلى أقصى حد فغلبت على ناسوتيتهم، في حين أن غيرهم ممن لم يصلوا إلى مرتبتهم كبعض رجال الصوفية مثلًا- يحتاجون إلى ترويض إرادتهم رياضة خاصة وإلى حال نفسية خاصة يسمونها «مقام الجمع أو الجمعية» لكي يتمكنوا من تسخير الأشياء والتصرف فيها.
 
(17) «ولما قال عليه السلام: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» نبه على أنه كل ما يراه الإنسان ... خيال».
(17) يشير الحديث إلى غفلة الناس في هذه الحياة الدنيا وجهلهم بكثير من الحقائق، وأنهم إذا ماتوا أفاقوا من غفلتهم وانتبهوا من نومهم، فإذا الحقيقة غير ما ظنوا.
وهذا مصداق قول اللَّه عزّ وجل: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ».
ولكن ابن العربي يؤول الحديث تأويلًا آخر صوفياً وفلسفياً يبعده كثيراً عن المعنى المتقدم. 
الناس نيام في نظره: إما بمعنى أنهم في حياتهم هذه كالحالمين لا يرون من حقيقة الوجود إلا مقدار ما يرى النائم من حقائق الأشياء، وإما بمعنى أنهم كالنائمين ما داموا يدركون الوجود بوساطة حواسهم وعقولهم.
فإذا ماتوا: أي فإذا ماتوا عن حواسهم وعقولهم كما هو شأن الصوفية في حالهم الخاصة المعروفة بالفناء، استيقظت فيهم أرواحهم وأدركت حقيقة الوجود بما هي عليه.
كل ما في الوجود أحلام وظلال إذا نظر إليه خلال الحواس والعقول: ولكنه أحلام يجب ردها إلى حقائقها، وظلال يجب ردها إلى أصولها.
إن الذي يدركه الحسّ إنما هو من نسج الخيال، وكل ما هو من نسج الخيال رمز يجب تأويله. 
فعالم الظاهر إذن خيال كله بهذا المعنى، يجب تأويله كما تؤول أحلام النائمين.
أما عالم الباطن أو عالم الحقيقة فليس في متناول الحس إدراكه ولا للخيال سبيل إلى العبث به، وإنما السبيل إلى إدراكه الذوق أو الكشف الصوفي في حالة الفناء الخاصة التي يشير إليها الحديث باسم «الموت» وهو موت الحواس وحياة الروح، وموت الجهل وحياة المعرفة اليقينية الحقة، وموت الوجود الظاهري الكاذب، وحياة الوجود الباطني الحق.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 10, 2020 11:59 pm

17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص السابع عشر حكمة وجودية في كلمة داودية
(1) فص الحكمة الوجودية في الكلمة الداودية داود وسليمان.
(1) تعتبر حكمة هذا الفص تتمة لحكمة الفص السابق في كثير من الوجوه.
فالمؤلف لا يزال يتكلم عن نوعي العلم الوهبي والكسبي اللذين ذكرهما هنالك وخصائص كل نوع منهما، وبأي النوعين اختص كل من داود وسليمان، بل بأيهما اختص الأنبياء أصحاب الشرائع والأنبياء الذين لا شرائع لهم: ومن أي النوعين علم الأولياء وعلم المجتهدين في الشرع وما إلى ذلك من المسائل التي مسها مسا خفيفا فيما سبق وشرحها شرحا وافيا مفصلا هنا.
وهو لا يقصد بسليمان وداود إلا مثالين من أمثلة «الإنسان الكامل» ظهر كل منهما بمظهر خاص من مظاهر الألوهية وتحقق به على الوجه الأكمل، شأنهما في ذلك شأن جميع الأنبياء والأولياء الذين يدخلهم ابن العربي تحت اسم «الكلمات الإلهية» أو الكاملين من أفراد بني الإنسان.
وقد ظهر أن أخص الصفات التي ظهر بها سليمان وتجلت فيه على الوجه الأكمل صفتان: القدرة على التسخير والعلم بحقائق الأشياء.
أما داود فقد امتاز بصفة الخلافة وكان له فيها شأن خاص.
وقد أشرنا فيما مضى في مواضع كثيرة- وسنشير في هذا الفص فيما يلي- إلى أن الخلافة عن الله ليست قصرا على داود عليه السلام، فإن كل نبي، بل كل إنسان خليفة لله في أرضه، من حيث أن الله تعالى خلق الإنسان على صورته، وجعله ممثلا له في إظهار جميع كمالاته الوجودية: وهي صفة لا توجد لغير الإنسان من المخلوقات.
وقد كان هذا موضوع بحث الفص الأول أو الحكمة الآدمية حيث المراد بآدم الجنس البشري بأسره.
أما الفرق الحقيقي بين داود وغيره من «الخلفاء» فهو النص الصريح على خلافته وعدم وجود مثل ذلك النص في خلافة الآخرين.
قال تعالى: «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق .. إلخ،
وقال في حق آدم«وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة» ولم ينص على أنه آدم.
 
ولكن هذا المعنى العام ليس هو المعنى الذي يقصده ابن العربي بالخلافة هنا، ولهذا يحصر كلامه في دائرة الأنبياء والرسل فيما يتعلق بعلمهم بالشرائع وخلافتهم عن الله في ذلك، أو خلافة بعضهم عن بعض ولذلك يفرق تفرقة هامة بين من يسميهم الخلفاء عن الله ومن يسميهم الخلفاء عن الرسل، ويقصر الوصف الأول على كل نبي لا يأخذ علمه بالشرع إلا عن الله مباشرة، كما يصف بالوصف الثاني كل نبي أو ولي يأخذ علمه بالشرع عن رسول صاحب شريعة.
ويسمي خلافة الصنف الأول خلافة التشريع كما يسمي خلافة الصنف الثاني الخلافة العامة.
فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم خليفة عن الله من حيث أخذه شريعته من الله، ولكنه في الوقت نفسه خليفة عن الرسل الذين سبقوه من حيث أخذه عنهم بعض قوانين شرائعهم.
وعيسى عليه السلام سيكون خليفة محمد عند ما ينزل إلى الأرض ويحكم بين الناس بشريعة الإسلام.
وكذلك الحال في كل من أتى بعد محمد وحكم بشرعه.
ولكل من الخلافتين نهاية تنتهي عندها.
فخلافة التشريع قد انتهت بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم.
أما الخلافة العامة- التي يسميها ابن العربي أحيانا بالنبوة العامة، فتنتهي بخاتم الأولياء.
وهذا معناه أن الخلافة العامة قد أصبحت بعد موت محمد عليه السلام تراثا خاصا يرثه أولياء المسلمين عن نبيهم الذي يتبعونه فيما وضع لهم من قوانين شرعه، والذين «يجتهدون» في مسائل الشرع الأخرى التي لم يأت فيها النبي بتشريع صريح.
هؤلاء هم الورثة الروحيون للنبي، ولهم الآن دون غيرهم الخلافة العامة.
هذا هو السر في أن المؤلف يتعرض في هذا الفص لمسألة «الاجتهاد» ويعتبرها مظهرا خارجيا من مظاهر الخلافة الاسلامية.
 
(2) «اعلم أنه لما كانت النبوة و الرسالة اختصاصا إلهيا .. ليست جزاء».
(2) المراد بالنبوة هنا نبوة التشريع لا النبوة العامة التي تصحب صفة الولاية عادة.
وقد نص على أن النبوة (بهذا المعنى) والرسالة اختصاصان إلهيان ليس فيهما شيء من الاكتساب، ولكن نظريته العتيقة في الجبر لا تدع مجالا للتفرقة بين صفة أو حال مكتسبة وصفة أخرى أو حال يمنحها الله على سبيل الاختصاص.
وقد صرح بجبريته هذه في مواطن كثيرة من هذا الكتاب لا سيما في الفص الشيثي حيث بين أن أعيان الموجودات لا تعدو في ظهورها ما كانت عليه في حال ثبوتها، وأن كل موجود إنما هو مظهر من مظاهر الحق التي لا تحصى يتجلى فيه الحق بحسب استعداد عين الموجود نفسه.
وإذا كان الأمر كذلك لم يعد فرق بين أن يقال إن الله قد وهب كذا من الأشياء الصفة الفلانية على سبيل المنة، وأن يقال إن عين ذلك الشيء قد اقتضت ظهوره بهذه الصفة أي أنها كانت من كسبه هو.
ويزداد الأمر وضوحا عند ما نحلل تحليلا دقيقا ما أورده ابن العربي نفسه في الفتوحات المكية (ج 1 ص 51).
من تعريف للكسب حيث قال «الكسب تعلق إرادة الممكن بفعل ما دون غيره، فيوجده الاقتدار الإلهي عند هذا التعلق: فسمي ذلك كسبا للممكن».
ولكن أ ليس هذا كسبا صوريا محضا لأن تعلق إرادة الممكن بأمر دون غيره- اختياره هذا الشيء دون ذلك- راجع إلى ما تعين أزلا في طبيعة ذلك الممكن.
وفي الحق يجب أن نقول إن كل نبي وكل رسول أو ولي إنما كان كذلك من الأزل لأن طبيعة أعيانهم الثابتة قد اقتضت أن يكون كل منهم على ما هو عليه.
ولكن ابن العربي، حرصا على المحافظة على كرامة الرسل، وإبقاء على مركزهم الديني الخطير ومركز الرسالات التي بعثوا بها إلى الناس،
قد وضع حدا فاصلا بين نوعين من النبوة:
النوع الأول وهو ما يسميه نبوة الاختصاص غير المكتسبة،
والنوع الثاني وهو النبوة المكتسبة.
ولا يطلب الله على منح النوع الأول جزاء ولا شكورا، كما أنه لا يمنحه لمن أراد في مقابلة عوض.
أما النوع الثاني وهو النبوة المكتسبة فهو درجة من درجات الروحية التي يصل إليها الإنسان بطرق خاصة، كما يصل الصوفية إلى حالتهم الروحية الخاصة المعروفة بحال الوجد أو الفناء.
 
(3) الاجتهاد.
(3) تستعمل كلمة الاجتهاد في الفقه الإسلامي للدلالة على المنهج الخاص الذي يتبع في الوصول إلى قانون من قوانين الشرع لم يرد فيه نص صريح في الكتاب أو السنة، وإن كان يجب أن يستند إلى أصل ما من الأصول الواردة في القرآن أو الحديث الصحيح.
وعلى هذا فالاجتهاد نوع واحد لا أنواع كثيرة، وهو حق لكل مسلم يأنس من نفسه القدرة على القيام به وتكون فيه الأهلية لذلك، وإن كان العرف الاسلامي قد جرى باعتبار الأئمة الأربعة هم المجتهدين دون غيرهم.
والحق أنه لا معنى لهذا الحصر ولا لإقفال باب الاجتهاد في وجه أي مسلم بعد الأئمة الأربعة ما دمنا نفهم الاجتهاد على أنه نوع من التفقه في الدين والبحث في أحكام الشرع بحثا يعتمد على طريقة القياس وطرق الاستدلال الفقهية الأخرى، وما دامت الشروط اللازمة له متوافرة في الشخص الذي يقوم به.
ولكن ابن العربي يعطينا في هذا الفص وفي الفص الذي سبقه صورة جديدة عن الاجتهاد مختلفة تماما عما يفهمه فقهاء المسلمين منه.
فالمجتهد في نظره ليس المسلم الذي تفقه في الدين وأعمل عقله في استنباط الأحكام غير المنصوص عليها، بل هو خليفة الرسول، أو هو "الإمام".
ويظهر أن استعمال كلمة «أمام» هذا الاستعمال الخاص راجع إلى تأثر نظرية ابن العربي بأفكار الشيعة في الإمام المعصوم." .
الذي أخذ علمه بالشرع من نفس المنبع الروحي الذي أخذ منه الرسول علمه:
وهو بهذا المعنى وارث الرسول بل مشارك له في رسالته، وله القدرة على أن يغير ما شاء من قوانين الشرع التي وصل إليها غيره من المجتهدين كما سيحدث عند ما ينزل عيسى عليه السلام إلى هذه الأرض ويحكم فيها بشرع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه سيرد الإسلام إلى سيرته الأولى، وينقض بعض أحكام المجتهدين من المسلمين لا سيما ما حدث فيها خلاف حول نص خاص من نصوص الدين. بل إن لهذا الخليفة الإمام الحق في أن يرفض التسليم بصحة أي حديث نبوي اتخذه غيره أساسا لاجتهاده في مسألة من المسائل ثم كشف لهذا الإمام عن خطأ هذا الاجتهاد.


وعلى هذا فللاجتهاد نوعان عند ابن العربي: الأول اجتهاد الأولياء (وهم الأئمة الخلفاء الذين أشرنا إليهم) وهو حكمهم في مسألة من مسائل الشرع بما يطابق ما ورد في شريعة الرسول- أو يطابق حكم الله في هذه المسألة لو أن الله تعالى قد تولاها بنفسه.
ولهؤلاء الأولياء نفس المرتبة الروحانية التي للرسل، وعلمهم بالشرع المحمدي مستمد من نفس المصدر الذي استمد منه محمد عليه السلام علمه بشرعه، لأنهم يأخذون هذا العلم عن الله مباشرة، ويترجمون هذا العلم إلى الناس.
 
فهم ألسنة الحق بين الخلق، وهم الكاملون من الناس الذين لم يزل الله يلقي كلامه إلى قلوبهم: «فإن كلام الله ينزل على قلوب أولياء الله تلاوة فينظر الولي ما تلي عليه مثل ما ينظر النبي فيما أنزل عليه فيعلم ما أريد به في تلك التلاوة كما يعلم النبي ما أنزل عليه فيحكم بحسب ما يقتضيه الأمر».
وهذا معناه أن النبوة العامة لم تنقطع بموت النبي محمد عليه السلام وإن كانت الرسالة قد انقطعت.
والنوع الثاني من الاجتهاد هو اجتهاد أرباب النظر الذين يعتمدون على العقل والاستدلال دون الذوق والكشف: إن صح أي إن طابق ما ورد في الشرع فبمحض المصادفة، وإن أخطأ فلا سبيل لمعرفة صاحبه بخطئه ولا لمعرفة غيره ممن يتخذون العقل عمادا لهم في اجتهادهم بمثل هذا الخطأ.
وإنما يعرفه الولي الذي تنكشف له أصول الشرع وقوانينه بالإلهام والذوق.
 
(4) «و أما قوله عليه السلام إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ... »
(4) اختلف الشراح في تفسير هذه الفقرة لصعوبتها ورداءة أسلوبها.
غير أن معناها العام يمكن أن يلخص فيما يأتي: للخلافة نوعان:
1 - خلافة روحية أو باطنة.
2 - و خلافة حكم أو ظاهرة.
و كلا الخلافتين فيه تمثيل لله و نيابة عنه في الأرض، و لا يختلفان إلا في أن الخليفة الباطن يستمد علمه من الله مباشرة، في حين أن الخليفة الظاهر ليس إلا تابعا للرسول يستمد علمه منه.
و الأول هو خليفة الله على الحقيقة.
أما الثاني فهو خليفة الله من حيث هو خليفة رسول الله.
ولا يستحق اسم الخلافة إلا إذا عدل في خلافته.
لم يذكر النبي في الحديث المذكور شيئا عن عدد الخلفاء الباطنيين، فقد يوجد منهم في الزمان الواحد واحد أو أكثر من واحد، ولو أن بعض الشراح مثل القاشاني والقيصري قد قرروا استحالة وجود أكثر من خليفة باطني واحد في أي زمان، وذلك الخليفة هو الذي يسمونه بالقطب.
غير أن الحديث صريح في أنه إذا بويع خليفتان في زمان واحد وجب قتل الآخر منهما فلا بد أن يكون المراد بالخلفاء هنا الخلفاء الظاهريين.
وحكمة القتل في نظر المؤلف ترجع إلى أن مبايعة خليفتين كل منهما ممثل لله في الأرض توهم بوجود إلهين لأن قبول الاثنين على أنهما ممثلان ظاهران لله يتضمن التسليم بوجود إلهين، وهذا مخالف لعقيدة التوحيد الاسلامية، أما الخلفاء الباطنيون فلا يظهرون بين الناس بخلافتهم ولا يعرفون بها ولا بيعة لهم فلا خطر منهم على عقائد الناس.
هذا هو السر في نظر ابن العربي في أن الإسلام يسمح بكل نوع من أنواع الخلاف في الرأي في مسائل الفقه- ما دامت مستندة إلى اجتهاد صحيح- في حين أنه يحارب ما استطاع الخلاف في الرأي فيما يتعلق بالخلافة الظاهرة.
 
(5) «و لهذا جعلها أبو طالب عرش الذات ... ».
(5) الإشارة هنا إلى المشيئة الإلهية التي بمقتضاها يقع كل ما يقع في الكون من أحداث.
أما أبو طالب فهو محمد بن علي المكي مؤلف قوت القلوب المعروف توفي سنة 386 هـ.
يشير ابن العربي إلى أبي طالب وقولته هذه في غير الفصوص من كتبه: راجع الفتوحات ج 2 ص 51، ج 3 ص 62، ج 4 ص 55.


يسمي أبو طالب المكي المشيئة عرش الذات، ويسميها ابن العربي أحيانا بالوجود (فتوحات ج 4 ص 55 س 6 من أسفل)
وبالحق (الله) ويميزها عن الإرادة الإلهية التي تخرج إلى الوجود بالفعل كل ما هو موجود بالقوة، أما المشيئة فهي القوة الإلهية التي تقضي بأن يكون كل ما في الوجود مما هو بالفعل أو بالقوة على النحو الذي هو عليه.
فهي في الحقيقة عين الله أو هي القوة الخالقة السارية في الوجود بأسره الظاهرة في صور ما لا يحصى عدده من مظاهر الكون.
هي الحقيقة أو الشيء في ذاته أو المطلق في اصطلاح بعض المحدثين مثل شوبنهور.
أما تسميها بعرش الذات فراجعة إلى أنه بواسطتها تظهر الذات الإلهية في صورة العالم الخارجي الذي يطلق عليه الصوفية أحيانا اسم العرش.
أما عن الفرق بين المشيئة والإرادة فراجع مطلع الفص الثالث والعشرين.
 
(6) «وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل لا على من ظهر على يديه».
(6) يريد بذلك أن المشيئة الإلهية تقضي بوجود أفعال العباد من حيث هي أفعال لا بأن هذه الأفعال تظهر على يد فلان أو فلان من الفاعلين، وإلا استحال على أي إنسان بعينه أن يأتي فعلا غير ما قضت به المشيئة.
فهنا نوع من الجبرية ولكنها جبرية منصبة على المشروط الذي هو الفعل لا على الشرط الذي هو الفاعل.
وليس هناك تناقض بين أن يشاء الله حصول معصية من المعاصي وبين تحريمه ارتكابها، فإن فعل المعصية من حيث هو فعل تقضي به المشيئة الإلهية، وليس لها شأن بتحققه على يد فلان أو فلان من الناس، فإن هذا التحقق يرجع أمره إلى الناس أنفسهم، فإن فعلوا ما يوافق الأمر الإلهي (أمر الشرع) سمي فعلهم طاعة، وإن فعلوا ما يخالف ذلك الأمر سمي فعلهم معصية.
 
والفعل في كلتا الحالتين موافق تمام الموافقة للأمر التكويني الذي به تظهر الأشياء في وجودها على نحو ما كانت عليه في ثبوتها في العلم القديم. راجع التعليق التاسع في الفص الثامن.
 
(7) «ويتبعه لسان الحمد أو الذم على حسب ما يكون».
(7) لا يعتبر الفعل محمودا أو مذموما إلا في نظر الشرع لأنه إما أن يوافق أو يخالف الأوامر الشرعية التي أتى بها دين من الأديان.
أما في نظر الله أو في نظر المشيئة الإلهية التي لها أمر التكوين، فالأفعال لا محمودة و لا مذمومة، و لكنها حتمية الوقوع لأنها صادرة عن المشيئة الإلهية القديمة الخاضعة بدورها لطبيعة الأشياء ذاتها فالجبرية التي يقول بها ابن العربي ليست راجعة إلى عامل خارج عن طبيعة الأشياء بل مصدرها في النهاية طبائع الأشياء ذاتها. راجع الفص الثامن.
 
أما مشيئة الله تعالى حدوث الأفعال التي توافق أوامر الشرع وحدوث الأخرى التي تخالفها، فلإظهار أثر صفات الجلال والجمال في صور خارجية.
فإن الطاعة وما يتبعها أثر ومظهر لصفات الجمال، والمعصية وما يتبعها أثر ومظهر لصفات الجلال.
ويحاول ابن العربي أن يحمل الإنسان جزءا من تبعة أعماله في وسط هذه الجبرية الصارخة التي يقول بها.
فإنه يرى أن الطاعة والمعصية يصدران عن طبيعة الإنسان نفسه.
فإن الإنسان الذي يطيع الأمر الإلهي أحيانا ويعصيه أحيانا أخرى يطيع في الوقت نفسه دائما طبيعته الخاصة التي تخضع لقانون الوجود العام.
وذا القانون هو قانون المشيئة الإلهية. فمن حيث خضوع الإنسان في أفعاله لطبيعة ذاته يجعله ابن العربي مسئولا عن خيرها وشرها و إن كان في الوقت نفسه يسلب هذه الطبيعة كل قوة عند ما يخضعها لقانون المشيئة الإلهية.
 
(8) «فيكون الحكم لها في كل واصل إليها بحسب ما تعطيه حال الواصل إليها».
(8) من الواضح أن المراد بالرحمة هنا هو منح الوجود للموجودات لا الرحمة بمعناها الديني المعروف.
وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع أخرى من هذا الكتاب، وبهذا المعنى وسعت رحمة الله كل شيء وتقدمت على كل شيء حتى على الغضب الإلهي الذي هو الحرمان من الوجود.
فإذا رحم الله شيئا بهذا المعنى أوجده في الصورة التي تقتضيها طبيعة الشيء ذاته.
وهذا معنى قوله إن حكم الرحمة في المرحوم يكون لها بحسب ما تعطيه حال المرحوم نفسه.
وليست الرحمة الإلهية قاصرة على إيجاد الأشياء، أي أعيان الموجودات، بل تشمل الأفعال الانسانية أيضا.
قارن الفص السادس عشر، التعليق الثالث.
 
(9) «فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا».
(9) سبق أن ذكرنا أن كلمة فهم ترادف في اصطلاح ابن العربي كلمة الذوق أو الكشف الصوفي. قارن الفص 16 تعليق 19.
وهو يرى أن الفهم وحده هو الوسيلة التي يعرف بها الإنسان كيف وسعت الرحمة الإلهية كل شيء، وكيف كانت الغاية التي يتجه إليها كل شيء، فإن غاية كل موجود هي أنه يوجد، والرحمة الإلهية هي الموصلة إلى ذلك الوجود.
 
(10) «فجاء الشرع المحمدي بأعوذ بك منك .. فهذا روح تليين الحديد».
(10) في هذه الفقرة موازنة بين الحماية من الحديد بالحديد، و الاستعاذة من الله بالله.
وفي كلتا الحالتين يشير ابن العربي إلى مغزى فلسفي له خطره في نظريته العامة وهو فكرة الوحدة في الكثرة أو ذاتية المتغايرين. فالحديد الذي تصنع منه الدروع الواقية هو نفس الحديد الذي تصنع منه السيوف والرماح، وإن اختلفت صوره، فالذي بحمى من الحديد هو الحديد نفسه.
والله الرحمن الرحيم هو هو الله الموصوف بأنه المنتقم الجبار، وإن اختلفت عليه الأسماء والصور، فالله المستعاذ به في الحديث الشريف هو هو الله المستعاذ منه، وكما أن الحديد يفل الحديد ويحمى منه، كذلك تمحو صفة الرحمة صفة الغضب والانتقام ونحوهما.
هذا هو المغزى الفلسفي الذي يفهمه ابن العربي من تليين الحديد.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأحد يناير 19, 2020 6:33 pm

18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليونسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفص الثامن عشر حكمة نفسية في كلمة يونسية
18 - فص حكمة نفسية في كلمة يونسية
(1) فص حكمة نفسية في كلمة يونسية
(1) النقطة الأساسية التي يحوم حولها هذا الفص هي الإنسان، طبيعته و منزلته من الوجود، و لذا نجد وجوه شبه كثيرة بينه و بين الفص الأول لا سيما في اعتبار الإنسان كونا جامعا صغيرا يحوي الكون الجامع الأكبر و يمثل عناصر الوجود فيه.
و لكننا نجد في هذا الفص خاصة إشارات قوية إلى القيمة الانسانية و كرامة الإنسان عند الله الذي خلقه على صورته، كما نجد دعوة حارة من المؤلف إلى الإبقاء على النوع الانساني و صيانته، و تحذيرا قويا ضد هدم النشأة الانسانية لأن في هدمها قضاء على أكمل صورة لله في الوجود.
و للفص صلات أخرى بالفصين السابقين عليه لا سيما فيما يتصل بموضوع الخلافة، غير أن هذا الموضوع يعالج هنا معالجة خاصة من الناحية السيكولوجية، فإن المؤلف يشرح النفس الانسانية و طبائعها الثلاث و يبين أنه ما دام الإنسان حيا فإنه يرجى له أن يصل إلى أعلى درجة من درجات الكمال التي يستطيع أن يصل إليها.
أما نسبة حكمة هذا الفص إلى يونس فلا يمكن تعليلها إلا على أساس أن المؤلف يعتبر يونس مجرد رمز للنفس الانسانية الناطقة التي نادت ربها في ظلمات البدن- المرموز إليه في القرآن بالحوت- فإنه صاح في الظلمات «أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» (قرآن س 21 آية 88).
و إذا كان في مقدور النفس الانسانية وحدها أن تعرف الله و أن تسبحه و تقدسه، فهي الجديرة وحدها بأن تحمل اسم الإنسان و أن تكون منه موضع الكرامة.
بهذه الطريقة نستطيع أن نفسر الصلة بين موضوع هذا الفص واستعمال اسم يونس هذا الاستعمال الرمزي.
 
(2) «ذكر الله».
(2) الذكر في الأصل معناه التلفظ أو التذكر، و لكن هذه الكلمة قد اكتسبت معنى أوسع من هذا في الاصطلاح الصوفي غير أنها تستعمل في هذا الفص استعمالا خاصا محدودا،
فإن المؤلف يستعملها مرادفة لكلمة الفناء بالمعنى الذي يفهمه أصحاب وحدة الوجود: أعني الحال التي يتحقق فيها الصوفي بوحدته الذاتية مع الله.
فذكر الله معناه هنا الحضور مع الله والفناء فيه وهذا يقتضي الصوفي أن يجمع جميع قواه البدنية والروحية بحيث يكون حضورها جميعا تاما مع الله، وإذا وصل الصوفي إلى هذا المقام انكشف له الحق وانمحى كل أثر بين الواحد والكثير: أي بين الحق والخلق والذاكر والمذكور وتحققت وحدة الاثنين.
وغني عن البيان أن المراد «بذكر الله» الوارد في الحديث التعبد جملة والتأمل الذي ينأى بصاحبه عن الفحشاء والمنكر، ويحصل له الطمأنينة النفسية كما وردت بذلك الآيات القرآنية: قال تعالى: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر».
وقال: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب».
ولكن الذكر كما يفهمه ابن العربي ويشرحه فيما بعد معناه كما قلنا التحقق بوحدة الوجود وهو في نظره أعلى مرتبة من ذكر أي كائن آخر، لأنه صادر عن أكمل المخلوقات.
على أن ذكر الإنسان لله قد يكون في مراتب أخرى أدنى من هذه وذلك إذا كان صادرا عن اللسان وحده أو القلب وحده.
أما إذا صدر عن الإنسان في مرتبة الجمعية وسرى في كل جزء من أجزائه الروحية والبدنية فإنه يمثل أرقى حال وأكمل سعادة يمكن أن يصل إليهما السالك إلى الله.
في هذا تتمثل الكرامة الانسانية ويظهر فضل الإنسان على سائر المخلوقات حتى الملائكة، فإن كل مخلوق يذكر الله ويتجلى له الله بحسب مرتبته في الذكر وهذا معنى أشار إليه ابن العربي في مواضع أخرى عند ما تكلم عن تسبيح الكائنات وتقديسها لله.
ويكون تجلي الله للعبد أكمل ما يكون عند ما تتحقق الوحدة بين الذاكر والمذكور ولا يكون هذا إلا للإنسان.
ولذا يقول ابن العربي فيما بعد «وذلك أنه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانية إلا من ذكر الله الذكر المطلوب منه».
 
(3) «فإذا أخذه إليه سوى له مركبا غير هذا المركب من جنس الدار التي ينتقل إليها، و هي دار البقاء».
(3) لا يعتبر ابن العربي أن في الموت فناء للميت و إنما هو تفريق أجزاء.
بل إن للموت عنده معنى أوسع بكثير من المعنى العادي لأنه يمثل نقطة الانتقال من حال إلى حال أو من صورة إلى صورة في مجرى الوجود الدائم التغير والتحول:
فإن كل موجود ينتقل في كل آن من صورة إلى صورة أخرى فيفنى في الأولى ويبقى في الثانية.
وهذا هو الخلق الجديد كما أشار إليه مرارا.
فالموت إذن هو فناء الصور، أما الذات التي تعرض لها هذه الصور فهي باقية على الدوام.
على أن العبارة المذكورة قد يفهم منها معنى التناسخ على نحو ما يفهمه فلاسفة الإشراق، فإننا لا نعرف على سبيل التحقيق ما يريد ابن العربي بالصورة (التي يشير إليها باسم المركب) التي يسوي الله للإنسان غيرها عند ما يأخذه إليه، ولكن ليس هناك من شك في أنه لا يدين بمبدإ عودة الإنسان إلى هذا العالم بشخصه في أية صورة أخرى، فإنه يصرح أن الدار التي ينتقل إليها الإنسان هي دار البقاء.
وليس لها معنى في عرف أصحاب وحدة الوجود إلا الذات الإلهية.
ليس في هذه الدار إذن موت، أي ليس فيها تفرق في أجزاء الجسم.
وفي هذا إشارة إلى أن المركب الذي يسويه الله للإنسان عند ما ينتقل إليه ليس جسما.
على أن بعض شراح الفصوص يرون أن ذلك المركب سيكون من صورة مثالية تختلف في لطافتها أو كثافتها بحسب المرتبة الروحية التي بلغها المنتقل إلى الله

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالإثنين يناير 27, 2020 3:54 pm

19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د.أبو العلا عفيفي

تعليقات د.أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الأيوبي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
19 - فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية
الفص التاسع عشر حكمة غيبية في كلمة أيوبية
(1) فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية
(1) يبحث هذا الفص بوجه عام في عالم الغيب الذي يشير إليه أصحاب وحدة الوجود بهوية الحق و يشير إليه ابن العربي خاصة باسم النفس الرحماني و باسم الماء الوارد ذكره في القرآن في قصة أيوب.
 و ليس المراد بأيوب هنا النبي المعروف المشهور بالصبر و احتمال الأذى و البلاء الذي ابتلاه الله به، بل يصوره ابن العربي بصورة السالك إلى الله الباحث عن العلم اليقيني بعالم الغيب.
أما الألم الذي يحسه ذلك السالك فليس بالألم الجسماني الذي يصاحب أحيانا أدواء البدن، و لكنه عذاب روحي يشعر به رجل محجوب عن حقائق العلم اليقيني، فهو يدعو الله أن يكشف عنه ضره فيكشف الله عنه ضره بأن يريه مغتسل الماء الذي تحت قدميه و يأمره بأن يغتسل فيه.
فلما اغتسل أيوب بالماء ذهب عنه ضره لأنه رفع عنه الحجاب و ظهر له الطريق إلى الله.
فالماء رمز لعالم الغيب كما قلنا أو هو رمز لمبدإ الحياة الساري في جميع أجزاء الوجود، أو هو الله. 
فباغتساله في الماء أي بانغماسه في بحر الوجود عرف سر الوجود، أو بعبارة أخرى بشربه من الماء أروى تعطشه إلى العلم بحقيقة الوجود و هي الله.
أما ما عدا هذه المسألة من المسائل التي يعالجها الفص فمرتبط بها ارتباط النتيجة بالمقدمات لا سيما مسألة الأسباب النوعية و السبب الواحد العام الذي هو الله.

(2) «فأشار إلى نسبة التحت إليه كما أن نسبة الفوق إليه».
(2) يرى المؤلف أن نسبتي «الفوق» و «التحت» نسبتان لله بمعنى خاص سنشرحه فيما بعد.
أما القرآن فقد وردت فيه نسبة «الفوق» إلى الله في مثل الآيات الآتية: «يخافون ربهم من فوقهم» و «و هو القاهر فوق عباده» و غيرهما.
و لكن المراد بالفوقية هنا مجموع صفات الألوهية فإن كل آية وردت فيها هذه الفوقية تشير إلى ناحية خاصة من نواحي صلة الألوهية بالكون.
و لكن ابن العربي يشير إلى نسبة أخرى بين الحق و الخلق أو بين الله و العالم و هي نسبة «التحتية» ثم يشرع في تلمس مصدر من القرآن أو الحديث يعزز به فكرته فلا يجد إلا الحديث القائل «لو دليتم بحبل لهبط على الله»، و هو في نظره دليل كاف على نسبة التحتية إلى الله على معنى أن الله أصل كل الموجودات و أساسها.
على أنه تلمس لفكرته أسانيد من القرآن أيضا فعثر على بعض النصوص التي أولها تأويلا بعيدا خرج بها عن معناها الأصلي مثل قوله تعالى: «و لو أنهم أقاموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم».
و الفكرة التي يريد أن يشير إليها بسيطة و واضحة بقطع النظر عما يؤيدها به من حديث أو نص قرآني، ذلك أن نسبة التحتية عنده نسبة الذات الإلهية الواحدة إلى صور الموجودات الكثيرة المتجلية فيها. هي بعبارة أخرى مذهبه في وحدة الوجود.

و قد يبدو أن بين نسبتي الفوقية و التحتية تناقضا ظاهرا لأن الأولى تشير إلى فكرة عن الله (بالمعنى الديني) في حين أن الثانية تشير إلى فكرة الواحد في الكل (فكرة وحدة الوجود).
و لكن لا وجود لهذا التناقض في الحقيقة، لأن ابن العربي لا يعتبر الفوقية و التحتية إلا وجهين لنظرنا نحن إلى حقيقة الوجود الواحدة: فإن الله في نظره ليس الإله الذي يصوره الدين و إنما هو الحقيقة الوجودية التي إن نظرنا إليها من وجه قلنا إنها «فوق» كل شيء بمعنى أنها تتعالى عن كل شيء، و هذه هي صفة التنزيه التي شرحناها من قبل،
و إذا نظرنا إليها من وجه آخر قلنا إنها «تحت» كل شيء أو إنها أصل كل شيء- و هذه هي صفة التشبيه التي ذكرناها أيضا.


(3) «و إنما قلنا هذا من أجل من يرى أن أهل النار لا يزال غضب الله عليهم دائما أبدا في زعمه».
(3) الإشارة هنا إلى مسألة النعيم الدائم و العذاب الدائم في الدار الآخرة،
و قد شرحنا هذه المسألة في الفص السابع (التعليقين 15، 16) (راجع أيضا الفتوحات ج 3 ص 98 السطر الرابع من أسفل).

