").
وقد ألف عدة قصائد شعرية في شيخه الجبرتي ، منها هذه القصيدة التي نظمها على طريقة الغزل الرمزي :
وافى المحبّ فزاره محبوبه ...... بشراه يا بشراه ذا مطلوبه
قدم الحبيب بعيد هجر يا لها ...... من فرحة داوى السقيم طبيبه
يا قده العسال هل هذا القنا ...... ينآد أم يا ردف أنت كثيبه
وبخاله المسكي تهت عن التقى ...... لكن هداني للسلافة طيبه
" الخال هو علامة الحسن ، وهو النقطة السوداء الدقيقة ."
أبَرُود ثغر هذا الأقاح ولؤلؤ ...... نظمت على مرجان فيه حبوبه
أي شعر ليلك هل يضيء صاحبه ...... أي خد يومك هل يجيء غروبه
كسنة أم أسهم تلك المقى ...... وتصيب قلبي أم فداك نصيبه
أقسى حاجبه إلى آم قسوة ...... هب أنني هدف ألست تصيبه
يا أيها الواشون لا كان الوشا ...... يا أيها الرقبا أميت رقيبة
للَّه فقد كما عدمت لقاكما ...... لولا كما ضمّ الحبيب حبيبه
أفلستما ترياه يرسل نشره ...... سحراً فيحيي المستهام هبوبه
أنا من يضمّ حبيبه عند اللقا ...... خوف الرقيب فلا يبين رقيبه
لم أنس صبحاً بالهنا آنسته ...... حتى اجترى خوض الدجى مركوبه
ركب الأسنة والذوائب شرّع ...... ما صدّه عن حيّ ميّ خطوبه
"می معشوقة عربية يشير بها الجيلي إلى "مكان الشيخ" بحي مي في الحب فى الله بمعناه الواسع بما فيه من خطوب وابتلائات ."
كادت نجائب عزمه تكبو بها ...... فاشتدّ منها بالعنان نجيبه
وطرقت سعدى والسهام كأنها ...... نيشان صدق برقه مسكوبه
"سعدی م?ان س?نته قبيلة عربية قديما.. وتستخدم بكثرة فى شعر الغزليات المكتوبة بالفارسية فى الشعر الصوفي".
حتى أنخت مطيتي في منزل ...... لم يدع إلاَّ بالأهيل غريبه
دار بها للسعد مغنى مغرب ...... عنقاؤه فوق السماك تريبه
" العنقاء طائر أسطوري -- السماك نجم في السماء ."
دار بها حلّ المكارم والعلا ...... فالجود جود فنائها وخصيبه
دار بها إسماعيل أسمى من سما ...... أسماء و إسما وسمه ونسيبه
ملك الصفات وكامل الذات الذي ...... فاح الشمال بعطره وجنوبه
ملك ملوك اللَّه تحت لوائه ...... ما بينما موهوبه وسليبه
أسد دم الآساد غمد حسامه ...... نسر وفى مخ النسور خليبه
بحر لآلي التاج من أمواجه ...... فوق الرؤوس على الملوك وهيبه
قطب الحقيقة محور الشرع الضيا ...... فلك الولاء محيطه وعجيبه
وأخو التمكن من صفات طالما ...... جزَّ الرقاب دوينهن رقيبه
للَّه درّك من مليك ناهب ...... بل واهب بدمي ولحمي ذيبه
ويعزّ بالملك العقيم من ابتغى ...... ويذلّ من هو شاء فهو حسيبه
يا ابن إبراهيم يا بحر الندى ...... يا ذا الجبرتي الجبور طبيبه
ألعبدك الجيلي منك عناية ...... صباغة صبغ المحبّ حبيبه
أنت الكريم بغير شكّ وهو ذا ...... عبد الكريم ومنك يرجى طيبه
والسامعون وناشدوه جميعهم ...... أضياف جودك إذ يعمّ سكوبه
ما أنت يا غصن النقا بالمنحني ...... إلاَّ الخزامى قد تنشر طيبه
"الخزامى : ريح طيبة الرائحة"
قسماً بمكة والمشاعر والذي ...... من أجله هجر المنام كثيبه
ما حبّ قلبي قط شيئاً غيركم ...... كلا وليس سواكم مطلوبه
ولدينا طائفة من المشاهير ، يلقب الواحد منهم بلقب « الجبرتي » نسبة إلى «جبرت » وهي بليدة صغيرة بأطراف اليمن.
