منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي  Empty
مُساهمةموضوع: في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي    في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي  Emptyالأربعاء أغسطس 19, 2020 6:19 am

في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )    

في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ على مدونة عبدالله المسافر
في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
“ 335 “
في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ ،
فإن الحلوى لا تؤذي الطبيب بينما هي تؤذي المريض والبرد والثلج لا يتلفان العنب الناضج بينما هما يتلفان العنب 
الفج فالمريد لا يزال على الطريق ولم يصل بعد إلى مقام :” ليَغْفرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ منْ ذَنْبكَ وَما تَأَخَّرَ ““ 1 “

إنّ الوليّ لو شرب السمّ لصار شراباً هنيئاً ، وأما الطالب فلو شرب السمّ لأظلم عقله .
لقد دعا سليمان ربّه بقوله :” رَبِّ اغْفرْ لي ، وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبَغي لأَحَدٍ منْ بَعْدي ““ 2 “ .
ومعنى الآية : “ يا ربّ ! لا تعط أحداً سواي هذا الملك ولا تلك القدرة !


2605 - ولا تؤثر غيري بمثل هذا اللطف والجود ! “ وهذا القول يشبه الحسد ، ولكنّه ليس كذلك .
فلتقراً سرّ” لا يَنْبَغي ““ 3 “ بروحك ، ولا تفهم سرّ” منْ بَعْدي “ *” 4 “ على أنّه من بخل سليمان .
لكنّه رأى في الملك مائة خطر ، فملك الدنيا كان دائماً خطراً على الحياة .
إنّه مصدر خوف على الرأس والقلب والدين ، وهو امتحان لنا ليس له من مثيل .
...............................................................
( 1 ) ( الفتح ، 48 : 2 ) .
( 2 ) ( ص ، 38 : 35 ) .
( 3 ) هذه عبارة من الآية الكريمة التي وردت على لسان سليمان . والتي يوالي الشاعر تفسيرها في هذا البيت وما يليه .
( 4 ) هذه عبارة من الآية الكريمة التي وردت على لسان سليمان . والتي يوالي الشاعر تفسيرها في هذا البيت وما يليه .

 
“ 336 “


فالمرء يحتاج إلى همّة سليمان لكي ينجو من تلك الآلاف من الروائح والألوان “ 1 “ .

  2610 - وحتى سليمان ، مع هذه القوة التي كانت له ، كم خنقت أمواجُ ملكه أنفاسَه ! 
لقد كان يشعر بالشفقة على كلّ ملوك الدنيا ، حين يتراكم فوقه - من الملك - غبار الهمّ .
فشفع لهم قائلًا : “ ربّ هبْ هذا الملك ، ولكنْ هبْ معه الكمال الذي منحتني إيّاه ! 
فكلّ من وهبته وتفضّلت عليه بهذا الكرم فهو سليمان ، وأنا أيضاً ذات هذا الرجل .
فهو لن يكون بعدي وإنما معي . ومن ذا الذي يكون معي ؟
إنّه أنا بلا منازع “ .

  2615 - إنّ شرح هذا واجب عليّ ، ولكن هأنذا أعود إلى قصة الأعرابي وامرأته .



مغزى ما جرى بين الأعرابيّ وامرأته

إنّ الذي جرى بين الأعرابي وامرأته ، لذو مغزى يبحث عنه قلب المخلص .
لقد جاء - عن طريق النقل - ما جرى بينهما . فاعلم أنّ ( في تلك القصة ) مثلًا لفنسك وعقلك .
..........................................................
( 1 ) المقصود بالروائح والألوان مباهج الدنيا ومفاتنها .

“ 337 “

 
فهذه المرأة وهذا الرجل نَفْس وعقل ، وكلاهما ضروريّ لإظهار الخير من الشرّ .
إنّ هذين الواجبي الوجود في هذا العالم الترابيّ يتحاربان ويتنازعان إبّان النهار وفي الليل .


  2620 إنّ المرأة تريد حاجة المنزل ، يعني الأبهّة “ 1 “ والخبز والخوان والجاه .
فالنَفْس مثل المرأة ، تنشد التراب “ 2 “ حيناً ، وتنشد المجد حيناً آخر ، لكي تحقّق مآربها .
وأما العقل فليس بمدرك لتلك الأفكار ، وليس في معدنه غير خوف اللَّه .
فإذا كان سرّ القصة هذه الحبّة وهذا الشرك “ 3 “ فاستمع الآن إلى صورة هذه القصة كلها ! 
فلو كان البيان المعنويّ كافياً ، لكان خلق العالم باطلًا عاطلًا !

 2625 - ولو أنّ المحبّة لم تكن إلا فكراً ومعنى ، فلا ( جدوى من ) صورة صومك وصلاتك .
والهدايا التي يتبادلها الأحباب للتعبير عن محبّتهم ليست إلا صوراً .
ذلك لأنها تقدّم الدليل على المحبّة المحتجبة في الخفاء .
فالحسنات الظاهرة - أيّها الفاضل ! - شواهد على عواطف الحبّ المستتر .
وشاهدك قد يكون صادقاً في وقت ، وكاذباً في وقت آخر ، ومرة يكون ثملًا بالخمر ، وأخرى باللبن المخض .

  2630 - فشارب المخيض يتظاهر بالسكر ، فيصيح صياح السكارى ، ويتراءى مثقل الرأس . .
...............................................................
( 1 ) ماء الوجه في البيت كناية عن الأبَّهة .
( 2 ) تطلب المادة .
( 3 ) فتنة النفس للعقل .
 

“ 338 “


فهذا المرائي ( يغالي ) في الصيام والصلاة ، حتى يُظنّ أنّه سكران بولائه ( لربّه ) ! 
وصفوة القول أنّ ظاهر الأفعال مختلف ( عن باطنها ) ، وجدوى ( الظاهر ) أنّه دليل على ما استتر ( في الباطن ) .
فيا ربّ ! هبنا ذلك التمييز - كما نريد - لنقدر على التمييز بين ما استقام من الأدلّة وما اعوجّ ! 
وهل تعلم متى يصبح الحسّ تمييزاً ؟ إنه كذلك حينما ينظر بنور اللَّه ؟


 2635 وإذا لم يكن الأثر ( ظاهراً ) فإنّ السبب يظهره ، ومثال ذلك القربى ، فهي مخبرة عن المحبّة .
وإذا حلّ نور اللَّه في حواسّك ، فإنك لا تكون عبداً للأثر ولا لسبب .
فإذا ما أورت المحبّة شعلتها في الباطن ، عظم الإنسان ، إذ أنها تريح خاطره من الآثار .
فلا تكون له حاجة إلى علامات الحبّ ، ما دام الحبّ قد غمر بنوره أفقه .
ولهذا الكلام تفصيلات تكمله ، ففتّش أنت عنها ، والسلام .


  2640 - وأما من رأى ذلك المعنى في هذه الصورة ، فإنّ الصورة قريبة من المعنى ، بعيدة عنه ! 
إنّهما في الدلالة مثل الماء والشجرة ، ولكنّك إذا اتجهت إلى الماهيّة فهما متباعدان غاية البعد “ 1 “ .
فلتقل بترك الماهيّات والخصائص ، ولتشرح لنا أحوال هذين المليحين “ 2 “ !
...............................................................
( 1 ) إنهما في الدلالة متقاربان في الظاهر تقارب الماء من الشجرة التي يمر بباطنها ، ولكنهما متباعدان في الماهية كالعبد بين الماء والشجرة في ماهية كل منهما .
( 2 ) المليحان هنا هما الأعرابي وزوجه .


“ 339 “

كيف وجّه الأعرابيّ قلبه لتحقيق ملتمس حبيبته
وكيف أقسم أن ليس في تسليمه حيلة أو امتحان

قال الأعرابيّ : “ الآن قد أقلعتُ عن الخلاف ، والحكم لك ، فلتسحبي السيف من غمده ! 
وإني لمطيع أمرك في كل ما تأمرين به ، وولن أنظر فيما قد ينجم عن ذلك من شر أو خير .


 2645 - لسوف أصبح في وجودك عدماً ، فما دمتُ مُحبّاً فالحب يعمي ويصّم ! 
“ فقالت الزوجة : “ يا للعجب ! أأنت حبيبي ؟ أم أنك بحيلة تكشف سرّي ؟ “ .
فقال الأعرابيّ : “ واللَّه عالم السرّ الخفيّ ، الذي خلق من التراب آدم صفيا ، 
وفي جسم وهبه إياه ، حجمه ثلاثة أذرع ، أظهر كلّ ما كمن في الألواح والأرواح ! 
فعلمّ آدمُ ( الملائكة ) - في البدء - ما يكون إلى الأبد ، بما اقتبسه من علم إلهيّ “ 1 “ .


 2650 - فانتشت من تعليمه الملائكة ، ووجدت في تقديسه ( للَّه ) لوناً آخر من التقديس .
فتلك الكشوف التي جلاها آدم للملائكة ما كانت لتتسع لها رحابُ السماوات الفساح .
لقد ضاقت عرصات السماوات السبع أمام سعة مجال هذا الروح الطاهر .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ بما علمه ربه من الأسماء “ . إشارة إلى الآية الكريمة : “ وعلم آدم الأسماء “ . ( البقرة ، 2 : 31 ) .


“ 340 “

ولقد روى الرسول عن الحقّ أنه قال ( ما معناه ) : “ إنني لا يسعني وعاء العلوّ والانخفاض ، 
ولا تسعني الأرض ولا السماء بل ولا العرش “ ، فاعلم ذلك أيها العزيز !

 
 2655 - “ ولكنّ قلب المؤمن يتسّع لي ، فإذا كنت تبحث عني فاطلبني في قلوب المؤمنين “ “ 1 “ .
قال أدخل في عبادي تلتقي * جنّة من رؤيتي يا متقي “ 2 “إن العرش على نوره واتساعه - حين رأى ( روح ) آدم - تخلى عن مكانه .
فما أعظم ضخامة العرش بداته ! ولكنْ ما الصورة إذا جاء المعنى ؟
وقالت الملائكة لآدم : “ لقد كانت لنا ألفة ( بك ) وأنت في تراب الأرض !


 2660 - فكم غرسنا بذور الخدمة في الأرض ، وكنا نعجب لتعلّقنا بها .
فما ذا كان تعلقنا بهذا التراب ، ما دمنا نحن قد فُطرنا من السماء ؟
وماذا كان إلفنا نحن الأنوار بالظلمات ؟ وكيف يستطيع النور أن يعيش منع الظلمات ؟
يا آدم ! إن شذاك كان مبعثاً لهذا الإلف ، لأنّ الأرض كانت لجسمك سدى ولحمة .
فمنها نُسجَ جسمُك الترابيّ ، وفيها نورك الطاهر .



  2665 - فهذا النور الذي وجدته أرواحنُا في روحك ، كان في أول الأمر يشعّ من التراب .
لقد كنا في الأرض ، وكنا غافلين عنها ! كنا غافلين عن الكنز الذي اختبأ فيها !
...............................................................
( 1 ) النص العربي للحديث القدسي هو : “ ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن التقي الورع “ .
( 2 ) هذا البيت عربيّ في الأصل .

 

“ 341 “

 
وحينما أُمرنا بالسفر من هذا المقام ، صارت أفواهنا مرة من جرّاء هذا الانتقال .
فأخذنا بخادل قائلين : “ يا ربّنا ! من ذا الذي سيحتلّ مكاننا ؟
أتبيع نور تسبيحنا وتهليلنا من أجل قيل وقال ؟ !
 

2670 - إن حكم الحقّ كان قد بسط لنا بساط ( الرحمة ) قائلًا : “ تكلمّوا وانطلقوا في الحديث ! 
وقولوا كلّ ما يرد على ألسنتكم من غير حذر ، كما ( يفعل ) الطفل الوحيد مع أبيه .
وماذا لو كانت أقوالكم هذه غيره لائقة ؟ إن رحمتي لسابقة على غضبي .
ولكي أظهر لك هذا السبق - أيها الملك - أودعت فيك أسباباً للحيرة والشك .
وهكذا تتكلم ، بدون أن أحسابك على قولك . فلا يستطيع منكرُ حلمي أنْ ينبس بكلمة !

 

2675 - وإن مائة أب ومائة أم لتولد من حلمنا في كلّ لحظة ، ثم تختفي ! 
وما حلم هؤلاء إلا زبد من بحر حلمنا . فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما البحر فدائم البقاء “ .
فماذا أقول ؟ إن هذا الصدف “ 1 “ أمام هذا الدرّ “ 2 “ ليس إلا زبداً لزبد الزبد ! 
فبحقّ هذا الزبد ! بل بحقّ ذلك البحر الصافي ! إن قولي هذا ليس امتحاناً ، وليس هراء “ 3 “ .
بل إنه من صميم الحبّ والصفاء والخضوع ! أقسم لك بمن إليه مآبي .
...............................................................
( 1 ) حلم الانسان .
( 2 ) حلم اللَّه .
( 3 ) الحديث هنا على لسان الأعرابي يخاطب امرأته .




“ 342 “


  2680 - فإذا كان هذا الوله قد بدا لك امتحاناً ، فلتختبري هذا الامتحان لحظة واحدة .
واكشفي سرّك ، لكي ينكشف لك سريّ ، ومريني بكل ما أنا قادرُ عليه .
وأزيحي الحجاب عن قلبك ، يتجلّ لك قلبي ، فأتقبل ما أنا قابل له ! 
كيف أعمل ؟ وأية حيلة في يدي ؟ ألا فلتنظري أيّ عبء تحتمله روحي “ 1

كيف عيّنت المراة لزوجها طريق طلب الرزق وكيف تقبّل الرجل ذلك منها

فقالت المرأة : إنّ شمساً واحدة قد أشرقت فاكتسب النورَ منها عالمُ بأسره .


  2685 - ونائب الرحمن ، خليفة اللَّه ، به ازدهرت مدينة بغداد ، فكأنه الربيع .
فإذا اتصلت بهذا المَلك ، أصبحت مَلكا ! ( وإلا ) ، فإلى متى تسعب وراء كلّ إدبار ؟
إنّ مجالسة السعداء مثل الكيمياء ! بل أين هي الكيمياء التي تشبه نظرة ( إقبالهم ) ! 
ولقد تلقى أبو بكر نظرة من الرسول ، وبالتصديق مرة واحدة أصبح صدّيقاً !
..............................................................
( 1 ) تأملي المدى الذي يمكن أن تطيقه روحي في تحمل الأعباء ، ولا تكلفيني ما لا طاقة لي به .

