الباز الأشهب الجيلاني في الرحاب البياني
هو شيخ مشايخ الطريقة وقلب علم الحقيقة ، الباز الفار إلى الجبار من صحبة الأغيار ..
بسم الله الرحمن الرحيم : ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ )[الذاريات : 50] ..
إن أهم ما يميز تاج الأولياء الإمام " عبد القادر الجيلاني " رحمه الله تعالى، عن أقرانه من أهل الولاية، هو أنه رضي الله عنه، جدد النهج الصوفي وأعاده إلى عصره الذهبي في عصر الفتن الكلامية والباطنية، ليكون في إطاره الصحيح الموافق للقرآن والسنة وآثار السلف الصالح في القرون الثلاثة الأولى خير القرون، وفق خبر سيد المرسلين عليه أتم الصلاة و أفضل التسليم ..
عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، قال عمران : فما أدري : "قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله مرتين أو ثلاثا" ، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يفون ، ويظهر فيهم السمن )، رواه الشيخان البخاري [6438] ، ومسلم [2535] في الصحيح، والترمذي في السنن برقم : 2302، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" برقم :2302 وفي "صحيح النسائي" برقم : 3818، وحكمه : [متفق عليه] ..
وكان يقول رضي الله عنه للدعاة في عصره : ( إن في الإسلام كنوز ينبغي أن تستغل، وطاقات روحية ينبغي أن تستثمر، وضياعها ضياع لعناصر هامة في الدعوة، وقصور في كمال الإسلام، ونقص في تصوره وشموله،ألا هي التزكية والتربية، و العناية بصفاء الروح ونقائها، ومعرفة دقائق التوحيد، وعلم الإخلاص ، وحقيقة اليقين )، ورد في "سلسلة أعلام المسلمين" دار القلم [ج45/ص: 22]..
لقد أوجز رضي الله عنه، مضمون الدعوة إلى الله في ثلاثين كلمة فقط فهكذا يكون العالم الرباني ..
لقد أعاد رضي الله عنه، للتصوف روحه وصفاءه وأزال الشبهة عنه، وجاهر بحقائقه وسبق بذلك أسلافه وأقرانه عدا الرفاعي الكبير رضي الله عنه، وأدرج ذلك بسعة بيانه وقوة حجته، بما تقبله العقول، ولو لا ذلك لم اجتمع في مجلسه أو درسه في فلاة بغداد،أكثر من سبعين ألف مريد ومتعلم ومستمع ومحب في آن واحد ..
وقد صنف رضي الله عنه الصوفية إلى اثنا عشر طائفة واحدة في الجنة، وهم من كانت أقوالهم وأفعالهم توافق الشريعة والطريقة والباقي أهل بدعة و هم وفق تصنيفه رضي الله عنه: ( الحلوية، والحالية، والأوليائية، والثمراخية، والحبية، والحورية، والإباحية، والمتكاسلة، والحدية [المتجاهلة]، والوافية، والهامية ..
1. الحلوية: .. يقولون النظر إلى الوجه الجميل من النساء والأمرد حلال، وفيه صفة الحق ... وهذا كفر محض ..
2. الحالية: .. يقولون الرقص وضرب اليد حلال، ويقولون للشيخ حالة لا يعبر عنها الشرع، وهذه بدعة ..
3. الأوليائية: .. يقولون إذا وصل العبد إلى مرتبة الأولياء سقطت عنه تكاليف الشرع ؟؟!، وهذا باطل لا يقبله الشرع ..
4. الثمراخية: .. يقولون الصحبة قديمة، و بها يسقط الأمر والنهي ..
5. الحبية: .. يقولون إذا وصل العبد درجة المحبة عند الله تعالى، تسقط عنه التكاليف ؟؟! ..
6. الحورية: .. كالحالية، لكنهم يدعون وطئ الحور في حالاتهم ..
7. الإباحية: يتركون الأمر بالمعروف، ويحلون الحرام ويبيحون النساء ..
