في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ على مدونة عبدالله المسافرفي بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
“ 335 “في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ ،
فإن الحلوى لا تؤذي الطبيب بينما هي تؤذي المريض والبرد والثلج لا يتلفان العنب الناضج بينما هما يتلفان العنب
الفج فالمريد لا يزال على الطريق ولم يصل بعد إلى مقام :” ليَغْفرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ منْ ذَنْبكَ وَما تَأَخَّرَ ““ 1 “
إنّ الوليّ لو شرب السمّ لصار شراباً هنيئاً ، وأما الطالب فلو شرب السمّ لأظلم عقله .لقد دعا سليمان ربّه بقوله :” رَبِّ اغْفرْ لي ، وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبَغي لأَحَدٍ منْ بَعْدي ““ 2 “ .ومعنى الآية : “ يا ربّ ! لا تعط أحداً سواي هذا الملك ولا تلك القدرة !2605 - ولا تؤثر غيري بمثل هذا اللطف والجود ! “ وهذا القول يشبه الحسد ، ولكنّه ليس كذلك .فلتقراً سرّ” لا يَنْبَغي ““ 3 “ بروحك ، ولا تفهم سرّ” منْ بَعْدي “ *” 4 “ على أنّه من بخل سليمان .لكنّه رأى في الملك مائة خطر ، فملك الدنيا كان دائماً خطراً على الحياة .إنّه مصدر خوف على الرأس والقلب والدين ، وهو امتحان لنا ليس له من مثيل ................................................................( 1 ) ( الفتح ، 48 : 2 ) .( 2 ) ( ص ، 38 : 35 ) .( 3 ) هذه عبارة من الآية الكريمة التي وردت على لسان سليمان . والتي يوالي الشاعر تفسيرها في هذا البيت وما يليه .( 4 ) هذه عبارة من الآية الكريمة التي وردت على لسان سليمان . والتي يوالي الشاعر تفسيرها في هذا البيت وما يليه . “ 336 “فالمرء يحتاج إلى همّة سليمان لكي ينجو من تلك الآلاف من الروائح والألوان “ 1 “ . 2610 - وحتى سليمان ، مع هذه القوة التي كانت له ، كم خنقت أمواجُ ملكه أنفاسَه ! لقد كان يشعر بالشفقة على كلّ ملوك الدنيا ، حين يتراكم فوقه - من الملك - غبار الهمّ .
فشفع لهم قائلًا : “ ربّ هبْ هذا الملك ، ولكنْ هبْ معه الكمال الذي منحتني إيّاه !
فكلّ من وهبته وتفضّلت عليه بهذا الكرم فهو سليمان ، وأنا أيضاً ذات هذا الرجل .فهو لن يكون بعدي وإنما معي . ومن ذا الذي يكون معي ؟إنّه أنا بلا منازع “ . 2615 - إنّ شرح هذا واجب عليّ ، ولكن هأنذا أعود إلى قصة الأعرابي وامرأته .مغزى ما جرى بين الأعرابيّ وامرأته
إنّ الذي جرى بين الأعرابي وامرأته ، لذو مغزى يبحث عنه قلب المخلص .لقد جاء - عن طريق النقل - ما جرى بينهما . فاعلم أنّ ( في تلك القصة ) مثلًا لفنسك وعقلك ...........................................................( 1 ) المقصود بالروائح والألوان مباهج الدنيا ومفاتنها .
“ 337 “
فهذه المرأة وهذا الرجل نَفْس وعقل ، وكلاهما ضروريّ لإظهار الخير من الشرّ .
إنّ هذين الواجبي الوجود في هذا العالم الترابيّ يتحاربان ويتنازعان إبّان النهار وفي الليل .
2620 إنّ المرأة تريد حاجة المنزل ، يعني الأبهّة “ 1 “ والخبز والخوان والجاه .
فالنَفْس مثل المرأة ، تنشد التراب “ 2 “ حيناً ، وتنشد المجد حيناً آخر ، لكي تحقّق مآربها .
وأما العقل فليس بمدرك لتلك الأفكار ، وليس في معدنه غير خوف اللَّه .
فإذا كان سرّ القصة هذه الحبّة وهذا الشرك “ 3 “ فاستمع الآن إلى صورة هذه القصة كلها !
فلو كان البيان المعنويّ كافياً ، لكان خلق العالم باطلًا عاطلًا !
2625 - ولو أنّ المحبّة لم تكن إلا فكراً ومعنى ، فلا ( جدوى من ) صورة صومك وصلاتك .
والهدايا التي يتبادلها الأحباب للتعبير عن محبّتهم ليست إلا صوراً .