 
(4) «فزال الغضب لزوال الآلام ... إلى قوله حجابا و سترا».
(4) أي فزال غضب الله عن أهل النار بزوال الآلام عنهم، و ذلك لأن صفة الغضب لا تكون لله إلا عند ما يعذب أهل النار بآلامها، فإن زالت هذه الآلام عنهم ارتفع وصف الغضب عن الله، و ابن العربي يعتقد أن عذاب أهل النار إلى حين، و أن مآلهم في النهاية إلى النعيم المقيم، كما يعتقد أن وصف الغضب وصف يزول عن الله بزوال سببه و أن وصفه بالرضا إنما هو الوصف الدائم الذي لا يزول عنه أبدا.
غير أننا يجب أن نتذكر أن اللغة الرمزية التي يصوغ بها المؤلف نظريته في وحدة الوجود لا تسمح بوجود جنة حقيقية ولا نار حقيقية في دار غير هذه الدنيا.
فإن النار عنده ليس لها معنى إلا «ألم الحجاب» أو الحال التي لا يدرك فيها الإنسان الوحدة الوجودية للموجودات، كما أن الجنة عنده ليست سوى الحال التي يدرك فيها الإنسان هذه الوحدة.
والحجاب عن الحقيقة يستلزم الألم كما أن إدراكها على الوجه الصحيح يستلزم السعادة.
وحيث إن الحق في زعم ابن العربي هو هوية كل موجود فإنه يلزم من ذلك أنه هو الذي يشعر بهذه السعادة أو ذلك الألم في صورة كل من يشعر بهما.
فأهل التنزيه عنده محجوبون عن الحقيقة لأنهم ينزهون الحق عن الاتصاف باللذة أو الألم أو ما شابههما من صفات الحوادث، أما أصحاب الكشف والذوق فلا يتحرجون عن وصف الحق بهذه الأوصاف بل ينسبون كل ما يجري في الكون إليه على أنه حادث فيه.

يقول ابن العربي إن قوله تعالى: «وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه» 
يمكن تفسيره على وجهين: 
الوجه الصوفي وهو الذي يرد كل شيء إلى الله لأن كل شيء منه وإليه، 
والوجه الآخر هو رأي المتكلمين الذين يعتبرون الله مخالفا لجميع الحوادث وينظرون إليه من حيث هو إله معبود، 
فإن العبادة تتضمن اثنينية العابد والمعبود ولا يقول بهذه الاثنينية إلا المحجوبون عن حقيقة الوحدة الوجودية.


(5) «ثم كان لأيوب عليه السلام ذلك الماء شرابا لإزالة ألم العطش الذي هو من النصب والعذاب الذي مسه به الشيطان».
(5) كلمة شيطان مشتقة من شطن التي من معانيها بعد، فالشيطان الذي مس أيوب و ورد ذكره في القرآن في قوله: «أني مسني الشيطان بنصب و عذاب» إنما هو البعد عن الحقيقة و الجهل بها.
ومن معاني كلمة شيطان في اللغة العربية عطش الصحراء لأن العرب يسمون العطش شيطان القلا.
ولهذا قرن المؤلف الشيطان بالماء الذي شربه أيوب ليزيل عنه ألم ذلك العطش، فهو لا يريد بالشيطان مطلقا المعنى المتعارف. فالعطش الذي أحس أيوب بألمه- كما شرحنا ذلك في التعليق الأول من تعليقات هذا الفص- إنما كان شوقه إلى معرفة الحقيقة التي كان يجهلها، و الشيطان الذي مسه بالنصب و العذاب لم يكن سوى حالة الحرمان الروحي التي كان عليها. (راجع الفيروزآبادي في مادة شطن).


(6) «فكل مشهود قريب من العين ولو كان بعيدا بالمسافة، فإن البصر يتصل به من حيث شهوده ولو لا ذلك لم يشهده، أو يتصل المشهود بالبصر».
(6) تشير هذه العبارة إلى نظريتين من أقدم النظريات في الإبصار:
الأولى نظرية أفلاطون في طيماوس وهي أن البصر كغيره من الحواس يدرك المبصرات إدراكا لمسيا بواسطة شعاع يخرج من العين ويقع على الأشياء المبصرة،
والثانية هي نظرية أرسطاطاليس وهي أن المبصرات تنطبع صورها على شبكية العين عند ما ينيرها مصدر من مصادر الضوء، وعلى كلتا النظريتين يحصل اتصال مباشر بين البصر والمبصرات مهما بعدت المسافة بينهما.


(7) «ولهذا كني أيوب في المس فأضافه إلى الشيطان مع قرب المس».
(7) لو فهمنا الشيطان على أنه حالة البعد، والمس على أنه حالة القرب، كان معنى قول أيوب: «أني مسني الشيطان» أن حالة البعد عن إدراك الحقيقة قد قربت مني قرب اللامس من الملموس.
فهو يستعمل كلمة مس على سبيل الكناية بدلا من كلمة قرب، وينسب المس إلى الشيطان الذي هو البعد، بالرغم من أن المس يقتضي القرب أو أنه هو القرب نفسه.
فكأنه قال: «إنني قريب من حالة البعد عن إدراك الحقيقة».
ويتضح المعنى بعض الشيء عند ما نقرأ قول المؤلف بعد ذلك «البعيد مني قريب لحكمه في».
فالبعيد منه هو إدراكه للحقيقة الوجودية، و هو يلمس في نفسه أثر ذلك البعد (و هو الذي يسميه بالحكم)، أو أن حالة الحجاب عن الحقيقة شديدة القرب مني لأني أحس بها.
 

(8) «و اعلم أن سر الله في أيوب الذي جعله عبرة لنا و كتابا مسطورا حاليا ... »
(8) يمكننا أن نقرأ الكلمة حاليا بتشديد الياء على أنها نسبة إلى الحال أو بالياء المخففة حاليا على أنها من الحلية
و يقرؤها جامي في شرحه على الفصوص (ج 2 ص 243) حاكيا أي مخبرا،
فمعنى الجملة:
على الوجه الأول أن الله جعل من قصة أيوب لنا كتابا مسطورا ندرك معناه بالحال أي بالذوق الصوفي،
و على الوجه الثاني أن الله صاغ لنا قصة أيوب في كتاب مسطور مزدان بالحكمة و الموعظة،
و على الوجه الثالث أن الله أخبرنا بقصة أيوب في كتاب مسطور يحكي لنا أمره.
وجامي هو المفسر الوحيد الذي انفرد بهذه القراءة الأخيرة ولم أجد في نص من النصوص القديمة ما يؤيدها.


(9) «و إنما جنح إلى سبب خاص لم يقتضه الزمان و لا الوقت».
(9) يشير إلى عدم استجابة الله لدعاء بعض الناس لأنهم لا يتوجهون في دعائهم إلى الله ذاته وإنما يتوجهون إلى الأسباب الخاصة:
أي لا يتوجهون إلى المسبب بل يتوجهون إلى الأسباب التي لا فعل لها ولا أثر لها من ذاتها، وإنما تفعل وتؤثر لأن الله يفعل عند حضورها.
والأسباب الخاصة التي يفعل الله عند حضورها كثيرة. 
فإذا اتجه الإنسان بالدعاء إلى الله أن يكشف عنه ضرا بواسطة سبب خاص ولم يتعلق العلم الإلهي بهذا السبب ولم يقتضه زمان معين أو وقت خاص قدر الله فيه رفع الضر عن هذا الداعي، لم يحصل له استجابة من الله، فيظن الداعي أنه دعا الله ولم يستجب له، والواقع أنه لم يدع الله وإنما دعا ذلك السبب.
 
بقي أن نشرح الوقت و الزمان.
أما الزمان فهو في عرف الفلاسفة مقياس حركة الفلك الأطلس.
و في عرف المتكلمين مجموعة من الآنات نستطيع بوساطتها أن نعين وقوع حدث غير معلوم بحدث معلوم.
أما الوقت فهو «الحال» في عرف الصوفية و هو «الآن» الذي يكون فيه أي شيء على ما هو عليه.
فالسبب الخاص الذي لم يحن زمانه و لا وقته في رفع الضر عمن يتوجه إلى الله برفعه بوساطته ليس من الأسباب التي يستجيب الله عندها لدعاء الداعي.
 
ويفرق ابن العربي بين السبب الكلي والأسباب الكونية الخاصة على نحو ما فرق بين الحق والخلق والواحد والكثير والله والعالم.
وهو يرى أن الأسباب الخاصة إنما هي أمور اختلقها العقل في محاولته فهم حقيقة الوجود: لأن العقل البشري غير المؤيد بالوحي أو الإلهام الصوفي قد عجز عن إدراك الوجود في وحدته.

أما السبب الكلي فهو أصل كل ما نسميه بالأسباب أي أنه هو الفاعل على الحقيقة والمؤثر في كل ما نعزوه إلى الأسباب الخاصة.
هو الجزء الإلهي في كل موجود، الصادر عنه كل تغير و كل حركة.
وإذا كان لا بد لنا من القول بوجود كثرة في الأسباب لوجود كثرة في المسببات، فإننا لا بد أن نعترف بأن هذه الأسباب ليست إلا وسائل أو وسائط على يديها يعمل المسبب الواحد الذي هو الحق.
و هذه نظرية تذكرنا من بعض الوجوه بالنظرية الحديثة المعروفة باسم "نظرية المناسبات" Occasionalism"
إلا أن الفرق بينهما هو أن ابن العربي في نظريته لا يعترف بوجود كثرة حقيقية في الأسباب ولا في الموجودات إطلاقا، ويعتبر ما نسميه كثرة ضربا من ضروب الأوهام، وهذا رأي قد لا يوافقه عليه كثير من أنصار النظرية الحديثة.
وإذا كانت الأسباب كلها ترجع إلى سبب واحد هو الفاعل على الحقيقة، ففيم التوجه إلى أي سبب خاص لإحداث أثر من الآثار؟
إن علمنا بالأسباب الخاصة علم ناقص وكذلك علمنا بالأوقات التي تقع فيها آثار هذه الأسباب.
لهذا يجب أن نغفل الأسباب الخاصة في دعائنا ونتوجه إلى مسبب الأسباب.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحياوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 19, 2020 11:23 pm

20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحياوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص اليحيوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحياوية
الفص العشرون حكمة جلالية في كلمة يحياوية
(1) حكمة جلالية في كلمة يحياوية
(1) ليس في هذا الفص شيء كثير يستحق الشرح أو التعليق، وهو فص قصير جدا إذا قيس بغيره ويكاد المؤلف يقصر أكبر جزء فيه على شروح تافهة لاسم «يحيى» المشتق من الحياة.
 
ولا يبدو سبب ظاهر لنسبة الحكمة الجلالية إلى يحيى، ولكن شراح الفصوص- متبعين في ذلك القاشاني- يعللون هذه النسبة بأن يحيى كان المظهر الخارجي للصفات الإلهية المعروفة بصفات الجلال.
ومن عادة رجال التصوف أن يقسموا الصفات الإلهية إلى قسمين:
صفات الجمال مثل صفة الرحمة والحب والمغفرة وغير ذلك،
وصفات الجلال مثل صفة القهر والانتقام والكبرياء وغيرها.
فشراح الفصوص يذهبون إلى أن يحيى كان رجلا غلب عليه الحزن والقبض والخشية والورع والتقى إلى غير ذلك من الصفات التي تعكس صفات الجلال الإلهي، ويروون عنه أنه لقي عيسى مرة فعاتبه حين ضحك قائلا له: «كأنك قد آمنت مكر الله وعذابه»
فأجابه عيسى عليه السلام: «كأنك قد آيست من فضل الله ورحمته».
فالفرق بين الرجلين يوضح في الاصطلاح الصوفي الفرق بين صفات الجلال التي ظهرت في أكمل مظاهرها في صورة يحيى، وصفات الجمال التي ظهرت في أكمل مظاهرها في صورة عيسى.
 
(2) «وإن كان قول الروح «والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا» أكمل في الاتحاد، فهذا أكمل في الاتحاد والاعتقاد وأرفع للتأويلات».
(2) يقارن المؤلف هنا بين آيتين وردتا في حق كل من يحيى وعيسى: أي بين قول عيسى عليه السلام: «والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا»
وبين قول الله مشيرا إلى يحيى: «وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا» فالفرق بين الحالتين أن المتكلم في الحالة الأولى هو المسيح نفسه. وفي الثانية المتكلم الله.
 
ومن هنا كان قول الله في يحيى أكمل في الاعتقاد وأرفع للتأويلات عن قول عيسى الذي تكلم به في المهد.
أي أن ما ورد في حق يحيى لم يحدث تبلبلا في الاعتقاد ولا خلافا في الرأي كما حدث في أمر عيسى في تفسير ما نطق به.
ولكن للمسألة مغزى صوفيا آخر يرمي إليه المؤلف، فإن المراد بالسلام الوارد في الآيتين هو أمن النفس وطمأنينتها، وهذا قد وهبه الله لكل من يحيى وعيسى يوم ولدا: أي يوم بدءا في سفرهما الروحي إلى الله، كما وهبه لهما يوم ماتا أي عند انتهاء هذا السفر، وفي يوم بعثا إلى الحياة مرة أخرى أي في اللحظة التي حققا فيها وحدتهما الذاتية مع الحق.
فالمراد بالبعث هنا البعث الروحي، وهو في اصطلاح مؤلفنا التحقق بوحدة الوجود.
 
أما إن آية يحيى أكمل في الإشارة إلى الاتحاد فراجع إلى أن عيسى تكلم عن نفسه في قوله: «والسلام علي يوم ولدت» إلخ فأثبت لنفسه وجودا إلى جانب وجود الحق، وهذا أدخل في الثنوية وأبعد عن الاتحاد، بخلاف الحال في آية يحيى التي كان المتكلم فيها
هو الحق نفسه: والحق هو الوجود الكلي أو هو وحدة الوجود.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 21 – فص حكمة مالكية في كلمة زکرياوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 19, 2020 11:24 pm

21 – فص حكمة مالكية في كلمة زکرياوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

الفص الزكرياوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
21 – فص حكمة مالكية في كلمة زکرياوية
الفص الحادي والعشرون حكمة مالكية في كلمة زکرياوية
(1) حكمة مالكية في كلمة زکرياوية
(1) يختلف هذا الفص عن غيره من فصوص الكتاب في أنه لا ذكر فيه- إلا في عنوانه- للنبي الخاص الذي تنسب إليه حكمته.
وقد جرت عادة المؤلف في الفصوص الأخرى أن يجعل محور كلامه في كل فص حول مناقشة بعض الآيات القرآنية الواردة في حق النبي المنسوب إليه حكمة الفص، وأن يشرح- على لسان النبي المزعوم- أسرار الحكمة التي يريد شرحها.
ولكنه في الفص الذي نحن بصدده يغفل تمام الإغفال اسم زكريا النبي كما يغفل جميع الآيات القرآنية الواردة في حقه.
نعم هناك إشارة غير مباشرة إلى قوله تعالى في سورة مريم: «ذكر رحمت ربك عبده زكريا» حيث يتكلم المؤلف عن الرحمة الإلهية ومن ذكرته الرحمة ومن لم تذكره، ولكنه لا يذكر اسم زكريا صراحة ولا يذكر الآية.
والظاهر أن هذه الإشارة البعيدة إلى الآية المذكورة قد أثارت في نفسه كل هذا الكلام الذي يفيض به الفص عن الرحمة ومعناها وأنواعها وأثرها في الوجود.

(2) «اعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء وجودا وحكما».
(2) سبقت الإشارة مرارا إلى المعنى الخاص الذي يستعمل فيه ابن العربي كلمة «الرحمة»، فإنه لا يقصد بها الشفقة على العباد ولا غفران المعاصي للعاصين، وإنما يريد بها النعمة السابغة الشاملة التي أسبغها الله على الوجود بأسره، أو هي بعبارة أخرى منح كل موجود وجوده الخاص به، وإظهار حكمها فيه بإظهار الصفات الوجودية التي يتميز بها كل موجود من غيره.
وسواء أ كان الوجود بالقوة أو بالفعل، بسيطا أو مركبا، خيرا أو شرا، طاعة أو معصية، فالرحمة شاملة له أي معطية إياه وجوده الخاص به لأنه إما موجود بالفعل متحقق الوجود، أو موجود بالقوة صائر إلى الوجود بالفعل. فالنظرة التي ينظر بها المؤلف إلى الرحمة نظرة ميتافيزيقية لا خلقية.
ولذلك لا يفرق بين مقولتي الخير والشر كما لا يميز- إلا في مجرد التسمية- بين صفتي الغضب والرضا اللتين وصف الحق بهما نفسه. (قارن التعليق الثالث على الفص السادس عشر).
وبالرغم من أن الرحمة نفسها ليس لها وجود عيني- لأنها من الأمور الكلية المعنوية، فإن لها الحكم في إيجاد كل ما له وجود عيني، شأنها في ذلك شأن جميع المعاني الكلية التي لها أثر وحكم في أعيان الموجودات، مع أنها ليست من الموجودات العينية.
وإلى هذا المعنى أشار بقوله: «وقد ذكرنا في الفتوحات أن الأثر لا يكون إلا للمعدوم، وإن كان للموجود فبحكم المعدوم (قارن الفص الأول).
هذه مسألة يرى ابن العربي أنها لا تدرك إلا بالذوق الصوفي وأنه لا مجال للعقل فيها، و إلا فكيف يدرك العقل أن الرحمة الإلهية قد وسعت المعاصي والآلام و الأمراض ونحوها مما يظهر للعقل البشري أنه من مظاهر الغضب الإلهي لا الرحمة؟

(3) فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة إلى قوله ومركبا وبسيطا».
(3) في هذه الفقرة المتناهية في الغموض شرح لفكرة هي أشبه ما تكون بفكرة الفيض الأفلوطيني، أي ظهور الواحد الحق في مراتب الوجود من أعلاها إلى أدناها في سلسلة من الفيوضات تنتهي بالعالم المحسوس.
والأولى ألا نستعمل كلمة الفيوضات (بالمعنى الأفلوطيني) لأنها لا مكان لها في مذهب ابن العربي، وإنما الواجب أن نستعمل كلمة التجليات مكانها، فإن الواحد الحق يتجلى- في نظره- في صور الموجودات ولا تفيض الموجودات عنه.
ومما يزيد المسألة غموضا وصعوبة في الفهم أنه يدخل في «الفيوضات» الرحمة الإلهية التي يخلع عليها صفة العينية حتى يعدها مرادفة للحق نفسه أو للوجود المطلق. فإذا فهمنا الرحمة على أنها الوجود، كانت الرحمة المطلقة التي وسعت كل شيء هي والوجود المطلق الذي هو الحق شيئا واحدا.
فظهور الواحد الحق في صورة الكثرة الوجودية التي هي العالم يقع في التصور على سبيل التدرج في مراتب من الوجود تتحقق كل مرتبة منها عند ما يتجلى الواحد الحق فيها- أو عند ما تسعها الرحمة الإلهية.

وأول هذه المراتب مرتبة الذات الإلهية المطلقة: وهي مرتبة الوجود المطلق من حيث هو وجود: لا سبيل لنا إلى معرفتها أو وصفها بأي وصف، لأن كل وصف يحددها ويعينها، وهي متعالية على الوصف والتحديد.
فهي مرتبة الشيئية المطلقة التي تعتبر سائر الموجودات مظاهر لها أو صورا وتعينات فيها.
فقوله: «فأول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجدة للرحمة» معناه أن أول شيء وسعته الذات الإلهية (أو الوجود المطلق) هو ذات الوجود المطلق، وأن أول تجل للذات الإلهية كان فيها لنفسها، وهو الفيض الأقدس الذي أشرنا إليه في الفص الأول.
وهو أيضا مرتبة العماء. (راجع في معنى الشيئية والعماء ما ذكره في الفتوحات ج 3 ص 115، وفي معنى الشيء من حيث وجوده بالقوة، والشيء من حيث وجوده بالفعل: الفتوحات ج 4 ص 136 و213).

والمرتبة الثانية من مراتب التجليات هي تجلي الواحد الحق لذاته في صور الأسماء الإلهية، وهي مرتبة الفيض المقدس التي فيها يتجلى الحق لنفسه في صور الموجودات من حيث وجودها في باطن الغيب المطلق: أي من حيث هي نسب و إضافات معقولة إلى الذات الإلهية الواحدة.
فإذا عرفنا أن اسم «الله» يشير إلى نسبة الحقائق الوجودية إلى الذات الإلهية على هذا النحو، وأن الاسم «الرحمن» يشير إلى أنه منبع الوجود وأصل كل موجود: إذا عرفنا هذا كله، أدركنا لم يعتبر ابن العربي الاسم «الله» مرادفا للاسم «الرحمن» مستشهدا بقوله تعالى:
«قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى»، ولماذا يعتبر كلا من هذين الاسمين جامعا للأسماء الإلهية كلها.
وإذا كان الأمر كذلك فتجلي الواحد الحق لنفسه في صور الأسماء الإلهية إنما هو في الحقيقة تجليه لنفسه في صورة اسم «الله» أو اسم «الرحمن».
فالحق مسمى باسم الرحمن في نظر ابن العربي لأنه يتجلى بوجوده على كل موجود، وتجليه بوجوده على كل موجود هو رحمته التي يرحم بها هذا الموجود.
فبوجود الذات الإلهية المطلقة- التي هي العين الواحدة- ظهرت الكثرة الوجودية في الواحد، وكانت فيه وجودا بالقوة ثم وجودا بالفعل.
وهذا هو معنى قوله: «تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة» أي تلك العين التي أخرجت الوجود من القوة إلى الفعل.

والتجلي الثالث هو تجلي الواحد الحق في صور أعيان الموجودات أو العالم الخارجي، وهذا أيضا ناشئ عن الرحمة.
إذ بالرحمة الإلهية منح الله الوجود لكل موجود، أو على حد قول المؤلف أعطى كل موجود شيئيته سواء أ كان جوهرا أو عرضا، بسيطا أو مركبا (قارن التعليقين السابع والثامن على الفص السادس عشر).


(4) «و لا يعتبر فيها حصول غرض و لا ملاءمة طبع، بل الملائم و غير الملائم كله وسعته الرحمة الإلهية وجودا».
(4) هذه نتيجة لازمة عن تعريف الرحمة الإلهية على الوجه الذي ذكرناه، فإن الرحمة لو كان معناها الشفقة بالعباد والعناية بهم، لدخل في حساب الراحم فعل ما هو ملائم لطباع الناس وما هو محقق لأغراضهم، بل لقصرت الرحمة على هذا الصنف من الأعمال دون غيره.
ولكنها أوسع من أن تنحصر في هذا الصنف لأنها عامة تشمل الملائم وغير الملائم، والخير والشر، وكل ما يتحقق في الوجود على أي وجه.
فلا يعنيها أن ما يتحقق وجوده ملائم أو غير ملائم لغرض هذا الفرد أو ذاك، لأن الملاءمة وغير الملاءمة أمران اعتباريان لا دخل لهما في الأشياء من حيث هي، وكذلك الخير والشر أمران اعتباريان لا دخل لهما في الأفعال من حيث هي.
والرحمة تتوجه إلى إيجاد الأشياء والأفعال من حيث هي، فهي- بهذا المعنى- مرادفة للمشيئة الإلهية التي هي أعم قانون في الوجود.


(5) «وقد ذكرنا في الفتوحات أن الأثر لا يكون إلا للمعدوم لا للموجود، وإن كان للموجود فبحكم المعدوم».
(5) بعد أن ذكر أن الصفات الإلهية- وهي في ذاتها ليست وجودا عينيا- لها أثر في كل ما له وجود عيني، أراد أن يبين هنا أن كل ما له أثر في متأثر فإنما هو معدوم (أي ليس له وجود عيني خارجي).
وإن تأثر متأثر بموجود فإنما يكون ذلك لحكم «معدوم» فيه.
وظاهر من هذا أن المؤلف لا يعني بالمعدوم المعدوم إطلاقا فإن المعدوم المطلق سلب محض وليس له أثر ولا يمكن أن يكون له أثر في متأثر، وإنما يريد بالمعدوم هنا الذي لا وجود له في العالم الخارجي، أعني الموجود العقلي أو الروحي.
إن العالم الخارجي وهو عالم الظواهر الذي له وجود عيني في تغير مستمر، ولا بد لكل تغير من علة تحدثه.
ولا يرى ابن العربي أن الظواهر الطبيعية أو حالات المادة هي العلل في وجود ظواهر طبيعية أخرى أو حالات جديدة في المادة، بل العلل في نظره أمور غير مادية أو كما يقول غير وجودية: وأحيانا يصف الأسماء الإلهية- وهي في نظره صفات معقولة محضة ليس لها وجود مستقل عن الذات التي تصفها- بأنها علل جميع الموجودات بمعنى أنها حقائق كلية معقولة متجلية في صور العالم الخارجي التي لا تتناهى عددا.

فليست الذات الإلهية من حيث هي- أي ليست الذات معراة عن جميع الصفات التي توصف بها- علة في وجود أي معلول.
وإنما هي علة في وجود كل معلول من حيث هي متصفة بصفاتها المتجلية في جميع نواحي الوجود.
ويشير ابن العربي إلى هذا المعنى في قوله فيما بعد: «فلها الحكم (أي للرحمة التي هي أمر معقول) لأن الحكم إنما هو في الحقيقة للمعنى القائم بالمحل.
فهو (الحق) الراحم على الحقيقة:
فلا يرحم الله عباده المعتنى بهم إلا بالرحمة»: أي لا يرحم من يرحمه من حيث هو ذات معراة عن صفة الرحمة، بل يرحم من حيث هو موصوف بصفة الرحمة.
ولكنه أحيانا يتكلم عن «الأعيان الثابتة» للموجودات كما لو كانت هي الأخرى عللا في وجودها لأنها في نظره- مثل المثل في نظر أفلاطون- العلل الحقيقية لكل ما هو موجود في عالم الظاهر.
فإن كل موجود إنما يوجد على الصورة التي يوجد عليها لأن عينه الثابتة قد قضت أزلا أن يكون على هذه الصورة.
فهي علة وجوده بهذا المعنى. ولكن هذه الأعيان الثابتة لا تخلو عند الفحص الدقيق عن أن تكون إما المثل المعقولة التي قال بها أفلاطون أو التعينات الأولى التي ظهرت في الذات الإلهية من حيث إضافة هذه الذات إلى العالم كما يقول ابن العربي.
أي أنها لا تخلو عن أن يكون المراد بها العالم المعقول أو الأسماء الإلهية.
وإذا كان هذا الأخير فيستوي أن تنسب العلية في عالم الظاهر إلى الأسماء الإلهية أو تنسبها إلى الأعيان الثابتة. وهناك احتمال ثالث.
فإن من الممكن أن يكون المراد بالمعدوم، ما لا وجود له في العالم الخارجي وهو مع ذلك علة في وجود التغيرات: أقول من الممكن أن يكون المراد بهذا المعدوم الحقيقة غير المدركة بالحس المختفية وراء الظواهر.
وبهذا المعنى تكون علة التغير في كل موجود جوهره المتقوم به الذي هو محل للتغير، ويكون الوجود ثنويا.
ولكنها ثنوية في وحدة كما يقول ابن العربي، فإن لكل موجود ناحيتين: ناحية الظاهر أو الخلق التي يسميها بالناسوت وناحية الباطن أو الحق التي يسميها باللاهوت.
والناحية الأولى هي ناحية المعلولية في الموجود كما أن الثانية ناحية العلية فيه.

أما قوله: «وهو علم غريب وسألة نادرة ولا يعلم تحقيقها إلا أصحاب الأوهام» فالظاهر أن السبب فيه أن أصحاب الأوهام يتأثرون بأمور ليس لها وجود عيني خارجي، فهم لذلك أدنى من غيرهم إلى فهم المؤثرات التي ليس لها وجود محسوس.
وقد يكون ذلك كذلك لو أدرك أصحاب الأوهام حقيقة ما يؤثر فيهم، أي لو عرفوا أنهم يتأثرون بأمور ليست موجودة بالفعل، مع أن الأمر على خلاف ذلك لأن المتسلط عليه الوهم يعتقد أثناء تسلطه عليه أن ذلك الذي يؤثر فيه له كل معاني الوجود.


(6) «ثم إن الرحمة لها أثر بوجهين: أثر بالذات ... إلى قوله و لها أثر آخر في السؤال».
(6) تنال الرحمة الإلهية بطريقتين: الأولى ظهور الذات الإلهية في صور الموجودات على نحو ما هي عليه، وبحسب استعداد هذه الموجودات المنطبع فيها من الأزل، وهذه هي الرحمة الرحمانية التي يشير إليها الله في قوله: «ورحمتي وسعت كل شيء».
والطريقة الثانية بسؤال العبد ربه أن يعطيه كذا أو كذا مما يلائم غرضا أو يحقق له نفعا.
ولكن الرحمة لا تنال بالسؤال إطلاقا وإنما تنال إذا اقتضت طبيعة الوجود نفسها تحقيق المسئول عنه.
ومن هنا لم يكن للسؤال في نظر العارفين قيمة أو أثر، بل إنه يدل في نظرهم على أن السائل محجوب جاهل بحقيقة السؤال.
وقد روي عن كثير منهم أنهم كانوا يكرهون السؤال ويفوضون الأمر كله إلى الله، ولا يسألونه إلا أن تقوم بهم رحمته فإذا قامت بهم وجدوا حكمها ذوقا، أي لا يسألون الله إلا أن يقوم ذلك المعنى بهم، لا أن يرحمهم الله من حيث هو فاعل للرحمة لأن الأثر كما قلنا ليس في الحقيقة إلا للمعاني.

(7) «ولهذا رأت الحق المخلوق في الاعتقادات عينا ثابتة في العيون الثابتة فرحمته بنفسها في الإيجاد».
(7) قد شرحنا في التعليق الثالث على هذا الفص المرتبة الثانية من مراتب التجلي الإلهي وذكرنا كيف وسعت الرحمة الإلهية الأسماء التي يتسمى بها الحق وتدخل تحت اسم واحد هو اسم الله أو الرحمن.
والآن يريد المؤلف أن يفسر وجود صور المعتقدات أو صور الله في الاعتقاد على أنها أمور وسعتها الرحمة الإلهية أيضا.
والله لا يعرف من حيث ذاته المجردة عن الأسماء وإنما يعرف ويعبد من حيث هو ذات متصفة بأسمائها.
وأسماء الله في نظر المؤلف هي الصفات التي يتصف بها العالم: إذ ليس للعالم معنى عنده إلا أنه الصفات التي وصف الحق بها نفسه.
فعلم الناس بالله مستمد من علمهم بالعالم.
والحق المخلوق في الاعتقاد- وهو غير الحق في ذاته- صورة من صور علم الناس بالعالم.
ويلزم من هذا أن الرحمة التي وسعت الأسماء الإلهية قد وسعت في الوقت نفسه صور المعتقدات جميعها، أو قد وسعت- كما يقول- الحق المخلوق في الاعتقاد.
بعبارة أدق قد وسعت صور الاعتقاد التي قدر لها أزلا أن تكون صور اعتقاد للناس في الله كما قدر لصاحب كل صورة من صور الاعتقاد أن يخلق هذه الصورة وفقا لما تجلى في نفسه وفي العالم الخارجي المحيط به من الأسماء الإلهية.
أما فكرة خلق الحق في الاعتقاد ففكرة يرددها المؤلف في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، وقد أشرنا إليها في مثل قوله: «فأعلمه فأوجده» وقوله «فالله عبارة لمن فهم الإشارة» ونحو ذلك.


(8) «فيسأل المحجوبون الحق أن يرحمهم في اعتقادهم، وأهل الكشف يسألون رحمة الله أن تقوم بهم».
(8) يسأل عامة الناس الذين لا يعرفون الحق إلا بطريق عقولهم الله أن يرحمهم في اعتقاداتهم، وهذا هو عين الحجاب، لأن الحق المخلوق في الاعتقاد إنما هو من عملهم من حيث هو صورة من صور علمهم بأنفسهم وبالعالم الذي يعرفونه.
فإذا ما دعوا الله أن يرحمهم دعوا في الحقيقة آلهتهم المخلوقة في اعتقاداتهم أن يغفروا لهم ذنوبهم ومعاصيهم.
أما أهل الكشف الذين يعرفون الحقيقة عن طريق الذوق، فلهم في طلب الرحمة غاية أخرى: وهي أن تقوم الرحمة بهم أي يتحققوا بصفة الرحمة التي هي من صفات الله فيصبحوا راحمين لا مرحومين.

وهذا رأي قد يبدو غريبا لأول وهلة، غير أن غرابته سرعان ما تزول عند ما ينظر إليه الناظر في ضوء مذهب وحدة الوجود الذي يقول به المؤلف، لأنه لا فرق في الحقيقة في مثل هذا المذهب بين راحم ومرحوم ولا معنى للاثنينية هناك حيث لا يوجد في الوجود إلا حقيقة واحدة، فمن الجهل إذن أن تدعو الحق أن ينزل بك رحمته أو أن يهبك أي شيء فإن الحق الذي تدعوه هو الحق الذي خلقته في اعتقادك وهو أنت وأنت هو، بل الواجب عليك أن تتحقق ما أمكنك بصفات الكمال الإلهي التي منها الرحمة ونحوها.


ولكنك لن تصير في يوم من الأيام الحق لأنك في الحقيقة حق أي صورة من صور الحق ومظهر من مظاهره.
فإذا قامت بك صفة الرحمة (أو أية صفة أخرى) فأظهرها لغيرك تكن راحما مرحوما، وتحقق بذلك وحدتك الذاتية مع الحق. هذا معنى من معاني الحال الصوفي المعروف بحال الفناء وهو الحال الذي صاح فيه الحلاج بقوله: «أنا الحق».
ومعنى قوله: «فمن ذكرته الرحمة فقد رحم واسم الفاعل هو الرحيم والراحم» أن من قامت به صفة الرحمة وتحقق بها أصبح راحما لغيره من الخلق.


(9) «والحكم لا يتصف بالخلق لأنه أمر توجيه المعاني لذواتها».
(9) سبقت الإشارة إلى موضوع هذه الفقرة فيما مضى من التعليقات على هذا الفص لا سيما التعليق الخامس.
والمراد بالحكم هنا حكم الصفة في الموصوف كحكم «العلم» في العالم والإرادة في المريد ونحوهما.
وقد انقسمت الآراء في مسألة الصفات الإلهية إلى قسمين: رأي أهل السنة القائلين بأن الصفات لا هي عين الذات ولا هي غيرها، ورأي المعتزلة الذاهبين إلى أن الصفات عين الذات: وكلا الرأيين مخطئ في نظر المؤلف.
فالصفات ليست عين الذات عنده- كما يقول المعتزلة- إلا بمعنى خاص وهي أنها نسب وإضافات بين الذات الموصوفة وبين الأعيان المعقولة للصفات.
فنحن إذا وصفنا الحق بأنه «عالم» لا نقصد أن صفة العلم عين الذات العالمة، وإنما نقصد أن صفة العلم هي عين الذات المتصفة بالعلم من حيث قيام صفة العلم بها، كما تقوم الأحوال بالجواهر: أي أنها نسبة أو إضافة بين الذات المتصفة بالعلم، وبين المعنى الكلي العام- العلم.
ومعنى هذا أن العلم هو الصفة التي حكمت على الذات فصارت الذات من أجلها عالمة.
والإرادة هي الصفة التي حكمت على الذات فصارت الذات من أجلها مريدة وهكذا.
ولا يقال إن صفة العلم أو الإرادة قد خلقت في الذات، ولا أن حكمها قد حدث أو تجدد أو وصف بأي معنى من معاني الخلق، فإن حكم الصفة في الموصوف أمر لا يوصف بالخلق ولا بالحدوث، بل يلزم من معنى الصفات لذواتها.
وفي هذا رد على أهل السنة الذين يتحاشون القول بأن الذات عين الصفات لئلا يسووا بين الله وصفاته، كما يتحاشون القول بأن الذات غير الصفات لئلا يقعوا في تعدد القديم:
إذ صفات الله قديمة كذاته. فهم لم يستطيعوا أن ينفوا الصفات الإلهية لثبوت حكمها في الموصوف، ولم يستطيعوا أن يجعلوها عين الذات، فقالوا قولتهم المشهورة: «لا هي هو ولا هي غيره».
ويقول ابن العربي «وهي عبارة حسنة وغيرها أحق بالأمر منها وأرفع للإشكال وهو القول بنفي أعيان الصفات وجودا قائما بذات الموصوف».
فمذهبه إذن أدنى إلى مذهب المعتزلة، غير أنه وإن أثبت وحدة الذات والصفات كما يثبتون، وقال بقيام الصفات بذات الموصوف كما يقولون، لا يذهب إلى أن للصفات أعيانا قائمة بذات الموصوف، وإنما هي مجرد نسب وإضافات معقولة ليس لها وجود عيني. فهي معان قائمة بذات الحق ولكن لا أعيان لها، كما أنها لا تقوم بالذات قيام الأعراض أو الحوادث بمقوماتها.


