الحكم العطائية من 21 الى 30 كتاب اللطائف الإلهية في شرح مختارات من الحكم العطائية لابن عطاء الله السكندري شرح د. عاصم إبراهيم الكيالي
اللطائف الإلهية في شرح مختارات من الحكم العطائية
الحكمة الواحدة والعشرون « 2 » : « لمّا علم الحقّ منك وجود الملل لوّن لك الطّاعات ، وعلم ما فيك من وجود الشّره فحجرها عليك في بعض الأوقات ، ليكون همّك إقامة الصّلاة لا وجود الصّلاة ، فما كلّ مصلّ مقيم » .
شرح الحكمة : قبل البدء في شرح الحكمة أوضح بعض الألفاظ الواردة فيها ليسهل علينا فهم معناها العام .فالملل : هو السآمة والضجر من عمل يلحق الشخص فيه مشقة فيدفعه الملل إلى تركه .لوّن : أي نوّع لك الطاعات وعددها من صلاة وصيام وتلاوة وذكر وغير ذلك .والشره : مجاوزة الحد في التسارع إلى العمل والحرص عليه فيؤديه ذلك إلى وقوع النقص والتقصير فيه .حجرها : أي منعها في بعض الأوقات .إقامة الصلاة : أي تعديل أركانها وتوفير شروطها وتكميل آدابها بقدر الوسع ..............................................................................( 1 ) رواه البخاري : كتاب مواقيت الصلاة ، باب فضل صلاة العصر رقم ( 554 ) ورواه مسلم : كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب فضل صلاتي الصبح والعصر حديث رقم ( 211 - 633 ) .( 2 ) ورقمها ( 118 ) في النص الكامل للحكم . فيكون معنى الحكمة العام : أن اللّه سبحانه وتعالى خالق كل شيء ، القائل :أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( 14 )[ الملك : 14 ] علم أننا نضجر ونسأم من تكرار العمل الواحد لذلك فرض علينا أعمالا متنوعة لكي نتجنب الوقوع في هذا الملل قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم :« إنّ اللّه لا يمل حتى تملّوا » .وفي ذلك قيل :لا يصلح النفس إذ كانت مدبّرة * إلا التنقل من حال إلى حالقال الشيخ أحمد زروق رحمه اللّه تعالى : لونت له ( أي للعبد ) الطاعة ( أي العبادات ) لثلاثة أوجه : أحدها : رحمة به ليستريح من لون إلى لون ، والثاني : إقامة للحجة عليه إذ لا عذر له في الترك ( أي لعدم وجود الملل والسآمة ) ، والثالث : ليثبت له النسبة في العمل بوجود التخيير في الجملة فتكمل الكرامة وتسهل الطاعة ( وهذا خاص بنوافل الطاعات ) .وأيضا لمّا علم الحق تعالى من عباده وجود الشره وهو حبهم الشديد للخير والعجلة في كسبه مصداقا لقوله تعالى :وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( 8 )[ العاديات : 8 ] وقوله تعالى :خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ[ الأنبياء : 37 ] وقوله :وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا[ الإسراء : 11 ] وقوله مخاطبا نبيه :وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ[ طه : 114 ] ، مما سيدفعهم للسرعة المؤدية لوجود النقص في العبادة ، لأنه سيصبح همهم فعل الصلاة لا إقامة الصلاة ، منعهم من فعل بعض الطاعات في بعض الأوقات ليكون همهم إقامة الصلاة لا مجرد فعل الصلاة وإيجاد صورتها . قال الشيخ أبو العباس المرسي رحمه اللّه تعالى : « كل موضع ذكر فيه المصلون في معرض المدح ، فإنه إنما جاء لمن أقام الصلاة ، إما بلفظ الإقامة ، أو بمعنى يرجع إليها ، قال اللّه سبحانه :الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ[ البقرة : 3 ] وقال اللّه تعالى :رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي[ إبراهيم : 40 ] وقال اللّه عزّ وجل :وَأَقِمِ الصَّلاةَ[ هود : 114 ] وقوله وَإِقامَ الصَّلاةِ[ الأنبياء : 73 ] وقوله :وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ[ الحجّ : 35 ] . ولما ذكر اللّه تعالى المصلين بالغفلة قال :فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ( 5 )[الماعون : الآيتان 4 ، 5 ] ولم يقل فويل للمقيمين الصلاة الذين هم عن صلاتهم ساهون » .يتبين لنا مما تقدم أن على المسلم أن يكون همه إقامة الطاعة ، بحفظ أركانها وسننها والخشوع فيها والحضور مع اللّه فيها ، لا مجرد فعلها ليجد ثمرتها في روحه وقلبه ونفسه وسلوكه ، قال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له »فهذا هو المقصود من هذه الحكمة ، وذكرت الصلاة كمثال لأنها أكثر الفرائض وقوعا من المكلّف .* * *
الحكمة الثانية والعشرون «1» «الصّلاة مطهرة للقلوب من أدناس الذّنوب، واستفتاح لباب الغيوب».