8. المتكاسلة: يتركون الكسب بدعوى ترك الدنيا فيتسولون ..
9. المتجاهلة [الحدية]: يظهرون الفسق، ويدعون الإيمان في بواطنهم، وهو أعلى درجات النفاق ..
10. الوقفية: .. يقولون لا يعرف الله غير الله فقط، فيتركون طلب المعرفة فسبقوا بإثمهم إثم المرجئة الجهمية ..
11. الهامية: تركوا العلم، ونهوا عن التدريس، وتابعوا الحكماء، واستبدلوا القرآن بالأشعار ..
وهؤلاء جميعا ادعوا بالافتراء أنهم أهل السنة والجماعة ؟؟ ! ..
وهذا محض افتراء باطل، فأهل السنة والجماعة من كان على أثر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد كانوا أهل الجذبة بقوة صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم انتشرت تلك الجواذب بعد الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، إلى مشايخ الطريقة، ثم تشعبت إلى سلاسل كثيرة، حتى ضعفت وانقطعت عن كثير منهم، فبقي منهم أهل الرسوم، وتشعب منهم أهل البدعة )، ورد في "سر الأسرار" للجيلاني [ص: 140و141] ..
وكان يقول رضي الله عنه : ( كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة، طر إلى الحق بجناح القرآن والسنة ) ..
وقد كان رضي الله عنه ممن يدعون للصدق ويصدقوه بالعمل، فتوافقت رغبته مع إرادة الله فتاب على يده بعون الله، أكثر من مائة ألف فار، ورد إلى الإسلام بنصرة الله، آلاف اليهود و النصارى ..
بسم الله الرحمن الرحيم : ( وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [33] لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ) [الزمر : 34] ..
فكان جهبذ عصره عملا بالأثر القدسي : ( من رد إلي فارا كتبته عندي جهبذا، ومن كان عندي جهبذا فلن أعذبه أبدا ) (1) ..
وكان رضي الله عنه ممن اختصه الله بقضاء حوائج الناس وجبر عثراتهم لينطبق عليه الأثر القدسي القائل : ( إن لي عبادا اختصصتهم بقضاء حوائج الناس، حببتهم بالخير وحببت الخير بهم، أولئك الآمنون من عذابي )(1) ..
وسمي الشيخ الجيلاني رحمه الله تعالى، بالباز الأشهب لبعد نظره بالحق، وحدة بصيرته، وتحلقه بدرجات القرب بجناحي الشريعة والحقيقة ..
والأشهب هو اللون الرمادي وهو نتاج الجمع بين اللونين الأبيض والأسود، أي الجمع بين علم الظاهر والباطن، والرغبة والرجاء، والمعرفة والولاية، وهو الذي استوى عنده الزهد بالدارين لاستواء وجهته لله دون سواه ..
وصدق من قال: ( قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرون، وأجنحة تطير بغير ريش إلى ملكوت رب العالمين ) ..
يروى أن بعض مريديه تكلموا أن الشيخ الجيلاني لا يقاربه الذباب، فعندما وصله الأمر إلى مسمعه قال : ( وإلى ماذا يأتي الذباب ؟!!، لا دبس الدنيا ولا عسل الآخرة ) ..
نعم هو الباز الأشهب تاج الأولياء الذي تخلق بخلق الله عز وجل، وتأدب بأدب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ..
أذن من كبار عارفي عصره الربانيون وهو الإمام الغوث الهمداني، وجارى بالعلم والفهم الغوث الصمداني عبد الخالق الغجدواني، وكان منارة وضياء كقرينه إمام الأولياء الرفاعي الكبير أحمد المحامد و الصفات ..