(العسقلاني : تبصير المنتبه بتحرير المشتبه ، القسم الأول ص 367).
لكن من يعنينا منهم الآن هو شيخ الجيلي :
شرف الدين إسماعيل بن إبراهيم بن ابی ب?ر الجبرتي ، المتوفى 806 هجرية .
كان الجبرتي شيخ صوفية في وقته ، يقول المزجاجی المؤرخ : «عندما حان وقت توليه الشيخ اسماعيل الجبرتي مشيخة الصوفية ، وذلك بعد أن كثر أتباعه واشتهر أمره ، اجتمع الصوفي الكبير رضي الدين أبو بكر الموزعي بالشيخ ابی ب?ر السراج - صاحب قرية السلامة - فأشار عليه بأن ينصب الجبرتي ، فقبل منه ذلك ، وانتظر حتى جاء وقت السماع .
(السماع مجلس صوفي يجتمع فيه الأخوان لذكر الله ، وقد تستعمل فيه بعض الآلات الموسيقية ، يقول الهجويري في كتابه ( ?شف المحجوب 2 / 647 ) إن فريقا من العلماء أجمع علي إباحة السماع بالادوات الموسيقية إذا لم يكن هذا السماع سبيلا إلى الارتداد ولا منتهية بالعقل إلى السير في طريق الضلال : ولكن بعض أصحاب الطرق يقومون بالرقص في مجالس السماع ، وذلك أمر عبر مرغوب فيه .. وانظر أيضا مناقشة الغزالي لموضوع السماع في كتابه " إحياء علوم الدين 2 / 237 وما بعدها .) .
فقام في تلامذته ، وألبس الجبرتى عمامته ، وقال لهم : قد نصبته عليكم شيخ. (الحبشي : الصوفية والفقهاء ص 25 ).
وهذا النص السابق للمزجاجي ، يظهرنا على أن تولية الجبرت لمشيخة الصوفية ، كانت بعد شهرة واسعة أهلته لهذا المنصب الروحي .
وأن هذا التنصيب كان في اجتماع صوفي كبير يشهد بازدهار الحياة الصوفية في اليمن آنذاك .
كما يظهر من النص أن مجالس السماع الصوفي كانت منتشرة في تلك البيئة التي سيأتي الجيلى بعد ذلك ليعيش فيها ..
وقد تكرر ذكر الجيلى لهذه السماعات الصوفية - التي كانت تقام هناك في مناسبات مختلفة - في العديد من مؤلفاته .
ويرجع الفضل للشيخ الجبرتي في تطوير المراسم الصوفية ببلاد اليمن .
فقد عمل على تطوير مجالس السماع التي أدخل عليها أشياء جديدة ، فكانت جلسة السماع تستغرق في بعض الأحيان الليلة بأكملها ، وكان يحضرها بعض الحكام . وقد كانت للجبرتي نظرة خاصة لمجلس السماع .
فكان يقول لتلامذته : السماع حرام على من لم يعرف معانيه ، وهو لمن فتح عليه في التصوف وإلا فهو حرام على كل شخص ..
وقد حبب الجبرتي تلامذته في مجالس السماع ، حتى أنه يحكى أن أحدهم ، وهو الصوفي محمد بن شافع ، قد مات في سماع صوفي بعد أن اشتد هياجه ووجده !
