بسم الله الرحمن الرحيم
(فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه)
السلام عليك ايها المحب ورحمة الله وبركاته, قال بعض الاحبة ايقنت اننا هنا حسب ميعاد معلوم, وها هي ذي مصاديق كلمته, فقلوب اهل الله مهما تقلبت في الاعصار والامصار, الا انها تحن الى بعضها, لأجل شجنة ورحم وراء كل انتساب..
وقد أتى بك الله أيها المحب الى دارك ومنتداك واهل مودتك, والبدايات تنبأ عن النهايات, فبدايتك كانت كلمة من كلمات أبي يزيد, ورغم سروري بسؤالك عنها, الا ان المقام يضيق عن الحديث فيها وفي امثالها, ولا بأس بالإشارة هنا الى نكات قريبة وبعيدة تحوم حول الحمى, وتشير اليه.
ونقول : للخدعة معان كثيرة في اللغة, فالخديعة اسم من خدع الضب في جحره إذا دخل أو من خدعت العين إذا غارت، أو من خدعه إذا ختله, فالخدع : إظهار خلاف ما تخفيه, ولفلان خلق خادع إذا تخلق بغير خلقه, لأنه يخفي خلاف ما يظهره، والخيدع هو الذي لا يوثق بمودته, والخيدع هو السراب لذلك , والخداع يتضمن معنى الاستتار والخفاء, فيقال خدعت أي استترت وتغيبت.
والخدعة بتلك المعاني المختلفة يذكرها أهل الله تنبيها لأهل الطريق لمعان في انفسهم, كي لا يغفلوا عن طلب الحقيقة فيهم ولا ينشغلوا بهم عنهم, فمثلا ان وجود شيئ خارجا عنك لا يكون إلا بعد تميزه بصفاته عن صفاتك, فافتراض مغايرته تحديده وتحديدك في نفس الوقت, وليس معنى ذلك إنها مسألة افتراضية, ولكن بمعنى انها سعة إدراكك وعلمك, ومثالها ما كنت عليه قبل عشر سنين مثلا كانت لك حدود من الإدراكات والتصورات و العقائد, والآن اتسعت ادراكاتك ورقعة تصوراتك واعتقاداتك, فأين ذهبت تلك الحدود التي كانت تحدك من قبل؟!! لقد تمزقت, ولم تعد تحتويك الآن, بل صرت أنت حاويا ومحددا لها..
سوف نعبر عن مثل هذا المعنى أنك أدركت سر هذا الحد ولم يعد خافيا عليك يعني لم تعد تخدع به لان من معاني الخدعة الخفاء, وانكشاف سره ليس بطيه والغياب عن معناه بل بالوسع له واحتوائه بحيث لم يعد يحدد النفس ويحكمها, ولنضرب لهذه السعه وانكشاف سر الاشياء والخروج من خدعتها مثلا حسيا بالرجل الذي يقف وراء الستارة ويمسك بدميتين يحركهما ويتحدث من خلالهما بما يضحك الناس مرة وبما يحزن الناس أخرى, إن الضحك والحزن هنا له معنى ما دامت الستارة قائمة, وأما إذا لم تحجبك الستارة عما وراءها, أو ظهرت لك الحقيقة وسقط الستار وظهرت لك جلية الحال وان الحزن والفرح ينبعان من عين واحدة, فسوف لن يكون لهما حكم عليك بعد ذلك, والأمر أبين في خروجك من الحكمين مع وجودهما لو كنت أنت الواقف وراء ذلك الستار, لقد بطلت بحقك هذه المسرحية وانكشفت خدعتها حين كنت أنت المحرك للدميتين, ولم يعد لها حكم عليك لانها انت..
فمتى خفي علينا سر شئ فلا نأمن من خدعته, فان الخدعة الختل والاخفاء, ومتى عرفت سره بان تكون انت ذلك السر اكتشفت انك كنت مخدوعا عن نفسك, وهذا كمن يرى ظله قد انعكس له من بعيد فيهوله منظره وكلما اقترب يراه انه تنطبق حدوده على حدوده, الى ان يرى ان ذلك الكبير الذي هالته عظمته, ليس الا ظلا له, وأنه هو السر فيه..
فالخديعة ونظائرها كالختل والغرور كلها تكون بسبب الخفاء والغياب عن سر الشئ بهذا المعنى, ولذا نجد ان العقود تأتي فيها الخلابة والمخادعة, بخفاء حقيقة الأمر فيها, فناخذ العقد بظاهره فنخدع بزخرفه ونغيب عن حقيقته ومعناه ولو وقفنا على سره لبطلت خدعته بحقنا..
وما اجمل ما قال الشبلي:
(لو دبت نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء, ولم أشعر بها أو لم أعلم بها, لقلت انه ممكور بي)..
فما دام الانسان لم يقابل نسخة العالم حرفا بحرف, لم يأمن من المكر لانه يكون مدرجا في الخيال, لذا قال ممكورا بي, وهكذا في كل ما غاب سره ..
والى ذلك أشار سهل التستري بقوله :
للربوبية سر لو ظهر لبطلت الربوبية .....وهو رضي الله عنه يعلم ان الربوبية لا تبطل أبدا ولكن يقصد حكمها بحق هذا المتحقق الذي عرف سرها من نفسه, فعرف انها سارية في كل شئ, وان العالم لا يخرج عن معبوديته لربه, وكذلك كلماته الاخرى الشبيهة بهذه, فانه حين يتحدث عن سر النبوة فانه لابد من وجود الدرجات لكي يكون الانباء, ومن تحقق من نفسه ان الله سبحانه هو عين الدرجات عرف سر النبوة..
وهكذا في اقامة النبي صلى الله عليه واله وسلم, الصلاتين فانه هناك يرى مرور الخلق على الحق, وهو مرور مطلق, واما ان رجع الى ذاته فلا انباء, لأن الإنباء هو إنباء الباطن للظاهر, ولا صلاتين هناك في فرديته, وفي مقام تجرده التام يكون له صلى الله عليه وآله وجها للذات, لا يسعه فيه شئ الا ربه, فهو غير منسوب لأي وصف كان ما كان حتى كونه عالما نفسه بنفسه, وهذا فراغ تام غير قابل لاي اعتبار حقي او خلقي كان ما كان ...
والواحد هو الاحد ان خلا من الاعتبار والانقسام, بل له صلى الله عليه واله إدراك سر الأحدية الذاتية التي هي تعقل نفسه حسب, إذ لا مجال لإزاء او تلقاء هناك, والأحدية هي تعين الذات في تعقله نفسه, وأما الذات الصرفة والهوية الغيبية المسقطة لكل اعتبار, فلا حديث عنها أصلا.
وابو يزيد رضي الله عنه انما يشير بكلامه هذا الى انه محمدي, وقد نبهه على ذلك من قبل جعفر بن محمد الصادق عليه السلام حين قال اشم فيك رائحة جدي رسول الله صلى الله عليه واله, ويشير ابو يزيد بعبارته المزبورة انه عرف سر تلك المراتب العرفانية.
ومثل هذه العبارات يضيق الكلام عنها, فليعذرني اخي المحب, على اختصار الاجابة, وتفريق مقدماتها عن نتائجها, وله علي الانبساط في غير هذا السؤال, وأسئل الله أن يوفقه بأن يوافق بينه وبين تلك المعاني..
وشكرا لك أيها المحب الحبيب.
.
الرئيسية 