ذلك لأنها تقدّم الدليل على المحبّة المحتجبة في الخفاء .
فالحسنات الظاهرة - أيّها الفاضل ! - شواهد على عواطف الحبّ المستتر .
وشاهدك قد يكون صادقاً في وقت ، وكاذباً في وقت آخر ، ومرة يكون ثملًا بالخمر ، وأخرى باللبن المخض .
2630 - فشارب المخيض يتظاهر بالسكر ، فيصيح صياح السكارى ، ويتراءى مثقل الرأس . .
...............................................................
( 1 ) ماء الوجه في البيت كناية عن الأبَّهة .
( 2 ) تطلب المادة .
( 3 ) فتنة النفس للعقل .
“ 338 “
فهذا المرائي ( يغالي ) في الصيام والصلاة ، حتى يُظنّ أنّه سكران بولائه ( لربّه ) !
وصفوة القول أنّ ظاهر الأفعال مختلف ( عن باطنها ) ، وجدوى ( الظاهر ) أنّه دليل على ما استتر ( في الباطن ) .
فيا ربّ ! هبنا ذلك التمييز - كما نريد - لنقدر على التمييز بين ما استقام من الأدلّة وما اعوجّ !
وهل تعلم متى يصبح الحسّ تمييزاً ؟ إنه كذلك حينما ينظر بنور اللَّه ؟
2635 وإذا لم يكن الأثر ( ظاهراً ) فإنّ السبب يظهره ، ومثال ذلك القربى ، فهي مخبرة عن المحبّة .
وإذا حلّ نور اللَّه في حواسّك ، فإنك لا تكون عبداً للأثر ولا لسبب .
فإذا ما أورت المحبّة شعلتها في الباطن ، عظم الإنسان ، إذ أنها تريح خاطره من الآثار .
فلا تكون له حاجة إلى علامات الحبّ ، ما دام الحبّ قد غمر بنوره أفقه .
ولهذا الكلام تفصيلات تكمله ، ففتّش أنت عنها ، والسلام .
2640 - وأما من رأى ذلك المعنى في هذه الصورة ، فإنّ الصورة قريبة من المعنى ، بعيدة عنه !
إنّهما في الدلالة مثل الماء والشجرة ، ولكنّك إذا اتجهت إلى الماهيّة فهما متباعدان غاية البعد “ 1 “ .فلتقل بترك الماهيّات والخصائص ، ولتشرح لنا أحوال هذين المليحين “ 2 “ !...............................................................( 1 ) إنهما في الدلالة متقاربان في الظاهر تقارب الماء من الشجرة التي يمر بباطنها ، ولكنهما متباعدان في الماهية كالعبد بين الماء والشجرة في ماهية كل منهما .( 2 ) المليحان هنا هما الأعرابي وزوجه .“ 339 “كيف وجّه الأعرابيّ قلبه لتحقيق ملتمس حبيبته
وكيف أقسم أن ليس في تسليمه حيلة أو امتحان
قال الأعرابيّ : “ الآن قد أقلعتُ عن الخلاف ، والحكم لك ، فلتسحبي السيف من غمده ! وإني لمطيع أمرك في كل ما تأمرين به ، وولن أنظر فيما قد ينجم عن ذلك من شر أو خير .
2645 - لسوف أصبح في وجودك عدماً ، فما دمتُ مُحبّاً فالحب يعمي ويصّم !
“ فقالت الزوجة : “ يا للعجب ! أأنت حبيبي ؟ أم أنك بحيلة تكشف سرّي ؟ “ .
فقال الأعرابيّ : “ واللَّه عالم السرّ الخفيّ ، الذي خلق من التراب آدم صفيا ،
وفي جسم وهبه إياه ، حجمه ثلاثة أذرع ، أظهر كلّ ما كمن في الألواح والأرواح !
فعلمّ آدمُ ( الملائكة ) - في البدء - ما يكون إلى الأبد ، بما اقتبسه من علم إلهيّ “ 1 “ .
2650 - فانتشت من تعليمه الملائكة ، ووجدت في تقديسه ( للَّه ) لوناً آخر من التقديس .
فتلك الكشوف التي جلاها آدم للملائكة ما كانت لتتسع لها رحابُ السماوات الفساح .
لقد ضاقت عرصات السماوات السبع أمام سعة مجال هذا الروح الطاهر .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ بما علمه ربه من الأسماء “ . إشارة إلى الآية الكريمة : “ وعلم آدم الأسماء “ . ( البقرة ، 2 : 31 ) .