يقول رضي الله عنه : ( قدم رجل من همدان يقال له "يوسف الهمداني" رحمه الله تعالى [من سلالة السادة النقشبندية ومن الأبدال، انتهت له تربية المريدين في خراسان توفي عام 535 هـ ودفن في مرو]، وكان يقال له القطب [الغوث]، ونزل في رباط فنزلت إليه فلم أره، فقيل لي : هو في السرداب [يعقد الخلوة النقشبندية]، فنزلت إليه، فلما رآني قام وأجلسني، ثم ذكر لي جميع أحوالي، وحل لي ما أشكل علي، ثم قال لي : { تكلم على الناس }، فقلت يا سيدي أنا أعجمي، فكيف أتكلم على فصحاء بغداد، فقال لي : { أنت حفظت الفقه وأصوله والخلاف والنحو واللغة وتفسير القرآن، و لا يصلح لك أن تتكلم ؟!، اصعد على الكرسي وتكلم، فإني أرى فيك عذقا [العذق عنقود البلح]، سيصير نخلة } )، ورد في "سير أعلام النبلاء" للذهبي [ج20/ص: 439و440] ..
وهذه الحادثة لها روايات عدة ومنها ما رواه العلامة "ابن حجر الهيتمي" رحمه الله تعالى، في {الفتاوى الحديثة}، وفق ما رواه إمام الشافعية في عصره "أبو سعيد عبد الله بن أبي عصرون" رحمه الله تعالى، ومن بين ما روى هذا الإمام أنه قصد الغوث الصمداني "أبو يعقوب يوسف الهمداني" رحمه الله تعالى، برفقته ابن السقا والشيخ الجيلاني عندما كان في ريعان شبابه، فبيت كل منهم نية وقصد، فابن السقا أراد أن يعجزه بالسؤال، وابن أبي عصرون أراد أن يختبر مدى علمه، أما الشيخ عبد القادر رضي الله عنه فقال : ( معاذ الله أن أسأله شيئا، أنا بين يديه أنتظر بركة رؤيته ) ..
فلما دخلوا عليه أعطى كل منهم وسؤله وقال للباز الجيلاني بعد أن أدناه وأكرمه : { يا عبد القادر لقد أرضيت الله ورسوله بحسن أدبك، كأني أراك ببغداد، وقد صعدت الكرسي متكلما على الملأ وقلت : ( قدمي هذه على رقبة كل ولي ) [أي ما قدمته من الخير والعلم كان على عاتق كل ولي من أولياء الله]، وكأني أرى الأولياء في وقتك وقد حنوا رقابهم إجلالا لك }ا هـ
قال ابن أبي عصرون : ( فأما الشيخ عبد القادر قد ظهرت أمارات قربه من الله، وأجمع عليه الخاص والعام، وقال : قدمي .... الخ، وأقرت الأولياء في وقته له بذلك )، ورد في "الحدائق الوردية" للخاني [ص: 342و343]، وفي "المواهب السرمدية" للعلامة الزملكاني [ص: 86و87] ..
كان بلقائه مع الغوث الهمداني الذي أذنه بالإرشاد تحول نوعي في حياة الباز الأشهب قدس سره ..
وظهر إبداعه وتميزه ..
فقد قسم رضي الله عنه ، أتباع نهج التصوف إلى ثلاثة أقسام هي :
• عباد الصوفية : وهم المقلدون المتبعون المحبون من باب حسن الظن بالمرشد يربطهم به رابطة المحبة والطاعة ..
• متعلمي الصوفية : وهم المتصوفة الذين تلقوا منه بالقسط مدارك الإيمان و مدارج التقوى وحظوا بحسن تبعيتهم وامتثالهم لأوامره رضي الله عنه ، بالحق إلى كمال الإيمان وحق التقوى وهو اليقين ..
• علماء الصوفية : وهم الصوفية الذين تدرجوا وترقوا بفضل الصحبة وارتباط قلبوهم مع قلب ذو المقام الرفيع وريث الجد الأكبر سيد الدعاة صلى الله عليه وآله وسلم ، ففازوا بفضل العروج والعرفان بطور مقام الإحسان ..
فبهذا الشكل تمكن رضي الله من تعميم نهج التصوف وتعميم الانتفاع منه ..