شرح الحكمة : إن الصلاة هي من أفضل الأعمال التي تهذب النفس وتطهر القلب وتنور العقل وترقي الروح ، ولأهميتها هذه قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة »« 2 »وقال أيضا : « رأس الأمر وعاموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد » « 3 » .فالصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام : قال اللّه تعالى :وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ( 5 )[ البيّنة : 5 ] وقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على اللّه » ( متفق عليه ) .إن إقامة الصلاة تعود على المسلم بفوائد كثيرة منها : الانتهاء عن الفحشاء والمنكر بدليل قوله تعالى :إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ[ العنكبوت : 45 ] . وإذا انتهت النفس عن الفحشاء والمنكر تطهر القلب وتنور واستعد لتلقي الواردات الإلهية والعلوم الربانية ، وهذا ما أشار إليه في آخر الحكمة بقوله : « واستفتاح لباب الغيوب »قال الحكيم الترمذي : « دعا اللّه الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس رحمة منه عليهم ، وهيأ لهم فيها أنواع الضيافة لينال العبد من كل قول وفعل شيئا من عطاياه تعالى ، فالأفعال كالأطعمة والأقوال كالأشربة ، وهي عرش الموحدين هيأها رب العالمين لأهل رحمته في كل يوم خمس مرات حتى لا يبقى عليهم دنس من الأغيار ( المخلوقات ) ..............................................................................( 1 ) ورقمها ( 119 ) في النص الكامل للحكم .( 2 ) رواه مسلم : كتاب الإيمان ، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة حديث رقم ( 133 - 81 ) .( 3 ) رواه أحمد في المسند عن معاذ بن جبل رضي اللّه عنه حديث رقم ( 22077 ) . ومنها : تكفير الذنوب قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء ؟ » قالوا : لا يبقى من درنه شيء قال : « فذلك مثل الصلوات الخمس ، يمحو اللّه بهن الخطايا »( متفق عليه ) وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم :« الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ، كفارة لما بينهم ما لم تغش الكبائر »( رواه مسلم ) .ومنها : رفع الدرجات في الجنة مصداقا لقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم :« عليك بكثرة السجود ، فإنك لن تسجد سجدة إلا رفعك اللّه بها درجة ، وحط عنك بها خطيئة »( رواه مسلم ) .ومنها : مرافقة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في الجنة ، بدليل ما رواه مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وكان من أهل الصفة - قال : كنت أبيت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته ، فقال : « سلني » فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة ، فقال : « أو غير ذلك ؟ » قلت : هو ذاك قال : « فأعنّي على نفسك بكثرة السجود » .فالصلاة طهرة للنفوس من أدناس الذنوب واستفتاح لباب الغيوب ، لأنها تطهر ظاهر الإنسان بالطهارات الحسية وتطهر قلبه بالطهارة المعنوية ، فترتفع عن العبد الحجب الظلمانية بما تجده روحه من الأنوار الإلهية ، فترى ما كان غائبا عنها من المعارف والأسرار الربانية ، قال اللّه تعالى :وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ البقرة : 282 ] وقوله تعالى :آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً[ الكهف : 65 ] . * * *
الحكمة الثالثة والعشرون «1» : «استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيّتك ، دليل على عدم صدقك في عبوديّتك. غيّب نظر الخلق إليك بنظر اللّه إليك، وغب عن إقبالهم عليك بشهود إقباله عليك».