“ 340 “
ولقد روى الرسول عن الحقّ أنه قال ( ما معناه ) : “ إنني لا يسعني وعاء العلوّ والانخفاض ،
ولا تسعني الأرض ولا السماء بل ولا العرش “ ، فاعلم ذلك أيها العزيز !
2655 - “ ولكنّ قلب المؤمن يتسّع لي ، فإذا كنت تبحث عني فاطلبني في قلوب المؤمنين “ “ 1 “ .
قال أدخل في عبادي تلتقي * جنّة من رؤيتي يا متقي “ 2 “إن العرش على نوره واتساعه - حين رأى ( روح ) آدم - تخلى عن مكانه .
فما أعظم ضخامة العرش بداته ! ولكنْ ما الصورة إذا جاء المعنى ؟
وقالت الملائكة لآدم : “ لقد كانت لنا ألفة ( بك ) وأنت في تراب الأرض !
2660 - فكم غرسنا بذور الخدمة في الأرض ، وكنا نعجب لتعلّقنا بها .
فما ذا كان تعلقنا بهذا التراب ، ما دمنا نحن قد فُطرنا من السماء ؟
وماذا كان إلفنا نحن الأنوار بالظلمات ؟ وكيف يستطيع النور أن يعيش منع الظلمات ؟
يا آدم ! إن شذاك كان مبعثاً لهذا الإلف ، لأنّ الأرض كانت لجسمك سدى ولحمة .
فمنها نُسجَ جسمُك الترابيّ ، وفيها نورك الطاهر .
2665 - فهذا النور الذي وجدته أرواحنُا في روحك ، كان في أول الأمر يشعّ من التراب .
لقد كنا في الأرض ، وكنا غافلين عنها ! كنا غافلين عن الكنز الذي اختبأ فيها !
...............................................................
( 1 ) النص العربي للحديث القدسي هو : “ ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن التقي الورع “ .
( 2 ) هذا البيت عربيّ في الأصل .
“ 341 “
وحينما أُمرنا بالسفر من هذا المقام ، صارت أفواهنا مرة من جرّاء هذا الانتقال .
فأخذنا بخادل قائلين : “ يا ربّنا ! من ذا الذي سيحتلّ مكاننا ؟
أتبيع نور تسبيحنا وتهليلنا من أجل قيل وقال ؟ !
2670 - إن حكم الحقّ كان قد بسط لنا بساط ( الرحمة ) قائلًا : “ تكلمّوا وانطلقوا في الحديث !
وقولوا كلّ ما يرد على ألسنتكم من غير حذر ، كما ( يفعل ) الطفل الوحيد مع أبيه .
وماذا لو كانت أقوالكم هذه غيره لائقة ؟ إن رحمتي لسابقة على غضبي .
ولكي أظهر لك هذا السبق - أيها الملك - أودعت فيك أسباباً للحيرة والشك .
وهكذا تتكلم ، بدون أن أحسابك على قولك . فلا يستطيع منكرُ حلمي أنْ ينبس بكلمة !
2675 - وإن مائة أب ومائة أم لتولد من حلمنا في كلّ لحظة ، ثم تختفي !
وما حلم هؤلاء إلا زبد من بحر حلمنا . فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما البحر فدائم البقاء “ .
فماذا أقول ؟ إن هذا الصدف “ 1 “ أمام هذا الدرّ “ 2 “ ليس إلا زبداً لزبد الزبد !
فبحقّ هذا الزبد ! بل بحقّ ذلك البحر الصافي ! إن قولي هذا ليس امتحاناً ، وليس هراء “ 3 “ .
بل إنه من صميم الحبّ والصفاء والخضوع ! أقسم لك بمن إليه مآبي .
...............................................................
( 1 ) حلم الانسان .
( 2 ) حلم اللَّه .
( 3 ) الحديث هنا على لسان الأعرابي يخاطب امرأته .
“ 342 “
2680 - فإذا كان هذا الوله قد بدا لك امتحاناً ، فلتختبري هذا الامتحان لحظة واحدة .
واكشفي سرّك ، لكي ينكشف لك سريّ ، ومريني بكل ما أنا قادرُ عليه .
وأزيحي الحجاب عن قلبك ، يتجلّ لك قلبي ، فأتقبل ما أنا قابل له !
