ووالدا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مِن أهل الفترة؛ لأنهما ماتا ولم تبلغهما الدعوة؛ لتأخر زمانهما وبُعدِه عن زمان آخر الأنبياء، وهو سيدنا عيسى عليه السلام، ولإطباق الجهل في عصرهما، فلم يبلغ أحدًا دعوةُ نبي من أنبياء الله إلاَّ النفر اليسير من أحبار أهل الكتاب في أقطار الأرض كالشام وغيرها، ولم يعهد لهما التقلب في الأسفار ولا عُمِّرا عمرًا يمكن معه البحث عن أخبار الأنبياء، وهما ليسا من ذرية عيسى عليه السلام ولا من قومه، فبان أنهما مِن أهل الفترة بلا شك
ومَن قال: إن أهل الفترة يُمتَحَنُون على الصراط فإن أطاعوا دخلوا الجنة وإلاَّ كانت الأخرى، فإن العلماء نصُّوا على أن الوالدين الشريفين لو قيل بامتحانهما فإنهما من أهل الطاعة، قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه الإمام السيوطي في «مسالك الحنفا» (ص: 17): «والظن بآله صلى الله عليه وسلم -يعني الذين ماتوا قبل البعثة- أنهم يطيعون عند الامتحان إكرامًا له صلى الله عليه وسلم؛ لتقرَّ بهم عينه» اهـ
وقد أورد الطبري في تفسيره «جامع البيان» (24/ 487 - ط مؤسسة الرسالة) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في تفسير قوله تعالى: ﴿ولَسوف يُعطِيكَ رَبُّكَ فتَرضى﴾ [الضحى: 5]: «مِن رِضا محمد صلى الله عليه وسلم ألا يَدخُل أحدٌ مِن أهل بيته النار»
والمسلك الثالث الذي سلكه القائلون بنجاتهما: أنهما ناجيان؛ لأن الله تعالى أحياهما له صلى الله عليه وآله وسلم حتى آمَنا به صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا المسلك مال إليه طائفة كثيرة مِن حفاظ المحدِّثين وغيرهم، منهم: الخطيب البغدادي، وابن شاهين، وابن المُنَيِّر، والمحب الطبري، والقرطبي واحتجوا لمسلكهم بأحاديث ضعيفة، ولكنها ترقى إلى الحُسن بمجموع طرقها قاله الإمام السيوطي في «مسالك الحنفا» (ص: 85، 86)
وقد أجاب أصحاب هذا المسلك على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نُهِيَ عن الاستغفار لهما بأن الإحياء متأخر عن النهي، فكان حكمه ناسخًا لحكم النهي
قال الإمام القرطبي في «التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة» (ص: 138 - ط مكتبة دار المنهاج بالرياض): «ولا تعارض والحمد لله؛ لأن إحياءهما متأخر عن النهي بالاستغفار لهما بدليل حديث عائشة رضي الله عنها: أن ذلك كان في حجة الوداع، وكذلك جعله ابن شاهين ناسخًا لما ذكر من الأخبار
ثم قال (ص: 140، 141): «وذلك أن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزل تتوالى وتتابع إلى حين مماته، فيكون هذا مما فضله الله تعالى وأكرمه به وليس إحياؤهما وإيمانهما بممتنع عقلا ولا شرعًا؛ فقد ورد في الكتاب إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله، وكان عيسى عليه السلام يُحْيي الموتى، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام أحيا الله تعالى على يديه جماعة من الموتى، وإذا ثبت هذا فما يمنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته وفضيلته مع ما ورد من الخبر في ذلك» اهـ
فهذه مسالك العلماء الذين قالوا بنجاة والدَي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهي مسالك قوية مؤيَّدةٌ بالدليل والبرهان، وعليها جماهير علماء الأمة
ومما يستأنس به في هذا المقام وفيه إشارة إلى نجاة الوالدين ما نقله العلامة ابن عابدين الحنفي في «العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية» (2/ 331 - ط دار المعرفة) حيث قال: «وقد أتى العلامة الخفاجي بوجه آخر نظمه، وفيه أيضًا الصواب فقال:
فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ وَدَارِ الثَّوَابِ لِوَالِدَيْ طَه مَقَامٌ عَلَا
فِي الْجَوْفِ تُنْجِي مِنْ أَلِيمِ الْعِقَابِ وَقَطْرَةٌ مِنْ فَضَلَاتٍ لَهُ
حَامِلَة تُصْلَى بِنَارِ الْعَذَابِ فَكَيْفَ أَرْحَامٌ لَهُ قَدْ غَدَتْ
اهـ
والقول بنجاة والدَي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هو ما عليه دار الإفتاء المصرية:
قال شيخ الإسلام البرهان البيجوري في «شرح جوهرة التوحيد» (ص: 68 - ط دار السلام): «(تنبيهٌ): إذا علمت أن أهل الفترة ناجون على الراجح علمت أن أبويه صلى الله عليه وآله وسلم ناجيان لكونهما من أهل الفترة، بل جميع آبائه صلى الله عليه وآله وسلم وأمهاته ناجون ومحكوم بإيمانهم، لم يدخلهم كفر، ولا رجس، ولا عيب، ولا شيء مما كان عليه الجاهليون بأدلة نقلية كقوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٩]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لم أزل أنتقل من الأصلاب الطاهرات إلى الأرحام الزاكيات))، وغير ذلك من الأحاديث البالغة مبلغ التواتر» اهـ
وقد صدَرت بذلك فتوى فضيلة مفتي الديار المصرية الأسبق علامة زمانه الشيخ محمد بخيت المطيعي، بتاريخ 2 من ربيع الأول 1338هـ - 25 نوفمبر 1919م، والتي قال في آخرها في حكم مَن زعم أن أبوَي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ليسا مِن أهل الإيمان أنه: «قد أخطأ خطأً بيِّنًا؛ يأثم ويدخل به فيمن آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن لا يُحكَم عليه بالكفر؛ لأن المسألة ليست من ضروريات الدِّين التي يجب على المكلَّف تفصيلها هذا هو الحق الذي تقتضيه النصوص وعليه المحققون من العلماء» اهـ
وقد تواترت أقوال العلماء بالتحذير من التجرؤ على جناب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فيه إذاية له صلى الله عليه وسلم بذكر أبويه بالنقص والتنبيه على أنه لا بد من لزوم الأدب؛ فقد سُئل القاضي أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية عن رجل قال: إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار، فأجاب بأن مَن قال ذلك فهو ملعون؛ لقوله تعالى: ﴿إنّ الذين يُؤذُونَ اللهَ ورَسُولَه لَعَنَهم اللهُ في الدنيا والآَخِرةِ وأَعَدَّ لَهم عَذابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: 57] قال: «ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه إنه في النار» اهـ (ينظر: مسالك الحنفا للإمام السيوطي، ص: 88
وقال الإمام القسطلاني الشافعي في «المواهب اللدنية» (1/ 111 – ط المكتبة التوفيقية بالقاهرة): «فالحذر الحذر من ذكرهما بما فيه نقص، فإن ذلك قد يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن العرف جار بأنه إذا ذكر أبو الشخص بما ينقصه، أو وصف بوصف به، وذلك الوصف فيه نقص تأذى ولده بذكر ذلك له عند المخاطبة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات)) رواه الطبراني في الصغير، ولا ريب أن أذاه عليه السلام كفر يقتل فاعله إن لم يتب عندنا» اهـ
ولَمَّا ذكر العلامة الآلوسي في تفسيره «روح المعاني» (19/ 138 - ط دار إحياء التراث العربي) -عند قوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٩]- أن القول بإيمان أبويه صلى الله عليه وآله وسلم قول كثير من أجلة أهل السنة، أعقبه بقوله: «وأنا أخشى الكفر على من يقول فيهما رضي الله عنهما على رغم أنف القاري وأضرابه بضد ذلك» اهـ والقاري: يعني به ملا علي القاري، وسيأتي الحديث لاحقًا عن رسالته في هذا الشأن بالتفصيل
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته «رد المحتار على الدر المختار» (3/ 185 - ط دار الفكر) عن هذه المسألة: «وبالجملة كما قال بعض المحققين: إنه لا ينبغي ذكر هذه المسألة إلا مع مزيد مِن الأدب، وليست مِن المسائل التي يضرُّ جهلها أو يُسأل عنها في القبر أو في الموقف، فحِفظ اللسان عن التَّكَلُّم فيها إلاَّ بخير أولى وأسلم» اهـ
وأخرج ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (45/ 222 – ط دار الفكر) أنه: «كان رجل من كُتَّاب الشام مأمونًا عندهم -أي: بني أمية- استعمل رجلا على كورة من كور الشام كان أبوه يزن بالمنانية -وهي طائفة من المبتدعة-، قال: فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز فقال: ما حملك على أن تستعمل رجلا على كورة من كور المسلمين كان أبوه يزن بالمنانية؟ قال له: أصلح الله أمير المؤمنين، وما عليَّ ما كان أبوه، كان أبو النبي صلى الله عليه وسلم مشركًا، قال فقال عمر: آه، ثم سكت ثم رفع رأسه فقال: أأقطع لسانه، أأقطع يده ورجله، أأضرب عنقه، ثم قال: أقد جعلت هذا عدلا للنبي صلى الله عليه وسلم، لا تلي لي شيئا ما بقيت" اهـ