?ما يرجع الفضل للجبرتي في رواج الفكر الصوفي في اليمن ، وادخال التصوف الذي تمتزج فيه الفلسفة بالكشف الصوفي.
وذلك باهتمامه بمؤلفات محي الدين بن العربي الحاتمي الطائي... فقد كان الجبرتي في أول أمره متبعا للطريقة القادرية ، لكنه ?ون بعد ذلك مدرسة خاصة قامت على أفكار ابن العربي الحاتمي الطائي وروجت له في بلاد اليمن ، خاصة مدينة زبيد ، واحتضن الجبرتي في مدرسته أنصار الشيخ الأكبر ابن العربی ?الرداد والمزجاجي وغيرهم.
(الحبشي : الصوفية والفقهاء ص 79 ).
وعلى هذا النحو ، كانت للجبرتي مدرسته الصوفية ، التي عملت على إحياء التصوف في بلاد اليمن .
مما أثار ضيق الفقهاء الذين كانوا على عداء للصوفية ..
لكن هؤلاء الفقهاء لم يمكنهم عمل شیء حيال ذلك ، لما كان للشيخ الجبرتي من سلطة روحية واسعة ومن تقرب الحكام له ، خاصة سلاطين " بني رسول ".
(دولة بني رسول ، هي دولة سنية حكمت اليمن حتى الربع الأول من القرن التاسع الهجري ، أسس هذه الدولة الملك المنصور عمر بن على بن رسول ر الذي كان حكمة من 629: 647 هجرية ) ثم تولى بعده ابنه المظفر يوسف بن علي ، ثم المجاهد والمؤيد و الأفضل والأشرف ،ثم الملك الناصر الذي توفي 827 هجرية).
حتى أن سلطة الجبرتي تعدت في بعض الأحيان ممارسة الشعائر الصوفية ، إلى القيام بأصدار أحكام في حق المخالفين والمعادين للصوفية ..
ثم تؤول الزعامة الروحية لهذه المدرسة ، وللحياة الصوفية في زبيد بعد الجبرتي الى تلميذه - وصديق عبد الكريم الجيلي - الشيخ احمد الرداد ..
ويمكننا الآن في ضوء ما تقدم ، أن نحدد الأسباب التي دعت الجيلى الى تفضيل مدينة زبيد على غيرها من المدن التي زارها .
فكان إن سافر عنها للسياحة لا يلبث أن يعود اليها يحدوه الشوق إلى هناك ، حتى وافته بها المنية سنة 826 هـ كما ذكرنا من قبل .
وهذه الأسباب هي :
أولا : كانت زبيد مقرة للشيخ الجبرتي ، وقد ارتبط الجيلى بهذه الشخصية الصوفية ارتباطا قويا ، كما ظهر لنا من كلامه عنه ، ومن قصائده فيه ..
وعادة ما نجد الصوفي يرتبط بشيخ يأخذ منه الطريق ويظل دائما وفيا لذكراه ، وهناك أمثلة عديدة على ذلك في التصوف الاسلامی ?ارتباط الشاذلي بالشيخ عبد السلام بن مشيش وارتباط الشيخ الأكبر ابن العربی بشيخه أبي مدين ، وغير ذلك الكثير .. وعموما فمن الصوفية من يقول بأن من لا شيخ له : فالشيطان شيخه !
ثانيا : كانت زبيد في الوقت الذي وفد اليها فيه الجيلى حافلة برجال التصوف ، سواء من أهل البلاد ?شيخه الجبرتي وصديقة احمد الرداد وابي بكر السراج ، أو من الوافدين عليها كالمقدسي والكرماني وابراهيم القاری وقطب الدين بن مزاحم ..
وقد كان ذلك من الأسباب القوية التي جعلت الجيلي يتعلق بمدينة زبيد ، فالصوفي لا يتنفس إلا في جو روحی ملائم ، أو بعبارة صوفية « بين الأخوان ».