شرح الحكمة : إن هذه الحكمة تشتمل على أمرين : الأول أحد أمراض النفس وهو الرياء وعبّر عنه بقوله : « استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك » أي : بكرامتك عند اللّه تعالى لما خصك اللّه به من صالح الأعمال « دليل على عدم صدقك في عبوديتك » ،.............................................................................( 1 ) ورقمها ( 161 و 162 ) في النص الكامل للحكم . أي : وهذا يدل على عدم صدق من كان هذا حاله في عبوديته للّه تعالى لأن الصدق في العبودية يتطلب الإخلاص في العمل للّه تعالى بدليل قوله تعالى :وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ[ البيّنة : 5 ] .والرياء هو العمل من أجل الناس طلبا للمنزلة عندهم ، قال اللّه تعالى :يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا[ النّساء : 142 ] وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم :« قال اللّه تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه »( رواه مسلم ) .قال أحمد بن أبي الحواري رحمه اللّه تعالى : « من أحبّ أن يعرف بشيء من الخير أو يذكر به فقد أشرك في عبادته ، لأن من خدم على المحبة لا يحب أن يرى خدمته غير مخدومه » . أي من عبد اللّه حبا به ولم يعبده خوفا أو طمعا لا يحب أن يطلع على عمله غير محبوبه الذي عبده على المحبة وهو اللّه تعالى . وقال سهل بن عبد اللّه التستري رحمه اللّه تعالى : « من أحب أن يطلع الناس على عمله فهو مراء ، ومن أحب أن يطلع الناس على حاله فهو كذاب » . وقال إبراهيم بن أدهم رحمه اللّه تعالى : « ما صدق اللّه من أحب الشهرة » .ذكر علماء التربية والسلوك علامات للمرائي تدل على ريائه منها : نشاطه في العبادة أمام الناس وكسله وقعوده عنها في خلوته . ومنها : إتقانه للعبادة حيث يراه الناس وإسراعه فيها وتساهله بها حيث لا يراه أحد غير اللّه تعالى . ومنها : تطلعه بقلبه توقير الناس له وتعظيمه . ومنها الرغبة في مسارعتهم إلى قضاء حوائجه لما يرونه من صلاحه ، حتى إنه إذا قصر أحدهم في حقه الذي يدّعيه لنفسه استنكر ذلك منهم .والأمر الثاني الذي اشتملت عليه هذه الحكمة هو الدواء الشافي من الرياء ، وعبّر عنه بقوله : « غيب نظر الخلق إليك بنظر الحق إليك ، وغب عن إقبالهم عليك بشهود إقباله عليك » أي ، لا تنظر إلى نظر الخلق إليك ، بأن تكون تشعر بنظرهم إليك وتهتم لذلك ، بل غب عن نظرهم إليك ، بالاكتفاء بنظر اللّه إليك بمراقبتك له وحضورك معه تعالى ، وعلمك بأنه عزّ وجل مطلع على ظاهرك وباطنك مصداقا لقوله تعالى :يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ ( 19 )[ غافر : 19 ] وقال تعالى :أَ وَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[ فصّلت : 53 ] .وعليك أيضا أن تغيب عن إقبال الخلق عليك بالتبجيل والتعظيم ، لأنهم لا يملكون لك ضرا ولا نفعا ولا رفعا ولا خفضا ، وتكتفي بشهودك إقبال من ناصيتك بيده سبحانه وتعالى ، الذي أسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة ، قال اللّه تعالى :وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً[ لقمان : 20 ] وقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم موضحا إقبال اللّه على العبد فيما يرويه عن ربه : « قال اللّه عزّ وجل : إذا تقرب عبدي مني شبرا تقربت منه ذراعا ، وإذا تقرب مني ذراعا ، تقربت منه باعا ، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة » ( رواه مسلم ) .* * *
الحكمة الرابعة والعشرون « 1 » : « إذا علمت أنّ الشّيطان لا يغفل عنك ، فلا تغفل أنت عمّن ناصيتك بيده » .
