مقال: أسماء السكوتي
المقال خاص بـBoring Books
من الحكايات ما قتل، ومنها ما خدع، ومنها كذلك ما أنجب حكايات أخرى لا حصر لها؛ حكايات قد لا تمدنا بجديد عن الحكاية الأم، بقدر ما تطلعنا على رواتها وكيف كيَّفوا الأصل لرؤاهم وحَيَّنوه ليناسب واقعهم. حكاية قابيل قاتل هابيل واحدة من هذه الحكايات الولَّادة التي لم تتوقف عن الإنجاب منذ الزمن الأول، ورغم بداياتها المقدسة التي كانت كفيلة لتثبيتها في صورة واحدة، إلا أنها ما لبثت تتطور وينضاف إلى أحداثها تفاصيل وصور يختلط فيها الخيال بالمقدس والرمزي. لاحقًا، سينتقل قابيل للسينما والأدب لتنقلب رمزيته رأسًا على عقب؛ بدلًا من أن يكون المجرم الأول في التاريخ الآدمي، سيغدو أبًا للقُبَحاء والمنبوذين ولكل أولئك الذين يعيشون بلا أرض. لفهم تحوُّل قابيل من شخصية مغضوب عليها سماويًّا إلى شخصية مأساوية بشرية تثير من التعاطف أضعافَ ما تثير من الغيظ، لا بُدَّ من الوقوف عند ثلاث نقط محورية: أولها، اللعنة التي تلت الجريمة وحكمت على قابيل بالغربة، ثانيها، الفئات التي نسبت إلى قابيل ونصبته أبًا عليها، وأخيرًا، البعث الرمزي لقابيل في الأدب والسينما وكيفية تَحْيينه ليرمز للمرفوضين في كل زمن ومكان. سيعتمد المحوران الأول والثاني على العهد القديم وقصص الأنبياء والتفاسير، لن يأتيا بجديد، ذلك أن رهانهما هو بناء التصور الديني الذي يوحِّش الشخصية قبل الانتقال لنصوص رمزية أربعة (ثلاث سينمائية ونص روائي) انتزعت من قابيل وحشيَّته وبَأَّرَتْ إنسانيته ومعاناته.
1. اللعنة: التيه والبقاء
لنبدأ من الإصحاح الرابع في سفر التكوين. تبدأ القصة بولادة قابيل (أو قايين بالتعبير اليهودي) الابن البكر لآدم والعامل في الأرض. بعد زمن لا نعرف مداه يقف الابن البكر والفلاح مادًا بثمار أرضه للرب، وبجواره أخوه هابيل مربي الماشية الذي يدفع قربانًا «من أبكار غنمه وسمانها»[1]. من المثير أن نلاحظ، أن مَن سيغدو لاحقًا قاتلًا هو مَن قدَّم الزرع وثمار الأرض، فيما قدَّم المقتولُ الدمَ! نحن الذين أتينا بعد انقضاء هذه الأحداث بزمن، ندرك من تعاليم الديانات السماوية الثلاثة أن القرابين لا بُدَّ أن تكون من لحم ودم، ولكن كيف كان لقابيل أن يعرف آنذاك، ألم يكن يقدم نتاج يده وما تتيحه وظيفته كعامل في الأرض؟ لاحقًا، في تفسير قصة الأخوين في التراث الإسلامي، اعتذر العلماء (ابن كثير، الجزائري، الكاشاني...) لعدم قبول قربان قابيل بأنه قدَّم زرعًا رديئًا، بينما قدَّم أخوه أسْمَن ماشيته. بالعودة إلى العهد القديم، نجد أن الرب نظر إلى قربان هابيل، وأشاح بنظره عن قربان الأخ الأكبر. إثر هذا الإنكار أو التعامي تدب في قابيل نيرانُ الحسد، ويقتل أخاه، لتحل عليه لعنة الرب الذي يعلن:
«فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها. تائهًا وهاربًا تكون في الأرض». فقال قايين للرب: «ذنبي أعظم من أن يُحتَمل. إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض، ومن وجهك أختفي وأكون تائهًا وهاربًا في الأرض، فيكون كل من وجدني يقتلني». فقال له الرب: «لذلك كل من قتل قايين فسبعة أضعاف يُنْتَقم منه». وجعل الرب لقايين علامة لكيلا يقتله كل من وجده».[2]
هنا نحن أمام عقوبتين؛ العقوبة الأولى هي التيه والغربة الأبديَّتيْن، أما الثانية فهي تحريم قتل قابيل ليُترَك هكذا مع ذنب جريمته وغربته إلى ما شاء الله. من الجلي أن المنطق الذي يحكم العقوبتين هو «العقاب من جنس العمل»، وكما تُقْطَع يدُ اللص ولسانُ الكاذب، فإن عقاب القاتل لا محيص من أن يكون في حرمانه من الموت باعتباره خلاصًا ونهاية. أما العقوبة الأولى، أي الحرمان من الأرض والاستقرار، فتخضع بدورها للمنطق ذاته، إذ ما الذي سيكون أشد وطأةً على رجل لا يعرف غير الحرث والزرع، من أن يضيع في بلاد الله الواسعة دون أرض. ولكن، إذا كان العهد القديم قد اكتفى بهاتين العقوبتين المتناسبتين مع جريمة الشخص ونمط حياته، فإن التراث الإسلامي قدَّم تفسيرات وتفاصيل أخرى للعنة، وبدلًا من الاكتفاء بالغربة والبقاء الأبدي، أضاف لعذاب قابيل تلوينات أخرى. نقرأ مثلًا عند ابن كثير (701 – 774 ه):