أما من خالف ما عليه جماهير الأمة ولم يسلك هذه المسالك السابقة، فأقوى ما يستمسك به ما يلي:
ما جاء في صحيح مسلم عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: ((في النار)) فلمَّا قفى دعاه فقال: ((إن أبي وأباك في النار))
وهذا الحديث قد تكلم العلماء فيه رواية ودراية؛ أما رواية: فقد تكفل ببيان ذلك وتحقيقه الإمام السيوطي في «مسالك الحنفا» (ص: 77 - 80) حيث قال -وفي قوله الغنية فاصبر على ما فيه من طول؛ فإنه نفيس-:
الجواب: أن هذه اللفظة وهي قوله: ((إن أبي وأباك في النار))، لم يتفق على ذكرها الرواة، وإنما ذكرها حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، وهي الطريق التي رواه مسلم منها، وقد خالفه معمر عن ثابت فلم يذكر: ((إن أبي وأباك في النار))، ولكن قال له: ((إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار))، وهذا اللفظ لا دلالة فيه على والده صلى الله عليه وسلم بأمر البتة، وهو أثبت من حيث الرواية، فإن معمرًا أثبت من حماد، فإن حمادًا تُكُلِّم في حفظه ووقع في أحاديثه مناكير ذكروا أن رَبِيبَه دسَّها في كتبه، وكان حماد لا يحفظ فحدث بها فوهم فيها، ومن ثم لم يُخَرِّج له البخاري شيئًا، ولا خَرَّج له مسلم في الأصول إلا من روايته عن ثابت، قال الحاكم في المدخل: ما خَرَّج مسلم لحماد في الأصول إلا من حديثه عن ثابت، وقد خَرَّج له في الشواهد عن طائفة، وأما معمر فلم يُتكلَّم في حفظه ولا استُنكِر شيء من حديثه، واتفق على التخريج له الشيخان فكان لفظه أثبت، ثم وجدنا الحديث ورد من حديث سعد بن أبي وقاص بمثل لفظ رواية معمر عن ثابت عن أنس، فأخرج البزار والطبراني والبيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه: أن أعرابيًّا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟ قال: ((في النار))، قال: فأين أبوك؟ قال: ((حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار)) وهذا إسناد على شرط الشيخين، فتعين الاعتماد على هذا اللفظ وتقديمه على غيره، وقد زاد الطبراني والبيهقي في آخره قال: فأسلم الأعرابي بعد فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبًا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار وقد أخرج ابن ماجه من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم وكان، فأين هو؟ قال: ((في النار))، قال: فكأنه وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله فأين أبوك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حيث مررت بقبر مشرك فبشره بالنار))، قال: فأسلم الأعرابي بعد، قال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبًا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار
فهذه الزيادة أوضحت بلا شك أن هذا اللفظ العام هو الذي صدر منه صلى الله عليه وسلم ورآه الأعرابي بعد إسلامه أمرًا مقتضيًا للامتثال فلم يسعه إلا امتثاله، ولو كان الجواب باللفظ الأول لم يكن فيه أمر بشيء البتة، فَعُلِمَ أن هذا اللفظ الأول من تصرف الراوي، رواه بالمعنى على حسب فهمه، وقد وقع في الصحيحين روايات كثيرة من هذا النمط فيها لفظ تصرف فيه الراوي، وغيره أثبت منه، كحديث مسلم عن أنس في نفي قراءة البسملة، وقد أعله الإمام الشافعي رضي الله عنه بذلك، وقال: إن الثابت من طريق آخر نفي سماعها، ففهم منه الراوي نفي قراءتها، فرواه بالمعنى على ما فهمه فأخطأ، ونحن أجبنا عن حديث مسلم في هذا المقام بنظير ما أجاب به إمامنا الإمام الشافعي رضي الله عنه عن حديث مسلم في نفي قراءة البسملة، ثم لو فرض اتفاق الرواة على اللفظ الأول كان معارضًا بما تقدم من الأدلة، والحديث الصحيح إذا عارضه أدلة أخرى هي أرجح منه وجب تأويله وتقديم تلك الأدلة عليه كما هو مقرر في الأصول، وبهذا الجواب الأخير يُجاب عن حديث عدم الإذن في الاستغفار لأمه، على أنه يمكن فيه دعوى عدم الملازمة بدليل أنه كان في