شرح الحكمة : أمهد لشرح هذه الحكمة بالقول : إن الإنسان لم يخلق عبثا في هذا الكون مصداقا لقوله تعالى :أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ( 115 )[ المؤمنون : 115 ] . إن سبب خلقنا في هذه الدنيا نجده في قوله تعالى :وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ( 56 )[ الذّاريات :
56 ] فنعبد اللّه تعالى بإطاعة أوامره واجتناب نواهيه وصولا إلى معرفة وحدانيته تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله ، لأن هذه المعرفة هي غاية العبادة وهدفها الأسمى ، فبها يعمّر الكون ، وتستقيم الحياة البشرية ، ويدرك الاطمئنان الدنيوي ، وتنال السعادة الأبدية .
إلا أن الإنسان خلال طاعته لربه ، سيجد معوقات وموانع تحول بينه وبين تحققه بعبوديته للّه تعالى والخضوع لشريعته . وهي كثيرة وأصولها أربعة :
الأول : النفس مصداقا لقوله تعالى :إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ[ يوسف : 53 ]
الثاني : الدنيا مصداقا لقوله تعالى :اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ[ الحديد : 20 ]
الثالث : الخلائق مصداقا لقوله تعالى :وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ[ الأنعام : 116 ]
الرابع : الشيطان مصداقا لقوله تعالى :إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[ فاطر : 6 ] .
إن هذه الحكمة تتكلم عن هذا المانع الرابع الذي هو الشيطان ، وتذكرنا علمنا ومعرفتنا بأنه - أعاذنا اللّه منه - لا يغفل عنا ، لأنه أقسم أنه سيغوينا وسيحول بيننا وبين دين اللّه تعالى وصراطه المستقيم ، قال اللّه تعالى :قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 82 ) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( 83 )[ ص : الآيتان 82 ، 83 ] وقال تعالى :قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( 16 ) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ( 17 )[ الأعراف : الآيتان 16 ، 17 ] . قال سيدنا عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما
.............................................................................
( 1 ) ورقمها ( 236 ) في النص الكامل للحكم .
في تفسير هذه الآية : « من بين أيديهم : أشككهم في آخرتهم ، ومن خلفهم : أرغبهم في دنياهم ، وعن أيمانهم : أشبه عليهم أمر دينهم ، وعن شمائلهم : أزين لهم المعاصي وأحقق لهم الباطل » .
فإذا علمنا أن الشيطان لا يغفل عنا لأنه يجري منا مجرى الدم مصداقا لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم »
فعلينا أن لا نغفل عمن نواصينا بيده سبحانه وتعالى ، لأن حضورنا مع اللّه تعالى هو أنجع الأدوية التي تعالجنا من سيطرة الشيطان على أعمالنا ونفوسنا وقلوبنا وعقولنا .
وإن عدم الغفلة عن اللّه تعالى تتحقق بأمور كثيرة منها : المداومة على ذكر اللّه تعالى بأنواعه المختلفة ، قال اللّه تعالى :إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ[ العنكبوت : 45 ]
ومنها : تلاوة القرآن الكريم ، قال اللّه تعالى :وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[ الأنفال : 2 ] .
ومنها : الاستغفار وفي الحديث الذي رواه أحمد في المسند من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللّه تعالى عنه : « إن إبليس قال : وعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم ، فقال اللّه عزّ وجل : وعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني » .
ومنها : التوكل على اللّه تعالى في كل الأمور مصداقا لقوله تعالى :إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 99 )[ النّحل : 99 ]
ومنها : صدق العبودية للّه تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه مصداقا لقوله تعالى:إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)[الإسراء : 65]. ومنها : الاستعاذة باللّه من الشيطان امتثالا لقوله تعالى :فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ[ النّحل : 98 ] .