 
“ 343 “

فقال الزوج : “ وكيف أصبح مقبولًا عند الملك ؟ وكيف أذهب إليه من غير حجة أتذرّع بها ؟



  2690 - فلا بدّ لي من ذريعة أو حيلة . وهل استقامت حرفة قطّ بدون آلة ؟
( إنّني ) كالمجنون الذي سمع من شخص أنّ ليلى قد ألمّ بها مرض طفيف .
فقال : “ أوّاه ! كيف أذهب إليها بدون عذر أتذرّع به ؟ 
وإذا تخلفت عن عيادتها فكيف يكون حالي ؟
ليتني كنت طبيباً حاذقاً * كنت أمشي نحو ليلى سابقاً “ 1 “
ولقد خاطبنا الحقُّ تعالى بقوله :قُلْ تَعالَوْا . . ““ 2 “ ليكون إشارة لنا نتغلّب بها على حيائنا .

 

  2695 - ولو كان للوطواط بصر ووسيلة ، لطار بالنهار وحسن حاله .

فقالت الزوجة : “ إنّ ملك الملوك حين ينزل إلى الميدان ، يصبح كل عجز آلة ووسيلة ! 
ذلك لأن الآلة إدّعاء و ( تأكيد ) للوجود الذاتيّ ، ونجاحُ ( العمل ) يتحقّق عند الافتقار والتواضع “ “ 3 “ .
فقال الأعرابي : “ وكيف ألتمس الربح من انعدام وسائلي ، إذا لم أظهر أَنَّني عديم الوسائل ؟
...............................................................
( 1 ) هذا البيت عربىّ في الأصل .
( 2 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى :
“ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم “ . ( الأنعام ، 6 : 151 ) . ويريد الشاعر أن دعوة اللَّه العباد للاستماع إلى قوله هي الإشارة التي تجعلهم يتغلبّون على الحياء الذي قد يستولي عليهم في حضرة اللَّه .
( 3 ) ليس تأكيد الإنسان لذاته وأعماله وسيلة التقرب إلى اللَّه عند الصوفيّة ، وإنما التقرّب عندهم بالتوكل على اللَّه أي الإيمان بأنَّه لا يتمّ أمر بدون إرادته ، فالتوكل عندهم يؤدي إلى إفناء الإرادة الإنسانية في الإرادة الإلهية ، وهذا هو التواضع ، وهو الذي يؤدي إلى نجاح المقاصد ، لأنّ الإرادة الإلهية لا تهدف إلا إلى الخير .

“ 344 “

 

فلا بدّ لي من شاهد ( أمام الملك ) على إفلاسي ، حتى يشفق علّي في فاقتي .

 

2700 - فلتكشفي لي عن شاهد غير القيل والقال ، وظاهر الحال ، فلعله يستدر رحمة الملك الجليل .
فالشهادة - التي لا تزيد على الكلام والمظهر - كانت دائماً مجرحة عند ذلك القاضي الأكبر .
إنّه يريد ممن ( يقف بساحته ) أنْ يكون الصدق شاهداً على حاله ، فيشعّ نورُه من غير ( حاجة ) لمقاله “ .

كيف حمل الأعرابيّ إبريقاً ملينأ بماء المطر من قلب البادية إلى بغداد هدية إلى أمير المؤمنين 
ظانّا أنّ تلك المدينة أيضاً تعاني قحطاً في الماء

فقالت المرأة : “ إنّ الصدق أنّ الإنسان - بجهده - ينطلق من وجوده انطلاقاً كاملًا .
إن لدنيا ماء مطر بالإبريق ، وهو ملكك ، ورأس مالك ووسيلتك .


2705 -  فاحمل هذا الإبريق وانطلق ! اتّخذه هدّية ، وأمثل أمام ملك الملوك ! 
وقل له : “ إنّنا نمتلك من الأسباب غير هذا .
وليس في المفازة شيء قط أحسن من الماء .
فمع أنّ خزائنه مليئة بالذهب والجوهر ، فإنّه لا يجد ماء كهذا ، فهو نادر الوجود ! “ .
فما هذا الكوز ؟ إنّه جسدنا المحدود ، وبه ماء حواسنا الملح !

“ 345 “

فيّارب ! تقبّل إبريقناً وكوزنا بفضلك ( الذي يشير إليه قولك ) :
” إنَّ اللَّهَ اشْتَرى منَ الْمُؤْمنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ““ 1 “ .

 
  2710 - إنّ لإبريقنا أنابيب ، هي الحواس الخمس ، ( فيا ربّ ) احفظ ماء إبريقنا من كلّ نجس ! 
حتى يكون لإبريقنا هذا منفذُ إلى البحر ، وحتى يتخذ إبريقُنا صفة البحر .
فإذا ما حملته هديّة إلى السلطان يراه نظيفاً ، ويكون له مشتريا .
فيصبح ماؤه بعد ذلك بلا حدود ، ويمتلئ من كوزنا مائة عالم ! 
ألا فلتغلق أنابيبه ، ولتملأه من وعاء ( الحقيقة ) . لقد أمرنا الحقّ أن نغضّ الأبصار عن الهوى “ 2 “ .


  2715 - فانتفشت لحية الأعرابي بريح الغرور . فمن ذا الذي لديه مثل هذه الهدية ؟ إنها بحق لائقة بمثل هذا المليك ! 
ولم تدر الزوجة أن هناك على الطريق ( في بغداد ) نهراً مثل جيحون ، حلواً كالسكر .
يجري كالبحر في وسط المدنية ، وقد حفل بالزوارق وشباك الصيادين .
فلتذهب إلى السلطان ، ولتشهد أبهته وجلاله ، ولتجرب الإحساس ( بالحقيقة في قوله ) :” تَجْري منْ تَحْتهَا الْأَنْهارُ “ *” 3 “ .
...............................................................
( 1 ) ( سورة التوبة ، 9 : 111 ) .
( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ، إنّ اللَّه خبير بما يصنعون “ .
( سورة النور ، 24 : 30 ) .
( 3 ) وردت هذه العبارة في كثير من آيات القرآن . ومنها قوله تعالى : “ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار “ . ( سورة البروج ، 85 : 11 . )

 

“ 346 “

فما أحاسيسنا وإدراكاتنا - على مثل هذه الصورة ( المادية ) - إلا قطرة في تلك الأنهار .

 
كيف خاطت امرأة الأعرابي اللبد حول الإبريق الملئ بماء المطر وختمت عليه
وذلك لفرط اعتقاد البدو ( بندرة الماء )

 

2720 -  فقال الأعرابي : “ نعم ، أغلقي فوهة الإبريق ، وحاذري ، فإن هذه الهدية ستجلب لنا الربح ! 
خيطي اللبد حول هذا الإبريق ، حتى يفطر الملك على هديّتنا ! 
فليس في الآفاق كلّها مثل هذا الماء ، وليس لماء مثل هذا الصفاء ! 
“ ( وما قوله ذلك إلا ) لأنه وأمثاله معتلون على الدوام ، وقد ذهب بنصف بصرهم شربهم الماء المالح المرّ .
فالطائر الذي يكون مسكنه عند الماء الملح ، أنى له أن يعرف مكان الماء الصافي ؟

2725 -  فيا من مقامك عند الغدير المالح ! أنى لك أن تعرف الشط “ 1 “ وجيحون والفرات ؟
ويا من لم تتخلص من ذلك النزل الفاني “ 2 “ ! ماذا تعرف عن المحو والسكر والانبساط ؟
ولو عرفت فعن طريق النقل عن أبيك وجدك . فما هذه الأسماء أمامك إلا كحروف أبجد “ 3 “ .
...............................................................
( 1 ) نهر شط العرب .
( 2 ) عالم المادة .
( 3 ) تنطق بها دون أن تفهمها .


“ 347 “

فما أذيع النطق “ بأبجد هوّز “ عند جميع الأطفال ، وما أوضحه ! ولكن ما أبعد معناها ( عن فهمهم ) ! 
فحمل الأعرابي الإبريق ، وانطلق مسافراً ، وأخذ يجرّه في جنح الليل ، وأثناء النهار .

 

2730 -  لقد كان يرتعد ( خوفاً ) على الإبريق من آفات الدهر ، وها هو ذا قد نقله من الصحراء إلى المدينة ! 
وأما المرأة فقد بسطت سجادة الصلاة ضارعة ، وجعلت ( دعاء ) “ ربّ سلمّ “ وردها في الصلاة .
( وفي ضراعتها كانت تقول ) : “ ربّ احفظ ماءنا من الأخساء ، واجعل هذا الجوهر يصل إلى ذلك البحر .
فزوجي وإن كان ذكيّاً ماكراً ، إلا أنّ آلاف الأعداء يتربصون بهذا الجوهر ! 
بل ماذا يكون الجوهر أمامه ؟ إنّ هذا ماء الكوثر ، وإنّ قطرة واحدة منه لهي أصل الجوهر !

 

2735 -  فبدعاء المرأة وضراعتها ، وباهتمام الرجل وتحمّله العبء الثقيل ، 
نقل الإبريق إلى دار الخلافة بدون تأخر ، وقد سلم من اللصوص ومن إيذاء الحجارة .
وهناك رأى الأعرابي بلاطاً مليئاً بالنعَم ، وقد مدّ أهل الحاجة فيه شباكهم .
ففي كلّ لحظة كان يجيء من كلّ ناحية صاحبُ حاجة ، فإذا به قد وجد لدى هذا الباب الخلعة والعطاء .
لقد كان للكافر وللمؤمن ، وللقبيح والجميل ، وكأنه الشمس والمطر ، بل كأنه الفردوس !

2740 - ورأى قوماً ذوي أبّهة في حضرة ( الخليفة ) ، وقوماً آخرين وقفوا منتظرين .


“ 348 “

فالخاصة والعامّة من سليمان حتى النملة ، دبّت فيهم الحياة كالعالم عند نفخ الصور ! 
فأما أهل الصورة فقد رُصِّعوا بالجواهر ، وأما أهل المعنى ، فقد وجدوا بحر المعنى .
وكم من عديم الهمَّة أصبح ذا همّة ! وكم من صاحب همّة أصبح ذا نعمة !


في بيان أنّه كما أنّ السائل عاشق للكرم وعاشق للكريم
فانّ كرم الكريم أيضاً عاشق للسانل . فإذا كان السائل أكثر صبراً جاء الكريم إلى بابه  
وإذا كان الكريم أكثر صبراً جاء السائل إلى بابه .
ولكنّ صبر السائل كمال ، وأما صبر الكريم فنقيصة


إنّ صيحة كانت تتردد ( قائلة ) “ أيها الطالب تقدم ، فالجود محتاج إلى السائل ، كاحتياج السائل ( إلى الجود ) “ .


   2745 - إن الجود يطلب المساكين والضعاف ، كما تنشد الحسان المرآة الصافية .
فوجوه الحسان تحلو بتلك المرآة ، كما أنَّ السائل يجلو وجه الإحسان .
ولهذا فقد خاطب الحقّ الرسول في ( سورة ) الضحى ( بقوله ) :” وَأَمَّا السَّائلَ فَلا تَنْهَرْ ““ 1 “ .
فما دام السائل مرآة الجود ، فتنبَّه ! إنّ التنفس في وجه المرآة مضرّ ( بصفائها ) .
فمن الكرام مَنْ جوده يظهر السائل ، ومنهم من ينعم على المساكين بمزيد العطاء .
...............................................................
( 1 ) ( سورة الضحى ، 93 : 10 ) .


“ 349 “


2750 -  فالسائلون إذن هم مرآة جود الحق ! وأما من هم مع الحقّ فإنهم جود مطلق ! 
وأما من لم يكن من هذين ( الفريقين ) فهو ميّت ! إنّه ليس من أهل هذا الباب ، وما هو إلا صورة فوق ستار !


الفرق بين من كان فقيراً إلى اللَّه ظامناً إليه
وبين من كان فقيراً من اللَّه ظامئاً إلى غيره

إنّ الدرويش بالصورة ( لا بالحقيقة ) غير جدير بالخبز ، فلا تُلق العظَام إلى صورة الكلب ! 
فهذا فقير إلى القمة ، وليس فقيراً إلى الحقّ ! فلا تصُفَّ الصحاف أمام صورة ميّتة ! 
إنّ درويش الخبز ليس إلا سمكة برية . إن على صورة المسكة ، ولكنّه هارب من البحر !


2755 - إنّه طائر البيت لا عنقاء الهواء ! إنه يتغذّى باللقم ولا يتغذي من اللَّه .
إنه عاشق للحقّ من أجل النوال ، وليست روحه عاشقة للحسن والجمال ! 
فإذا كان يتوهمّ أنّه عاشق اللذات ، فليست الذات توهماً للأسماء والصفات .
إنّ الوهم يتولد من الأوصاف والحدود ، والحقّ ليس بمولود .
إنَّه عاشق لتصوّراته وأوهامه ، فمتى يكون مثله من عُشَّاق ربّ المنن ؟


2760 - فلو كان عاشق الأوهام هذا صادقاً ، لقاده هذا المجاز إلى الحقيقة .


“ 350 “

إنّ إيضاح هذا الكلام يتطلب شرحاً ، ولكنني خائف من الأفهام البالية ! 
فهذه الأفهام البالية ، القصيرة النظر ، تدخل في الأفكار مائة خيال باطل .
وليس كل إنسان بقادر على صدق السماع ، فالتين ليس غذاء لكل صغار الطير .
وخاصة ما كان من هذه الطير ميتاً متحللًا ، قد ملأه الخيال ، وهو أعمى البصيرة .

 

2765 -  وأيّ شأن لصورة السمكة بالبحر أو اليابسة ؟ وأي شأن للون الهندي بالصابون أو الأصباغ ؟
وإذا نقشت على الورق صورة حزينة ، فإن هذه الصورة لم تتلق درساً في الحزن ولا في السرور .
فهذه الصورة تكون حزينة ، ولكنها خالية من ذلك الحزن . وقد تكون ضاحكة ولكن لا أثر لهذا عندها .
والذي سُطرَّ في القلوب من هذا الحزن أو السرور الدنيوي ليس إلا صورة ( لا حياة فيها ) أمام ذلك السرور أو الهمّ ( الروحي ) .
إن الصورة الضاحكة التي يجلوها لك النقش ، إنما هي من أجلك ، وذلك لكي يستقيم لك المعنى عن طريق تلك الصورة !

