في كتابه " موسى و التوحيد"، يبتدأ سيغموند فرويد طرحه، من خلال مقاربة سيكولوجية للتاريخ، بفكرة صادمة مفادها أن موسى شخصية مصرية، فالكلمة موسى نفسها هي مصرية تعني الطفل. يقرن فرويد قصة ميلاد موسى بشخصية سارجون الأكادي، مؤسس بابل حوالي 2800 ق.م. الملاحظ أن نفس نمط القصة يتكرر مع شخصيات تاريخية أخرى كقورش، رومولوس، أوديب، كارنا، باريس، برسيوس، هيراقليس، جلجامش، الخ. يؤكد فرويد على أن أن أصل خرافة موسى مصرية حيث أُنذر فرعون، عن طريق حلم، أن إبن إبنته سيشكل خطرا عليه في يوم من الأيام و على ملكه. و لهذا أمر فرعون بأن يلقى الطفل فور ولادته لمياه النيل. أنقذ اليهود موسى و ربوه و كأنه واحد من صلبهم. في رأي فرويد، تم تعديل خرافة موسى لدوافع دينية و قومية صرفة. كان موسى، بالتالي، في أصله مصريا نبيلا جعلت منه الأسطورة شخصية يهودية.
يؤكد فرويد على أن الديانة اليهودية تعود بجذورها إلى الدين المصري بإمتياز. بالرغم من تاريخ مصر الديني المتنوع و المتعدد الآلهة (Polytheistic)، فقد شهد تاريخ الحضارة المصرية، بالضبط في عهد السلالة الثامنة عشرة، أي في حوالي السنة 1375 ق.م، ملكا شابا عرف في الأول بإسم أمنحوتب الرابع ثم غير بعد ذلك إسمه إلى أخناتون. كان أخناتون طيلة حكمه، و الذي دام 17 سنة، يدين بدين التوحيد (Monotheism) و يرفض ديانات التمائم و السحر و الطقوس التي تمثلت في ديانات عديدة من أهمها ديانة أمون (إله المدينة ذي رأس الكبش)، رع (إله الشمس ذي رأس الصقر)، و ديانة أوزيريس (إله الأموات).
حاول اليهود طمس العقيدة القديمة، و ذلك، كما يقول فرويد، عن طريق الإنسلاخ الكلي من فكرة الخلود أو وجود الحياة بعد الموت الذي كانت تشكل أساسا لكل ديانات مصر القديمة. موسى وهب دينا جديدا للعبرانيين، و وطد أيضا عادة الختان المصرية الأصل التي سيكون لها الباع الأطول في تمييز الشعب اليهودي عن باقي الشعوب و الأعراق، و تثبيت فكرة "شعب الله المختار". يجدر هنا الإشارة أيضا إلى أن سبب كراهية اليهود للخنزير يعود إلى قصة خرافية مفادها أن الاله «ست»، الخنزير الأسود، قد جرح الرب «حوريس».
لعل موسى كان في الواقع نائبا لأخناتون على الإقليم الواقع عند الحدود المصرية (أرض جاسان) و الذي كان تعيش فيه بعض القبائل السامية منذ أيام الهكسوس. فمن هذه البقعة الجغرافية و من قوة هذه القبائل المهمشة أراد موسى أن يخلق شعبه الجديد. كان موسى شخصية حربية، كما يروي يوسيفوس مع تعديل طفيف، له مآثر عدة في الحبشة، إضطره حسد و مكر الفرعون الجديد، حورمحب، و حاشيته على الهجرة و الخروج من مصر، باحثا عن تعويض لما شهدته العقيدة الجديدة من طمس و خسران.