ولأن علم التصوف علم أذواق لأحوال الجنان فقد حرضه في قلوب العباد المقلدين المطيعين له والمحبين بتهيئهم والربط على قلوبهم بإذن الله، وجعلهم يرتادوا في ركاب الجهاد في سبيل الله لينالوا من التصوف جانب من جوانب هذه الأذواق ولو أحوال دون مقامات فيعشوا مسلمين ويموتوا شهداء للحق مؤمنين يبعثون يوم القيامة دمهم بلون الزعفران وريحهم كريح المسك كما ورد بالأثر ..
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من جرح في سبيل الله جاء يوم القيامة ريحه كريح المسك، ولونه لون الزعفران، عليه طابع الشهداء، ومن سأل الله الشهادة مخلصا أعطاه الله أجر شهيد وإن مات على فراشه )، ورد في "كنز العمال" للمتقي الهندي برقم : 11144، رواه ابو داود [2541]، في سننه بمضمون اللفظ، وصحح لفظ رواية أبو داود الألباني في" صحيح أبي داود"، ورواه ابن حبان [3191] في صحيحة، واستشهد به الإمام أحمد في فهرس مسنده، وحسن الألباني هذا اللفظ في "السلسلة الصحيحة" [2556]، وقال في "صحيح الترغيب" [1324]: حسن صحيح ..
لقد كان للإمام "أبو محمد عبد القادر الجيلاني" رحمه الله تعالى، ثم للإمام "أبو المحاسن الحسين قضيب البان" رحمه الله تعالى، دور رائدا ومفصليا في صنع جيش الناصر لدين الله السلطان "صلاح الدين يوسف الأيوبي" رحمه الله تعالى، وصنع نصر حطين ضد لغزو الصليبي، وفتح ثالث المقدسين ..
وكان دافعه للتعميم في تصوف الدين، التزكية والتأدب وبرودة اليقين، تماشيا مع خطى جده الأكبر سيد المرسلين الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان يقول : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )، رواه البيهقي في "سننه الكبرى" [21379]، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" [ج9/ص: 18]: رجاله رجال الصحيح، وقال الحاكم النيسابوري في "المستدرك" [4221]: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الزرقاني في "المقاصد الحسنة"، حكمه :[صحيح] ..
و الذي يقول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم : ( من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار )، ورد في "الإحياء" للغزالي في كتاب العلم وله شاهده المرفوع المثبت برواية ابن عبد البر، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه : ( ما أنزل الله شيئا أقل من اليقين ولا قسم شيئا بين الناس أقل من الحلم ) ..
واصطبغ رضي الله عنه من جده بصبغة الرحمة بالأمة والسعي على منع انجرافها في الضلالات والبدع التي كانت سائدة في هذا العصر، ولخطورة الإنكار التام أو الإعراض عن علم التصوف على سوء الخاتمة ..
يقول الإمام "أبو الحسن الشاذلي " رحمه الله تعالى : ( من لم يكن له نصيب من هذا العلم [التصوف], أخشى عليه سوء الخاتمة, وأدنى النصيب منه التصديق به والتسليم لأهله ) ..
بين رضي الله عنه علم السلوك بأسلوب سهل هين وعزب شيق بليغ يجذب اللباب ويستهوي المستمع المهاب، فكان يقول في الإيمان مثلا : ( الإيمان قول باللسان، ومعرفة في الجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، ويقوى بالعلم، ويضعف بالجهل، و بالتوفيق يقع )، ورد في "الغنية" للجيلاني [ج1/ص: 62] ..
فالإيمان في ميزان عقيدة الإمام الجيلاني رحمه الله تعالى، ينقص ويزيد ويقوى ويضعف ؟؟ !! ..