 

2770 - وصور ( الأجساد ) داخل الحمام تكون - خارج غرفة خلع الثياب - شبيهة بالثياب .
فما دمتَ في الخارج فإنك ترى الثياب وحدها . فلتخلع ثيابك ولتدخل أيها الرفيق .
لأنه لا سبيل إلى الدخول مع ارتدائك الثياب : فالجسم جاهل بالروح ، والثياب لا علم لها بالجسم .
 

“ 351 “

كيف تقدم نقباءُ الخليفة وحُجَّابه لاكرام الأعرابي وتقبل هديته

وحينما وصل الأعرابي من الصحراء النائية إلى باب دار الخلافة ، 
تقدم النقباء إلى الأعرابي ، وبلطف ضمخوا جيبه بكثير من ماء الورد !
 

2775 - وأدركوا حاجته بدون مقال ، فقد كان دأبهم العطاء قبل السؤال .
ثم قالوا له : “ يا وجيه العرب ! من أي مكان ( أتيت ) ؟ وكيف أنت بعد الطريق التعب ؟
فقال الأعرابي : “ إنني وجيه لو أو ليتموني وجوهكم ، وليست بذي شأن لو نبذتموني وراء ظهوركم ! 
يا من تلوح في وجوهكم علائم العظمة ! يا من رواء مجدكم أبهى منَّ الذهب الجعفري ! 
يا من نظرة واحدة منكم ( تعدل ) نظراتٍ ( منْ سواكم ) ! يا من نثار رؤيتكم الدنانير !

 

2780 - يا من أصبحتم جميعاً تنظرون بنور اللَّه ! يا من أقبلتم من عند اللَّه للجود والعطاء .
لتلقوا بنظراتكم الكيميائية على نحاس أشخاص البشر ! إنني غريبُ ، وقد قدمتُ من الصحراء . 
لقد أقبلتُ على أمل في لطف السلطان ، مَنْ عبيرُ لطفه قد عمّ الصحارى ، فاتخذت منه حباتُ الرمال أرواحاً ! 
لقد قدمت إلى هنا على أمل الدنيار ، فلما وصلتُ أصبحتُ ثملًا بالرؤى !
 

2785 - لقد انطلق شخصُ نُحو الخبّاز من أجل الخبز ، ولكنه جاد الروح عندما رأى حسن الخبّاز !

 

“ 352 “


ومضى رجل إلى البستان يلتمس النزهة ، فأصبحت نزهتُه ( مشاهدة ) جمال البستاني ! 
( فمثلهما ) كمثلُ ذلك الأعرابي الذي سحب الماء من البئر ، فشرب ماء الحياة من طلعة يوسف “ 1 “ ! 
أو كمثل موسى الذي ذهب يلتمس ناراً ، فرأى ناراً ( جعلته ) ينجو من النار “ 2 “ .
لقد قفز عيسى ليخلص من أعدائه ، فحملته قفزته تلك إلى السماء الرابعة .

 
   2790 - ولقد كانت سنبلة القمح فخا لآدم ، فأصبح وجوده سنبلة ( حوث بذور ) البشرية .
والصقر يقصد الشباك من أجل الطعام ، فيجد ساعد الملك والإقبال والمجد ! 
والطفل يلتحق بالكتّاب لكسب المعرفة ، وأمله طائر لطيف ( يهديه له ) أبوه .
وبعد الكتّاب صار هذا الطفل صدراً . لقد دفع ( للمعلم ) عن كل شهر أجراً ، فأصبح بدراً .
ولقد خاض العباس الحرب حاقداً ، يبغي هزيمة الرسول ومقاومة الدين .



  2795 - فأصبح للدين - حتى القيامة - وجهاً وظهراً ، فإنه هو وأبناؤه ولاة الخلافة ! 
وإني قد قصدتُ هذا الباب ملتمساً للعطاء ، فلم أكد أخطو إلى الدهليز حتى أصبحت صدراً !
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى قصة يوسف ، والتقاطه من البئر ( سورة يوسف ) .
( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ وهل أتاك حديث موسى ، إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى “ . ( سورة طه ، 20 : 8 ، 9 ) .


“ 353 “

وقد جئت بالماء هدية لأنال الخبز ، فحملتني رائحة الخبز إلى صدر الجنان .
إنّ الخبز هو الذي أخرج آدم من الجنة ، وها هو ذا قد سما بي إلى الجنة .
لقد برئت كالملك من الماء والخبز ، وهأنذا مثل الفلك أدور بلا غرض حول هذا الباب .

 
  2800 - وليس في العالم ما يدور بلا غرض ، سوى أجسام العاشقين وأرواحهم .

في بيان أن عاشق الدنيا مثل عاشق جدار تشرق عليه الشمس وهو لا يجتهد ولا يسعى
ليفهم أن هذا النور وذلك الرونق ليسا من الجدار وإنما هما من قرص الشمس في السماء الرابعة فلا جرم أن الجدار يملك عليه قلبه .
وحينما يعود نور الشمس فيلتحق بالشمس “ 1 “
يبقى محروماً إلى الأبد ” وَحيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ ““ 2 “

إنّ عشاق الكل ليسوا بعشاق للجزء ، فإنّ من اشتاق إلى الجزء عجز عن الكلّ .
وإذا ما أصبح جزء عاشقاً لجزء ، فسرعان ما يعود المعشوق إلى كله .
( فهذا العاشق ) قد صار سخرية لمن كان عبداً مملوكاً لغيره ، فكأنه غارق تشبّثت كفّاه بضعيف .
فليس هذا المعشوق بمالك أمره حتى يعنى بعاشقه ! وهل ينهض بواجب سيده ، أم ينهض بواجب العاشق ؟
...............................................................
( 1 ) حينما تجمع الشمس أشعتها وتغرب .
( 2 ) ( سورة سب ، 34 : 54 ) .
 

“ 354 “


مثل العرب : ( إذا عشقت فاعشق الحرة وإذا سرقت فاسرق الدرَّة )


   2805 - من أجل هذا ( الذي سنوضحه ) أصبح ( قولهم ) “ اعشق الحرة ) مثلًا ، ولهذا أيضاً ذاع ( قولهم ) : “ اسرق الدرة “ .
فالعبد ( المحبوب ) قد عاد إلى سيده ، لقد رجع عبير الوردة إلى الوردة ، وبقي له الشواك .
وهكذا بقي بعيداً عن مطلوبه ، سعيه باطل وتعبه ضائع ، وقدماه داميتان ! 
إنه كالصياد الذي يتصيّد الظل ! فهل يصبح الظل من ممتلكاته ؟
أو كرجل أطبق كفه على ظلّ طائر ، على حين أن الطائر على غصن الشجرة قد حار ( في أمر هذا الرجل ) .


 2810 - يقول : “ عجباً ! من أي شيء يضحك ذلك الأحمق ؟ “ فهاك باطلًا ، وسبباً واهياً متحللًا “ 1 “ ! 
فإنْ قلت إنّ الجزء مرتبط بالكل ، فلتأكل الشواك ، فإن الشوك مرتبط بالورد .
فالجزء ليس من أي وجه مرتبطاً بالكل ، وإلا لكان باطلًا بعث الرسل “ 2 “ .
فما دام الرسل قد بُعثوا الربط ( الأجزاء بالكل ) ، فماذا يربطون ، إنْ كانت الوحدة ( قد تحققت ) ؟
إن هذا الكلام لا نهاية له ، أيها الغلام ! وقد تأخر الوقت ، فلتكمل القصة “ 3 “ .
...............................................................
( 1 ) الشاعر يخاطب القارئ بهذه العبارة .
( 2 ) لو كان البشر جميعاً متصلين بخالقهم لما كانت هناك ضرورة لبعث الرسل للإرشاد والهداية ، والعمل على ربط البشر بخالقهم .
( 3 ) قصة الأعرابي .

.
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي  Empty
مُساهمةموضوع: في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي    في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي  Emptyالأربعاء أغسطس 19, 2020 6:20 am

في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )    

في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ ،
" 355 "
كيف قدم الأعرابي الهدية يعني إبريق الماء إلى غلمان الخليفة
   2815 - لقد قدم الأعرابي إبريق الماء ، وغرس في تلك الحضرة بذور الخدمة .
وقال : “ احملوا إلى السلطان هذه الهدية ، وخلصوا سائل الملك من الحاجة !
 إن الماء حلو والإبريق أخضر اللون جديد ! الماء من المطر الذي تجمع في الحفرة !
 فضحك النقباء من ذلك ، ولكنهم تقبّلوا الهدية ، ( معتزين بها ) كالروح .
ذلك لأن لطف الملك الطيب الحكيم كان قد أثر في كل أركان دولته .
 
  2820 - فطبيعة الملوك تؤثر في رعاياهم ! إنها كالسماء الخضراء “ 1 “ ، تجعل الأرض مخضرّة يانعة .
اعلم أنّ الملك كحوض للماء ، في جوانبه أنابيب ، يتدفق الماء فيها إلى حفر السقاية “ 2 “ .
فما دامت الأنابيب كلها تحمل الماء من حوض نقي فإنها جميعاً تفيض بماء عذب حلو المذاق .
فإنْ كان الماء في الحوض مالحاً عكراً ، فإنّ كل أُنبوب يأتي بذات الماء .
ذلك لأنّ كل أنُبوب متصل بالحوض فلتتعمّق في إدراك مدلول هذا الكلام !
 
   2825 - ولتتأمل لطف الروح ملك الملوك ، الذي لا وطن له ، وكيف أثر في البدن كله !
...............................................................
( 1 ) السماء الخضراء أي المشتملة على السحاب الذي هو مصدر الخضرة .
( 2 ) اخترنا لهذا البيت رواية غير تلك التي وردت في طبعة نيكولسون ، نصها :شه چو حوضي دان وهر سو لولها * آب ازلوله روان در كولها


 
“ 356 “
 
ولطف العقل ذي الطبع الكريم ، والنسب العريق ، وكيف يلزم الجسد كله حدود الأدب ! 
والعشق المحبب الذي لا قرار له ولا سكون ، وكيف يحمل الجسم كله على الجنون ! 
ولطف ماء البحر الذي هو مثل الكوثر ، وكيف يقذف بحجارة كلها من الدرّ والجوهر ! 
وكل فضل يُعرف به الأستاذ ، فإنّ أرواح تلاميذه تغدو به متصفة .
 
  2830 - فالتلميذ الذكي المجتهد يقرأ الأصول على أُستاذ الأصول .
ودارس الفقه يقرأ الفقه على أُستاذٍ فقيه ، ولكنه لا يدرس ( عليه ) الأصول .
فإذا ما كان الأستاذ نحوياً ، فإن روح تلميذه تصبح نحوية بتأثيره .
أما الأستاذ الذي يكون فانياً في الطريق ، فروح تلميذه تكون فانية في المليك .
وعلم التصوف - من بين العلوم جميعاً - هو خير عدة وزاد ، يوم موافاة الأجل .
 
حكاية النحوي والملاح
 
  2835 - كان أحد النحاة راكباً في سفينة . فاتجه ذلك المغرور نحو الملاح .
وقال : “ هل درست شيئاً من النحو ؟ “ ، فقال الملاح : “ لا “ فقال النحويّ : “ لقد ضاع نصف عمرك سدى “ .
فانكسر قلب الملاح حزناً ، ولكنه سكت في تلك اللحظة عن الجواب .
وألقت الريح بالسفينة في دو أمة ، فعلا صوتُ الملاح مخاطباً النحوي :


 
“ 357 “
 
“ قل لي : هل تعرف السباحة ؟ “ ، فقال النحويّ : “ لست أعرفها أيها المليح البارع الجواب ! “
 
2840 - فقال الملاح : “ فقد ضاع كل عمرك أيها النحوي ! ذلك لأن السفينة ستغرق في هذه الدوامة “ .
فاعلم أن المحو هو المطلوب - في هذا المقام - وليس النحو ، فإن كنتَ محواً فاقفز إلى اليمّ بدون خوف .
إن ماء البحر يجعل الميت فوق سطحه . أما من كان حياً فكيف يخلص من البحر ؟
فإن ماتت فيك أوصاف البشر ، فإنّ بحر الأسرار يضعك فوق رأسه “ 1 “ .
فيا من دعوت الخلق حميراً ، ها أنت ذا قد بقيت الآن فوق هذا الثلج ( تتجول ) كالحمار !
 
2845 - فإنْ كنت في هذه الدنيا عالم زمانك ، فانظر إلى فناء هذه الدنيا وهذا الزمان ! 
لقد ربطنا قصة الرجل النحوّي بهذا الباب ، حتى نعلّمك “ نحو “ المحو “ 2 “ .
وإنّك أيّها الصديق العظيم لواجدُ جوهر الفقه ، وجوهر النحو ، وجوهر الصرف ، سبلا مؤديّة إلى النقص .
إنّ إبريق الماء رمز لعلومنا ، وأما الخليفة فهو دجلة علم اللَّه .
وها نحن أولاء نحمل إلى دجلة جراراً ممتلئة بالماء . فلو أنّنا لم نعرف الحمير لحسبنا أنفسنا حميراً .
 
  2850 - ولعلّ هذا الأعرابيّ كان معذوراً ، لأنّه لم يكن ذا معرفة بدجلة ولا بالنهر .
...............................................................
( 1 ) يرفعك إلى مكان عليّ .
( 2 ) القواعد والوسائل التي تؤدي إلى إفناء الذات .


 
“ 358 “
 
فلو كان مثلنا عارفاً بدجلة ، لما حمل هذا الإبريق من مكان إلى مكان ! 
إنّه لو كان عارفاً بدجلة ، لألقى بهذا الإبريق فوق إحدى الصخور .


كيف تقبّل الخليفة الهدّية وأمر بالعطاء مع تنزّهه الكامل عن الحاجة إلى تلك الهدية وهذا الإبريق


حينما رأى الخليفة الأعرابي ، واستمع إلى قصة ، ملأ ذلك الإبريق بالذهب حتى فاض منه .
فوهب هذا الأعرابي خلاصاً من الفاقة ، وأعطاه منَحاً وخلعاً فريدة .
 
  2855 - وقال : “ أسلموا هذا الإبريق إلى الإعرابي . وعندما يتجه إلى العودة ، خذوه إلى دجلة .
فلقد جاء بطريق البرّ ، مع أن السفر بطريق الماء ( يجعل غايته ) أدنى سبيلًا .
فلما جلس الأعرابي في السفينة ، وأبصر دجلة ، خرّ ساجداً ، وخفض الرأس حياء .
وقال : “ ما أعجب لطف هذا الملك الوهّاب ! وأعجب منه أنه تقّبل هذا الماء ! 
فكيف تقّبل بحرُ الجود منّى - بكل هذا الإسراع - مثل هذا النقد الزائف ؟ “
 
2860 - اعلم - يا بني - أن العالم كله وعاء مليء بالعلم والجمال ! 
وقطرة واحدة ، من دجلة حُسْنه ، لا يكاد هذا العالم يسعها بين جوانبه “ 1 “ .
...............................................................
( 1 ) الترجمة الحرفية للشطر الثاني من البيت هي : “ وهذا ( العالم ) لا متلائه بها لا يسعها تحت جلده “ .