صدر الإسلام ممنوعا من الصلاة على من عليه دَين وهو مسلم، فلعله كانت عليها تبعات غير الكفر فمنع من الاستغفار لها بسببها، والجواب الأول أقعد وهذا تأويل في الجملة، ثم رأيت طريقًا أخرى للحديث مثل لفظ رواية معمر وأزيد وضوحًا، وذلك أنه صرح فيه بأن السائل أراد أن يسأل عن أبيه صلى الله عليه وسلم فعدل عن ذلك تجملا وتأدبًا فأخرج الحاكم في المستدرك وصححه عن لقيط بن عامر أنه خرج وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق فقال: قدمنا المدينة لانسلاخ رجب فصلينا معه صلاة الغداة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبًا، فذكر الحديث إلى أن قال: فقلت: يا رسول الله هل أحد ممن مضى منا في جاهلية من خير؟ فقال رجل من عرض قريش: إن أباك المنتفق في النار، فكأنه وقع حر بين جلد وجهي ولحمي مما قال لأبي على رؤوس الناس، فهممت أن أقول: وأبوك يا رسول الله؟ ثم نظرت فإذا الأخرى أجمل فقلت: وأهلك يا رسول الله؟ فقال: ((ما أتيت عليه من قبر قرشي أو عامري مشرك فقل: أرسلني إليك محمد فأبشر بما يسوءك)) هذه رواية لا إشكال فيها، وهي أوضح الروايات وأبينها انتهى كلام الإمام السيوطي
وأما من جهة الدراية؛ فإن هذا الحديث باللفظ الأول لو ثبت لوجب أن يُفهَم فهمًا صحيحًا، وهو الفهم الذي يجعل الحديث لا يتعارض مع الآيات والأحاديث السابقة الدالة على نجاة أبوَي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما المانع أن يكون المقصود في قوله: «أبي» عمَّه أبا طالب؛ لأن القرآن جاء باستعمال لفظ الأب في حق العمِّ؛ قال تعالى: ﴿قالُوا نَعبُدُ إلَهَكَ وإلَهَ آبائِكَ إِبراهِيمَ وإسماعِيلَ وإسحاقَ﴾ [البقرة: 133]، فأطلق على "إسماعيل" لفظ الأب وهو عم يعقوب، وكانت من عادة العرب أن تجعل العمَّ أبًا، فتنادي ابن الأخ بالابن حتى قال مشركو قريش لأبي طالب: «قل لابنك يَرجِع عن شَتم آلهتنا» يقصدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت تسمية أبي طالب أبًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم شائعة في قريش؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم رُبِّيَ في بيته وكُفِلَ فيه، وقد ثبت أن أبا طالب يكون في ضَحضاح مِن النار، فيكون هو المقصود بلفظ ((أبي وأبوك في النار))
وممن قال بأن المراد بالأب في الحديث العم -وذلك على فرض التسليم بهذه اللفظة-: الإمام السيوطي في «مسالك الحنفا» (ص: 81)
وأيضًا: عمدة الشافعية ومفتيهم الإمام ابن حجر الهيتمي في «المنح المكية في شرح الهمزية» (ص: 102 - ط دار المنهاج): «وحديث مسلم: قال رجل: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: ((في النار))، فلما قفا دعاه فقال: ((إن أبي وأباك في النار)) يتعين تأويله، وأظهر تأويل عندي: أنه أراد بأبيه عمه أبا طالب؛ لِما تقرر أن العرب تسمي العم أبًا، وقرينة المجاز في الآية الآتية -يعني قوله تعالى: ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15]- الشاهدة بخلافه -أي هذا الحديث- على أصح محاملها عند أهل السنة، وأن عمه هو الذي كفله بعد جده عبد المطلب» اهـ
وهناك توجيه آخر لهذا الحديث ونحوه ألا وهو النسخ، وممن ذكره الإمام السيوطي في رسالته الأخرى «التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله في الجنة» (ص: 126- مطبوعة مع مسالك الحنفا، ط دار الأمين بالقاهرة) حيث بيَّن مخالفة هذا الحديث السابق لغيره من الأدلة الصحيحة ومعارضتها له بما يجعلها ناسخة له وذكر نظيرًا لهذا، حيث قال: «وللمسألة -أي: مسألة الأبوين- نظير صحيح، للناس فيها خلاف، وهي مسألة: أطفال المشركين، فقد ورد في أحاديث كثيرة الجزم بأنهم في النار، وفي أحاديث قليلة أنهم في الجنة، وصحح الجمهور هذا، منهم النووي، وقال: إنه المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون؛ لقوله تعالى: ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15]، وإذا كان لا يعذب البالغ لكونه لم تبلغه الدعوة فغيره أولى، هذا كلام النووي، وذكر غيره أن أحاديث كونهم في النار منسوخة بأحاديث كونهم في الجنة» اه