أم البنين لمن لا يعرفها، هي العابدة العالمة الفقيهة، راوية حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم. و قد شهد لأم البنين بالعلم و الرواية الإمام الحافظ، أبو زرعة الدمشقي محدث الشام في زمانه، و ذكر في طبقاته جماعة من النساء اللواتي حدثن بالشام، و ذكر منهن أم البنين، و كانت ممن يتقن الرواية و نقل الحديث النبوي.
و أم البنين هي من عمها عبد الملك بن مروان، الذي عده أبو الزناد أحد فقهاء الإسلام. و أبوها عبد العزيز من مروان و كان من خيار الأمراء. و أخوها: أمير المؤمنين، و خامس الخلفاء الراشدين، عمر بن عبد العزيز، من بلغ رتبة الاجتهاد في العلم، و فضله و عبادته و ورعه و تقواه أشهر من أن يُذكر. و زوجها هو ابن عمها الوليد بن عبد الملك و الذي كان نقشُ خاتمه: "أومن بالله مخلصًا، و كان آخر ما تكلم به: سبحان الله، و الحمد لله، و لا إله إلا الله.". و ابنة عمها -أخت الوليد- هي فاطمة بنت عبد الملك، و هي زوجة أخيها عمر بن عبد العزيز، إحدى فرائد الدهر علمًا و أدبًا و شرفًا و دينًا، و كان اثنا عشر رجلًا من محارمها خلفاء.
و ................ ذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء!
و إليكم القصة -باختصار- .........
اختلا الحجاج بن يوسف يومًا بزوج أم البنين الوليد بن عبد الملك و هو -أي الحجاج- بكامل عدته من سيف و رمح و سهم، و الوليد كان متجرِّدًا من أيِّ وسيلة دفاع، يتجاذبان الحوار. ففزعت أم البنين من ذلك، و أمرت جاريتها أن تبلغ زوجها: "يا أمير المؤمنين، و الله ما أحب أن يخلو بك و قد قتل الخلق، و أهل الطاعة و الحق، و الله لَأَن يخلو بك ملك الموت، أحبُّ إليَّ أن يخلو بك الحجاج بن يوسف!!"
فذُعر الحجاج كثيرًا من هذا الرأي لأم البنين، فأراد أن يصرف الوليد عن الاقتناع برأبها، فقال له -و با الله على هذه الفصاحة فيما قال له، يا الله!- : "يا أمير المؤمنين، دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة، و ليست قهرمانة، فلا تطلعهن على سرك، و لا على مكايدة عدوك، فإن رأيهن إلى أَفَن، و عزمهن إلى وَهَن، و لا تملك الواحدة منهن من الأمور ما يجاوز نفسها، و لا تطمعها أن تشفع عندك لغيرها، و لا تُطل الجلوس معهن، فإن ذلك أوفر لعقلك، و أبينُ لفضلك."
فنقل الوليد هذا الكلام لأم البنين، فلما فعل، استأذنت أم البنين زوجها أن يمر الحجاج عليها غدًا للتسليم عليها، فأذن لها.
فلما جاء الغد، أمر الوليد الحجاج بذلك، فقال الحجاج -لِما علم من شدة أم البنين و حزمها-: "اعفني من ذلك يا أمير المؤمنين إن شئتَ."
قال الوليد: "ويحك لا بد من ذلك." و لما رأى الحجاج أن لا مفر من ذلك، مضى إليها رضي الله عنها، فحين علمت بقدومه، أمرت بحجبه طويلًا، و وقف في ذلة أمام مقصورتها، و بعد مدة طويلة أمرت الخادم بالإذن له، فدخل، فتركته قائمًا على قدميه، و لم تأذن له بالجلوس، و إنما ابتدرته قائلةً -من وراء سترتها-:
"إِيْهِ يا حجاج، أنت المُمتَنُّ على أمير المؤمنين بقتل عبد الله بن الزبير ابن حواري رسول الله، الصوَّام القوَّام، المستغرق الساعات في الطاعات، ذي المناقب الشهيرة الكثيرة؟!! و ابن أسماء ذات النطاقين، و أول مولود ولد بالمدينة المنورة من المسلمين بعد الهجرة؟!!! يا حجاج و أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث؟!!
(مناسبة هذا الكلام أعلاه قول الحجاج للوليد بن عبد الملك: "يا أمير المؤمنين، دعني أستكثر من الجهاد و في خدمتك، فإن عبد الله بن الزبير، و عبد الرحمن بن الأشعث قد شغلاني عنك."
تكمل هذه الفصيحة المبينة قائلةً: "ويحك يا بن يوسف، أما و الله لولا أن الله علم أنك شرُّ خلقه، و أهون خليقته، ما ابتلاك برمي الكعبة بحجارة المنجنيق، و قتل التقيِّ النقيِّ ابن ذات النطاقين، فأما ابن الأشعث فقد و الله والى عليك الهزائم حتى لُذتَ بأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، فأغاثك بأهل الشام، و أنت في أضيق ما يكون من أمرك، و أوهن من بيت العنكبوت، فأظلَّتك رماحُهم، و حجبتك عن الأخطار سيوفُهم، و نصرتك عزيمتُهم، و قهر الأعداء كفاحُهم.
و أما نهيك أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء، فلطالما نَفَضَ نساءُ أمير المؤمنين المسكَ من غدائرهن، و الحلي من أيديهن و أرجلهن، و بعنه في الأسواق حتى أخرج في أعطيات أهل الشام إليك، و لولا ذلك لكنتَ أذلَّ من البقَّة.
ويحك يا حجاج، إن ما أشرتَ به على أمير المؤمنين من ترك لذاته، و الامتناع عن بلوغ أوطاره من نسائه، فإنه غير قابل منك ذلك، و لا مصغٍ إلى نصيحتك، فإن كانت النساء يلدن مثلك كما ولدت أمك، فما أحقه بالأخذ عنك، و القبول منك.
ثم إن أم البنين عيرته بفراره من امرأة قائلة: "قاتل الله الشاعر و قد نظر إليك، و سِنان غزالة الحرورية بين كتفيك، يقول:
أسد عليَّ و في الحروب نعامة *** فَتْخَاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزتَ إلى غزالة في الوغى *** أم كان قلبك في جناحي طائر
صدعت غزالةُ قلبَه بفوارس *** تركت نواظرَه كأمس الدابر
"
ثم إن أم البنين قالت لجواريها "أخرجوه عني." ففعلوا. فدخل على الوليد بن عبد الملك من فوره فقال له الوليد: "يا أبا محمد! ما كنت فيه؟" فأجاب الحجاج: "و الله يا أمير المؤمنين ما سكتت أم البنين حتى كان بطن الأرض أحب إلي من ظاهرها، و ما ظننتُ أن امرأة تبلغ بلاغتها، و تحسن فصاحتها، و تدلي حجتها.
أنفال سعد سليمان