 
“ 359 “
 
لقد كان كنزاً مخفياً لكنه - لغزارته - مزّق ( حجب الخفاء ) ، وجعل الأرض أكثر إشراقاً من الأفلاك “ 1 “ .
لقد كان كنزاً مخفيا فجاش فيضه الغزيز ، فجعل الثرى سلطانا يرتدي الأطلس .
فلو أنّ هذا الأعرابيّ أبصر فرعاً من دجلة الخالق ، لحطمّ هذا هذا الإبريق وأباده .
 
  2865 - فكلّ من أبصروا ذلك ، وتولاهم ذهول دائم عن أنفسهم ، فأخذوا - بلا وعي - يضربون الإبريق بالحجارة ! 
فيا من دفعتك الحميّة إلى أن تضرب الإبريق بالحجر ، فازداد الإبريق بهذا الانكسار كمالًا .
لقد تحطّم الإبريق لكنّ الماء لم ينصبّ منه ! وتحقّقت له من الانكسار مائة سلامة ! 
وكلّ جزء من هذا الإبريق في رقص ونشوة . لكنّ هذا قد بدا للعقل الجزئيّ محالًا .
وليس الإبريق ولا الماء بظاهر لك في هذه الحال . فتأمل جيّداً ، واللَّه أعلم بالصواب .
 
  2870 - إنّك - حين تطرّق بال المعنى يفتح لك . فاضرب بحناح الفكر لعلّك ، تصبح مَلكاً للصقور ! 
لقد أصبح جناح فكرك ملوثاً بالطين تقيلًا . ذلك لأنّك تأكل الطين . وقد أصبح لك بمثابة الخبز !
 إنّ الخبز واللحكم طين ( في أصلهما ) ، فأقلل من أكلهما حتى لا تبقى عالقاً بالأرض مثل الطين .
...............................................................
( 1 ) يشير الشاعر إلى حديث قدسي رواه الرسول ، نصه : “ كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف “ . وقوله : “ جعل الأرض أكثر إشراقاً من الأفلاك “ ، إشارة لخلق آدم - أعظم مخلوقات اللَّه - من ترابها ، وجعلها مقراً لبني الإنسان .


 
“ 360 “
 
وأنت - حين تجوع تصبح كالكلب ، وتغدو ضارباً سيّء الطبع ، خسيس العرق ! 
وحين تمتلئ بالطعام تصير كالميّت ، فلا تعي ولا تتحرك كأنّك حائط !
 
2875  فإذا كنت في لحظة ميَّتاً ، وفي أخرى كلباً ، فأنَّى لك أنْ تُحسن العدو في طريق الأسود ؟
ولتعلم أن الكلب إنما هو وسيلتك للصيد ، فلا تُلق إليه بكثير من العظام .
ذلك لإنّ الكلب - حين يشبع - يصير عنيداً ، فيكف يجري مندفعاً نحو الصيد الثمين ؟
وها هي ذي الفاقة قد اجتذبت هذا الأعرابيّ إلى هذه الحضرة ، فشهد تلك السعادة ! 
وقد ذكرنا في حكايتنا إحسان الملك إلى هذا المسكين الذي كان بلا ظهير .
 
  2880 وما نطق العاشق بشيء إلا انطلقت رائحة العشق من فمه إلى مقام العشق .
فلو تحدّث في الفقه جاء كل حديثه زهداً ، وفاحت رائحة الزهد من حديثه العذب ! 
ولو نطق بالكفر ، فإنّ لكفره رائحة الدين ! ولو تكلم بالشكّ صار شكُّه يقيناً ! 
فالزبد القبيح الذي يظهر فوق بحر الصدق ، ليس إلا ظلمة قد زانها أصلها الصافي ! 
فلتعلم أنّ هذا الزبد صاف ، ووجوده متوقَّع . وما هو إلا كالشتم من شفة الحبيب .


 
 
“ 361 “
 
   2885وهو الذي يغدو شتمه غير المطلوب ، حلواً من أجل عارضه المحبوب ! 
فإنْ يقل ( الصوفيُّ ) قولا يَبْدُ مستقيماً . فما أعجب هذا العوج الذي يزين الاستقامة ! 
فلو أنّك طبخت السكرّ على صورة الخبز ، يأتيك طعم القند - حين تتذوّقه - لا طعم الخبز .
ولو أن مؤمناً وجد صنماً من الذهب ، فكيف يتركه لعابد ( من عبّاده ) ؟
إنه ليأخذه ويُلقى به في النار ، ويطحم صورته المزيّفة !
 
2890 - حتى لا يبقى في الذهب شكل الوئن ، ذلك لأنّ الصورة مانعة قاطعة للطريق ! 
إن ذاته الذهبية ذات ربانية . ومن الزيف تصوير الصنم على النقد الذهبي .
ولا تحرق بساطاً من جراء برغوث ، ولا تضع اليوم لا نزعاجك من كل بعوضة .
إنك عابد للصنم لو بقيت أسير الصورة ! فدع صورة الصنم وانظر إلى الحقيقة ! 
فإذا كنت حاجّاً فاطلب لك رفيقاً من الحجّاج ، سواء أكان هندياً أو تركياً أو عربياً .
 
 2895 - ولا تنظر إلى صورته ولونه ، بل انظر إلى عزمه وقصده ! 
فلو كان أسود اللون فإن له ذات قصدك ، فسمّه أبيض فإنه شريكك في اللون ! 
إن هذه الحكاية قد ذُكرت بصورة مضطربة ، بلا بداية ولا نهاية كأنها شؤون العاشقين .


 
“ 362 “
 
فلا بداية لها لأنها أسبق من الأزل ! ولا نهاية لها لأنها وثيقة القربى بالأبد ! 
إنها كالماء ، كل قطرة منه رأس وقدم ، وهي في الوقت ذاته لا تملك أيّاً منهما .
 
2900 - حاش اللَّه ! ما هذه بحكاية ، فتنبّه ! إنها نقد حالي وحالك ، فأحسن تأملها ! 
إن الصوفيّ لا يذكر ما كان ماضياً ، لأنه ( دائماً ) يكون في كرّ وفرّ ! 
ونحن الأعرابيّ ، ونحن الإبريق ، ونحن الملك أيضاً . وكلنا ( يصدق عليه قوله تعالى ) :” يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفكَ ““ 1 “ .
واعلم أن الزوج هو العقل ، وأنّ الزوجة هي الحرص والطمع .
وهذان مظلمان منكران ، وأما العقل فهو الشمع ( المنير ) .
فاستمع الان إلى أصل الإنكار ، وكيف ظهر . ( لقد ظهر ) لأنّ الكل أجزاء متنوعة . .
 
   2905 - والنسبة إلى الكل إنما هي ( بقولك ) “ جزء الكل “ ، لا أجزاء الكل . فليس الجزاء ( هنا ) مثل عبير الوردة ، الذي لا جزء من الوردة .
فلطف الخضرة هو جزء من لطف الوردة . وشدو القمريّ جزء من دلك الطائر العزيّد .
فإن أغد - ( على هذا النحو ) - مشغولًا بإثارة المشكلات وتوضيحها ، فمتى أستطيع أن أُقدِّم الماء للظماء “ 2 “ ؟
...............................................................
( 1 ) إشارة لقوله تعالى : “ إن ما توعدون لصادق ، وإن الدين لواقع والسماء ذات الحبك ، إنكم لفي قول مختلف ، يؤفك عنه من أفك “ . ( الذاريات ، 51 : 4 - 9 ) .
( 2 ) لو ظلمت على هذا النحو أثير المشكلات العقلية وأرد عليها وأوضحها . فأي وقت يبقي لي لأقدّم المعاني الروحية لمن هو ظماء إلى الحقيقة .
 
“ 363 “
 
فإن غمض عليك كل شيء ، وأحسست بالحرج ، فاصبر فإن الصبر مفتاح الفرج .
ولتمارس الحميْة من الأفكار “ 1 “ ، والامتناع عنها . إن الفكر هو الأسد وحمار الوحش ، والقلوب هي الآجام .
 
   2910 - إن الحمية رأس كل دواء . ذلك لأنّ الحك يزيد الجرب .
فمن اليقين أن الحمية أصل الدواء . فهارسها ثم انظر إلى قوة روحك .
فليكن “ قلبك “ مثل الأذن ، متقبلًا هذه الأفكار ، حتى أصنع لك قرطاً من الذهب “ 2 “ .
بل إنك تصبح قرطاً في أذن القمر الصائغ . ويرتفع ( قدرك ) إلى القمر وإلى الثريّا ! 
فاعلم أولًا : أن البشر المختلفين قد اختلفت أرواحهم من الألف إلى الياء .
 
  2915 وفي اختلاف الحروف قلق وشك مع أنها - من أحد الوجوه - واحدة ، من البداية حتى النهاية “ 3 “ .
إنها متضادّة من وجه ، متحدة من وجه آخر . وهي هزل من جهة ، وجدّ من جهة أخرى “ 4 “ .
وفي يوم القيامة - يوم العرض الأكبر - يطلب العرض ذو العظمة والجلال .
...............................................................
( 1 ) المراد بالأفكار هنا الهواجس والوساوس ، وهي تصطرع في القلوب ، ويأكل بعضها بعضاً ، كما يفعل الأسد بحمار الوحش .
( 2 ) في البيت جناس بين كلمة “ گوش وار “ بمعنى ( مثل الأذن ) “ گوش وار “ بمعنى ( قرط ) .
( 3 ) ان الحروف تمثل أصواتاً مختلفة ولكنها معاً متحدة الغاية ، فهي تشترك معاً في التعبير عن المعاني . . وكذلك البشر مختلفون من بعض الوجوه في طبيعة نفوسهم ، ولكن البشرية تجمع بينهم .
( 4 ) وكما أن بعض الحروف متنافر مع البعض الآخر ، والبعض متوافق مع البعض الآخر ، كذلك البشر .


 
“ 364 “
 
فمن كان ( أسود الوجه ) كالهندي لسوء كسبه ، فإن يوم العرض هو أوان افتضاحه .
فما دام لا يملك وجهاً ( مشرقاً ) كالشمس ، فإنه لا يبتغي سوى ليل يكون له كالنقاب .
 
   2920 - وما دامت أشواكه لا تملك ورقة واحدة من الورد ، فقد صار الربيع عدوّاً لأسراره .
فأما من كان - مَنْ رأسه إلى قدميه - ورداً وسوسن ، فالربيع ( حبيب إليه ) كعينين مبصرتين ! 
إن الشوك الخاوي من المعنى يريد الخريف ويطلبه ، حتى يطاول بكتفيه بستان الورد !
 فإن الخريف يحجب حسن هذا ( الورد ) ، وعار ذلك ( الشوك ) ، فلا ترى لون هذا ولا لون ذاك .
فالخريف للشوك ربيع وحياة ! إنه يظهر الحصى والياقوت النقيّ بصورة واحدة .
 
   2925 - والبستاني ( وحدة ) يدرك ذلك حتى في الخريف . لكن إبصار الواحد خير من إبصار الدنيا ! 
ولو كان العالم هو ذلك الشخص وحده لكان عالماً أبله ! إن كل نجم من النجوم جزء من القمر ! 
ولهذا فإن كلّ نقش وكل صورة ( بديعة ) تهتف : “ بشرانا ، بشرانا ! إن الربيع قادم !
 “ وطالما بقيت البراعم ملتمعة ( كحلقات ) الدرع ، فكيف تظهر الثمار عقودها ؟
إن الثمار تبرز عندما تسقط البراعم . وكذلك ترفع الروح رأسها عندما يتحطم الجسد .


 
“ 365 “
 


  2930 إن الثمار هي المعنى ، والبراعم هي الصورة ! البراعم هي البشرى والثمار هي النعمة .
فحينما سقطت البراعم ظهرت الثمار . وجاءت زيادةُ هذه الثمار نتيجة لنقصان تلك البراعم .
وكيف يمنحُ القوة خبز لم يكسر ؟ أم كيف تعطي النبيذ عناقيد كرم لم تُعتصر .
وكيف يصبح الدواء مقوياً للصحة ، ما لم تُسحق معه الهليلة ؟
 
في صفة الشيخ المرشد ووجوب طاعته
 
يا ضياء الحق ، يا حسام الدين ! خذ ورقة أو ورقتين وزدهما على وصف الشيخ ( المرشد ) .
 
  2935فمع أن جسمك الرقيق ليس بذي قوة ، فإننا لا نور لنا بدون شمس ( روحك ) ! ومع أنك قد أصبحت المصباح والزجاجة ، فإنك أنت قائد القلب ، وأنت طرف الخيط ! فما دام طرف الخيط في كفك ، وعلى هواك ، فإن حبات عقد القلب من إنعامك .
فاكتب أحوال الشيخ العارف بالطريق ! واختر الشيخ ، واعلم أنه عين الطريق .
إن الشيخ مثل الصيف ، والناس مثل الخريف ! الشيخ مثل القمر والناس مثل الليل !
 
2940  لقد سميت بختي الشاب “ 1 “ شيخاً . وإنه لشيخ ( بمعرفة ) الحق لا بمر الزمان .
...............................................................
( 1 ) البحث الشاب هو الخط السعيد . وقد كنى بهذه العبارة عن تلميذه حسام الدين .
 
“ 366 “
 
إنه شيخ إلى حد أنه لا ابتداء له . وهل هناك قرين للدر اليتيم ؟
والخمر المعتقة تكون أقوى أثراً ، كما أن الذهب القديم يكون أثمن قدراً .
فاختر لك شيخاً مرشداً ، فإن السفر بدون المرشد ، كثيراً ما يكون مليئاً بالآفات والخارف والأخطار .
وبدون الدليل ، تكون حائراً ( حتى ) في الطريق التي طرقتها مراراً .
 