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم )،صححه الألباني في"صحيح الجامع" [1590]، وحسنه السيوطي في "الجامع الصغير" [1957]، والهيثمي في " مجمع الزوائد" [ج1/ص: 57]، وقال الألباني في "السلسلة الصحيحة" [1585] : رجاله رجال مسلم غير عبد الرحمن بن ميسرة وهو حسن الحديث، وقال الحاكم النيسابوري في "المستدرك" [5]: هذا حديث لم يخرج في الصحيحين، ورجاله مصريون ثقات، واحتج به مسلم في الصحيح ..
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( جددوا إيمانكم )، قيل: يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( أكثروا من قول لا إله إلا الله )، رواه الإمام أحمد في "مسنده" [8493]، وصححه السيوطي في "الجامع الصغير" [3581]، وحسنه كل من أحمد شاكر والهيثمي وابن الغزي والمنذري والدمياطي وقال الحاكم النيسابوري في "المستدرك" [7657] : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ..
وفي موضع آخر يقول في درجات الإيمان وأطواره رضي الله عنه : ( تترقى درجة العبد من الإسلام إلى الإيمان، ومن الإيمان إلى الإيقان، ومن الإيقان إلى المعرفة، ومن المعرفة إلى العلم، ومن العلم إلى المحبة، ومن المحبة إلى المحبوبية، ومن طلبه إلى مطلوبيته، فحينئذ إذا غفل أوقظ، وإذا نسي ذكر، وإذا نام نبه، فلا يزال أبدا مستيقظا صافيا لأنه قد صفت آنية قلبه يرى من ظاهرها باطنها، ورث اليقظة من نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه، وكان يرى من وراءه كما يرى من أمامه، كل أحد يقظته على قدر حاله، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يصل أحد إلى يقظته، و لا يقدر أن يشاركه أحد في خصائصه، غير أن الأبدال [الخلفاء] والأولياء من أمته يردون على بقايا طعامه وشرابه [آثاره وقرآنه]، يعطون قطرة من بحار مقاماته، وذرة من جبال كراماته لأنهم وراءه، المتمسكون بدينه الناصرون له الدالون عليه الناشرون لعلم دينه )، ورد في "الفتح الرباني" للجيلاني [م45/ص: 184] ..
عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( رحمة الله على خلفائي، قيل ومن خلفاؤك يا رسول الله ؟، قال الذين يحيون سنتي ويعلمونها الناس )، ورد في "كنز العمال" للمتقي الهندي برقم : 29209 ..
ويؤكد ذلك الأثر القدسي : ( عبدي أطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا خيرا وأحب إليك من كل شيء ) (1) ..
وهو بذلك التعريف جمع بين مفهوم أصحاء المرجئة وأهل السلف للإيمان بمعنى آخر عاش حال الإيمان ونطق بما تحقق به ..
أقر باللسان وصدق بالقلب وبادر بحسن العمل ..
ومن نقاط القوة في شخص الإمام تاج الأولياء "عبد القادر الجيلاني" رحمه الله تعالى، توطيد العقيدة الصحيحة، بتقيدها بالقرآن، مع تمام الإيمان الراسخ رسوخ الجبال والاستنارة بنور التقوى الذي يفرق بها بين الحق والباطل ..
فكانت عقيدته هي إتباع دون ابتداع ، كان يقول لأتباعه : ( اتبعوا ولا تبتدعوا، وأطيعوا ولا تخالفوا، واصبروا ولا تجزعوا، وانتظروا ولا تيأسوا ) ، ورد في "الطبقات الكبرى" للشعراني [ص: 129] ..
وقال رضي الله عنه : ( عليكم بالإتباع من غير ابتداع، عليكم بمذهب السلف الصالح، أمشوا في الجادة المستقيمة، لا تشبيه ولا تعطيل، بل إتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير تكلف ولا تطبع ولا تشدد، ولا تمشدق ولا تمعقل، يسعكم ما وسع من كان قبلكم ) ، ورد في "الفتح الرباني" للجيلاني [م4/ ص: 48] ..
