المرأة الغربية والمشيخة الصوفية
ترجع الزعامة النسوية الغربية لمدارس التصوف الإسلامية في أوربا وأميركا،
بالأساس إلى سيادة الخطاب النسوي الذي تجاوز مستوى المطالبة بسماع صوت أنثوي صارخ أمام هيمنة الذكورة،
إلى مستوى المشاركة جنبًا إلى جنب مع الرجل، بل اقتحام مقامات الريادة والزعامة في مجالات كانت حكرًا على المذكر فقط،
ومن هذه المجالات «التصوف» الذي لا يلتفت إلى جنس الممارس ولا إلى صورته الخارجية،
بقدر اهتمامه ببعده الروحي والنفسي، والذي قد يتساوى فيه المذكر والمؤنث.
على الرغم من بعض الاختلافات في الهدف من الرحلة؛ فعلى سبيل المثال:
«في الصوفية الكلاسيكية يصبح «الفناء» هدفًا لرحلة الصوفي الصعبة مع ذاته الضيقة،
فالصوفي يفتش دومًا عن إمكانية التوحد مع «الذات العليا»،
وهو هدف ليس بالضرورة هدف الرحلة الروحية نفسها لدى النساء.
ولأن تجربة النساء مع ذواتهن ومع المجتمع والتاريخ لها دوائر ومسارات تختلف عن تجربة الرجل»(٢٠).
إن النساء في رحلتهن الروحية قد يبغين مبدئيًّا الالتحام مع ذواتهن،
وعقد تصالح مع الكون؛
«فبينما يسعى الصوفي إلى الانعزال والانفصال (حتى لو كان مؤقتًا مع جموع البشر من أجل إتمام الرحلة) فإن النساء قد يبغين،
كهدف أسمى لرحلتهن،
أن يندمجن مع مجتمع قد عانين الانفصال عنه من قبل حيث يجدن لذواتهن مكانًا متسامحًا يمارس معهن القبول ويترك لهن فضاءات للحرية.
وقد يتحقق الهدف من خلال تجارب في الطبيعة أو من خلال علاقات إنسانية حميمة»(٢١).
ينشأ الدافع إلى الدمج بين السعيين الروحي والاجتماعي من الحافز تجاه الكلية في سعي النساء…،
لكن التفكير الكلي يتطلع إلى تحقيق البصيرة الروحية في الواقع الاجتماعي.
ونظرًا لكون الخبرة الروحية للنساء تؤدي بهن إلى إحساس جديد بقواهن في الوجود،
فإنه من غير المحتمل أن النساء سوف يفكرن في الحياة التأملية التي تمجدها بعض الديانات
باعتبارها أكثر التعبيرات الملائمة عن بصائرهن الجديدة؛ وذلك لأن «الروابط بين السعي الروحي للنساء
وسعيهن الاجتماعي تتعرف عليها بصورة حدسية الكثير من النساء
ممن زودتهن خبراتهن الروحية بالطاقة والرؤية القادرة على صنع تغييرات في حيواتهن
وعلى إحداث تغيير في وضع النساء في الثقافة والمجتمع»(٢٢).
وهكذا، أضحت «المشيخة النسائية» ظاهرة غربية محضة(٢٣)؛
مما دفع إحدى الباحثات إلى تأليف كتاب حول المرأة الصوفية في أميركا(٢٤)،
وإن كانت اقتصرت فيه على محاورة سبع نساء من طريقة واحدة وهي الطريقة النقشبندية الحقانية،
إلا أنها بكتابها هذا لفتت الانتباه إلى الحضور النسائي المميز في التصوف بالولايات المتحدة الأميركية، كما في الغرب عمومًا.
ويرجع تاريخ هذا الحضور إلى بداياته الأولى حين عيَّن «حضرة عنايات خان» نحو سنة 1920م،
امرأة خليفة له في الغرب، وبخاصة على أميركا الشمالية؛ وهي ربيعة مارتن،
التي ستعين بدورها امرأة أخرى وهي: إيفي دوس لخلافتها على شؤون التنظيم الصوفي العالمي لعنايات خان(٢٥) سنة 1948م.
الشيخ باوا محيي الدين(٢٦) بدوره قدم إلى الولايات المتحدة الأميركية
لتكون مركز دعوته الصوفية بناء على طلب ملحّ من إحدى مريداته زهرة سيمونس
التي تترأس حاليًّا الجماعة في فيلاديلفيا، وتنشط في مجال الحركات النسائية(٢٧).
أما الطريقة الجراحية الهلفيتية(٢٨) التركية الأصل التي وصلت إلى الولايات المتحدة الأميركية
في أواخر سبعينيات القرن الماضي من خلال الشيخ الإسطنبولي مظفر أوزاك، لكن بعد وفاة هذا الأخير سنة 1985م،
انشطرت طريقته في أميريكا إلى فرعين: فرع معروف باسم «عشقي- جراحي»
تتزعمه الشيخة فرحة فاطمة الجراحي (وُلدت 1947م) وهو فرع نشيط في نيويورك.