  2945 - فحاذر ، ولا تمش وحيداً في الطريق التي لم ترها قط ! ولا تحوّل وجهك عن الدليل ! 
فإنك - أيها الأحمق - إن لم تستظل بظلمه ، يجعلك صوت الغول ( جزعاً ) دائر الرأس .
إن الغول يزجّ بك من الطريق إلى الهلاك ! فكثيرون يفوقونك في الدهاء كانوا من قبل بهذا الطريق “ 1 “ .
فاستمع إلى ما جاء في القرآن عن ضلال السالكين ، وماذا فعل بهم إبليس الخبيث الروح .
لقد دفعهم في طريق بعيدة عن الجادة ، مداها آلاف السنين ، وجعلهم عوراً مدبرين .
 
  2950 - فانظر إلى عظامهم وشعرهم . والشمس العبرة ، ولا تسق حمارك نحوهم .
بل أمسك برقبة حمارك ، واجتذبه نحو الطريق . نحو الأخيار من حُرّاس الطريق والعارفين به .
حذار ! لا تَدَعْ الحمار ، ولا ترفع يديك عنه ، ذلك لأنه يعشق الأرض التي يكثر فيها العشب .
فلو أنك غفلت عنه ، وتركته لحظة واحدة ، فإنه يمشي فراسخ نحو الأعشاب !
...............................................................
( 1 ) كثيرون مروا بهذا الطريق من قبل - بدون دليل - فهلكوا .


 
“ 367 “
 
إن الحمار عدوّ للطريق ، لأنه ثمل بالعلف ! فلكم أورد من راكب موارد التلف !     
 
2955  -  فإذا لم تعرف ، فافعل عكس ما يريده الحمار ، يكن ذلك بحق قصد السبيل ! 
فشاوروهنّ ، ولكن خالفوهنّ “ 1 “ فإن من لم يعصهن مآله إلى التلف .
ولا تكن صديقاً ( لداعي ) الهوى والشهوة ، فإن ذلك يضلّك عن سبيل اللَّه .
وليس كظل الرفاق شيء يغلب هذا الهوى في الدنيا .
 
كيف وصى رسول اللَّه علياً كرم اللَّه وجهه ( قائلا ) :
إن كل إنسان يتقرب إلى الحق بنوع من الطاعات فتقرب أنت إلى الحق بصحبة عاقل يكون عبداً 
من خواص العباد حتى تفوق الجميع
 
قال رسول اللَّه لعليّ : “ يا عليّ ! إنك أسد اللَّه ، وإنك لبطل شجاع !
 
2960 - ولكن لا تجعل كل اعتمادك على الشجاعة . بل التجىء إلى ظل نخيل الأمل .
التجىء إلى ظل ذلك العاقل ، الذي لا تستطيع قوة أن تحوله عن الطريق .
إن ظله على الأرض مثل جبل قاف ، وروحه كالعنقاء المحلقة العالية الطواف .
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى حديث الرسول : “ شاوروهن وخالفوهن “ .


 
“ 368 “
 
فلو أنني حدثتك عن نعته حتى القيامة ، فلا تتوقع لهذا الحديث نهاية ولا غاية .
إنه شمس قد اتخذت مظهر البشر ، فافهم ذلك . واللَّه أعلم بالصواب .
 
2965 -  يا عليّ ! تخير من جملة طاعات الطريق ظل واحد من عباد اللَّه ! 
فكل إنسان قد التجأ إلى إحدى الطاعات ، واتخذ له سبيلًا للنجاة .
فاذهب والتجىء إلى ظل عاقل ، حتى تخلص من ذلك العدو الذي يعاندك في الخفاء .
فهاك طاعة هي خير من جميع الطاعات ، وبها تفوز بالسبق على كل سابق ! 
وحين يقبلك الشيخ المرشد فتنبه ، واستسلم لأمره ، واسلك سلوك موسى وهو رهن حكم الخضر .
 
2970  واصبر - بدون نفاق - على كل ما يعمله الخضر ، حتى لا يأمرك بالذهاب قائلًا :” هذا فراقُ بَيْني وَبَيْنكَ ““ 1 “ .
فلو أنه خرق السفينة فلا تنبس بكلمة . وإذا قتل الطفل فلا تقتلع شعر رأسك .
لقد وصف اللَّه يد ( العبد المخلص ) بأنها مثل يده حين قال :” يَدُ اللَّه فَوْقَ أَيْديهمْ ““ 2 “ .
إنّ يد الحق تميت ( الطفل ) ثم تحييه “ 3 “ . وأي حياة تضفيها عليه ؟ إنها تجعله روحاً خالداً ! 
والقلة النادرة التي عبرت هذا الطريق وحيدة ، أدركت ( الغاية ) بعون قلوب الشيوخ المرشدين .
 
2975   فيد الشيخ ليست بقاصرة عمن غابوا عنه . فما يده إلا يد اللَّه عزّ وجلّ .
...............................................................
( 1 )   ( سورة الكهف ، 18 : 78 ) .
( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون يد اللَّه فوق أيديهم “ . ( سورة الفتح ، 48 : 10 ) .
( 3 ) عاد الشاعر هنا للإشارة إلى قصة الخضر وقتله للطفل ، فقال إن الخضر قتله بيد الحق .


 
“ 369 “
 
فإذا كان ( الشيوخ ) يهبون الغائبين مثل هذه الخلع ، فلا شك أن الحاضرين أحسن حالًا عندهم .
وإذا كانوا يمنحون الغائبين هذا النوال ، فأية نعم يهبونها للحاضرين ؟
وأين من يكون خارج الباب ممن يمثل في خدمتهم .
فإذا اخترت الشيخ فلا تكن واهي القلب ، ولا تكن رخواً كالماء ولا منحلًا كالتراب !
 
2980 - وإذا كانت كل ضربة تملؤك بالحقد ، فكيف تصبح - بدون صقل - مرآة ( لا معة ) ؟
 
كيف ( طلب ) رجل من قزوين ضرب صورة الأسد باللون الأزرق على كتفه ، 
وكيف ندم من جرَّاء وخز الإبرة
 
استمع من صاحب بيان إلى هذا الحكاية ، عن طريقة أهل قزوين وعاداتهم .
إنهم يضربون الوشم الأزرق بالإبرة على البدن واليدين والكتفين ، بدون ( أن يصيبهم ) ضرّ .
وذات مرة ذهب رجل من قزوين إلى أحد الدلاكين ، وقال له :
“ اضرب لي وشماً أزرق ، وأحسْسنْ تصويره “ .
فقال الدلاك : “ أية صورة أضرب أيها البطل ؟ “ فقال الرجل : “ اضرب صورة أسد هصور !
 
 2985  إن طالعي ( برج ) الأسد ، فاضرب صورة الأسد ، وابذل قصارى جهدك ، وضع الكثير من اللون الأزرق ! “ فقال الدلاك : “ وعلى أي موضع أضرب الصورة ؟ “ فقال الرجل :  
“ اضرب هذه الصورة الجميلة على كتفي “ .


 
“ 370 “
 
فلما أخذ الدلاك يغرس الإبرة ، حلّ ألمُ الوخز بكتف الرجل ، فأخذ البطل يئن قائلًا : “ أيها العظيم ! 
لقد قتلتني فأية صورة تضرب ؟ “ فقال الدلاك : “ لقد طلبت مني أسداً “ . فقال الرجل : “ فبأي جزء من جسمه بدأت ؟ “ .
 
2990 -  فأجاب الدلاك : “ لقد بدأت بالذيل “ ، فقال الرجل : “ دعك من الذيل يا حبيبي “ 1 “ ! 
لقد احتبست أنفاسي من ذيل الأسد وعجزه . إن عجزه قد أطبق بإحكام على مجرى أنفاسي ! 
فليكن الأسد بدون ذيل ، يا صانع الأسد ! لقد وهن قلبي من ضربات إبرة الوشم “ .
فأخذ الدلاك يضرب بإبرته جانباً آخر ، بدون مجاملة ولا مواساة ولا رحمة .
فصاح الرجل : “ أيّ عضو من الأسد ذلك ؟ “ ، فأجاب الدلاك : “ إن هذه أُذنه ، أيها الرجل الطيب “ .
 

2995 -  فقال الرجل : “ لا كانت له أُذن أيها الحكيم ! ألا فلتقطع الأذن ولتقصِّر هذا البساط “ “ 2 “ .
فبدأ الدلاك يخزه في جانب آخر ، وبدأ القزويني يصرخ من جديد .
وقال : “ أي عضو ترسمه على هذا الجانب الثالث ؟ “ فقال الدلاك : “ إن هذا بطنه ، أيها العزيز ! “ .
فقال الرجل : “ لا كانت للأسد بطن ! ما ضرورة البطن لصورة متشبّعة باللون ؟ 
“ فذهل الدلاك ، وتولته حيرة عظيمة ، وظل برهة طويلة يعض بنانه .
 
3000 -  ثم ألقى هذا الأستاذ بإبرته على الأرض ، وقال : “ هل جرى هذا الأحد في العالم ؟
...............................................................
( 1 ) حرفياً : يا عيني .
( 2 ) لتختصر هذه الصورة ولا تَبْسُطها .


 
“ 371 “
 
فمن ذا الذي رأى أسداً بدون ذيل ولا رأس ولا بطن ؟ إن اللَّه ذاته لم يخلق أسداً كهذا ! 
“ فيا أخي ! اصبر على وخز الإبرة ، حتى تنجو من وخز نفسك الكافرة .
فإن هذه الجماعة التي تخلصت من وجودها ( الذاتي ) يسجد لها الفلك والشمس والقمر ! 
وكل من ماتت في جسده النفس الكافرة ، تذعن لأمره الشمس والسحاب .
 
3005 - فقلبه إذ تعلم إيقاد الشموع ، لا تبقى للشمس قدرة على إحراقه .
ولقد قال الحق عن الشمس المشرقة إنها كانت” تَزاوَرُ عَنْ كَهْفهمْ ““ 1 “ .
إن الأشواك تصير كلها لطيفة كالورد أمام الجزئي الذي يتجه نحو الكل “ “ 2 “ .
فأي شيء يعنيه تعظيم اللَّه وتمجيده ؟ أن تجعل النفس ذليلة ( رخيصة ) كالتراب .
وما معنى علم توحيد اللَّه ؟ أن تحرق نفسك أمام الواحد !
 
 3010 - فإذا كنت تريد أن تُشرق مثل النهار ، فأحرق كيانك ( المظلم ) كالليل .
واصهر وجودك في وجود راعي الوجود ، كما ينصهر النحاس في الإكسير .
إنك قد أحكمت قبضتك على “ أنا “ و “ نحن “ ، وما كل هذا الخراب إلا من التثنية “ 3 “ .
...............................................................
( 1 ) ( سورة الكهف ، 18 : 17 ) . وفي قصةأهل الكهف أن الشمس إذا طلعت كانت تميل عن كهفهم ، ولا يقع شعاعها عليه ، وبذلك لم يكونوا يتأذون من حرارة الشمس .
( 2 ) أي أن مصاعب الطريق التي يسير فيها السالك نحو خالقه تهون أمام الإخلاص فتصبح الأشواك وكأنها ورود .
( 3 ) التثنية هنا ، تأكيد الوجود الإنساني إلى جانب الوجود الإلهي .
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي    في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي  Emptyالأربعاء أغسطس 19, 2020 6:21 am

شرح في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )    

في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
شرح في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ ،
( 2602 ) يقول الترمذيّ في حديثه عن المريد الواصل : “ فإذا فرح بشيء من الدنيا فإنما يفرح ببرّ اللَّه تعالى له بذلك وتقديره وتدبيره ولطفه . . . فاستعمال جوارحه في ذلك الشيء بمنزلة رجل شرب ترياقاً فامتلأت عروقه منه ، فإن مدّ يده إلى حية أو عقرب لم يضره سمّها ، لأنه لم يجد السمُّ مسلكاً إلى عروقه ، فإذا لم يجد الترياق وجد السمّ مسلكاً إلى العروق ، فجمد الدم الذي في العروق ، من ذلك السمّ فمات “ . ( الرياضة وأدب 

“ 566 “

النفس ، ص 63 ) . 

( 2609 ) المرء يحتاج إلى قوة روحية عظيمة ، ليستطيع الصمود أمام مغريات المادة. وقد رمز الشاعر لمثل هذه القوة الروحية “بهمّة سليمان“. 

( 2619 ) صور الترمذيّ الصراح بين النفس ( التي تمثّل الشهوة والهوى ) والقلب ( الذي يمثل الحكمة والتعقل ) بقوله : “ وإنّ المؤمن قد ابتلي بالنفس وأمانيها ، وأُعطيت ( النفس ) ولاية التكلفّ بالدخول في الصدر . والنفس معدنها في الجوف وموضع القرب ، وهيجانها من الدم وقوة النجاسة ، فيمثلىء الجوف من ظلمة دخانها ، وحرارة نارها . ثم تدخل في الصدر بوسوستها ، وأباطيل أمانيها ابتلاء من اللَّه إياه ، حتى يستعين العبد بصدق افتقاره ودوام تضرعه لمولاه “ . 
(بيان الفرق بين الصدر والقلب ، والفؤاد واللبّ ، ص 40 ، القاهرة 1958 ) . 

( 2624 - 2626 ) الصورة والمعنى يكمل كلّ منهما الآخر . الصورة هي الشكل الظاهريّ ، والمعنى هو المضمون الباطنيّ . وللحقيقة صورة ومعنى ، كل منهما يكمل الآخر . ولو كانت الأهمية للمعنى وحده ، لكان خلق هذا العالم الدنيوي باطلًا ، ولما كانت هناك حاجة للصور المعبّرة عن المحبة والولاء سواء في العلاقة بين الإنسان وربه ، أو بين أفراد الجنس البشريّ . فالصلاة مثلا لها مدلولها الروحيّ ، ولكنها أيضاً تتم بصورة معينة . وعاطفه المحبة بين الناس يمكن التعبير عنها بصورة ماديَّة ، كتبادل الهدايا . 

( 2629 ) يفرق الشاعر هنا بين الصور التي تعبر عن معان حقيقية صادقة ، وبين الصور التي لا معنى لها . فالنوع الأول تعبير عن المحبة والاخلاص ، وأما النوع الثاني فمحض تظاهر ورياء . 

( 2634 ) في البيت إشارة إلى حديث ينسب إلى الرسول أنه قال : “ اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللَّه “ . 

( 2635 ) إذا لم يشهد الإنسان الصور الدالة على المعنى ، فإنه قد يستدلّ على هذا المعنى بأسباب تحققه . فإذا كانت هناك رابطة قربى بين إنسانين ، فهي - في العادة - مدعاة لافتراض المحبة ، وإن لم يتجلّ من المظاهر ما يؤكد ذلك .
  