(10) «والرحمة على الحقيقة نسبة من الراحم، و هي الموجبة للحكم، و هي الراحمة. والذي أوجدها في المرحوم ما أوجدها ليرحمه بها، و إنما أوجدها ليرحم بها من قامت به».
(10) المعنى أن الحق سبحانه إذا رحم عبدا أوجد فيه الرحمة أو جعل الرحمة تقوم به بحيث يصبح قادرا على أن يرحم غيره من المخلوقات.
وبذلك يصبح المرحوم راحما. فالحق لا يوجد الرحمة في المرحوم ليرحمه بها، بل ليكسبه الصفة الإلهية التي بها يرحم غيره- وهذا لا يكون إلا للكاملين من العارفين.
ولا يكون قيام الرحمة بالراحم بهذا المعنى- أي لا يكون إيجادها فيه بعد أن لم تكن- إلا من صفات الإنسان الحادث، لأن الحق سبحانه ليس بمحل للحوادث، فليس بمحل لإيجاد الرحمة فيه.
ومع ذلك فالحق هو الراحم على الإطلاق: أي هو مصدر كل رحمة، ولا تكون له هذه الصفة إلا على معنى أن رحمته عين ذاته كما بينا في التعليق السابق.
وها هو نص شرح القيصري على هذه المسألة الدقيقة وهو من أوضح الشروح فيها.
قال: «وإنما أوجدها ليرحم بها من قامت به» أي الحق الذي أوجد الرحمة في هذا المرحوم الذي هو من أهل الكشف ما أوجدها ليرحمه بها فيكون مرحوما، وإنما أوجدها فيه ليكون راحما، لأنه بمجرد ما وجد أولا صار مرحوما بالرحمة الرحمانية، وعند الوصول إلى كمال يليق بحاله صار مرحوما بالرحمة الرحيمية.
فإيجاد الرحمة فيه وإعطاء هذه الصفة له بعد الوجود والوصول إلى الكمال، إنما هو ليكون العبد موصوفا بصفة ربه فيكون راحما بعد أن كان مرحوما.
وإنما كان كذلك لأن الصفات الفعلية (أي صفات الأفعال) إذا ظهرت فيمن ظهرت تقتضي ظهور الفعل منه.
ألا ترى أن الحق إذا أعطى لعبده صفة القدرة وتجلى بها له كيف تصدر منه خوارق العادات وأنواع المعجزات والكرامات؟
والرحمة مبدأ جملة الصفات الفعلية إذ بها توجد أعيانا.
فنسأل الله (أن) يرحمنا بالرحمة التامة الخاصة والعامة": شرح القيصري على الفصوص ص 237. قارن التعليق الثالث على الفص السادس عشر.



(11) «وإن كانت الرحمة جامعة فإنها بالنسبة إلى كل اسم إلهي مختلفة».
(11) الرحمة الإلهية جامعة لجميع صفات الفعل التي يتصف بها الحق لأنها مبدأ الإيجاد كما قلنا.
ولكنها تظهر في الوجود بصور مختلفة بحسب الأسماء الإلهية المختلفة، وتتعدد بتعددها.
وقد سبق أن ذكرنا أن الأسماء الإلهية هي الصفات التي تتصف بها الموجودات، أو هي المعاني التي تتجلى في الوجود بصور الموجودات فظهور الرحمة في صور الأسماء الإلهية معناه تجليها في صور الموجودات بحسب استعدادها وقابليتها للوجود.
ومما يستدل به على عمومية الرحمة وجامعيتها أن اسم «الرحمن» قد استعمل في القرآن مرادفا لاسم «الله» في قوله تعالى «قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى». واسم «الله» هو جماع الأسماء الحسنى كلها.


(12) «فرحمة الله والكناية هي التي وسعت كل شيء، ثم لها شعب كثيرة تتعدد بتعدد الأسماء الإلهية».
(12) الرحمة التي لها صفة العموم هي الرحمة المنسوبة إلى الاسم «الله» أو إلى ياء المتكلم (وهي المشار إليها بالكناية) في قوله تعالى «ورحمتي وسعت كل شيء».
اما الرحمة التي يمنحها الله بواسطة أي اسم آخر من الأسماء الإلهية فرحمة جزئية لا تعم لأن الاسم الإلهي المتجلي فيها اسم خاص لا يعم.
وإذا نظرنا إلى الأسماء الإلهية من حيث هي مجال للوجود العام أو مجال للرحمة الإلهية العامة كانت كل رحمة خاصة تظهر على يد اسم من الأسماء بمثابة الشعبة المتفرعة عن الرحمة العامة.


(13) «إذ المصطلح عليه بأي لفظ حقيقة متميزة بذاتها عن غيرها، وإن كان الكل قد سيق ليدل على عين واحدة مسماة».
(13) كل اسم إلهي حقيقة متميزة بذاتها عن حقائق الأسماء الأخرى، ومن هنا استعمل لكل اسم لفظ خاص وكان له من الحكم ما ليس لغيره.
ولكن الأسماء الإلهية كلها لها دلالة أخرى واحدة وهي دلالتها على الذات الإلهية الواحدة المسماة بها.
وهذا هو المعنى الذي أشار إليه أبو القاسم بن قسي الأندلسي عند ما قال: إن كل اسم إلهي على انفراده مسمى بجميع الأسماء الإلهية كلها.
فلا بد إذن من مراعاة الدلالتين جميعا: دلالة كل اسم على معناه الخاص، ودلالة الأسماء الإلهية كلها على الذات المتصفة بها.
أما طلب الرحمة بواسطة الأسماء الإلهية، فيفهمه المؤلف على أن السائل إنما يدعو الله باسم من الأسماء من حيث دلالة ذلك الاسم على الذات الإلهية المسماة به، لا من حيث دلالته على معناه الخاص: ولذلك يدعى الله بالاسم الرب كما يدعى بالاسم المنتقم لكي يرحم فلانا أو فلانا فيقول الداعي يا رب ارحم كما يقول يا منتقم ارحم ولا تناقض في مثل هذا الدعاء.


(14) «أبو القاسم بن قسي».
(14) هو الشيخ أبو القاسم بن قسي شيخ طائفة المريدين في الأندلس. مات مقتولا سنة 546 هـ.
كان معاصرا لاثنين من كبار رجال التصوف في الأندلس وهما أبو العباس ابن العريف وأبو الحكم بن برجان اللذان اتهما بالزندقة فدعاهما صاحب شمال إفريقية على بن يوسف إلى مراكش و حبسهما حتى ماتا في السجن.
من ذلك الوقت استقل ابن قسي بزعامة الصوفية في الأندلس، وأطلق على أتباعه اسم المريدين فألف منهم جيشا قويا كان له خطره في الشئون السياسية في الأندلس وإفريقية على السواء.
وقد خاض بهذا الجيش مواقع كثيرة في الثورة المعروفة بثورة المريدين، واختلفت عليه الحظوظ فانتصر في بعضها وهزم في البعض الآخر.
ثم انتهى به الأمر إلى أن قتل في ساحة القتال نتيجة لعقد تحالف بينه وبين نصارى البرتغال سنة 545 هـ.  أما قتله فكان في سنة 546.
وكان بنفس الرماح التي أمده بها هؤلاء النصارى.
وليس هناك من شك في أن ابن قسي كانت له آمال سياسية واسعة استغل مريديه لتحقيقها، ولكنه كان في الوقت نفسه من أكبر رجال الصوفية الذين عرفتهم الأندلس، وأنه كان ينحو في تصوفه منحى أهل المشرق.
كان من أكبر المعجبين بالإمام الغزالي فكان يقرأ كتبه ويشرحها علانية في مجالسه متحديا في ذلك عرف أهل وطنه الذين كانوا ينقمون كل النقمة على الغزالي وكتبه.
ويحكي ابن العربي عن نفسه أنه في زيارة له لمدينة تونس لقي ابن الشيخ ابن قسي وقرأ معه كتاب أبيه المعروف بخلع النعلين.
ولم يذكر شيئا عن كتابته شرحا على هذا الكتاب ولكن بعض المترجمين لابن العربي يذكرون له شرحا بهذا الاسم.
ولابن العربي إشارات كثيرة إلى هذا الشيخ في كتابه الفتوحات ولكن معظمها حول مسألة الأسماء الإلهية التي شرحنا رأي ابن قسي في التعليق السابق.


.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 22 – فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 19, 2020 11:26 pm

22 – فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
22 – فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية         الجزء الأول
الفص الثاني والعشرون حكمة إيناسية في كلمة إلياسية
(1) حكمة إيناسية في كلمة إلياسية «إلياس الذي هو إدريس»:
(1) أشار إليه في الفص السابع و نسب إليه الحكمة القدوسية.
يذهب الكتاب المسلمون أمثال القفطي و اليعقوبي و ابن أبي أصيبعة - متبعين في ذلك بعض المصادر العبرية- إلى أن إدريس الوارد ذكره في القرآن هو هرميس إله الحكمة عند المصريين و اليونان، و أنه أيضا أخنوخ النبي اليهودي.
وقد أدى إلى هذا الخلط الغريب، التطورات التي مر بها تاريخ هرميس إله الحكمة عند قدماء المصريين و اليونان على يد وثنيي حران من جهة و المسلمين و اليهود من جهة أخرى. فإننا نعلم أنه عند ما قلت أهمية هرميس في العالم الهليني القديم و قلت عناية هذا العالم بالكتابات الهرميسية منذ منتصف القرن السادس الميلادي، انتقل مركز العناية به وبهذه الكتابات إلى حران المركز الثقافي الوثني العظيم في بلاد الجزيرة.


و ليس هناك من شك في أن الكتابات الهرميسية كانت معروفة باللغة العربية في هذا الجزء من العالم حوالي القرن التاسع الميلادي، و أنه يحتمل أن تكون قد ترجمت من أصلها اليوناني إلى اللغة السريانية قبل ذلك بقرون.
و مما هو جدير بالذكر هنا أنه قبل أن يعرف العرب هرميس كان بعض الكتاب من الشرقيين قد غيروا كثيرا من معالم شخصيته و بدلوا كثيرا من الكتابات الهرميسية فمزجوا هذه الكتابات بأفكار يهودية و غير يهودية مما كان شائعا في الشرق عندئذ، كما صوروا هرميس إله الحكمة عند اليونان بصورة نبي من أنبياء بني إسرائيل. و مما يدل على ذلك دلالة قاطعة عدهم هرميس وأخنوخ و إدريس و إلياس شخصا واحدا، و وصف بعض المسلمين لهرميس الأكبر الذي هو هرميس الهرامسة (لأنهم يذكرون ثلاثة منهم) بنفس الأوصاف التي يصف اليهود بها أخنوخ و إدريس.
نعم، لم يذكر ابن العربي شيئا عن هرميس، و لكن ليس هناك من شك في أن ما يذكره عن إدريس النبي مأخوذ من المصادر الهرميسية اليهودية. فإنه يقول مثلا إن إدريس «كان نبيا قبل نوح و رفعه الله مكانا عليا فهو في قلب الأفلاك ساكن و هو فلك الشمس».


وهذا وصف ينطبق في ظاهره على وصف اليهود لأخنوخ.
ولكن لإدريس عند ابن العربي معنى آخر يختلف تماما عن هذا، فإنه مجرد رمز للعقل الإنساني في حال تجرده التام عن جميع علاقاته بالبدن، أو هو العقل المحض المتجه نحو المعرفة الكاملة بالله.
وهو بهذا المعنى قريب الشبه جدا بالصورة التي صور بها اليونان هرميسهم.
فالعبارة الرمزية الواردة في بدء الفص عن إدريس، تفسر العلاقة بين عقل الإنسان و جسمه.
فإن جبل لبنان الذي يقول فيه إن اسمه مشتق من اللبانة أي الحاجة ليس إلا رمزا للجسم الإنساني الذي هو موضع الشهوات والحاجات، والفرس الناري ليس إلا رمزا للنفس الحيوانية كما يصفها أفلاطون.
و الآلات النارية التي على الفرس هي شهوات البدن و أهواؤه.
أما ركوب الفرس فرمز لضبط النفس الشهوية عن طريق تحكيم النفس الناطقة (العقل) فيها.
 
(2) «الله أعلم حيث يجعل رسالته ... فالله أعلم موجه له وجه بالخبرية إلى رسل الله و له وجه بالابتداء إلى أعلم حيث يجعل رسالته».
(2) النص الكامل للآية القرآنية هو «و إذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله، الله أعلم حيث يجعل رسالته» (سورة الأنعام آية 124)
و يرى ابن العربي أنه يمكن فهمها على وجهين:
الوجه الأول باعتبار كلمة «الله» الثانية خبرا لرسل الله. فكأنه يريد بهذا الوقف على أوتي، و يجعل «رسل الله» جملة خبرية تامة.
ويجعل أعلم خبرا لمبتدإ محذوف تقديره هو أعلم حيث يجعل رسالته.
وهذا التفسير نص في وحدة الوجود لأنه يجعل رسل الله صورا أو مجالي لله و يجعل الله الذات المتجلية في هذه الصور، وهو تفسير بعيد عن روح القرآن، كما أنه بعيد عن ذوق اللغة و لكنه متمش تماما مع منطق مذهب المؤلف الذي يأخذ تفسير الآية على هذا الوجه دليلا على فكرته في التشبيه المقابل للتنزيه.
و يستدل بعض الشراح على إمكان هذا التفسير ببعض الآيات القرآنية التي يشتم منها رائحة وحدة الوجود، مثل قوله تعالى «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله» (قرآن 48 آية 10)، و قوله «من يطع الرسول فقد أطاع الله» (سورة 4 آية 80).
و الوجه الثاني هو الوقف على «الله» الأولى و اعتبار «الله» الثانية مبتدأ خبره أعلم حيث يجعل رسالته.
فكأن معنى الآية أن الكفار إذا جاءتهم آية ما جديدة رفضوها و قالوا لن نؤمن حتى نؤتى من الآيات مثل ما أوتي رسل الله، و لكن الله يعلم حيث يضع رسالته.
وهذا هو المعنى المفهوم عادة من الآية و لا أثر لفكرة وحدة الوجود فيه.
وإذا أخذنا التفسير الأول على أنه دليل التشبيه، فإننا لا بد أن نأخذ التفسير الثاني على أنه دليل التنزيه، لأنه يشير إلى التفرقة بين الحق و الخلق- بين الله و رسله- حيث تنمحي هذه التفرقة على التفسير الأول.
وقد أراد ابن العربي بإيراد هذين الوجهين الإشارة إلى أن بعض آيات القرآن تحمل التشبيه و التنزيه معا، و هذه واحدة منها.
 
(3) «و بعد أن تقرر هذا فنرخي الستور و نسدل الحجب على عين المنتقد و المعتقد».
(3) بعد أن شرح أن الحقيقة الوجودية يجب أن يراعى فيها جانبا التشبيه و التنزيه معا و أن مراعاة أحدهما دون الآخر يؤدي لا محالة إلى علم ناقص بحقيقة الأمر على ما هو عليه،
قال إن من واجبنا الآن أن نقف حجاجنا مع كل من المنتقد و هو صاحب النظر الفكري والمعتقد وهو التابع الآخذ بظاهر الشرع.
يشير بذلك إلى المتكلمين والفلاسفة الذين يقولون بتنزيه الحق تنزيها مطلقا، وإلى أهل السنة الذين يقولون بالتشبيه.
وقد أوقف الحجاج مع هاتين الطائفتين لأنهما محجوبتان عن العلم الكامل بحقيقة الوجود، فإن كل طائفة منهما لا تنظر إلى هذه الحقيقة إلا من جانب واحد.
وقد فضل الصمت في هذه المسألة لكي يظهر التفاضل بين الناس في استعداداتهم لمعرفة الحق، فإن الحق قد تجلى في صور أعيان الممكنات فعرفته كل صورة بحسب استعدادها.
والصور متفاضلة في الاستعداد فهي بالتالي متفاضلة في علمها بالله.
ويستوي أن نقول إن التفاضل واقع في صور الممكنات التي يتجلى فيها الحق، أو أن نقول كما يقول جامي، إنه واقع في صور تجلي العلم الإلهي في الكائنات.
فإنه لا فرق بين التعبيرين في مذهب يقول بوحدة الوجود كمذهب ابن العربي.
وإذا عددنا المنتقد و المعتقد صورتين من بعض ما تجلى فيه الحق كما يقول، فإن هناك صورة ثالثة لم يذكرها، و لكنها تفهم من سياق كلامه، وهي صورة العارف الكامل الذي يقول بالتشبيه والتنزيه معا.
وإذا كان المنتقد صاحب النظر يقول بالتنزيه استنادا إلى عقله، والمعتقد صاحب الوهم يقول بالتشبيه استنادا إلى وهمه، فإن العالم الكامل يجمع بين القولين استنادا إلى عقله ووهمه وذوقه.
 
(4) «فإن كان الذي يعبرها ذا كشف و إيمان فلا يجوز عنها إلى تنزيه فقط، بل يعطيها حقها في التنزيه و مما ظهرت فيه».
(4) يشير إلى تعبير صاحب الكشف و الايمان للصورة التي يرى فيها الحق في نومه فيقول إنه يعطيها حقها من التنزيه و التشبيه معا.
أما المنزه على الإطلاق فينكر تجلي الحق في صورة من الصور، سواء أ كانت هذه الصورة من صور العالم الخارجي أم من صور الرؤيا، لأن الحق في نظره لا يحد بحد و لا تحصره صورة.
و أما المشبه فيجيز تجلي الحق للنائم في صورة من صور على نحو ما يعتقد من تجليه يوم القيامة على خلقه في صورة من الصور و لا يرى بأسا من هذا.
وأما صاحب الكشف و الإيمان فيعطي صورة الحق في النوم حقها من التنزيه بأن يقول إنها صورة للحق و لكنه ليس منحصرا فيها بل يتجاوزها إلى غيرها من الصور التي لا تحصى عددا، كما أنه ظاهر في العالم الخارجي بصور أعيان الممكنات من غير أن تحصره واحدة منها.
وهذا هو معنى التنزيه عنده، أي أنه يقول «إن الحق من حيث ذاته منزه عن الصور العقلية و المثالية و الحسية كلها لعجز العقول و الأوهام عن إدراكها، و إن كان بحسب أسمائه و صفاته و ظهوره في مراتب العالم غير منزه عنها» (القيصري ص 232).
أما حق الصورة من التشبيه فهو إعطاؤها كل مشخصاتها و مميزاتها الخاصة بها من حيث هي كذلك، مثل الشكل و الوضع و المكان و الزمان و غيرها.
ومعنى هذا أن ابن العربي يفهم من التشبيه و التنزيه الذي ينسبه إلى صاحب الكشف و الإيمان معنى الإطلاق و التحديد، لا التنزيه و التشبيه اللذان يفهمهما عادة أهل الكلام و الفلاسفة.
وقد أشرنا إلى ذلك فيما مضى في تعليقاتنا على التنزيه و التشبيه في الفص النوحي.
 
وإذا كان الأمر كذلك: أي إذا كان كل منا يصور الحق بصورة ما يقضي بها استعداده فتكون صورة تنزيه أحيانا و صورة تشبيه أحيانا أخرى، أو تجمع بين الأمرين، تبين لنا مغزى قول ابن العربي «فالله على التحقيق عبارة لمن فهم الإشارة».
أي أنه لفظ يفهمه كل إنسان بحسب استعداده و علمه بنفسه و بالعالم المحيط به، أو هو رمز لصورة اعتقاده الخاص.
والله الذي هو عبارة بهذا المعنى هو الإله المخلوق في الاعتقاد الذي أسلفنا ذكره، لا الله من حيث هو في ذاته، فإنه من هذه الحيثية يتعالى عن كل علم و كل فهم.
وقد فسر القيصري «الله» في قول المؤلف «فالله على التحقيق عبارة» بأنه «الله» الوارد في قوله تعالى «رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته» كأنما يريد أن لفظة الله في الآية انما هي في الحقيقة عبارة عن حقيقة ظهرت في صورة الرسل.
ولا بأس بهذا التفسير و لكني أفضل ما ذهبت إليه.
 
(5) «فالمؤثر بكل وجه و على كل حال و في كل حضرة هو الله ... إلى قوله فإذا ورد فالحق كل شيء بأصله الذي يناسبه».
(5) لم يذكر صراحة فاعل «ورد» مما دعا إلى غموض النص و اختلاف الشراح فيه، فإن جامي مثلا يرى أن المراد بالوارد الآثار من الكتاب أو السنة، و يفهم العبارة على أنه إذا وردت آية أو حديث يشيران إلى ناحية التأثير، فألحقهما بالأصل الذي يناسب معناهما.
و إذا وردا في شيء يتعلق بالتأثر فألحقهما بالأصل الذي يناسب معناهما.
و يرى القيصري أن المراد بالوارد الوارد الإلهي.
و لعله يقصد بذلك المعنى الذي يلقيه الله في القلب القاء فيتذوقه صاحبه من غير تدبر أو تفكير: فإذا ورد مثل هذا المعنى و كان خاصا بالله نسبه صاحب الكشف إلى أصله، و إذا ورد و كان خاصا بالعالم نسبه إلى أصله الآخر.
و إنني أرى أنه من الممكن أن يكون المراد بالوارد كل فكرة تخطر بالبال و تتصل بالأمر الذي قال انه ينقسم إلى مؤثر و مؤثر فيه، و أن معنى العبارة أنه إذا خطرت ببالك فكرة عن أمر وجودي فأحق هذا الأمر بإحدى المقولتين اللتين أشار إليهما و هما مقولتا الفعل و الانفعال، فإن كل أمر وجودي لا يخلو عن أن يكون علة أو معلولا فاعلا أو منفعلا.
و يدل ظاهر العبارة على أن ابن العربي يعترف بأصلين أو مبدأين يستند إليهما الوجود: هما مبدءا العلية و المعلولية أو التأثير و التأثر، و لكن هذه الثنوية ليست سوى ثنوية صفات تتصف بها حقيقة واحدة لا انقسام فيها و لا تعدد، و ليست بحال من الأحوال ثنوية جوهرية تفترض وجود جوهرين مختلفين متمايزين، جوهر فاعل و آخر منفعل.
و ليس هناك ما يمنع القائل بوحدة الوجود أن يقول بثنوية الصفات في الحقيقة الوجودية الواحدة كما قال اسبينوزا بوجود صفتي الامتداد و العقل في الجوهر الواحد الذي هو أصل جميع الموجودات.
الحقيقة إذن واحدة في نظر ابن العربي: إذا نظرنا إليها من وجه و راعينا فيها جانب الفعل سميناها الحق، و إذا نظرنا إليها من وجه آخر و راعينا فيها جانب الانفعال أطلقنا عليها اسم العالم.
ولكن الفعل والانفعال مقولتان يخضع لهما العقل البشري في تفكيره ويستعين بهما على فهم الوجود، ولكنهما لا تعبران عن حقيقة الوجود في نفسه.
فإذا كان لا بد لنا من التمييز بين الحق و الخلق الله و العالم فأبرز صفات الأول صفة العلية وما يتبعها، وأبرز صفات الثاني صفة المعلولية و ما يتبعها.
وإذا ورد لنا خاطر يتصل بأمر وجودي سهل علينا على هذا النحو أن نرده إلى الله أو إلى الحضرة الإلهية إن كان فيه صفة الفعل، أو نرده إلى العالم أو الحضرة الكونية إن كان فيه صفة الانفعال، وان كان كل أمر في الوجود لا يرد في الحقيقة إلا إلى حقيقة واحدة.
 
(6) «كما كانت المحبة الإلهية عن النوافل من العبد».
(6) شرحنا كيف يعتبر المؤلف مبدأ العلية و المعلولية أساسا الوجود بأسره، و كيف ينسب جانب الفعل إلى الحق و جانب الانفعال إلى الخلق مع أن الوجود في جوهره حقيقة واحدة.
والآن نراه يسوق مسألة الحب الإلهي الناشىء من تعبد العبد بالنوافل شاهدا على وجود هذا المبدأ، يؤيده الحديث الوارد فيه وهو الحديث القدسي الذي يقول الله فيه «ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به و يده التي يبطش بها» إلخ.
فيرى المؤلف أن في هذا الحديث إشارة إلى مؤثر (علة) و هو النوافل و متأثر (معلول) و هو المحبة الإلهية إذ المحبة الإلهية للعبد نتيجة لازمة عن تقرب العبد إلى ربه بالنوافل. و قد يبدو في ظاهر هذا الكلام تناقض لما قرره من قبل أن المؤثر على الإطلاق و بكل وجه و في كل حضرة هو الحق.
ولكن لا تناقض على الحقيقة إذا اعتبرنا أن المؤثر في صورة العبد المتقرب بالنوافل هو الحق الظاهر بهذه الصورة، لأن النوافل أفعال وجودية ظاهرة من الحق في مظهر العبد: فهي من حيث إنها أمور وجودية مؤثرة، مستندة إلى الحق سبحانه.
ولو كان فيها نقص أو قصور فهي مستندة إلى استعداد العبد: و الأثر لها من الحيثية الأولى.
أما المتأثر فهو العبد من حيث ظهور آثار المحبة الإلهية فيه. فالمؤثر فيه على الحقيقة العبد لا الحق، كما أن المؤثر على الحقيقة الحق لا العبد.
ثم ساق مثلا آخر يوضح به مبدأ التأثير والتأثر فقال: «وكما كان الحق سمع العبد وبصره وقواه عن هذه المحبة»: يشير بذلك إلى الجزء الأخير من الحديث القدسي المذكور آنفا.
فالمحبة الإلهية الحاصلة عن قرب النوافل أصل، و كون الحق سمع العبد وبصره وسائر قواه فرع: والمؤثر هو الحق من حيث حبه للعبد والمتأثر العبد من حيث ظهور أثر تلك المحبة فيه. وكمال المحبة إنما يكون في أن يدرك العبد أن الحق سمعه وبصره وسائر قواه.
 
(7) «و أما العقل السليم» إلى قوله «لغفلته عن نفسه».
(7) المراد بالعقل السليم القلب الساذج من العقائد الفاسدة، الباقي على الفطرة الأولى.
ولا يخلو صاحب هذا القلب من أن يكون أحد رجلين: رجل تجلى له الحق في مجلى طبيعي إما في نفسه أو في أية صورة أخرى وكشف له تجليه في هذه الصورة وعرفه أنه عين هذا المجلى من وجه وغيره من وجه آخر: و هذا يعرف ما أشار إليه المؤلف من أن الحق عين قوى العبد من سمع وبصر ويد و رجل وغير ذلك، أو يعرف ما قال من أن الامر منقسم إلى مؤثر و مؤثر فيه، وأن المؤثر في جميع الحضرات الكونية والإلهية هو الحق، والمؤثر فيه في جميع هذه الحضرات هو أعيان الممكنات.
ورجل مؤمن بما وردت به الاخبار الإلهية، مسلم بأوامر الرسل منقاد إليهم.
وهذا يؤمن بالأمر الذي ورد في الحديث الصحيح من أن العبد يتقرب إلى الحق بالنوافل حتى يحبه فإذا أحبه كان سمعه وبصره و يده ورجله إلى آخره.
أما صاحب العقل الذي يخيل إليه أنه يحكم عقله وحده في مسائل الإلهيات - كالمعتزلة من النظار- فهو واهم في ظنه، خاضع لسلطان الوهم من حيث لا يدري:
لأنه لا بد أن يعترف بما جاء به الحق من أنه عين العبد و سمعه و غير ذلك من القوى- إن كان مؤمنا به.
واعترافه هذا نتيجة لاستعمال وهمه. و قد جاءت الشريعة التي يؤمن بها بالتنزيه الذي يحكم به العقل و التشبيه الذي يحكم به الوهم. فاعتقاده أنه يعمل عقله وحده وهم منه و خطأ.
وأما صاحب العقل غير المؤمن بما ورد في الشرع من معاني التشبيه فيحكم على الوهم بالوهم، لأنه يحيل على الله تجليه في أية صورة من الصور الحسية و المثالية: أي أنه يحكم على الوهم (الذي يؤيد تجلي الحق في الصور) بأنه كاذب في حكمه، و لكن حكمه هذا على الوهم إنما هو بالوهم، لأنه يتوهم أو يتخيل بنظره الفكري أنه قد أحال على الله تجليه في الرؤيا أو في أية صورة من الصور، وينكر كل معنى من معاني التشبيه، والوهم في ذلك لا يفارقه أبدا لأنه يصدقه ويخضع له من حيث لا يدري.
ولعل المؤلف يقصد بهذا الصنف الأخير الفلاسفة.
 
(8) «و من ذلك قوله تعالى ادعوني أستجب لكم» إلى قوله «فهو كثير بالصور و الأشخاص».
(8) أي و مما يستدل به أيضا على وجود مبدأي التأثير و التأثر، و أن التأثير في كل حالة راجع إلى الحق، و التأثر في كل حالة راجع إلى الخلق، قوله تعالى «ادعوني أستجب لكم» و قوله «و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان» و نحوهما من الآيات التي تشير إلى الاثنينية في ظاهرها و تدل في باطنها على معنى الجمع و الوحدة.
فهو يقول إن الاستجابة لاتكون إلا بوجود اثنين: داع و مستجيب، إذ لايكون مستجيب إلا إذا وجد دعاء الداعين كما في الآية الأولى، ولا يكون مجيب إلا إذا وجد من يدعوه كما في الآية الثانية.
و في كلتا الحالتين يوجد مؤثر وهو الدعاء ومؤثر فيه وهو المجيب.
فالظاهر يقتضي وجود صورتين مختلفتين، إحداهما للداعي المؤثر و الأخرى للمجيب المتأثر، كما يقتضي أن التأثير للعبد و التأثر للحق و لكن الأمر في الحقيقة على خلاف ذلك: إذ عين الداعي عين المجيب بالرغم من اختلاف صورتيهما.
 
نعم توجد صورتان: إحداهما كونية إنسانية و هي صورة الداعي، و الأخرى إلهية أسمائية و هي صورة المجيب، و لكنهما صورتان لحقيقة و عين واحدة.
و ليس التأثير المعزو إلى الأولى معزوا إليها من حيث هي صورة كونية إنسانية، بل من حيث هي مجلى من مجالي الحق: أي أن المؤثر على الحقيقة هو الله. و أما المتأثر فهو العبد لظهور أحكام الإجابة فيه.
وخلاصة القول أن الأمر في نفسه وحدة في كثرة أو كثرة في وحدة، و أن التفرقة بينهما تفرقة اعتبارية محضة.
ولما قرر هذه المسألة التي هي لب مذهبه و جوهره و المحور الذي يدور عليه جميع تفكيره أخذ يتلمس لها أنواعا من التشبيه و التمثيل لا تزيدها في الواقع إلا غموضا و تعقيدا. وغاية ما يقال فيها أنها أقيسة مع الفارق.
فقد شبه النسبة بين العين الوجودية الواحدة و الصور المتكثرة المتغايرة بالنسبة بين النفس الواحدة الشخصية و بين بدنها المتكثر بصور أعضائه.
فزيد مثلا حقيقة واحدة و لكنه كثير بصور أعضائه. فهو كثرة في وحدة أو وحدة في كثرة.
وكل صورة من صور أعضائه مختلفة متغايرة عن الصورة الأخرى، كاليد التي تختلف عن الرجل و عن الرأس.
و لكن هذه الكثرة الصورية يتألف منها كل واحد هو زيد.


وفي هذا التمثيل من التضليل ما فيه:
أولا لأنه يصور المسألة تصويرا ماديا و يجعل النسبة بين الحق و الخلق أشبه بنسبة الكل المادي إلى أجزائه، و هذا ما لا يرضاه ابن العربي نفسه لأنه لا يرمي مطلقا إلى هذا التفسير المادي للوجود،
ثانيا إن من الصعب أن نفهم أن صورة يد زيد أو صورة رجله أو أي عضو من أعضائه إنما هي مجلى لزيد بنفس المعنى الذي به يقال إن صورة كيت و كيت من صور الممكنات مجلى للحق، بدليل أننا نستطيع أن نقول- في عرف أصحاب وحدة الوجود- إن كذا من الموجودات هو الحق- أي أنه صورة للحق- ولا نستطيع أن نقول إن يد زيد بمعنى أنها صورة له.
و التمثيل الثاني الذي أورده هو أن نسبة العين الوجودية الواحدة إلى الصور المتكثرة كنسبة الكلي إلى جزئياته أي كنسبة «الإنسان» مثلا إلى زيد و عمرو و بكر و غيرهم ممن لا يحصى عددهم من بني الإنسان.
وهذا وإن كان أدنى إلى ما يرمي إليه المؤلف في فهمه للنسبة بين الحق والخلق، وأبعد عن المادية من التمثيل السابق، إلا أنه لا يمكن أن يعد تصويرا دقيقا لفكرة وحدة الوجود.
 
(9) «و قد علمت قطعا إن كنت مؤمنا أن الحق عينه ... إلى قوله فهكذا الأمر إن فهمت».
(9) من التشبيهات التي يلجأ إليها ابن العربي في إيضاح الصلة بين الحق و الخلق- الوحدة و الكثرة- تشبيه العين الوجودية بالمرآة، و الكثرة الوجودية التي هي أعيان الممكنات بالصور التي يراها الرائي في المرآة.
وهو تشبيه طريف ولكنه كغيره من التشبيهات الأخرى التي ذكرها يجب ألا ينظر إليه في جميع لوازمه ومقتضياته، إذ لا يعدو أن يكون تمثيلا بأمور مادية محسوسة لمسألة تعلو على التمثيل وعلى المادية.
يقول إن عين المرآة واحدة و لكن الصور التي يراها الرائي فيها كثيرة و مختلفة.
وكل صورة ترى في المرآة تتعين على نحو تقتضيه طبيعة المرآة من جهة و طبيعة الشيء المرئي من جهة أخرى. فترى الصورة كبيرة أو صغيرة، وبهذا الشكل أو ذلك بحسب مقادير المرايا في الصغر والكبر والطول والعرض والتجويف والتقعير، وبحسب طبيعة الأعيان المنعكسة عليها.
وإذا تأملنا في الصور المرئية في المرآة وجدنا أنها لا وجود لها فيها على وجه التحقيق، لأن الصور لا تنطبع على صفحة المرآة انطباع صورة الخاتم على الشمع مثلا.
كذلك الأمر في الذات الإلهية الواحدة و الكثرة الوجودية الظاهرة بصورها فيها. فالذات الإلهية بمثابة المرآة وأعيان الموجودات بمثابة الصور المرئية.
وكل عين من أعيان الممكنات تبدو في المرآة (الذات الإلهية) في صورتها الخاصة- أو يبدو الحق الظاهر بها في صورتها الخاصة- فيعرفه من يعرفه و ينكره من ينكره.
أما الذين يعرفون فهم الذين يرون في المرآة صورة اعتقادهم كما يرى الناظر إلى المرآة صورة نفسه فيها فيعرفها.
وأما الذين ينكرون فهم الذين يرون في المرآة صورة اعتقاد غيرهم كما يرى الناظر إلى المرآة صورة غيره فيها فيجهلها.
وهكذا يفسر ابن العربي الأثر الوارد من أن الله سبحانه يتجلى يوم القيامة في صورة فيعرف ثم يتحول في صورة أخرى فينكر، ثم يتحول عنها في صورة فيعرف، وهو هو المتجلي في كل صورة.
وكما أن صور المرآة لا وجود لها في الحقيقة، كذلك صور الممكنات في مرآة الوجود الحق لا وجود لها في الحقيقة، إذ لا وجود إلا للمرآة- في حالة المثال- وللذات الإلهية- في حالة الممثل.
هذا و قد فسر القاشاني (ص 363 - 4) قول المؤلف «و ليس في المرآة صورة منها جملة واحدة» بمعنى أنه ليس في المراة صورة واحدة من تلك الصور هي مجموع تلك الصور جملة واحدة، لأن المرآة لا يوجد فيها إلا ما قابلها و هو الصور الكثيرة.
وفسرتها أنا بمعنى أنه لا يوجد في المرأة صورة واحدة على الإطلاق.
ويلاحظ أن الذات الإلهية المشبهة بالمرآة الظاهر فيها الصور، إنما هي الذات الإلهية المتجلية بالأسماء، أي الذات كما ندركها في صور الموجودات أو في صور الأسماء الإلهية الظاهرة في هذه الموجودات، إذ كل اسم من الأسماء الإلهية إنما هو بالنسبة إلى صور الموجودات التي يتجلى فيها كمرآة بالنسبة للصور الظاهرة فيها.
ولذلك أشار في كلامه إلى المرايا بالجمع، يريد الأسماء الإلهية، لا إلى مرآة واحدة.
أما الذات الإلهية من حيث هي، أو من حيث تجليها الذاتي، فإنها لا تعرف ولا تنكر ولا يقال فيها انها تظهر فيها صور الوجود: فهي في ذاتها منزهة عن كل صورة و كل تعين.
وهذا في نظر المؤلف معنى وصف القرآن لله بأنه غني عن العالمين، وأنه الغني وأنتم الفقراء، وأنه الغني الحميد و ما ماثل ذلك من الآيات.