ولعله رضي الله عمل بحديث جده الأكبر "أبو القاسم محمد بن عبد الله" صلى الله عليه وآله سلم الذي رواه جده إمام العلماء "أبو الحسن علي بن أبي طالب" كرم الله وجهه، والذي استشهد به الإمام الحجة "أبو حامد الغزالي" رضي الله عنه ، في كتاب الإحياء نعما المتبع ..
عن علي بن طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : : ( والذي بعثني بالحق نبياً لتفترقن أمتي عن أصل دينها وجماعتها إلى اثنتين وسبعين فرقة كلها ضالة مضله يدعون إلى النار، فإن كان ذلك فعليكم بكتاب الله عز وجل، فإن فيه نبأ من كان قبلكم، ونبأ ما يأتي بعدكم، وحكم ما بينكم، من خالفه من الجبابرة قصمه الله، ومن ابتغى العلم بغيره أضله الله عز وجل، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، وشفاؤه النافع، وعصمة من تمسك، ونجاة من تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستقيم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلقه كثرة الترديد ) ، ورد في كتاب "الإحياء" للغزالي في { ربع العبادات الكتاب الثامن } [ج1/ص: 289] ، وخرجه الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" مرفوعا، وله شاهده بالصحيح المسند في كتب الصحاح، في كل من سنن الترمذي [2906]، وسنن الدارمي [3211] ..
فهم الإمام الجيلاني للتوحيد :
كان رضي الله عنه يقول : ( الدواء في توحيد الله عز وجل، بالقلب لا باللسان فحسب ) ، ورد في "الفتح الرباني" للجيلاني [م13/ص: 65] ..
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله، خالصا من قبله، أو نفسه )، رواه البخاري في "صحيحة" [99]و[6570]، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" [967]، وقال ابن كثير في " البداية و النهاية" [ج2/ص: 198] : إسناده صحيح على شرطهما ولم يخرجاه من هذا الوجه، وقال ابن خزيمة في "التوحيد" [ح699/ص: 2] : صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح ..
و في الأثر القدسي القائل : ( لا إله إلا الله حصني، من أقر لي بالتوحيد، دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي ) (1) ..
وكان يقول رضي الله عنه : ( أساس الأمر الإسلام ثم الإيمان، ثم العمل بكتاب الله عز وجل، وشريعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم الإخلاص بالعمل مع توحيد القلب عند كمال الإيمان، المؤمن يفنى في كل ما سوى الله عز وجل )، ورد في "الفتح الرباني" للجيلاني [م22/ص: 101و102] ..
وكان يقول في الدعاة الموحدين : ( الموحدون الصالحين، حجة الله على بقية خلقه )، ورد في "الفتح الرباني" للجيلاني [م13/ص: 65] ..
وكان يقول في إخلاص توحيد الله عز وجل : ( الله سبحانه وتعالى، واحد فرد صمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، لا شبيه له ولا نظير، ولا عون ولا شريك، ولا ظهير ولا وزير، ولا ند ولا مشير، ليس بجسم فيمس، ولا بجوهر فيحس، ولا عرض فيقضي، ولا ذي تركيب وتأليف، وما هيه وتحديد، ..... قاهر حاكم قادر، راحم غافر، ساتر معز ناصر، رءوف خالق فاطر، أول آخر، ظاهر باطن، فرد معبود، حي لا يموت، أزلي لا يفوت، أبدي الملكوت، سرمدي الجبروت، قيوم لا ينام، عزيز لا يضام، منيع لا يرام، له الأسماء العظمى و المواهب الجسام )، ورد في " الغنية" للجيلاني [ج1/ص: 151] ..
ومما تقدم في سرده التوحيدي نجده على نهج إمام التجديد و التوحيد، الإمام " ابو الحسن الأشعري" رحمه الله تعالى، من أهل التفويض شأنه شأن أصحاء الحنابلة ..
الصورة الرمزية حسام الدين رامي نقشبندحسام الدين رامي نقشبند