عدد الرسائل : 7304 العمر : 66 تاريخ التسجيل : 14/09/2007
موضوع: الحب عند الصوفية_الجزء الأول الأحد أغسطس 13, 2023 10:20 am
الحب
هيام دائم في معبد كبير كم تواجد فيه كثير من العشاق على مرِّ التاريخ.. وكم من عباد أقوياء فلحوا.. أو أحباب بسطاء هاموا.. غرباء عن الأوطان رحلوا.. روح راح ولا ذكرى ولا أسماء.. كم قلبا طاح فى فراق بعد لقاء؟! تكسوا أجسام الأبطال دائمًا الجراح.. ولاعيب فى ذلك. يرتاح حين يذهب إلى صورة حبيبه ويسافر إليها في سرعة البرق مغادرًا عالم المتاعب والمكابدة إلى روح حبيبه فيجد جنته الذاتية حينما يسرح في حبيبه.. مرات بعد مرات.. نوبات مرور في الذكريات.. حتى يهاجر ليس فقط من عالم المتاعب؛ بل هجرة حتى من عالم الراحات.. ولا راحة تعدل راحةً مع الحبيب.. يستوحش في البعد عنه.. وحش يأكل صاحبه.. وغضب لا يسكت.. نار في الحشا.. أو كآبة وانكسار.. يبهت لونه.. وكم من ورود وأشجار، ذبلت بعد ازدهار.. وفي هذا الكار، لا يأنس القلب إلا للحبيب.. بدونه الحياةُ عتمةٌ ونار.. كلما اقترب الضياء استنار وتآلف مع روحه.. فإذا بزغ نور الحبيب؛ أسرع ليكون عند بداية نوره.. يسعى له أولًا.. ثم بعد قربٍ منه ورضًا عنه؛ تكون سكينة على شاطئ الماء والثلج والبرد.. التفرد بالمحبوب يأتي بعد هذه الخلوات به.. فيعتزل القلب كل حب لم يكن بعد لوجه المحبوب.. وأكثر العشاق لا يبدو عليهم ذلك إذا تم لهم الفناء.. ليس بداخله إلا الآخر.. إلا القليل ممن غلبه الجذب.. فإذا دهسه الوجد صَرَخَ وافْتَضَحْ.
الحب أصلًا روحي من صفاته الكمال، لا لومَ فيه ولا نَبْرَ ولا معايرة من جانب على الجانب الآخر.. والآخر منزه عن النقص لأنه يرعى حبيبه.. نظر متبادل.. وحرص على السعادة.. و ما أسهل أن تجد كلمات في الحب هي حب خالص دون غرائز أو نفسانيات.
القلب نور طاهر يتنجس إن لم يكن في المحبوب؛ لأن المحبوب نور، والنور لا يطيق الظلام .. والنور سلام .. سلام القلب في صدر المحبوب.. قلبك في صدر المحبوب.. والمحبوب هو الجميل.. هو الحارس.. هو السلام.
قلب المُحِبِّ يُطَهِّرُ نفسه ذاتيًّا من حب غير محبوبه.. يصير ذوقه ذوق محبوبه.. وطباعه طباع محبوبه.. وإرادته إرادة محبوبه.. فالإنسان إذا أحبَّ حبيبه؛ لا يشعر بالنقص أو السيطرة.. ولا يخجل من السير تحت إمرة المحبوب.. وقت طاعة رغبة محبوبه سعادة.. فعندما تفنى إرادته الصغيرة لا يكون موجودا غير إرادة المحبوب اللا محدود.. فإذا كان الغير محبوبا؛ تواضع وتَنَزَّلْ.. وأحب المحدود.. ماذا يصنع القلب الصغير إذا وجد الجمال الأعظم بين يديه؟ هل يستنكف أن يفنى فيه؟! كذب من ألحد بالفناء العاشق هو من إذا ذكرنا اسمه ذكرنا إسم حبيبه.. ارتباط وتَوَحُّد.. وهذا ما جرى لكثير من الرهبان والأولياء فنطقوا باسم المحبوب؛ بل وعُرفوا باسمه.. وإنَّ كثيرا من العظماء كان الحب الأعظم هوالسِرّالأعظم في حياتهم.. ووجدنا من الناس كثيرا من الخالدين كانت قصص الحب في صميم سيرتهم وإن لم يَرَهَا من ينظر. قلنا سابقًا أن "الحب صوفيٌّ وإن تلوَّن" وهو أمر لا علاقة له بالمذاهب أو النظريات، ولكنه حقيقة علمية يراها الصوفي عندما يحقق عمليًّا هذا الحب؛ فهو في الحب المقدس وعليه أن يخوض التجربة ويحقق خطة الطريق . وليس الأمر مجرد قصيدة ينشدها أو نغم يتمايل معه.. كما هو ليس مجرد إقامة للطقوس أو تعصب للنصوص.. كما أخطأ الجهلاء على مر العصور ولهم العذر.. لأنها حياة كبيرة مهولة في عالم قائم على النقص.. والحب ملكوت حيٌّ بين النقص والكمال.. ولو يجوز بينهم في سلام يلقي عليه أهل الحب السلام . على قدر كل نعمة في الحب هناك إيمان عظيم.. عقيدة مجنونة تغلب العقل والقلب.. والقلب يقود المسيرة.. يركب الجسد.. ويفكر بدلاً من العقل "كذلك الحب"..... في عالم الأنس كم سَكِرَ العاشق حتى يبدو وكأنه كفر.. أو خرج عن الطوع والتقاليد.. يُفْرط العاشق في مدح حبيبه دائمًا.. ولا لوم على التهويل.. فإذا دارت الدوائر وتبدلت الأحوال وصار الجمع فرق أو الشوق وحشه؛ يرى المحب من محبوبه كل شيء طيب رغم تكسر الأمنيات.. رغم الدمعات والصبًار والقبور.. لن ترى على المسرح تبرمًا، ولا اعتراض من الجمهور حين يَتَأَوَّهُ المجاريح.. لا يفتُر المحب عن نقش اسم محبوبه فى سرد صور عالمه الآخر.. حَكْيٌ مستمر.. قد تمل الآذان السماع وهو لا يكلّ ولا يملّ.. وكل ساعة حال.. تَلَوُّنٌ في الصمت والأقوال.. واختلاف في الأفعال.. وكلها لوجه الحبيب.. وهل يوجد غير الحبيب؟! "المحب يموت إذا انفصل عن أشعة روح المحبوب"..... إيثار على الدوام.. على النفس والمال والولد.. نفس راضية عن الحبيب.. لا تلوم.. لا تبني رضاها على هواها.. وليس الحبيب عرضة لأهوائها.. ولا محكومًا لنزواتها.. لايمتلك مال ولا أجرة.. ولا ثمن.. فلا مَنٍّ ولا أذى.. الحب عند الصوفية موافقة لا مشاكسة ولا مشاكل.. مخالطة لا تنازع ولا تخاصم.. لا كشف عيب فيه ولا تفتيش عليه.. إيثار المؤالفة.. وترجيح الرحمة فقد قالوا: "المخالفة بدء المفارقة.. وهل من عاشق يريد الفراق!".... ولأن جمال المحبوب عظيم؛ فكل ما يعمله المحب يراه فى نفسه صغيرًا.. كلهم كذلك.. ورغم استصغاره لنفسه لا يتوقف عن العمل والإبداع في شغل محبته.. فيقول السيد سلامة الراضى.. "لاتلتفت واشتغل"..ياللى حبك شغلى وفنى وكيف للمذنب الخاطي أن يعشق الروح الطاهر.. هذا من عجائب الحب.
الرئيسية 