ومنها : التقوى المؤدية إلى سرعة الرجوع إلى اللّه تعالى بالتوبة عند مس خواطر الشيطان لهم مصداقا لقوله تعالى :إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ( 201 )[ الأعراف : 201 ] .
ومنها : التسمية عند شؤونك كلها قال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إذا دخل الرجل بيته فذكر اللّه تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأصحابه لا مبيت لكم ولا عشاء ، وإذا دخل فلم يذكر اللّه تعالى عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت : وإذا لم يذكر اللّه تعالى عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء »
( رواه مسلم ) .
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « لو أن أحدهم ، إذا أراد أن يأتي أهله قال : باسم اللّه اللّهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه ، إن يقدّر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا » ( رواه مسلم ) .فعليك أخي المسلم أن لا تغفل عن اللّه تعالى طرفة عين إذا أردت أن تسلم من كيد الشيطان ومكره وإغوائه ، ويتحقق لك ذلك بأن تعبد اللّه تعالى كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك وهذا هو مقام الإحسان ، والإحسان ثالث أركان الدين الإسلامي ويأتي بعد ركني الإسلام والإيمان .* * *
الحكمة الخامسة والعشرون « 1 » : « لا تنفعه طاعتك ، ولا تضرّه معصيتك ، وإنّما أمرك بهذه ، ونهاك عن هذه ، لما يعود عليك » .
شرح الحكمة : إن هذه الحكمة تتحدث عن مسألة في العقيدة وهي وجوب الكمال المطلق للّه عزّ وجل ، ومن مقتضيات هذا الكمال الإلهي : اتصافه تعالى بالغنى الذاتي فهو تعالى غني عن كل ما سواه من المخلوقات ، قال اللّه تعالى :لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 64 )[ الحجّ : 64 ] وهي تفتقر إليه في كل نفس من الأنفاس ، قال اللّه تعالى :* يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 15 )[ فاطر : 15 ] إن اللّه عزّ وجل لم يلحقه بإيجاد الأكوان كمال كما لم يلحقه بإعدامها نقص .
فهو تعالى لم يخلق الخلق لغرض يعود عليه منهم ، لأن أفعاله تعالى منزّهة عن الأغراض والأعواض بل أمرهم بالخير ونهاهم عن الشر لما يعود عليهم من المنافع والمصالح في دنياهم وآخرتهم تفضلا منه تعالى ورحمة ،
قال اللّه تعالى :وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا[ الإسراء : 70 ]
وقال تعالى :وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 18 )[ النّحل : 18 ]
وقال تعالى :وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً[ لقمان : 20 ]
وقال تعالى :إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 164 )[ البقرة : 164 ]
وقال تعالى :اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( 102 )[ الأنعام : 102 ] .
.............................................................................
( 1 ) ورقمها ( 211 ) في النص الكامل للحكم .
روى الإمام مسلم عن أبي ذر الغفاري رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما روى عن اللّه تبارك وتعالى أنه قال :
« يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا . يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم . يا عبادي ! كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي ، كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم .
يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم .
يا عبادي ، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني .
يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا .
يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا .
يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ، قاموا في صعيد واحد فسألوني ، فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر .
يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد اللّه ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه » .
أخي المسلم إذا علمت أن طاعتك لا تنفعه تعالى وأن معصيتك لا تضره فهو تعالى خالق الخير والشر وهو القاهر فوق عباده .
وإذا علمت أن اللّه تعالى أمرك بطاعة أوامره ونهاك عن اقتراف نواهيه لما يعود عليك من فوائد دنيوية وأخروية مصداقا لقوله تعالى :مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ( 46 )[ فصّلت : 46 ]
وقوله تعالى :مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ( 40 )[ غافر :
40 ] .
فعليك بالمسارعة إلى شكره تعالى على ما أنعم عليك ، ويتحقق لك ذلك بصدق توجهك إليه والإخلاص في عملك له وتفريغ قلبك من غيره سبحانه وتعالى .* * *
الحكمة السادسة والعشرون « 1 » : « خير العلم ما كانت الخشية معه . العلم إن قارنته الخشية فلك ، وإلّا فعليك » .