كيف أعمل ؟ وأية حيلة في يدي ؟ ألا فلتنظري أيّ عبء تحتمله روحي “ 1كيف عيّنت المراة لزوجها طريق طلب الرزق وكيف تقبّل الرجل ذلك منها
فقالت المرأة : إنّ شمساً واحدة قد أشرقت فاكتسب النورَ منها عالمُ بأسره . 2685 - ونائب الرحمن ، خليفة اللَّه ، به ازدهرت مدينة بغداد ، فكأنه الربيع .فإذا اتصلت بهذا المَلك ، أصبحت مَلكا ! ( وإلا ) ، فإلى متى تسعب وراء كلّ إدبار ؟إنّ مجالسة السعداء مثل الكيمياء ! بل أين هي الكيمياء التي تشبه نظرة ( إقبالهم ) ! ولقد تلقى أبو بكر نظرة من الرسول ، وبالتصديق مرة واحدة أصبح صدّيقاً !
..............................................................
( 1 ) تأملي المدى الذي يمكن أن تطيقه روحي في تحمل الأعباء ، ولا تكلفيني ما لا طاقة لي به .
“ 343 “
فقال الزوج : “ وكيف أصبح مقبولًا عند الملك ؟ وكيف أذهب إليه من غير حجة أتذرّع بها ؟
2690 - فلا بدّ لي من ذريعة أو حيلة . وهل استقامت حرفة قطّ بدون آلة ؟
( إنّني ) كالمجنون الذي سمع من شخص أنّ ليلى قد ألمّ بها مرض طفيف .
فقال : “ أوّاه ! كيف أذهب إليها بدون عذر أتذرّع به ؟
وإذا تخلفت عن عيادتها فكيف يكون حالي ؟
ليتني كنت طبيباً حاذقاً * كنت أمشي نحو ليلى سابقاً “ 1 “
ولقد خاطبنا الحقُّ تعالى بقوله :قُلْ تَعالَوْا . . ““ 2 “ ليكون إشارة لنا نتغلّب بها على حيائنا .
2695 - ولو كان للوطواط بصر ووسيلة ، لطار بالنهار وحسن حاله .
فقالت الزوجة : “ إنّ ملك الملوك حين ينزل إلى الميدان ، يصبح كل عجز آلة ووسيلة !
ذلك لأن الآلة إدّعاء و ( تأكيد ) للوجود الذاتيّ ، ونجاحُ ( العمل ) يتحقّق عند الافتقار والتواضع “ “ 3 “ .فقال الأعرابي : “ وكيف ألتمس الربح من انعدام وسائلي ، إذا لم أظهر أَنَّني عديم الوسائل ؟...............................................................( 1 ) هذا البيت عربىّ في الأصل .( 2 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى :“ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم “ . ( الأنعام ، 6 : 151 ) . ويريد الشاعر أن دعوة اللَّه العباد للاستماع إلى قوله هي الإشارة التي تجعلهم يتغلبّون على الحياء الذي قد يستولي عليهم في حضرة اللَّه .( 3 ) ليس تأكيد الإنسان لذاته وأعماله وسيلة التقرب إلى اللَّه عند الصوفيّة ، وإنما التقرّب عندهم بالتوكل على اللَّه أي الإيمان بأنَّه لا يتمّ أمر بدون إرادته ، فالتوكل عندهم يؤدي إلى إفناء الإرادة الإنسانية في الإرادة الإلهية ، وهذا هو التواضع ، وهو الذي يؤدي إلى نجاح المقاصد ، لأنّ الإرادة الإلهية لا تهدف إلا إلى الخير .“ 344 “ فلا بدّ لي من شاهد ( أمام الملك ) على إفلاسي ، حتى يشفق علّي في فاقتي . 2700 - فلتكشفي لي عن شاهد غير القيل والقال ، وظاهر الحال ، فلعله يستدر رحمة الملك الجليل .فالشهادة - التي لا تزيد على الكلام والمظهر - كانت دائماً مجرحة عند ذلك القاضي الأكبر .إنّه يريد ممن ( يقف بساحته ) أنْ يكون الصدق شاهداً على حاله ، فيشعّ نورُه من غير ( حاجة ) لمقاله “ .كيف حمل الأعرابيّ إبريقاً ملينأ بماء المطر من قلب البادية إلى بغداد هدية إلى أمير المؤمنين
ظانّا أنّ تلك المدينة أيضاً تعاني قحطاً في الماء
فقالت المرأة : “ إنّ الصدق أنّ الإنسان - بجهده - ينطلق من وجوده انطلاقاً كاملًا .إن لدنيا ماء مطر بالإبريق ، وهو ملكك ، ورأس مالك ووسيلتك .2705 - فاحمل هذا الإبريق وانطلق ! اتّخذه هدّية ، وأمثل أمام ملك الملوك ! وقل له : “ إنّنا نمتلك من الأسباب غير هذا .
وليس في المفازة شيء قط أحسن من الماء .