«ذكر بعضهم أنه لما قتله حمله على ظهره سنة، وقال آخرون حمله مائة سنة! ولم يزل كذلك حتى بعث الله غرابين...»[3]
ويضيف الفيض الكاشاني (ت.1091) في التفسير الصافي:
«قتل قابيلُ هابيلَ وتركه بالعراء لا يدري ما يصنع به فقصده السباع فحمله في جراب على ظهره حتى أروح وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله فبعث الله غرابين فاقتتلا...»[4]
يضيف الراوندي (ت. 573 ه) إلى الاثنين أن قابيل اختفى في الجبل هاربًا من آدم، ولم ينزل منه إلا لما مات ليقابل شيث (أو «هبة الله» كما يُسْمَى في التراث الإسلامي).[5] في الروايات الثلاث، يقترن عذاب قابيل الذي امتد سنة أو مئة سنة بهربٍ وحركة مستمرين، إما خجلًا من مواجهة الأب، وإما لحماية الجثة من السباع. وهكذا، تمتد الغربةُ المثقَلة بالذنب المعنوي، وبالجثة الحقيقية التي تعلن عن نفسها بثقلها على ظهر القاتل وبرائحتها التي تمنعه من أن يضعها أرضًا. ولكن، يبدو أن صنوف العذاب هذه لم تكن كافية، فبمجرد موت آدم ودفن هابيل تبدأ سردياتٌ أخرى أكثر درامية، وهذه المرة مع تفاصيل أدق ووطأة أشد. نقرأ في قصص الأنبياء للجزائري توظيفًا جديدًا لعقوبة الحركة الأبدية؛ هذه المرة لا يتحرك قابيل وإنما الشمس هي التي تدور به:
«إن قابيل بن آدم مُعلَّق بقرونه في عين الشمس تدور به حيث دارت في زمهريرها وحميمها إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة صيَّره الله الى النار».[6]
يأبى الرواندي أن يبقى عقاب قابيل محصورًا على الشمس وحدها، فيضيف إليها ملكيْن مُوكَليْن به «يطلعان به مع الشّمس إذا طلعت، ويغربان به مع الشمس إذا غربت، وينضجانه بالماء الحار مع حر الشمس حتى تقوم الساعة».[7] أما الشيخ حسين الديار البكري، صاحب تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس، فيضيف تأويلًا جديدًا للعنة، فبدلًا من تعليقه في الشمس من قَرنيْه يزعم أن ملكًا كُلِّف بجرِّه والطواف به حول الأرض سبع مرات، يقول:
«دعا آدمُ على قابيل فأمر اللهُ تعالى الأرضَ بأن تخسفه فخسفته إلى ركبتيه ثم كان من مناجاته (يا رب أنت أرحم الراحمين لا تترك رحمتك لذنبي) فأمر اللّه الأرض أن تطلقه وأتاه ملك فكسر رجليه ويديه وقيده وغله وطاف به مجرورًا على الأرض في الدنيا كلها سبع مرَّات وكان يُعذَّب في هذه الطوفات في الشتاء بجبال الثلج وفي الصيف بجبال النار».[8]
تمتد السردياتُ لتخبرنا أن اللعنة لم تشمل قابيل وحده، بل وكذلك الأرض ومن عليها، لتعلن أن التناغم والانسجام في الكون قد اختلَّا لحظة الجريمة، جاء في حياة الحيوان الكبرى للدميري:
«وكان قبل ذلك السباع والطيور تستأنس بآدم، فلما قتل قابيل هابيل، هربت منه الطير والوحش، وشاكت الأشجار، وحمضت الفواكه، وملحت المياه، وأغبرت الأرض».[9]
هروب الحيوانات، الشوك، الحموضة والغبار: أربع إشارات على اختفاء آخر لمحات الجنة، وبدء معاناة بني آدم؛ أو بالأصح بني قابيل، ذلك أن لأبناء شيث المستقرين في مكان واحد أن يدجنوا من البهائم ما شاؤوا، أن ينتظروا نضجَ الثمار دون أن يذوقوا حموضتَها، أن يتعرَّفوا على عذب المنابع دون التعرض لمالحها، ولهم كذلك أن يحتموا من الغبار إذا ما هاج ببيوتهم. من جهة أخرى، ليس للغريب والتائه إلا ما تَمن به الصدفةُ صببًا من العذب والناضج. هكذا، تتواصل عذاباتُ قابيل من شمس حارقة وأرض شائكة إلى أن يقتله ابنه الأعمى حسب رواية الطبري[10]. ولنلاحظ هنا أن العمى ضروري للحكاية، ليس فقط لأن كل أبناء قابيل مقترنون بعيوب خَلقية وخُلقية (كما سنرى في المحور التالي) بل كذلك لأن الأعمى وحده من لا يرى الإشارة المثبتة على جبين قابيل، لوصمه بأبدية العذاب وتحريم الموت.