(10) «فلا تجزع و لا تخف فإن الله يحب الشجاعة ... إلى قوله: لم تزل الصورة موجودة في الحد».
(10) عرض هنا لمسألة فساد صور أعيان الممكنات و بقائها بحدودها و حقائقها. إذ كانت أعيان الموجودات صورا و مجالي للذات الإلهية الواحدة، و الذات الإلهية هي الوجود الأزلي الأبدي الدائم، لزم أن الموت و الفناء و الفساد لا تعرض إلا للصور التي تتحول و تتغير في جوهر الوجود العام.
أما الجوهر المقوم لهذه الصور فباق على الدوام ممتنع على الفساد، في أمان تام من كل أنواع التغير.
وإذا كانت أعيان الممكنات ليست إلا صورا معقولة متعينة في هذا الجوهر، كان لها- من هذه الناحية- مثل ما له من العزة و المنعة و الأمان.
وهذا معنى قوله: «فهذا هو الأمان على الذوات و العزة و المنعة».
لكل موجود ممكن وجود في عالم الحس و وجود في العالم المعقول ووجود في حضرة الخيال (الخيال المنفصل الذي هو عالم المثال).
فإذا فسدت صورته الحسية بقي في حده وحقيقته: أي بقي في العالم المعقول من حيث هو تعين معقول في الذات الإلهية، وحفظ وجوده كذلك في عالم المثال.
وهذا معنى قوله: «فإن الحد يضبطها و الخيال لا يزايلها».
وإذا كان الأمر على ما وصف، وجب علينا ألا نجزع من الموت ولا نخاف، فإن الموت لن يصيب منا إلا صورنا المحسوسة: أجسامنا.
فإن فنيت هذه الأجسام بقينا بحقائقنا في صورنا المعقولة و المثالية.
بل يجب أن نتشجع و لو على قتل حية- كما يقول الحديث الشريف- و ليست الحية سوى نفوسنا أي صورنا الخاضعة للسكون والفساد.
هنالك بقاء إذن بعد الموت: بل بقاء لصور أعيان الموجودات في حدودها و حقائقها: و لكنه بقاء المتعين في اللامتعين و المقيد في المطلق.
ولكن على أي نحو يكون هذا البقاء؟
أهو بقاء يحتفظ فيه الفرد بفرديته؟
هل تبقى الممكنات بعد فناء صورها المحسوسة أمورا معقولة صرفة: عقولا أو أرواحا؟ هذه أسئلة لم يجب عنها ابن العربي إجابة صريحة، ولكن لنا أن نستنتج من أقواله أنه أميل إلى الاعتقاد بأن الوجودات الجزئية الخاصة عند ما ترجع إلى الوجود العام بعد فناء صورها المحسوسة لا تفقد فرديتها وشخصيتها.
 
(11) «و الدليل على ذلك: و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى».
(11) أي و الدليل على ظهور الحق في صور أعيان الممكنات و أنه هو- لا هذه الصور- الفاعل لكل شيء و المؤثر في كل شيء قوله تعالى في حق نبيه محمد (صلى الله عليه و سلم): «و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى» (قرآن س 8 آية 17)،
فإنه قد نفى الرمي عن الصورة المحمدية أولا، ثم أثبته لها وسطا في قوله:
«إذ رميت» ثم عاد فنفاه عنها و أثبته لله في قوله: «و لكن الله رمى». فالرامي على الحقيقة هو الحق و لكن في صورة محمدية.
ولم يثبت الرمي للصورة من حيث هي صورة، بل من حيث هي مجلى للحق يظهر الحق الأثر على يديها.
وكذلك الحال في كل عين من أعيان الممكنات: فإن لكل منها وجها إلى الحق يعطيها صفة الفعل والتأثير والبقاء و وجها إلى الخلق يعطيها صفة الانفعال والتغير والفناء.
هذا، ويلاحظ أن الصوفية من أصحاب وحدة الوجود قد استغلوا هذه الآية وما ماثلها إلى أبعد حد واتخذوها أساسا لمذهبهم. وليس من شك في أن في القرآن آيات لو أخذت على ظاهرها لجاءت نصا صريحا في وحدة الوجود، ولكن مقصود هذه الآيات شيء وما يرمي إليه أصحاب وحدة الوجود شيء آخر.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 22 – فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثاني .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالأربعاء فبراير 19, 2020 11:27 pm

22 – فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية الجزء الثاني .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   

الفص الإلياسي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
22 – فص حكمة إيناسية في كلمة إلياسية         الجزء الثاني
الفص الثاني والعشرون حكمة إيناسية في كلمة إلياسية
(12) «فإما عالم و إما مسلم مؤمن».
(12) بعد أن أورد قوله تعالى: «ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى» شاهدا على مذهبه في وحدة الوجود، قال إنه ينبغي لكل مسلم أن يصدق بهذه الآية لورودها في القرآن الذي يجب أن يصدق به. بل يجب أن يصدق بها سواء أدرك مغزاها أم لم يدرك.
أما الذي يدرك مغزاها الحقيقي فهو الصوفي صاحب الذوق الذي يعلم كشفا و ذوقا وحدة الوجود، و هذا هو الذي أشار إليه «بالعالم».
وهذه أول مرة يستعمل فيها كلمة «العالم» بدلا من «العارف».
وأما الذي لا يدرك المغزى الحقيقي للآية، بل يصدق ويؤمن بها كما وردت، فهو المسلم المؤمن الذي يأخذ بالآيات كما جاءت ولا يحاول تأويلها وصرفها عن ظاهرها: فهو يسلم بأن الله يرمي ولو لم يدرك على أي نحو يرمي، ويسلم بأن الله ينزل إلى السماء ويجيء ويتكلم، وأن له وجها ويدا ونحو ذلك من غير أن يدرك حقيقة معاني هذه العبارات.
وهذا هو موقف المشبهة و الحشوية من المسلمين.
بقيت طائفة ثالثة لا هي بالصوفية أصحاب الأذواق و لا بالمؤمنين الآخذين بظاهر الآيات، و هؤلاء هم المتكلمون أصحاب النظر الذين يؤولون هذا النوع من متشابه الآيات و يحتكمون إلى العقل وحده ولكن العقل وحده في نظر المؤلف قاصر عن أن يدرك حقيقة الوجود على ما هي عليه، و كثيرا ما يحيل أمورا يكشف عنها الذوق ويخبر بها ظاهر الشرع كما سيذكره المؤلف فيما بعد.
ومن هنا كان أخذ العلم بالحقائق عن الذوق، والتسليم بما ورد في الشرع على ظاهره أسلم و أبعد عن الشك و الحيرة من الاحتكام إلى العقل.
 
(13) «و مما يدلك على ضعف النظر العقلي من حيث فكره كون العقل يحكم على العلة أنها لا تكون معلولة لمن هي علة له».
(13) هذه إحدى المسائل التي يحكم العقل باستحالتها لمناقضتها لما يعتبره الفكر أوليا بينا بذاته، مع أن التجلي و الكشف الصوفي يقضيان بصحتها: و العلة لا تكون معلولة معلولها في نظر العقل لأنه يحكم بأن الشيء الذي يتوقف عليه وجود شيء آخر كي يتحقق به، لا يمكن أن يتحقق وجوده هو بتوقفه على وجود ذلك الشيء الآخر المتأخر عنه، و إلا لزم الدور.
هذا قصارى ما يصل إليه العقل ولا يستطيع أن يتعداه لأنه ينظر إلى العلة والمعلول من حيث إنهما شيئان مختلفان متمايزان وجودا وتقديرا.
أما الذوق الذي يشهد الوحدة الوجودية بين العلل والمعلولات فإنه لا يرى حرجا من القول بأن العلة معلولة للمعلول،
كما أن المعلول معلول للعلة: وذلك أن العلل والمعلولات جميعها صور متكثرة في عين واحدة لها صلاحية قبول العلية والمعلولية باعتبارين مختلفين: فلها حال كونها علة، صلاحية كونها معلولة وحال كونها معلولا صلاحية كونها علة، فهي في عينها جامعة للعلية و المعلولية وأحكامهما.
وليس الفرق بين الحالتين إلا في الذهن و في النسب المفروضة في الحقيقة الواحدة.
ولكن على أي نحو يؤثر المعلول في علته بحيث تصبح العلة معلولة له؟
لا يؤمن ابن العربي بأن العلية و المعلولية معناهما مجرد الفعل والانفعال على التوالي، لأن المعلول يفعل في العلة كما تفعل العلة في المعلول، وينفعل عنها كما تنفعل هي عنه.
وذلك أنه لو لا معلولية المعلول لم يمكن أن تتحقق علية العلة أي أن علية العلة موقوفة على معلولية المعلول.
وإذن تكون معلولية المعلول علة لعلية العلة لأن العلية والمعلولية متضايفان يتوقف كل منهما على الآخر وجودا وذهنا: أي أن علية العلة لا تكون ولا تعقل إلا بمعلولية المعلول، كما أن معلولية المعلول لا تكون ولا تعقل إلا بعلية العلة.
ولما كانت العلل و المعلولات جميعها صورا و مجالي للوجود الواحد الحق، وكان لكل منها صفتا العلية و المعلولية معا، صعب التمييز بين ما يصح أن نسميه منها عللا وما يصح أن نسميه معلولات.
والحقيقة أنها كلها علل من وجه و معلولات من وجه آخر، وأنها علل من حيث ظهور الحق فيها، ومعلولات من حيث صورها.
وبهذه الطريقة ينفي ابن العربي كثرة العلل ويقرر وحدتها، لأن الاعتراف بكثرة العلل شرك صريح وتناقض ظاهر مع القول بوحدة الوجود.
وبها أيضا يرجع جانب المعلولية في الوجود إلى صور الموجودات: أي إلى العالم.
أي أن نظرته إلى العلة والمعلول هي نظرته إلى الوحدة والكثرة أو إلى الحق والخلق.
 
(14) «فما من عارف بالله من حيث التجلي الإلهي إلا و هو على النشأة الآخرة. فقد حشر في دنياه و نشر في قبره».
(14) النشأة الأخروية هي الحال التي عليها الإنسان الصافي النفس و القلب، المتجرد من الشهوات و علائق البدن، الكاشف لحقائق الأمور على ما هي عليه.
والنشأة الدنياوية هي الحال التي عليها عامة الناس من تعلق بالبدن وشهواته، وجهل بحقائق الأمور وحجاب كثيف بين العبد وربه.
فالناس صنفان:
صنف على النشأة الأولى و هم «العارفون» بالله من حيث تجليه لهم لا من حيث نظرهم العقلي، و هؤلاء هم الذين يردون العقل إلى حكم الذوق.
وصنف على النشأة الثانية و هم الذين يعرفون الحق بالنظر الفكري و يردونه إلى حكم النظر. و قد سمى أصحاب النشأة الأخروية بهذا الاسم لأن لهم صفات أهل الآخرة من حشر و بعث إلخ.
أما بعثهم من القبور فمعناه خروجهم من أحكام البدن المستولي عليهم.
وأما حشرهم فمعناه جمعهم أو تحققهم من جمعهم في العين الوجودية الواحدة التي هي الحق.
فالعارفون يظهرون للناس في صورتهم الدنياوية، ولكن الله قد حول بواطنهم إلى النشأة الآخرة، ولو أنهم لا يعرفهم في هذه النشأة إلا أصحاب الكشف والبصيرة.
 
(15) «فمن أراد العثور على هذه الحكمة الإلياسية الإدريسية ... إلى آخر الفص».
(15) يقول كان لإدريس نشأتان: نشأة سماوية لما رفعه الله إلى السماء و أقام روحانيته المجردة في فلك الشمس (راجع الفص الرابع)، و نشأة عنصرية أرضية عند ما نزل إلى الأرض و أرسل إلى بعلبك باسم النبي إلياس.
ولكنا ذكرنا (تعليق 1 فص 22) أن إدريس ليس إلا رمزا للعقل الإنساني في حال تجرده عن علائق البدن و توجهه نحو المعرفة الكاملة بالله.
والآن نضيف أن (إلياس) وهو الاسم الثاني له، ليس إلا رمزا للعقل نفسه في حال اتصاله بالبدن وخضوعه لشهواته و حاجاته.
ولذلك قال إن من أراد أن يعرف الحكمة الإلياسية الادريسية يجب أن يتحقق في نفسه بالحالتين جميعا: أي يجب أن يتحقق أولا بحيوانيته المطلقة ثم يرقى تدريجيا في سلم التجريد حتى يصبح عقلا صرفا فيحصل له التحقق بالنشأتين على الوجه الأكمل، و ينكشف له ما انكشف لإدريس و إلياس.
وفي كلام ابن العربي في هذه المسألة وصف دقيق للمعراج الروحي والترقي الصوفي لم يذكره في أي فص آخر من فصوص هذا الكتاب.
ويظهر أنه يرى البلية العظمى في الطريق الصوفي- حيث يكون الحجاب بين السالك إلى الله وبين الحقائق الكشفية أكثف ما يكون- إنما هي الحال التي يتعلق العقل فيها بالبدن وشواغله بحيث لا يتخلص السالك في الطريق من عقله فيكون حيوانا صرفا، ولا يتجرد من بدنه فيكون عقلا صرفا.
أما إذا تحقق السالك بحيوانيته ثم ارتقى إلى مقام الكشف العقلي فإنه ينكشف له في الحالين أمور لا مجال لانكشافها في الحالات الأخرى- حالات اشتغال العقل بمطالب البدن.
ولذلك يرى ابن العربي أن المريد في بدء حياته الصوفية يجب أن ينزل تدريجيا عن حكم عقله و لا يجعل له سلطانا عليه، ولا يعمل عقله في التفكير في شيء من الأشياء، بل يدعه غفلا من كل شيء عاطلا من كل عمل حتى يتحقق بحيوانيته.
وعندئذ يصاب بالخرس فلا يستطيع النطق بأمر من الأمور إذا أراد، ولا يقدر على تفسير ما يرى و ما يشعر.
وفي الوقت نفسه يحصل له نوع خاص من الكشف هو بعينه ما يحصل لغير العاقل من الدواب و الأنعام، كأن يطلع على أحوال الموتى بالتنعيم والتعذيب وغير ذلك.
ثم ينبغي له أن ينتقل مرة أخرى إلى مقام العقل المجرد بالانقطاع عن الشهوات الجسمانية واللذات الطبيعية لتسقط عنه شهوته كما سقطت عن إلياس، وليصير ما يدركه عين اليقين، ويكون محققا وذائقا لما يعانيه ويشاهده.
وهنا يشاهد السالك أمورا هي أصول لما يظهر في الصور الطبيعية:
يريد بهذه الأمور شيئا أشبه بالمثل الأفلاطونية في العالم المعقول: وهي التي يعاين صورها المحسوسة في العالم المحسوس و صورها البرزخية في الكشف الحيواني في عالم البرزخ أو المثال.
ولكن العالم المعقول في مذهب ابن العربي ليس هو العالم المثالي الأفلاطوني وإنما هو عالم الذات الإلهية في مقام أحديتها.
فكأنه يريد أن يقول إن صاحب العقل المجرد يشاهد في حال تجرده تنزلات الذات الإلهية من مقام الأحدية إلى المراتب الكونية، وظهورها في جميع صور الموجودات العلوية و السفلية، شريفها وخسيسها، عظيمها وحقيرها.
فإن كوشف صاحب هذا المقام بالاضافة إلى ما ذكرنا بأن الطبيعة هي عين النفس الرحماني وليست شيئا مغايرا له في الحقيقة، فقد وقف على سر عظيم وهو معنى قوله:
«فقد أوتي خيرا كثيرا» لأنه يعلم حينئذ أن الحقيقة التي هي وجود بحت صرف، وهي النفس الرحماني، قد تفتحت فيها مراتب الوجود بصورها التي لا تتناهى وهي باقية على حالها في عالمها.
فهي أصل الكل ومنشؤه، وإلى هذا الأصل الأول مصيره ومرجعه.
عند ذلك يعرف السالك ذوقا معنى قوله تعالى: «فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم»، أي يعرف أن الذي قتلهم ليس الحديد من حيث هو حديد، ولا الضارب بالحديد من حيث هو كذلك، وإنما هو الموجود خلف صورة الحديد وصورة الضارب وهو الواحد الحق،
ولذلك قال: «فبالمجموع وقع القتل والرمي».
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس مارس 12, 2020 2:17 am

23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   

الفص اللقماني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
23 - فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية
الفص الثالث والعشرون حكمة إحسانية في كلمة لقمانية 
(1) حكمة إحسانية في كلمة لقمانية «الحكمة الإحسانية».
(1) موضوع هذا الفص «الإحسان» و هو في اللغة فعل ما ينبغي أن يفعل من الخير، بالمال أو بالقول أو العمل.
و في الشرع أن تتوجه إلى الله في عبادتك بكليتك و تتمثله في محرابك كما ورد في الحديث المشهور عند ما سئل النبي عن الإحسان ما هو فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه».
وهو في عرف أصحاب وحدة الوجود شهود الحق في جميع المراتب الوجودية، والتحقق من أنه متجل في كل شيء.
و هذا الأخير هو المعنى الذي يدور عليه هذا الفص و الذي يستخلصه المؤلف من الآيات الواردة في حق لقمان في قوله تعالى: «و إذ قال لقمان لابنه و هو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ...
يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يات بها الله إن الله لطيف خبير».
فلقمان في هذا الفص لسان من ألسنة وحدة الوجود التي يتخذها ابن العربي مترجمة عن مذهبه.
أما نسبة الفص إليه فلشهرته بالحكمة و شهادة الله له بذلك. 

و الحكمة وضع الأشياء في موضعها و معرفة الأشياء بحقائقها، وهي عند الصوفية المعرفة الذوقية بحقيقة الوجود (راجع الفص الأول، التعليق الأول)، وعند ابن العربي هي المعرفة الذوقية لوحدة الوجود.
و من هنا تظهر الصلة بين الحكمة و الإحسان و السبب الذي من أجله نسب الحكمة الإحسانية إلى لقمان.

 
(2) «إذا شاء الإله يريد رزقا» (الأبيات).
(2) المشيئة و الإرادة لفظان يستعملان في اللغة على سبيل الترادف، و يستعملان بمعنيين مختلفين في اصطلاح ابن العربي و الحسين بن منصور الحلاج من قبله. 
فهما من ناحية أنهما صفتان للذات الإلهية متحدتان- كما أن الأسماء الإلهية الكثيرة واحدة العين من حيث دلالتها على مسمى واحد هو الحق- و لكنهما مختلفتان من حيث إن المشيئة مرادفة للعناية الإلهية أو للأمر الإلهي التكويني الذي يتعين به كل شيء على نحو ما هو عليه، في حين أن الإرادة صفة يتعين بها وجود شيء من الأشياء أو عدمه بعد إيجاده.
و هذا معنى قول المؤلف «يريد زيادة و يريد نقصا»: أي يريد تحقق موجود من الموجودات، و هو المشار إليه بالزيادة، و عدم تحقق موجود آخر و هو المشار إليه بالنقص.
و لكن الكل خاضع للمشيئة التي تقضي بأنه سيكون هنالك زيادة أو نقص، وجود أو عدم وجود، طاعة أو معصية. فالمشيئة إذن في مذهب ابن العربي الجبري أشبه شيء بالقانون العام للوجود، أو بمجموعة قوانين الوجود لأنها تتعلق بماهيات الأشياء- و الأشياء أعم من الموجودات لأنها تشمل الموجودات و المعدومات: أي الأشياء التي قد تتحقق بالفعل و التي لا تتحقق أصلا- فتعينها على النحو الذي هي عليه.

و لذلك يسميها ابن العربي أحيانا بالوجود (الفتوحات ج 4 ص 55)، و بعرش الذات، متبعا في ذلك أبا طالب المكي (الفتوحات ج 2 ص 51 ج 3 ص 62 ج 4 ص 55).
فوجود الأشياء على النحو الذي توجد عليه، أو عدم وجودها إطلاقا، يتعلق بالمشيئة. و لكن وجود شيء من الأشياء في العالم الخارجي أو انعدام وجوده بعد أن يوجد، متعلق بالإرادة.
هذا هو الفرق بين الاثنين كما يفهمه جامي (شرح الفصوص ج 2 ص 287، 288) و هو رأي يتفق مع الروح العامة لمذهب ابن العربي كما نجده في الفصوص و الفتوحات.
و لكن القاشاني (شرح الفصوص 374) و الجرجاني (تعريفات ص 147) يذهبان إلى أن المشيئة هي التي تتعلق بإيجاد الأشياء في العالم الخارجي و بانعدامها بعد وجودها، في أن الإرادة تتعلق بالإيجاد وحده. و يؤيدان مذهبهما بأن هذا هو الاصطلاح الذي جرى عليه القرآن في استعمال الكلمتين. يقول القاشاني: «و الفرق بين المشيئة و الإرادة أن المشيئة عين الذات، و قد تكون مع إرادة و بدونها. و الإرادة من الصفات الموجبة للاسم المريد.

فالمشيئة أعم من الإرادة: فقد تتعلق بها و تنقبض بها كمشيئة الكراهة: أي بالإيجاد و الإعدام.
و لما كانت الإرادة من الحقائق الأسمائية، فلا تقتضي إلا الوجود فتتعلق بالإيجاد لا غير».
و يقول الجرجاني «مشيئة الله عبارة عن تجلي الذات و العناية السابقة لإيجاد المعدوم أو إعدام الموجود. و إرادته عبارة عن تجليه لإيجاد المعدوم.
فالمشيئة أعم من وجه من الإرادة. و من تتبع مواضع استعمالات المشيئة و الإرادة في القرآن يعلم ذلك، و إن كان بحسب اللغة يستعمل كل منهما مقام الآخر».
و الإرادة خاضعة للمشيئة لأنها صفة من الصفات الإلهية أو شيء من الأشياء التي يعينها قانون الوجود العام.
و هذا هو معنى قوله: مشيئة إرادته فقولوا بها قد شاءها فهي المشاء
أما كلمة مشاء الواردة مرة في البيت الثالث و مرتين في البيت الرابع، فقد قرئت بفتح الميم و بضمها.
و يقول جامي (ص 287) إنها بضم الميم في موضعها الأول و الثاني حسب النسخة المقروءة على المؤلف، و بفتح الميم في موضعها الثالث.

و لكنها إذا قرئت بالضم كانت اسم مفعول من الثلاثي على صيغة المزيد و هذا خلاف القياس.
و أما الرزق الذي أشار إليه في البيتين الأولين فرمز لما يقوم كلا من الذات الإلهية و العالم و يظهر كلا منهما بمظهره الخاص به. فالعالم من ناحية غذاء للذات الإلهية لأن به تظهر هذه الذات في صور الوجود الخارجي و تظهر فيها كمالاتها.
و الذات الإلهية من ناحية أخرى غذاء للعالم لأنها هي الجوهر المقوم لصور الوجود و لا وجود لصورة من غير جوهر يقومها، كما لا وجود لجسم من غير غذاء يقومه.

 
(3) «و الحكمة قد تكون متلفظا بها و مسكوتا عنها».
(3) قسم الحكمة قسمين: حكمة متلفظ بها كالأحكام الشرعية، و حكمة مسكوت عنها كالأسرار الإلهية المستورة على غير أهلها.
والأولى يخاطب بها العوام،
والثانية قصر على الخواص.
ومن هذا الباب بعينه تسربت إلى الإسلام البدع والشناعات وجميع التأويلات التي لا يقرها الدين في قليل و لا كثير، تارة تحت ستار الكشف والذوق، وطورا تحت عنوان «علم الخواص» أو «علم الباطن» أو «المضمون به على غير أهله» و نحو ذلك.

و نحن هنا بإزاء مثال من أمثلة هذا الضرب العجيب من التأويل يوضح به ابن العربي الفرق بين نوعي الحكمة.
قال لقمان لابنه: «يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يات بها الله».
فيفهم ابن العربي في هذا النص معنيين يدلان على حكمتين.

أما الأول، و هو ما يدل عليه ظاهر النص، فهو أن لقمان جعل الله هو الآتي بحبة الخردل مهما يكن موضعها في السموات أو في الأرض، دالا بذلك على إحاطة علم الله و قدرته، و أنه لا يوجد موجود في السموات أو في الأرض مهما كان صغيرا إلا و يعلمه الله. هذه هي الحكمة المتلفظ بها.
وأما الحكمة المسكوت عنها فهي أن لقمان لم يصرح بالمؤتى إليه، ولم يقل لابنه إن الله يأتي بها إليك أو إلى فلان أو فلان، بل أرسل الإتيان عاما و لم يقصره على فرد بعينه.
و في هذا تنبيه على أن ما في السموات والأرض هو الحق لا غيره:
أي فيه تنبيه على أن ما في السموات (وهو ما في العالم العلوي من الحقائق الروحانية)
وما في الأرض (وهو ما في العالم السفلي من الحقائق الكونية والآثار المادية على اختلاف مراتبها) كل ذلك معلوم للحق، بل إنه ليس شيئا سوى الحق.
فالحكمة الظاهرة في الآية على هذا التأويل هي أن الحق هو الآتي بالوجود المرموز إليه بحبة الخردل،
والحكمة الباطنة هي أنه عين ذلك الوجود، أي عين كل معلوم، وأنه يأتي به إلى كل شيء في السموات و الأرض، لا إلى شيء دون شيء.
ومعنى إتيانه بالوجود إلى الأشياء ظهوره فيها في جميع مراتبها ودرجاتها
وفي هذا إشارة إلى معنى قوله تعالى «و هو الله في السماوات و في الأرض».

 
(4) «إن الحق عين كل معلوم لأن المعلوم أعم من الشيء، فهو أنكر النكرات».
(4) ذكرنا في التعليق السابق أنه قرر أن الحق عين كل معلوم، و لم يشأ أن يقول عين كل شيء، لأن المعلوم أعم من الشيء إذا قصدنا بالشيء الموجود المتحقق بالفعل بحيث يخرج منه الموجود الثابت في العلم غير المتحقق في الخارج.
وبما أن علم الله شامل لجميع الموجودات، سواء ما يتحقق منها في الخارج وما لم يتحقق مما له ثبوت في العلم فقط، قال إن «المعلوم» أعم من «الشيء» وأدخل في المعلوم المعدومات التي لها الثبوت دون الوجود الخارجي.
وقد ذهب بعض المتكلمين إلى أن الشيء مساو للمعلوم، فأدخلوا الأعيان الثابتة في الأشياء مع أنها لا وجود لها إلا في العلم الإلهي، واستشهدوا بقوله تعالى: «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون».
فقد أطلق الله تعالى على العين اسم الشيء قبل كونها وتحققها في الخارج.
أما قوله «فهو أنكر النكرات» فيصح أن يكون الضمير فيه عائداً على «المعلوم» كما يقول جامي (ج 2 ص 290) لأنه يعم الموجودات و المعدومات أي يعم الموجودات العينية والعلمية من الممكنات و الممتنعات، والشيء مختص بالوجود العيني وحده.
ويصح أن يكون عائداً على الحق سبحانه كما يقول القيصري (ص 245) بمعنى أن الحق لما كان عين كل معلوم، سواء أ كان موجوداً في العين أم لم يكن، والمعلوم أعم من الشيء، والشيء أنكر من كل نكرة، لزم أن الحق أنكر النكرات لأنه لا يعلم حقيقته إلا هو.
والحق الذي هو أنكر النكرات بهذا المعنى هو الذات الإلهية المطلقة عن كل التعينات، المنزهة عن جميع الصفات و الأسماء.
وإلا فالحق الظاهر بصور الوجود المتصف بجميع صفاتها، أعرف المعارف.
وإذا كان الحق عين كل معلوم سواء أ كان المعلوم أعم من الشيء أم مساوياً له وكان عالماً بكل معلوم في السموات وفي الأرض، لزم أن العالِمَ و العلم والمعلوم حقيقة واحدة لا فرق بينها إلا بالاعتبار.

 
(5) «فقال إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ... إلى قوله فقال خبيراً».
(5) فسر في هذه الفقرة قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» * تفسيراً جريئاً صريحاً في دلالته على وحدة الوجود،
فقال إن لطف اللَّه مشتق من اللطافة التي هي مقابل الكثافة.
ويظهر لطفه تعالى في أنه الجوهر الساري في خفاء في الوجود بأسره.
فهو في كل شيء عين ذلك الشيء مهما أطلق عليه من الأسماء وحُدَّ به من الحدود، فإن الأشياء لا تختلف إلا في أمور عرضية أو أمزجة خاصة من أجلها يطلق على كل منها اسم خاص يتميز به عما عداه: فيقال هذا شجر وهذا حجر وهذه سماء والجوهر واحد في الجميع.

وليس هذا الجوهر سوى الذات الإلهية الواحدة.
ومن هذه الناحية شابه مذهب ابن العربي مذهب الأشاعرة الذين قالوا إن العالم كله متماثل بالجوهر مختلف بالأعراض.
وليس ببعيد أن تكون فكرة الأشاعرة إحدى الأفكار التي أوحت إليه بمذهبه في وحدة الوجود مع بعد الفرق بين الفكرتين.
فالأشاعرة يدينون بالخلق و يقررون وجود اللَّه إلى جانب وجود العالم.
أما هو فلا يدين إلا بوجود واحد، إذا نظرت إليه في إطلاقه قلت إنه هو ذلك الجوهر المؤلف منه العالم، و إذا نظرت إليه في تقييده- أو في تعدده و تكثره- قلت إنه هو العالم. و ليس اختلاف جوهر العالم بالأعراض وهو قول الأشاعرة في نظره سوى اختلاف الذات الإلهية وتكثرها بالصور والنسب (قارن الفص الثاني عشر، التعليق الثالث عشر).
 
أما نعت اللَّه نفسه بأنه «خبير» فمعناه أنه عالم عن اختبار، و العلم عن اختبار هو العلم الذوقي. و العلم الذوقي مقيد بالقوى و حاصل عنها.
و قد أخبر الحق عن نفسه أنه عين قوى العبد في قوله «كنت سمعه و بصره» إلخ. و معنى هذا ان الله خبير أي أنه يعلم علم الأذواق في صورة من له القوى التي يحصل بها هذا العلم.
فهو علم مكتسب للحق، بل هو المشار إليه في قوله تعالى: «ولنبلونكم حتى نعلم».
فجعل نفسه مع علمه بما هو الأمر عليه مستفيدا علما. و في هذا تفرقة بين مطلق العلم و العلم المقيد بالقوى الروحانية و الجسمانية الذي هو علم الأذواق.
 
(6) «لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم. و المظلوم المقام حيث نعته بالانقسام».
(6) إنما وصف الشرك بأنه ظلم عظيم لأن الشرك يفترض الانقسام في مقام الألوهية وهو مقام يأبى الانقسام فالمظلوم هو هذا المقام الذي وصف بوصف لا يصدق عليه.
وذلك لأن تعدد الإله عبارة عن أن يشرك معه غيره في الألوهية، وهذا باطل لانتفاء وجود ذلك الغير ولأن عين الوجود واحدة.
فإشراك أي شيء مع ما هو عينه غاية الجهل.
وهو راجع إلى أن من لا معرفة له بحقيقة الوجود ولا باختلاف الصور على العين الواحدة، يتوهم وجود مشاركة في مقام الألوهية حيث لا مشاركة.
فالمشاركة الحقيقية في مقام الألوهية منتفية، والمشركون واهمون في شركهم. هذا من وجه، ومن وجه آخر لا توجد مشاركة حقيقية في أي شيء يتنازعه اثنان، لأن الشيء الواقع فيه الاشتراك إما منقسم بين الشريكين بحيث يكون لكل منهما جزء غير الجزء الذي للآخر، و إذن فلا شركة بينهما على الحقيقة.

وإما أن يكون ما يقع فيه الاشتراك بين الشريكين مشاعا يتوارد عليه الشريكان على سبيل البدل، وذلك باطل أيضا لأن وقوع التصريف من أحد الشريكين يزيل الإشاعة ويجعل الأمر المشترك فيه مختصا بأحد الشريكين وهو المتصرف.
فلا مشاركة على الحقيقة.
وبعد أن أبطل الشرك والشركة و بيّن أنهما ليس لهما وجود حقيقي، أشار إلى شركة حقة ليست كفراً ولا ظلماً: وهي اشتراك الأسماء الإلهية جميعها في العين الواحدة التي هي الذات الإلهية، فقال: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ: هذا روح المسألة»:
أي حقيقة مسألة الشركة هي أنها واقعة في الأسماء الإلهية،
فإن اسم اللَّه هو عين اسم الرحمن بل عين كل اسم من الأسماء الإلهية من حيث دلالة هذه الأسماء على الذات الأحدية الجامعة لها.

و إذا كان الشرك بمعناه الأول شرك الأشقياء الجاهلين المحجوبين، فهذا الأخير شرك السعداء العارفين.

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: 24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس مارس 12, 2020 2:18 am

24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي      

الفص الهاروني على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية
الفص الرابع والعشرون حكمة إمامية في كلمة هارونية
(1) حكمة إمامية في كلمة هارونية «الحكمة الإمامية».
(1) يدور هذا الفص حول مسألة العبادة و الألوهية. فيشرح فيه ابن العربي نظريته في الدين بمعناه الصوفي الواسع، و هو دين وحدة الوجود، و يخلص منه إلى أن الحب هو أساس عبادة كل معبود، و أن المعبود على الحقيقة هو المحبوب على الحقيقة و هو اللَّه.
فكل معبود إنما هو مجلى من مجالي الحق أو صورة من صوره مهما اختلفت عليه الأسماء و الصفات. قال تعالى: «وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» أي قدر أزلًا- كما يقول ابن العربي- ألا يعبد في الوجود إلا اللَّه، لأنه ليس في الوجود إلا هو.
و يدور الحوار في الفص بين موسى لسان وحدة الوجود، الواقف على حقيقة الأمر على ما هو عليه، و هارون أخيه الذي هو أقل حظاً منه في هذه المعرفة.
فينكر هارون على أصحاب العجل عبادتهم إياه و يضيق ذرعاً بهم، فيدله موسى على سر عبادة العجل و على معنى العبادة مطلقاً و هو المعنى الذي أشرت إليه.
أما تسميته الحكمة بالإمامية فلأن الإمامة نوع من الخلافة،
و هارون إمام بمعنيين: 
الأول أنه كان خليفة موسى على بني إسرائيل بدليل قوله: «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي»، 
و الثاني أنه ككل نبي من الأنبياء خليفة اللَّه في أرضه. 
و الأولى هي الخلافة المقيدة أو الخلافة بالواسطة، 
و الثانية الخلافة المطلقة عن اللَّه أو الخلافة من غير واسطة. 
و يدل الفرق بين موسى و هارون من حيث درجتهما في الخلافة على الفرق بينهما من حيث درجتهما في تمام المعرفة، و قد سبق أن ذكرنا أن ابن العربي يرى أن الخلافة الكاملة لا تكون إلا للكاملين من العارفين.
 