فمع أنّ خزائنه مليئة بالذهب والجوهر ، فإنّه لا يجد ماء كهذا ، فهو نادر الوجود ! “ .
فما هذا الكوز ؟ إنّه جسدنا المحدود ، وبه ماء حواسنا الملح !
“ 345 “
فيّارب ! تقبّل إبريقناً وكوزنا بفضلك ( الذي يشير إليه قولك ) :
” إنَّ اللَّهَ اشْتَرى منَ الْمُؤْمنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ““ 1 “ .
2710 - إنّ لإبريقنا أنابيب ، هي الحواس الخمس ، ( فيا ربّ ) احفظ ماء إبريقنا من كلّ نجس !
حتى يكون لإبريقنا هذا منفذُ إلى البحر ، وحتى يتخذ إبريقُنا صفة البحر .
فإذا ما حملته هديّة إلى السلطان يراه نظيفاً ، ويكون له مشتريا .
فيصبح ماؤه بعد ذلك بلا حدود ، ويمتلئ من كوزنا مائة عالم !
ألا فلتغلق أنابيبه ، ولتملأه من وعاء ( الحقيقة ) . لقد أمرنا الحقّ أن نغضّ الأبصار عن الهوى “ 2 “ .
2715 - فانتفشت لحية الأعرابي بريح الغرور . فمن ذا الذي لديه مثل هذه الهدية ؟ إنها بحق لائقة بمثل هذا المليك !
ولم تدر الزوجة أن هناك على الطريق ( في بغداد ) نهراً مثل جيحون ، حلواً كالسكر .يجري كالبحر في وسط المدنية ، وقد حفل بالزوارق وشباك الصيادين .فلتذهب إلى السلطان ، ولتشهد أبهته وجلاله ، ولتجرب الإحساس ( بالحقيقة في قوله ) :” تَجْري منْ تَحْتهَا الْأَنْهارُ “ *” 3 “ ................................................................( 1 ) ( سورة التوبة ، 9 : 111 ) .( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ، إنّ اللَّه خبير بما يصنعون “ .( سورة النور ، 24 : 30 ) .( 3 ) وردت هذه العبارة في كثير من آيات القرآن . ومنها قوله تعالى : “ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار “ . ( سورة البروج ، 85 : 11 . ) “ 346 “فما أحاسيسنا وإدراكاتنا - على مثل هذه الصورة ( المادية ) - إلا قطرة في تلك الأنهار . كيف خاطت امرأة الأعرابي اللبد حول الإبريق الملئ بماء المطر وختمت عليه
وذلك لفرط اعتقاد البدو ( بندرة الماء )
2720 - فقال الأعرابي : “ نعم ، أغلقي فوهة الإبريق ، وحاذري ، فإن هذه الهدية ستجلب لنا الربح ! خيطي اللبد حول هذا الإبريق ، حتى يفطر الملك على هديّتنا !
فليس في الآفاق كلّها مثل هذا الماء ، وليس لماء مثل هذا الصفاء !
“ ( وما قوله ذلك إلا ) لأنه وأمثاله معتلون على الدوام ، وقد ذهب بنصف بصرهم شربهم الماء المالح المرّ .
فالطائر الذي يكون مسكنه عند الماء الملح ، أنى له أن يعرف مكان الماء الصافي ؟
2725 - فيا من مقامك عند الغدير المالح ! أنى لك أن تعرف الشط “ 1 “ وجيحون والفرات ؟
ويا من لم تتخلص من ذلك النزل الفاني “ 2 “ ! ماذا تعرف عن المحو والسكر والانبساط ؟
ولو عرفت فعن طريق النقل عن أبيك وجدك . فما هذه الأسماء أمامك إلا كحروف أبجد “ 3 “ .
...............................................................
( 1 ) نهر شط العرب .
( 2 ) عالم المادة .
( 3 ) تنطق بها دون أن تفهمها .
“ 347 “
فما أذيع النطق “ بأبجد هوّز “ عند جميع الأطفال ، وما أوضحه ! ولكن ما أبعد معناها ( عن فهمهم ) !
فحمل الأعرابي الإبريق ، وانطلق مسافراً ، وأخذ يجرّه في جنح الليل ، وأثناء النهار .
2730 - لقد كان يرتعد ( خوفاً ) على الإبريق من آفات الدهر ، وها هو ذا قد نقله من الصحراء إلى المدينة !
وأما المرأة فقد بسطت سجادة الصلاة ضارعة ، وجعلت ( دعاء ) “ ربّ سلمّ “ وردها في الصلاة .
( وفي ضراعتها كانت تقول ) : “ ربّ احفظ ماءنا من الأخساء ، واجعل هذا الجوهر يصل إلى ذلك البحر .