“ 567 “

( 2636 ) كل هذه المعارف المبنية على المظاهر والأسباب لا تعدو أن تكون افتراضية . ولا سبيل إلى اليقين ، الذي يجعل الإنسان مستغنياً عن الأثر والسبب إلا بالكشف الإلهيّ . 

( 2640 ) من اعتبر الصورة والمعنى شيئاً واحداً كان خاطئاً . فالصورة قريبة من المعنى ، لأنها تعبر عنه ، لكنها بعيدة عن المعنى ، لأن له طبيعة أخرى ، ولأنه هو الجوهر المقصود . فمن اقتصر على صورة الصلاة وجهل معناها كانت صلاته باطلة لا جدوى منها . ومن كان حبه مجرد ابتسام وإظهار للمحبة ، من غير إحساس بها ، فهو من المرائين المخادعين ، وليس من المحبين . 

( 2648 ) ذكر الجرجاني في تعريفاته أنّ هناك أربعة ألواح : لوح القضاء ، ولوح القدر ، ولوح النفس الجزئية السماوية ، ولوح الهيولى . 

( 2650 ) راجع ما سبق أن نقلناه عن ابن العربي من نصوص تتعلق بآدم ، وتبيّن فضله على الملائكة . وقد ذكر جلال الدين في مواضع أخرى من شعره أن الإنسان في صورته الكاملة أعظم من الملائكة . ومن ذلك قوله في ديوان شمس تبريز .خود ز فلك برتريم واز ملك افزونتريم * زين دو چرا نگذريم ، منزل ما كبرياست( إننا أعلى من الفلك ، وأعظم من الملك ! * ولم لا نفوقهها ، ومنزلها الكبرياء ؟ )

( 2657 ) للعرش تفسير صوفي ذكره الجيلي . قال : “ هو المظهر الأعلى ، والمحل الأزهى ، والشامل لجميع أنواع الموجودات . فهو في الوجود المطلق ، كالجسم للوجود الإنسانيّ ، باعتبار أنّ العالم الجسماني شامل العالم الروحاني والخيالي والعقلي إلى غير ذلك . . “ ( الإنسان الكامل ، ج 2 ، ص 4 ) . ولسنا نريد أن نفترض هذا المفهوم في بيت الشاعر . ويمكن أن يفسر - بدون تأويل بعيد - على أساس أن آدم أهمّ مخلوقات اللَّه . فالعرش ذاته لا يبلغ

“ 568 “

مكانة روح آدم ، لأنه - برغم نوره واتساعه - لا يبلغ مبلغ الروح في اتساعها لخالقها . 

( 2659 - 2661 ) يشير الشاعر هنا إلى أن الملائكة تعلقوا بالأرض وأحبوها وأكبروها قبل خلق آدم وأنهم عجبوا لهذا التعلق ، فطبيعتهم السماوية مختلفة عن طبيعة التراب . ولكن السبب في هذا أن اللَّه كان قد أودع في التراب سراً هو آدم ، الذي خُلق من هذا التراب ، فكان أعظم مخلوقات اللَّه . أما التعلق بالأرض فقد يشير إليه ما جاء في القرآن حكاية عنهم حين أخبرهم اللَّه بخلق آدم :” وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ “.  (البقرة ، 2 : 30 ) . 

( 2663 ) تخاطب الملائكة آدم قائلة ، إنها قد تعلقت بالإرض لأن اللَّه كان قد جعل بها سراً عظيماً من أسراره ، ثم ما لبث أن أظهره لها بعد أن خلق من ترابها آدم . 

( 2667 ) صارت أفواهنا مرّة . . . “ معناها أن الملائكة حزنوا وتألوا . 

( 2675 ) أبدع الشاعر في التعبير عن الحلم الإلهي - وهو الرحمة التي يسبغها اللَّه على عباده - بقوله إن مائة أب ومائة أم تولد من هذا الحلم في كل لحظة . 

( 2676 ) وما حلم هؤلاء . . “ الإشارة هنا إلى حلم الآباء والأمهات . 

( 2677 ) إن حلم الإنسان - إذا قيس بحلم اللَّه - ليس إلا رشاشاً واهياً من هذا الفيض الإلهي العظيم .

[ شرح من بيت 2700 إلى 2850 ] 
( 2710 ) شبّه الجسم الإنساني بإبريق ، له خمس أنابيب تصب فيه ، هي الحواس الخمس . ويتضمن البيت دعاء اللَّه أن يطهر الحواس حتى يسلم الجسم من كل نجس .

“ 569 “

( 2726 ) المحو والسكر والانبساط : 
المحو - في تعريف السراج - هو “ ذهاب الشيء إذا لم يبق له أثر ، وإذا بقي له أثر فيكون طمساً . وقال النوري : الخاص والعام في قميص العبودية ، إلا من يكون منهم أرفع ، جذبهم الحق ، ومحاهم عن نفوسهم في حركاتهم ، وأثبتهم عند نفسه . 
قال اللَّه تعالى :” يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ “. 

معنى قوله جذبهم الحق : يعني جمعهم بين يديه ومحاهم عن نفوسهم يعني عن رؤية نفوسهم في حركاتهم ، وأثبتهم عند نفسه ، بنظرهم إلى قيام اللَّه لهم في أفعالهم وحركاتهم “ . ( اللمع ، ص 431 ) . 

وتكلم السرّاج عن السكر فقال إن معناه “ الغيبة “ غير أن السكر أقوى وأتم وأقهر من “ الغيبة “ أما شرحه للغيبة ، فهي أنها “ غيبة القلب عن مشاهدة الخلق بحضوره ، ومشاهدته للحق بلا تغيير ظاهر للعبد “ . ( اللمع ص 416 ) . 

وأما الانبساط فهو الذي يعرف بالبسط . ويُذكر البسط مع القبض . 
يقول عنهما السراج إنهما حالان شريفان لأهل المعرفة . وفسرهما على أن القبض هو أن يقبض اللَّه العارف عن المباحات في أكل وشرب وغير هما ، فلا يبقى له من فضل سوى المعرفة . وأما البسط فهو أن يبسط اللَّه العارف لهذه المتع الحسية ، ولكنه يصونه من الإغراق فيها “ حتى يتأدب الخلق به “ . ويُروى عن الجنيد أنه قال إن القبض والبسط يعنيان الخوف والرجاء . “ فالرجاء يبسط إلى الطاعة ، والخوف يقبض عن المعصية “ . ( اللمع ص 419 ، 420 ).
 
( 2739 ) هذا الرجل الكامل عم كرمه البشرية جمعاء . ولم يكن يفرق بين إنسان وآخر ، فكأنه الشمس أو المطر . بل هو - في تحقق النعيم على يديه - كان كأنه الفردوس . 
وهناك رواية أخرى تجعل “ ني “ بدلًا من “ بل “ في عبارة الشاعر
 
“ 570 “

“ بل چون بهشت “ . 
وشبيه بهذا ما قاله شوقي في العصر الحديث :ألم تر أن نور الشمس يغشى * حمى كسرى كما يغشى اليبابا 
وأن الماء تروى الأسد منه * ويشفي من تلعلعها الكلابا

 ( 2750 )الذين يسألون الحق هم الذين يظهرون للناس جوده . أما الذين خلصوا من وجودهم الذاتي ، فلم يستشعروا لذواتهم وجودا أمام الحق ، فهؤلاء هم الجود المطلق . 

( 2751 ) من لم يكن ممن يسألون اللَّه ، ويشعرون بالحاجة إليه ، فهو ميت ، لأنه فاقد للروح عديم الإحساس . وكذلك من لا يكون مع الحقّ ، بل يؤكد وجوده الذاتي ويبلغ به حبه للمادة وتعلقه بهذا العالم الماديّ أن يتوهم لنفسه وجوداً منفصلًا عن الخالق . فمثل هذا أيضاً يكون ميتاً لأنه تعلق بما يفنى ، وأعرض عن الحي ، الواهب للحياة . 
وأما قول الشاعر : “ إنه ليس من أهل هذا الباب “ ، فمعناه أن مثل هذا الشخص لا صلة له بعالم الروح : “ وما هو إلا صورة فوق ستار “ أي أنه لا يعدو أن يكون صورة لا حياة فيها . 

( 2757 ) ليس حب الذات الإلهية وهما ، وخيالا عن الأسماء والصفات ، بل إحساس جارف يتملك الروح ، ويسيطر عليها ، ويجعل صاحبه عاشقا للذات ، لا أسير وهم وخيال . 

( 2760 ) لو كان عاشق الأوهام ( الذي ينبثق علمه من أوهامه ، فيتعلق بهذا العلم ، ويحسبه من اليقين ) ، لو كان مثل هذا صادق النية في بحثه عن الحقيقة ، لهذه صدق نيته إلى الحقيقة . 

( 2762 ) لا يليق عرض الفكر الصوفي على من لا يكون أهلًا له ، لأن هذا يفهمه على غير وجهه ، ويخرج منه بمائة خيال باطل . 

( 2765 ) ليس الإنسان مجرد صورة . ولا شأن له بأسرار العرفان الروحي ، لو لم يكن قويّ الروح ، فصورة السمكة لا شأن لها بالبحر

“ 571 “

أو اليابسة . ولون الهندي ليس من فعل الأصباغ ، ولا هو مما يزال بالغسل . فطبيعته راسخة ، لا سبيل إلى تغييرها . وهكذا من رسخ في قلوبهم التلعق بالمادة ، وإغفال الروح ، ولا سبيل إلى تغييرهم . 

( 2770 ) كلمة “ نقشها “ ( النقوش ) في هذا البيت قد أو همت الشراح أن المقصود هنا تلك النقوش التي كانت تصوّر على جدران الحمامات . 
والظاهر أن هذه النقوش كانت شائعة ، وقد عدّها الغزالي من المنكرات وأوصى بإزالتها أو تشويه وجهها لإبطالها إن كانت لبشر . كما أنه نهى عن تصوير الحيوان وأجاز صور الأشجار وسائر النقوش . ( الإحياء ، ج 2 ، ص 339 ) . 
وقد زاد الأمر تأكيداً للشراح أن الشاعر في الأبيات السابقة على هذا البيت كان يتحدث عن التصوير والصور . ولكن فهم النقوش هنا على معناها التصويري ، يؤدي إلى استحالة فهم البيت ، وربطه بما يليه . 
والظاهر أن الشاعر انتقل هنا على عادته من الصور ، إلى الحديث عن الأجساد ، وهي لا تعدو - عند الصوفية - أن تكون شبيهة بالصور . 

وقد استعمل الشاعر كلمة “ نقش “ في مواضع عديدة بمعنى الجسم . يقول :گاه نقش خويش ويران ميكنند * از پي تنزيه جانان ميكند( المثنوي ، 2 / 60 ) . 
فالأجسام خارج غرفة خلع الثياب تتخذ صور الثياب ، لكنها في الداخل ، أي حين تتعرى تظهر على حقيقتها . وكما أن الثياب تخفي حقيقة الأجساد ، كذلك الأجساد تخفي حقيقة الروح ، فلكي يعرف الإنسان حقيقة الجسد ، عليه أن يخلع الثياب ، ولكي يعرف حقيقة الروح ، عليه أن يتخلص من الجسد . 

( 2771 - 2772 ) لا سبيل إلى إدراك حقيقة الروح ما دامت متلبسة بالجسم . فإذا ما انطلقت من الجسم ، ودخلت عالمها الروحي ، تجلت حقيقتها . فالجام هنا رمز للعالم الروحي ، والثياب رمز للجسم الذي

“ 572 “

يحجب الروح . ذلك لأن الثياب تخفي حقيقة الجسم ، وكذلك الجسم يخفي حقيقة الروح . فلا سبيل لإدراك حقيقة الجسم ما دام المرء خارج الحمام . وكل ما يرى حينذاك هو مظهر الثياب ، ولا صلة لهذه بحقيقة الجسم الذي تغطيه وكذلك الجسم في هذه الدنيا ، يحجب الروح ، فلا يمكن إدراك حقيقتها ما دامت منطوية فيه . 

( 2787 ) هذا الأعرابي سحب الماء من البرء وذهب به إلى الخليفة - وهو هنا رمز للإنسان الكامل - فكان جزاؤه أن لقي هذا الخليفة ، وسعد بلقائه . 
فهو كأفراد القافلة التي كانت منطلقة في الصحراء ، فأرسوا واردهم فأدلى دلوه ، فكان نصيبه أن شهد طلعة يوسف . 

( 2795 ) قد يثير هذا البيت مشكلة تاريخية لو فُهم على معناه الحرفي . 
فالمثنوي قد بدأ نظمه بعد وفاة المستعصم باللَّه آخر الخلفاء العباسيين . فقد ذكر الشاعر في مقدمة الجزء الثاني أنه تأخر في النظم بعض الوقت ، وذكر تاريخ شروعه في نظم هذا الجزء وهو عام 662 هـ . أما الجزء الأول فقد نظم قبل الثاني بعامين أي في عالم 660 هـ . وكان قتل المستعصم على يد المغول عام 656 هـ.

لكن الخلافة العباسية استمرت بصفة اسمية في القاهرة ، حيث وليها عم المستعصم الذي اتخذ لقب المستنصر بعد سقوط بغداد بثلاثة أعوام . فهل معنى ذلك أن الشاعر بدأ نظم المثنوي بعد قيام الخلافة العباسية من جديد بهذه الصورة الإسمية ، وانتهى من نظم الجزء الأول في عام واحد أي في عام 660 هـ ؟ 
ومن الممكن أن الشاعر لم يرد هنا أن يروي وقائع التاريخ ، وإنما روى حديث الأعرابي الذي قصد الخليفة . والمعروف أن الخليفة الذي تدور حوله القصة هو المأمون ، وكان عصر ازدهار ، يكاد يوحي لمن شهده أن دولة بني العباس باقية إلى آخر الدهر . وكان العباسيون أنفسهم يشيعون هذا عن دولتهم . 

ويروى عن داود بن علي - عم السفاح والمنصور - أنه ذكر في خطبته التي ألقاها يوم بيعة السفاح أن هذا الأمر باق في بني العباس حتى يسلموه إلى المسيح

“ 573 “

عيسى بن مريم عندما يعود قبيل قيام الساعة . ( ابن الأثير ، ج 4 ، ص 326 ) . 
ومن المستبعد بأن يؤمن جلال الدين - يو هو المدرك لأحوال الدنيا ، المؤمن بهوانها ، والمستخف بسلطانها ، بأن ملك الدنيا باق على الدوام في قبضة إحدى الأسر ، مهما كانت مكانة هذه الأسرة . 