شرح الحكمة : إن أشرف العلوم أشرفها معلوم ، وأشرف معلوم هو ذات اللّه تعالى وصفاته وأسماؤه ، فالعلوم الشرعية من أعظم العلوم ، لأنها تدلنا على.............................................................................( 1 ) ورقمها ( 232 و 233 ) في النص الكامل للحكم . اللّه تعالى وتقربنا منه ، وكذلك العلوم الكونية التي تحقق نفس الغاية والهدف . إلا أن هذه العلوم لا ينتفع بها الإنسان إلا إذا لازمها الخشية من اللّه تعالى ، لأن الخشية مهابة يصحبها تعظيم ، أو خوف يصحبه إجلال ، يدفعان صاحبها للعمل بما علم ، وإذا عمل بما علم أورثه اللّه تعالى علم ما لم يعلم ، وقد امتدح اللّه تعالى العلماء العاملين الذين يخشونه بقوله :إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ[ فاطر : 28 ] .وتحدّث الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه « لطائف المنن » عن العلم الذي تصحبه خشية قائلا : « فشاهد العلم الذي هو مطلوب اللّه تعالى وجود الخشية للّه ، وشاهد الخشية موافقة الأمر » ، ثم تحدّث عن العلم بدون خشية فقال : « أما علم تكون معه الرغبة في الدنيا ، والتملق لأربابها ، وصرف الهمة لاكتسابها ، والجمع والإدخار والاستكثار ، فما أبعد من هذا العلم علمه ، من أين يكون من ورثة الأنبياء ؟ وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي يكون بها عند الموروث عنه ؟ » .يشير الشيخ الشعراني في الفقرة الأخيرة إلى قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا إنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر » .ولا شك أن علم الأنبياء تصحبه الخشية ، فيشترط في العالم الوارث أن يحافظ على الصفة التي كان بها هذا العلم عند الأنبياء الموروث عنهم ، لكي ينتفع به وينفع به الآخرين ، ويحصل ثمرته من معرفة اللّه تعالى وقربه ورضاه ، ودخول جنته يوم القيامة ، والنظر إلى وجهه الكريم .إن العلم النافع الذي صحبته الخشية من اللّه تعالى له علامات يعرف بها ، منها : ما ورد في جواب الإمام الجنيد رحمه اللّه تعالى عندما سأله أحد تلامذته عن هذا العلم قائلا : « والعلم النافع : ما يدل صاحبه على التواضع ، ودوام المجاهدة ، ورعاية السر ، ومراقبة الظاهر ، والخوف من اللّه ، والإعراض عن الدنيا وعن طالبيها ، والتقلل منها ، ومجانبة أربابها ، وترك ما فيها على من فيها من أهلها ، والنصيحة للخلق ، وحسن الخلق معهم ، ومجالسة الفقراء وتعظيم أولياء اللّه تعالى والإقبال على ما يعنيه » .
وأما العلم الذي لم تقارنه الخشية من اللّه تعالى ، فهو وبال على صاحبه ، وفيه هلاكه لما سيجره عليه من ضر وإثم وعقاب ، فهو حجة عليه لا له يوم القيامة ، مصداقا لقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « الصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه أو موبقها »
( رواه مسلم ) وقد استعاذ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من هذا العلم الذي لم تقارنه الخشية بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم :
« اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع » ( رواه ابن حبان ) .
وقال سفيان الثوري رضي اللّه عنه : « إنما يتعلم العلم ليتقى به اللّه تعالى ، وإنما فضل العلم على غيره لأنه يتقى اللّه به » . وقال صلى اللّه عليه وسلم :
« من تعلّم علما مما يبتغى به وجه اللّه تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة ( أي رائحتها ) يوم القيامة » .