(2) «و لذا لمّا قال له هارون ما قال ... إلى قوله لمّا علم أنه بعض المجالي الإلهية».
(2) لم ينكر موسى إذن على عبدة العجل عبادتهم إلّا من حيث إنهم حصروا المعبود المطلق في تلك الصورة الخاصة التي هي صورة العجل، مع أن المعبود المطلق يأبى الحصر لأنه عين كل ما يعبد. و قد نبّه موسى أخاه هارون إلى هذا السر لما غضب عليه في محضر من القوم و أخذ بلحيته و رأسه.
ثم أراد أن يشير إلى سر آخر غاب عن هارون و عن بني اسرائيل لما سأل السامري عن صنعه عجلًا من الذهب ليعبده القوم بدلًا من العجل الحيواني.
و ذلك السر هو في الحقيقة سِرُّ عبادة كل معبود. و قد عنى به موسى الحب و الميل «الذي هو المقصود الأعظم المعظم في القلوب» إذ لم يزد السامري على أنه صنع للقوم عجلًا من الذهب و هو أحب الأشياء إلى قلوبهم فاستهواهم بذلك و حرك قلوبهم نحو عبادته.
و لكن عبادة العجل سواء أ كان ذهباً أم لحماً و دماً كفر و جهل، و إن كان المعنى الذي تنطوي عليه عبادته هو المعنى الحقيقي في كل عبادة.
أما كونه جهلًا فلأن المعبود بحق ليس محصوراً في صورة العجل و لا في أية صورة كانت، بل هو ما في الصور كلها من الحق.
و العبادة الصحيحة لا يستحقها سوى الحق الذي هو عين الكل و له هوية جميع الصور. و مما يدل على جهلهم قولهم من قبل لموسى «يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ: قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» لأن العبادة مطلقاً لا تكون إلا للرب المطلق كما قال تعالى «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ».
والإله المجعول ليس له الخلق فلا يستحق العبادة. و أما كونه كفراً فلأن فيه توهم اشراك ما سوى الحق في الألوهية حيث لا يوجد السوي.
و لكي يوضح موسى لقومه فناء الصور في الذات الإلهية الواحدة أحرق العجل و ألقى برماده في اليم، و ليس العجل الا رمزاً للصور الوجودية المحدودة، كما أن اليم ليس الا رمزاً لبحر الوجود الزاخر الذي تنمحي فيه حدود جميع الصور.
و لو لم يتعجَّل موسى بإحراق العجل و حَلِّ صورته لكان مآل تلك الصورة إلى الفناء من ذاتها إذ لا بقاء للصور.
 
(3) «فإن المثلين ضدان فيسخره الأرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانيته».
(3) انتقل من الكلام عن تسخير موسى للعجل بإحراقه إياه، إلى الكلام عن التسخير بوجه عام. و خلاصة نظريته أن الأعلى في مراتب الوجود يسخر الأدنى.
فإذا وصلنا إلى الإنسان وجدنا أنه يسخر بعضه بعضاً كما قال تعالى: «وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا».
و لكن على أي نحو يسخر الإنسان الإنسان؟ في الإنسان طبيعتان: الطبيعة الانسانية و هي جهة الربوبية فيه و لها صفة الكمال، و الطبيعة الحيوانية و هي جهة البشرية فيه و لها صفة النقص. و لما كان التسخير دائماً للكامل، و التسخر دائماً للناقص، لزم أنه لا يسخر انسان انساناً من حيث انسانيته بل من حيث صفة من صفات نقصه الداخلة تحت اسم الطبيعة الحيوانية، ككونه في درجة أنزل من درجته في المال أو الجاه أو العقل أو ما شاكل ذلك.
و أما قوله: «فإن المثلين ضدان».
فمعناه أن انساناً و انساناً مثلان، و المثلان ضدان: لأن ما يقع فيه الاشتراك بين المثلين هو محل النزاع بينهما، و كلما كان ذلك أكثر كان النزاع فيه أشد، فلا يخضع أحدهما للآخر و لا يسخر له.
و لذلك كانت العداوة أشد ما تكون بين الأقوياء و أصحاب المهن الواحدة و الطبيعة الواحدة. و إذا كان الأمر على هذا النحو، فالمسخر (اسم فاعل) دائماً هو الانسانية، و المسخَّر (اسم مفعول) دائماً هو الحيوانية: أي صفة من صفاتها.
 
(4) «فالعالم كله مُسَخِّر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه اسم مُسَخَّرٍ».
(4) ذكر أن التسخير قسمان: تسخير بالدرجة و هو تسخير مراد للمسخر كتسخير السيد لعبده، و تسخير الملك لرعاياه. و تسخير بالحال كتسخير الرعايا للملك، و كتسخير الطفل لأبويه، و تسخير الأدنى للأعلى أيّاً كانا.
و هذا النوع غير مراد بالمسخَّرِ، و لكن طبيعة الأشياء تقضي أن يسخر الأعلى كل ما في وسعه في خدمة الأدنى و لمصلحته. ثم انتهى إلى نوع من التسخير ربما كان أصدق وصف نصفه به هو «التسخير الميتافيزيقي»، و إن كان يدخله في النوع الثاني الذي هو التسخير بالحال: «أعني بذلك التسخير الميتافيزيقي تسخير العالم للحق سبحانه و تعالى.
و لم يجر العرف بتسمية اللَّه مسخَّراً كما يقول المؤلف، و لكن طبيعة الوجود و طبيعة مذهبه يجعلان هذا التسخير أمراً لا مفر منه.
و الحق مسخَّر للخلق بمعنى أنه يتجلى على الخلق بشئونهم و يعطيهم من صفات الوجود ما تقضي به استعداداتهم من حيث هم مظاهر و مجال له.
قال تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ» فأتى بضمير الغائب «هو» للدلالة على أن هويته كل يوم في شأن من شئون الخلق ظاهرة فيه بمظهر خاص من مظاهر الأسماء و الصفات.
و الحقيقة أن الحق لا يسخره غيره لأن كل ما يطلق عليه اسم الغير إنما هو في الحقيقة عين الحق، و إن كان من حيث التعين يسمى بالغير و السوي. فالحق هو المسخر لنفسه بحسب شئونه و تجلياته.
 
(5) «و لهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا و عبد إما عبادة تأله و إما عبادة تسخير».
(5) عبادة تأله كعبادة الأصنام و الشمس و القمر و الكواكب و الحيوان، و عبادة تسخير كعبادة الأموال و الجاه و المناصب.
و يرى ابن العربي أن الوجود كله سلسلة من الكائنات يسخر بعضها بعضاً، و سلسلة من الصفات و الخواص يخضع بعضها لبعض.
و أنه لا يعبد شيء من الأشياء في العالم إلا بعد أن يتلبس بالرفعة في نظر العابد، و يظهر في قلبه بدرجة التعظيم و التقديس. و لهذا ما بقي نوع من أنواع الكائنات في نظره إلا و عبد بإحدى العبادتين: عبادة التأله و عبادة التسخير.
و المعبود في الكل هو الواحد الحق، و لكنه يعبد على درجات متفاوتة في مجاليه المختلفة. و لذلك قال عن نفسه: «رَفِيعُ الدَّرَجاتِ» و لم يقل رفيع الدرجة، لأنه هو المعبود في صورة كل ما يعبد و من يعبد،
بدرجات يتفاوت فيها العابدون. و أعظم مجلىً يعبد فيه الحق و أعلاه هو «الهوى» لأنه أساس كل عبادة، و المعبود الحقيقي في كل صور ما يعبد. فلا يعبد شيء الا بالهوى، و لا يعبد هو إلا بذاته.
و من هنا وجب أن نميز بين الحق في مرتبة الألوهية الذي لا يعبد إلا بذاته، و الحق في مراتب الصور الكونية الذي لا يعبد إلا بواسطة سلطان الهوى على قلب العابد، و لذا قال:
و حق الهوى ان الهوى سبب الهوى و لو لا الهوى في القلب ما عبد الهوى

 
يقسم بقدسية الهوى (الحق) أن الهوى الساري في جميع مراتب الوجود، المعبود في جميع صوره، هو علة الحب في جزئياته و أشكاله، و أنه لو لا وجوده  تجليه في صور المعبودات وفي قلوب العابدين ما عبد معبود ولا وجد عابد.
ويذكر الشيخ في فتوحاته أنه شاهد الهوى في بعض مكاشفاته ظاهراً بالألوهية قاعداً على عرشه، وجميع عبدته حافون من حوله: ويقول «وما شاهدت معبوداً في الصور الكونية أعظم منه».
 
فالهوى إذن اسم آخر من أسماء اللَّه، بل هو أعظم أسمائه. 
قال تعالى:«أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ»؟
يقول ابن العربي أما أن اللَّه أضله على علم فمعناه أنه خير العابد لهواه لظهوره وتجليه في صور الهوى ومراتبه، وذلك الإضلال مبني على علم من اللَّه (و المراد من الآية في الأصل على علم من العابد لهواه!) بأسرار تجلياته في تلك الصور.
فقد حير اللَّه العارفين بكثرة تجلياته، و المحجوبين بالوقوف عند ما عبدوا مع علمهم أن ما عبدوه ليس إلهاً على الحقيقة، و إن كانوا يجدون في بواطنهم ميلًا إليه و تعظيماً له.
 
و الهوى معبود مطلق لا يعرف حدود الشرائع و لا يميز بين حلال و حرام:

فقد يرافق العابد لهواه ما يأمر به الشرع كمن يحب امرأته و كل ما هو حلال من من الرزق، و قد لا يوافق ما يأمر به الشرع كمن يتعلق هواه بما يملكه غيره و كل ما هو حرام من الرزق.
 
(6) «و العارف المكمّل مَنْ رأى كل معبود مجلىً للحق يعبد فيه».
(6) هذه نتيجة لازمة عن كل ما تقدم، بل هي نتيجة لازمة عن مذهب وحدة الوجود و ركن هام من أركانه.
إذا كان كل ما في الوجود مجلى للحق و صورة من صوره، و كان لكل موجود وجهان: وجه من الحق و وجه من الخلق، و إذا كان فوق كل هذا كل موجود يعبد عبادة تأله أو عبادة تسخير، لزم أن كل معبود مجلى للحق يعبد فيه، و حلّ قولنا: «لا معبود بحق إلا اللَّه» في ميدان الدين، محل «لا موجود بحق إلا اللَّه» في ميدان الميتافيزيقا.
 
و هذا المعنى هو جوهر الفلسفة الدينية في مذهب ابن العربي. و قد وجدنا له صداه في كثير من فقرات هذا الكتاب و في غيره من كتبه حيث يعتبر قلب العارف هيكلًا لجميع الاعتقادات في اللَّه، و مرآة تنعكس عليها صور الوجود الحق.
يقول:
لقد صار قلبي قابلًا كل صورة  ..... فمرعى لغزلان و دير لرهبان
و بيت لأوثان و كعبة طائف  ..... و ألواح توراة و مصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت ....  ركائبه فالحب ديني و إيماني
و يقول:
عقد الخلائق في الإله عقائداً ..... و أنا شهدت جميع ما عقدوه
فالعارف في نظره هو الذي نظر إلى الوحدة في الكثرة، و وضع الألوهية في موضعها: أي في الواحد المعبود في صور جميع الآلهة المعبودين. و الجاهل هو الذي وضع الألوهية في صورة معبوده الخاص، حجراً كان أو شجراً أو حيواناً أو إنساناً.
و هو محجوب عن حقيقة الوحدة، بل حقيقة التوحيد كما يسميه أصحاب وحدة الوجود. و لهذا قال: «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ»؟
فلم ينكر وحدة الآلهة بل تعجب منها، لأنه وقف مع كثرة الصور و نسب الألوهية إليها.




(7) «فهم عبَّاد الوقت».
(7) الضمير هنا عائد على العارفين، و هم عبَّاد الوقت بمعنى أنهم يعبدون مجالي الحق في كل وقت يظهر فيه ببعض صفاته.
و الحق دائم التجلي و دائم التحول في الصور، فهم يعرفونه في هذه الصور و يعبدونه فيها، و هم يعلمون أنهم لا يعبدون من تلك الصور أعيانها، و إنما يعبدون الحق فيها. و هذه حال يسترها العارفون عن غيرهم لأنهم أتباع الرسول، و الرسول يحرم عليهم عبادة الصور لقصور أفهام العامة عن إدراك حقائقها، و يدعوهم إلى عبادة إله واحد يُعْرَف إجمالًا و لا يشهد.
فيبدو العارف في صورة المنكر لعبادة المجالي الوجودية، لأنه تابع في الظاهر للرسول والرسول ينكرها، و لأنه يخشى على العامة أن يعبدوا الصور لذاتها فيحصروا الحق فيها، وهو منزه عن الحصر و التقييد.
هذا، وقد يكون المراد بالوقت الدهر، وهو أعظم مجالي الحق واسم من أسمائه على حد قول الصوفية الذين يروون عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: «لا تَسُبُّوا الدهر فإن اللَّه هو الدهر».
فالعارفون عبَّاد الوقت بهذا المعنى أيضاً أي عبّاد الدهر الذي يتجدد في كل آن حاملًا صوراً جديدة من صور الوجود.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس مايو 14, 2020 6:07 am

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي      

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية                       الجزء الأول
الفص الخامس و العشرون حكمة علوية في كلمة موسوية
(1) حكمة علوية في كلمة موسوية "حكمة قتل الأبناء".
(1) أراد أن يفسر السر في قتل فرعون أبناء بني إسرائيل عندما أخبره كهنة عصره أن هلاكه سيكون على يد مولود منهم، فجاء بهذه الفكرة الغربية التي شرحها في صدر هذا الفص و الظاهر- كما يبدو من شرح القاشاني- أنها فكرة أوحت بها نظرية أفلوطين في الفيوضات، 
وإن كانت بعدت كثيراً عن مصدرها، وامتزجت بعناصر إسلامية لا صلة لها بمذهب أفلوطين.
ولكي نفهم ما يسميه «الحكمة في قتل أبناء بني إسرائيل من أجل موسى» يحسن أن نلخص الأساس الفلسفي الذي تعتمد عليه هذه الفكرة، و هو ما أشرت إليه من قبل.
قد ذكرنا مراراً أن المؤلف يرى أن الوجود حقيقة واحدة لا تعدد فيها و لا تكثر، و إنما تتعدد و تتكثر بحسب التعينات و التجليات الظاهرة في الوجود.
ونزيد هنا أن بعض هذه التعينات كليٌ وبعضها جزئي.
فالكلية كالتعينات الجنسية والنوعية وكأمهات الأسماء الإلهية، والجزئية كالأفراد غير المتناهية المندرجة تحت التعينات الكلية.
والأولى تقتضي في عالم الأرواح حقائق روحانية مجردة، أولها العقل الأول المسمى «أم الكتاب» و«القلم الأعلى» و«النور المحمدي»: وهذا ينفصل بحسب التعينات الروحانية إلى العقول السماوية و الأرواح العلوية و الملائكة الكروبيِّين و أرواح الكمل من الأنبياء و الأولياء. 
ثم تتنزل مراتب التعينات إلى تعين النفس الكلية المسماة باللوح المحفوظ.
وتتنزل مراتب التعينات في هذه النفس الكلية أيضاً ثم يأتي بعد ذلك عالم المثال، ثم عالم العناصر الذي هو آخر مراتب التنزلات.
وكل متعين بالتعين الكلي من المجردات العقلية و النفوس السماوية و أرواح الأنبياء إلخ، يُفِيض على ما تحته من التعينات الجزئية و يمده بالحياة و يدبره و يتصرف فيه.
فأرواح الأنبياء على هذا الرأي من التعينات الكلية. 
و أرواح أممهم بالنسبة إليهم هي بمثابة الأعوان و الخدم.
وموسى أحد هذه الأرواح المتعينة بالتعين الكلي. 
و أرواح الأبناء الذين قتلوا في زمان ولادته هي الأرواح التي تحت حيطة روحه، و في حكم خدمه و أعوانه.
فلما أراد اللَّه إظهار موسى على فرعون و قهره إياه، قضى بأن يقتل فرعون أبناء بني إسرائيل لتنضم أرواحهم إلى روح موسى فيتقوى بها و تجتمع فيه خواصها.
فلما تعلق الروح الموسوي ببدنه، تعاضدت تلك الأرواح في إمداده بالحياة والقوة، وكلِّ ما هو مهيأ من الكمالات لتلك الأرواح الطاهرة.
فما ولد موسى إلا وهو مجموع أرواح كثيرة توجهت إليه وأقبلت نحوه بهواها ومحبتها و نوريتها خادمة له.
وقد كان أثرها فيه عظيماً، لأنها أرواح أطفال حديثي التكوين قريبي العهد بربهم.
وظاهر من هذا أن المراد بالتعينات الكلية إنما هو المجالي الكلية للواحد الحق التي نسبتها إلى المجالي الجزئية أشبه شيء بنسبة الكلي المنطقي إلى جزئياته.
والأنبياء والأولياء أو بعبارة أدق أرواح الأنبياء والأولياء بعض هذه المجالي. ولهذا قال محمد صلى اللَّه عليه وسلم: كنت نبياً وآدم بين الماء والطين: أي تجلى الحق في صورتي الروحية الكلية قبل خلق آدم.
وقد ذكرنا أن من رأي ابن العربي أن الحق هو المتجلي في صورة كل شيء بحسب استعداد تلك الصور، ولكنه متجلٍ في أكمل صورة في الإنسان الكامل الذي يتمثل في طبقة الأنبياء والأولياء.
وإذا كانت الأنبياء من المجالي الكلية للحق، ومن أوائل الكلمات الإلهية (العقول الإلهية)، أدركنا لِمَ ينسب ابن العربي حكمة كل فص من فصوص كتابه إلى كلمة من كلمات الرسل، كأنما يقصد بذلك أن روح كل فص والموحِي بالحكمة الواردة فيه نبي من الأنبياء أو هو الحق متجلياً في صورة ذلك النبي.
ولم يكن قتل فرعون لأبناء بني إسرائيل عن خطأ أو جهل، بل كان عن علم إلهي و تقدير أزلي، وإن كان فرعون نفسه لم يشعر بذلك.
 
(2) «و أما حكمة إلقائه في التابوت و رميه في اليَمِّ ... إلى قوله سكينة الرب».
(2) أشار إلى أن المراد بالتابوت الجسم الإنساني الذي يطلقون عليه اسم الناسوت، و باليَمِّ العلم الحاصل للنفس عن طريق القوى البدنية، كقوة النظر الفكري و قوى الحواس و القوة المتخيلة و ما إلى ذلك من القوى التي هي آلات المعرفة في الإنسان.
وظاهر أن «موسى» هنا ليس إلا مثالًا للإنسان الكامل الذي خلقه اللَّه على صورته، و أن كل ما يصدق عليه يصدق على غيره من الكاملين.
فقد ألقاه اللَّه في اليمِّ، أي قذف بناسوته في بحر المعرفة لتحصل له الكمالات الإلهية التي يمتاز بها الإنسان عن غيره من صور الوجود الأخرى.
والتابوت الانساني الذي هو الجسم أكمل الأجسام العنصرية على الإطلاق، ولذلك كان أهلًا لأن يكون محلَّ النفس الانسانية التي تدبره، ومحلّ السكينة الإلهية.
ويظهر أن المؤلف يشير بما ذكره عن السكينة الإلهية التي وضعها اللَّه في التابوت الانساني، إلى ما ورد في القرآن في صورة البقرة عن قصة طالوت.
والذي يعنينا هنا هو الآية التي ورد فيها ذكر التابوت وسكينة الرب، وهي الآية الوحيدة التي اقترن اسم السكينة فيها باسم التابوت.
قال تعالى: «وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَاتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ» (البقرة- 249).
ومعنى السكينة اللغوي الطمأنينة و الأمن، و بهذا وردت آيات كثيرة في القرآن كقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ».
ولكن ليس هذا هو المعنى الذي يرمي إليه ابن العربي. وأغلب الظن أنه يرمي إلى معنى آخر قريب من المعنى الذي تفيده كلمة «سكينة» العبرية في استعمالها الديني و الفلسفي عند اليهود.
نعم لا إجماع بين مفكري اليهود على رأي خاص في معنى «سكينة» و لكنها تفيد بوجه عام معنى الحضور الإلهي بين بني إسرائيل.
وقد تستعمل مرادفة لاسم اللَّه نفسه و قد فهمَتْ أيضاً بمعنى الواسطة بين اللَّه والخلق وبمعنى روح القدس وغير ذلك. وإذا صح ما ذكره أبو البقاء في «كلياته» من أن كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في قصة طالوت فإنها شيء كرأس الهرة له جناحان» (الكليات ص 201)، كانت سكينة التابوت الانساني شيئاً مختلفاً تماماً عن سكينة تابوت طالوت، لأنه لا يقصد بها إلا الناحية الإلهية في الإنسان (أي اللاهوت)، وهو الحضور الإلهي الذي يفهمه اليهود من كلمة «سكينة»، أو هو اللَّه نفسه.
 
(3) «كذلك تدبير الحقِّ العالَمَ، ما دبره إلا به أو بصورته ... كتوقف الولد على إيجاد الوالد».
(3) بعد أن شرح كيف يتوقف تدبير النفس الانسانية للبدن على البدن ذاته و ما فيه من قوى و استعدادات، قال كذلك يدبر الحق العالم. فالحق في نظره لا يدبر العالم كتدبير فاعل محض لقابل محض،
بل تدبير العالم بالعالم: أي يظهر تدبيره في العالم فيما يجري في العالم نفسه من تدبير بعضه بعضاً، و توقف بعضه على بعض كتوقف وجود الولد على وجود الوالد، وتوقف المسببات على أسبابها، و المشروطات على شروطها، و المعلولات على عللها.
كل أولئك أنواع من التدبير جارية بالفعل في العالم، و هي بعينها ما يسميه بالتدبير الإلهي. فالكاف في قوله: «كتوقف الولد على إيجاد الوالد» ليست للتشبيه، لأنه لا يريد تشبيه تدبير الحق للعالم بتوقف الولد على إيجاد والده له، ولكنها للتمثيل فكل ما ذكره من توقف بعض أنواع الوجود على بعض وتأثر بعضه ببعض، إنما هو أمثلة للتدبير الإلهي في العالم، وهو لا يجري إلا في العالم وبواسطة العالم نفسه.
ولهذا قال بعد أن ذكر الأمثلة السابقة: «و كل ذلك من العالم، و هو تدبير الحق فيه».
وخلاصة القول أن اللَّه لا يدبر العالم و هو بعيد عنه مخالف له، مستقل في وجوده عن وجوده، بل يدبره على أنه صورة و هو عين تلك الصورة. وكل ما يجري في العالم بواسطة العالم هو تدبيره.
وأما المراد «بصورته» أي صورة العالم فهو الأسماء الإلهية المتجلية في جميع مراتب الوجود، لأنها صُورة الوجود الظاهرة و الذات الإلهية باطنه.
ومعنى تدبير الحق العالم بواسطة الأسماء الإلهية تجليه بها في أعيان الموجودات، وظهوره فيها بحسب مقتضيات استعدادها، إذ العالم من حيث هو ظاهر الحق مجموع هذه الأسماء الإلهية.
وفي هذا المعنى يقول ابن العربي " فما وصفناه أي تَسَمَّى به إلا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في العالم".
ولكن أي تدبير هذا الذي تقتضيه طبيعة الوجود وهي ثابتة مستقرة أزلًا لا تخضع إلا لجبريتها الصارمة؟.
 
(4) «الأسباب و الشروط و العلل»:
(4) يجمع هذه الألفاظ الثلاثة معنى واحد، و هو أنها مقدمات يتبعها توال.
ولكن لكل منها معنى خاص. فالسبب بالمعنى اللغوي اسم لما يتوصل به إلى المقصود، وهو في الشريعة عبارة عما يكون طريقاً للوصول إلى الحكم من غير أن يؤثر فيه.
ومعناه الفلسفي ما يوجد المسبَّب بوجوده فقط إذا كان تاماً، وما يتوقف وجود المسبَّب عليه، ولكن لا يوجد المسبَّب بوجوده فقط إذا كان ناقصاً.
والشرط تعليق شيء بشيء بحيث إذا وجد الأول وجد الثاني.
وقيل هو ما يتوقف عليه وجود الشيء و يكون خارجاً عن ماهيته غير مؤثر في وجوده.
وأحياناً يفرقون بين السبب و الشرط على أساس أن السبب هو ما إذا وُجِدَ وجد مسبَّبه وإذا لم يوجد لم يوجد مسبَّبه، في حين أن الشرط هو ما إذا لم يوجد المشروط، ولكنه إذا وجد فقد يوجد وقد لا يوجد المشروط. و قد تستعمل كلمتا السبب والعلة على سبيل الترادف في الفلسفة، و لكن الفقهاء يميزون بينهما من وجهين: الأول أن المسبَّبَ يوجد عند وجود سببه لا به، في حين أن المعلول شيء لازم عن العلة ذاتها. الثاني أن معلول العلة يحصل عنها مباشرة وبغير واسطة، في حين أن المسبَّب لا يحصل عن سببه مباشرة.
 
(5) «فكما أنه ليس شيء من العالم إلا و هو يسبح بحمده، كذلك ليس شيء من العالم إلا و هو مسخَّر لهذا الإنسان».
(5) كل شيء في الوجود يسبّح الحق لأنه يعلن صفة من صفاته، أو يظهر اسماً من أسمائه. و في ذلك إفصاح عن الكمالات الإلهية، و هذا أعلى مراتب التسبيح و التقديس. و ليس هذا التسبيح نطقاً باللسان، و لكنه تسبيح أحوال الكائنات التي تعبِّر عن مكنونات أسرارها، كما أنه ليس المسبِّح بالحمد سوى المسبَّح بحمده:
أي أن «الكل» ألسنة ثناء على «الكل». و في هذا المعنى قال ابن العربي في الفص الخامس:
فيحمدني و أحمده و يعبدني و أعبده
ولكن أكمل الكائنات تسبيحاً للحق هو أكثرها إظهاراً لكمالاته و هو الإنسان: ذلك الكون الجامع في نفسه حقائق الوجود من أعلاه إلى أسفله، و ذلك المختصر الشريف الذي تنعكس على مرآته صورة الحضرة الإلهية بتمامها. و ليس تسخير ما في السموات و الأرض للإنسان في قوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ» سوى إظهار جميع حقائق الوجود في الإنسان.
وهي مسخَّرة له: لا بمعنى خضوعها له، بل بوجودها فيه بمعناها و حقيقتها. و هذا سر قوله تعالى «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها»، أي أودع فيه سر جميع الأسماء الإلهية التي هي مظاهر الوجود.
و العالم عالمان:
عالم أكبر، و هذا يسبح الحق بمفرداته بالمعنى الذي شرحناه،
و عالم أصغر و هو الإنسان.
و هذا يسبِّح الحق بجملته بنفس المعنى، و يسبحه على وجه لا يتهيأ لمخلوق آخر حتى للملائكة. و لذلك قال المؤلف في الفص الأول مشيراً إلى الملائكة: «فما سبحته بها (أي ببعض الأسماء الإلهية) و لا قدسته تقديس آدم».
 
(6) «فإن الأمر في نفسه لا غاية له يوقف عندها».
(6) بعد أن ذكر أن إلقاء موسى في التابوت و إلقاء التابوت في اليمِّ يدلان في ظاهرهما على الهلاك، و هما في الباطن عين الحياة الحقيقية التي هي حياة العلم، و بعد أن قارن بين الأموات بالجهل و الأحياء بالعلم المشار إليهما
في قوله تعالى: «أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً» إلخ،
انتهى إلى القول بأنه لما كان الأمر في نفسه، أي أمر الوجود لا غاية له يوقف عندها، كان مآل الجميع إلى الضلال و الحيرة.
و لكن الحيرة حيرتان: 
حيرة الجهل و حيرة العلم.
و هي بالمعنى الأول حيرة الجهل مرادفة للضلال،
و بالمعنى الثاني حيرة العلم مرادفة للهدى.
و قد جرت عادة المؤلف باستعمال لفظي الحيرة و الضلال على سبيل الترادف، و لكنه يفرق بينهما في هذه الفقرة لأنه يعرِّف الهدى المقابل للضلال بأنه الاهتداء إلى الحيرة. 
و إنما جعل الاهتداء إلى الحيرة عين الهداية، لأن الحيرة التي هي نتيجة العلم إنما تحصل من شهود وجوه التجليات الإلهية المتكثرة المحيرة للعقول و الأوهام، و ذلك عين الهداية.
 
(7) «كذلك وجود الحق كانت الكثرة له و تعداد الأسماء ... إلى قوله مع الأحدية المعقولة».
(7) أي كما تعددت أزواج النبات الخارج من الأرض بعد اهتزازها و نموها و إنباتها كما قال تعالى «وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» ،
كذلك تعددت مظاهر الكثرة في الواحد الحق بتعدد الأسماء التي تقتضيها أعيان الممكنات الظاهرة بها، و هي في الحقيقة عين واحدة لا كثرة فيها.
فالأرض و ما يخرج منها من ألوان النبات رمز للعالم، و الماء الذي يدفع بها إلى الاهتزاز و النمو و الإنبات رمز لمبدإ الحياة في الوجود.
فالأرض واحدة بالحقيقة، كثيرة بالمظاهر الخارجة عنها كذلك الحق، واحد بالحقيقة، كثير بالمظاهر.
وهذا معنى قوله «فثبت به و بخالقه أحدية الكثرة»: أي ثبت بالعالم و الحق الذي هو خالق العالم أن الكثرة الوجودية الظاهرة واحدة بالحقيقة.
و هو لا يريد بالخالق هنا إلا الذات الإلهية من حيث هي، لا الذات الإلهية المتصفة بالخلق، إذ لا خلق و لا مخلوق و لا خالق على الحقيقة في مذهبه. وقد قرأتُ النصَّ هكذا: «فثبت به و بخالقه أحدية الكثرة».
وهو ما ورد في المخطوطات التي رجعت إليها فيما عدا كلمة «بخالقه» التي وردت في إحدى المخطوطات «تخالفت» و في الأخرى «يحالفه» من غير نقط. 
و لكن القاشاني (ص 403) يقرأ الفقرة هكذا «فثُنِّيت به، و يخالفه أحدية الكثرة».
أي فثنيت الأسماء الإلهية بالعالم، و هذه الاثنينية مخالفة لأحدية الكثرة التي هي له لذاته. فكأن هناك مشابهة بين اثنينية الحق و الخلق و زوجية النباتات المشار إليها من قبل. أما بالي (شرح الفصوص ص 391) فيقرؤها «فثُنِّيت به و بخالقه أحدية الكثرة».
و يقرؤها القيصري (ص 274) «فثبت به و بخالقه أحدية الكثرة»: و يشرح ذلك بقوله «أي فثبت بالعالم و الحق الذي هو خالقه: أي بهذا الموضوع: أحدية الكثرة كما مر في الفص الإسماعيلي أن مسمى اللَّه أحديّ بالذات كلٌ بالأسماء و الصفات و صحف بعض الشارحين قوله بخالقه فقرأ يخالفه من الخلاف و هو خطأ».
 
(8) «فقبضه طاهراً مطهراً ليس فيه شيء من الخبث لأنه في قبضه عند إيمانه».
(8) من أهم المسائل التي أنكرها المسلمون على ابن العربي أشد الإنكار و كفروه بها :
قوله بصدق إيمان فرعون و نجاته من عذاب الآخرة، لأنه بذلك قد تحدي كل ما ورد في القرآن من الآيات الخاصة بكفر فرعون و ادعائه الألوهية،
و ما أُعِدَّ له و لآله من صنوف العذاب في الآخرة. و لكننا قد رأينا أن لابن العربي أسلوبه الخاص في التأويل و الإشارة، و أنه بالرغم من استشهاده بنصوص القرآن الواردة في حق الأنبياء أو غيرهم، و استقصائه لهذه الآيات، يؤول معانيها بما يشاء، و يرمز بألفاظها إلى ما يريد.
و قد رأينا أنه رمز بتابوت موسى إلى الجسم الانساني، و باليمِّ الذي ألقِيَ فيه موسى إلى بحر المعرفة، و بموسى نفسه إلى الإنسان الكامل أو أحد التعينات الكلية الإلهية.
و هو هنا يرمز بفرعون إلى النفس الانسانية الشهوانية ممثلة في أقوى صورها.
فإن فرعون كان مثالًا للعصيان و الكفر و الطغيان و الادعاء و الكبرياء، و لكنه مع ذلك يمثل في نظر ابن العربي، و في نظر الحلّاج من قبله، دور الفتوة و البطولة: لأنه لم يفعل ما فعل في نظرهما إلا تلبية للأمر الإلهي التكويني الذي يخضع له كل ما في الوجود، و إن خالف بمعصيته الأمر التكليفي.
 
فهي طاعة في صورة معصية، و نجاة في صورة هلاك.
ولا يعنينا تفصيل ما أورده ابن العربي عن إيمان فرعون أثناء غرقه من أن اللَّه قبضه ساعة توبته و إسلامه، وقوله إن الإسلام يَجُبُّ ما قبله كما ورد في الحديث، والتوبة تَجُبّ ما قبلها، ولا دفاعه عن إيمان فرعون بأنه بالفعل نطق بإيمانه في قوله: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ».
ولم يرد نص في القرآن بعدم قبول إيمانه هذا. لا يعنينا كل ذلك، فإن مثل هذه التفاصيل يوردها لتدعيم الفكرة الأساسية في مذهبه، وهي أنه لا ثواب ولا عقاب على ما يصدر من العباد من أعمال أو يعتقدونه من عقائد.
وإنما النعيم المقيم إنما هو في معرفة العبد حقيقة نفسه و منزلتها من الوجود العام، و شقاء العباد إنما هو في غفلتهم عن هذه الحقيقة.
ولكن لا خلود في النار- نار الحجاب هذه لأن هذه الحقيقة لا بد أن تتجلى للعبد بعد خلاصه من قيود صورته البدنية ورجوعه إلى الحق.
وقد شرحنا ذلك بالتفصيل في مواضع كثيرة من هذه التعليقات (راجع مثلًا التعليق الحادي عشر من الفص الإسماعيلي).
وإذا كان الأمر على هذا النحو فنفس كل إنسان فرعونُه، لأنها مصدر معاصيه و آثامه، و لكن معاصي الإنسان في الحقيقة طاعات بالمعنى الذي أسلفناه ولهذا وسعتها الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء.
 