موسى كان أجنبيا غريبا لا يفهم لغة العبرانيين، لا يستطيع التواصل معهم دون وسيط أو مترجم (موسى كان "ثقيل الفهم و اللسان" سفر الخروج - الإصحاح الرابع). كان اليهود قبل الدين التوحيدي يعبدون إله يدعى يهوه، هذا الإله هو إله البراكين إقتبسه العبرانيون من قبيلة المديانيين العرب المجاورة. يؤكد فرويد على أن أصل ديانة العبرانيين هي ديانة موسى التوحيدية، لكنه يضيف أنه، على إمتداد 800 سنة بين "الخروج" التوراتي و تدوين عزرا و نحميا للنص التوراتي، حدث توافق رجعي أدى إلى العودة إلى الديانة الموسوية الأصلية.
يفترض فرويد، و هي النقطة التي أثارت جدلا كثيرا، أن اليهود قد قتلوا موسى، الشخصية المؤسسة و الزعيم الروحي. فقد تمرد اليهود يوما ما على موسى و إغتالوه و ألغوا ديانة اتون كما فعل المصريون تماما. ما حدث بعد ذلك هو أن العبرانيين إنصهروا مع باقي القبائل المحيطة بهم، و هناك في منطقة خصبة تسمى قادش، إعتنقوا تحت تأثير المديانيين العرب ديانة إله البراكين، ديانة يهوه، و قاموا بعد ذلك بغزو أرض كنعان.
يسمي فرويد الفترة التي تلت إغتيال موسى بفترة "الكمون"، فهي فترة تميزت بسقوط العقيدة الموسوية و إنحطاط قيمة الطقوس و العامل الأخلاقي لدى العبرانيين. لقد شكلت فترة الدين الموسوي ما يسميه فرويد "بالمأثور"، هذه الفكرة لم تنقضي، بل ترسخت في اللاوعي الجمعي للعبرانيين على إمتداد قرون طويلة، تجلت في اخر تمظهراتها، في رأي فرويد، في مفهوم الخطيئة الأصلية المسيحي، حيث تتجلى بكل وضوح الجريمة التي إقترفت ليس فقط بحق موسى، بل بحق الذات الإلهية (مفهوم الإله الأب كأول مظهر من مظاهر القوة و الأخلاق) و التي لا سبيل إلى التكفير عنها إلى بالموت وحده. المجموعات البشرية، يؤكد فرويد، تحتفظ بإنطباعات الماضي في شكل مأثورات و بقايا ذاكرية لاشعورية.
يميز فرويد بين "الأنا الحقيقي" و ال "هذا". ال "هذا" هو أقدم من الأنا الذي إنفصل عنه تحت وطأة الظروف الخارجية. في ال "هذا" تتصارع غرائزنا الجنسية البدائية، حاملة معها سيرورات تطورية لاشعورية خلفتها تجارب أسلافنا. ينتمي المكبوت إلى ال "هذا"، و يخضع بذلك لقوته و سطوته. يستنتج فرويد أن البشر قد عرفوا في الماضي أبا بدائيا و أنهم قتلوه شر قتلة.
البشر تشعر بحاجة ضرورية إلى سلطة عليا تسيطر عليها و تسير أمورها. يفسر فرويد هذه النزعة بفكرة "الإنجذاب نحو الأب"، هذا الشعور ينقل إلينا منذ طفولتنا مأثورا دمويا و مأساويا، فكرة مفادها أن الإنسان فيما مضى قد قتل الأب الأسطوري و تغلب عليه. هذا الأب البدائي قد عاقب أبنائه فيما مضى بالختان، حيث كان كل من يقبل بهذا الرمز تحت السيطرة و المشيئة الأبوية، حتى ولو كان سينشأ عن ذلك أسوأ الآلام و أشنع التضحيات.
خلاصة كتاب فرويد أن الدين التوحيدي الموسوي لم يمارس أي نوع من السلطة على العبرانيين إلا يوم تحول إلى مأثور. يوم أعطى موسى العالم كله فكرة إله واحد، فإنه في الواقع لم يأت بشيء جديد، و إنما أعاد للحياة حدثا قديما و مأثورا يرجع إلى الأزمنة الغابرة من تاريخ الأسرة الإنسانية، حدث غاب عن الذاكرة الجماعية للبشرية منذ أقدم العصور.
إلياس شتواني