حكاية البقال والببغاء المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
حكاية البقال والببغاء على مدونة عبدالله المسافرحكاية البقال والببغاء المثنوي المعنوي الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
حكاية البقال والببغاء وإراقة الببغاء الزيت في الدكان
كان في سالف العصر بقال ، وكان له ببغاء حسن الصوت أخضر اللون متكلِّم .وكان هذا الببغاء ( يقف ) على الدكان حارساً له ، ويحدّث التجار جميعاً بلطيف المقال .فقد كان ناطقاً في خطاب الآدمين ، كما كان حاذقاً في غناء الببغاوات . 250 ( وذات مرة ) قفز من ناحية الدكان إلى ناحية أُخرى ، فأراق زجاجات زيت الورد .وجاء صاحبه من ناحية المنزل ، وجلس على الدكان فارغ البال كأنه من السادة .فرأى الدكان قد غمره الزيت ، وثيابه لزجة ، فضرب الببغاء على رأسه ، فصار أقرع من الضرب .وامتنع الببغاء عن الكلام بضعة أيام ، فأصبح الرجل البقال يتأوه من الندم .فكان يقتلع شعر لحيته ويقول : “ وا أسفاه ! إنّ شمس نعمتي أصبحت تحت السحاب .“ 113 “ 255 ليت يدي كانت قد كسرت في تلك اللحظة ! كيف ضربت هذا الحلو اللسان على رأسه ؟ “ .وجعل يعطي الهدايا لكل درويش لعلّه يسترد نطق طائره .وبعد ثلاثة أيام من الحيرة والألم ، كان يجلس على الدكان كأنه يائس .وكان يظهر للطائر كل لون من العجائب ، لعله يبدأ النطق من جديد .( وفي تلك اللحظة ) كان درويش عاري الرأس يمر ، وكان رأسه خالياً من الشعر كأنه ظهر طاس أو طست . 260 فنطق الببغاء في ذلك الوقت وصاح بالدرويش : “ يا فلان ! لماذا اختلطت أيّها الأقرع بأمثالك من القرع ؟ لعلك أرقت الزيت من الزجاجة ! “ .فأضحك قيا سُه الخلق ، إذ أنّه ظنّ نفسه مثل صاحب الدلق “ 1 “ .فلا تتخذ من نفسك مقياساً لأحوال الطاهرين ، حتى ولو تشابهت في الكتابة كلمة “ شير “ بمعنى أسد و “ شير “ بمعنى لبن .ولهذا السبب ضلّت جملة أهل العالم فقليل من الناس من يعرف أبدال الحق . 265 فقد ادّعوا أنّهم مساوون للأنبياء ، وظنّوا أنفسهم مثل الأولياء .وقالوا “ أنظروا ! إننا بشروهم بشر ، ونحن وإيّاهم أسارى للنوم والطعام “ .ومن عما هم لو يدركوا أن هناك فرقاً لا نهاية له بينهم وبين هؤلاء ................................................................( 1 ) الدلق هو الخرقة ، وصاحب الدلق هو الدرويش . “ 114 “ فالنحل كلها تأكل من مكان واحد ، ولكن يجيء من بعضها اللدغ ومن بعضها الآخر يأتي العسل .والغزلان نوعان كلاهما يأكل العشب ، ويشرب الماء ، ولكنّ أحدهما يجيء منه البعر ، ومن الآخر يأتي المسك المصفىّ ! 270 ومن القصب صنفان يشربان من ماء واحد ، ولكنّ أحدهما خال ، والآخر ( حافل ) بالسكر .فتأمّل مائة ألف من أمثال هذه الأشياء ، وانظر كيف يفصل بينها طريق طوله سبعون عاماً ! فهذا يأكل فتتولّد منه القذارة ، وذلك يأكل فيصبح كلّه نوراً إلهيّاً ! وهذا يأكل فينبعث منه البخل والحسد ، وذلك يأكل فيفيض منه عشق الأحد ! وهذه أرض طيّبة ، وتلك مالحة رديئة . وهذا ملك طاهر وذاك شيطان ووحش ضار . 275 فلو تشابهت الصورتان فذاك جائز ، فالماء الملح والماء العذب شبيهان في الصفاء ! وليس يدري الفرق بينهما سوى صاحب ذوق ، فأدركه ، فهو الذي يعرف الماء العذب من الماء الملح .( فمن الناس ) من يقيس السحر بالمعجزة ، فيظن أنّ كليهما مبنيّ على المنكر .فالسحرة من أجل منازعتهم لموسى أمسكوا عصى مثل عصاه . “ 115 “لكنَّ بين هذا العصى وتلك العصى فرقاً واسعاً ! وبين هذا العمل وذاك العمل طريق عظيم .280 فهذا العمل تشيّعه لعنة اللَّه ، وذاك العمل تقابله رحمة اللَّه .إنّ الكفار - لمرائهم - ذو وطباع كطباع القردة . والطبع ( السيء ) آفة داخل الصدر .فالقرد يفعل ما يفعله الناس ، ويحكي ما يراه منهم كلّ لحظة .وهو يظنّ أنّه قام بما يقوم به الإنسان ، ومتى كان هذا العنيد يدرك الفرق ؟فالإنسان ( الفاضل ) يعمل بأمر ( اللَّه ) والقرد يعمل من أجل العناد .