(9) «كذلك علم الشرائع كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً: أي طريقاً: و منهاجاً أي من تلك الطريقة جاء».
(9) أي كما حرم اللَّه على موسى أن يرضع من ثدي غير ثدي أمه- و كان امتناعه عن الرضاع عن علم ذوقي و إلهام من اللَّه- كذلك وهبه اللَّه علماً ذوقياً بحقيقة الشرائع و أوقفه على سرها. و لكنه يكني بأم موسى عن الأصل الذي انحدر منه، و هو الحق الذي ظهر موسى بصورته. و لهذا قال فيما بعد «فأمه على الحقيقة من أرضعته لا من ولدته».
و قال قبل ذلك: «فكان هذا القول إشارة إلى الأصل الذي منه جاء، فهو غذاؤه كما أن فرع الشجرة لا يتغذى إلا من أصله».
فأم موسى اذن هي الأصل الذي غذاه بالوجود، و هذا الأصل هو الحق.
و كذلك كنَّى بلبن أم موسى عن صورة العلم الإلهي، و هذا مطرد في جميع كتاباته، استناداً إلى أثر يروونه من أن النبي صلى اللَّه عليه و سلم رأى في منامه يوماً أنه يشرب لبناً فأوَّلَ اللبن بالعلم. فكأن الذي حرم على موسى لم يكن في الحقيقة لبن المراضع، بل الشرائع و الاعتقادات الدينية التي اعتنقها من سبقه أو عاصره، و هي الشرائع التي يكفِّر بعضها بعضاً و يلعن بعضها بعضاً، و التي تحل حراماً أو تحرم حلالًا، لأن اللَّه قد كشف له عن الشريعة الحقة- و هي شريعة وحدة الوجود في نظر ابن العربي- التي لا تعرف حلالًا، و لا حراماً، و انما تعرف أن كل فعل و كل اعتقاد مرضي في نظر الحق (راجع الفص الاسماعيلي التعليق الرابع).
و هو يصل إلى هذه النتيجة عن طريقين:
الأول بالتجائه إلى فكرته فيما يسميه «الخلق الجديد»
والثاني بتأويله آية «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً».
فهو يرى أن الحق الظاهر في كل لحظة في صورة جديدة من صور الوجود، يظهر كذلك في كل آن في صورة جديدة من صور المعتقدات.
فالخلق دائم التجدد في مسرح الوجود، و الحق دائم التجدد في مسرح المعتقدات. و اذن ليس بين المعتقدات الدينية المختلفة خلاف إلا في الصورة.
أما في نفس الأمر فكلها مظاهر متجددة لحقيقة واحدة و شريعة واحدة. و ما كان حلالًا في شرع ما لا يكون حراماً في شرع آخر إلا في الصورة.
و في الحقيقة ليس هذا عين ذاك، لأن الأمر في خلق جديد، و لا تكرار في الوجود. و يظهر أن كلامه في الحلال و الحرام هنا منصب على الاعتقادات دون المعاملات.
وأما الآية، فلما لم يستقم له ظاهرها، عمد إلى طريقة في تفسيرها لا تبررها أساليب اللغة و لا يرتضيها الذوق.
فقال: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً» معناه لكل جعلنا منكم شريعة واحدة مهما اختلفت أساليبها و صورها، «وَ مِنْهاجاً» أي و من هذه الشريعة جاء شرعكم.
فقسم كلمة منهاجاً- أي طريقاً- إلى كلمتين: منها أي من هذه الشريعة جا: أي جاء.
و قد يفهم تفسيره للآية بمعنى آخر على أنه تفسير للوجود لا للشرائع. أي بمعنى أن المراد بالشريعة الطريق، و هو الطريق الأمم الذي ذكره في افتتاح الكتاب (الفصوص) - طريق الوجود العام و هو الحق.
و منها جاء أي جاء كل منكم، كما يأتي فرع الشجرة من أصلها، و هو التشبيه الذي ذكره.
فيكون معنى الآية: لكل منكم جعل اللَّه له طريقاً واحداً يسير فيه طريق الوجود الواحد الحق، و من هذا الطريق جاء. و هذا المعنى قد يبرره مذهب المؤلف، و لكنه لا يتفق و روح النص الوارد فيه في هذا الفص.
 
(10) «و نجَّاه اللَّه من غم التابوت فخرق ظلمة الطبيعة بما أعطاه اللَّه من العلم الإلهي ... إلى قوله و باطنه نجاة».
(10) أي خلص اللَّه موسى من كدورات البدن و ظلماته، فخرق بذلك ظلمة طبيعته بنور العلم الإلهي الذي أعطاه اللَّه إيَّاه.
وذلك العلم لدنيٌ كعلم الخِضْر الذي اقترنت قصته في القرآن بقصة موسى، و قال اللَّه في حقه «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» (الكهف آية 65).
وهنا وجه شبه بين سيرة موسى و سيرة الخضر بحسب ما يفهم ابن العربي، و ان لم يشعر أحدهما بذلك.
فقد قتل موسى الغلام القبطي لأمر لم يدرك حكمته فجاء الخضر فقتل هو الآخر غلاماً و قال «ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي»، يشير بذلك إلى أن قتله الغلام و قتل موسى غلامه لم يكونا إلا عن أمر إلهي باطني و إن لم يشعرا به.
ثم ان الخضر خرق سفينة القوم المساكين الذين كانوا يعملون في البحر و هذا عمل ظاهره هلاك وباطنه نجاة، و هو يقابل في قصة موسى إلقاءه في التابوت ثم إلقاء التابوت في اليمِّ، فإنه عمل ظاهره هلاك و باطنه نجاة و رحمة كما قدمنا.
 
(11) «و انما فعلت به أمه ذلك خوفاً من يد الغاصب فرعون أن يذبحه صبراً».
(11) قرأتُها صبراً بالصاد المهملة و الباء، من قولهم قُتِل صبراً، أي حبس و رمي و عُذِّب حتى مات.
وهذا يتفق مع روح النص و سائر القصة، وبه أخذ عبد الرحمن جامي الذي يعتبر قراءة ضَيْراً تحريفاً.
أما القاشاني والقيصري فيقرءانها ضيراً من ضاره الأمر يضيره و يضوره ضوراً و ضيراً أي ضره: أي خوفاً أن يذبحه فرعون ذبحاً مشتملًا على الضرر و هذا كلام لا معنى له.
 
(12) «فإن الحركة أبداً انما هي حبية، و يحجب الناظر فيها بأسباب أخر».
(12) انتقل من الكلام في فرار موسى بعد قتله الغلام و وصفه ذلك الفرار بأنه حركة دفعه إليها حبه النجاة من القتل، إلى الكلام عن الحركة عموماً.
ورأيه أن الحركة في جميع مظاهرها مبعثها الحب، و إن خفي هذا المعنى عن الباحثين في ماهيتها لاشتغالهم بالنظر في أسباب أخرى غير الحب يتوهمون أنها أصل الحركة. الحركة في نظره رمز للحياة و الوجود، و السكون رمز للموت و العدم.
وكل حركة، و كل مظهر من مظاهر الوجود، يبعث عليه الحب الساري في جميع الأشياء، الظاهر في جميع الصور. بل الحب هو سر الخلق و علته.
و أعني بالخلق هنا ما يعنيه ابن العربي نفسه من أنه ظهور الحق في صور أعيان الممكنات و تجليه فيها.
قال تعالى في حديث قدسي يرويه الصوفية «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني».
فحب ظهور الحق في صور الوجود، و حبه في أن يعرف نفسه بنفسه في مرايا الممكنات، كما يشاهد الإنسان صورته في المرآة فيدرك منها معنى غير الذي يدركه من نفسه من غير وجود هذه الصورة: ذلك الحب هو علة خلق العالم، و هو الأساس الحقيقي الذي يقوم عليه الوجود، فإنه يتخلل كل ذرة من ذرات العالم، و يدفع بكل شيء إلى الظهور بالصورة التي هو عليها.
ذلك الحب الذي هو مبدأ الوجود و أصل كل موجود، هو بعينه في نظر الصوفية السبيل الوحيد لمعرفة اللَّه و التحقق بالوحدة الذاتية معه. و هو في نظر ابن العربي أصل جميع الاعتقادات و العبادات كما أسلفنا.
(راجع التعليقين الخامس و السادس من الفص السابق). و قد كان الحب عند الصوفية دائماً روح الحياة الدينية و مصدر جذبتهم إلى الحق و شهودهم إياه و أساس نظريتهم في الأخلاق و المعرفة.
 
(13) «و علْمه تعالى بنفسه من حيث هو غني عن العالمين هو له ... إلى قوله للكمال فافهم».
(13) للحق نوعان من العلم: علم بذاته من حيث هو في ذاته، وهذا العلم قديم قدم الذات. وهو للحق دون غيره من حيث هو جوهر أزلي مجرد عن جميع الإضافات و النسب إلى الوجود الظاهري.
وهذا معنى قوله تعالى «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.
وعلم له بذاته و لكن في صور أعيان الممكنات، و هو العلم الحادث المشار إليه في قوله تعالى «حَتَّى نَعْلَمَ».
ويستوي فيه أن نقول إنه علم الحق بذاته في صور أعيان الممكنات، أو علم أعيان الممكنات به من حيث هو ظاهر فيها.
ولا يتم كمال العلم إلا بالاثنين معاً، كما لم يتم كمال الوجود بالوجود الأزلي وحده، و لا بالوجود الحادث الذي هو وجود العالم وحده، و إنما تم بالاثنين جميعاً. فهنا موازاة تامة بين الوجود الأزلي و العلم الأزلي و الوجود الحادث و العلم الحادث: و هما في كل من الحالتين وجهان لحقيقة واحدة.
وليس حدوث العالم وجودَه من بعد عدم و لا خلقَه في زمان معين، و إنما حدوثه- كما يقول ابن العربي- هو ظهور بعضه لبعض و ظهور الحق لنفسه في صور العالم.
 
(14) «فكان الخوف مشهوداً له بما وقع من قتله القبطي، و تضمن الخوف حب النجاة من القتل».
(14) أي فكان خوف موسى مشهوداً له، بمعنى أنه أدركه إدراكاً مباشراً لأنه قتل القبطي.
و لكن هذا الخوف لم يكن الباعث له على الفرار إلا في الصورة أما في الحقيقة فإن الباعث كان حب موسى النجاة من القتل. كذلك الحال في كل ما يصدر عن الإنسان من الأفعال و كل ما يظهر في الوجود من ظواهر لها سبب قريب مدرك مباشرة بالحس أو بالعقل، و سبب بعيد غير مدرك بالحس و لا بالعقل ادراكاً مباشراً.
و السبب البعيد في حدوث أي شيء هو الحب كما أسفلنا. و قد كان السببَ الحقيقي في فرار موسى.
و لكنه لم يدركه، لأن موسى و غيره من الناس انما يعنون بالأسباب القريبة لقربها و وضوحها و اتصالها المباشر بما يعود عليهم من نفع أو يلحقهم من ضرر.
ثم انه لما فرَّق بين السبب القريب و السبب البعيد كما ذكرنا مَثَّل للنسبة بينهما بالنسبة بين الجسم و الروح.
فالجسم هو الجزء الظاهر المحسوس الذي تنسب إليه أفعال الإنسان في الصورة، و الروح هو الجزء الباطن غير المحسوس المدبر للجسم الفاعل على الحقيقة لكل ما يصدر عن الإنسان من أفعال.
 
(15) «و لو كان موسى عالماً بذلك لما قال له الخِضْر «ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً».
(15) أي أني على علم لم يحصل لك عن ذوق، كما أنت على علم لا أعلمه أنا».
يظهر من جميع ما أورده ابن العربي من قصة موسى مع الخضْر، و الطريقة الخاصة التي خرَّج بها الآيات الواردة عنهما في سورة الكهف، أنه يستعمل الاسمين رمزاً لصاحبي نوعين من العلم: العلم الظاهر الذي يأتي به الأنبياء إلى أممهم و هو علم الشرائع.

و العلم الباطن الذي يعلمه الأولياء و هو علم الحقيقة. يقول القاشاني (شرح الفصوص ص 412): «اعلم أن الخضر عليه السلام صورة اسم اللَّه الباطن، و مقامه مقام الروح، و له الولاية و الغيب و أسرار القدر، و علوم الهوية و الأنية و العلوم اللدنية ... و أما موسى عليه السلام فهو صورة اسم اللَّه الظاهر و له علوم الرسالة و النبوة و التشريع».
فالحوار الدائر بين موسى و الخضر ليس قصراً على موسى و الخضر، و لكنه موازنة بين مطلق رسول و مطلق ولي.
و قد اعتبر الصوفية دائماً، كما تدل على ذلك عبارة القاشاني، تلك الشخصية الأسطورية الغريبة التي يسمونها «الخضر» من أقطابهم، و نظروا إليه نظرة خاصة من ناحية علمه اللدني الباطن، لأنهم اعتبروه المقصود «بالعبد الصالح» الذي قال اللَّه فيه «وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً».
و قد سبق أن ذكرنا أن ابن العربي يعد كل نبي و كل رسول ولياً، لأن الولاية عنصر مشترك بين الثلاثة جميعاً: أي أن كل نبي و كل رسول له مرتبة الولاية أوَّلًا، ثم يضاف إليها مرتبة النبوة إذا كان نبياً و مرتبة الرسالة إذا كان رسولًا.
و لكن الفرق بين الولي و الرسول أو النبي أن الولي يعلم العلم الباطن و يدرك أنه يعلمه، في حين أن النبي و الرسول يعلمانه و لكنهما لا يدركان أنهما يعلمانه. و هناك فرق آخر، و هو أن الرسول يعلم علم الظاهر الخاص بشرعه الذي أُرسل به، و هذا لا يعلمه الولي.
ومن هنا كان من واجب الولي أن يتبع رسول وقته فيما يأتي به شرعه من الأحكام، وإن كان يفهمها على النحو الذي يقتضيه علمه الباطن.
أما أن الرسول يعلم العلم الباطن، فدليله أنه معصوم من الخطأ، لأن اللَّه يوجِّه أفعاله حيث يشاء لحكمة عنده مهما كان مظهر هذه الأفعال.
ولهذا نبَّه الخضر موسى إلى باطن أفعاله بما قام به هو نفسه من الأفعال التي يدل ظاهرها على الهلاك دون باطنها.
ثم شرح له الحكمة في كل منها ليظهر له مقامه في الولاية، وليبين له الفرق بين العلم الذوقي الباطن، وعلم الظاهر.
والسر في أن الرسول يعمد دائماً إلى لسان الظاهر ولا يدرك غيره، أنه مكلَّف بتبليغ رسالته إلى قوم فيهم الخاصة والعامة.
وكلاهما يفهم لسان الظاهر و إن انفرد الخاصة بأنهم يفهمون ما يفهمه العامة وزيادة.
فخوفاً من أن تتبلبل أفكار العامة و تزل أقدامهم إذا هم عدلوا عن الظاهر وخاضوا في أسرار باطن الشرع، خوطبوا بهذه الطريقة الخاصة و لم يكلفوا فوق ما يطيقون.
أما الخاصة من أهل الأذواق فيغوصون، كما يقول، على درر الحكم و يعرفون مراد اللَّه الحقيقي من الأحكام.
هذه لا شك نغمة إسماعيلية دخلت التصوف منذ بدأ الصوفية يبحثون في الشريعة و الحقيقة والطريقة، و هو موضوع يعقد له القشيري فصلًا خاصاً في في رسالته.
وعن هذا الطريق وصل الصوفية إلى نتائج كان لها أكبر الأثر في تشكيل مذهبهم و صبغه بصبغة روحية خاصة ميزتهم في ميدان العقائد عن فرق المتكلمين، و في ميدان المعاملات عن الفقهاء.
 
(16) «فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً» يريد الخلافة، و «جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ» يريد الرسالة».
(16) يستعمل ابن العربي عادة كلمة «الخليفة» للدلالة على الإنسان الكامل الذي يظهر في أعلى درجاته في صور الأنبياء و الرسل و الأولياء.
وكلٌ من هؤلاء خليفة اللَّه بمعنى أنه الصورة الجامعة الممثلة للكمال الإلهي في عالم الظاهر.
ولكنه يفرق بعد ذلك بين أنواع الخلافة وما يصحبها من وظائف أخرى أو صفات تكون للإنسان الكامل.
فمن الخلافة الخلافة العامة، و هي القدر المشترك بين الأنبياء والرسل والأولياء وكأنه يريد بذلك الولايةَ بالمعنى الذي شرحناه في التعليق السابق: فإن هؤلاء جميعاً يتفقون في أنهم يعلمون علم الباطن، سواء أدركوا هذه الحقيقة أم لم يدركوها، ويأخذونه عن الخليفة الحقيقي الذي هو أصل علم الباطن و منبعه، وهو الروح المحمدي أو الحقيقة المحمدية الظاهرة على الدوام في صور الأنبياء و الرسل و الأولياء أما أنهم خلفاء اللَّه، فمعناه أنهم أكمل مجالي الحق بين الخلق.
ومن الخلافة خلافة التشريع، وهي خلافة الأنبياء الذين أرسلهم اللَّه إلى الناس. وهؤلاء يجمعون بين العلم الباطن الذي هو لهم من حيث كونهم خلفاء وأولياء، وبين العلم الظاهر الذي هو علم الشرائع. ولذلك يسميهم بالخلفاء الرسل.
ومن هذا الصنف الأخير من أعطاهم اللَّه صفة الحكم والمُلك والدفاع عن رسالتهم بالسيف.
ومن هؤلاء موسى في نظر المؤلف، وإن كان نبي مثل داود أو محمد أحق بهذه الأوصاف من موسى.
أما قوله في النص «فالخليفة صاحب السيف و العزل والولاية» فإنه لا يمثل على وجه التحقيق نظريته العامة في الخلافة، كما شرحها في الفص الأول على الأقل.
فإنه هنالك يعد الإنسان من حيث هو إنسان، و الإنسان الكامل بوجه خاص (ممثلًا في صورة آدم) خليفة اللَّه في أرضه.
و يستعمل في مواضع أخرى (الفص السابع عشر مثلًا) كلمة الخلافة مرادفة لكلمة الولاية بمعناها الواسع الذي شرحناه.
.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس مايو 14, 2020 6:12 am

25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية الجزء الثاني .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية                       الجزء الثاني
(17) «و أما حكمة سؤال فرعون عن الماهية الإلهية فلم يكن عن جهل و إنما كان عن اختبار».
(17) سأل فرعون موسى في معرض المحاجة و الجدل فقال «وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ» (الشعراء آية 23).
و السؤال «بما» سؤال عن الماهية، فكأنه بذلك أراد أن يظهر موسى أمام قومه بمظهر العجز: لأن السؤال عن الماهية الإلهية لا جواب له كما سيتضح فيما بعد.
و لم تخف على فرعون الحقيقة: أي أنه لم يكن يجهل أن اللَّه لا يُسْأل عن ماهيته لأنه لا يمكن وضع تعريف له و لكنه أراد إحراج موسى و اختباره لمعرفة صدق دعواه.
لذلك سأل هذا السؤال، و هو سؤال إيهام، ليظهر للحاضرين من قومه ما انطوت عليه نفسه من إيراد مثل هذا السؤال، أعني إظهار عجز موسى.
و السؤال الذي سأله فرعون محتمل إجابتين:
الأولى أن يقول موسى إن الماهية الإلهية لا تُعْرف،
والثانية أن يقول كما قال «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ».
و في كلتا الحالتين يستطيع فرعون أن يظهر لقومه أن موسى لم يجب، فيكون في ذلك انتصاره عليه.
هذه هي خلاصة المسألة كما يبسطها المؤلف.
ومراده منها أن يظهر أن الحقيقة الإلهية بسيطة لا تقبل التعريف، وأن كل ما يقبل التعريف مركب من الجنس و الفصل كما نقول في «الإنسان» إنه «الحيوان الناطق»، فندخله في جنسه القريب الحيوان و نميزه عن غيره من الأنواع الأخرى المشتركة معه في ذلك الجنس بأن نضيف إلى الجنس الفصلَ النوعي الذي هو «الناطق».
والحقيقة الإلهية لا جنس لها، إذ لا يشترك معها غيرها في حقيقتها، وإذن فلا تعريف لها.
فلم يبق إلا أن يعرَّف الحق بمثل ما عرَّفه به موسى: أي بإظهار لوازمه البيِّنة وهي العالم.
ولذلك قال: «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا»، أي الظاهر أثره في السموات- وهي كل ما علا- والأرض، وهي كل ما سفل، وما بينهما:
أي ما كان وسطاً بين العلو والسفل وهو عالم المثال.
وبذلك حصر جميع الموجودات الروحية و المادية. وقال فيما بعد «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما» للدلالة على ما ظهر وما بطن من أنواع الوجود.
فلم تكن إجابة موسى إجابة عن ماهية الذات الإلهية، بل عن هذه الذات من حيث ما ظهرت به، أو ظهرت فيه، من صور العالم.
ولم يأت موسى ببيان لحقيقة الحق على نحو ما يتوقع أهل النظر والمنطق، وإنما أبان هذه الحقيقة على نحو ما يفهمه أهل الحق.
والسؤال عن الماهية سؤال عن الحقيقة، و ليس من اللازم أن من لا تخضع ماهيته لتعريف أهل النظر يكون لا حقيقة له.
 
(18) «فقال رب المشرق و المغرب، فجاء بما يظهر و يستر، و هو الظاهر و الباطن. و ما بينهما: و هو قوله «بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ». «إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ».
(18) مزج آيتين مختلفتين و فسر إحداهما بالأخرى تفسيراً لا يبرره إلا حرصه على استخراج فكرة وحدة الوجود من القرآن مهما يكن الثمن.
والآية الأولى هي الواردة في رد موسى على سؤال فرعون عن الماهية الإلهية و نصها «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ»
والثانية هي قوله تعالى «وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».
والمراد بالمشرق في نظر ابن العربي كل ما ظهر من الوجود، و بالمغرب كل ما خفي، و بما بينهما، ما هو بين الخفاء و الظهور.
فكما قال في الآية السابقة إن اللَّه هو «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا» بمعنى أنه الظاهر في صور جميع مراتب الوجود عاليها و سافلها، قال هنا إنه «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما»: أي الظاهر في صور الوجود ظاهرها وخفيها.
وقد قال في الأولى «إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» أي أصحاب علم يقيني، وهو الذي يسميه علم الكشف و الوجود. و قال في الثانية «إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» أي أصحاب عقل وتقييد (لأنه يفهم العقل من عَقَلَ بمعنى قيد).
فكأن الآية الأولى تعطي إطلاق الحق، و هو ما يقول به أهل الكشف.
و الثانية تعطي تقييده، و هو ما يقول به أهل العقل.
ولكني لا أرى فرقاً بين الآيتين من حيث دلالتهما على الإطلاق و التقييد، فكلتاهما تصلح لما تصلح له الأخرى.
أما الفرق الحقيقي فبين أن يقال إن ذات الحق منزهة عن كل تعريف و كل تحديد، و في هذا معنى الإطلاق، و أن يقال إنه رب السموات و الأرض، أو رب المشرق و المغرب بمعنى أنه الظاهر في السموات و الأرض و في المشرق و المغرب، و في هذا معنى التحديد.
أما قوله «و هو قوله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»: فمعناه أن قوله «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما» يشبه قوله «وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»: لأن علمه محيط بكل شيء، و الشيء يشمل الظاهر و الباطن من الموجودات، و هو ما أشار إليه بالمشرق و المغرب.
أما «أهل الكشف و الوجود» فهم العارفون أهل الذوق.
وقد سماهم أهل وجود إما بمعنى أنهم يعرفون الوجود الظاهر الذي هو العالم الخارجي إلى جانب ما يكشف لهم من أسرار الغيب.
فهم أهل كشف ووجود أي أهل معرفة ذوقية بحقائق الأشياء، وأهل علم بالعالم الظاهر.
وإما أن يكون معنى الوجود «وجود الحق أي معرفته.
فهم أهل كشف و وجود أي فيهم القوة على كشف الحقائق و معرفة اللَّه.
وللصوفية «حال» يسمونها «الوجود»، وهي حال تعقب حال الوجد.
ففي الوجد يكون الصوفي فانياً عن نفسه، وفي «الوجود» يكون في حالة بقاء مع ربه، أي حالة شعور بالحق لا يفرق فيه بين ذاته المدرِكة والموضوع المدرَك.
وفي هذه الحال يقول الصوفي إنه وَجَدَ الحق ، وهي الحال التي يسمونها حال الصحو بعد المحو، 
وفيها يقول ابن الفارض:
ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها .... و ذاتي بذاتي إذ تحلت تجلت
 
(19) «فلما جعل موسى المسئول عنه عَينَ العالم ... إلى قوله بما يقبله الموقن و العاقل خاصة».
(19) لعل هذا الجزء من الفص أصعب ما فيه، لا من حيث موضوعه، فإنه لم يخرج عن دائرة وحدة الوجود التي يشرحها على لسان موسى تارة و لسان فرعون تارة أخرى بل من حيث الطريقة الملتوية التي يلجأ إليها في تفسير الآيات القرآنية و التعليق عليها ليخرج من كل ذلك بفكرته كاملة غير منقوصة في وحدة الوجود، مع المحافظة في الشكل على مسرح القصة القرآنية و ما دار فيها من حديث بين موسى و فرعون.
فسَّر قول موسى لفرعون إن اللَّه هو «رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا» تفسيراً يتفق مع فكرته في وحدة الوجود كما أسلفنا، لأنه أولها بمعنى أن اللَّه هو الظاهر في صورة ما في السموات و الأرض و ما بينهما: أي بصورة العالم.
ومهد بذلك لتفسير دعوى فرعون الألوهية، و لكل ما جرى بينهما بعد ذلك من حديث.
قال فرعون لموسى «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ»، فيسلم ابن العربي بادعاء فرعون الألوهية.
وكيف لا يكون فرعون إلهاً وهو جزء من العالم الذي قال إنه صورة اللَّه؟ إن فرعون و غيره من المحدثات صور الحق في الوجود الظاهري.
ولصورة فرعون مرتبة أعلى من مرتبة صورة موسى في ذلك المقام الخاص الذي كانا يتحدثان فيه، لأنه أعطِيَ الحكم و المُلك و التصرف فيمن دونه من الناس الذين قلَّت مراتبهم عن مرتبته. فالعين واحدة في الجميع و لكنها متكثرة بالمراتب.
ومرتبة فرعون أعلى من غيرها، و لذلك قال «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى».
قال فرعون لموسى «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ».
وظاهر هذه الآية يعطي معنى الوعيد، و لكن ابن العربي يقلب معنى الآية رأساً على عقب فيقول إن «السين» في مسجونين من حروف الزوائد، 
ومعنى «لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» لأسترنك: لأن لسان الباطن في نظره يقتضي أن يُقرأ القرآن هكذا.
فبعد حذف السين لا يبقى إلا مادة الجيم والنون التي معناها الستر والإخفاء وبهذا انقلب وعيد فرعون لموسى وعداً، وتهديده له بالسجن حماية ووقاية، جزاءاً لموسى على ما مهد به لفرعون من ادعاء الألوهية.
ويجدر بي أن أقتبس هنا كلام القاشاني في شرح هذه الفقرة لأهميته.
قال: «المراد بهذا اللسان لسان الإشارة، فإن فرعون كان غالياً من غلاة الموحدة، عالياً من المسرفين في دعواه، من جملة من قال عليه السلام عنه «شر الناس من قامت القيامة عليه و هو حي»: أي وقف على سر التوحيد و القيامة الكبرى قبل فناء إنِّيَّته و موته الحقيقي في اللَّه.
وهو يدعي الإلهية بتعينه، و يدعو الخلق إلى نفسه لتوحيده العلمي لا الشهودي الذوقي.
وهو يعلم لسان الإشارة. فلما علم أن موسى موحِّد ناطق بالحق افترص فرصة دعوى الألوهية لأن غير الحق ممتنع الوجود ... فرتبة الحق الظاهر في صورة فرعون له التحكم في ذلك المجلس [مجلس فرعون و موسى] على الرتبة الموسوية. فأيَّده جواب موسى بلسان التوحيد وقواه على دعواه مع إظهار السلطنة و القدرة بحسب الرتبة فقال له ما قال» (شرح القاشاني على الفصوص ص 417).
 
قال اللَّه تعالى في حق قوم فرعون «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» (الزخرف آية 54) يقول ابن العربي «فاسقين» أي خارجين عما تعطيه العقول الصحيحة من إنكار ما ادعاه فرعون باللسان الظاهر في العقل.
ومعنى هذا أن فسق قوم فرعون إنما كان في خروجهم عما يحكم به العقل الصحيح.
والعقل الصحيح ينكر مقالة فرعون في ادعائه الألوهية، إذ العقل يتبع لسان الظاهر ولا يعرف غيره. ودعوى فرعون الألوهية غير مقبولة في نظر العقل وإن كانت مقبولة في نظر الكشف والذوق الصوفي، فإن للعقل حداً يقف عنده يتجاوزه أصحاب الكشف واليقين.
وهذا التجاوز هو الخروج الذي فسر به الفسوق. فمن قوم فرعون من كان من الموقنين أهل الكشف و الذوق- و هم الفاسقون بالمعنى الذي شرحناه- و منهم العاقلون أهل العقل و النظر: ولهذا جاء موسى ... في جوابه عن سؤال فرعون بما يقبله الموقن والعاقل.
 
(20) «فَأَلْقى عَصاهُ و هي صورة 63 - 64 ما عصى به فرعون موسى ... إلى قوله فظهر الحكم هنا عيناً متميزة في جوهر واحد».
(20) ليست عصا موسى إلا صورة و رمزاً لعصيان فرعون و امتناعه عن أن يجيب دعوة موسى. أما انقلابها «حية» فهو أيضاً رمز لانقلاب عصيان فرعون طاعة فكأن نفس فرعون العاصية الأمارة بالسوء قد انقلبت إلى نفس طيعة مطمئنة،
لأنها انقلبت حية، و الحية من الحياة، و الحياة هنا حياة العلم و العرفان. و كما أن اللَّه تعالى يقول: «يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ»، أي يورد الحكم بالحسن و السوء على الفعل الواحد- لأن الفعل في ذاته لا يوصف بالحسن و لا بالقبح- و إنما تختلف أحكامنا عليه- كذلك قلْبُ معصية فرعون طاعة. أي أورد اسم المعصية على فرعون من وجه، و اسم الطاعة عليه من وجه آخر. وهو هو لم يتغير.
و كذلك قلب عصا موسى حية في اللسان الرمزي، أي سماها عصا في صورة، و حيَّةً في صورة أخرى. و جوهرها واحد لم يتغير إلا في الحكم.
وخلاصة القول أن فرعون لم يعص موسى إلا في الصورة، بل لم يكن عصيانه إلا عين الطاعة: لأن العصيان و الطاعة مظهران لحقيقة واحدة، كما أن عصا موسى و حيته لم يكونا إلا مظهرين و صورتين لجوهر واحد.
فلم يختلف عصيان فرعون عن الطاعة الحقيقية إلا بمقدار ما اختلفت عصا موسى عن الحية التي تحولت تلك العصا إليها.
والحقيقة أنه ليس هناك تحول و لا انقلاب و إنما هو تغير في الصور.
والظاهر أن القاشاني (ص 419) يفهم كلمة «الحكم» في النص بمعنى الأمر والنهي.
فكأنه يريد أن يقول إن اللَّه أمر عصا موسى أن تكون عصاً فكانت، ثم أمرها أن تنقلب حية فانقلبت حية، و هي جوهر واحد في كلتا الحالتين لم يتغير.
أما الذي شاهده قوم فرعون في الخارج فهو حكم اللَّه.
وبهذا فهم قول المؤلف «فظهر الحكم هنا عيناً متميزة في جوهر واحد».
ولكني فهمت «الحكم» في هذه الفقرة بمعنى الوصف الذي نورده على الأشياء.
فنحن الذين سمينا عصاً موسى عصا في صورتها الأولى، و سميناها حية في صورتها الثانية، و هي جوهر واحد لم يتغير.
و كذلك نسمي الكثرة الوجودية في الكائنات كلًّا منها باسمه الخاص مع أنها في الحقيقة جوهر واحد.
 
(21) «فإن الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها لأن الأعيان الثابتة اقتضتها ... إلى قوله سوى أعيان الموجودات».
(21) تكلم عن الأسباب في معرض كلامه عن أعمال فرعون من صلبه الناس و تقطيعه أيديهم وأرجلهم.
ورأيه أن الذي فعل كل هذا إنما هو الحق الظاهر بصورة فرعون، لأن الحق هو الفاعل على الحقيقة في صورة كل ما له فعل، إذ هو القائل عن نفسه: «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى» (الأنفال آية 17).
وهذا يثبت في نظر أصحاب وحدة الوجود أمثال ابن العربي، أن الحق هو الفاعل لكل شيء في صورة كل شيء.
فإذا نسبنا الأفعال إلى الصور الوجودية التي هي أعيان الممكنات سميناها أسباباً، وإذا نسبناها إلى الفاعل الحقيقي الذي هو الحق لم نتكلم عن الأسباب.
فالمراد بالأسباب هنا العلل الجزئية التي تحدث أَثرها بين موجود و موجود في داخل الوجود الكلي العام. أما ذلك «الكل» فلا سبب له، أي لا علة لوجوده.
و لا سبيل لتعطيل الأسباب لأنها من مقتضيات العلم الإلهي القديم، أي من مقتضيات أعيان الأشياء الثابتة في العلم الإلهي الأزلي، لأن كل ما يظهر في الوجود يتعين على النحو الذي كان عليه في الثبوت تلك كلمات اللَّه التي لا تتبدل، و كلمات اللَّه هي أعيان الموجودات الثابتة.
و هنا يصرح ابن العربي بقدم العالم تصريحاً لا يقل عن تصريح فلاسفة المشاءين، و إن كان يختلف عنهم في تفسير العلاقة بين الحق و الخلق.
فأعيان الموجودات في مذهبه قديمة من حيث ثبوتها، و ينسب إليها الحدوث من حيث وجودها.
و يمثل لذلك بمجي ء ضيف في وقت معين، فإننا نقول «حدث عندنا اليوم ضيف»، و لا يلزم من حدوثه أنه لم يكن له وجود من قبل.
و كذلك يمثل بما ذكره اللَّه تعالى في «إتيان كلامه» إلى الناس مع أن كلامه قديم.
قال تعالى: «ما يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ» (الأنبياء آية 2)، و قال: «وَ ما يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ» (الشعراء آية 4). هذه كلها أمثلة يسوقها ليفسر بها ما يقصده من معنى الحدوث.
 
فالعالم قديم لأن له عيناً ثابتة في الأزل، بل هو قديم قدم الذات الإلهية الظاهرة في صوره، و حادث لتجدد هذه الصور و اختلافها عليه، بل هو كلَّ آن في خلق جديد.
و يجب أن نلاحظ الفرق بين ما يقوله أهل السنة و الجماعة من وجود الأشياء أزلا في العلم الإلهي القديم و ثبوتها في أم الكتاب أو في اللوح المحفوظ، و بين ما يقوله أصحاب وحدة الوجود من وجود الأشياء في أعيانها الثابتة التي هي في الحقيقة عين الذات الإلهية.
 
و قول هؤلاء الأخيرين يعتمد على نظريتهم في أن المعدوم (الذي ليس له وجود خارجي) شيء ثابت في العدم، و هو رأي يشاركهم فيه كثير من المعتزلة و الرافضة.
 
(22) «ثم لتعلم أنه ما يقبض اللَّه أحداً إلا و هو مؤمن ...... و أعني من المحتضرين».
(22) لما فرغ من الكلام عن فرعون و أثبت بطريقته الخاصة أنه مات مؤمناً، جره ذلك إلى الخوض في الموت على الإيمان أو الكفر إطلاقاً. و قد فرق بين نوعين من الناس: من يموتون ميتة احتضار، و من يموتون ميتة فجأة أو غفلة.
و الأولون يموتون على الايمان، و منهم فرعون- لأن المحتضر يكشف له عن حقيقة الأمر و يعلم ما أعد له من مكان في الجنة أو في النار، و يعلم جميع أحوال الآخرة (بالمعنى الخاص الذي يعطيه ابن العربي للجنة و النار و الدار الآخرة).
و لا بد من إيمانه لأنه لا يمكن أن يبقى على الكفر و الضلال بعد أن انكشف عنه الغطاء و احتد البصر.
قال تعالى: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (سورة ق آية 22).
فلا يقبض المحتضر إلا على ما كان عليه من الايمان كما يقول الحديث «و يحشر على ما عليه مات».
يقول المؤلف «كان» كلمة وجودية تدل على ثبوت الخبر للاسم و وجوده لا في زمان خاص، و لا تدل على الزمان إلا بقرائن الأحوال.
فإذا قال الشيخ كنت صبياً، أو قال الفقير كنت غنياً، دلت على الزمان الماضي.
أما إذا قال اللَّه تعالى: «وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ، فمعناه حصول نسبة الغفران و الرحمة إلى اللَّه.
فقوله يقبض على ما كان عليه معناه و يقبض على ما هو عليه: أي على الحال التي هو عليها قبل موته مباشرة.
و بذلك يفرق بين الكافر المحتضر و الكافر المقتول غفلة أو الميت فجاءة، و يعد فرعون من النوع الأول.
 