فزوجي وإن كان ذكيّاً ماكراً ، إلا أنّ آلاف الأعداء يتربصون بهذا الجوهر !
بل ماذا يكون الجوهر أمامه ؟ إنّ هذا ماء الكوثر ، وإنّ قطرة واحدة منه لهي أصل الجوهر !
2735 - فبدعاء المرأة وضراعتها ، وباهتمام الرجل وتحمّله العبء الثقيل ،
نقل الإبريق إلى دار الخلافة بدون تأخر ، وقد سلم من اللصوص ومن إيذاء الحجارة .
وهناك رأى الأعرابي بلاطاً مليئاً بالنعَم ، وقد مدّ أهل الحاجة فيه شباكهم .
ففي كلّ لحظة كان يجيء من كلّ ناحية صاحبُ حاجة ، فإذا به قد وجد لدى هذا الباب الخلعة والعطاء .
لقد كان للكافر وللمؤمن ، وللقبيح والجميل ، وكأنه الشمس والمطر ، بل كأنه الفردوس !
2740 - ورأى قوماً ذوي أبّهة في حضرة ( الخليفة ) ، وقوماً آخرين وقفوا منتظرين .
“ 348 “
فالخاصة والعامّة من سليمان حتى النملة ، دبّت فيهم الحياة كالعالم عند نفخ الصور !
فأما أهل الصورة فقد رُصِّعوا بالجواهر ، وأما أهل المعنى ، فقد وجدوا بحر المعنى .وكم من عديم الهمَّة أصبح ذا همّة ! وكم من صاحب همّة أصبح ذا نعمة !في بيان أنّه كما أنّ السائل عاشق للكرم وعاشق للكريم
فانّ كرم الكريم أيضاً عاشق للسانل . فإذا كان السائل أكثر صبراً جاء الكريم إلى بابه
وإذا كان الكريم أكثر صبراً جاء السائل إلى بابه .
ولكنّ صبر السائل كمال ، وأما صبر الكريم فنقيصة
إنّ صيحة كانت تتردد ( قائلة ) “ أيها الطالب تقدم ، فالجود محتاج إلى السائل ، كاحتياج السائل ( إلى الجود ) “ . 2745 - إن الجود يطلب المساكين والضعاف ، كما تنشد الحسان المرآة الصافية .فوجوه الحسان تحلو بتلك المرآة ، كما أنَّ السائل يجلو وجه الإحسان .ولهذا فقد خاطب الحقّ الرسول في ( سورة ) الضحى ( بقوله ) :” وَأَمَّا السَّائلَ فَلا تَنْهَرْ ““ 1 “ .فما دام السائل مرآة الجود ، فتنبَّه ! إنّ التنفس في وجه المرآة مضرّ ( بصفائها ) .فمن الكرام مَنْ جوده يظهر السائل ، ومنهم من ينعم على المساكين بمزيد العطاء ................................................................( 1 ) ( سورة الضحى ، 93 : 10 ) .“ 349 “2750 - فالسائلون إذن هم مرآة جود الحق ! وأما من هم مع الحقّ فإنهم جود مطلق ! وأما من لم يكن من هذين ( الفريقين ) فهو ميّت ! إنّه ليس من أهل هذا الباب ، وما هو إلا صورة فوق ستار !الفرق بين من كان فقيراً إلى اللَّه ظامناً إليه
وبين من كان فقيراً من اللَّه ظامئاً إلى غيره
إنّ الدرويش بالصورة ( لا بالحقيقة ) غير جدير بالخبز ، فلا تُلق العظَام إلى صورة الكلب ! فهذا فقير إلى القمة ، وليس فقيراً إلى الحقّ ! فلا تصُفَّ الصحاف أمام صورة ميّتة !
إنّ درويش الخبز ليس إلا سمكة برية . إن على صورة المسكة ، ولكنّه هارب من البحر !
2755 - إنّه طائر البيت لا عنقاء الهواء ! إنه يتغذّى باللقم ولا يتغذي من اللَّه .
إنه عاشق للحقّ من أجل النوال ، وليست روحه عاشقة للحسن والجمال !
فإذا كان يتوهمّ أنّه عاشق اللذات ، فليست الذات توهماً للأسماء والصفات .
إنّ الوهم يتولد من الأوصاف والحدود ، والحقّ ليس بمولود .
إنَّه عاشق لتصوّراته وأوهامه ، فمتى يكون مثله من عُشَّاق ربّ المنن ؟
2760 - فلو كان عاشق الأوهام هذا صادقاً ، لقاده هذا المجاز إلى الحقيقة .