وقد رأينا كيف رحل ابن العربي الحاتمي من الأندلس الى الشام بحثا عن هذا الجو الروحي الملائم .
وكذلك الصوفي الأندلسي الكبير عبد الحق بن سبعين الذي جاء إلى مصر من بلاد المغرب حتى انتهى به المطاف إلى بلاد الحجاز ، وغير ذلك الكثير من الأمثلة .
ثالثا : كانت للصوفية مكانة مرموقة عند الحكام آنذاك ، فكان ملوك بني رسول يقربون رجال التصوف إليهم ، فقد كان الملك المجاهد يعتقد في الشيخ الجبرتي وأمثاله ويحسن الظن بهم. (الصوفية والفقهاء في اليمن ص 49).
ويقول المؤرخ اليمني يحيى بن الحسين إن الملك الناصر و أحدث في آخر مدته أحداثا غير مستحسنة منها تقريب المبتدعة من المتصوفة ..
من الذين عملوا بالمتشابهات من كلام ابن العربي وهم فرقتان ، الأولى أخذت بظاهر كلامه فعطلت ، والثانية تناولت ( باطن ) كلامه كالجيلي والرداد ومجد الدين الشيرازي صاحب القاموس. (یحیی بن الحسين : غاية الأماني في أخبار القطر اليماني 2/ 569 )..
وقد بلغ تقريب الحكام للصوفية أن «كان النفوذ دولة الصوفية في تلك الفترة ، المرتبة الثانية بعد سلطة بنی رسول مباشرة » .( الصوفية والفقهاء ص 48) .
رابعا : أدت مكانة الصوفية لدى الحكام في تلك الفترة ، إلى وجود مناخ ملائم ، وجو من الحرية الفكرية والعملية بالنسبة للمتصوفة ..
فقد «توسع الصوفية في إظهار شعاراتهم ، وعقدت مجالس السماع في أكثر مساجد زبيد دون أي أعتراض من قبل الدولة ..
وراجت بزبيد كتب الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي التي كانت تباع وتشترى بالأسواق ، وتوافد الى المدينة في حكم بني رسول وافدون من صوفية شتى البلدان في صورة دراویش وزهاد متنسكين ».(الصوفية والفقهاء ص 82 ) .
وفي هذا المناخ الروحي لمدينة « زبيد » عاشت مدرسة اسماعيل الجبرتي ، وزاد نشاط شیخها فكان أول من أقام السماع للأسر احتفالا بمناسباتهم العائلية ، وأول من احتضن أتباع الشيخ الأكبر ابن العربي ودافع عنهم أمام الفقهاء المعادين للتصوف ..
وكان الجبرتي اكثر صوفية اليمن حظوة لدى ح?ام بنی رسول : المجاهد و الأفضل والأشرف والناصر .
وفي مدرسة الجبرتي ، عاش الجيلى حين من الدهر ، وعرف كواحد من اتباع هذه المدرسة الروحية ، بل أن الأهدل اعتبره من « ندماء الشيخ الجبرتي » وليس من مریدیه ، مما جعل الجيلى ينال حظا من حملة الفقهاء على الصوفية بعد ذلك .. فاعتبر ?تابه ( الإنسان الكامل ) دستور الصوفية ، واعتبره الأهدل : أهلكهم في هذا البحر. (الاهدل : ?شف الغطاء ص 214) .
يعنى القول بالحلول - حتى أن الفقيه المتأخر ابن الأمير - وهو من أعداد الصوفية ، توفي ۱۱۸۲ هجرية - مح?ی بعد وفاة الجيلى بقرون أنه : « وقع معی عارض إسهال زيادة على سنة ونصف ولم ينفع فيه دواء ، فجاء الى أحد فقهاء صنعاء بكتاب الانسان الكامل ومعه ( المضنون به على غير أهله ) للغزالى ، فحرقها وخبز لي على نارهما خبز أكلته بنية الشفاء من هذا الداء ، فذهب بحمد الله (ابن الأمير : ديوان ابن الأمير ص 326.)
ولا تحتاج هذه الفقرة الأخيرة إلى تعليق !!
. . .
أما عن معاصری الجيلى من الصوفية ، فقد التقى بهم الجيلي في مدينة زبيد وفي غيرها من المدن .
فقد عرف الجيلى العديد من الشخصيات الصوفية في عصره ، وذكرهم في كتبه معترفا لهم بحسن المعاشرة والأخوة في الطريق الروحي ..
بل نرى الجيلي يدعوهم « بالاخوان » ، وهو تعبير صوفي أطلقه أهل الطريق على أصحابهم ، الذين يسمونهم : إخوان التجريد .
وأول ( الإخوان ) الذين ذكرهم الجيلى هو :
الأخ العارف الرباني ذو الفهم الثاقب والذكاء الباهر الراسب ، عماد الدين يحيى بن أبي القاسم التونسي المغرب ، سبط الحسن بن علی ابن ابی طالب .. ويقول الجيلى أنه ألف كتابه ( الكهف والرقيم ) استجابة لطلب هذا الأخ ، وإجابة على سؤاله. )الجيلى الكهف والرقيم (مخطوط ) ورقة أب.( .
ومن معاصري الجيلى الذين التقى بهم واستفاد منهم ، خواجه بهاء الدين محمد بن الشاه نقشبند ( ولد 717 ، وتوفي 827 هجرية ) وهو صاحب الطريقة النقشبندية في التصوف .
ومن ذكرهم الجيلي أيضا ، الشيخ العارف : جمال الدين الملقب بالمجنون. (الجيلي : حقيقة الحقائق ص 47. ) .
ويذكر الجيلى أنه التقى في زبيد بالفقيه حسن بن أبي السرور ، ويستشهد في كتاب ( المناظر الإلهية ) ببعض عباراته الذوقية. (الجيلى : المناظر الالهية ص 44) ...
كما يذكر الجيلى و الأخ الفقيه احمد الجبائي ، الذي كان يحضر معه مجالس السماع في مسجد الجبرتي. (الجيلي : الكهف والرقيم ، ورقة 11 ب.) .
ومما لا شك فيه ، أن الجيلى قد ارتبط بعلاقة روحية مع اخوانه من أتباع الشيخ اسماعيل الجبرتي ، ومن هؤلاء المزجاجي ( محمد بن أبي القاسم المزجاجي ، المتوفى 829 هـ ) وهو مؤرخ يمني ألف في تاريخ التصوف كتابا بعنوان :
"هداية السالك إلى أهدى المسالك" .
ومنهم أيضا احمد المعبيدي ( المتوفی 815 ) ومحمد بن شافع ، وقطب الدین مزاحم بن احمد با مزاحم ، والشيخ عبد الله بن عمر المسن ، وأحمد الرداد ..
إلا أن علاقة الجيلي بالشيخ احمد الرداد كانت أقوى من علاقته مع غيره من معاصريه .
إذ لا يذكر الجيلى في مؤلفاته أحد من تلامذة الجبرت ومريديه مثلما يذكر أحمد الرداد ، الذي يتكرر ذكره كثيرا في كتابات الجيلى .
وكان أحمد بن أبي بكر الرداد من كبار صوفية اليمن ، واكبر تلامذة الجبرتي على الإطلاق .
وقد تولى الرداد المشيخة وشيخه الجبرتى على قيد الحياة ، إذ يذكر الرداد بنفسه أن الجبرتي أذن له بالمشيخة ، ونصبه شيخا على الصوفية « ليلة السبت 22 من شعبان سنة 802 بمسجده المعروف بزبيد محضر جمع من الشيوخ والفقراء والمریدین » وبذلك يكون تنصيب الرداد للمشيخة قبل وفاة شيخه بأربع سنوات .
كذلك تولى أحمد الرداد زمام القضاء العام ببلاد اليمن - مما زاد من سطوة الصوفية ونصرتهم على الفقهاء المعادين لهم - وهكذا جمع الرداد بين التصوف والقضاء .. وترجع صلة الجيلي القوية بالشيخ أحمد الرداد ، إلى أن الرداد كان أقرب إلى الجانب الفلسفي من التصوف .
فقد ذكر « السخاوي » أن الرداد كانت لديه فضائل كثيرة ، لكنه كان يميل الى تصوف الفلاسفة. (السخاوي : الضوء اللامع بأعيان القرن التاسع 1 / 260) .
وهذا الجانب الفلسفي من التصوف ، هو ما عنى به عبد الكريم الجيلي ?ا سنرى فيها بعد .
وقد ترك الرداد عدة مؤلفات في التصوف ، فقد وضع شرحا لعبارة الصوفي اليمني ابن جميل التي تقول : څضنا بحرا وقف الأنبياء على ساحله !
وإلى جانب هذا الشرح كانت للرداد عدة تاليف منها :
- عدة المسترشدين وعصمة أولي الألباب من الزيغ والزلل والشك والارتياب.
- الشهاب الثاقب في الرد على بعض أولى المناصب.
- السلطان المبين والبرهان المستبين في ظهور الحجة على كفر أهل السماع من أولياء الله المقربين.
- تلخيص القواعد الوفية في أصل حكم خرقة الصوفية.
وقد كتب الرداد مؤلفاته في شجاعة تامة وحرية فكرية كاملة ، لما كان له من سلطة القضاء الأكبر آنذاك ..
كذلك ترك الرداد ديوان شعر على لسان الصوفية .
وتوفي أحمد الرداد سنة 821 هجرية .
ثالثا أسلوب الشيخ عبد الكريم الجيلي ومؤلفاته :
سأنشئ روايات إلى الحق أسندت …… وأضرت أمثالا لما أنا واضع
وأوضح بالمعقول سر حقيقة ……. لمن ?ان ذو قلب إلى الحق راجع
يتميز الاسلوب الصوفي ، خاصة عند الصوفية المتأخرين - ومن بينهم الجيلي - بعدة خصائص ، أهمها طابع الإستغلاق والالتزام بالرمزية الدقيقة ..
ويرجع ذلك إلى عدة أمور ، منها أن الصوفية كما يقول القشيري (الرسالة القشيرية 1 / 178.) قصدوا إلى استعمال الألفاظ التي يكشفون بها عن معانيهم لأنفسهم ، غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها .
وبذلك يكون الكلام بلغة الرمز والاصطلاح ، أداة يعبر بها الصوفية عن أحوالهم لاخوانهم في الطريق أو لمريديهم ، وتجنبهم في الوقت نفسه الفتنة وإساءة الفهم من قبل العامة والفقهاء.
فالفقيه إذا لم يوفق في أحدى فتاواه ، يقال عنه أنه أخطأ ..
أما الصوفي ، فإن غلط في عبارة قيل إنه كفر؟!
وإذا كان الرمز عند الصوفية ، هو أسلوب عام للكتابة والكلام عن الأحوال الروحية التي يعايشونها.
فإن الصوفية قد وجدوا مثلا للاحتذاء في « القرآن الكريم » يتيح لهم الأخذ بالأسلوب الرمزی ...
فالقرآن جاء ليخاطب ?ل البشر ، وضرب الله تعالى فيه للناس الأمثال ، ليأخذ منه السامع على قدر حاله وعلمه .
وذلك ما نجده في أسلوب كبار الصوفية ، الذين لا يفتأون يحذرون المطالع في كتاباتهم من الوقوع في حقهم والانكار عليهم اذا التبس عليه معنى من المعاني ، ويدعونه إلى الصبر على كلامهم وعباراتهم الرمزية ، حتى يفتح الله على المطالع ، بهذه المعاني التي قصدوا اليها ..
كما كان للصوفية في رسول الله أسوة حسنة ، حين تأثروا بكلامه ونهجوا نهجه ، لذلك فإن اتجاه الصوفية للرمز ومختصر الكلام ، إنما نجد له صدى في قوله صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختصر لي الكلام اختصارا ".
(المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية لابن حجر العسقلاني وله شواهد كثيرة في الصحيح في صحيح البخاري 4/34 , 9/29 , 32,85 .
وفي صحيح مسلم 2/62 - وفتح الباري 13/247 - وسنن الدارقطني 4/144 - كما ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية 1/198- أورده أبو يعلى، والبيهقى فى شعب الإيمان عن عمر. الدارقطني عن ابن عباس ).
ولهذه الأسباب ، إلى جانب بعض المحن التي لقيها الصوفية الاوائل عند استخدامهم اللغة العادية في التعبير لجأ الصوفية لاستخدام الرمز والاصطلاحات الخاصة التي يتعارفون على مدلولاتها ، حتى أننا نجد اصطلاحات رمزية تكون خاصة بصوفي بعينه أو بمدرسة صوفية بخصوصها .
وقد استخدم الجيلي بعض المصطلحات الخاصة في مؤلفاته ، فانظر إليه حين يقول :
( الشيء ) يقتضي الجمع ، و ( الأنموذج ) يقتضى العزة ، و ( الرقيم ) يقتضى الذلة .
وكل من هؤلاء مستقل في عالمه ، سابح في فلكه ، فمتى ?سوت الرقيم شيئا من حلل الأنموذج ، لم تره فيه ، لظهوره بما ليس له ..
ونعني بالرقيم هنا: العبد ، وبالانموذج : قطب العجائب .. الخ.(الإنسان الكامل 1 / 11.).
ومن هنا ، يقتضي النظر في كتابات الصوفية ، الرجوع في احيان كثيرة الى كتب المصطلحات الصوفية مثل ( التعرف للكلاباذي ، الرسالة للقشيري ، اصطلاح الصوفية الشيخ الأكبر لابن العربی ، اصطلاحات الصوفية للقاشاني ، ألفاظ الصوفية ومعانيها للدكتور حسن الشرقاوى ... الخ )
حتى يمكن الاقتراب من المعنى الذي قصد إليه المتصوف ، حتى لا يبدو الكلام وكأنه لا ضابط له .
لكن الأمر الأهم من ذلك كله ، والذي ينبغي علينا مراعاته عند مطالعة تأليف الصوفية حتى يمكن أن تنكشف لنا معانيها .
هو : الذوق .. فالعمل الصوفي في النهاية هو عمل فني ، مفعم بالرموز والايحاءات والتلويحات التي لا تنكشف إلا بضرب من التذوق والاستشفاف ..
فلقد تكلم الصوفية عن معان شاهدوها حين انفتحت عيون قلوبهم ، وانطبقت عيون رؤوسهم ( كما تقول عبارة النفري ) ومن هنا كان علينا أن ننظر إلى كلماتهم بعين القلب .
فإذا نظرنا في مؤلفات الجيلى ، وجدناه - كغيره من الصوفية - يؤثر الاشارة على العبارة ، والتلويح على التصريح ، فلكل كلمة « عباراتها واشاراتها وتصريحها وكنايتها وتقديمها وتأخيرها ». (الكهف والرقيم ( مخطوط ) ورقة 3 أ .) .
وكذلك نجد الجيلي مولعا بضرب الأمثال الرمزية لما يريد أن يقول:
فنجد مثال ( الماء والثلج ) في معرض كلامه عن الحق والخلق .
ومثال ( دُحية ) الذي يقول الحديث الشريف إن النبي رأى جبريل على هيئته ..الخ.
وطريق الأمثال الرمزية ، نجده عند غير الجيلي من صوفية الإسلام الكبار كالشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي و السهروردي الإشراقي .