وفرع آخر ينشط في منطقة بيي في سان فرانسيسكو تحت زعامة: روبيرت فراجر الذي وُلد سنة 1940م.
و«تدل السيرة الذاتية للشيخة فرحة على أنها أعطيت مشيخة الطريقة
من طرف الشيخ مظفر أوزاك قبيل وفاته سنة 1985م،
وهي أول زعيمة روحية نسائية في الطريقة التي نشأت منذ أكثر من 300 سنة»(٢٩).
من أنشط النساء في المجال الصوفي بأوربا وأميركا، نجد كاميل هيلمنسكي وهي باحثة في التصوف،
من أبرز كُتبها نجد(٣٠): (Women of Sufism : A Hidden Treasure)
ومعناها: «نساء التصوف: الكنز المستور»، إضافة إلى ترجمتها للعديد من أشعار الطريقة المولوية وكتبها.
تتزعم كاميل هيلمنسكي اليوم أحد فروع هذه الطريقة في أميركا، حيث «تدير مؤسسة ثريشود في كاليفورنيا،
وهي منظمة روحية ترتكز على التعاليم المولوية»(٣١) للشيخ جلال الدين الرومي.
الشيخة باجي طيابة خانوم تقود مجموعة صوفية في ضواحي فيلاديليفيا
وتلقن أوراد مجموعة من الطرق كالإدريسية والجشتية والقادرية، ولها أتباع من كلا الجنسين(٣٢).
نساء أخريات يلعبن أدورًا طلائعية في مجال التصوف بالغرب، منهن على سبيل المثال:
الشيخة مريم كبير فايي، كاتبة أميركية بيضاء ومتحدثة نشيطة في موضوعات تتعلق بالإسلام والتصوف في الغرب،
من أشهر كتبها: رحلة عبر عشرة آلاف حجاب: كيمياء التحول على الطريقة الصوفية»(٣٣)،
ولدت في هوليود بكاليفورنيا من عائلة يهودية ليبرالية، تقول عن نفسها:
«ولدتُ في هوليوود من أسرة يهودية، وأصبحتُ ممثلةً في سن الخامسة
، وظللتُ أُمارِس التمثيلَ لمدة عشرين عامًا. عندما كان عمري 12 سنة،
وبينما أنا أعمل ممثلة لشركة المسرح في سان فرناندو فالي أعطاني مساعد المدير لفيفة من الورق البردي،
صنعها من أجلي، مكتوب عليها: «ابحثي والحقيقة ستجعلك حرة» هذه الرسالة أصابت روحي بصدمة كهربائية،
وأوحت لي بشكل واضح تجاه حياتي والهدف منها»(٣٤).
تواصل قصة تحولها إلى الإسلام وعثورها على مرشدها الروحي الأول، قائلة:
«ذهبتُ إلى بيركلي سنة 1960م ومنها توجهت إلى الهند والنيبال ومختلف الدول(٣٥)
في أوربا، بعدها توجهت إلى القدس والخليل، وهناك بعيد ضريح «الخليل إبراهيم» بخمس دقائق،
التقيتُ مرشدي الصوفيَّ الأولَ، كان رجلًا مهيبًا ومقدسًا جدًّا، وفي قدسية ذاك اللقاء اعتنقت الإسلام بطريقة أكثر طبيعية وجمالية»(٣٦).
منذ ذلك الحين والشيخة مريم كبير فايي تعمل بجد على نشر تعاليم الإسلام الصوفية في صفوف الغربيين عامة،
كما أنها تدرس القرآن الكريم واللغة العربية في أميركا وفي غيرها من بلدان إفريقيا السوداء.
أيضًا الدكتورة ناهد أنغا وهي ابنة شيخ صوفي إيراني: شاه مغسود (ت: 1980)
تقود حركة صوفية موسومة بـ«الجمعية الدولية للتصوف» وتتوخى تشكيل شبكة دولية للنساء الصوفيات،
تحت اسم: المنظمة النسائية الصوفية(٣٧). كذلك الباحثة الأميركية الإيرانية للاه باخيتيار صاحبة كتاب(٣٨)
التي ترتبط بمجموعة من الطرق الصوفية كالنقشبندية والجراحية الهلفيتية، وتدير دارًا لنشر الكتب الصوفية خاصة والإسلامية عامة(٣٩).
إن هذا الإقبال الهائل من طرف النساء في الغرب على اقتحام التجربة الصوفية الإسلامية،
هو دليل على أهمية وراهنية الخطاب النسوي الذي ارتقى إلى مستوى التجربة
التي لا تتوخى فقط التمكن من المحسوسات التي كانت مجالًا فقط لتنافس الذكور،
بل تهدف إلى ملامسة المجرد والغيبي حيث تنتفي هناك الفوارق الجنسية والعرقية،
فتصير متاحةً لكل من له القدرة على الصبر والتجلد في سبر أغوار النفس قصد معرفة كنهها،
ومن ثمة التعرف إلى خالقها، وهو مبتغى كل أهل التصوف.
[/center]