( 2797 ) “ وقد قمت بقدر من صالح الأعمال ، راجياً من وراء ذلك حسن الجزاء ، فإذا بي أظفر - لقاء ذلك - بأرفع درجات المثوبة والقرب من اللَّه “ . 

( 2801 ) الخالق هو الكل . وهو غير قابل للتجرئة . أما المخلوقات التي توصف بالأجزاء فهي ظواهر فاضت منه ، ومآلها أن تعود إليه . 
ومن تعلق بمثل هذه الأشياء الزائلة ، فقد تعلق بفان لا سبيل له إلى الاحتفاظ به.
 
( 2802 - 2804 ) كان مخلوقات هذا الكون ترجع إلى خالقها ، فمن تعلق بأي منها فقد تعلق بما لا سبيل إلى استبقائه . فالمخلوق ضعيف . 
وهو يندفع عائداً إلى أصله بدون اعتبار لمن يتعلق به من المخلوقات . وكل مخلوق تعلقت روحه بمخلوق مثله شبيه بغريق تشبثت كفّارة بضعيف . 

( 2805 ) لا تتلعق إلا بمن كان مالكاً لأمره . أما المخلوقات الضعيفة فلا جدوى من التعلق بها . 

( 2806 ) خير ما في الخلوقات وهي الأرواح تعود إلى خالقها ، وتترك وراءها الأجسام الفانية ، وهذه كالأشواك التي لا جدوى منها . 

( 2809 - 2810 ) الصياد الذي يتصيد الظل رمز لمن يجري وراء الأوهام . وكذلك الرجل الذي أطبق كفه على ظلّ طائر ، فهو إنسان قد تعلق بخيال باطل . 

( 2811 ) إن قلتَ إن الخلوق مظهر من مظاهر الخالق ، فمحبته محبة للخالق ، كنت كمن يقول إن الشوك من الورد . فهل ترضى بأكل
 

“ 574 “

الشوك ؟ “ 
( 2821 ) إن المرشد الكامل كحوض مليء بالماء النقي . أما المريدن فهم كالأنابيب التي الماء من هذا الحوض إلى حفر السقاية . ويمكن أن تكون هذه رمزاً لماصدر المعرفة التي ينهل منها عامة الناس . فالماء النقي ، هو العرفان الصادق ، الذي يفيض من المرشد الكامل ، وينتقل إلى الناس عن طريق مريديه . 

( 2823 ) المعلم الذي يكون خبيث النفس ، لا يؤثر عنه إلا كل ما هو خبيث . 

( 2834 ) من الأحاديث التي ذكرها الغزالي في باب العلم أن الرسول قال : “ العلم علمان ، علم على اللسان فذلك حجة اللَّه تعالى على خلقه ، وعلم في القلب ، فذلك العلم النافع “ . ( إحياء علوم الدين ، ج 1 ، ص 59 ) . 

( 2835 - 2852 ) يتناول الشاعر في هذه الأبيات من أسماهم الغزالي “ علماء الآخرة وعلماء السوء “ ، ويوازن بين علوم الدنيا وعلوم الآخرة . 
يقول الغزالي : “ فمن المهمات العظيمة معرفة العلامات الفارقة بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة . ونعني بعلماء الدنيا علماء السوء الذين قصدهم من العلم التنعّم بالدنيا ، والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها . قال صلى اللَّه عليه وسلم : 
“ إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه اللَّه بعلمه “ . ( إحياء علوم الدين ، ج 1 ، ص 58 ، 59 ) . 

( 2835 - 2836 )  يشير الشاعر هنا إلى نوع من العلماء ، يعتريهم الغرور بما حصّلوه من العلم . أما علم النحو هنا فرمز لأوضح أنواع العلم الظاهري ، فهو علم يهتم بالصورة واللفظ أكثر من اهتمامه بالمعاني والمفهومات . 

( 2839 ) السباحة هنا رمز للسلوك الروحي الذي ينقذ من أخطار العالم

“ 575 “

الدنيوي ومهالكه . 
( 2841 ) اعلم أن المعرفة الروحية هي المنقذ للإنسان ، وليس العلم الدنيوي . فمن استطاع أن يتخلص من غروره النفسي ، عبر الحياة بدون تعرض لأخطارها ، التي تتمثل في مغرياتها ، وما تؤدي إليه من انحرافات “ . 

( 2842 ) إن الحياة خضمّ لجب ، لا يستطيع أن ينجو فيه إلا من تغلبّ على رغباته الحسية ، وقتل غروره النفسي . 

( 2843 ) فإن تحقق له الفناء عن صفات البشر ، وما يسودها من جهل وغرور ، دخل بحر الأسرار ، وسبح فوق قمة أمواجه . 

( 2845 ) مهما عظمت علوم هذه الدنيا فهي فانية ، لأنها تتعلق بما هو فان وتدور حوله ، لهذا يجب ألا يصاب الإنسان بالغرور ، إذا بلغ درجة عالية في هذه العلوم . 

( 2848 ) إبريق الماء الذي حمله الأعرابي رمز لعلوم الدنيا ذات الطابع المحدود ، أما المعرفة الروحية التي تتاح للرجل الكامل ، فلا حدود لها .

[ شرح من بيت 2850 إلى 3000 ] 
( 2864 ) لو أن هذا الأعرابي أدرك طرفاً من علم اللَّه ، لهان أمامه ما يعرف ، ولعدّه من الوهم الذي يجب القضاء عليه . 

( 2866 ) لو أن كيان الإنسان المادي ( الجسم ) تحطم ، ما أصاب حقيقته وجوهره ضرّ من جراء ذلك . بل ربما ازدادت روحه كمالًا لخلاصها من الجسد . 

( 2867 ) إذا تحطم الجسم بقيت الروح سالمة وألم تخسر شيئاً من جوهرها ، فهي ليست كالماء الذي يراق إذا انكسر وعاؤه ، بل إن جوهرها يزداد نقاء بخلاصها من الجسد . 

( 2871 ) لقد أصبحتَ غير قادر على التحليق في أجواء الروح ، لأنك أغرقت نفسك في لذّات الحس ، فأصبح جناح فكرك مثقلًا بالمادة ، غير قادر على حملك إلى تلك الأجواء الروحية العليا .

“ 576 “

( 2873 ) من عود نفسه على الإسراف في الطعام والشراب ، أصبح نهما ، ونمت فيه غرائز الحيوانية ، فلا يكاد يطيق الجوع ، وحين يشعر به ، يصير مثل الكلب الضاري . 

( 2874 ) الصورة المقابلة للجائع النهم ، هي صورة ذلك الآكل النهم . 
الذي يسرف في تناول الطعام ، فيصل به الإسراف إلى مدى يجعله كالميت ، لا قدرة له على الحراك . 

( 2875 ) كيف ينفسح مجال التأمل الروحي أمام إنسان يقضي وقته بين التلهف على الطعام وبين معاناة التخمة ؟ 

( 2876 ) من المعروف أن كلب الصيد - إذا شبع - لا ينطلق وراء الفريسة ، ويصبح كسولا متراخيا . والجسد - بالنسبة للروح - بمنزلة الكلب للصائد ، فالروح تسعى للسيطرة على الجسد ، وتدفعه للسير في دربها . ولو أن الجسد اندفع في طريق الشهوات ، لا ستسلم للذات الحس ، ولم يعد للروح سلطان عليه . 
وقد شبّه الشاعر للجسم بالكلب في موضع مقبل من المثنوي . 
قال في البيت رقم 3021 : 
“ والروح قد صارت الآن رفيقة للجسم ، ( وبذلك ) صار الكلب حارساً للباب برهة من الزمان “ . 

( 2882 ) يشير الشاعر بهذا إلى شطحات الصوفية . وهذه الشطحات يعدها أعداء الصوفية كفراً . أما الصوفية أنفسهم فيقولون إنها تدل على عمق الإيمان ، ويؤوّلونها بصرفها عن معانيها المباشرة إلى معان أخرى . 
وقد نسب إلى مشاهير الصوفية - وبخاصة من يُعرفون منهم بأهل السكر - كثير من هذه الشطحات . وفي كتاب اللمع للسراج باب كامل عن هذا الموضوع ، تناول فيه “ تفسير الشطحيات والكلمات التي ظاهرها مستشنع وباطنها صحيح مستقيم “ ( ص 453 ) . وقد تناول الغزالي موضوع الشطح في كتاباته وحمل عليه في الإحياء ( ج 1 ، ص 36 - 38 ) . ولكنه عاد فأبدى

“ 577 “

شيئاً من تقبله على سبيل التأويل ، وبخاصة ما نُسب منه إلى بعض مشهوري الصوفية الذين لا يشك في صدق إيمانهم . 
وقد عرف السرّاج الشطح بقوله : “ معناه عبارة مستغربة في وصف وجد فاض بقوته ، وهاج بشدة غليانه وغلبته “ . ( اللمع ، ص 453 ) . 

أما الغزالي - وهو من منكريه - فيصنفه إلى نوعين : “ أحدهما الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع اللَّه ، والوصال المعني عن الأعمال الظاهرة ، حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد ، وارتفاع الحجاب ، والمشاهدة بالرؤية ، والمشافهة بالخطاب . . . 
والصنف الثاني من الشطح كلمات غير مفهومة ، لها ظواهر رائفة ، وفيها عبارات هائلة ، وليس وراءها طائل ، إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها ، بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله ، وإما أن تكون مفهومة له ، ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة على ضميره ، لقلة ممارسته للعلم ، وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني . . . “ ( إحياء علوم الدين ج 1 ، ص 36 ) . 

لكن الغزالي عاد فغير موقفه بعض الشيء إزاء بعض هؤلاء الصوفية الذين نسبت إليهم الشطحات ، وعُدّت من الفكر . وقد سبق أن نقلنا نصاً يبين ذلك قال فيه : “ العارفون - بعد العروج إلى سماء الحقيقة - اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق . لكن منهم من كان له هذه الحال عرفاناً علمياً ، ومنهم من صار له ذلك حالًا ذوقياً . وانتفت عنهم الكثيرة بالكلية ، واستغرقوا بالفرد انية المحضة . . . ولم يبق فيهم متسع ، لا لذكر غير اللَّه ولا لذكر أنفسهم أيضاً ، فلم يكن عندهم إلا اللَّه ، فكسروا سكراً دفع دونه سلطان عقولهم ، فقال أحدهم : 
“ أنا الحق “ ، وقال الآخر : “ سبحاني ، ما أعظم شاني “ ! ( مشكاة الأنوار ص 57 ) . 

( 2887 ) الشطح الذي ينطق به الصوفي المؤمن ، قد يبدو خروجاً على الدين لمن لا يفهم مغزاها . لكنه - وقد صدر عن قلب مؤمن ، لا يمكن إلا أن يكون إيماناً . فالسكر لو جُعل على صورة الخبز لا يغير ذلك من مذاقه . 
وكذلك أقوال هؤلاء ، لو فُهمت على خلاف ما يُتوقع من الصالحين ، فما هذا
 
“ 578 “

إلا لخطأ في فهم مغزاها “ . 

( 2888 - 2890 ) يهاجم الشاعر بهذه الأبيات الشكل الظاهري الذي يستعبد أصحابه ، ويصرفهم عن الجوهر . فهؤلاء الصوفية الزهاد رُموا بالكفر ولم يُنظر في ذلك إلى حقيقة حالهم ، بل حُكم عليهم بناء على عبارات تفوهوا بها . فهذا الخضوع للشكل دون الجوهر عبادة للصورة . وينبغي على المرشد أن يخلص الناس من ذلك . فالأولى أن تحطم الصورة ، حتى لا تحجب الجوهر ، وتخفي حقيقته عن الناس . 

( 2892 ) أعتقد أن الشاعر لا يزال هنا يدافع عن الصوفية الذين رُموا بالكفر لعبارة تفوهوا بها . فقد نُسيت حقيقتهم وأُدينوا بكلمات . وشبيه بذلك إحراق بساط لأن برغوثاً علق به ، أو إضاعة يوم في مطاردة بعوضة ، ونراه في الأبيات التالية ينتقد أسارى الشكليات الذين يحكمون بظاهر الحال ، لا بحقيقته . 

( 2894 - 2896 ) هذه الأبيات يمكن أن تُمثل دعوة حارة لنبذ العنصرية التي تفرق بين الناس على أساس اللون . فاللون ليس سوى مظهر شكلي لا قيمة له ، ويجب أن يكون الاعتبار في الحكم على الأفراد لحقيقتهم وجوهرهم . 

( 2897 ) يقصد بالحكاية هنا حكاية الأعرابي وامرأته . 

( 2898 ) المعاني التي ترمز لها القصة قديمة قدم الأزل ، باقية بقاء الأبد . 
وهذه المعاني هي الصراع بين العقل والنفس ، وحنين الأرواح إلى خالقها . 
وقد ذكر الشاعر صراحة في البيت 2903 أن الزوج في القصة رمز للعقل وأما المرأة فرمز للحرص والطمع . 

( 2899 ) إنها كقطرة الماء ، لا تعرف لها بداية أو نهاية . أو كالدائرة ، لا يعرف من أين تبدأ أو أين تنتهي . 

( 2901 ) هذا البيت قريب المعنى من قول الشاعر في بيت سابق ( رقم 133 ) : 
“ الصوفي ابن الوقت أيها الرفيق “ . انظر التعليق على هذا البيت . 

( 2904 - 2906 ) لما كان الانسان قد صدر عن اللَّه ، واللَّه قد خلقه علم

“ 579 “

صورته ، فلماذا هذا التضاد في ذات الفرد الواحد ، ذلك التضاد الذي يتمثل في صراع النفس والعقل ، أو الجسم والروح ؟ ولماذا هذا التضاد بين أفراد النوع البشري ؟ 
إن الشاعر يجيب عن ذلك بقوله إن هذا التضاد نشأ لأن للكل أجزاء متنوعة . وليس قوله “ إن للكل أجزاء متنوعة “ يعني أن الخالق يقبل التجزئة وإنما الأجزاء هنا تعبير عن الصفات المختلفة ، والتجليات المتنوعة . فهذه التجليات المتنوعة ليست متصلة به اتصال الجزء بالكل . فهي ليست مثل عبير الوردة الذي هو جزء من الوردة ، ولا مثل شد والقمري الذي هو جزء من القمري . إن صفات الخالق قد يضاد بعضها بعضاً ، كالرحمة والرضى ، والسخط والغضب . 
فصفات اللَّه وأسماؤه يختلف بعضها عن البعض الآخر . وهكذا مظاهر تجلياته . 
ومع أن كل شيء قد صدر عنه ومآله في النهاية إليه ، إلا أن هذا لا ينفي أن يقع التنوع بين الأشياء ، المؤدي إلى تضادها . 
ومما يساعد على هذا الفهم نظرية ابن العربي في صفات اللَّه وأسمائه ، ويرى أن كل اسم من الأسماء ، وكل صفة من الصفات له مدلوله الخاص القائم بذاته . يقول : 
“ فهذه مفاضلة في الصفات الإلهية ، وكمال تعلق الإرادة وفضلها وزيادتها على تعلق القدرة . وكذلك السمع والبصر الإلهي . وجميع الأسماء الإلهية على درجات في تفاضل بعضها على بعض “ . ( فصوص الحكم ، ج 1 ، ص 153 ) . 

( 2908 ) فإن غمضت عليك الحقيقة ، وأحسست بالحرج ، فاصبر فلعل اللَّه يكشف لك السر الذي غمض عليك . 

( 2909 ) إن الأفكار تصطرع في القلوب ، ويفترس بعضها بعضا ، فهي تلعب دور الأسد وحمار الوحش . وأما القلوب فهي شبيهة بالآجام . 

( 2911 ) وما دامت هذه الأفكار والوساوس مصدر قلق لك ، فأقلع عنها واصرفها من قلبك . وليكن لك احتماء منها كاحتماء المريض من الطعام . 

( 2912 ) فليكن قلبك مستعماً إليَّ كأنه أذن ، حتى أُلقي إليك بحكمة روحية غالية كريمة الجوهر “ .

“ 580 “

( 2913 ) قول الشاعر : “ تصبح قرطاً في أُذن القمر الصائغ “ معناه “ تصبح رفيع المكانة عند العارف المستنير “ . 

( 2919 - 2920 ) من ساءت فعاله في الدنيا ، لا يريد يوماً تُكشف فيه السرائر ، بل يتمنى لو خلد في هذه الدنيا . فهو كالأسود القبيح الوجه ، الذي لا يطيق النهار لأنه يكشف قبحه ، أو كالشوك الذي يبقى مزدهراً وحده في الخريف ، فيتمنى لو دام الخريف ، لأن الربيع - الذي يحفل بالأزهار والورود - يظهر ما كان خافياً من قبحه إبان الخريف . 

( 2921 ) أما الورود والأزهار فالربيع حبيب إليها لأنه يحييها ، ويبرز جمالها . وكذلك العالم الآخر حبيب إلى الأرواح الطاهرة التي تجملت بحسن الفعال ، وأشرقت بالحبة والصفاء . 

( 2922 ) أبناء الدنيا المنعمون فيها ، المغرورون بها ، يودون البقاء في هذه الدنيا ، وهم فيها يتيهون على من زهدوا في متعها وانصرفوا عنها . 

( 2923 ) ومثل الحياة الدنيا كمثل الخريف ، يزدهر فيه الشوك ويحتجب الورد . فيظهر الشوك وكأنه الخضرة الوحيدة التي تزين الأرض ويكون غياب الورد سببا في خفاء قبح الشوك على من كان غير خبير بالورد والأشواك . 

( 2925 ) وليس ينفع الشوك أنه يخدع كثرة الناس في الخريف ، بازدهاره وحده ، فهناك شخص واحد يدرك قبحه حتى في الخريف ، لأنه يعرف جمال الورود ، ولو كانت مختفية عن الأبصار . ذلك هو الإنسان الذي بلغ درجة عالية من العرفان الروحي . 

وإدراك هذا الواحد خير من إدراك الدنيا كلها ، وتمييزه أهم من تمييز كافة أبنائها . والذين تعلقوا بالدنيا ، وتاهوا بأبهتها ورونقها ، يمكنهم أن يخدعوا آلاف الناس بهذا الرونق ، ويستولوا على إعجابهم ، ولكنهم لا يستطيعون خداع خبير برونق هذه الدنيا ، يدرك حقيقته ، ويعرف

“ 581 “

قميته ، لو قيس بما للعالم الروحي من رونق وبهاء . 

( 2926 ) هذا البيت غامض المعنى . ويمكن أن يخضع لتأويلات متعددة . وأعتقد أن أقرب تفسير له هو أن الشاعر يستدرك على ما قاله في البيت السابق : “ إن البستانيّ وحده هو القادر على إدراك القيمة الحقيقة للشوك حتى في الخريف “ ، فيقول في هذا البيت : “ ولو أن العالم اقتصر الإدراك السليم فيه على شخص واحد لكان عالما أبله “ . فالعارف يتلاقى مع أمثاله من العارفين ، وهؤلاء معا يتعاونون في كشف الحقائق ، وكلهم يستمدون نور العرفان من الحقيقة العليا . إنهم كالنجوم ، يُلقي كل منها بضوئه مع وجود القمر المنر الذي يكشف الظلمات . ولعلّ في هذا البيت استيحاء للحديث الذي يروي عن الرسول قوله : “ أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم “ . فالرسول - في هدايته - كالقمر . والعارفون من أصحابه كالنجوم ، يحمل كل منهم قبسا من نوره . أما المشكلة الفكلية التي يثيرها قوله : “ إن كل نجم من النجوم جزء من القمر “ ، فهي مما لا يحاسب عليه الشاعر وفقا لمعارفنا الحديثة . 

( 2927 - 2933 ) يتحدث الشاعر في هذه الأبيات - بصورة رمزية - عن عالم الروح ، وما ينتظر الإنسان فيه بعد الموت . 

( 2927 ) كلّ روح طاهرة نقية تستبشر بالانتقال إلى عالمها ، وترى أن حياتها هناك شبيهة بحياة الورود في ظل الربيع . 

( 2928 ) طالما بقيت البراعم مزدهرة فلا ثمار . وطالما بقيت الأجساد مزدهرة منطوية على الأرواح فهناك جمود لهذه الأرواح ، يمنعها من بلوغ غاية نضجها ، وهو ما يتحقق لها حين تنطلق من الجسم إلى عالم الروح . 

( 2929 ) في هذا البيت توضيح للرمز في البيت السابق . فالبراعم رمز للأجساد . والثمار رمز للأرواح . والأرواح تنطلق من الأجساد كما تنبثق الثمار من البراعم . فلا انبثاق للثمار ما لم تسقط البراعم . . . ولا انطلاق للأرواح ما لم تفن الأجساد .

“ 582 “

( 2930 ) البراعم هي الصورة ومعناها الحقيقي هو الإثمار . فهي - في ذاتها - لا قيمة لها ، ولكن قيمتها بمعناها . وحياة الجسد في هذه الدنيا ليست إلا بشرى بما يعقبها من نعمة كبرى هي حياة الروح في عالمها ، بعد انقصالها عن الجسد . 

( 2932 ) الخبز الذي لم يكسر “ رمز للجسد الذي بقي متماسكاً ( على افتراض إمكان ذلك لمن يحرصون عليه ) . فالخبز الذي يُكسر ، يؤكل ويتحول في جسم الكائن الحيّ إلى طاقة تهبه القوة . والجسم الذي يتحطم يجعل الإنسان روحاً قوياً منطلقاً . والعنب في عناقيده ، لا يصير نبيذاً ، ولكنه يصبح كذلك حين تعصر هذه العناقيد ، وهكذا الروح لا تتحق لها نشوتها إلا بعد خلاصها من الجسم . 

( 2935 ) رقة الجسم لا تقف حائلًا دون قوة الروح . 

( 2940 ) إنه شيخ بما حققه من عرفان لا بما مرّ عليه من سنين “ . 
فهو قد حصل من الحكمة والعرفان ما لا يتحقق إلا للشيوخ الحكماء . 

( 2941 ) “ لقد بلغ درجة من العرفان ألهمه اللَّه ، إيّاها ، فتحققت له هذه المكانة الروحية من غير أن يضيع السنين في تحصليها . وقد أفاض اللَّه عليه من فيض علمه ما لا أوّل له ولا آخر “ . 

( 2946 ) الغول من الكائنات الخرافية ، التي تذكر الأساطير العربية أنها كانت تعترض سبيل المسافرين في البيداء ، وتضلّهم عن الطريق . 
يقول المسعودي : “ ويزعمون أن رجليها رجلا عنز ، وكانوا إذا اعترضتهم الغول في الفيافي يرتجزون ويقولون :
يا رجل عنز انهقي نهيقا * لن نترك السبسب والطريقا 
وذلك أنها كانت تتراءى لهم في الليالي وأوقات الخلوات ، فيتوهمون أنها إنسان فيتبعونها ، فتزيلهم عن الطريق التي هم عليها ، وتتيههم . 
وكان ذلك قد اشتهر عندهم وعرفوه ، فلم يكونوا يزولون عما كانوا عليه من القصد . وكانت العرب قبل الإسلام تزعم أن الغيلان توقد

“ 583 “

بالليل النيران للعبث والتحبّل ، واختلال السابلة . . “ ( مروج الذهب ، ج 2 ، ص 155 ، 157 ) . 
والغول في هذا البيت ، والبيت الذي يليه رمز لشهوات الحسّ التي تضلّ الروح ، وتنحرف بها عن قصد السبيل . 

( 2950 ) اعتبر بمن اتبعوا شهوات الحس فهلكوا ، ولا تسلم نفسك لشهواتك ورغابك الحسيّة ، حتى لا تقودك إلى ذات السبيل التي سلكها هؤلاء الهالكون “ . 

( 2951 ) قوله : “ بل أمسك برقبة حمارك “ ، معناه “ سيطر على جسدك ، ولا تسلم قيادك لشهواتك الحسيّة “ . 

( 2954 ) يستخدم الحمار هنا رمزاً للنفس الحسيّة ، التي تعشق اللذات ، وتندفع وراء الشهوات . 

( 2955 ) إذا لم تكن من العارفين المدركين لطريق الروح ، فافعل عكس ما تطلبه نفسك الحسية ، وإذ ذاك تكون ممن لزموا قصد السبيل “ . 

( 2956 ) يشير في هذا البيت إلى حديث الرسول المتعلق بمشاورة النساء ، وفيه يقول : “ شاوروهن وخالفوهن “ . وفي قصة الأعرابي وزوجه جعل الشاعر المرأة رمزاً للنفس الحسيّة . فكأن الشاعر يدعو إلى مشاورة النفس ، مع عدم الالتزام بما تشير به . وقوله هذا يحمل ذات المعنى الذي يرمز إليه قوله : “ فافعل عكس ما يريده الحمار “ . حيث اتخذ الحمار رمزاً للنفس الحسيّة . ( انظر التعليق على البيت 2955 ) . 

( 2957 ) قال تعالى :” يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ “. ( سورة ص ، 38 : 26 ) . 

( 2967 ) العدّو الذي يعاند في الخفاء “ هو النفس الحسيّة التي تصرف

“ 584 “

الإنسان عن سبيل الروح . 
( 2969 )  قصة موسى مع الخضر وردت في تفسير آيات من القرآن الكريم ( سورة الكهف ، 18 : 65 - 82 ) . 
والخضر لم يذكر بالاسم في هذه الآيات ، لكنه ذكر في التفسير ، حيث قيل إنه هو العبد المقصود من قوله تعالى :” فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً “. ( 18 : 65 ) وقد ذكر الثعلبي قصة موسى مع الخضر بكثير من التفصيل . ( قصص الأنبياء ، ص 238 - 253 ) . 

( 2971 ) من العجائب التي صنعها الخضر أمام موسى أنه خرق إحدى السفن وقتل غلاماً . وكان ذلك لحكم خفيت على موسى فأخذ يسائله ويحاوره ، ولم يصبر - كما أمره الخضر - عن السؤال والاستفسار ، مما جعل الخضر يبوح له بتأويل أفعاله ثم يفارقه . 
قال تعالى :” فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً . قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً . قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً . فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ ، قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً . قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً “. 
( 18 : 71 - 75 ) . 

( 2973 ) الطفل هنا رمز للمريد المبتدىء ، الذي يكون خاضعاً لغرائزه كالأطفال . والمرشد يعمل على تخليصه من الأهواء ، فيقتل في المريد نزوات الجسد وأهواءه ، ويجيي بذلك روحه . وحياة الروح هي الحياة الخالدة . 

( 2974 ) من لم يتعلم من المرشد تعلماً مباشراً ، وإنما يجتهد وحده في سلوك سبيل الروح ، قد يصل إلى غايته بعون المرشدين ، الذين يمثلون القدوة . وهؤلاء يتوجون بقلوبهم إلى اللَّه ليسدّد خطى البشرية ، وبدعائهم يتحقق الهدى للساعين إليه .

“ 585 “

( 2976 ) “ إذا كان المرشدون يمتدّ أثرهم على هذا النحو إلى من لم يرتبطوا بهم ويأخذوا عنهم ، فما بذلك بمن لزموهم ، واختاروا الخضوع لإرشادهم وتعليمهم ؟ “ . 

( 2978 ) “ وأين من يكون بعيداً عنهم منهم ظفر بالقرب منهم ، ومثل بخدمتهم ؟ “ . 

( 2980 ) من أجل بلوغ حالة الصفاء الروحي يجب أن يكون المريد قوي التحمل ، لا ترهقه الآلام الحسية . فالمريد كالمرآة ، وهذه لا تبلغ حالة الصفاء إلا بعد أن يتلقى حديدها كثيراً من ضربات المطارق . وقد ذكر الشاعر بعد هذا البيت قصة تحت على الجلد ، وتدعوا إلى تحمل الآلام في سبيل الهدف المنشود .

[ شرح من بيت 3000 إلى 3150 ] 
( 3009 ) “ علم التوحيد “ يطلق على الدراسات التي تتعلق بذات اللَّه وصفاته ، وما يرتبط بها من الموضوعات . ويسمى هذا العلم أيضاً “ علم الكلام “ . والصوفية لا يميلون إلى هذا النوع من البحث الذي يثيره المتكلمون . والشاعر هنا يقول : إن علم التوحيد ينبغي أن يكون هو العلم الذي يبيّن للإنسان كيف يفني ذاته أمام خالقه . 

( 3012 ) قول الشاعر : “ وما كل هذا الخراب . . . “ معناه : “ وما كل هذا الضلال والخطأ إلا من تأكيد الإنسان لذاته وجوداً منفصلًا عن خالقه “ . والقصة التي تلي هذا البيت تبيّن - بأسلوب رمزي - وخامة الاعتداد بالذات والأنالية أمام الخالق . 

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  حضرة مولانا جلال الدين الرومي-
انتقل الى: