اهلا بك ايها العاشق الحائر ومرحبا
العشق تعشق , فلا شوق فيه ولا طلب¸ لذا فقد تكون الحيرة هي الوصل.
نقدم لك مودتنا وندعوك الى مائدتنا. لقد تمنت الامم من قبلنا مائدة من السماء لانهم شهدوا روح الوجود فارادوا ان يكونوا صديقين بكل ما يتنزل منها وارادوا ان يذوقوا من ذوقنا وتطمئن قلوبهم, وفي هذه الامة انبسطت المائدة من نفسها فكانت الرحمة فيها عامة والذوق لها بتمام الحمد وكل التسبيح فكان ظاهرها وفقا لباطنها, ومائدة المودة هي تلك المائدة فان المودة في القربى هي اجر الرسالة وشرط الشهادة وهي التذكرة والمشيئة الظاهرة في السبيل الى الله.
يقول الخيام في رباعياته
سمعت صوتا هاتفا في السحر
نادى من الغيب غفاة البشر
السحر لحظة برزخية بين النور والظلمة, والبرزخ فاصل يميز كل من الطرفين بذاته فمن تلك الحضرة البرزخية جاء نداء الغيب في الشهادة لغفاة البشر, (قوموا من نومتكم لتشهدوا انفسكم) وعبر بالنداء لوضوحه وجلاءه مع غفلة من ينادى به لان النداء للبعيد.
يقول الخيام
هبوا املأوا كأس المنى قبل أن
تملأ كأس العمر كف القدر
املؤا كأس المنى أي كونوا كل أمنية لتكونوا انتم الحياة ولا يكن عمركم سطرا من سطور القدر محصورا بامنية هيكلكم.
واختار الكأس وهو ليس كل قدح وانما هو مخصوص لشرب الخمر, لمناسبة السكر والحب -الذي سيذكره في ابيات لاحقة- لما هو بصدده من الخروج من الاعتقال والحدود ورسمها, كما يشير له الشق الاول, وتناسب سكرة الغفلة في الشق الثاني, فان السكران تتجسم له امانيه في الخيال, فيكون بحسب ما تمنى, وقوله عز من قائل: (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) من هذا القبيل, فان الله عند ظن عبده به, فكل واحد من الناس بحسب ما عقده وتمناه, تأخذه سكرة أمنيته فتقام عليه, فكل من تراه فهو في سكر بصورته وما اقتضاه استعداده وما هو ملتذ به ومناسب له, وهو حكم امنيته التي تجلت في هذا السكر والذي غيبه عن ذاته وحقيقته, والى هذا المعنى من الاماني يشير علي بن ابي طالب عليه السلام بقوله (الاماني بضاعة الموتى), لانه منصرف بامنيته الى بضاعة عقده والتذاذه بما يناسب مزاجه واستعداده, فهو ميت مقطوع عن حياته وحقيقته التي تنبع منها كل الاماني.
فهو مثل المقبور في حدود صورته, لا يرى الا من قمقمها ولا يسمع الا من خرمها, يضغطه قبر صورته كل يوم ولا يشعر بهول تلك الضغطة, ملتذا بمسكنه يدور فيه, مندسا باعتقاده, وما انت بمسمع من في القبور المقطوعين عن حياتهم وحقيقتهم التي تنبع منها كل الاماني.
وقول الخيام املأوا كاس المنى يشير به الى سر الهوى, والاماني التي هي جنود الهوى, فان الهوى فيه الممدوح وفيه المذموم وقد ذكرنا من المذموم وجها, في امنية العقد والانصراف الى البضاعة.
ويراد بالهوى أيضا ارادة النفس التي تخالف ما حكم به الحق في هذا الظهور, وهو الهوى الذي يضل عن سبيل الله وهو معنى قد يريده الخيام هاهنا في كأس الأماني بوجه لطيف, لان الهوى لا يظل عن الله اذا كان هو كل الاماني ولم يتحجر بوجه دون وجه, بل يظل عن السبيل وفرقته, فان السبيل لا يريك من الحق الا وجها دون غيره والله لا يحصره وجه بل اينما تولوا فثم وجه الله, ولاجل هذا قال أملأوا كأس المنى يريد السكرة التي هي كل المنى, فيجمع الخيال كله والسكر كله, حيث قامت به كل الاماني وتجلت في نفسه صورا قائمة كل ملتذ بامنيته, فهو حركة في عين السكون وسكر في عين الصحو.
والهوى ايضا هو الحب واستفراغ الارادة في المحبوب, فان الهوى ميل وحركة والحركة حياة, فاذا تعلق الميل كله بالله دون أي وليجة لسوى, فيستجيب لداعي الله والرسول اذا دعاه لما يحييه وما ثم الا داعي الله ورسوله, وما ثم الا حياة, فيكون خالصا من كل شوب وهو الصفاء والحب, , ويلتقي بالمعنى السابق.
وسر الهوى والسكر انه خلاف العقل دائما, لأن السكر يذهب بسلطان العقل وأحكامه, والعقل تعقيل, وهو الربط, فبه يرتسم نظام العالم في نفسك, فهو الذي يربط اناك بوصف وحد يجعلك جزء من نظم العقل ورسمه, فتصير أسيرا لما هو منك, فالتعقل لا يكون الا بان تفصل نفسك عن المتعقل وتفصل المتعقل عن سائر الاشياء, ويسحب الانسان حكم ما يراه من المجالي على نفسه فينظر الى نفسه بعين الخيال والزعم, ويغيب عن حقيقته, فيقوم الهوى في مقابلته لا يمسكه حكم العقل ولا الوهم عن النظر الى عينه, فلا يأخذه حد ولا يقر على مقام, وهذا هو المهم في هذا كله فانه ما كان للأنسان مثل هذا الهوى, لولا ذلك الأصل الذي فيه, ولذا ترى السبع الشداد على عظمها لم تقبل الا صورتها لقوتها وكذا الجبال قد تحجرت لصلادتها وحملها الانسان, لذلك الاصل الذي فيه, وقد أشار الخيام الى ان النقطة وان انفصلت عن البحر, فانها في بعدها قريبه وفي فصلها موصوله بالنظر الى حقيقتها, ورغم ان الهوى من عالم الخيال الا انه هو الذي يخرجك من حكمه, فاهل الهوى في كف القدر وخارجون منه, لان لهم شرابا يسكرهم عن كل رسم ووهم كما قال علي عليه السلام:
ان لله لعباده شرابا اذا شربوا سكروا
واذا سكروا طربوا
واذا طربوا طابوا
واذا طابوا ذابوا
واذا ذابوا وصلوا
واذا وصلوا اتصلوا
واذا اتصلوا قتلوا
واذا قتلوا فلا فرق بينهم وبين حبيبهم
هذا هو الشراب الطهور لاهل الجنة الذي لا يبقى معه حاكم الا الله, فكن يا حبيبي من أهل الهوى وتذوق شراب الاطهار, يحير فيك العقل, فانه لما راى ان كل ما ظهر فانه انما ظهر عنه ظن ان الامداد منه, وظل مختالا الى ان راى هؤلاء الاطهار اهل ذلك الشراب فحار فيهم كلما اراد ان يضبطهم في رسم وجدهم قد تجاوزوه فلا يضبطهم شئ, فعلم العقل حينها انه ليس سر الامداد والا لم يخرجوا عن رسمه, وعلم ان لهؤلاء نظرا لعين لا يتمكن هو ان يراها, فهم في الاكوان وليسوا فيها, فعرف العقل قدره ولم يجد له عينا وراء ذلك فسكن عند حده, ذليلا إذ علم ان لاهل الهوى وصلة بمن لا ينطق عن الهوى, وان لاهل الاستخلاص والتقلب وصلة ومناسبة ذاتية بمن له الدين الخالص, فهم كف القدر في كل تقدير ملأوا الكأس بحياتهم, مستفرغين ارادتهم في محبوبهم, فلا يقرلهم قرار حتى يخرجون من كل اسم ورسم.
يقول الشيخ ابن عربي
عبد الهوى ابق عن ملك مولاه
وليس يخرج عنه وهو تياه
الحر من ملك الاكوان اجمعها
وليس يملكه مال ولا جاه
فان تعرض للتكوين ابطل ما
قد كان اصله من ملك مولاه
يقول الخيام
لاتشغل البال بماضي الزمان
ولا بآتي العمر قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته
فليس في طبع الليالي الأمان
لا يأخذك الحد لا يصبغك بصبغته فلا ترى الا صبغة إناءك في كل شئ
لا يشغلك الماضي فهو رجل ميت تجره وراءك
ولا يشغلك المستقبل فانه محض خيال, انت ابن اللحظة المطلقة التي هي كل لحظة انت صاحب الزمان.
اياك ان تتوهم ان الكمال خارجك, فتكون في رق لا مخرج لك منه, الحقيقة تكمن فيك فاحياها في نفسك, ولا تتلفت الى سوى, ان طلبك لكمال خارجك هو رسم للنقص فيك , وانت بحسب ما رسمت, وليس للساحر ان يجري سحره فيمن يرى انه اكمل منه, فانت الذي حجرت واسعا, فاذا اردت حقيقة الكمال فاطلبها في النقص
يقول الشيخ ابن عربي
واني لاهوى النقص من اجل من اهوى
لان به كان الكمال لمن يدري
ان بقيت تطلب امنية هيكلك سوف تبقى في التخارج وسوف لن تعيش لحظتك, لانك تراها نقصا فتطلب ما بعدها, ولن تجد مطلوبك فيها أبدا, لان الاطلاق الذي تطلب لن تجده الا في حريتك التي هي عين كل قيد, فتحرر يا حبيبي لمّ تكن عبدا وقد خلقنا الله أحرارا.
فاغنم من الحاضر لذاته, أي كن لذة كل شئ بنفسه, فانه ما ظهرت الاشياء الا ولها التذاذها الذي به ظهرت وفق استعدادها, فكن لذة كل شئ بنفسه فانت كل شئ.
كن ملاء اللحظة
احيها بكليتك فليس في الآنة الا الله.
انتظر اجابتك اخي العاشق الحائر فان رضيت فتلك امنية, وان طلبت المزيد من الحديث عن الابيات فنحن معا على مائدة المودة, وان لم تقنع بهذا ولا ذاك فلنغص في كأس لا يعرفها زمان الخيام لنخرج من الصحو والسكر معا.