فعليك أيها المسلم بالعلم النافع المقرون بالخشية من اللّه تعالى لتجد نوره في قلبك فتزداد معرفتك بربك عزّ وجل ، وذلك لأن الخشية توصل إلى التقوى ، وهو يوصل إلى العلم اللدني الوهبي المشار إليه بقوله تعالى :آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً[ الكهف : 65 ] ،
مصدقا لقوله تعالى :وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ البقرة : 282 ] ، فهذا العلم هو المقصود من قول اللّه تعالى مخاطبا نبيه صلى اللّه عليه وسلم :وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً[ طه : 114 ] .* * *
الحكمة السابعة والعشرون «1» : «من أثبت لنفسه تواضعا فهو المتكبّر حقّا، إذ ليس التّواضع إلّا عن رفعة، فمتى أثبتّ لنفسك رفعة فأنت المتكبّر حقّا».
شرح الحكمة : إن هذه الحكمة تشير إلى صفتين الأولى محمودة وهي التواضع ، والثانية مذمومة وهي الكبر ، وإن التواضع فضيلة في النفس ناشئة عن أمرين :
الأول : معرفة الإنسان المسلم بصفات نفسه الحقيقية من الضعف والعجز والجهل والذل والافتقار الدائم للّه تعالى ، وعلمه بأن كل ما فيه من محامد إنما هو من فضل اللّه تعالى عليه ، ورحمته به أن أجرى الخير على يديه .
والأمر الثاني : مراقبة الإنسان المؤمن لعظمة اللّه تعالى وكبريائه ، وأنه القاهر فوق عباده مما سيولد في قلبه الخشية والهيبة والرهبة من اللّه تعالى ، فلا يرى لنفسه رفعة على أحد من خلق اللّه تعالى ،
قال سيدنا موسى عليه السلام فيما أوحاه اللّه تعالى إليه : « إنّما أقبل عمل من تواضع لعظمتي ولم يتكبر على خلقي ، وألزم قلبه خوفي ، وقطع النهار بذكري » .
وقد حثنا اللّه تعالى على التواضع وأمرنا به بقوله تعالى :وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 215 )[ الشّعراء : 215 ]
وفي الحديث القدسي : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد »
( رواه مسلم ) .
.............................................................................
( 1 ) ورقمها ( 238 ) في النص الكامل للحكم .
وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « ما نقصت صدقة من مال وما زاد اللّه عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد للّه إلا رفعه اللّه » ( رواه مسلم ) .
إن الإنسان لا يستطيع التحقق بصفة التواضع إلا إذا تخلصت نفسه من داء الكبر الذي يعتبر من أفظع المهلكات وأردئها ، قال اللّه تعالى :كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ[ غافر : 35 ] وقال تعالى :وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ[ إبراهيم : 15 ] .
إن الكبر صفة مذمومة شرعا وعقلا تقود صاحبها إلى غضب اللّه ومقته مصداقا لقوله تعالى :كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ[ غافر : 35 ]
وقوله تعالى :إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ[ غافر : 60 ]
وقوله تعالى :وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ[ لقمان : 18 ] .
ومصداقا لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم :« لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر » ( رواه مسلم ) .
وقوله صلى اللّه عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى : « العزّ إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته » ( رواه مسلم )
وروى الشيخان عن حارثة بن وهب رضي اللّه عنه قال : ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتلّ جوّاظ مستكبر »
، والعتل : الغليظ الجافي . والجوّاظ : الضخم المختال في مشيته .
فعليك أخي المسلم بالعمل على الاستشفاء من مرض الكبر لتتحلى نفسك بصفة التواضع .
وأعود الآن إلى معنى الحكمة فأقول : إن المقصود من الحكمة التحذير من التكبر الناتج عن ادعاء الإنسان المسلم التواضع لنفسه لأنه إذا فعل ذلك يكون متكبرا وعلل ذلك بقوله : « إذ ليس التواضع إلا عن رفعة » أي يرى لنفسه مزية على غيره إلا أنه تنازل عنها تواضعا فهو عين التكبر ،
قال الشيخ أبو يزيد البسطامي رحمه اللّه تعالى : « ما دام العبد ينظر أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر » .
فعليك أخي المسلم بالعمل على الاستشفاء من مرض الكبر لتتخلق بصفة التواضع .* * *