“ 350 “
إنّ إيضاح هذا الكلام يتطلب شرحاً ، ولكنني خائف من الأفهام البالية !
فهذه الأفهام البالية ، القصيرة النظر ، تدخل في الأفكار مائة خيال باطل .وليس كل إنسان بقادر على صدق السماع ، فالتين ليس غذاء لكل صغار الطير .وخاصة ما كان من هذه الطير ميتاً متحللًا ، قد ملأه الخيال ، وهو أعمى البصيرة . 2765 - وأيّ شأن لصورة السمكة بالبحر أو اليابسة ؟ وأي شأن للون الهندي بالصابون أو الأصباغ ؟وإذا نقشت على الورق صورة حزينة ، فإن هذه الصورة لم تتلق درساً في الحزن ولا في السرور .فهذه الصورة تكون حزينة ، ولكنها خالية من ذلك الحزن . وقد تكون ضاحكة ولكن لا أثر لهذا عندها .والذي سُطرَّ في القلوب من هذا الحزن أو السرور الدنيوي ليس إلا صورة ( لا حياة فيها ) أمام ذلك السرور أو الهمّ ( الروحي ) .إن الصورة الضاحكة التي يجلوها لك النقش ، إنما هي من أجلك ، وذلك لكي يستقيم لك المعنى عن طريق تلك الصورة ! 2770 - وصور ( الأجساد ) داخل الحمام تكون - خارج غرفة خلع الثياب - شبيهة بالثياب .فما دمتَ في الخارج فإنك ترى الثياب وحدها . فلتخلع ثيابك ولتدخل أيها الرفيق .لأنه لا سبيل إلى الدخول مع ارتدائك الثياب : فالجسم جاهل بالروح ، والثياب لا علم لها بالجسم . “ 351 “كيف تقدم نقباءُ الخليفة وحُجَّابه لاكرام الأعرابي وتقبل هديته
وحينما وصل الأعرابي من الصحراء النائية إلى باب دار الخلافة ، تقدم النقباء إلى الأعرابي ، وبلطف ضمخوا جيبه بكثير من ماء الورد !
2775 - وأدركوا حاجته بدون مقال ، فقد كان دأبهم العطاء قبل السؤال .
ثم قالوا له : “ يا وجيه العرب ! من أي مكان ( أتيت ) ؟ وكيف أنت بعد الطريق التعب ؟
فقال الأعرابي : “ إنني وجيه لو أو ليتموني وجوهكم ، وليست بذي شأن لو نبذتموني وراء ظهوركم !
يا من تلوح في وجوهكم علائم العظمة ! يا من رواء مجدكم أبهى منَّ الذهب الجعفري !
يا من نظرة واحدة منكم ( تعدل ) نظراتٍ ( منْ سواكم ) ! يا من نثار رؤيتكم الدنانير !
2780 - يا من أصبحتم جميعاً تنظرون بنور اللَّه ! يا من أقبلتم من عند اللَّه للجود والعطاء .
لتلقوا بنظراتكم الكيميائية على نحاس أشخاص البشر ! إنني غريبُ ، وقد قدمتُ من الصحراء .
لقد أقبلتُ على أمل في لطف السلطان ، مَنْ عبيرُ لطفه قد عمّ الصحارى ، فاتخذت منه حباتُ الرمال أرواحاً !
لقد قدمت إلى هنا على أمل الدنيار ، فلما وصلتُ أصبحتُ ثملًا بالرؤى !
2785 - لقد انطلق شخصُ نُحو الخبّاز من أجل الخبز ، ولكنه جاد الروح عندما رأى حسن الخبّاز !
“ 352 “
ومضى رجل إلى البستان يلتمس النزهة ، فأصبحت نزهتُه ( مشاهدة ) جمال البستاني !
( فمثلهما ) كمثلُ ذلك الأعرابي الذي سحب الماء من البئر ، فشرب ماء الحياة من طلعة يوسف “ 1 “ !
أو كمثل موسى الذي ذهب يلتمس ناراً ، فرأى ناراً ( جعلته ) ينجو من النار “ 2 “ .
لقد قفز عيسى ليخلص من أعدائه ، فحملته قفزته تلك إلى السماء الرابعة .
2790 - ولقد كانت سنبلة القمح فخا لآدم ، فأصبح وجوده سنبلة ( حوث بذور ) البشرية .
والصقر يقصد الشباك من أجل الطعام ، فيجد ساعد الملك والإقبال والمجد !
والطفل يلتحق بالكتّاب لكسب المعرفة ، وأمله طائر لطيف ( يهديه له ) أبوه .
وبعد الكتّاب صار هذا الطفل صدراً . لقد دفع ( للمعلم ) عن كل شهر أجراً ، فأصبح بدراً .
ولقد خاض العباس الحرب حاقداً ، يبغي هزيمة الرسول ومقاومة الدين .
2795 - فأصبح للدين - حتى القيامة - وجهاً وظهراً ، فإنه هو وأبناؤه ولاة الخلافة !
وإني قد قصدتُ هذا الباب ملتمساً للعطاء ، فلم أكد أخطو إلى الدهليز حتى أصبحت صدراً !...............................................................( 1 ) إشارة إلى قصة يوسف ، والتقاطه من البئر ( سورة يوسف ) .( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ وهل أتاك حديث موسى ، إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى “ . ( سورة طه ، 20 : 8 ، 9 ) .“ 353 “وقد جئت بالماء هدية لأنال الخبز ، فحملتني رائحة الخبز إلى صدر الجنان .إنّ الخبز هو الذي أخرج آدم من الجنة ، وها هو ذا قد سما بي إلى الجنة .لقد برئت كالملك من الماء والخبز ، وهأنذا مثل الفلك أدور بلا غرض حول هذا الباب . 2800 - وليس في العالم ما يدور بلا غرض ، سوى أجسام العاشقين وأرواحهم .في بيان أن عاشق الدنيا مثل عاشق جدار تشرق عليه الشمس وهو لا يجتهد ولا يسعى
ليفهم أن هذا النور وذلك الرونق ليسا من الجدار وإنما هما من قرص الشمس في السماء الرابعة فلا جرم أن الجدار يملك عليه قلبه .
وحينما يعود نور الشمس فيلتحق بالشمس “ 1 “
يبقى محروماً إلى الأبد ” وَحيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ ““ 2 “
إنّ عشاق الكل ليسوا بعشاق للجزء ، فإنّ من اشتاق إلى الجزء عجز عن الكلّ .وإذا ما أصبح جزء عاشقاً لجزء ، فسرعان ما يعود المعشوق إلى كله .( فهذا العاشق ) قد صار سخرية لمن كان عبداً مملوكاً لغيره ، فكأنه غارق تشبّثت كفّاه بضعيف .فليس هذا المعشوق بمالك أمره حتى يعنى بعاشقه ! وهل ينهض بواجب سيده ، أم ينهض بواجب العاشق ؟...............................................................( 1 ) حينما تجمع الشمس أشعتها وتغرب .( 2 ) ( سورة سب ، 34 : 54 ) . “ 354 “مثل العرب : ( إذا عشقت فاعشق الحرة وإذا سرقت فاسرق الدرَّة )
2805 - من أجل هذا ( الذي سنوضحه ) أصبح ( قولهم ) “ اعشق الحرة ) مثلًا ، ولهذا أيضاً ذاع ( قولهم ) : “ اسرق الدرة “ .فالعبد ( المحبوب ) قد عاد إلى سيده ، لقد رجع عبير الوردة إلى الوردة ، وبقي له الشواك .وهكذا بقي بعيداً عن مطلوبه ، سعيه باطل وتعبه ضائع ، وقدماه داميتان ! إنه كالصياد الذي يتصيّد الظل ! فهل يصبح الظل من ممتلكاته ؟
أو كرجل أطبق كفه على ظلّ طائر ، على حين أن الطائر على غصن الشجرة قد حار ( في أمر هذا الرجل ) .
2810 - يقول : “ عجباً ! من أي شيء يضحك ذلك الأحمق ؟ “ فهاك باطلًا ، وسبباً واهياً متحللًا “ 1 “ !
فإنْ قلت إنّ الجزء مرتبط بالكل ، فلتأكل الشواك ، فإن الشوك مرتبط بالورد .فالجزء ليس من أي وجه مرتبطاً بالكل ، وإلا لكان باطلًا بعث الرسل “ 2 “ .فما دام الرسل قد بُعثوا الربط ( الأجزاء بالكل ) ، فماذا يربطون ، إنْ كانت الوحدة ( قد تحققت ) ؟إن هذا الكلام لا نهاية له ، أيها الغلام ! وقد تأخر الوقت ، فلتكمل القصة “ 3 “ ................................................................( 1 ) الشاعر يخاطب القارئ بهذه العبارة .( 2 ) لو كان البشر جميعاً متصلين بخالقهم لما كانت هناك ضرورة لبعث الرسل للإرشاد والهداية ، والعمل على ربط البشر بخالقهم .( 3 ) قصة الأعرابي ..
يتبع