(23) «و أما حكمة التجلي و الكلام في صورة النار فلأنها كانت بغية موسى».
(23) طلب موسى النار فظهر له الحق في صورتها التي أشار إليها في قوله لأهله:
«امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» (طه آية 10).
وقد تجلى له الحق في صورة النار لأنها عين مطلوبه أولًا، و لأن النار رمز القهر و المحبة ثانياً.
أما أنها رمز القهر فلأنها تفني كل ما اتصل بها و تحوله إلى طبيعتها.
وكذلك الحق يفنى فيه كل ما اتصل به، أي كل من تحقق من وحدته الذاتية به. أما أنها رمز المحبة فلأنها مصدر النور المحبوب لذاته.
 
و لكن شهود موسى للحق في صورة النار لم يكن شهوداً كاملًا، لأن الحق كلمة في ذلك المقام بقوله: «إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» (طه آية 12)،
و مقام المكالمة يقتضي الاثنينية، أما مقام الشهود الحقيقي فيقتضي فناء المشاهد في المشاهَدِ، و هو المشار إليه بقوله تعالى: «قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، قالَ لَنْ تَرانِي ... فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً». (الأعراف آية 142).
 
و ليس موسى وحده هو الذي تجلى له الحق في صورة مطلوبة، فإن الحق يتجلى لكل منا في صورة ما يحب، و صورة الحب هي صورة الاعتقاد كما ذكرنا (التعليقات 5، 6، 7 على الفص الهاروني، و التعليق 12 على الفص الموسوي).
 
فهو يتجلى في صور الاعتقاد و يعبد فيها، أو يحب فيها، لأن الحب هو أساس العبادة و المطلوب لذاته عند الجميع.
.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس مايو 14, 2020 6:13 am

26 - فص حكمة صمدية في كلمة خالدية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي  

الفص الخالدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
26 - فص حكمة صمدية في كلمة خالدية
الفص السادس والعشرون حكمة صمدية في كلمة خالدية
(1) حكمة صمدية في كلمة خالدية "خالد بن سنان".
(1) هو خالد بن سنان بن غيث العبسي من أهل زمن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، أو ممن عاش قبل زمن عيسى على بعض الأقوال.
والمعروف عنه أنه كان يقول بالتوحيد قبل البعثة المحمدية، ناهجاً منهج الملة الحنفية.
وقد عده كثير من المسلمين، ومنهم ابن العربي، من الأنبياء، استناداً فيما يظهر على ما يروى من أن ابنته أو إحدى بنات ذريته جاءت إلى الرسول فقال لها: «مرحباً يا بنت نبي أضاعه قومه». و يقال إنها لما أتت إلى النبي سمعته يقرأ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فقالت قد كان أبي يقرأ هذا.
ويظهر أن سبب شهرة خالد بين العرب ما حكموا من أن ناراً عظيمة ظهرت في بلاد عَبْس في الجاهلية تعرف بنار الحَرَّتين وهي التي قال فيها الشاعر:
ونار الحرتين لها زفير  ..... يصم لهوله الرجل السميع
و كانت تظهر ساطعة بالليل، فإذا كان النهار ارتفع منها دخان عظيم، و ربما بدر منها عنق فأحرق من مر بها.
ففزع العبسيون إلى خالد بن سنان، و كانوا يقصدونه في الممات فأخمدها. قالوا إنه أخذ من كل بطن من بني عيسى رجلًا،
وخرج بهم نحو النار ومعه درة حتى انتهى إلى طرفها، و قد خرج منها عنق كأنه عنق بعير، فجعل يضرب العنق بدرته ويقول بدا بدا حتى رجع، وجعل يتبعه والقوم يتبعونه كأنه ثعبان ينحك في حجارة الحوة، حتى انتهى إلى غار فانساب فيه فدخل خالد خلفه
فقال ابن عم له يقال له عروة بن شبة: «لا أرى خالداً يخرج إليكم».
و لكن خرج سالماً و يداه على رأسه من الألم الذي أصابه من صياح القوم به.
فقال لهم «ضيعتموني وأضعتم قولي وعهدي» لأنه كان عاهدهم ألا يصيحوا به وهو في المغارة.
ثم أخبرهم بموته وأمرهم أن يقبروه ويرقبوه أربعين يوماً: فإذا أتى قطيع من الغنم يقدمه حمار أبتر وحاذى قبره ووقف، نبشوا عليه قبره، فإنه يقوم ويخبرهم بجلية الأمر بعد الموت عن شهود ورؤية، فيحصل للخلق كلهم عين اليقين بما أخبرت به الرسل.
فلما مات وحدث ما أخبرهم به من قدوم قطيع الغنم، هَمَّ مؤمنو قومه وأولاده أن ينبشوا عليه، فأبى أكابرهم وقالوا يكون ذلك عاراً علينا عند العرب، فيقال فينا أولاد المنبوش، فحملتهم الحمية الجاهلية على ذلك، فضيعوا وصيته وأضاعوه.
"" راجع شرح القاشاني على الفصوص ص 426. قارن بلوغ الأرب للألوسي ج 1 ص 176 و ج 2 ص 164 و ما بعدها.""
هذا ما نعرفه من قصة خالد بن سنان نبي العرب قبل الإسلام، و قد ذكره ابن العربي في هذا الفص ممثلًا للنبوة البرزخية، وهي الإخبار بأحوال الآخرة في البرزخ.
وقد كان هذا قصد خالد عند ما سأل أهله أن ينبشوا عليه قبره ليخرج إليهم، فيخبرهم أن أمر الآخرة إنما هو على نحو ما وصف الأنبياء لأقوامهم، و بذلك يصدق دعوى الأنبياء جميعاً.
ولكنه ضيعه قومه لأنهم لم ينبشوا قبره كما طلب ولم يبلغوه مراده.
وليس في الفص غير هذا يستحق التعليق.
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس مايو 14, 2020 6:13 am

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي     

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الأول
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
الفص السابع والعشرون حكمة فردية في كلمة محمدي
(1) حكمة فردية في كلمة محمدية «الكلمة المحمدية».
(1) شاع من أوائل عهد الإسلام القول بأزلية محمد عليه السلام، أو بعبارة أدق بأزلية «النور المحمدي».
و هو قول ظهر بين الشيعة أولًا و لم يلبث أهل السنة أن أخذوا به، و استند الكل في دعواهم إلى أحاديث يظهر أن أكثرها موضوع. من ذلك أن النبي (صلى اللَّه عليه و سلم) قال: «أنا أول الناس في الخلق» و منها: «أول ما خلق اللَّه نوري»،
و منها: «كنت نبياً و آدم بين الماء و الطين» و غير ذلك من الأحاديث التي استنتجوا منها أنه كان لمحمد عليه السلام وجود قبل وجود الخلق، و قبل وجوده الزماني في صورة النبي المرسل، و أن هذا الوجود قديم غير حادث، و عبروا عنه بالنور المحمدي.
و قد أفاضت الشيعة في وصف هذا النور المحمدي، فقالوا إنه ينتقل في الزمان من جيل إلى جيل، و أنه هو الذي ظهر بصورة آدم و نوح و إبراهيم و موسى و غيرهم من الأنبياء ثم ظهر أخيراً بصورة خاتم النبيين محمد عليه السلام.
و بهذا أرجعوا جميع الأنبياء من آدم إلى محمد، و كذلك ورثة محمد إلى أصل واحد.
و هو قول نجد له صدى في الغنوصية المسيحية.
يقول الأب كليمنت الاسكندري: «ليس في الوجود إلا نبي واحد و هو الإنسان الذي خلقه اللَّه على صورته، و الذي يحل فيه روح القدس، و الذي يظهر منذ الأزل في كل زمان بصورة جديدة».
نجد لكل هذا الكلام نظيراً في كتب ابن العربي فيما يسميه الكلمة المحمدية أو الحقيقة المحمدية أو النور المحمدي.
فهو لا يقصد بالكلمة المحمدية في هذا الفص محمداً الرسول، و إنما يقصد الحقيقة المحمدية التي يعتبرها أكمل مجلىً خَلْقِيّ ظهر فيه الحق، بل يعتبره الإنسان الكامل و الخليفة الكامل بأخص معانيه.
و إذا كان كل واحد من الموجودات مجلى خاصاً لبعض الأسماء الإلهية التي هي أرباب له، فإن محمداً قد انفرد بأنه مجلى للاسم الجامع لجميع تلك الأسماء، و هو الاسم الأعظم الذي هو «اللَّه».

و لهذا كانت له مرتبة الجمعية المطلقة، و مرتبة التعين الأول الذي تعينت به الذات الأحدية، إذ ليس فوقه إلا هذه الذات المنزّهة في نفسها عن كل تعين و كل صفة و اسم و رسم.
و لهذه الحقيقة المحمدية التي هي أول التعينات- و إن شئت فقل أول المخلوقات- وظائف أخرى ينسبها إليها ابن العربي.
فهي من ناحية صلتها بالعالم مبدأ خلق العالم، إذ هي النور الذي خلقه اللَّه قبل كل شيء و خلق منه كل شيء.
أو هي العقل الإلهي الذي تجلى الحق فيه لنفسه في حالة الأحدية المطلقة، فكان هذا التجلي بمثابة أول مرحلة من مراحل التنزّل الإلهي في صور الوجود.
فلما انكشفت له حقيقة ذاته و كمالاتها، و ما فيها من أعيان الممكنات التي لا تحصى، أحب إظهار كمالاته في صور تكون له بمثابة المرايا التي يرى فيها نفسه، فكانت أعيان الممكنات الخارجية تلك المرايا.

و من ناحية صلة الحقيقة المحمدية بالإنسان، يعتبرها ابن العربي صورة كاملة للإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه جميع حقائق الوجود، و لذلك يسميها آدم الحقيقي، و الحقيقة الانسانية.
و يعدها من الناحية الصوفية مصدر العلم الباطن، و منبعه، و قطب الأقطابقارن كذلك الفص الشيثي للمؤلف، و طاسين السراج من كتاب الطواسين للحسين بن منصور الحلاج.
في هذا الوصف الاجمالي لما يسميه ابن العربي «الكلمة المحمدية»، أو الحقيقة المحمدية، عناصر مختلفة مستمدة من الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، و الفلسفة المسيحية و اليهودية، مضافاً إلى ذلك بعض أفكار من مذهب الاسماعيلية الباطنية و القرامطة.
مزج جميع تلك العناصر على طريقته الخاصة، فضيع بذلك معالم الأصول التي أخذ عنها، و خرج على العالم بنظرية في طبيعة الحقيقة المحمدية، لا تقل في خطرها و أهميتها في تاريخ الأديان عن النظريات التي وضعها المسيحيون في طبيعة المسيح، أو النظريات اليهودية أو الرواقية، أو اليونانية التي تأثرت بها النظرية المسيحية.


هذا هو ما يقصده ابن العربي بالكلمة المحمدية، و هي شيء يختلف تمام الاختلاف عن شخصية النبي محمد صلى اللَّه عليه و سلم، بل ليس بينهما من الصلة إلا ما بين الحقيقة المحمدية و أي نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل أو ولي من الأولياء.
فالكلمة المحمدية إذن شيء ميتافيزيقي محض خارج عن حدود الزمان و المكان.
أو قل إن شئت هي الحق ذاته ظاهراً لنفسه في أول تعين من تعيناته في صورة العقل الحاوي لكل شيء، المتجلي في كل كائن عاقل.
و ليس هذا الاختصاص لغير الكلمة المحمدية، و من هنا كانت فردية الحكمة المحمدية كما يشير إلى ذلك عنوان الفص.
و قد وردت تسمية هذه الحكمة بالحكمة الكلية أيضاً في بعض النسخ، و ليس لها معنى إلا ما ذكرنا.

(2) «و لهذا بدى ء به الأمر و ختم».
(2) يدل كلام المؤلف الآتي بعد ذلك مباشرة على أن المراد بكلمة «الأمر» هنا أمر الرسالة، لأنه يقول: فكان نبياً و آدم بين الماء و الطين، ثم كان بنشأته العنصرية خاتم النبيين.
ولكن الأوْلى أن نفهم من قوله «كنت نبياً وآدم بين الماء والطين» الإشارة إلى أسبقية وجود آدم، لا من حيث نبوته، بل من حيث مطلق ووجوده.
أي أن المراد الإشارة إلى أن الروح المحمدي أول موجود. وبذلك يكون معنى قوله بدىء به الأمر و ختم، بدى ء به أمر الوجود وختم به أمر الرسالة.
هذا، و قد شاع بين جمهور الصوفية الاستدلال بالحديث: «كنت نبياً و آدم بين الماء والطين» على أزلية محمد (الحقيقة المحمدية)، و لكن الغزالي يخالفهم في ذلك قائلًا إن المراد من الحديث النص على أن النبي عليه السلام قد قدر له أزلًا أن يكون نبياً قبل أن يخلق اللَّه آدم أو أي مخلوق آخر. و تفسير الغزالي لا يبين جهة الاختصاص في حالة النبي عليه السلام، لأن كل نبي آخر قد قدر له أزلًا أن يكون نبياً قبل خلق آدم.

 
(3) «وأول الأفراد الثَلاثةُ ...... إلى قوله و الدليل دليل لنفسه».
(3) أول الأعداد الفردية هو الثلاثة لا الواحد، لأن الواحد عندهم ليس بعدد و إنما هو أصل الأعداد.
وما زاد على الثلاثة من الأعداد الفردية فهو متفرع عنها، كالخمسة المتفرعة عن الثلاثة بإضافة جزئين منها إلا نفسها، و التسعة المتفرعة عن الثلاثة بضربها في نفسها وهكذا.
وعلى أساس هذه الفكرة العددية بنى ابن العربي فكرة ميتافيزيقية موازية لها، لا فيما يذكره عن «محمد» باعتباره مظهراً للاسم الإلهي «الفرد»، بل في كل ما يقوله عن عملية الخلق التي يرجعها إلى الفردية الثلاثة.
فأول صورة تعينت فيها الذات الإلهية كانت ثلاثية، لأن التعين كان في صورة العلم حيث العلم و العالِم و المعلوم حقيقة واحدة. و قد كان هذا التعين الأول تعيناً حُبيًّا أيضاً، حيث الحب و المحب و المحبوب حقيقة واحدة، و إلى هذا أشار ابن العربي في قوله:

تثلث محبوبي و قد كان واحداً .....  كما صيروا الأقنام بالذات أقنما. راجع ترجمان الأشواق ط. بيروت 1312 هـ ص 42. قارن الفتوحات ج 3 ص 171.
وأول حضرة إلهية ظهر عنها العالم ثلاثية أيضاً، لأنها حضرة الذات الإلهية المتصفة بجميع الأسماء و الصفات، وهي التي تسمى في اصطلاح القوم «حقيقة الحقائق» و «البرزخ الجامع» وغير ذلك من الأسماء. وعملية الخلق أيضاً ثلاثية، لأنها تقتضي
وجود الذات الإلهية و الإرادة و قول كن. قال تعالى: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».  راجع الفص 12، التعليق الثالث.
و هذا يقتضي وجود فردية ثلاثية في الشيء المخلوق لكي يتم خلقه، لأنه يقتضي شيئية الشيء المخلوق و سماعه أمر التكوين و امتثاله ذلك الأمر.
هكذا ينظر ابن العربي إلى التثليث، و يعتبره المحور الذي تدور حوله رحى الوجود، و الأساس الذي ينبني عليه الخلق و الإنتاج أياً كان نوعه، أي سواء أ كان في العالم المادي أم في العالم الروحي أم في عالم المعاني.

ولذلك ذكر الدليل المنطقي- وهو القياس- و قال إنه ينتج لأنه ثلاثي التركيب، فإنه لا بد فيه من ثلاثة حدود هي الحد الأكبر والحد الأصغر والحد الأوسط، وثلاث قضايا هي المقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى والنتيجة.
ولما كان الدليل ثلاثي التركيب، وكانت دلالته على مدلوله ذاتية مباشِرَةً من غير حاجة إلى شيء آخر خارج عنه، وهو المراد بقوله: «و الدليل دليل لنفسه»، شَبَّه الحقيقة المحمدية المثلثة الأركان، من حيث دلالتها على ربها، بالدليل المنطقي المثلث الأركان، من حيث دلالته على مدلوله.
والحقيقة المحمدية أول دليل على ربها، لأنها المظهر المعقول الجامع لجميع حقائق الأسماء الإلهية، الظاهرة في الجنس البشري، بل في العالم أجمع.
وإذا كان كل موجود دليلًا على ربه من حيث هو مظهر خارجي تتجلى فيه كمالات ربه، فمحمد أول دليل على ربه، لأنه الصورة الجامعة التي تتجلى فيها كل هذه الكمالات.

قال تعالى: «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» (البقرة آية 30): ومعنى علمه الأسماء كلها في عرف ابن العربي أظهر فيه معاني الأسماء الإلهية كلها.
أما محمد (الحقيقة المحمدية) فقد أعطي حقائق تلك الأسماء، و هي التي يشير إليها ابن العربي بجوامع الكلم.

فإذا كان آدم هو الإنسان الظاهر المتعين بالوجود الخارجي في صور أفراده، فمحمد هو الإنسان الباطن المتعين في العالم المعقول.
و قد اختلف شراح الفصوص في تفسير قوله: «و الدليل دليل لنفسه». ف
يقول القيصري (ص 293) «اللام في الدليل للعهد، أي هذا الدليل الذي هو الروح المحمدي هو دليل على نفسه في الحقيقة، ليس بينه و بين ربه امتياز إلا بالاعتبار و التعين.
فلا غير ليكون الدليل دليلًا له»: أي أن الحقيقة المحمدية ليست دليلًا على ربها، بل هي دليل على نفسها، لأنها هي و الحق حقيقة واحدة لا فرق بينهما إلا بالاعتبار.
و يذهب «بالي» إلى أن اللام في كلمة «الدليل» للاستغراق لا للعهد، أي فكل فرد من أفراد الدليل أو نوع من أنواعه دليل على الرب من حيث هو دليل على النفس.
و بهذا نفهم معنى الحديث «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (بالي ص 420 - 421).
أما «جامي» فيفسرها بقوله «و الدليل- أي دليل كان- فإنما هو دليل لنفسه، أي دلالته على مدلوله ذاتية لا يُحتاج فيها إلى ما سواه، و كذلك دلالته صلى اللَّه عليه و سلم ذاتية لا احتياج له فيها إلى غيره بخلاف سائر الموجودات».
و هذا هو التفسير الذي أخذت به. (راجع شرح جامي على الفصوص ج 2 ص 336).


(4) «و معرفة الإنسان بنفسه مقدَّمة على معرفته بربه ... إلى قوله فافهم».
(4) مقدَّمة معناها متقدمة سابقة على معرفته بربه. و قد ذاع بين الصوفية الاستشهاد بما ادعوا أنه حديث نبوي، و هو قوله عليه السلام «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، و أكثروا القول فيه و التعليق عليه.
أما ابن العربي فيفهم هذا الحديث فهماً خاصاً يتمشى مع مذهبه في وحدة الوجود. فليست معرفة الإنسان بنفسه وسيلة لمعرفته بربه من حيث إنه يدرك قدرة اللَّه و عظمته عن طريق إدراكه لنفسه، و ما أودع اللَّه فيها من أسرار الخلق و عجائبه.
بل إنه يعرف ربه بمعرفته نفسه، و يجهل من ربه بمقدار ما يجهل من نفسه، لأن نفسه هي المظهر الخارجي لربه، أو هي المرآة التي يتجلى فيها ربه فيراه و يدركه.
و المراد بالرب هنا الحق المتجلي بالأسماء الإلهية في صور أعيان الممكنات لا الحق من حيث هو في ذاته بعيداً عن كل تعين، و كل نسبة، أو إضافة إلى العالم، فإنه من هذه الناحية غني عن العالمين، منزه عن كل معرفة و إدراك.
أما الحق الذي يعرف و يدرك فهو الحق الظاهر، و ليس الحق الظاهر سوى العالم: و نفس الإنسان جزء من العالم بل أكمل جزء فيه. فمن عرف نفسه عرف ربه على هذا المذهب معناه عرف الحق الظاهر في نفسه.
و لكن هل يعرف الإنسان نفسه على وجه الحقيقة؟
إذا كان الجواب بالإيجاب، قلنا بإمكان معرفة الإنسان ربه، و إذا كان بالسلب، لاستحالة معرفة حقيقة النفس و كنهها، قلنا بامتناع معرفة اللَّه.
والسبب في أن كل موجود يعرف ربه بمقدار ما يعرف من نفسه، أن لكل جزء من أجزاء العالم «أصلًا» من الذات الإلهية: هذا الأصل هو ربه، وهو الاسم الإلهي الخاص الذي يظهر فيه أثره، فهو يعرف ربه أي يعرف ذلك في الأصل نفسه.
وهو يعبد ربه، أي يعبد ذلك الاسم الإلهي الخاص المتجلي في نفسه. وهو دليل واضح على ربه، لأنه مجلاه و مظهره.


(5) «فإنما حُبِّبَ إليه النساء فحن إليهن لأنه من باب حنين الكل إلى جزئه. فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحق».
(5) قال عليه السلام: «حُبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاث: النساء و الطيب، و جعلت قرة عيني في الصلاة».
يستغرق شرح هذا الحديث الجزء الأكبر من الفص، و يتخذ ابن العربي من مسائله الثلاث:
أعني حب النبي النساء، و الطيب، و الصلاة، أساساً لكثير من أمهات المسائل الفلسفية و الصوفية التي يعرض لها. و أولى هذه المسائل مسألة الحب الإلهي.
لا عجب في نظر ابن العربي أن أحب النبي النساء، لأن المرأة جزء من الرجل، و الأصل يحن إلى فرعه، و الكل يحن إلى جزئه.
وليس حب النبي النساء إلا مثالًا جزئياً يوضح مبدأً عاماً يسير عليه الوجود بأسره، وهو الحب الإلهي الذي هو حنين الحق إلى الخلق.
ولكن الفرع يحن إلى أَصله أيضاً، و الجزء إلى كله: ومن هنا جاء حنين الخلق إلى الحق، وإن كان في الحقيقة حنيناً للحق إلى نفسه في صورة الخلق المتعين.
وسنشرح ذلك في شيء من التفصيل فيما بعد.
لمسألة الحب الإلهي ناحيتان: ناحية شوق الحق إلى الخلق، و ناحية شوق الخلق إلى الحق.
أما شوق الحق إلى الخلق، فهو شوق الكل إلى أجزائه (و الكل و الأجزاء مستعملان هنا على سبيل المجاز).

وقد ظهر في صورتين: الأولى في حنين الذات الإلهية إلى الظهور على مسرح الوجود الخارجيّ، ذلك الحنين الذي كان علة الخلق، وإليه الإشارة في الحديث القدسي بقوله تعالى: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني».
و الصورة الثانية هي حنين الحق المتجلي في صور الوجود إلى الرجوع إلى نفسه: أي حنين الكل المتعين بصورة الجزء إلى الرجوع إلى الكل العام. و هذا بعينه حنين الخلق إلى الحق، لأن المشتاق عين المشتاق إليه في الحقيقة، و إن كان غيره بالتعين.
قال تعالى يخاطب داود عليه السلام: «يا داود إني أشد شوقاً إليهم»، أي إلى المشتاقين إليه. فالخلق يشتاق إلى الحق و يلاقيه بأن يعود الجزء إلى كله.

و لكنه «لقاء خاص» كما يقول ابن العربي، لأنه ليس من قبيل لقاء الشيئين المختلفين، بل من قبيل الشيء الواحد يلاقي نفسه. و إذا كان شوق الحق إلى الخلق علة ظهور الوجود في صوره الخارجية، فإن شوق الخلق إلى الحق علة عودة تلك الصور إلى الوجود الواحد العام.
أما أن شوق الحق إلى الخلق أشد من شوقهم إليه، فذلك لأن الخلق يشتاق إلى الحق من حيثية واحدة: أي من حيث هم صور تحن إلى الرجوع إلى الذات الإلهية المقومة لها.
أما الحق فيشتاق إلى الخلق من حيثيتين مختلفتين، لأنه من حيث إنه متعين بصورة العبد المشتاق، يشتاق إلى نفسه، ومن حيث إنه الأصل، يشتاق إلى نفسه في مرتبة التقييد التي هي مرتبة العبد.

فالحب موجود على الدوام متبادَل بين الحق و الخلق. و الشوق و الحنين و اللقاء موجودة على الدوام أيضاً، لأن الحق دائم الظهور في صور الخلق، يدفعه إلى ذلك الحبُّ الكامن فيه نحو ذلك الظهور.
والخلق دائم الفناء يدفعه إلى ذلك الحبُّ الكامن فيه نحو التحلل من الصور والرجوع إلى الأصل. هذه هي دائرة الوجود، أولها حب و فراق، وآخرها حب وتلاق، ومحور الدائرة «الحق» ومحيطها ما لا يحصى عدده من مجالي الوجود: كلٌّ يخرج من المركز، وكل يرجع إليه.
ولكن للقاء الحق معنى يفهمه كل منا بحسب منزلته و استعداده الروحي.

فهو بالنسبة إلى أهل الشهود من المؤمنين لقاء يتحقق في هذه الدنيا، لأنهم قوم ماتوا عن إنّيّاتهم وتعيناتهم في هذه الدار، وتجردوا عن طبائعهم وخلعُوا هيئاتهم النفسانية والطبيعية فأحياهم اللَّه بحياته، و شاهدوا جمال وجهه الباقي في كل شيء.
وهؤلاء لا يشتاقون إلى اللقاء، لأنهم متحققون به في عين القرب من اللَّه، و الشوق لا يكون إلا للمحروم البعيد، حيث الفراق و دوام الحجاب.
ولكنهم يشتاقون إلى دوام اللقاء: أي يشتاقون إلى مشاهدة نور الجمال الحق يطلع في كل لحظة في صورة جديدة من صور الوجود، وهو شوق لا ينتهي، وظمأ لا ينقع.
وإلى هذا المعنى أشار أبو يزيد البسطامي في البيت الآتي المنسوب إليه:
شربت الحب كأساً بعد كأس  ..... فما نفد الشراب و ما رويت
أما المحجوبون فهم أبداً مشتاقون إلى لقاء الحق، و هم لا يصلون إلى بغيتهم إلا بعد ارتفاع حجابهم البدني، و زوال الغواشي الطبيعية عنهم.
وهذا لا يكون إلا بالموت الحقيقي: إذ بالموت تنحل الصورة البدنية و يعود الفرع إلى أصله.

و لكن الموت موتان:
موت طبيعي وهو لجميع الخلق بلا استثناء، و فيه يلقى العبد ربه برجوع عينه إلى الذات الإلهية الواحدة، كما يعود النهر إلى البحر الذي خرج منه.
و موت أهل الكشف والوجد وهو الفناء الصوفي، وفيه يلقى العبد ربه بتحققه أنه عينه، ومشاهدته إياه في جميع مجالي الوجود.
ويسمى هذا الموتُ الموتَ الإرادي، وهو مقام الفناء عند الصوفية، أي فناء الصوفي عن نفسه وكل ما يتصل بها مما يقوم حجاباً بينه وبين ربه.


(6) «فلما أبان أنه نفخ فيه من روحه ... إلى قوله فيما كان به الإنسان إنساناً»
(6) يشرح في هذه الفقرة الطبيعة المزدوجة للإنسان مستنداً إلى قوله تعالى في خلق آدم: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» * (سورة الحجر آية 29، سورة ص آية 72).
فلآدم (الجنس البشري) جسم طبيعي عنصري مؤلَّف من الأركان الأربعة، أو من الأخلاط على حد قوله، لأن الأركان لا تصير أعضاءً في البدن إلا بعد أن تتحوَّل أخلاطاً. و في الإنسان أيضاً روح يدبر جسمه، و هو النفس الإلهي الذي نفخه اللَّه في صورة آدم.
فالنَّفس هنا (المعبر عنه بالنفخ) كناية عن الروح الإلهي المنفوخ به في آدم.
و لكن النَّفَس الإلهي أو الروح الإلهي نوراني، فلما نفخ به في آدم، تحوَّل إلى نار بسبب ما في الجسم الانساني العنصري من الرطوبة.
و لهذا ظهر الروح الإلهي في الإنسان في صورة النار لا في صورة النور، و عنه ظهر فيه الروح الحيواني الذي من خصائصه الحياة و النمو و الحركة و الحس إلخ. و لكن الروح الإلهي له مظهر آخر في الإنسان و هو النطق، لأن الإنسان ليس كائناً حياً حساساً فحسب، بل هو كائن ناطق أيضاً.

و خلاصة القول :
أن حقيقة الإنسان من حيث هو إنسان حقيقة نورية إلهية، و لكن طبيعته نارية من حيث هو جسم قَبِلَ الروح الإلهي المنفوخ فيه.
و الطبيعة الأولى خفية باطنة، و هذا معنى قوله: «فبطن نَفَسُ الحق فيما كان الإنسان به إنساناً» و أما معنى قوله: «فلو كانت نشأته طبيعية لكان روحه نوراً»، فالمراد بالنشأة الطبيعية النشأةُ غير العنصرية كنشأة الأفلاك و الملائكة. فلو كان جسم آدم من هذا النوع لكان روحه نوراً لا ناراً .


(7) «و الصورة أعظم مناسبة، و أجلها، و أكملها، فإنها زوج أي شفعت وجود الحق».
(7) ذكر في الفص الأول الحكمة في خلق آدم، فقال إن الحق سبحانه لما شاء أن يرى عينه في كون جامع يحصر في نفسه جميع معاني الوجود، و يكون مجلىً شاملًا لكل الأسماء الإلهية، خلق آدم فكان تلك المرآةَ التي نظر الحق فيها إلى صورته، و العقلَ الذي أدرك به كمال وجوده.
فآدم (الجنس البشري) هو الخليفة الحق عن اللَّه، و هو الصورة الإلهية المشار إليها في الحديث «2» القائل:
«خلق اللَّه آدم على صورته»: أعني على صورة اللَّه. و لصورة أي شيء معنى غير المعنى الذي للشيء نفسه.
فإنها فوق كونها تشبه الشيء و تظهر كل ما فيه من كمال أو نقص تؤكد وجوده، إذ تضيف إلى وجوده الأصلي وجوداً ثانياً.
ثم هي من ناحية أخرى تكون لصاحبها بمثابة المرآة التي يرى فيها نفسه، و رؤية الشيء نَفْسَه في نفسه ليست كرؤيته نفسه في شيء يكون له بمثابة المرآة.
و كل شيء واحدٌ في ذاته، زوج في صورته، لأن الصورة تشفع وجوده كما أسلفنا. و كذلك شفعت الصورة الإلهية المسماة «آدم» وجود الحق، و شفعت المرأة التي هي صورة الرجل وجود الرجل و صيرته زوجاً بعد أن كان فرداً.
 

(8) «و لما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة ... إلى قوله إذ لا يكون إلا ذلك».
(8) شرح في الفقرة السابقة أن الرجل يحب المرأة لأنها جزء منه كما أحب اللَّه الإنسان لأنه صورته، و أن الرجل في حبه المرأة إنما يحب في الحقيقة ربه لتعلق حبه بربه لا بأي شيء آخر أياً كان ذلك الشيء.
و تكلَّم في هذه الفقرة عن الوصلة التي في المحبة و ما يصاحبها من عموم الشهوة و فناء الرجل في المرأة و وجوب الاغتسال بعد ذلك.
و قد استعمل في الفقرتين لغة الرمز و الإشارة فتعقدت بذلك عباراته و صعب اقتناص معانيه. و من الغريب أن أحداً من شراح الفصوص لم يشر إلى هذه الرمزية و لم يحاول صرف الفص عن ظاهره، مع أنه يكاد يكون من المستحيل فهم النص على ظاهره إلا إذا اتهمنا ابن العربي بمادية شنيعة لا تتفق مع روح مذهبه.
و الذي أعتقده أنه يستعمل كلمة «المرأة» هنا رمزاً للدلالة على أي موضوع محبوب، و «الشهوة» رمزاً على الرغبة الملحة في الحصول على المطلوب، و «وصلة النكاح» رمزاً على الاتحاد الصوفي، و «الاغتسال» رمزاً على الطهارة الروحية.

و إذا كان الحق هو عين كل محب و محبوب، و كانت غاية كل محب الاتصال بمحبوبه و الفناءَ فيه و التلذذ بقربه، لزم أن يكون الحق هو المحبوب على الإطلاق، و المتلذذ به على الإطلاق، و لزم ألّا يفنى محب إلا فيه، و ألّا تطلب «وصلة النكاح» إلا به.

أما أولئك المحجوبون الذين يقولون بوجود الغير و السوي، فينظرون إلى المرأة و إلى كل ما هو موضع للذة و الشهوة، على أنها مصادر مستقلة للذاتهم.
و لهذا أُمر الإنسان بالاغتسال بعد الجماع، أي أُمر بتطهير نفسه من كل شوائب الغيرية بعد الجماع البدني، لتكون نفسه أكثر قبولًا و أعظم استعداداً للجماع الروحي، و التحقق بوحدة المحب و المحبوب، و الفناء في المحبوب الواحد مهما تعددت صوره و مجاليه:

ذلك الفناء الذي أشار إليه بعضهم بقوله:
صح عند الناس أني عاشق غير أن لم يعرفوا عشقي لمن و مفتاح الرمزية في هذه الفقرة قول ابن العربي «فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره»: أي أن الحق يأبى أن يُحَبَّ شيء إلا إذا كان هو عينَ ذلك المحبوب، كما يأبى أن يعبد شيء إلا إذا كان هو عين ذلك المعبود: أي أنه استأثر بالحب و العبادة لنفسه.

و كيف لا يستأثر بهما و ما سواه شيء، و ما غيره محبوب و لا معبود على الحقيقة؟ أما قوله: «إذ لا يكون إلا ذلك»، فقد يكون معناه إذ لا يكون إلا الحق مصدراً للذة و منبعاً للحب، أو إذ لا يكون للإنسان إلا أن يرجع إلى الحق في كل شيء يحبه و يفنى فيه فيشاهد الحق في كل محبوب و كل متلذَّذٍ به.