فاحثُ التراب على رؤوس هؤلاء المعاندين .285 إنّ المنافق يلتقي مع المؤمن في الصلاة ، وذلك للنزاع والمنافسة ، وليس من أجل الضراعة ! ففي الصلاة والصيام والحج والزكاة ( ترى ) المؤمنين في ( صراع ) مع المنافقين ( يتراوح ) بين النصر والهزيمة .وسوف يكون النصر في العاقبة للمؤمنين ، وتكون الهزيمة في الآخرة للمنافقين .وإذا كان هذان الفريقان يلعبان معاً لعبة واحدة ، فإنّهما ( مختلفان ) معاً اختلاف المروزي “ 1 “ والرازي “ 2 “ .فكل منهما يتجه إلى مقامه ، وكل منهما يمضي في السبيل التي تتفق مع اسمه . 290 والمؤمن إذا وُصف بالإيمان سعدت روحه ، وإذا نُعت بالنفاق..............................................................( 1 ) نسبة إلى مدينة مرو .( 2 ) نسبة إلى مدينة الري . “ 116 “ تأجِّجت نار الغضب في نفسه .واسم المؤمن محبوب لذاته ، وأما المنافق فاسعمه بغيض لآفاته .فحروف كلمة “ مؤمن “ ليست في حدّ ذاتها حروفاً مشرِّفة ، ولفظ مؤمن ليس إلا وسيلة للتعريف بالمؤمن .فإذا سمّيت المؤمن منافقاً ، فإنّ هذا الاسم الخسيس يلدغه في باطنه كأنّه عقرب .ولو لم يكن هذا الاسم مشتقّاً من جهنم ، فلماذا يحسّ المرء فيه مذاق جهنم ؟295 وليس قبح هذا الاسم ( نابعاً ) من حروفه ، كما أنّ ملوحة ماء البحر ليست من الوعاء الذي يحتويه .فالحرف كالوعاء والمعنى فيه كالماء ، وبحر المعاني عند اللَّه الذي عنده أمّ الكتاب .والبحر الملح والبحر العذب في هذه الدنيا بينهما برزخ لا يبغيان “ 1 “ .واعلم أنّ كلا هذين البحرين ينبعان من أصل واحد ، فدعهما وامض ، حتى تدرك أصلهما .ولن يفيدك الاعتبار في تمييز الذهب الخالص من الذهب المشوب ما لم يكن لديك محكّ لذلك .300 وكلّ من وضع اللَّه له محكّاً في روحه فإنّه يمحّص به كل يقين من الشكّ ................................................................( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الرحمن : “ مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان “ . ( 55 : 19 ) .“ 117 “( فالانسان ) الحّي لو وقع في فمه قذى ، فإنّه لا يستريح حتى يلفظه .فلو دخلت الفم وسط آلاف من اللقم قطعة صغيرة من القذى فإن حسّ الرجل الحيّ يتعقبها .إنّ حسّ الدنيا سلّم لهذا العالم ، وأما حسّ الدين فهو سلّم السماء فاطلب صحة حسِّ الدنيا من الطبيب ، والتمس صحة حسِّ الدين عند الحبيب .305 وصحّة حسِّ الدنيا تجيء من سلامة البدن ، وأما صحة حسّ الدين فتأتي من خرابه .وإنّ طريق الروح يخرّب الجسم ، ولكنّه يعود فيعمره بعد هذا التخريب .( فهو كمن ) خرب داراً من أجل كنز من الذهب ، ثم زادها عمراناً بذلك الكنز ذاته ! ( أو كمن ) قطع الماء وطهّر مجرى النهر ، ثم عاد فأجرى ماء الشرب فيه .( أو كمن ) شقّ الجلد وانتزع منه رأس الحربة ، فنما على الجرح بعد ذلك جلد جديد . 310 ( أو كمن ) هدم القلعة ، وأخذها من الكفار ، ثم أقام على أرضها مائة برج وسدّ .ومن ذا الذي يصف صنيع من لا شبيه له ؟ إنّ ما قلته ليس إلا ما تمليه الضرورة ! فهو حيناً يظهر بتلك الصورة ، وحيناً بضدّها . فليس في أمور الدين إلا ما يبعث الحيرة . “ 118 “ وليست هذه الحيرة حيرة من يوليه ظهره ، وإنما هي حيرة المحبّ أمام الحبيب ، والغرق ( في لجة حبّه ) والسكر ( بعشقه ) .فمن الناس من ولىّ وجهه نحو الحبيب ، ومن الناس من ليس وجهه إلا وجه نفسه . 315 فانظر إلى وجه كلّ إنسان ، وكن منتبهاً ، فلعلّك تغدو من التأمل عارفاً بالوجوه .ولما كان كثير من الأبالسة يظهرون في صورة الإنسان ، فليس يليق بالمرء أن يمدّ يده لكل يد .ذلك لأنّ الصياد يصطنع الصفير ، لكي يوقع الطائر في حبائله .فيسمع الطائر صوت أبناء جنسه . فيجيء من الهواء فيجد الشبكة والسكين .إنّ الرجل اللئيم يسرق لغة الدروايش ليتلو على البسطاء أسطورة منها ( يخدعهم بها ) . 320 وإن عمل الرجال لنور وحرارة ، وأما عمل الأخسِّاء فاحتيال ووقاحة ! فقد يُصنع الأسدُ من الصوف لأجل التسول ، وقد خلع بعض الناس على مسيلمة لقب أحمد ! فبقى لمسيملة لقب الكذّاب ، ودام لمحمد نعت أولي الألباب .إنّ شراب الحق ختامه المسك المصفىَّ ، وأما الخمر فختامها النتن والعذاب ..