(9) «فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة ... إلى قوله: من حيث هو منفعل خاصة».
(9) الرجل فاعل و المرأة منفعلة، إما لأن المرأة مخلوقة من الرجل، و الفرع محل الانفعال و الأصل محل الفعل، أو لأن الأمر كذلك في حالة المواقعة.
و الرجل و المرأة صورتان للحق، فلا بد أن يوصف الحق بأنه فاعل و منفعل أيضاً.
فإذا شاهد الرجل الحقَّ في المرأة من حيث ظهور المرأة عنه، شاهده في صورة منفعل، و إذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه، شاهده في فاعل.
و إذا شاهده في نفسه من غير نظر إلى ظهور المرأة عنه، أي شاهده في نفسه من حيث ظهوره هو عن الحق، شاهد الحق في صورة منفعل من غير واسطة.
و بذلك يكون المنفعل على نوعين: نوع يظهر عن الحق بلا واسطة، أو يظهر اللَّه فيه مباشرة و ذلك كالرجل. و نوع يظهر عن اللَّه بواسطة، أو يظهر اللَّه فيه بواسطة منفعل آخر، و ذلك كالمرأة التي ظهرت عن الحق بواسطة الرجل.
هذه هي الأنواع الثلاثة التي ذكرها لمشاهدة الرجل للحق، و لكنه يقول بعد ذلك إن شهود الرجل للحق في المرأة أتم و أكمل، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل.
فلا بد أن تكون هذه المشاهدة في حال المواقعة كما يفهمها چامي، لأن المرأة يمكن اعتبارها في هذه الحال فاعلة منفعلة من حيث إنها تؤثر في الرجل و تتأثر به، و إلا ناقض ما ذكره سابقاً من أن المرأة من حيث ظهورها عن الرجل إنما هي صورة للحق من حيث هو منفعل فقط.

وعلى هذا فنحن نشاهد الحق في صورة الفاعل تارة، وصورة المنفعل تارة، كما نشاهده في صورة الفاعل و المنفعل معاً في المجلى الواحد.
والحقيقة أنه لا مجال للتحدث عن الفعل والانفعال إلا في عالم الكثرة و التعدد، و هو عالم المحجوبين الذين لا يدركون الوحدة الوجودية بين العلل و المعلولات، فيقولون هذا منفعل وذلك فاعل، ولا يدركون ذوقاً أن الفاعل والمنفعل عين واحدة فرَّقت بينهما المراتب.

ولكن إذا كان لا بد لنا أن نتكلَّم بلسان الكثرة الذي هو لسان العقل- لا الذوق- و إذا كان لا بد أن نتحدث عن مشاهدة الحق في الصور، و هو «لا يشاهَدُ مجرداً عن المادة أبداً»، إذ تستحيل مشاهدة ذاته. فيصح أن نقول إن الحق يشاهَدُ في الوجود بصورة الفاعل وبصورة المنفعل، كما يشاهَدُ بصورة الفاعل المنفعل وهو أكمل مشهد له.

 

(10) «وأعظم الوصلة النكاح وهو نظير التوجّه الإلهي على من خلقه على صورته ليخلفه».
(10) أعظم اتصال جسماني بين الرجل والمرأة هو النكاح، وفيه يتوجه الرجل لإيجاد ولد يكون على صورته و يخلفه من بعده. ولذلك شبّه به توجه اللَّه إلى خلق آدم ونفخه فيه من روحه ليكون على صورته ويخلفه و يرى فيه نفسه.
و لكن هذا التشبيه يصدق أيضاً على توجُّه الحق أزلًا إلى الظهور بمظهر الخلق في صورة العالم الخارجي. فالإنسان حق و خلق، و العالم حق و خلق و الحق في كل منهما هو الروح المدبر لصورته، و الخلق هو تلك الصورة التي يدبرها الروح.
و إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ»: أي من أعلى مراتب الوجود إلى أسفلها، لأن الأرض أسفل عالم العناصر.

ففي كل مرتبة من مراتب الوجود يدبر الحقُّ الخلقَ: أو الباطنُ الظاهِرَ، و إن كانت الحقيقة أنه هو الحق الخلق و الظاهر الباطن، لأن التنزلات في مراتب الوجود ليست إلا تعينات و شئوناً للذات الإلهية الواحدة.
و لما فسر النكاح على هذا النحو، أي على أنه ازدواج شيئين لإنتاج ثالث، أو توجُّه نحو الإنتاج أيّاً كان نوع ذلك التوجه، ظهرت صلة النكاح بالتثليث الذي ذكره من قبل، و تبين أن النكاح ليس إلا التثليث معبراً عنه بعبارة أخرى، و أنه، كالتثليث، أساس كل خلق و كل إيجاد، و أنه هو المسمى نكاحاً في عالم الصور العنصرية، و همةً في عالم الأرواح، و ترتيب مقدمات في عالم المعاني.
فالنكاح في عالم العناصر هو الاتصال بين ذكر وأنثى لإنتاج النسل، وقد يصدق على اتحاد عنصرين أيّاً كانا لإنتاج عنصر ثالث.
والنكاح في عالم الأرواح هو التوجه الإلهي نحو الطبيعة وفتح صور العالم فيها: والنكاح في عالم المعاني هو الإنتاج العقلي، أو توليد النتيجة من المقدمات في القياس المنطقي.

كل ذلك في الفردية الأولى: أي في أول الأعداد الفردية الذي هو الثلاثة، فإن التثليث مبدأ الخلق ومبدأ الفيض الوجودي، كما هو مبدأ الإنتاج في كل عالم من العوالم.
ولكن التثليث في ذاته عاجز عن الفعل، و هو لا يفعل إلا إذا وجدت حركة بين عنصرين من عناصره لإنتاج العنصر الثالث، وهذه الحركة هي التي سماها نكاحاً.

 
(11) «و كما نزلت المرأة عن درجة الرجل ... نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأة على صورته».
(11) استمر في تشبيه الصلة بين الحق و الخلق بالصلة بين الرجل و المرأة، لأن كلًّا منهما مظهر للصلة بين الأصل و فرعه. و المرأة أقل درجة من الرجل. قال تعالى: «وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» (سورة البقرة آية 228).
و كذلك الخلق الظاهر بصورة الحق أقل درجة من الحق في ذاته. و الظاهر أنه لا يريد «بالمخلوق على الصورة» الانسانَ الذي قال إن اللَّه خلقه على صورته، بل العالم الأكبر.
فبالرغم من أن العالم صورة كاملة يتجلى فيها الحق بجميع كمالاته الأسمائية و الصفاتية، لا يزال في المرتبة، لا في الحقيقة، دون الحق متميزاً عنه.
فإن الحق من حيث ذاته واجب الوجود لذاته غني عن العالمين، أي غني عن كل صلة و كل إضافة إلى الوجود الخارجي، في حين أن العالم الذي هو ظل الحق مفتقر إليه في وجوده، و في كل ما هو ظاهر فيه من صفات.

و الغني له الأولوية على الفقير، كما أن له صفة الفاعلية، و للمفتقر المفعولية. و قد سبق أن قال: إن المؤثر بكل وجه و على كل حال و في كل حضرة هو اللَّه، و إن المؤثَّر فيه بكل وجه، و على كل حال، و في كل حضرة هو العالمراجع الفص الثاني و العشرين، التعليق الخامس.

و إذا كان لنا أن ننسب إلى العالم صفة الفاعلية استناداً إلى ما ندركه فيه من العلل و المعلولات، فلا بد من وصف فاعليته بأنها فاعلية ثانوية، تمييزاً لها عن الفاعلية الأولية التي للحق وحده.

(12) «فأعطى كلَّ ذي حق حقه كلٌ عارف».
(12) قد تفهم هذه الجملة بمعنى أن العارف باللَّه، الواقف على أسرار حقيقة الوجود، يعطي كلًّا من الحق و الخلق حقه، و يميز بينهما على نحو ما بيناه في التعليق السابق: أي يميز بين ما له وجوب الوجود و الغنى المطلق عن العالمين، و ما له إمكان الوجود و الافتقار المطلق.
و قد تفهم بمعنى أن العارف يعطي كل موجود من الموجودات نصيبه من الحق كما يعطيه نصيبه من الخلق، أي يدرك في كل موجود أنه حق و خلق معاً: حق من حيث عينه و أصله، و خلق من حيث صورته.

(13) «و ليست الطبيعة على الحقيقة إلا النَّفَس الرحماني ... إلى قوله: سريان آخر».
(13) سبق أن ذكرنا في الفص العيسوي أن الطبيعة نسبتها إلى النَّفَس الرحماني، نسبة الصور النوعية إلى الشيء الظاهرة فيه.
و قوله «على الحقيقة» إشارة إلى أن العقل و إن كان يميز بين الشيء و صورته النوعية، إلا أنها في الحقيقة عين ذلك الشيء.
و النَّفَس الرحماني (أو الطبيعية) على هذا التفسير، هو الجوهر الذي تفتحت فيه صور الوجود المادي و الروحي: سماه النَّفَس الرحماني، من قوله تعالى: «وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» .
والنفخ خروج النَّفَس من النافخ، فكأنه أخذ ما ذكر في القرآن عن خلق آدم، رمزاً على خلق العالم بأسره.
وسماه «طبيعة» إشارة إلى أنه هو الموجود بالفعل في العالم المادي و الروحي.
وقد تفتحت في الطبيعة صور العالم بواسطة النفخ الإلهي الذي سرى في الوجود، فظهرت الأجسام الطبيعية في العالم المادي، عند ما سرى النفخ في الجوهر الهيولاني القابل للصور الجسمانية.
وكذلك ظهرت الأرواح النورية التي هي المجردات، بسريان النفخة في الجواهر الروحانية كلها، وظهرت الأعراض- التي يظهر أنه يقصد بها الصفات بسريان النفخة الإلهية في الطبيعة العرضية التي هي مظهر التجلي الإلهي.

وهو يفرق بين نوعين من السريان:
سريان النفخة الإلهية في عالم الأجسام، و سريانها في عالم الأرواح و الأعراض، لأن الأول يعمل في جوهر هيولاني مادي، و الثاني في جوهر غير مادي.


(14) «ثم إنه عليه السلام غلَّب في هذا الخبر التأنيث على التذكير ... إلى قوله: و العلة مؤنثة».
(14) في هذه الفقرة الطويلة يحاول ابن العربي أن يثبت أهمية التأنيث و منزلته في الوجود بطرق مختلفة، بعضها لفظي و بعضها غير لفظي.
وليس دفاعه عن التأنيث في الحقيقة دفاعاً عن النبي الذي روي عنه حبه للنساء، و لا تبريراً لقوله «ثلاث» بدلًا من «ثلاثة» في الحديث «حبب إليَّ من دنياكم ثلاث»،
و إنما هو دفاع عن أفكاره التي أخذ في شرحها منذ ابتداء الفص: أعني المرأة من حيث هي صورة للرجل مشابهة للإنسان الذي هو صورة الحق، و المرأة من حيث هي أكمل مجلى للحق، و المرأة من حيث هي رمز لكل محبوب إلخ إلخ.
أما ما يذكره في هذه الفقرة فليس إلا مماحكات لفظية لا طائل تحتها في ذاتها، و إن كانت لها دلالتها على المعاني التي أسلفنا ذكرها.
و هاك خلاصة ما قال: قال النبي عليه الصلاة و السلام «حبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث: النساء و الطيب و جعلت قرة عيني في الصلاة».
لم يقل ثلاثة مع أنه ذكر الطيب و هو مذكر، و من عادة العرب تغليب المذكر على المؤنث مهما يكن عدد الذكور.
فكان المنتظر أن يقول «ثلاثة» و يغلب المذكر على المؤنث، فيأتي بتمييز للعدد على عكس المعدود.
و لكنه لم يفعل، بل غلب التأنيث على التذكير لحكمة أرادها.

و يرى ابن العربي أن النبي عليه الصلاة و السلام أشار بذلك إلى أهمية التأنيث، و أنه أصل كل شيء، و العلة في وجود كل شيء.
ألا ترى أنه مهما كانت وجهة نظرك في خلق العالم، فإنك منتهٍ لا محالة إلى لفظ مؤنث يفسر لك أصله و سبب وجوده؟
فإن قلت إن أصل الوجود «الذات الإلهية»، أو أن الظاهر في الوجود «الصفات الإلهية»، أو أن الذي أظهر الوجود «القدرة الإلهية»، أو وصفت اللَّه بأنه «علة الوجود» و«حقيقته» و ما إلى ذلك، فإنك تستعمل في كل حالة كلمة مؤنثة.

ويشير ابن العربي بمجموعة الألفاظ المؤنثة التي أوردها إلى رأي الأشاعرة القائلين بأن سبب وجود الخلق «القدرة الإلهية» ناظرين إلى القدرة، و سائر الصفات على أنها أمور مغايرة للذات الإلهية، و إلى مذهب الحكماء الذين اتبعهم المعتزلة في قولهم ان الذات عين الصفة، وإلى مذهب من يرى أن الذات الإلهية من حيث هي:
أي من غير اعتبار لأية صفة: هي علة وجود العالم.
و مهما يكن المذهب الذي تأخذ به في أصل الوجود و خلقه، فإن الكلمات التي تعبر بها عن ذلك مؤنثة.


.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالخميس مايو 14, 2020 6:14 am

27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية الجزء الثاني .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي تعليقات د. أبو العلا عفيفي

تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي     

الفص المحمدي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الجزء الثاني
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية

(15) «ولما خُلق عبداً بالأصالة لم يرفع رأسه قط إلى السيادة .... فأعطاه رتبة الفاعلية في عالم الأنفاس».
(15) أي و لما خلق محمد عليه السلام (أو بالأحرى الروح المحمدي) وقف من الحق موقف العبودية المحضة، أي موقف الانفعال المحض لأنه الصورة الأولى للحق، و الصورة محل الانفعال كما أسلفنا.
و لكنه أُعْطِيَ القوة على الفعل لما أوجد اللَّه من روحه جميع الأرواح و مظاهرها، كما جاء في الحديث الذي يروونه من «أن اللَّه لما خلق العقل قال: أقبل فأقبل، ثم قال: أدبر فأدبر، فقال و عزتي و جلالي، بك آخذ و بك أعطي و بك أمنع و بك أعاقب إلخ».

هكذا يقول القيصري (شرح الفصوص ص 305). و معناه أن ابن العربي يقصد بالروح المحمدي العقل الذي اعتبره أفلوطين أول الفيوضات التي ظهرت عن «الواحد»، أو شيئاً قريباً من ذلك. و نحن نعلم أن كلًّا من الفيوضات الأفلوطينية له ناحيتان: ناحية الانفعال (و هي التي عبر عنها ابن العربي بالعبودية) من حيث صلته بما فوقه الذي فاض عنه، و ناحية الفعل من حيث صلته بما تحته مما فاض عنه.

إلا أن ابن العربي لا يدين بمذهب الفيوضات كما يدين أفلوطين، فإن العقل الأول و النفس الكلية و ما إلى ذلك من الفيوضات ليست وجودات مستقلة كل منها عن الآخر و عن الواحد الحق، لا يلحق آخرها بأولها و لا يتصل به.
و لكنه بالرغم من استعمال اصطلاحات أفلوطين، يفهم هذه الفيوضات، على أنها مجالي مختلفة للحقيقة الوجودية الواحدة، منظوراً إليها من جهات تختلف كل منها عن الأخرى. فالعقل الأول أو الروح المحمدي هو الحق ذاته متجلياً في صورة خاصة، و كذلك النفس الكلية. بل كذلك كل مظهر من مظاهر الوجود.

وكل واحد من هذه المجالي أو المظاهر له صفة العبودية: أي صفة الخلق والانفعال، وله أيضاً صفة الربوبية، أي صفة الحق والفعل.
أما قوله فأعطاه رتبة الفاعلية في عالم الأنفاس، فإما أن يكون المقصود به أنه خلق من روحه جميع الأرواح الأخرى فعبر عن الأرواح بالأنفاس، أو يكون معناه أن بواسطته خلق جميع الكلمات الوجودية. وعبَّر عن «الكلمات» بالأنفاس لأن الكلمات مظاهر الأنفاس.


وقد غلب على ابن العربي استعمال كلمة «الكلمات» مرادفة لكلمة «الموجودات» استناداً إلى قوله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» (الكهف آية 109)، كما غلب عليه تسمية الوجود في صورته الأولى قبل أن تنفتح فيه أعيان الممكنات، بالنَّفَس الرحماني.
و كثيراً ما سمى العالم بالعرش و عبَّر عن ظهور الحق في صورة العالم باستواء الرحمن على العرش.

وهو لا يقصد بالرحمن إلا معطي الوجود، و لا بالرحمة إلا الوجود الذي فاض من واهب الوجود على جميع الخلق. راجع ما ذكرناه في الرحمة و في قوله تعالى «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» في الفص السادس عشر، التعليق الثالث، والفص الحادي والعشرين، التعليقين الثاني والثالث.

 

(16) «و قد جعل الطيِّب تعالى في هذا الالتحام النكاحي في براءة عائشة فقال الخبيثات للخبيثين ... و الطيِّبات للطيِّبين».
(16) ذكر «الطيِّب» و هو ثاني الأشياء الثلاثة التي حبِّبت إلى النبي، و فسره بأنه عَرْف الوجود، رائحة التكوين.
ولكنه كعادته في الانتقال من مسألة إلى أخرى لمناسبة لفْظية بين المسئلتين، ترك «الطيِّب» و أخذ يتكلم عن الطيِّب الذي هو ضد الخبيث.
بل استعمل الكلمتين على سبيل الترادف. قال إن اللَّه ذكر الطيِّب (و لا يقصد به إلا مادة ط ي ب) في قصة عائشة و براءتها، عند ما أشار إلى الالتحام النكاحي بين الرجل و المرأة.
وإن اللَّه هيّأه بحيث يكون بين الطَّيِّبات و الطيِّبين و الخبيثات و الخبيثين. فقوله «جعل الطيب» أي استعمله أو ذكره، و قوله «في الالتحام النكاحي» صفة للطيب، و قوله في براءة عائشة مفعول ثان لجعل.
ولما كان النبي صلى اللَّه عليه و سلم أطيب الطيِّبين، لزم طيب من اختص به في الالتحام النكاحي، و انتفاء الخبث عنها بشهادة اللَّه ببراءتها.
والظاهر أنه يعتقد صلة بين الطيِّب (الذي هو ضد الخبيث) و الطيِّب الذي هو الرائحة، على أساس أن الطَّيِّب صفة للذات، و الذات الطيِّبة لا يصدر عنها إلا الطَّيِّب من الأقوال.
والأقوال أنفاس و الأنفاس روائح أو الروائح أنفاس.

وهذه صلة بعيدة جداً، و لكنها تمثِّل التواء ابن العربي أحياناً في معالجة المسائل.
والحقيقة أنه أراد أن ينتقل من الكلام عن الطيِّب إلى الكلام عن الطَّيِّب
من الأشياء و الأفعال، أي الكلام في مسألة الحسن و القبح، و الخير و الشر، فربط المسئلتين بهذا الرباط اللفظي السقيم.


(17) «فما حُبِّب إلى رسول اللَّه إلا الطَّيِّب من كل شيء، و ما ثم إلا هو».
(17) صرح هنا بأنه يستعمل كلمة الطيِّب مرادفة لكلمة الطَّيب لأنه بصدد الكلام عن مسألة الخير و الشر، و ما يحمد و ما يذم من الأشياء و الأفعال.
فالذي حُبِّب إلى رسول اللَّه لم يكن طيِّب الروائح، بل طيِّب الأخلاق والأفعال والأشياء.
أما قوله: «و ما ثم إلا هو» فإشارة إلى مذهبه في طبيعة الوجود وأنه خيرٌ على الإطلاق.
وخلاصة هذا المذهب أن الوجود من حيث هو، خير لا شر فيه، وحسنٌ لا قبح فيه.
وأننا لا نصف الأشياء والأفعال بالشر والقبح و الذم وما إلى ذلك من الأوصاف، إلا لأمر عرضي.
وقد حصر هذه الأمور العرضية في خمسة هي: أن يكون الوصف بالشر أو القبح أو الذم من قبيل العرف والاصطلاح، أو يكون لمخالفة الموصوف بهذه الصفات للطبع، أو لعدم موافقته للغرض، أو الشرع، أو لقصوره عن درجة كمال مطلوب.
فالأشياء في ذاتها لا توصف بهذه الأوصاف، و إنما تلحق بها لأمور عارضة، خارجة عن ذاتها. كالثوم الذي ذكره: فإنه في ذاته لا يوصف بأنه مكروه أو مذموم، و إنما يكرهه و يذمه من يتأذى برائحته.

فحبِّب إلى الرسول الطيِّب: أي الطَّيِّب من كل شيء، و لكن ما ثم في الوجود الا الطَّيِّب، أي ما ثم في الوجود الا الخير: لأن الوجود نَفَس الرحمن الذي هو الخير في ذاته، و لأن الخير مرادف للوجود، و الشر مرادف للعدم، فيلزم أن كل ما هو متحقق بالوجود خيرٌ.


(18) «و هل يتصوَّر أن يوجد في العالم مزاج لا يجد إلا الطيب ... فإنَّا ما وجدناه في الأصل الذي ظهر العالم منه و هو الحق».
(18) ذكرنا في التعليق السابق رأيه في أن الوجود بأسره خيرٌ في ذاته: فإن حكم على شيء فيه بأنه شر، فذاك من قبيل العرض الصرف.
و ذكرنا أن المستويات التي يحكم على الأشياء بأنها شر بالقياس إليها، هي العرف و الطبع و الغرض و الشرع و درجة من الكمال مطلوبة.
و كل هذه أمور متغلغلة في العالم، في نظامه الطبيعي و الاجتماعي. فلا عجب إذن ألا يوجد موجود لا يعرف إلا الخير، و لا يجد إلا الطَّيِّب في كل شيء لأنه لا محالة واجد شيئاً لا يلائم طبعه أو غرضه، أو لا يتفق مع عرفه أو شرعه.
بل إن الأصل الذي ظهر عنه العالم- و هو الحق- يعرف الخير كما يعرف الشر، و يدرك الطَّيِّب كما يدرك الخبيث.
فليست طبيعته قاصرة على إدراك الخير وحده، و لا على اعتبار الوجود بأسره خيراً لا شر فيه.
يدل على ذلك أنه وصف نفسه بأنه يحب و يكره و يعذِّب و يثيب: أي يفرق بين الطَّيب و الخبيث، إذ ليس الطَّيِّب إلا ما يحب و ليس الخبيث إلا ما يكره.
وقد يبدو لأول وهلة أن هناك تعارضاً بين هذا القول و بين ما ذكرناه في التعليق السابق، من أن الوجود في ذاته خيرٌ محض في نظر الحق.
والواقع أنه لا تعارض بينهما، لأن الحق الذي يحب ويكره، ويعذب و يثيب، هو الحق من حيث صلته بالعالم، لا الحق من حيث هو في ذاته، فإنه من هذه الحيثية الأخيرة خيرٌ محض، لا يرى في الوجود إلا خيراً.
أما من الحيثية الأولى فقد ظهر برحمته في كل شيء، لا فرق في ذلك بين الخبيث و الطَّيِّب، و هما معنيان يدركهما العباد في الوجود فيخاطبهم الحق بهما حسب إدراكهم.
و العالم على صورة الحق، فلا بد له من أن يحب و يكره كذلك:
أي يدرك الخير و الشر. أما من يدعي من الناس أنه لا يدرك إلا الخير، فذلك لأنه شغل بالخير عما عداه، فظن أنه لا يوجد في الوجود إلا هو.


(19) «و أما الثالث الذي به كملت الفردية فالصلاة ... إلى قوله: في الفتوحات المكية».
(19) لعل من الغريب أن يتكلم في الصلاة رجل يقول بوحدة الوجود، أو أن يتكلم في أي نوع آخر من أنواع العبادة تتمثل فيه الصلة بين العبد و ربه.
ولكن ذلك ليس بغريب على ابن العربي الذي لم يفقد عاطفته الدينية، على الرغم من قوله الصريح بوحدة الحق و الخلق، والرب والعبد، و إن كان يكيف العبادة تكييفاً آخر يخرج بها عن مألوف معناها، وينتهي بها إلى حال عميق من أحوال الاتصال الصوفي باللَّه.
وفيما يذكره عن الصلاة في هذا الفص مثال رائع لإظهار العاطفة الدينية التي لم تتمكن وحدة الوجود من إطفاء جذوتها في قلب ذلك الرجل، و لكيفية فهمه العبادة فهماً صوفياً.
أخص جزء من الصلاة في نظره ذكر اللَّه، بل ذكر اللَّه على نحو خاص: أي المناجاة بين الحق و بين العبد الذي هو مجلاه و مظهره. قال تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» (العنكبوت آية 45).

يقول ابن العربي: و لذكر اللَّه أكبر، أي أكبر ما في الصلاة باعتباره جزءاً منها.
و لكن الذكر في الصلاة ليس قاصراً على ذكر العبد لربه، بل يشمل ذكر اللَّه للعبد أيضاً، و ذلك بإجابته سؤال العبد.
و قد ذكر هذا المعنى فيما بعد بقوله: «وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ يعني فيها (أي في الصلاة) أي الذكر الذي يكون من اللَّه لعبده حين يجيبه في سؤاله».
يأخذ بعد ذلك في شرح هذه المناجاة بين العبد و ربه و هي لا تعدو التأمل في صفات الحق و الخلق، و إعطاء كل منهما حقه: فإن للرب صفات يختلف بها عن العبد، و للعبد صفات تميز بينه و بين الرب.
و لذا قسم «فاتحة الكتاب» التي يعدها أعظم جزء من أجزاء الصلاة إلى ثلاثة أقسام: الأول خاص باللَّه، و الثالث خاص بالعبد، و الثاني مشترك بينهما.

و فسر هذه السورة على أنها مناجاة بين المحب و المحبوب، أولها مجالسة و حديث مع الحق، و وسطها تخيل له في قبلة المصلى، و آخرها شهود و رؤية للحق في عين قلب عبده، و سماعه صوت الحق يدوي في كل مكان، و استيلاء المحبوب على قلب المحب بحيث لا يرى و لا يسمع غيره كما يقول بعضهم:
إذا ما تجلى لي فكلي نواظر    ..... و إن هو ناجاني فكلي مسامع


فالقسم الأول من «الفاتحة» مجموعة صفات خاصة، يتصف بها الحق وحده:
أي الحق من حيث هو معبود، لا من حيث هو في ذاته. فهو اللَّه، الرحمن الرحيم، رب العالمين، مالك يوم الدين.
و العبد إذ يقرؤها يذكر اسم اللَّه و يحمده، و يثني عليه و يمجده، و يفوض الأمر إليه، و يعترف بافتقاره إليه.
و القسم الثاني قوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».
يقول ابن العربي إن اللَّه يقول عند سماع هذه الآية من العبد «هذه بيني و بين عبدي» أي مشتركة بيني و بين عبدي، إذ العبادة مشاركة و اتصال بين العابد و المعبود: لأنها ليست فعلًا من جانب واحد، بل هي حال، بالمعنى الصوفي، يتحقق فيها العابد بوحدته الذاتية بمعبوده، فيكون فيها العابد معبوداً و المعبود عابداً.
و لعل هذه الحال هي التي أشار إليها ابن العربي في قوله:
فيحمدني و أحمده و يعبدني و أعبده . راجع الفص الخامس.

والقسم الثالث هو من قوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» إلى آخر السورة.
وهو يعبر عن صفة العبودية المحضة الخاصة بالعبد، أي افتقاره إلى الهداية إلى الصراط المستقيم.
وإذا فسرنا الصراط المستقيم كما فسره في فص هود و غيره بأنه صراط الوجود الذي يسير عليه كل شيء، ظهر معنى العبودية و الافتقار، لا في الإنسان وحده، بل في الخلق أجمع.
إذ الخلق من حيث إن له صفة الإمكان مفتقر إلى الحق الذي يمنحه الوجود، فكأنه يتوجه إليه على الدوام، و يسأله بلسان حال افتقاره أن يمنحه الوجود و يهديه إلى صراطه.

 فإذا انتهت هذه المناجاة و صدق فيها العبد و كان حاضر القلب مع ربه، رآه: أي تجلى له في قلبه. فإن من لم يظفر برؤيته في عين بصيرته يحاول أن يتمثله في قبلته عند مناجاته.
قال عليه السلام: «اعبد اللَّه كأنك تراه».
و من لم يظفر برؤية الحق في صلاته لم يبلغ الغاية منها، و لا كانت له قرة العين التي أشار إليها النبي في حديثه: «و جعلت قرة عيني في الصلاة».
و من لم يحضر في الصلاة مع ربه، فليس بمصلّ أصلًا.
فأكمل أنواع الصلاة ما كان فيها حضور للعبد مع ربه، و حصلت له فيها الرؤية و السمع، فكان صاحبها ممن «أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ».
وإذا وصل العبد إلى هذا المقام غاب عن نفسه، و عن كل ما سوى اللَّه، و ذلك هو الفناء الصوفي.
وإلى هذا المعنى أشار بقوله: «و ما ثم عبادة تمنع من التصرف في غيرها سوى الصلاة».

وهو أيضاً المقام الذي لا تصدر فيه عن العبد فاحشة: أي ما يسمى فاحشة، لأن العبد في مقام لا يخاطف فيه بالتكاليف التي تفرق بين الطاعة و المعصية، إذ يتحقق العابد في هذا المقام بأن الأفعال كلها للَّه و أنه ليس له من الأمر شيء، بل ليس له من الوجود حظ.
وهذا هو تأويل أصحاب وحدة الوجود لقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» (العنكبوت آية 45).


(20) «و ليس إلا مشاهدة المحبوب التي تقر بها عين المحب: من الاستقرار إلخ».
(20) قرت العين تَقَر بالفتح و الكسر قُرة و قروراً بردت و انقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوقة إليه، وقر بالمكان يَقِرَ بالفتح و الكسر أيضاً قراراً و قروراً و تقرّة ثبت و سكن به كاستقر.
و قولهم كذا من الأشياء قرة العين مراعى فيه المعنى الأول دون الثاني. و لكن ابن العربي فسر كلمة «قرة» الواردة في الحديث: «و جعلت قرة عيني في الصلاة» بالمعنى الثاني أي من الاستقرار، فأصبح معنى الحديث: و جعلت عيني مستقرة في الصلاة لا تتحول عن المحبوب الذي أشاهده فيها و لا ترى غيره لانتفاء وجود ذلك الغير.
و قوله: «فلا تنظر معه إلى شيء غيره في شيء، و في غير شيء» معناه فلا ترى العين غيره في أي وجود آخر، متعيناً كان ذلك الوجود (و هو ما يسميه شيئاً) أو غير متعين (غير شيء).


(21) «ثم إن مسمى الصلاة له قسمة أخرى ... إلى قوله: هو المتأخر عن السابق في الحلبة».
(21) يريد بذلك أن كلمة «الصلاة» تقال بالاشتراك على أكثر من معنى واحد ككلمة «العين» التي تطلق على العين المبصرة، و عين الماء و الذهب، و غير ذلك.
و قد ذكر أحد معاني الصلاة في الفقرات السابقة، و يريد الآن شرح معنى آخر (و هو الذي يسميه قسمة أخرى) هو صلاة اللَّه على العبد.
فإن اللَّه تعالى أخبرنا أنه يصلي علينا في قوله: «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (الأحزاب آية 43).
و هنا يتلاعب ابن العربي بالألفاظ مرة أخرى، فيستعمل كلمة «المصلي» بمعنى المتأخر عن السابق، كما تصف الجواد المتأخر في السباق بأنه المصلي، و تصف الأول الفائز بأنه المجلي. فيقول إن اللَّه يصلي عليكم (على الخلق) أي يتجلى لكم باسمه الآخر، فيتأخر وجوده من حيث هو إله مخلوق في اعتقاد العبد عن وجود العبد نفسه.
فالحق المصلي علينا هو الحق المتأخر في الوجود، أي الإله المعتقد فيه الذي يتجلى في قلوب العباد فيما لا يتناهى من الصور بحسب استعداداتهم.

فإذ صلَّينا نحن كان لنا الاسم «الآخر»، أي فإذا نظرنا إلى الحق اعتبرنا وجودنا متأخراً عن وجوده، و اتصفنا بالاسم الآخر الذي وصفناه به في الاعتبار الأول.
و يلاحظ هنا أيضاً أنه يستعمل كلمة «المجلي» المقابلة للمصلي بمعنى المتجلي، أي الظاهر، فيزيد الأمر تعقيداً. و لكن خلاصة كلامه أننا إذا نظرنا إلى أنفسنا أولًا، و إلى الحق ثانياً، أتى الحق متأخراً في الوجود عن وجودنا، لأنه يأتي لنا في صور اعتقاداتنا، فننظر إليه في مرآة نفوسنا. و هذا معنى كونه مصلياً، و معنى تجليه لنا بالاسم الآخر.
و لكنا إذا نظرنا إليه أولًا، و إلى أنفسنا ثانياً، كانت نظرتنا إليه من حيث هو ذات واحدة مطلقة، متجلية في كل صورة من صور الوجود- و هذا هو الإله الحقيقي.
و الأول الإله المخلوق في الاعتقاد. في هذه الحالة نكون نحن المصلين أي المتأخرين في الوجود، و يحق لنا الاتصاف بالاسم الآخر.


(22) «و قوله: «كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ» أي رتبته في التأخر».
(22) ذكرنا في التعليق السابق ما يقصده من تأخر العبد في الصلاة.
و لما أراد أن يجد لأفكاره مستنداً من القرآن ذكر الآية: «كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ» (سورة النور آية 41). أما الصلاة فقد عرفنا رأيه فيها، و أما التسبيح فيقصد به تنزيه الحق عن صفات الخلق.
و لكن لما كان الحق المنزه هو الحق المخلوق في الاعتقاد، و كان تنزيهه متوقفاً على درجة استعداد كل فرد، لأن كل فرد يسبح الحق و ينزهه بمقتضى الصورة الخاصة التي تجلى له فيها في قلبه، اختلفت درجات التنزيه اختلافاً بيناً باختلاف أصحاب المعتقدات و اختلاف صور الاعتقاد. و لهذا يذم بعضهم بعضاً، و ينكر بعضهم إله بعض.
و لو عرفوا أن الحق المخلوق في الاعتقاد يتلون بلون المعتقد كما يتلون الماء بلون إنائه، و هو ما أشار إليه الجنيد عند ما سئل عن المعرفة باللَّه.
لو عرفوا ذلك لأقروا جميع صور الاعتقاد من حيث إنها صور للواحد الحق المتجلي فيها جميعاً. قال ابن العربي يشير إلى هذا المعنى:
عقد الخلائق في الإله عقائداً   ..... و أنا شهدت جميع ما اعتقدوه

و إذا كان الأمر كذلك:
أي إذا كان كل فرد ينزه إله معتقده و يسبحه، و إله الاعتقاد من صنع المعتقد كما ذكرنا، و إذا كان الثناء على الصنعة ثناء في الحقيقة على الصانع: أقول إذا كان كل هذا، لزم أن يكون تسبيح العبد لربه تسبيحاً لنفسه.
و إلى هذا أشار فيما بعد بقوله: «و ثم مرتبة يعود الضمير على العبد المسبح فيها في قوله: «وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» أي بحمد ذلك الشيء.
هذه جرأة غريبة في فهم القرآن، و لكنها نتيجة منطقية لمذهب رجل يقول بوحدة الوجود.
إن الحق الذي ينَزَّه و يشَبَّه، و يوصف بكيت و كيت من الصفات، و يُعلَم و يُجْهَل، و يعرف و ينكر، ليس هو الحق في ذاته، و إنما هو حقيقة معقولة حققها كل منا في نفسه، بحسب استعداده، و بحسب تكوينه العقلي و الروحي.

أما الحق في ذاته فيتعالى عن كل تنزيه و تشبيه و وصف و معرفة.
و يختم ابن العربي هذا الفص، كما يختم كتابه كله، بهذه العبارة القصيرة التي تلخص هذه المسألة، بل تلخص مذهبه بأكمله وهي: «فإن إله المعتقدات تأخذه الحدود (أي يمكن حده و تعريفه وتصوره ومعرفته).
وهو الإله الذي في قلب عبده، فإن الإله المطلق لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء وعين نفسه». 


 .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تعليقات د. أبو العلا عفيفي على كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» شرح الشيخ نور الدين عبد الرحمن الجامي على متن كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر أبن العربي الحاتمي الطائي
» كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي
» شرح الشيخ عيد الغني النابلسى كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
» شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني .على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي
» شرح داود بن محمود بن محمد القَيْصَري فى كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم على فصوص الحكم الشيخ الأكبر

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: