منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 7:48 pm

مقدمة .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024 هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143 هـ

[ الجزء الأول ]
[ تقديم ]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والرّسل محمد بن عبد اللّه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد . . . لمّا كانت قصائد الشيخ العارف شرف الدين أبي حفص عمر ابن الفارض من أعذب القصائد التي احتوت أشرف الألفاظ والمعاني في محبّة اللّه تعالى والتقرّب إليه سبحانه ؛ فقد اهتمّ الشّرّاح والدّارسون عبر العصور في شرح دقائقها وبيان معانيها ومراميها . 
وقد قيّض اللّه تعالى لابن الفارض سبطا كريما له اسمه عليّ فجمع قصائده في ديوان هو الديوان المعروف الموجود الآن في متناول الجميع .
وقد اهتمّ جمع من العلماء في شرح هذا الديوان ؛ ومن أهم هذه الشّروح شرح الشيخ حسن البوريني وشرح الشيخ عبد الغني النابلسي رحمهما اللّه تعالى . 
وقد جمع المرحوم رشيد بن غالب اللبناني هذين الشرحين في كتاب واحد ، هو الكتاب الذي بين يديك . 
وقد ذكر جامع الشرحين في مقدمته للكتاب « 1 » أنه أخذ شرح البوريني برمّته ، 
ثم أضاف إلى آخر شرح كل بيت نبذة من كلام الشيخ النابلسي ، ووضع قبل كلّ ما نقله من كتاب الشيخ النابلسي حرف ( ن ) وبعده ( اهـ ) ، باستثناء ديباجة الديوان وتذييل العينية والميمية للشيخ عليّ سبط النّاظم ، التي نقلها برمّتها من مجموع الشيخ النابلسي .
وقبل البدء في عرض هذا الشرح الجليل ، نذكر تراجم موجزة لكلّ من النّاظم ابن الفارض ، والشيخين الشّارحين البوريني والنابلسي ، والجامع الفاضل رشيد بن غالب .
.............................................
( 1 ) انظر ص 7 .

« 4 »
ترجمة ابن الفارض « 1 » ( 576 - 632 هـ - 1181 - 1235 م )
هو عمر بن علي بن مرشد بن علي الحموي الأصل ، المصري المولد والدار والوفاة ، أبو حفص وأبو القاسم ، شرف الدين ابن الفارض : أشعر المتصوّفين . يلقّب بسلطان العاشقين . في شعره فلسفة تتصل بما يسمّى « وحدة الوجود » قدم أبوه من حماة ( بسورية ) إلى مصر ، فسكنها ، وصار يثبت الفروض للنساء على الرجال بين يدي الحكّام ، ثم ولي نيابة الحكم فغلب عليه التلقيب بالفارض . 
وولد له « عمر » فنشأ بمصر في بيت علم وورع . 
ولمّا شبّ اشتغل بفقه الشافعية وأخذ الحديث عن ابن عساكر ، وأخذ عنه الحافظ المنذري وغيره . 
ثم حبّب إليه سلوك طريق الصوفية ، فتزهّد وتجرّد ، وجعل يأوي إلى المساجد المهجورة في خرابات القرافة ( بالقاهرة ) وأطراف جبل المقطّم . وذهب إلى مكة في غير أشهر الحج ، فكان يصلّي بالحرم ، ويكثر العزلة في واد بعيد عن مكة ، وفي تلك الحال نظم أكثر شعره . وعاد إلى مصر بعد خمسة عشر عامّا ، فأقام بقاعة الخطابة بالأزهر ، وقصده الناس بالزيارة ، حتى أن الملك الكامل كان ينزل لزيارته .

وكان جميلا نبيلا ، حسن الهيئة والملبس ، حسن الصّحبة والعشرة ، رقيق الطّبع ، فصيح العبارة ، سلس القياد ، سخيّا جوادا . وكان أيام ارتفاع النيل يتردد إلى مسجد في « الروضة » يعرف بالمشتهى ، ويحبّ مشاهدة البحر في المساء . وكان يعشق مطلق الجمال . ونقل المناوي عن القوصي أنه كانت للشيخ جوار بالبهنسا ، يذهب إليهنّ فيغنّين له بالدّفّ والشبابة وهو يرقص ويتواجد ، 
قال المناوي : « ولكل قوم مشرب ، ولكلّ مطلب ، وليس سماع الفسّاق كسماع سلطان العشّاق » 
ثم قال :
« واختلف في شأنه ، كشأن ابن العربي ، والعفيف التلمساني ، والقونوي ، وابن هود ، وابن سبعين ، وتلميذه الششتري ، وابن مظفر ، والصفار ؛ من الكفر إلى القطبانية ، وكثرت التصانيف من الفريقين في هذه القضية » وقال الذهبي : كان سيّد شعراء عصره وشيخ « الاتحادية » وما ثم إلا زيّ الصّوفية وإشارات مجملة ، وتحت الزّيّ والعبارة فلسفة وأفاعي ! ( كذا ) وأورد ابن حجر أبياتا صرّح فيها ابن الفارض بالاتحاد ، كقوله : « وفي موقفي لا بل إليّ توجّهي * ولكن صلاتي لي ومنّي كعبتي 
.........................................................................................
( 1 ) انظر الأعلام للزركلي ( 5 / 55 ، 56 ) .

« 5 »

له « ديوان شعر - ط » جمعه سبطه عليّ . وشرحه كثيرون منهم حسن البوريني وعبد الغني النابلسي . وشرحاهما مطبوعان . ولمحمد مصطفى حلمي « ابن الفارض والحب الإلهي - ط » وليوحنا قمير « ابن الفارض - ط » .

ترجمة البوريني « 1 » ( 963 - 1024 هـ - 1556 - 1615 م )
هو الحسن بن محمد بن محمد بن حسن الصفّوري البوريني ، بدر الدين :
مؤرّخ ، من العلماء بالأدب والحديث والفقه والرياضيات والمنطق . ولد في صفورية ( من بلاد الأردن ) وانتقل صغيرا مع أبيه إلى دمشق . فنشأ ومات فيها ، وكان يجيد الفارسية والتركية . نسبته إلى بورين ( من بلاد نابلس ) ولد بها أبوه فلزمته النسبة . من تصانيفه « تراجم الأعيان من أبناء الزمان - ط » ترجم به أعلام عصره ، و « شرح ديوان ابن الفارض - ط » و « الرحلة الحلبية » و « الرحلة الطرابلسية » و « السبع السيارة » سبعة مجاميع ، و « حاشية على أنوار التنزيل - خ » في التفسير و « ديوان شعر - خ » ورسائل كثيرة . وكان عذب المفاكهة ، وفي شعره جودة .

ترجمة عبد الغني النابلسي « 2 » ( 1050 - 1143 هـ - 1641 - 1731 م )
هو عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي : شاعر ، عالم بالدين والأدب ، مكثر من التصنيف ، متصوّف . 
ولد ونشأ في دمشق . ورحل إلى بغداد ، وعاد إلى سورية ، فتنقّل في فلسطين ولبنان ، وسافر إلى مصر والحجاز ، واستقر في دمشق ، وتوفي بها . له مصنّفات كثيرة جدّا ، منها « الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية - ط » و « تعطير الأنام في تعبير المنام - ط » و « ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الأحاديث - ط » فهرس لكتب الحديث الستة ، و « علم الفلاحة - ط » و « نفحات الأزهار على نسمات الأسحار - ط » و « إيضاح الدلالات في سماع الآلات - ط » و « ذيل نفحة الريحانة - خ » و « حلّة الذهب الإبريز ، في الرحلة إلى بعلبك وبقاع العزيز - خ » و « الحقيقة والمجاز ، في رحلة الشام ومصر والحجاز - خ » و « قلائد المرجان في عقائد أهل الإيمان - خ » رسالة ، و « جواهر النصوص - ط » جزآن ، في شرح فصوص الحكم لابن العربي ، و « شرح أنوار التنزيل للبيضاوي - خ » و « كفاية المستفيد في علم التجويد 
..........................................................................................
( 1 ) انظر الأعلام للزركلي ( 2 / 219 ) .
( 2 ) انظر الأعلام للزركلي ( 4 / 32 ، 33 ) .

« 6 »

خ » و « الاقتصاد في النطق بالضاد - خ » تجويد ، و « مناجاة الحكيم ومناغاة القديم - خ » تصوّف ، و « خمرة الحان - ط » شرح رسالة الشيخ أرسلان ، و « خمرة بابل وغناء البلابل - خ » من شعره ، في الظاهرية ، و « ديوان الحقائق - ط » من شعره ، و « الرحلة الحجازية والرياض الأنسية - ط » و « كنز الحق المبين في أحاديث سيد المرسلين - خ » و « الصلح بين الإخوان في حكم إباحة الدخان - ط » و « شرح المقدمة السنوسية - خ » و « رشحات الأقلام في شرح كفاية الغلام - ط » في فقه الحنفية ، و « ديوان الدواوين - خ » مجموع شعره ، و « كشف الستر عن فرضية الوتر - ط » رسالة ، و « لمعات ( أو لمعان ؟ ) الأنوار في المقطوع لهم بالجنة والمقطوع لهم بالنار - ط » رسالة ، و « خمس مجموعات - خ » فيها 32 رسالة ، ذكر الزيّات أسماءها في « خزائن الكتب » .

ترجمة رشيد بن غالب الدحداح « 1 » 1228 - 1306 هـ - 1813 - 1889 م )
هو رشيد بن غالب بن سلّوم الدحداح اللبناني . أديب ، لغوي ، شاعر ، مؤرّخ .
ولد في عرامون بكسروان لبنان ، واتخذه الأمير بشير الشهابي كاتبا لأسراره ، ثم رحل إلى مرسيليا ، وتوفي بشمال فرنسة في 5 أيار . من آثاره : طرب المسامع في الكلام الجامع من الأشعار والحكم ، قمطرة طوامير وهي مقالات أدبية وفوائد لغوية ، السيار المشرق في بوار المشرق وهو تاريخ كبير في عدّة مجلدات ، ترويح البال في العلم والمال ، وديوان شعر 
...........................................................................................
( 1 ) انظر معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة ( 1 / 718 ) ، والأعلام للزركلي ( 3 / 25 ) .


بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[ مقدمة جامع الكتاب ]
الحمد للّه الذي بفضله الفارض عمر بيوت الأدب وحسن للطبع شرح معان فيها بلوغ الأرب والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمد المنتخب من خير بطون العرب وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
وبعد . . . . 
فيقول المفتقر إلى عون اللّه الغنيّ رشيد بن غالب المجتني : إنه لمّا كان مجموع قصائد الشيخ شرف الدين أبي حفص عمر المعروف بابن الفارض ديوانا عذب المناهل ، وبالراغبين فيه آهل ، وددت أن أطبعه مع شرح يبيّن ما فيه من المعاني الرقيقة ، وطلاوات البدائع الأنيقة ليسهل قنيانه للقصري والعمي وفهمه للعالم والأميّ ، ولكوني طالعت شرحا للشيخ حسن البوريني كامل الفائدة ، وافر العائدة ، أبان فيه كل ما يختصّ باللغة والشعر والبديع وباقي الفنون العلمية ولم يتعرّض لشيء مما يؤول إلى الطريقة الصوفية ، 
ووقفت على شرح ثان للشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي الصوفي ، استفرغ فيه مجهوده ببيان المقاصد الدقيقة ، المختصّة بأهل الطريقة ، 
أخذت شرح الشيخ البوريني برمّته ، ثم أضفت إلى آخر شرح كل بيت نبذة من كلام الشيخ النابلسي فيما تذهب إليه أهل أمّته إلا بعض أبيات اقتصرت فيها على كلام البوريني لمطابقة الشرحين ، ولكون الإيجاز للكتاب زين ، ونقلت من مجموع الشيخ النابلسي ديباجة الديوان ، وتذييل العينية ، والميمية للشيخ علي سبط الناظم مع شرح أبيات وقصائد من غير نظم المؤلّف رغبت في جمعها إلى كتابه توسيعا لمغنم طلابه ، فجاءت هذه النسخة بعون اللّه حاوية من الشرح السني كل ثمر جني ، إذ هي في الكمال غاية ، وبالحسن نهاية . 
ولقد بذلت في ضبطها وتحريرها جهدا جزيلا وجعلت ما ذهلت عنه أو جهلته عرضة لهبة المطالع صفحا جميلا ، 
وكل ما نقلته من كتاب الشيخ عبد الغني النابلسي وضعت قبله ( ن ) وبعده اهـ . 
ما عدا ديباجة الديوان ، وباللّه نستعين وإيّاه نحمد في كل شأن وآن .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: ديباجة الديوان .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 7:48 pm

ديباجة الديوان .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
ديباجة الديوان
( الحمد للّه الذي اختصّ حبيبه الأسنى بمقام قاب قوسين أو أدنى ) ألقاب هو ما بين مقبض القوس ومدخل الوتر فلكل قوس قابان أو قاب . والقوسان تثنية قوس ، وقيل : إنه من القلب ، أراد قابي قوس ، أي : طرفي قوس ، يعني أنه جعل قربه إليه بمقدار قرب ألقاب من القوس أو أدنى ، أي : أقرب من ذلك وهو قوله تعالى في قرب محمد صلى اللّه عليه وسلم منه تعالى :فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى( 9 ) [ النّجم : الآية 9 ] .

( وقرن ) أي : اللّه تعالى ( اسمه ) أي : اسم محمد ( الشريف بأعظم أسمائه ) أي : أسماء اللّه تعالى ( الحسنى وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له وليّ ) أي : متولّي جميع أمور ( عباده ) جمع عبد ( وحبيب عباده ) جمع عابد ( وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله صلّى اللّه عليه وعلى آله ) أي : ذوي قرابته والمؤمنين به ( الشرفاء وأصحابه الخلفاء ) جمع خليفة ، وهم الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي اللّه عنهم وورثتهم في مقام الكمال الاختصاصي إلى يوم القيامة ( وعلى إخوانه من الأنبياء ومن اتّبعه من الأولياء ، صلاة تنتشر نفحاتها على أرواحهم الطاهرة وتسبغ نعمها عليهم باطنة ) حال من النّعم ( وظاهرة ، وسلّم تسليما تحمله الملائكة ، وتبلّغه إلى روضاتها الطيبة المباركة .


قال الفقير المعترف بذنبه ، المغترف من نهر عطاء ربّه ، عليّ سبط ) أي : ابن بنت ( الشيخ ابن الفارض ) قدم أبوه من حماة إلى مصر فقطن بها وكان يثبت الفروض للنساء على الرجال بين يديّ الحكّام فلقّب بالفارض ثم ولد له بمصر الشيخ عمر المذكور في ذي القعدة سنة ست وخمسين أو ستّين وخمسمائة ( الراجي كرم ربّه الفارض عفا اللّه عن خطئه وعمده ، وتداركه برحمة من عنده : نظرت في نسخ من ديوان شيخنا قدّس اللّه سرّه ) 
أي : قلبه ( وشرح صدره بالنظر إليه وسرّه ) من السرور ( فرأيت النّسّاخ جهلوا بعض كلامه وما عرفوه ، واشتبه عليهم شيء من جناسه فصحّفوه

« 10 »

وأخرجوه بذلك عن أصله ، ولم يردّوه إلى أهله ، فاستخرت اللّه تعالى واستعنت به في تحرير هذه النسخة المباركة وسلكت فيها بكلامه مسالكه ) أي : مسالك الكلام ( معتمدا بذلك على نسخة كانت عندي من أثره محرّرة ) 
أي : مضبوطة ( وصحفها من التحريف والتصحيف ) التحريف تغيير الحركات ، والتصحيف تغيير النقط ( مطهّرة ، تلقّيتها من ولده سيدي الشيخ كمال الدين محمد ، جمع اللّه بينهما في مقعد صدق ، وحبّذا ذلك المقعد ، وقرأت عليه ما فيها قراءة تصحيح وحفظ ، وسمعته يورده بأعذب لفظ .

وأخبرني أنه سمعه وقرأه كذلك على الشيخ والده ، ولم تفته سوى قصيدة واحدة كان نظمها في الحجاز الشريف بأودية مكة وجبالها . وكان أهل مكة يعلّمونها لأولادهم في المكاتب وينشدونها في الأسحار على المآذن ولم أرها في نسخة من ديوانه لأنه نظمها بالحجاز والديوان أملاه بالقاهرة عند مقامه بها بعد التجريد . 
وقال ولده رحمه اللّه ولي مدة سنين أتطلبها ولم أجدها عند أحد من أصحابه ولم أذكر منها سوى هذا البيت وهو مطلعها :
أبرق بدا من جانب الغور لامع * أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع
(وعهد إليّ ) أي أوصاني ( ولده رحمه اللّه أن أجتهد في طلبها ، وأن أجمع شملها بأخواتها في ديوان أدبها ، فاجتهدت في ذلك كلّ الاجتهاد ، فلم أرها في إنشاء ولا سمعتها في إنشاد ، ولم أزل أتطلّبها من أربعين سنة وقد استسنّيت في التذييل ) أي : التكميل ( على هذا البيت سنّة حسنة وطرقت بخير ) 
أي : طرقت باب ( أبيات قصائده ، والتمست منها الحسنى ) تأنيث الأحسن ( من حسن مقاصده ، والمسؤول من فتوّة ) من كرم ( من وقف على هذا التذييل ، أن يسبل عليه ذيل ستره الجميل ، فمن أين لي مثل ذلك النظم البديع ؟ وهل يبلغ الطّالع ) وهو البعير الأعرج ( شأو ) 
أي : غاية ( الضليع ) أي : الفرس التّامّ الخلق الغليظ الألواح الكثير العصب ( فنسأل اللّه تعالى المسامحة ، وأن يرشدنا في محبته إلى الأنفاس الصالحة ، وبحمد اللّه تعالى ما خرج التذييل على هذا البيت عن سرّ أهل هذا البيت المصون ، وأتلو عند سماعه : يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [ يس : الآية 26 ] ) وهو اكتفاء من الآية ، أي : يا ليت قومي يعلمون به كما علمته ( وقد أثبت قصيدته ) 
أي : التذييل ( في هذه النسخة بعد قصائد الشيخ المطوّلة وجعلتها معها آخره وإن كانت لها في السّبق أوّله ) مبالغة في المدح لها لأنها حصلت ببركة أنفاس النّاظم قدّس اللّه سرّه ( لتكون لأخواتها ختاما ، وعلى قلب سامعها بردا وسلاما ثم بعد ذلك ) 
أي : بعد تمام التذييل المذكور ( وجدت القصيدة المذكورة ، التي كانت من هذا الديوان مفقودة الصورة وذكرت

« 11 »

سبب رجوعها ، وإشراق شمسها بعد غروبها عن ربوعها ، وأثبتّها بعد ذكر السبب ) لرجوعها ( في آخر هذا الديوان المنتخب ، وأخبرني ولده المشار إليه أنه قابل النسخة المشار إليها على نسخة كانت عنده بخطّ الشيخ رحمه اللّه وأن ابن شيخ الشيوخ استعارها منه وحلف له أن يعيدها إليه ، ولم يردّها بعد ذلك عليه . 
وأخبرني الشيخ أبو القاسم المنفلوطي حينما حضر من منفلوط إلى القاهرة في سنة خمس وثلاثين وسبعمائة أن النسخة المذكورة موجودة عنده الآن وهي معه بالقاهرة وأنها اتصلت إليه من أسلافه واتصلت إلى أسلافه من الشيخ صفيّ الدين بن أبي المنصور ووعدني أنه يحضرها إليّ وسافر إلى منفلوط ولم يحضرها ، وبلغني أن المذكور شيخ زاوية بالبلدة المذكورة وله فيها صولة ) سطوة وسلطة ( مشهورة ، وقد صارت هذه النسخة لهما ثالثة ، ولصحّتهما وارثة ، واللّه الموفّق للسّداد ، والهادي إلى الرّشاد ، وأودعت في صدرها أسرارا من كراماته المشهورة ، وحسن شكله الذي خلقه اللّه بأحسن صورة .

فمن ذلك ما أخبرني به سيدي ولده المشار إليه ، رحمة اللّه عليه . قال : كان الشيخ رضي اللّه عنه معتدل القامة وجهه جميل حسن مشرّب بحمرة ظاهرة وإذا استمع وتواجد وغلب عليه الحال يزداد وجهه جمالا ونورا ويتحدر العرق من سائر جسده حتى يسيل تحت قدميه على الأرض ولم أر في العرب ولا في العجم مثل حسن شكله وأنا أشبه الناس به في الصورة وكان عليه نور وخفر ) الخفر الحياء والبهجة ( وجلالة وهيبة ومن فهم معاني كلامه دلّته معرفته على مقامه ، ومن اختصّه اللّه بمحبته وأنسه ، يعرف المحبّ بين أهل المحبة من جنسه ، وقد جعل اللّه المحبّين خزائن أسراره المصونة ، ومعادن ).
 أي : مواضع ظهور مغنى ( قوله تعالى :يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [ المائدة : الآية 54 ] وكان إذا مشى في المدينة تزدحم الناس عليه يلتمسون منه البركة والدعاء ويقصدون تقبيل يده فلا يمكّن أحدا من ذلك ، بل يصافحه وكانت ثيابه حسنة ورائحته طيّبة ، وكان إذا حضر في مجلس يظهر على ذلك المجلس سكون وهيبة وسكينة ووقار ، ورأيت جماعة من مشايخ الفقهاء والفقراء وأكابر الدولة من الأمراء والوزراء والقضاة ورؤساء الناس يحضرون مجلسه ، وهم في غاية ما يكون من الأدب معه والاتّضاع له ، وإذا خاطبوه فكأنهم يخاطبون ملكا عظيما ، وكان ينفق على من يرد ) أي يزوره ( عليه نفقة متّسعة ويعطي من يده عطاء جزيلا ولم يكن يتسبّب في تحصيل شيء من الدنيا ولا يقبل من أحد شيئا ، وبعث إليه السلطان محمد الملك الكامل رحمه اللّه ألف دينار فردّها إليه وسأله أن يجهّز له ضريحا عند قبر أمه ) أي : أم الملك المذكور ( بتربة الإمام الشافعي رضي اللّه عنه فلم ينعم له

« 12 »

بذلك ثم استأذنه أن يبني له مزارا مختصّا به فلم يأذن له بذلك وسنذكر ذلك وسببه في موضعه .
قال ولده رحمه اللّه : سمعت الشيخ رضي اللّه عنه يقول : كنت في أول تجريدي أستأذن والدي وأطلع إلى وادي المستضعفين ) بصيغة اسم المفعول ( بالجبل الثاني من المقطم ) بالميم وفي بعض النسخ بالباء ( وآوي فيه وأقيم في هذه السّياحة ليلا ونهارا ثم أعود إلى والدي لأجلّ برّه ومراعاة قلبه ، وكان والدي يومئذ خليفة الحكم للعزيز بالقاهرة ومصر المحروستين وكان من أكابر أهل العلم والعمل فيجد سرورا برجوعي إليه ويلزمني بالجلوس معه في مجالس الحكم ومدارس العلم ، ثم أشتاق إلى التجريد فأستأذنه وأعود إلى السياحة وما برحت أفعل ذلك مرة بعد مرة إلى أن سئل والدي أن يكون قاضي القضاة فامتنع ونزل عن الحكم واعتزل الناس وانقطع إلى اللّه تعالى بقاعة الخطابة في الجامع الأزهر إلى أن توفي فعاودت التجريد والسياحة وسلوك طريق الحقيقة فلم يفتح عليّ بشيء فحضرت يوما من السياحة إلى القاهرة ودخلت المدرسة السيوفية فوجدت رجلا شيخا بقّالا على باب المدرسة يتوضّأ وضوءا غير مرتّب غسل يديه ثم غسل رجليه ثم مسح برأسه ثم غسل وجهه ، فقلت له : يا شيخ أنت في هذا السّنّ على باب المدرسة بين فقهاء المسلمين وتتوضأ وضوءا خارجا عن الترتيب الشرعي ، فنظر إليّ وقال يا عمر : أنت ما يفتح عليك في مصر ، وإنما يفتح عليك بالحجاز في مكة شرّفها اللّه فاقصدها فقد آن لك وقت الفتح فعلمت أن الرجل من أولياء اللّه تعالى ، وأنه يتستّر بالمعيشة وإظهار الجهل بلا ترتيب الوضوء فجلست بين يديه وقلت له يا سيدي : وأين أنا وأين مكة ولا أجد ركبا ولا رفقة في غير أشهر الحج ؟ 
فنظر إليّ وأشار بيده ، قال : هذه مكة أمامك فنظرت معه فرأيت مكة شرّفها اللّه فتركته وطلبتها فلم تبرح أمامي إلى أن دخلتها في ذلك الوقت وجاءني الفتح حين دخلتها فترادف ولم ينقطع .

قلت : ) أي : قال سبط الشيخ الذي هو جامع نسخة هذا الديوان ( وإلى هذا الفتح أشار رضي اللّه عنه في القصيدة الدالية بقوله :يا سميري روّح بمكة روحي * شاديا إن رغبت في إسعادي
كان فيها أنسي ومعراج قدسي * ومقامي المقام والفتح باديوقال ) أي : الشيخ عمر ( رضي اللّه عنه : ثم شرعت في السّياحة في أودية مكة وجبالها وكنت أستأنس فيها بالوحوش ليلا ونهارا .

« 13 »


قلت : ) أي : قال سبط الشيخ : ( وإلى هذا أشار في القصيدة التائيّة اللطيفة بقوله :
وجنّبني حبيبك وصل معاشري * وحبّبني ما عشت قطع عشيرتي
وأبعدني عن أربعي بعد أربع * شبابي وعقلي وارتياحي وصحتي
فلي بعد أوطاني سكون إلى الفلا * وبالوحش أنسي إذ من الأنس وحشتي 
(قال ) أي : الشيخ عمر ( رضي اللّه عنه وأقمت بواد كان بينه وبين مكة عشرة أيام للراكب المجدّ وكنت آتي منه كل يوم وليلة ، وأصلّي في الحرم الشريف الصلوات الخمس ومعي سبع عظيم الخلقة يصحبني في ذهابي وإيابي وينخ لي كما ينخ الجمل ويقول : يا سيدي اركب فما ركبته قطّ . 
وتحدّث بعض جماعة من كبار المشايخ المجاورين في الحرم في تجهيز مركوب يكون عندي في البرية فظهر لهم السبع عند باب الحرم ورأوه وسمعوا قوله : يا سيدي اركب فاستغفروا اللّه وكشفوا رؤوسهم واعتذروا إليّ ثم بعد خمس عشرة سنة سمعت الشيخ البقّال يناديني يا عمر تعال إلى القاهرة احضر وفاتي وصلّ عليّ ، فأتيته مسرعا فوجدته قد احتضر فسلّمت عليه وسلّم عليّ وناولني دنانير ذهب وقال : جهّزني بهذه وافعل كذا وكذا وأعط حملة نعشي إلى القرافة ) تربة بمصر معروفة ( كل واحد منهم دينارا واطرحني على الأرض في هذه البقعة وأشار بيده إليها فلم تبرح أمامي أنظر إليها وهي بالقرافة تحت الجبل المعروف بالعارض بالقرب من مراكع موسى بسفح الجبل المقطّم عند مجرى السّيل تحت المسجد المبارك المعروف بالعارض ، قال : وانتظر قدوم رجل يهبط عليك من الجبل فصلّ أنت وهو عليّ وانتظر ما يفعل اللّه في أمري قال : ) 
أي : الشيخ عمر ( وتوفي رحمه اللّه فجهّزته كما أشار وطرحته في البقعة كما أمرني فهبط إليّ رجل من الجبل كما يهبط الطائر المسرع لم أره يمشي على رجليه فعرفته بشخصه كنت أراه يصفع قفاه في الأسواق ، 
فقال : يا عمر تقدم فصلّ بنا على الشيخ ، فتقدّمت وصلّيت إماما ورأيت طيورا بيضا وخضرا صفوفا بين السماء والأرض يصلّون معنا ورأيت طائرا منهم أخضر عظيما قد هبط عند رجليه وابتلعه وارتفع إليهم وطاروا جميعا ولهم زجل ) بالتحريك تطريب ورفع صوت ( عظيم بالتسبيح إلى أن غابوا عنّا فسألته عن ذلك فقال : ) 
أي : الرجل الذي هبط من الجبل ( يا عمر أما سمعت أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت هم شهداء السيوف وأما شهداء المحبة فأجسادهم وأرواحهم في أجواف طيور خضر وهذا الرجل ) 
أي : الشيخ البقّال ( منهم يا عمر وأنا كنت منهم وإنما حصلت مني هفوة فطردت عنهم فأنا اليوم أصفع قفاي في الأسواق

« 14 »

ندما وتأديبا على تلك الهفوة قال : ) أي : الشيخ عمر ( ثم ارتفع الرجل إلى الجبل كالطائر إلى أن غاب عني ثم قال ) ولد الشيخ عمر قال : ( لي والدي : يا محمد إنما ذكرت لك هذا لأرغّبك في سلوك طريقنا فلا تذكره لأحد في حياتي فلم أذكره لأحد حتى توفي .

قلت : ) أي : قال سبط الشيخ جامع هذه النسخة من الديوان ( وفي هذه البقعة المباركة دفن الشيخ رضي اللّه عنه حسب وصيته وضريحه بها معروف . 
قال أبو الحسن الجزار رحمه اللّه :
لم يبق صيب مزنة إلا وقد * وجبت عليه زيارة ابن الفارض
لا غرو أن يسقي ثراه وقبره * باق ليوم العرض تحت العارضوقلت أنا : ) 
أي قال سبط الشيخ :( 
جز بالقرافة تحت ذيل العارض * وقل السلام عليك يا ابن الفارض
أبرزت في نظم السلوك عجائبا * وكشفت عن سرّ مصون غامض
وشربت من بحر المحبة والولا * فرويت من بحر محيط فائض


وقال ولده رحمه اللّه : رأيت الشيخ رضي اللّه عنه نائما مستلقيا على ظهره وهو يقول : صدقت يا رسول اللّه صدقت يا رسول اللّه رافعا صوته مشيرا بأصبعيه اليمنى واليسرى إليه واستيقظ من نومه وهو يقول كذلك ويشير بأصبعيه كما كان يفعل وهو نائم فأخبرته بما رأيته وسمعته منه وسألته عن سبب ذلك 
فقال : يا ولدي رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المنام وقال لي : يا عمر لمن تنتسب ؟ فقلت : يا رسول اللّه أنتسب إلى بني سعد قبيلة حليمة السعدية مرضعتك . 
فقال : لا بل أنت مني ونسبك متصل بي .
فقلت : يا رسول اللّه إني أحفظ نسبي عن أبي وجدّي إلى بني سعد . 
فقال : لا مادّا بها صوته بل أنت مني ونسبك متّصل بي . 
فقلت : صدقت يا رسول اللّه مكرّرا لذلك مشيرا بأصبعيّ كما رأيت وسمعت .
قلت : ) أي : قال جامع هذا الديوان ( رأيت ولده المشار إليه واقفا وأصابع يديه مبسوطة على ركبتيه ، 
وقال : رأيت والدي واقفا وأصابع يديه مبسوطة على ركبتيه مثل وقوفي هذا وقال : ) 
أي : الشيخ عمر ( هذا ) أي : وصول اليدين إلى حدّ الرّكبتين ( من علامات الشرف ) 
أي : صحّة النسب إلى النبي ( وهذه النسبة الشريفة إما أن تكون نسبة الأهليّة أو نسبة المحبة والنسبة التي هي عند أهل المحبة أشرف من نسب الأبوّة التي

« 15 »

هي جعلت بلالا الحبشي وسلمان الفارسي وصهيبا الرومي من أهل البيت وأبعد عنها أبو طالب ) أبو طالب هو عمّ النبي صلى اللّه عليه وسلم أخو أبيه وأبو علي مات ولم يؤمن برسالة ابن أخيه ( ولم يتشرّف بها ولم تنفعه نسبة العمومة التي هي أقرب الأنساب الأهلية لما حجبته المشيئة الإلهية عن الهداية الربانية ، وكذلك تبرّأ إبراهيم الخليل من أبيه لمّا تبيّن له أنه عدوّ اللّه ) كما جاء في القرآن وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إيّاه فلما تبيّن له أنه عدوّ اللّه تبرّأ منه وكان وعده بالإسلام والإيمان به فامتنع من ذلك ( وقيل لنوح عليه السلام في ولده : ) لما قال :رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ( 45 ) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ[ هود : الآيتان 45 ، 46 ] 
( وإلى هذا النسب الشريف أشار شيخنا رضي اللّه عنه في القصيدة اليائية حيث قال :نسب أقرب في شرع الهوى * بيننا من نسب من أبويقلت : ) 
أي : قال جامع هذا الديوان : ( ورأيت في المنام كأنني في الحضرة الشريفة المحمدية وكان عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جماعة كثيرة من الأنبياء والأولياء وكان الشريف شمس الدين محمد الأيكي نقيب السادة الأشراف وقاضي العساكر المنصورة قدّس اللّه روحه مع الجماعة في الحضرة الشريفة ولم أعرف أحدا منهم بصورته سواه وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر بإثبات نسبة الشيخ صبيح الحبشي إليه صلى اللّه عليه وسلم ورأيت رجلا معه المكتوب الذي يشهد بالنسبة وهو يدور على الجماعة الحاضرين يأخذ خطوطهم فيه فلما وصل إليّ ناولني المكتوب وقال لي : اكتب ، فقلت له : أنا ما رأيت الشيخ صبيحا ولا عاصرته ولا أعرف نسبته وإنما رأيت أولاده وهم أصحابي فصرخ عليّ صرخة عظيمة وجدت لها رعبا عظيما وقال لي : اكتب كما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يكتب ، فقلت : وما أكتب ؟ قال : اكتب أشهد أن النبي صلى اللّه عليه وسلم متصل النسب بالشيخ صبيح فكتبت كما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يكتب .

وقال ولده رحمه اللّه سمعت الشيخ رضي اللّه عنه يقول : رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المنام وقال لي : « يا عمر ما سمّيت قصيدتك » ؟ فقلت : يا رسول اللّه سمّيتها لوائح ) جمع لائحة من لاح بدا وظهر أو تلألأ ( الجنان ) بالفتح هو القلب أو الروح ( وروائح الجنان ) بالكسر جمع جنة ، وهي الحديقة ذات النخل والشجر ( فقال : « لا بل سمّها نظم السلوك » ) 
أي : جمع معاني السير بالهمّة القلبية إلى حضرة ربّ البريّة ( فسمّيتها بذلك وقال : ) 
أي : ولد الشيخ عمر ( حضر في مجلس الشيخ رضي اللّه عنه

" 16 "

رجل وسمّاه فأنسيت اسمه وكان من أكابر علماء أهل زمانه واستأذنه في شرح القصيدة نظم السلوك ، فقال له : في كم مجلد تشرحها ؟ فقال : في مجلدين ، فتبسّم الشيخ رضي اللّه عنه وقال : لو شئت لشرحت كل بيت منها في مجلدين . 
قال ولده رحمه اللّه : كان الشيخ رضي اللّه عنه في غالب أوقاته لا يزال دهشا وبصره شاخصا لا يسمع من يكلّمه ولا يراه فتارة يكون واقفا ، وتارة يكون قاعدا ، وتارة يكون مضطجعا على جنبه ، وتارة يكون مستلقيا على ظهره مسجّى ) مغطّى ( كالميت ويمرّ عليه عشرة أيام متواصلة وأقلّ من ذلك وأكثر وهو على هذه الحالة ولا يأكل ولا يشرب ولا يتكلم ولا يتحرّك فهو كما قيل :ترى المحبّين صرعى في ديارهم * كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
واللّه لو حلف العشّاق أنهم * صرعى من الحبّ أو موتى لما حنث
واقال : ) أي : قال ولده ( ثم يستفيق وينبعث من هذه الغيبة ويكون أول كلامه أنه يملي من القصيدة نظم السلوك ما فتح اللّه عليه .
قلت : ) أي : قال جامع هذا الديوان : ( ثم طالعت في مجموع بخط رجل فاضل فرأيت من جملته القصيدة التائيّة الكبيرة ورأيت قبلها ترجمة هذه صورتها :
قال الشيخ المحقّق شرف الدين عمر بن الفارض السعدي نوّر اللّه مضجعه هذه القصيدة الغرّاء والفريدة الزهراء التي لم ينسج على منوالها ولا سمح خاطر بمثالها وتكاد تخرج عن طوق وسع البشر ألفاظا ومعاني ، وكان سمّاها أولا أنفاس الجنان ونفائس ) جمع نفيس ( الجنان ثم سمّاها لوائح الجنان وروائح الجنان ، وروائح الجنان ، ثم رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم في المنام وقال له : « سمّها نظم السلوك » فسمّاها بذلك .

ثم حكى جماعة يوثق بهم ممّن صحبوه وباطنوه أنه لم ينظمها على حدّ نظم الشعراء أشعارهم بل كانت تحصل له جذبات يغيب فيها عن حواسّه نحو الأسبوع والعشرة أيام فإذا أفاق أملى ما فتح اللّه عليه منها من الثلاثين والأربعين والخمسين بيتا ثم يدع حتى يعاوده ذلك الحال ومن تأمّلها حقّ التأمّل علم أن بها نبأ عظيما صانها اللّه عن غير أهلها ثم كتب القصيدة بعد هذه الترجمة ، ويحكى أنه لمّا فوّض أمر الوزارة إلى قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعزّ رحمه اللّه في أيام السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي رحمه اللّه وقع في حق الشيخ شمس الدين الأيكي ) أي ذمّه وسبّه ( في مجلس حافل بالخانقاه الصالحية ) في مصر ( وقال له : أنت تأمر الصوفية بالاشتغال بنظم السلوك قصيدة ابن الفارض وهو يميل

"17 "

فيها إلى الحلول ) أي : حلول الحق تعالى في أعيان العالم ( وأهانه بالكلام فدعا عليه وقال له : مثّل اللّه بك كما مثّلت بي ) أي كما أهنتني واحتقرتني ( فعزل عقيب ذلك من الوزارة في أواخر الدولة المنصورية بسؤاله ثم عزل من القضاء في الدولة الأشرفية وصودر ومثّل به ) 
أي : سلّط اللّه تعالى عليه من أهانه واحتقره نظير فعله بالشمس الأيكي ( وحبس مدة ونسب إلى سوء الاعتقاد وإلى أنه وقع في كلام يفسق به وشهد عليه بالزّور في ذلك من لا خلاق له وكان ذلك لأجل غرض للصاحب شمس الدين محمد بن السعلوس ومما قيل فيه :
وحاشاه من قول عليه مزوّر * وما عملت سوءا عليه الملائك
لئن ثنّت العلياء عنه عنانها * فتدبيره أثنت عليه الممالك

وكان ذلك القصاص عن وقوعه في حق الخواص وكان يرسلني في الباطن إلى من يسعى في خلاصه من الأمراء ومشايخ الفقراء وكان إذا اشتدّ عليه الخناق يقول :
اشتدّي أزمة تنفرجي ويكرّر ذلك مرارا فلما منّ اللّه عليه بالخلاص من هذه النكبة وتفريج هذه الكربة حضرت عنده أنا والشيخ سعد الدين الحارثي الحنبلي المحدّث وكان من أعزّ أصحابه وسمعته يحمد اللّه ويشكره على حسن العاقبة والسلامة فعرضت له بذكر واقعته مع الشيخ شمس الدين الأيكي ووقوعه في حقه وحق شيخنا وأنه نسبهما إلى الحلول وهما بريئان منه وقلت له : كيف يتصوّر أن الشيخ يميل في قصيدته إلى الحلول وقد نزّه قصيدته عن الحلول بقوله :
وكيف وباسم الحق ظل تخلّقي * تكون أراجيف الضلال مخيفتي
وها دحية وافى الأمين نبيّنا * بصورته في بدء وحي النبوّة
أجبريل قل لي كان دحية إذ بدا * لمهدي الهدى في صورة بشرية
وفي علمه عن حاضريه مزية * بماهيّة المرئيّ عن غير مريه
يرى ملكا يوحى إليه وغيره * يرى رجلا يدعي إليه بصحبة
ولي من أتمّ الرؤيتين إشارة * تنزّه عن رأي الحلول قصيدتي
وفي الذّكر ذكر اللّبس ليس بمنكر * ولم أعد عن حكمي كتاب وسنّة

" 18 "

فقال : ) أي : ابن بنت الأعزّ ( أنا أحبّ الناس في نظم الشيخ وحفظت ديوانه وأنا شاب وانتفعت بحفظه وهذه الأبيات ما كأنّي قطّ سمعتها إلا في هذه الساعة وقد زال من ذهني ما كنت أعتقده من ميل الشيخ في قصيدته إلى الحلول وأنا أستغفر اللّه مما جرى مني من الكلام في حقه فقلت له : ) أي : قال جامع هذا الكتاب ( وفي حق الشيخ شمس الدين الأيكي ؟ قال : نعم ، وما برحت في قلق من دعائه إلى أن حلّت بي هذه المحنة فاللّه تعالى يغفر لي وله وأنا تائب إلى اللّه تعالى من الوقوع في حق أهل هذا الطريق فمنهم أصبت وبالتوسّل إلى اللّه تعالى ببركتهم سلّمت ثم حجّ ) أي : ابن بنت الأعزّ ( بعد ذلك وامتدح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقصيدة وأنشدها عند الروضة الشريفة والمنبر حافيا مكشوف الرأس وبكى بكاء شديدا وبكى الناس معه ودعوا على أعدائه وقرأ خادم أم الملك السعيد وكان حسن الصوت عشرا من القرآن وهو قوله تعالى :وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً[ النّور : الآية 55 ] 
فاستبشر بذلك هو والناس وعلموا أن اللّه قد تقبّل دعاءهم ولمّا حضر من الحجاز وجد أعداءه الذين سلقوه ) أي : آذوه ( بالألسنة قد هلك منهم من هلك عن بيّنة ثم فوّض إليه القضاء فما برح متولّيه إلى أن قضى عليه فرحمه اللّه رحمة واسعة وجعل في روضات الجنان مضاجعه .
ورأيته ) 
أي : رآه جامع هذا الديوان ( بعد موته في المنام ووجهه كالقمر وعليه نور يتلألأ وعليه ثياب دنسة فسألته عن ذلك فقال : هذا نور العلم وهذه ثياب الحكم ، ثم رأيته بعد ذلك في المنام وهو يخطب على منبر جامع الأزهر ومما حفظته من كلامه وسيعود شعارنا ) 
أي : حالنا وشأننا ( إلى ما كان عليه .

وقال لي ولده رحمه اللّه : سمعت الشيخ رضي اللّه عنه يقول : حصلت مني هفوة فوجدت مؤاخذة شديدة في باطني بسببها وانحصرت باطنا وظاهرا حتى كادت روحي تخرج من جسدي فخرجت هائما كالهارب من أمر عظيم فعله وهو مطالب به فطلعت الجبل المقطّم وقصدت مواطن سياحتي وأنا أبكي وأستغيث وأستغفر فلم ينفرج ما بي وقصدت مدينة مصر ودخلت جامع عمرو بن العاص ووقفت في صحن الجامع خائفا مذعورا وجدّدت البكاء والتضرّع والاستغفار فلم ينفرج ما بي فغلب عليّ حال مزعج لم أجد مثله قطّ قبل ذلك فصرخت وقلت :من ذا الذي ما ساء قطّ * ومن له الحسنى فقط

« 19 »

قال : فسمعت قائلا يقول بين السماء والأرض : أسمع صوته ولا أرى شخصه :
محمّد الهادي الذي * عليه جبريل هبط

وقال لي ولده رحمه اللّه : رأيت الشيخ رضي اللّه عنه نهض ورقص طويلا وتواجد وجدا عظيما وتحدّر منه عرق كثير حتى سال تحت قدميه وخرّ إلى الأرض واضطرب اضطرابا عظيما ولم يكن عنده غيري ثم سكن حاله وسجد للّه تعالى فسألته عن سبب ذلك فقال : يا ولدي فتح اللّه عليّ بمعنى في بيت لم يفتح عليّ بمثله وهو : وعلى تفنّن واصفيه بحسنه * يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

وحكى لي ولده رحمه اللّه قال : كان الشيخ رضي اللّه عنه ماشيا في السوق بالقاهرة فمرّ على جماعة من الحرسية يضربون بالناقوس ويغنّون بهذين البيتين وهما :
مولاي سهرنا نبتغي منك وصال * مولاي فلم تسمح فنمنا بخيال
مولاي فلم يطرق فلا شك بأن * ما نحن إذا عندك مولاي ببال

فلما سمعهم الشيخ رضي اللّه عنه صرح صرخة عظيمة ورقص رقصا كثيرا في وسط السوق ورقص جماعة كثيرة من المارّين في الطريق حتى صارت جولة ) أي :
كثرة وازدحام ( وإسماع عظيم ) أي : ضجّة مطربة ورجّة معجبة ( وتواجد الناس إلى أن سقط أكثرهم إلى الأرض والحرّاس يكرّرون ذلك وخلع الشيخ كلّ ما كان عليه من الثياب ورمى بها إليهم وخلع الناس معه ثيابهم وحمل بين الناس إلى الجامع الأزهر وهو عريان مكشوف الرأس وفي وسطه لباسه وأقام في هذه السّكرة أياما ملقى على ظهره مسجّى كالميت فلما أفاق جاء الحرّاس إليه ومعهم ثيابه فوضعوها بين يديه فلم يأخذها وبذل الناس لهم فيها ثمنا كثيرا فمنهم من باع ومنهم من امتنع من بيع نصيبه وخلّاه عنده تبرّكا به .

وحكى لي أيضا رحمه اللّه قال : كان الشيخ رضي اللّه عنه ماشيا في الشارع الأعظم بالقرب من مسجد ابن عثمان وأنا معه وإذا بنائحة تنوح وتندب على ميتة في طبقة والنساء يجاوبنها وهي 
تقول :
ستّي متى متّي حقّا * أي واللّه حقّا حقّا
قال : فلما سمعها الشيخ رضي اللّه عنه صرخ صرخة عظيمة وخرّ مغشيّا عليه فلما أفاق صار 
يقول ويردّد مرارا :
نفسي متى متّي حقّا * أي واللّه حقّا حقّا

« 20 »

وحكى لي أيضا رحمه اللّه قال : كان الشيخ جالسا في الجامع الأزهر على باب قاعة الخطابة وعنده جماعة من الفقراء والأمراء وجماعة من مشايخ الأعجام المجاورين بالجامع وغيرهم وكلما ذكروا حالا من أحوال الدنيا مثل الطشت خانه ) أي : طشت البيت الذي يستعملونه في غسل الأيدي ونحو ذلك 
( والفرشخانة ) أي : فرش البيت مما هو المعتاد ( وغير ذلك يقول هذا من زخم العجم ) أي : وضع واصطلاح وأصل الزخم الدفع الشديد ( فبينما هم يتفاوضون في ذلك ويفخّمون زخم ) أي وضع ( العجم إذا المؤذّنون رفعوا أصواتهم بالأذان جملة واحدة فقال الشيخ : وهذا زخم العرب وتواجد وصرخ كلّ من كان حاضرا حتى صار لهم ضجّة عظيمة .

وحكى لي أيضا رحمه اللّه قال : كان السلطان الملك الكامل رحمه اللّه أهل العلم ويحاضرهم في مجلس مختص بهم وكان يميل إلى فنّ الأدب فتذاكروا يوما في أصعب القوافي فقال السلطان من أصعبها الياء الساكنة فمن كان منكم يحفظ شيئا منها فليذكره فتذاكروا في ذلك فلم يتجاوز أحد منهم عشرة أبيات فقال السلطان أنا أحفظ منها خمسين بيتا قصيدة واحدة وذكرها فاستحسن الجماعة ذلك منه فقال القاضي شرف الدين كاتب سرّه : أنا أحفظ منها مائة وخمسين بيتا قصيدة واحدة ، فقال السلطان : يا شرف الدين جمعت في خزائني أكثر دواوين الشعراء في الجاهلية والإسلام وأنا أحبّ هذه القافية فلم أجد فيها أكثر من الذي ذكرته لكم ، فأنشدني هذه الأبيات التي ذكرت فأنشده قصيدة الشيخ اليائية التي مطلعها :
سائق الأظعان يطوي البيد طيّ * منعما عرّج على كثبان طيّ

فقال السلطان : يا شرف الدين لمن هذه القصيدة فلم أسمع بمثلها وهذا نفس محبّ ؟ فقال : هذه من نظم الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض . فقال : وفي أيّ مكان مقامه ؟ فقال : كان مجاورا بالحجاز وفي هذا الزمان حضر إلى القاهرة وهو مقيم بقاعة الخطابة في الجامع الأزهر . فقال السلطان : يا شرف الدين خذ منّا ألف دينار وتوجّه إليه وقل عنّا ولدك محمد يسلّم عليك ويسألك أن تقبل هذه منه برسم الفقراء الواردين عليك فإذا قبلها اسأله الحضور لدينا لنأخذ حظّنا من بركته . 
فقال :
مولانا السلطان يعفيني من ذلك فإنه لا يأخذ الذهب ولا يحضر ولا أقدر بعد ذلك أدخل عليه حياء منه . فقال : لا بدّ من ذلك ، فأخذ ) أي : كاتب السرّ ( الذهب وتركه مع إنسان صحبته وقصد مكان الشيخ فوجده واقفا على الباب ينتظره فابتدأه بالكلام ، وقال : يا شرف الدين ما لك ولذكري في مجلس السلطان ، ردّ الذهب إليه ولا ترجع تجيئني إلى سنة فرجع وقال للسلطان : وددت أن أفارق الدنيا ولا أفارق رؤية

« 21 »

الشيخ سنة . فقال السلطان : مثل هذا الشيخ يكون في زماني ولا أزوره ، لا بدّ لي من زيارته ورؤيته ، فنزل السلطان في الليل إلى المدينة مستخفيا هو وفخر الدين عثمان الكاملي وجماعة من الأمراء الخواصّ عنده وبات في قاعة المهمندار التي قبالة الجامع ودخل إلى الجامع بعد العشاء الأخيرة ، فلما أحسّ بهم الشيخ خرج من الباب الآخر الذي بظاهر الجامع وسافر إلى ثغر الإسكندرية وأقام بالمنار ) 
أي : الجبل الذي هناك ( أياما ثم رجع إلى الجامع الأزهر وبلغ السلطان حضوره وأنه متوعّك ) أي ضعيف ( المزاج فأرسل إليه مع فخر الدين الكاملي يستأذنه أن يجهز ) أي : السلطان ( له ) أي : للشيخ رضي اللّه عنه ( ضريحا عند قبر أمه )
 أي : أم السلطان ( بقبة الإمام الشافعي رضي اللّه عنه فلم يأذن له بذلك ، ثم سأله أن يبني له تربة تكون مزارا مختصّا به ) أي : بالشيخ عمر رضي اللّه عنه ( فلم ينعم له بذلك ثم نصل من ذلك التوعّك وعافاه اللّه تعالى .

قلت : ) أي قال جامع هذا الديوان : ( حضر عندي في مسجد القاضي أمين الدين بن الرقاوي وكان له اعتقاد حسن في الشيخ رضي اللّه عنه تلقّاه من والده فإنه كان من أعزّ أصحاب الشيخ رضي اللّه عنه وحضر معه جماعة رؤساء منهم القاضي جمال الدين إبراهيم ابن الشيخ بهاء الدين ابن الشيخ جمال الدين الأسيوطي رحمه اللّه فحكى لنا أن والده حكى له عن جدّه أنه قال : مشيت مع الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض رضي اللّه عنه من الجامع الأزهر إلى باب زويلة ) أحد أبواب مصر ( وأخبرني ) أي الشيخ عمر رضي اللّه عنه ( أنه متوجّه إلى جامع مصر فسألته أن أرافقه فأجاب فطلبت مكاريا وقلت له : كم لك إلى جامع مصر ؟ فقال : اركبوا معي على الفتوح ) 
أي : كل شيء يفتح عليكم به أتناوله منكم ( فقلت له : لا بدّ أن تشارطنا فعزّ ) أي :
امتنع ( وصعب ذلك على الشيخ عمر رضي اللّه عنه وقال له : نعم ، نركب معك على الفتوح ، فركبنا معه فوجدنا في الطريق فخر الدين عثمان الكاملي فترجّل وترجّل أصحابه وسلّم على الشيخ رضي اللّه عنه وأراد أن يقبّل يده فرفع الشيخ يده ومسح بها على رأسه ووجهه ودعا له وقال : اركب بارك اللّه فيك وعليك فركب وانصرف وتبعنا فارس من جهته فاستند إليّ وقال لي : قل للشيخ هذه مائة دينار يقبلها من الأمير على الفتوح ) 


أي : حسب فتوح الوقت ( فقلت ذلك للشيخ ، فقال : نحن ركبنا مع المكاري على الفتوح وهذه فتوح فتوجّه أعطها له وأمر بها للمكاري فرجع ذلك الفارس إلى الأمير فخر الدين وأخبره بذلك فبعث إليه مثلها ، فقلت له عنها فقال : أعطها للمكاري ، 
فقلت : هذه مائة دينار ثانية ، فقال : عرفت بها فتوجّه فأعطها له ، فأعطيته

« 22 »

المائة دينار الثانية ، فلما وصلنا إلى الجامع ونزلنا عن الدواب ، اعتذر الشيخ رضي اللّه عنه إلى المكاري ودعا له .
وحكى لي ولده رحمه اللّه قال : كان للشيخ رضي اللّه عنه أربعينيات متواصلة لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ، وفي بعض أيام أربعينية اشتهت نفسه عليه هريسة وكان في آخر أيام الأربعين 
فقال رضي اللّه عنه : يا نفس إما تصبري بقية هذا اليوم وتفطري على الهريسة فأبت 
وقالت : لا بدّ من الهريسة في هذا الوقت ،
 قال الشيخ : فاشتريت الهريسة وجئت إلى قبّة الشرابي ورفعت أول لقمة إلى فمي فانشقّ جدار القبّة المذكورة وخرج منها شاب جميل الوجه حسن الهيئة أبيض الثياب عطر الرائحة وقال : تفّ عليك ، فقلت : نعم إن أكلتها ، فرميت تلك اللقمة من يدي في الحال قبل أن تصل إلى فمي وتركت الهريسة وخرجت من الحرم إلى السّياحة وأدّبت نفسي بزيادة عشرة أيام في المواصلة إلى الأربعين لتتمة خمسين يوما .

وحكى لي ولده رحمه اللّه قال : لمّا حجّ الشيخ شهاب الدين السهروردي شيخ الصوفية وكان ذلك آخر حجّه في سنة ثمان وعشرين وستمائة وكانت وقفة الجمعة وحجّ معه خلق كثير من أهل العراق فرأى كثرة ازدحام الناس عليه في الطواف بالبيت والوقوف بعرفة واقتدائهم بأقواله وأفعاله وبلغه أن الشيخ رضي اللّه عنه في الحرم فاشتاق إلى رؤيته وبكى وقال في سرّه يا ترى هل أنا عند اللّه كما يظنّ هؤلاء القوم فيّ ، ويا ترى هل ذكرت في حضرة المحبوب في هذا اليوم فظهر له الشيخ رضي اللّه عنه وقال له يا سهروردي :
لك البشارة فاخلع ما عليك فقد * ذكرت ثم على ما فيك من عوج

فصرخ الشيخ شهاب الدين وخلع كل ما كان عليه وخلع المشايخ والقوم الحاضرون كل ما كان عليهم وطلب الشيخ فلم يجده ، فقال : هذا إخبار من كان في الحضرة ثم اجتمعا بعد ذلك اليوم في الحرم الشريف واعتنقا وتحدّثا سرّا زمانا واستأذن ) 

أي : السهروردي ( والدي أن يلبسني ويلبس أخي عبد الرحمن خرقة الصوفية على طريقته فلم يأذن له وقال له : ليست هذه طريقتنا فلم يزل يعاوده إلى أن أذن له فلبست منه أنا وأخي ولبس معنا بإذن والدي رضي اللّه عنه ، أيضا شهاب الدين بن الخيمي وأخوه شمس الدين فإنهما كانا عند والدي في منزلة الأولاد ولبس منه في ذلك الوقت جماعة كثيرة بحضور الشيخ والدي وحضور جماعة من المشايخ مثل ابن العجيل اليمني وغيره .

« 23 »


وحكى لي ) أي : ولد الشيخ عمر ( رحمه اللّه قال : كان الشيخ رضي اللّه عنه يقيم في شهر رمضان بالحرم ) المكّي ( لا يخرج إلى السياحة ويطوي ويحيي ليله قلت ) أي : قال جامع هذا الديوان ( وقد أشار إلى ذلك بقوله في القصيدة اليائية :
في هواكم رمضان عمره * ينقضي ما بين إحياء وطيّ

قال رحمه اللّه فشدّ والدي في وسطه مئزرا وكذلك فعل المجاورون بالحرم من أوّل شهر رمضان وهم في طلب ليلة القدر فتارة يطوفون وتارة يصلّون وأنا معهم فخرجت ليلا من الحرم في العشر الأواخر لأزيل حقنة ) أي : أبول ( بظاهر الحرم فرأيت البيت والحرم ودور مكة وجبالها ساجدين للّه تعالى ورأيت أنوار عظيمة بين السماء والأرض فوجدت هيبة ورعبا شديدا وجئت إلى والدي مهرولا فأخبرته بذلك فصرخ وقال للمجاورين الواقفين في طلب ليلة القدر : هذا ولدي خرج يبول فرأى ليلة القدر فصرخ الناس معه إلى أن علا ضجيجهم بالبكاء والدعاء والصلاة والطواف إلى الصباح وخرج والدي في أودية مكة هائما في السّياحة ولم يدخل الحرم إلى يوم العيد في تلك السنة .

وحكى لي أيضا ) أي : ولد الشيخ ( رحمه اللّه ، قال : كان الشيخ رضي اللّه عنه يتردّد إلى المسجد المعروف بالمشتهى في أيام النيل ويحبّ مشاهدة البحر وفيه قال من أبيات :
وطني مصر وفيها وطري * ولعيني مشتهاها مشتهاها
فتوجّه إليه ) أي : إلى المشتهى ( يوما فسمع قصارا يقصر ويضرب مقطعا على حجر ويقول :
قطع قلبي هذا المقطع * ما قال . . . . . . )
أي : ما كان :
( . . . . . . . . . . . . . . * . . . . . يصفو أو يتقطع

فما زال الشيخ يصرخ ويكرّر هذا السجع ساعة بعد ساعة ويضطرب اضطرابا شديدا ويتقلّب على الأرض ثم يسكن اضطرابه حتى يظن أنه قد مات ثم يستفيق ويتكلم معنا بكلام لدني ما سمعنا مثله قطّ ولا نحسن أن نعبّر عنه ثم يضطرب على كلامه ويعود إلى حال وجده ودخل إلينا رجل من أصحابه فلما رآه ) أي : رأى الشيخ ( وشاهد حاله قال : ) أي : ذلك الرجل :
( أموت إذا ذكرتك ثم أحيا * فكم أحيا عليك وكم أموت


يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: ديباجة الديوان .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 7:49 pm

ديباجة الديوان .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
ديباجة الديوان
« 24 »

فوثب الشيخ قائما واعتنقه وقال له : أعد ما قلت . فسكت الرجل شفقة منه عليه وسأله أن يرفق بنفسه وذكر له شيئا من حاله عند غلبة الوجد عليه فقال :
إن ختم اللّه بغفرانه * فكلّ ما لاقيته سهل )

قلت : ولم يزل على هذا الحال من حين سمع كلام القصّار إلى أن توفي رحمة اللّه عليه .
ذكر سبب رحلة الشيخ برهان الدين الجعبري سلام اللّه عليه من جعبر
وهي قلعة على الفرات من بلاد الشرق استولى عليها رجل من بني نمير اسمه جعبر فنسبت إليه ( إلى زيارة شيخنا رضي اللّه عنه قال ) أي : ولد الشيخ عمر ( إنني كنت في مسجدي فورد على باطني انقباض من أوّل الليل إلى طلوع الفجر فصلّيت الصّبح فيه وخرجت منه عازما على زيارة ضريح الشيخ فجزت تحت مسجد الشيخ برهان الدين فسمعته يتكلم في ميعاده فطلعت إليه ودخلت المسجد فسمعته يقول هذا البيت من قصيدة شيخنا رضي اللّه عنه :
فلم تهوني ما لم تكن فيّ فانيا * ولم تفن ما لم تجتلي فيك صورتي

فلما رآني قال : لا إله إلا اللّه كنت أتكلم في معنى كلام الرجل فساق اللّه إليّ سرّه ) أي : ولده لأنه يقال الولد سرّ أبيه ( ثم أقبل عليّ ومرّ بيده المباركة على وجهي وصدري فشرح اللّه صدري وزال عنّي ما كنت أجده من الانقباض وأقمت زمانا أجد في باطني انشراحا وسرورا وشرع يتكلم في معنى البيت بكلام عجيب ونعت غريب ثم أخبرت بعد هذا الميعاد أن سبب ذكر هذا البيت في أوّل الميعاد أن الشيخ الجعبري رضي اللّه عنه قال : كنت في السّياحة بجعبر أو قال بالفرات وأنا أخاطب روحي بروحي وأناجيها بتلذّذي بفنائي في المحبة فمرّ بي رجل كالبرق وهو يقول :
فلم تهوني ما لم تكن فيّ فانيا * ولم تفن ما لم تجتلي فيك صورتي


فعلمت أن هذا نفس محبّ فوثبت إلى الرجل وتعلّقت به وقلت له : من أين لك هذا النّفس ؟ 
فقال : هذا نفس أخي الشيخ شرف الدين بن الفارض . 
فقلت له : وأين هذا الرجل ؟ 
فقال : كنت أجد نفسه من جانب الحجاز ، والآن أجد نفسه من جانب مصر وهو محتضر وقد أمرت بالتوجّه إليه وأن أحضر انتقاله إلى اللّه تعالى وأصلّي عليه وأنا ذاهب إليه . 
فلما التفت الرجل إلى جانب مصر التفت معه فشممت

« 25 »

أثر الرجل ) أي : الشيخ عمر بن الفارض ( فتبعت أثر الرائحة إلى أن دخلت عليه في ذلك الوقت وهو محتضر ، فقلت له : السلام عليك ورحمة اللّه وبركاته ، فقال :
وعليك السلام يا إبراهيم إجلس وأبشر فأنت من أولياء اللّه تعالى . فقلت له يا سيدي هذه البشرى جاءتني من اللّه على لسانك وأريد أن أسمع منك دليلا ليطمئن قلبي فإن اسمي إبراهيم ولي من سرّ مقام هذا الاسم الإبراهيمي نصيب حين ) قال : رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [ البقرة : الآية 260 ] بحياتك القديمة الأزلية . ( قال : ) اللّه تعالى ( أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ [ البقرة : الآية 260 ] ) إبراهيم ( بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ [ البقرة : الآية 260 ] ) 
الشيخ عمر ( نعم يا إبراهيم سألت اللّه أن يحضر وفاتي وانتقالي إليه جماعة من أولياء اللّه وقد أتى بك أوّلهم فأنت منهم ، وكنت سألت ) أي : كان الشيخ إبراهيم الجعبري سأل ( جماعة من الأولياء عن مسألة فلم يجبني أحد عنها فسألته عنها فقلت له ) 
أي : للشيخ عمر ( يا سيدي هل أحاط أحد باللّه علما فنظر إليّ نظر معظّم لي وقال : نعم إذا حيطهم يحيطون يا إبراهيم وأنت منهم ثم رأيت الجنة قد تمثّلت له فلما رآها قال : آه وصرخ صرخة عظيمة وبكى بكاء شديدا وتغيّر لونه وقال :
إن كانت منزلتي في الحب عندكم * ما قد رأيت فقد ضيّعت أيامي
أمنية ظفرت روحي بها زمنا * واليوم أحسبها أضغاث أحلام

فقلت له : يا سيدي هذا مقام كريم ، فقال : يا إبراهيم رابعة العدوية تقول وهي امرأة وعزّتك ما عبدتك خوفا من نارك ولا رغبة في جنتك بل كرامة لوجهك الكريم ومحبة فيك وليس هذا المقام الذي كنت أطلبه وقضيت عمري في السلوك إليه ثم بعد ذلك سكن قلقه وتبسّم وسلّم عليّ وودّعني وقال : احضر وفاتي وتجهيزي مع الجماعة وصلّ عليّ معهم واجلس عند قبري ثلاثة أيام بلياليهنّ ثم بعد ذلك توجّه إلى بلادك ثم اشتغل عني بمخاطبة ومناجاة فسمعت قائلا يقول بين السماء والأرض أسمع صوته ولا أرى شخصه يا عمر فما تروم 
فقال :
أروم وقد طال المدى منك نظرة * وكن من دماء دون مرماي طلت

ثم بعد ذلك تهلّل وجهه وتبسّم وقضى نحبه فرحا مسرورا فعلمت أنه قد أعطي مرامه وكنّا عنده جماعة كثيرة فيهم من أعرفه من الأولياء وفيهم من لا أعرفه ومنهم الرجل الذي كان سبب المعرفة وحضرت غسله وجنازته ولم أر في عمري جنازة أعظم منها وازدحم الناس على حمل نعشه ورأيت طيورا بيضا وخضرا ترفرف عليه وصلّينا

« 26 »

عليه عند قبره ولم يتجهّز حفره إلى آخر النهار والناس مجتمعون حوله وهم مختلفون في أمره ، فقال قوم : بل هذا تأديب في حقه لأنه كان يدّعي في المحبة مقاما عظيما .

وقال قوم : بل هذا الحرمان آخر ما يلقى الوليّ من أعراض الدنيا وكلّهم محجوبون عن مشاهدة مقامه ) أي : مقام الشيخ رضي اللّه عنه ( إلا من شاء اللّه وأنا أنظر بما فتح اللّه عليّ به من الكشف إلى الروح المقدّسة المحمدية وهي تصلّي إماما وأرواح الأنبياء والملائكة والأولياء من الإنس والجنّ يصلّون عليه مع روح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طائفة بعد طائفة وأنا أصلّي مع كل طائفة إلى آخرهم فتجهّز القبر ودفن فيه وأقمت عنده ثلاثة أيام بلياليهنّ وأنا أشاهد من حاله ما لم تحتمل عقولكم شرحه ثم توجّهت إلى جعبر وكانت هذه السّفرة أول دخولي مصر ولسان الحال يقول :
جزاك اللّه عن هذا السعي خيرا * ولكن جئت في الزمن الأخير

ثم رجعت بعد ذلك إلى مصر وأقمت بها إلى زماننا هذا .
وحكى لي ) أي : لمصنّف هذه الديباجة على سبط صاحب الديوان ( ولده ) أي :
ولد الشيخ إبراهيم الجعبري ( شهاب الدين أحمد ، جمع اللّه بينهما عند المقام الأحمد ، قال : زرت مع والدي قبر الشيخ شرف الدين فوجدنا عنده ترابا كثيرا فصرخ الشيخ ) إبراهيم الجعبري ( وقال :
مساكين أهل العشق حتى قبورهم * عليها تراب الذلّ دون الخلائق

ثم حمل الشيخ التراب في حجره وحملنا معه إلى أن نظفنا ما حول القبر .
وتوفي ) أي الشيخ عمر ( رضي اللّه عنه بالقاهرة المحروسة في قاعة الخطابة بالجامع الأزهر وذلك في الثاني من جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ودفن بالغد بالقرافة بسفح جبل المقطم عند مجرى السيل تحت المسجد المبارك المعروف بالعارض الذي هو أعلى الجبل المذكور و ) 
قال مصنّف هذه الديباجة : ( سمعت الشيخ ذكي الدين عبد العظيم المنذري المحدّث يسأله ) أي : يسأل الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض ( عن تاريخ مولده ، فقال : بالقاهرة المحروسة آخر الرابع من ذي القعدة سنة سبع وسبعين وخمسمائة ، وكذلك سمعته يخبر القاضي شمس الدين بن خلكان لمّا سأله عن تاريخ مولده رضي اللّه عنهم أجمعين .

هذا ما انتهى إليه الكلام من هذه الترجمة وسكت عن ذكر أحوال خارقة مبهمة خوفا من رديء الانتقاد أو سيىء الاعتقاد ، وقد سمّيت هذه الترجمة عنوان الديوان  


« 27 »

وجعلتها تبصرة للمحبّين والإخوان ، وتذكرة بعدي للأولاد بمآثر الآباء والأجداد ، وسألت اللّه تعالى أن يسلك بي وبهم مسالكه ) تعالى ( وأن يجعلنا ذريّة طيّبة مباركة ، وأجزت الأولاد ) أي : أعطيتهم الإجازة ( أن يرووه عني بسنده كما أسندت سماعه إلى الشيخ عن ولده وأشير على من طالعه وارتقى مطالعه ) أي : مواضع طلوعه ( أن يتمسّك بنظم السلوك ، ويتنسّك بطريقتها التي تشرّفت بسلوكها زهّاد الملوك فنسأل اللّه تعالى أن يفتح لنا باب فهمها ، ويمنح قلوبنا علما من علمها حتى نسرح تحت أستارها ونشرح ما خفي من أسرارها ونسفر ) أي : نكشف ( لثامها ، ونشرب مدامها ، فإن دنان ) جمع دن ، وهو آنية الخمر ( قوافيها مستورة في ختامها ، وحسان معانيها ) أي : معانيها الحسان ( مقصورة ) أي ممنوعة عن الخروج ( في خيامها ) جمع خيمة أي في طيّ كلماتها ( فلا يفهم رمزها ) 
أي : إشارتها ( ويستخرج كنزها إلا من بلغ أشدّه ) أي : تكاملت قوّته ( في سيره ، وسلك طريق ناظمها وترك طريق غيره واتّبعه في سفره وقبض قبضة من أثره واستطاع موسى قلبه المحمدي صبرا على متابعة خضره وأحاط خبرا ) 
أي : علما ( بسير محبته وخبره فما هدي إلى هذه الطريق إلّا من أمدّه اللّه بالتوفيق ، وأهّله ) جعله أهلا ( بين أهلها لسلوكها ، وأهله ) أطلعه وأظهره ( فيها ملكا ) وأحد الملائكة ( من ملوكها ) أي : ملوك هذه الطريقة ، جمع ملك بالكسر ( فإنها سبيل من دعا إلى اللّه على بصيرة وأصبحت طرق المحبة باتّباعه ) 
أي النبي أو الوارث له كالشيخ عمر ( منيرة ، فإن اللّه تعالى أرسله ) أي : النبي أو الوارث له ( إليه ) أي : إلى من هدى ( داعيا بإذنه ) أي : بأمره ( وراعيا وملاحظا أهل محبته بعينه وإذنه وجعله لأوليائه سراجا منيرا وقد أوتي من اتّبعه في محبة اللّه خيرا كثيرا فما عرف اللّه ورآه وسمعه إلا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والذين معه وقد مدّت المحبة عليهم ظلّها وشربوا وابلها ) أي : مطرها الغزير ( وطلّها ) 
أي : مطرها الخفيف ( وكانوا أحقّ ) أي : أولى ( بها وأهلها ) أي : مستحقين لها ( وحازوا متابعة صاحب المقام المحمود وجازوا صحبته ) أي : معه ( إلى الجنة تحت لواء الحمد المعقود وشربوا من الكوثر وهو حوضه المورود وفازوا معه بالنظر إلى وجه حبيبهم ) 
أي : اللّه تعالى ( وهذا غاية المقصود من الحبيب المشهود ، وما نالوا هذا المقام الأعظم إلا باتّباع نبيّهم حبيب حبيبهم فصلّى اللّه عليه وسلّم وعلى آله وأصحابه وكل من أسلم وجهه للّه معه وآمن به وأسلم وعلى إخوانه من الأنبياء والملائكة كلما هبّ هواء وتنسّم وكلما تهلّل ) تلألأ ( وجه محبّ بمحبة اللّه وتبسّم صلاة دائمة ما دامت السماوات والأرض تتلى بركاتها على ألسنة أهل السّنّة والفرض ، وتجلّى عليهم في الطول والعرض إلى يوم

« 28 »

البعث والعرض ، اللّهمّ يا من له الأسماء الحسنى التي هي أسمى وأحسن الأسماء يا من جعل كلمة المحبة كشجرة طيبة أصلها ثابت ، وفرعها في السماء نابت ، وغرس في قلوب المحبّين فرعها وأصلها ، وأنزل سكينتها عليهم وكانوا أحقّ بها وأهلها ، وجعل نورها يتوقّد من شجرة مباركة ، وهو النور الشريف المحمدي الذي سجدت له في وجه آدم الملائكة ، اللّهمّ إنك آتيتنا ) أي : أعطيتنا ( حرمته ) أي : احترامنا له ( وجاهه ) 
أي : جعلتنا نعتبر قدره الرفيع وشأنه المنيع ، أو معنى إتيان الحرمة والجاه جعل معشر المؤمنين تحت كنفه بحيث تكون لهم حرمة وجاه من حرمته وجاهه ( وجعلت لنا عندك باتّباعه في عبوديتك ومحبتك وجاهة )
 أي حظّا ورتبة ( اللّهمّ فكما جعلتنا من أمته أحينا وأمتنا على محبّتك في ملّته وابعثنا إليك تحت لوائه المعقود إلى مقامه المحمود ، اللّهمّ إنك قد أخذتنا ذرّيّة من الظهور ) جمع ظهر ، وهو خلاف البطن ( قبل الظهور وأشهدتنا على أنفسنا فقلت لنا : ألست بربّكم ؟ فقلنا : بلى ، فزدتنا بذلك نورا على نور ، اللّهمّ فكما عهدت إلينا ) أي : أوصيتنا بهذه الشهادة ( في القدم ) أي : في ذلك الزمان الذي خلقت فيه آدم أبا البشر ( وجعلت لنا بها عندك قدم صدق )
 أي : سبقا في الصدق ( وحبّذا هو من قدم ، وأنعمت علينا وجعلتنا من أهلها ، وأظهرتنا في دنياك ظاهرين ) أي : منصورين ( على عدوّنا وعدوك بقولها وفعلها وأحسنت إلينا ورزقتنا الحسنى ) ضدّ السوأى ، أي : العاقبة الحسنة ( وزيادة ) هي النظر إلى اللّه تعالى ( وفضّلتنا على كثير من خلقك بهذه الشهادة ، اللّهمّ فافتح لنا أبواب رحمتك وانظمنا )
 أي : اجمعنا على ترتيب مقاماتنا وأحوالنا ( في سلك ) أي : خيط ( عقد ) أي : اعتقاد ( أهل معرفتك ، واشهد لنا بها بين يديك وهذا اللّهمّ عهدك إلينا وعهدنا إليك ، فأنت الحاكم الشاهد على كل مشهود ، ومن أوفى ) 
أي : من هو أكثر وفاء ( بعهده من اللّه وكفى باللّه شهيدا في مقامه المحمود ، اللّهمّ اعف عنّا واغفر لنا خطايانا وعمدنا ، واحفظ لنا شهادتنا هذه وعهدنا ، اللّهمّ يسّر لنا أمورها ، واشرح بأنوار محبتك صدورنا ، اللّهمّ ارحم آباءنا ومشايخنا ، ومن آمن بك وأحبّك في سائر الملل ) 
أي : الأديان الماضية ( وأعذنا من السأم ) 
أي : الضجر ( والفتور والملل ولا تجعل للشيطان علينا سلطانا ، واحرس منه قلوبنا التي جعلتها لك بيوتا ولمحبتك أوطانا ، اللّهمّ فقّهنا في دين محبتك ، وعلّمنا تأويل كلامك ، وفهّمنا كلام أهل معرفتك حتى نهتدي بهم في السير إذا وفدنا عليك ، ونقتدي بسلوك طريقهم التي توصلنا إليك ، اللّهمّ إن عبدك منشىء هذا الديوان في ذكر محاسن معرفتك اللطيفة ، وترجمان سلطنة محبتك الشريفة قد جعل الغرام قلبه جذاذا ووجد بتلف مهجته في

« 29 »

هواك لذاذا ، وتلت ليده مثاني ) المثاني القرآن ( الجلال سورها ) آياتها ( وجعلت عليه معاني الجمال صورها ، وراقب أفلاك المعرفة فأطلعت ) أي : أظهرت له تلك الأفلاك ( شمسها وقمرها فهام بما لا تدركه الأفهام ، وأقام نفسه في مقام محبتك باتّباع نبيّك وحبيبك عليه أفضل الصلاة والسلام وساير ) أي : ساوى في السّير ( في محامل العشق رجالا وأيّ رجال ، ولمّا تراءت له جمال ) جمع جمل ( هوادج الجمال ) الحسن ( غلب الحال فنادى وقال سائق الأظعان إلى آخره . . . . ) .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: مقدمة الشارح .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 7:50 pm

مقدمة الشارح .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

[ مقدمة الشارح ]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه الذي رفع الأدب وأهله ، وسوّاهم بدورا كاملة وسوّاهم أهلّة ، وشحذ بكلامهم غرار العقول بعد الكلال ، وأطلق بكلامهم الحسن العقول من وثاق العقال ، والصلاة والسلام على من علا على الخلائق طرّا ،
وقال : إن من الشّعر لحكمة وإن من البيان لسحرا ، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ما شرحت الصدور بشرح النظام ، وبرزت أبكار المعاني سافرة من حجاب اللّثام .
وبعد . . . .
فإن الطبع السليم الذي يقدر على نظم الشّعر الموزون ، ويبرز من خزائن أفكاره الدّرّ المكنون ، طبع مشرّف بالذات ، ومقبول بمحاسن الصفات ، والطّباع في ذلك متفاوتة المقامات ، فمنها ما هو في الأرض ، ومنها ما هو في السماوات ، 
وإن الأستاذ الأفضل والعارف الأكمل ، صاحب الذروة العليا ، ومالك المقام الأعلى ، من منحه اللّه من الكمال أسماه وأعطاه من الفضل الجزيل أنماه ، الوليّ الوالي على ملك ممالك العرفان ، السلطان على رعايا المعشوق الحقيقي بحكم النّافذ في الأنس والجانّ ، هو الكامل العارف ، ربّ المعارف وبحر العوارف ، المخصوص بالشراب الرائق الفائض ، الشيخ عمر بن الفارض ، روّح اللّه تعالى روحه ، 
وأجزل من نصيب الجنان فتوحه ، وحيانا بمحبته بالولاية الكاملة ، وحبانا من فضله بالعطايا الشاملة ، قد اختصّ من ذلك بالعقود الفريدة ، وحباه اللّه تعالى من فضله بما يزرى بالجواهر الثمينة والدّرر النّضيدة فسبحان من منّ عليه بذلك الفضل العظيم ، وأعطاه من جوده محاسن الدّرّ النّظيم ، وجعل كلامه بين كلام الأنام كالنور البسّام ، والنور الذي يمزّق جلابيب الظلام ، وإني من أيام الشبيبة ، حيث أغصان الحداثة رطيبة ، شغفت بحفظ كلامه شغف العاشق بالمعشوق ، 
وملت إلى بيان معانيه ميل الوامق للموموق ، وكنت أشتغل به عن الغذاء الذي هو من لوازم الأشباح ، وأعزّه في الوجود حتى كأنه الروح أو روح من الأرواح ،

« 32 »

ورأيت منه بوارق ساطعة ، وبشائر في آفاق القلوب طالعة ، وتمسّكت بحبل اعتقاده ، وتحقّقت بحقيقة إنشاده ، وتقرّبت إلى وروده بإيراده ، وألزمت اللسان بتلاوة أوراده ، فلما منّ اللّه عليّ بالوصول إلى ملكة الكشف والإيضاح ، ونزلت في منازل البيان والإصلاح ، رأيت كثيرا من الأنام ، وجملة من الفضلاء الكرام ، يورد أبياته على خلاف ورودها ، ويلبسها من البيان غليظ الكرباس بعد رقيق برودها ، 
وشاهدت جمعا ممّن يدّعي إدراك الفضائل ويزعم أنه منتظم في سلك عقد الأفاضل ، ينسب إليها الأجنبي من المعاني ، وينزلها في غير وطنها من المغاني ، 
فردّدت الأفكار في شرح هاتيك الأشعار ، ثم أحجمت عن ذلك واستوعرت هاتيك المسالك ، لبعدّ المرتقى في تلك الذّرى ، وصعوبة الإقامة في ذلك الذّرى إلى أن أشار عليّ من تشرّف بخدمة الطريق ، وسلك في مجاز السّالكين على التحقيق ، أن أعلّق على الديوان المذكور شرحا يبيّن ما أشكل من معانيه ، ويوضّح ما أعضل من مخدرات مبانيه ، فصمّمت من غير إحجام ، 
وتقدّمت بغاية الإقدام ، مستعينا باللّه على إدراك هذا المرام ، مستغيثا بنبيّه عليه أفضل الصلاة والسلام ، مستمدّا من روح الأستاذ عائذا به في ذلك فإنه المعاذ ، 
فرأيت تردّدي قد زال ، وشهدت اليقين قد جال في القلب وما حال ، فعلمت أنه خاطر رحماني ، وتحقّقت أنه مقصد ربّاني ، وكيف لا يكون ذلك حقّا ، ولم لا يكون مقالا صدقا ، 

وهو خدمة لكلام من وقع الإجماع على ولايته ، وصدر الاتفاق على تحقيق عنايته ، وشاع في الأقطار ، كالشمس في رابعة النهار ، ولم يبق منشد في وجده ، ولا عاشق قي تهامته ونجده ، إلا وهام به في بواديه ، وزمزم بألفاظه في ناديه ، وهو يدخل القلوب فيجلو صداها ، ويروي في هجير الغرام حرّها وصداها ، 


فإن قال قائل : لست لذلك أهلا ، وكيف رأيت بيانه سهلا ، وأنت لست من القوم ، ولا استيقظت من غفلة ذلك النوم ، فجوابي له عن مقاله أن حالي وإن كان بعيدا عن حاله ، لكنني صادق في اعتقاده ، ووارد مناهل وداده ، والحبّ موجب للاقتراب ، مسهّل فتح الأبواب ، والحمد للّه على صدق محبتي لجنابه ، ودخولي إلى كل بيت له من بابه ، وباللّه أقسم قسما صادقة ، وجميع القلوب بها واثقة ، وكل النّواطق بصدقها ناطقة ؛ 
أنني ما استعنت في شرح هذا الديوان بشرح وقفت عليه ، ولا بيان على أنه لم يشرح قبلي من أحد ، ولا سمعت بوقوعه في بلد ، غير أن كثيرا من الإخوان وجمّا غفيرا من الخلّان أخبروني بأن المولى العلّامة الشيخ جلال الدين الأسيوطي رحمه اللّه شرح سائق الأظعان ، ولكنني ما نظرت الشرح المذكور ، 
ولا طالعت منه سطرا من السطور ، ومن نظر ما كتبت عليه من العبارات ، وأحاط بما سطّرته من محاسن التحقيقات ، علم أنه فتح

« 33 »

خالق لمخلوق وأنه حقّ لصاحبه غير مسروق ، وقد استوفيت شرح كلامه ، واستوعبت بيان نظامه ، ما عدا التائيّة الكبرى ، فإني أوضحت في عدم شرحها عذرا لكونها في بيان الدقائق الصوفيّة ، 
وفي إيضاح الرقائق المعنوية ، ولست مكتفيا بالمقال من دون مساعدة الحال ، لأني لا أحبّ أن أظهر من الأمر غير ما بطن لأن ذلك قبيح ولا تليق القباحة بالحسن . 


وأما الاكتفاء بالتلفيق من غير مساعدة التحقيق فليس ذلك من دأب ذوي العرفان ، ولا من آداب من شملته عناية الملك المنّان وإني سائل ممّن صفا فهمه ، وسلم من التخليط عمله ، أن ينظر إلى ما رقّمته بعين الإنصاف ، خاليا من وصف التعصّب وطريق الاعتساف ، 
فإن الإنصاف دليل السلامة وسبيل العدالة والاستقامة ، ومن رأى ما يستدعي الإصلاح فليبادر إليه رافعا عني الجناح ، فإن البشرية من شأنها الشّين وهل سلمت من غلط الحسّ عين ، كيف والإنسان محل النسيان .

وقد قيل في ذلك :
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها * كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه
وها أنا أشرع في المقصود بعون اللّه الملك المعبود ، 
فأقول :

.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 01 إلى 25 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 7:50 pm

شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 01 إلى 25 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الأولى سائق الأظعان الأبيات من 01 إلى 25 
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
( قال رحمه اللّه تعالى ونفعنا به ) :
01 - سائق الأظعان يطوي البيد طيّ *** منعما عرّج على كثبان طيّ

السائق : اسم فاعل من ساق الماشية سوقا وسياقة ومساقة إذا أزعجها لتذهب .
و « الأظعان » : جمع ظعينة وهي الهودج فيه امرأة أم لا والمرأة ما دامت في الهودج .
و « يطوي » : مضارع طوى الأرض إذا قطعها . و « البيد » : جمع بيداء وهي الفلاة ، قال في القاموس : والقياس بيداوات اهـ .
 
وكان وجهه ما ذكره بعض المحقّقين من أن فعلاء إن كانت صفة فقياس جمعها على فعل كحمراء على حمر ، وإن كانت اسما فقياس جمعها على فعلاوات مثل صحراء وصحراوات ، وبيداء هنا اسم الفلاة ، فقياسها حينئذ بيداوات ، ولكن يظهر لي أن بيداء في الأصل كانت صفة من باد يبيد بمعنى هلك ، ثم غلب عليها الاستعمال فصارت اسما لنفس الفلاة من غير ملاحظة وصف ، لكن روعي فيها الأصل فجمعت على فعل ، ومما يدلّ على ذلك ما ذكره بعض أهل اللغة من أن المفازة اسم للبيداء ، وسمّيت بذلك من باب تسمية الشيء باسم ضدّه تفاؤلا كما سمّي اللديغ سليما وحينئذ فيظهر وجه جمعها على هذه الصيغة ووجه الدلالة أن البيد لولا ملاحظة معنى الهلاك فيه ما سمّي مفازة تفاؤلا فافهم هذا .
 
وبيد بكسر الباء أصلها بيد بضم فسكون فأبدلوا من الضمة كسرة لتسلم الياء . و « طيّ » :
مصدر طوى يطوي فهو مؤكّد ليطوي والوقوف عليه بالسكون لغة وأصله طوى فاجتمعت الواو والياء مع سبق الأولى بالسكون فلزم قلب الواو ياء والإدغام على القاعدة المعروفة . والمنعم : اسم فاعل من أنعم عليه إذا تفضّل . والتعريج : مصدر عرج إذا ميل أو أقام أو حبس المطيّة والكل يناسب المعنى هنا . والكثبان : بكاف مضمومة وثاء مثلثة جمع كثيب وهو التلّ من الرمل . و « طيّ » : اسم لأبي قبيلة سمّي بذلك من الطاءة ، كالطاعة وهي الإبعاد في المرعى وكان أصله الهمز فخفّف إما
 
« 36 »
 
بحذف الهمزة اعتباطا وبغير سبب إنما هو لمجرد التخفيف أو بقلبها ياء ثم حذف الياء لتوالي الأمثال .
الإعراب :
سائق الأظعان : منادى مضاف منصوب .
( ن ) : وحذف حرف النداء كتمانا للسرّ اه . وجملة يطوي البيد طيّ من الفعل والفاعل والمفعول والمصدر في محل نصب على الحالية من سائق الأظعان .
ومنعما : حال مقدّم من الضمير المستكنّ في عرّج وفائدته التنبيه على أن طلب التعريج منه ليس استعلاء وإنما يطلبه منه تفضّلا منه إن فعله فهو احتراس . وعلى كثبان طيّ : متعلق بقوله : عرّج ، المعنى أدعو سائق الأظعان حال كونه طاويا للفلوات بسرعة ، وأطلب منه التعريج وحبس مطاياه على تلال الرمل التي تنزلها هذه القبيلة المعروفة وفي البيت الجناس التامّ بين طيّ وطيّ ، وجناس الاشتقاق بين يطوي وطيّ وطيّ .

[ المعنى : ]
( ن ) : السائق : هو اللّه تعالى ، والأظعان : الناس ، واستعمال السوق لا القود هو لزيادة حثّهم للوصول إليه . وكثبان طيّ : كناية عن المقامات المحمدية التي عددها كرمال الكثيب ، فكأنه يلتمس منه تعالى أن يوصله لما يوصل جميع المؤمنين إليها أو كأنه يلتمس الوصول إلى مقامات أستاذه الذي أخذ عنه وهو الشيخ محيي الدين بن العربي الحاتمي الطائي الذي هو من ذرّيّة حاتم طيء . اه .
 
02 - وبذات الشّيح عنّي إن مررت *** بحيّ من عريب الجزع حيّ
 
ذات الشيح : موضع من ديار بني يربوع .
( ن ) : فلاة مشتملة على هذا النبت الطيب الرائحة . اه . والحيّ : البطن من بطون العرب . والعريب : تصغير عرب وهم سكان المدن من غير العجم . والجزع :
بالكسر منعطف الوادي ووسطه أو منقطعة أو منحناه ولا يسمى جزعا حتى تكون له سعة تنبت الشجر أو هو مكان بالوادي لا شجر فيه وربما كان رملة ومحلة القوم ومشرف الأراضي إلى جنبه طمأنينة وقرية عن يمين الطائف وأخرى عن شمالها . وحيّ في آخر البيت : فعل أمر من حيّاه تحية ، سلّم عليه .
 
الإعراب :
بذات الشيح : متعلق بمحذوف على أنه حال مقدّم من عريب الجزع ، والباء فيه بمعنى في . وبحيّ : متعلق بمررت . ومن عريب الجزع : نعت حيّ . وحيّ :
آخر البيت جواب الشرط على حذف الفاء . وعنّي : متعلق به .
 
« 37 »
 
المعنى :
وإن مررت أيّها السائق بحيّ موصوف بأنه من عريب الجزع مستقر في الموضع المعروف بذات الشيح فحيّهم عنيّ فمفعول حيّ محذوف دلّ عليه ما قبله وفي البيت الجناس المستوفي بين حيّ وحيّ .


( ن ) : كنّى بذات الشيح عن مقام الحيرة في اللّه يشمّ رائحة طيبة من غير أن يدرك شيئا ، وأشار بالشيح إلى أنه ليس ثمّ شيء يدرك بالبصر إلا صور كثيفة ، وليس المقصود تلك الصور وإنما هناك لها رائحة عطرية هي حظّ القلوب من إدراك هذا المحبوب . قال تعالى : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [ الأنعام : الآية 103 ] ، ومن هنا سمّيت الروح لأنها رائحة الأمر الإلهي ، والحي القبيلة كناية عن المناظر العلا ، والجزع الذي هو منعطف الوادي إشارة إلى أن هذا الحيّ انعطفت عليه جميع الآمال وألقيت في ساحته عصا التّرحال وكأنه يقول للسائق : إن مررت بالأظعان في المقام المكنّى عنه بذات الشّيح حيّه عنّي وذلك من قبيل قوله صلى اللّه عليه وسلم بعد سلامه من الصلاة :
« اللّهمّ أنت السلام ومنك السلام وإليك يرجع السلام » اه .
 
03 - وتلطّف واجر ذكري عندهم *** علّهم أن ينظروا عطفا إليّ
 
« تلطف » : فعل أمر من التلطّف بمعنى الترفّق . « واجر » : أمر من باب الأفعال ، ووصل همزته حينئذ ضرورة ، ومعنى اجر ، أي : اطرح ذكري لديهم بما سيأتي من الأوصاف في قوله : قل تركت الصب إلى آخر قوله : حائرا مما إليه أمره ، حائر وعلّهم لغة في لعلّ التي للترجّي . والعطف : مصدر عطف عليه إذا أشفق .

الإعراب :
تلطف : عطف على حيّ . واجر : كذلك ، وفاعله ضمير المخاطب .
وذكري : مفعول ومضاف إليه . وعندهم : متعلق باجر . وعلّهم : عل مع اسمها ، وأن مع ينظروا : في تأويل مصدر مرفوع على أنه خبرها والمصدر بتأويل اسم الفاعل أو على حذف المضاف ، أي علّهم أصحاب نظر . وعطفا : منصوب على أنه علّة لينظروا . وإليّ : متعلق بقوله : ينظروا ومتعلق عطفا محذوف ويجوز كون المصدر حالا من الواو في ينظروا بتأويله باسم الفاعل ، أي : عساهم أن ينظروا إليّ عاطفين عليّ وتقييد النظر بالعطف للاحتراز عن النظر بالقهر والعياذ باللّه تعالى ، وإنما طلب من السائق التلطّف بهم قبل إجراء ذكره عندهم لأنه طلب حاجة من قوم أعزّة فلا بدّ من تلطّفه لديهم وخضوعه بين يديهم لينال منهم المراد ويفوز منهم بالإسعاد .

[ المعنى : ]
( ن ) : الخطاب لسائق الأظعان فإنه لمّا كان سائقا لها وهي كثيفة من عالم الأجسام دعاه إلى التلطّف ليناسب ذلك الحيّ ، وقال بعد التلطّف : اذكرني عند ذلك
 
« 38 »

بما أنا عليه علّهم أن ينظروا إليّ بترحّم وتحنّن وترجّي ونظرهم من قبيل كنت بصره الذي يبصر به اهـ .
04 - قل تركت الصّبّ فيكم شبحا *** ما له ممّا براه الشّوق فيّ
 
« قل » : فعل أمر من القول ، وهو مشتق من تقول فحذفت تاء المضارعة ثم الواو لالتقاء الساكنين إذ اللام ساكنة للبناء والخطاب للسائق . و « الصب » : صفة مشبّهة من صببت كقنعت أصبّ فأنا صب ، وهو من الصبابة التي هي الشوق ، وال فيه للعهد بادّعاء اشتهاره وانفراده على حدّ خرج الأميز حيث انفرد في البلدة . والشبح :
الشخص . و « ما » : في مما مصدرية . و « براه » : نحته . و « الشوق » : نزاع النفس حركة الهوى . والفيّ : في الأصل مهموز اللام فأبدلت الهمزة ياء وحصل الإدغام وهو ما كان شمسا فنسخه الظل .


( ن ) : وهو الظّلّ الذي فاء ، أي : رجع عن الشاخص . اهـ .
 
الإعراب :
قل : فعل أمر مبني على السكون ، وفاعله ضمير المخاطب . وترك :
يتعدّى إلى مفعولين فالأول الصّبّ ، وشبحا ثان . وفيكم : متعلق بالصب أو بما في ما النافية من معنى فعل النفي وفي بمعنى ياء السبب . وما : نافية . وله : خبر مقدّم .
وفيّ : مبتدأ مؤخر . ومما براه الشوق : أي من برى الشوق متعلق بما في ما النافية من معنى فعل النفي . وجملة قوله : تركت الصّبّ فيكم شبحا إلى آخر البيت في محل نصب على أنها مقول القول .
والمعنى :
قل أيّها السائق للأظعان تركت عاشقكم المعروف المشهور بسببكم شخصا فانيا قد اضمحلّ وذاب حتى صار بمنزلة العدم لا فيء له ، وهذا الكلام من المبالغة في الذروة العليا ، فإن كل جسم لا يخلو من الفيء أبدا . وفي البيت الجناس المحرّف بين فيّ وفيكم ، وفيه المبالغة المقبولة . وله رضي اللّه عنه في معنى البيت :
خفيت ضني حتى لقد ضلّ عائدي * وكيف يرى العوّاد من لا له ظلّ
 
( ن ) : يعني قل لهم يا سائق الأظعان بعد التلطّف بهم وإجراء ذكري عندهم :
تركت محبّكم شبحا في مقام محبتكم لخروجه عن كثافة غيريته . وقوله : ما له فيء :
كأنه راجع عن كونه شبحا شاخصا أيضا وذلك لكثرة ما براه الشوق إليهم . اهـ .
 
05 - خافيا عن عائد لاح كما *** لاح في برديه بعد النّشر طيّ
 
« 39 »
 
الخافي : اسم فاعل من خفي يخفي ، كعلم ، أي : لم يظهر . والعائد : اسم فاعل من العيادة وهي زيارة المريض . وقوله « لاح » : فعل ماض بمعنى ظهر .
والكاف : للتشبيه ، وما : مصدرية . و « لاح » : ماض بمعنى لاح الذي قبله . والبردان :
مثنى برد بالضم ، وهو ثوب مخطّط جمعه أبراد وأبرد وبرود . و « النشر » : خلاف الطيّ .
الإعراب :
خافيا : حال من الصّبّ . وعن : متعلق به . وجملة لاح . . . . الخ :
مستأنفة لبيان قدر مرتبة خفائه . والكاف : نعت لمصدر محذوف ، أي لاح لوحا مثل لوح الطيّ في البردين بعد النشر . والهاء في برديه للصّبّ . وبعد النشر : إما متعلّق بلاح أو بمحذوف على أنه حال من طيّ الذي هو فاعل لاح الثاني وذلك لتقدّمه عليه وكان قبل ذلك صفة له .
والمعنى :
قل تركت الصب في حال خفائه عن العائد الزائر له لاضمحلال ذاته وفنائها أصلا فغاية ما ظهر منه مثل ظهور آثار الطيّ للثوب بعد نشره وإنما خصّ الخفاء بكونه عن العائد لأن الغالب أن المريض لا يراه إلّا عوّاده ، وفي البيت ردّ العجز على الصدر والطّباق بين النشر والطيّ والمبالغة ، ويروى عن عائد لاح بتنوين لاح على أنه اسم فاعل من لحى يلحى ، أي : لام يلوم فهو صفة لعائد لكنه ليس ببيّن وليس موقعه في البيت بذاك فالأنسب كونه فعلا ماضيا كما قرّرناه .
( ن ) : ثم ذكر أحواله في مقام المحبة فقال خافيا عمّن يزوره لكون وجوده عدميّا مثل ظهور الطيّ في الثوب بعد نشره فإنه أثر عدمي لا وجود له وهو كالسراب تحسبه ماء فإذا جئته لم تجده شيئا اهـ .
 
06 - صار وصف الضّرّ ذاتيّا له *** عن عناء والكلام الحيّ ليّ
 
قوله « صار وصف الضّرّ ذاتيّا له » : مبالغة في ملازمة اتّصافه بالضّرّ حتى صار
[ الإعراب : ]
الوصف المذكور داخلا في ماهيّته كالناطقيّة بالنسبة إلى الإنسان ، وهذا من المبالغة بمكان ، فإن وصف الضّرّ من أعراض ذات الإنسان وليس ذاتيّا له ، غير أنه رضي اللّه عنه أراد المبالغة في وصفه بالضّرّ الناشئ له من المحبة كما يقتضيه المقام والضمير في له عائد إلى الصّبّ . وقوله « عن عناء » : متعلق بمحذوف على أنه خبر ثان لصار ، أي : صار وصف ضرّه ناشئا عن عناء بفتح العين ، أي : تعب ، ويصحّ كونه حالا من وصف الضّرّ ، أو من الضمير في ذاتيّا . قوله « والكلام الحيّ ليّ » : عطف على اسم صار وخبرها ، أي : وصار كلامه الحيّ ليّا ، أي : صار بسبب ضرّه كلامه الذي كان


« 40 »
واضحا مستبينا مخالفا به عن طريقه غير واضح المعنى ؛ إما لخفاء صوته عند نطقه فهو لا يسمع ليفهم ، وإما لاختلاط عقله بضرّه فهو لا يقول ولا يفهم ما يقول .
ويصحّ كونه من قولهم : لا يعرف الحيّ من الليّ ، أي : الحق من الباطل ، لكنه بعيد في الحملة فليتدبر ، وتسكين ليّ مع كونه بحسب العطف خبرا لصار لغة ، وهذا البيت من جملة ما حكى بقوله قل .
والمعنى :
قل صار وصف الضّرّ لملازمته له ذاتيّا غير منفكّ عن ماهيّته فهو لا يرجو زواله لأن الذاتي للشيء لا يزول عنه وصار كلامه الذي كان ظاهرا واضحا خفيّا غير واضح . وفي البيت الطّباق بين الحيّ والليّ والمبالغة ، ويظهر لي أن قوله : عن عناء بمنزلة الاحتراز عن أن يظن أن وصف الضّرّ حيث صار ذاتيا للصبّ لا يتألم له إذ الذاتي للشيء لا يؤذيه وإنما يؤذي ما عرض لذات الشخص بعد أن لم يكن ، فهو يقول مع كون وصف ضرّه صار ذاتيّا له فهو صادر عن عناء وتعب لا عن سكون وراحة .
( ن ) : وصف الضرّ هو البلاء الملازم كما قال أيوب عليه السلام : أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [ الأنبياء : الآية 83 ] ، وفي الحديث « أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل » ، أي : الأقرب فالأقرب من ميراث الأنبياء في العلوم والأخلاق وقوله : عن عناء ، أي : عن تعب ومشقّة وهو الاكتساب الذي نال به مقام ولاية اللّه تعالى ، كما قال سبحانه : وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [ العنكبوت : الآية 69 ] ، وقوله :
والكلام الحيّ ليّ ، أي : أن حديثه بالصدق في نفسه عن نفسه صار عنده كذبا لاحتجابه برؤيته عن شهود ربّه . اهـ .
 
07 - كهلال الشّكّ لولا أنّه  *** أنّ عيني عينه لم تتأيّ
[ الإعراب : ]
أي : هو « كهلال الشك » في الخفاء لنحوله يتحدّث الناس برؤيته ولم يثبت .
وقوله : « لولا أنه أن » الخ : جملة مستأنفة لبيان فرق بينه وبين هلال الشك وذلك الفرق هو الأنين فلولا حرف امتناع لوجود ، وأنه أن المفتوحة واسمها وأنّ فعل ماض من الأنين وفاعله ضمير يعود إلى الصبّ وجملة أن من الفعل والفاعل في محل رفع على أنها خبر أن وأن مع اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع على أنه مبتدأ وخبره محذوف ، أي : لولا أنينه موجود لم تتأيّ ، أي : لم تتعمّد . « عيني عينه » : فعيني مبتدأ وهي العين الباصرة وعينه بمعنى الذات منصوبة على أنها مفعول مقدّم لقوله تتأيّ وفاعله ضمير يعود إلى المبتدأ وجملة لم تتأيّ عينه خبر عيني والجملة كلها لا محل
 
« 41 »
 
لها من الإعراب لكونها جواب لولا . « ولم تتأيّ » : من تأيّيته قصدت شخصه وتعمّدته وأصله تتأيّي على وزن تتعمّد فتحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فدخل الجازم فحذف الألف .
والمعنى :
هذا الصبّ كهلال الشك في الخفاء لولا أنينه ما تعمّدت عيني رؤيته ذاته لكونه قد صار عدما محضا وبمثل ذلك صرّح الشاعر حيث قال :
قد سمعتم أنينه من بعيد * فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين
وكذا قال المتنبي حيث قال :
كفى بجسمي نحولا أنني رجل * لولا مخاطبتي إياك لم ترني
وفي البيت الجناس التام المستوفى بين أن وأن بين عينيه وعيني والمبالغة الحسنة .


( ن ) : شبّه كله بالهلال ونور الهلال مستفاد من نور الشمس إذ لا نور له في نفسه أصلا وإنما هو كالمرآة يظهر منه نور الشمس بتجلّيها عليه وبعضه يحتجب عنها بكرة الأرض فإذا ارتفع الهلال عنها استفاد من مقابلة الشمس زيادة نور وصار بدرا وتشبّه بهلال الشك لأنه في ظهور ربّه عليه لا مقطوع بوجوده لأن الوجود ليس له وإن ظهر به ولا مقطوع بعدم وجوده لظهور الوجود عليه . وذكر الأنين لإظهار الشكاية من الضّرّ الذي مسّه بسبب الابتلاء بالتكاليف الشرعية المتوجهة عليه فهو يئنّ لثقلها لأنها القول الثقيل ، قال تعالى : إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ( 5 ) [ المزمّل : الآية 5 ] اهـ .
 
08 - مثل مسلوب حياة مثلا  *** صار في حبّكم ملسوب حيّ
 
المثل : بكسر الميم الشبه . والمسلوب : اسم مفعول من سلبه بمعنى اختلسه .
والحياة : نقيض الموت . والمثل : محرّكة الحديث . و « حبّكم » : بمعنى المحبة ، ويجوز أن يروى في حيّكم بالياء المثناة ، أي : صار في حيّكم وبين قبيلتكم ملسوبا لسعته حيّة المحبة . والملسوب : اسم مفعول من لسبته الحيّة إذا لدغته . والحيّ : ذكر الحيّات .
الإعراب :
مثل : منصوب على أنه حال من الصبّ ، ومسلوب يروى منوّنا ، فحياة منصوب على أنه مفعول ثان لمسلوب ومفعوله الأول ضمير فيه هو نائب فاعله يعود للصبّ ويروى غير منوّن فهو مضاف إلى حياة . ومثلا : حال من الصبّ أيضا ، أي : تركت الصبّ فيكم حديثا يذكر لغرابته بين المحبّين وصار من أخوات كان

« 42 »


واسمها ضمير يعود للصبّ . وفي حبكم : متعلق بصار . ومسلوب حيّ : خبرها ومضاف إليه .
والمعنى :
قل أيّها السائق تركت الصبّ بسببكم مشابها للميت الذي سلب الحياة وتركته حديثا يروى لغرابة أمره في المحبة وقد صار ملدوغا من حيّة المحبة ، أو مثل ملدوغ الحيّة الحقيقة فهو يتململ تململ السليم ويبكي بكاء السقيم . وفي البيت الجناس المحرّف بين مثل ومثل ، والمقلوب بين مسلوب وملسوب ، وجناس التصحيف بين حبّ وحيّ ، والناقص بين حيّ وحياة .
( ن ) : مسلوب الحياة هو الميت والسالك ميت لظهور الحياة الإلهية له وهو الموت الاختياري المشار إليه بقوله عليه السلام : « موتوا قبل أن تموتوا » . وقال تعالى : إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ( 30 ) [ الزّمر : الآية 30 ] ولم يقطع بموته لقيامه بالحياة الإلهية بل هو مثل الميت وهو ملدوغ من الحيّة التي هي روحه المنفوخة فيه من أمر ربّه ولدغها له غلبة حكمها على جسمانيته اه .
 
09 - مسبلا للنّأي طرفا جاد أن *** ضنّ نوء الطّرف إذ يسقط خيّ
 
المسبل : اسم فاعل من أسبل الماء إذا هطل . والنّأي : البعد . والطّرف :
العين . و « جاد » : فاض من جادت العين إذا كثر دمعها ، أو من جاد إذا سخا . و « أن » المفتوحة الهمزة الساكنة النون هي المصدرية أو هي بكسر الهمزة الشرطية .
و « ضنّ » : بمعنى بخل . والنوء : سقوط النجم في المغرب مع الفجر وطلوع آخر يقابله من ساعته في المشرق ، والطرف كوكبان يقدمان الجبهة وسمّيا بذلك لأنهما عينا الأسد ينزلهما القمر . و « يسقط » : مضارع من السقوط . و « خيّ » : مصدر خوى النجم خيّا أمحل فلم يمطر ، وأصله خوى فقلبت الواو ياء لتقدّمها ساكنة مع الياء وأدغمت الياء في الياء .
الإعراب :
مسبلا : حال أيضا من الصبّ . وللنأي : متعلق به واللام للتعليل .
وطرفا : مفعول مسبلا لكن فيه أن مسبلا كما يفهم من القاموس لازم فهو على تضمين معنى أسكب ، وجملة جاد من الفعل والفاعل في محل نصب صفة طرفا ورجوع الضمير إلى الطرف مذكرا مع أنه بمعنى العين باعتبار كونه في الأصل مصدرا يستوي فيه المذكر والمؤنث . وأن : إن كانت المصدرية فهي مع ضنّ في تأويل مصدر مجرور بلام جرّ مقدّرة وجاد على بابه ، وإن كانت الشرطية فجاد بمعنى المضارع . ونوء الطّرف : فاعل ومضاف إليه ويكون ضنّ فعل الشرط وجوابه محذوف دلّ عليه جاد ،
 
« 43 »
أي : إن ضنّ نوء الطّرف جاد الطّرف بدمعه . وخيّ : مصدر منصوب والوقف على لغة ربيعة والعامل فيه فعل محذوف من لفظه ، أو هو حال من فاعل يسقط ، أي : حين سقوطه خاويا . وإذ : متعلق بضن . وجملة يسقط في محل جر بإضافة إذ إليها .
والمعنى :
قل تركته ساكبا دمع عينيه التي جادت بالدمع حين بخل نوء النجم بالمطر عند سقوطه غير ممطر . وفي البيت الجناس التامّ بين الطرف والطرف ، والطّباق بين جاد وضنّ ، أو إيهام الطّباق على ما سبق من الوجهين في جاد وفي البيت والذي قبله الجناس المصحّف بين كلمتي الروي وهما حيّ وحيّ .
( ن ) : وحاصله أن هذا المحبّ فاضت بمياه الحياة عيون قلبه على أراضي نفوس الغافلين حيث بخلت كواكب أرواحهم على أراضي نفوسهم بالفيض الإلهي اه .
 
10 - بين أهليه غريبا نازحا و *** على الأوطان لم يعطفه ليّ
 
« بين » : ظرف مكان تضاف إلى متعدّد ، وأما قوله بين الدخول فحومل فمعناه بين أجزاء الدخول ، فأجزاء حومل أو أن الفاء بمعنى الواو ، وعندي أن الواجب كون الفاء بمعنى الواو وهو الذي خطر لي وأما تقدير الأجزاء في الدّخول وحومل وإبقاء الفاء على معناها فهو الذي نصّ عليه التفتازاني وفيه بحث لأن مراد الشاعر بين هذين الموضعين لأن الواقع أن سقط اللّوى واقع بين الدّخول وحومل لا بين أجزاء كل واحد منهما فتدبّر . والأهلون : جمع أهل وليس مفرده علما ولا صفة فمن ثمّ حكموا بأن جمعه بالواو والنون أو بالياء والنون شاذّ وإعرابه إعراب الجمع المذكر السالم .
والغريب : البعيد عن وطنه ، والنازح كذلك . ويعطف : من باب ضرب مضارع عطفه عليه إذا أماله إليه وجعله يرقّ لحاله . والليّ : مصدر لواه عليه ليّا إذا عطفه .
الإعراب :
غريبا ونازحا : حالان من الصّبّ الذي هو مفعول تركت . وبين أهليه : حال من الضمير في غريبا . وعلى الأوطان : متعلق بيعطفه أو بالمصدر الذي هو لي . وجملة لم يعطفه ليّ وعلى الأوطان حال أيضا من الصّبّ ويحسن إذا روعي في التفنّن نكتة عطف جملة حالية على حال مفردة وكان النكتة هنا الإشارة إلى تجدّد أسباب عدم العطف على الأوطان بخلاف الغربة والنّزح فإنهما وصفان ثابتان للصّبّ .
المعنى :
قل أيّها السائق تركت الصّبّ غريبا عن أوطانه نازحا عن خلّانه حال كونه بين أهليه وإخوانه وتركته أيضا لم يمله عطف على أوطانه أيضا وكأن الجملة الثانية لتمييز حال الصّبّ عن حال باقي الغرباء فإن من شأنهم الميل إلى أوطانهم ،
 
« 44 »

وأما هذا الصّبّ فإنه غريب بين الغرباء غير مائل إلى أوطانه وفي جعله غريبا بين أهليه أغراب حيث أثبت له الغربة مع كونه بين الأهلين ، وما ذاك إلا أن الغربة تقتضي الوحشة ، والوطن يقتضي الأنس ، فلما كان مستوحشا مع أهله لبعد مراد خاطره كان قرب الأهل غير مقيّد له الأنس الذي يكون في الأوطان فحكم على نفسه بالغربة باعتبار وجود لازمها الذي هو الاستيحاش بعدم وجود المحبوب وفقد المطلوب ، 
وقد قلت في ذلك :
آه من حسرتي وشوقي إليه * أنا لما نأى بأهلي غريب


( ن ) : غربته بين أهله كناية عن تحقّقه في نفسه بالحيّ القيّوم ، قال تعالى :
أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [ الرعد : الآية 33 ] فهو تعالى قيّوم على النفوس كلها ، فإذا تحقّق بالقيّومية ارتحل عن عالم أهله وبعد عنهم فصار غريبا وهو بينهم ، وهو مع ذلك لم يعطف على الأوطان الأصلية التي كان فيها قبل ظهوره في عالم الكون وهي حضرة الكلام الإلهي وحضرة العلم الرّبّاني ، وحاصله أنه خرج من عالم أهله وأمثاله من البشر ولم يدخل في عالم الغيب على التمام لبقاء أثر البشرية عليه .
 
11 - جامحا إن سيم صبرا عنكم *** وعليكم جانحا لم يتأيّ
 
الجامح : اسم فاعل بمعنى الممتنع الغالب . و « سيم » : كبيع مجهول من سام فلان فلانا الأمر كلّفه إيّاه ، وأكثر ما يستعمل في العذاب والشّرّ . والجانح : اسم فاعل من جنح أي مال . وقوله « لم يتأيّ » : مضارع من تأيّيت في الأمر إذا تلبثت فيه .
الإعراب :
جامحا حال من الصّبّ أيضا . وإن : شرطية . وسيم : فعل الشرط ونائب فاعله ضمير الصّبّ . وصبرا مفعوله الثاني . وعنكم : متعلق به . وجانحا : حال بعد حال . وعليكم : متعلق بما تعلق به عنكم وهو الصبر لما يقتضيه العطف ، أي وتركت الصّبّ إن سيم صبرا عليكم جانحا . وجملة لم يتأيّ : حال أيضا ومفسّرة لقوله جانحا ، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله ، أي إن كلف الصبر عنكم فهو ممتنع جامح .
المعنى :
قل أيّها السائق تركت الصّبّ وهو ممتنع إن طلب منه الصبر عنكم ، وإن طلب منه الصبر عليكم فهو مائل إليه غير متوقف فيه . ومعنى الصبر عنهم تركهم ، ومعنى الصبر عليهم تحمّل مشاقّهم . وقد تكلمنا على ذلك عند شرحنا لقوله في الذاليّة : والصبر صبر عنكم وعليكم الخ . . . . وقد كرّر الشيخ رحمه اللّه هذا المعنى

« 45 »
 
في كلامه غير مرة ، ولعمري إن هذا هو البيان الذي هو إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة . وفي الجامح والجانح الجناس اللاحق ، والطّباق في عنكم وعليكم .
( ن ) : الصبر عنهم تركهم ، والصبر عليهم تحمّل مشقّاتهم ، فهو لا يصبر عن بدّه اللازم له ولا يتلبّث عن الصبر على مشقّاتكم وتكاليفكم وإن أتعبته كما قال تعالى :
فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ [ مريم : الآية 65 ] لأن في عبادته كمال المشقّة لأنها على خلاف عادات النفوس . اهـ .
 
12 - نشر الكاشح ما كان له  *** طاوي الكشح قبيل النّأي طيّ
 
[ المعنى ]
« الكاشح » : هو مضمر العداوة . وطوى كشحه على الأمر : أضمره وستره .
و « قبيل » : تصغير قبل ، وفائدته التقريب . و « طيّ » : مصدر مؤكّد لطاوي .
 
الإعراب :
الكاشح : فاعل نشر . وما : مفعوله ، واسم كان ضمير يعود إلى الصّبّ المتكلم عنه ، أو إلى الكاشح . وطاوي الكشح : خبر كان منصوب ومضاف إليه ومتعلق بطاوي . وطيّ : مصدر طاوي فهو مفعول مطلق والوقوف عليه بالسكون لغة ، وجملة نشر الكاشح الخ . . . حال على تقدير قد ليوافق ما قبله من الأبيات ونكتة المغايرة الإشارة إلى تحقّق نشر الكاشح الأمر المضمر . واعلم أن اسم كان يحتمل أن يعود إلى الصّبّ ، وعلى ذلك فالمعنى قل أيها السائق تركت الصّبّ وقد نشر الكاشح ما كان قد طوى الصّبّ كشحه عليه وستره من أسرار الغرام طيّا . 
ويحتمل أن يعود إلى الكاشح ، فالمعنى حينئذ وقد نشر الكاشح قبيل بعدكم ما كان قد طوى كشحه عليه من العداوة والإفساد . 
وفي البيت الطّباق بين النشر والطيّ ، وجناس شبه الاشتقاق بين الكاشح والكشح ، وجناس الاشتقاق بين طاوي وطيّ .
 
( ن ) : الكاشح كناية عن شيطان الأغيار القائم في طبيعة النفس الإنسانية ، فهو مضمر العداوة يحمل الإنسان على الامتناع عن المنافع الأخروية ويأمره بالشهوات الدنيوية وقد انكشف أمره فإن إضماره للعداوة كان في حال قربكم مني ، ثم لمّا حصل البعد بإدراك الأغيار نشر ما كان مضمره من العداوة . اهـ .
 
13 - في هواكم رمضان عمره *** ينقضي ما بين إحياء وطيّ


الإحياء : مصدر أحيا الليل إذا سهره وكأنه مأخوذ من الحياة لأن من نام ليله فكأنه أماته بخلاف من سهره . والطيّ : مصدر طوى كرضي إذا لم يأكل شيئا .
 
« 46 »
الإعراب :
في هواكم : متعلق بينقضي . وعمره : مبتدأ . ورمضان : خبره ، وصرفه إما لإرادة معنى الوصف منه ، أي عمره في هواكم زمن الطيّ والإحياء ، أو للضرورة ، وجملة ينقضي الخ . . . . خبر بعد خبر . وما : زائدة . وبين : متعلق بينقضي ، وضمير ينقضي للعمر أو لرمضان ، وجملة عمره في هواكم رمضان حال من الصّبّ أيضا . ونكتة المغايرة الإشارة إلى ثبوت كون عمره في هواكم ينقضي ما بين إحياء الليل وطيّ النهار مع الليل بعدم الأكل .


والمعنى :
قل أيها السائق تركت الصّبّ في حال كون عمره كله قد صار رمضان بسبب هواكم فهو منقض ما بين إحياء ليل وطيّ وصوم ، ولا يلزم من الطيّ الوصال المحرّم لاحتمال أن المراد قلّة الأكل وذلك لا ينافي الإفطار ولو على الماء على أن المراد طيّ الصوم عن السوى .


( ن ) : يعني أنه صائم في عمره كله عن رؤية الأغيار اشتغالا بتلقّي فيض التجليات على قلبه ببدائع الأسرار ، ففي ليل غفلته إذا دخل عليه سهر في الطاعة وفي نهار يقظته إذا أظلّه طوى فلم يأكل ولم يشرب وإنما يطعمه ربه ويسقيه كمن أكل ناسيا وهو صائم فقد قال عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه « أطعمه ربه وسقاه » ، وهذا أولى من الناسي في ذلك . اه .
 
14 - صاديا شوقا لصدّا طيفكم *** جدّ ملتاح إلى رؤيا وريّ
 
الصادي : العطشان . وصدا : اسم بئر عذبة الماء وأصلها الهمز فسهّلت ، وإضافتها إلى الطيف من إضافة المشبه به إلى المشبه فهو من التشبيه البليغ . والطيف :
الخيال الطائف أو مجيئه ، وأصل طيف ، طيّف بتشديد الياء ، كميّت يصير ميتا بالتخفيف . و « جدّ » : بكسر الجيم مصدر جدّا إذا اجتهد . والملتاح : العطشان .
والرؤيا : على وزن رجعي ما رأيته في منامك . والريّ : مصدر روى كرضي ريا وأصله روى فقلبت الواو ياء وأدغمت على القاعدة المشهورة .
 
الإعراب :
صاديا : حال من الصّبّ أيضا . وشوقا : مفعول له ، والعامل فيه صاديا . ولصدّا : متعلق بشوقا . وجدّ : مفعول مطلق من فعل محذوف ، أي يجدّ جدّ ملتاح وإلى : متعلقة بملتاح وتعديته بإلى لكونه بمعنى المشتاق ، ويجوز تعلّقها بجدّ .
 
والمعنى :
قل أيّها السائق تركت الصّبّ ظمآن إلى طيفكم الذي هو في العذوبة وتسكين الأوام بزيارته كماء هاتيك البئر المشهورة وتركته يجدّ ويجتهد اجتهاد عطشان
 
« 47 »
 
مشتاق إلى أن يراكم في النوم ويرتوي من عطش الشوق بطيف خيالكم ، فالفعل المقدّر مع فاعله حال أيضا وإنما جمع بين الرؤيا والريّ لكونه ذكر الظمآن إلى الطيف فالرؤيا لمناسبة ذكر الطيف والرّيّ لمناسبة ذكر الصادي . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق في صادي وصدّا ، وبين الرؤيا والريّ اللف والنشر لا على الترتيب في ذلك لأن الرؤيا ترجع إلى الطيف المتأخّر ، والريّ إلى الصادي المتقدّم .
( ن ) : وسبب الظمأ أنه شرب من البحر المحيط ، وهو بحر التوحيد بعد فناء الأغيار وظهور المتجلّي الحقّ ، فإن هذا البحر كلّ من شرب منه لا يزال إليه ظمآنا وإن كان به ملآنا فهو مجتهد ليرى طيف محبوبه ويرتوي فلا يمكنه الرّيّ ولا دواء له غير الفناء والاضمحلال بالكليّة والاستحالة . اه .
 
15 - حائرا فيما إليه أمره حائر *** والمرء في المحنة عيّ
[ المعنى ]
الحائر الأول : اسم فاعل من حار يحار حيرة لم يهتد لسبيله . 
والحائر الثاني :اسم فاعل أيضا لكن من الحور ، وهو الرجوع ، فالأول أجوف بالياء ، والثاني بالواو والعين فيهما قلبت همزة قياسا . و « المحنة » : اسم بمعنى الضّرّ . والعيّ : من عيّ إذا لم يهتد لوجه مراده ، أو عجز عنه ولم يطق أحكامه .
الإعراب :
حائرا : حال أيضا من الصّبّ . وفي : متعلقة به ، وما : موصولة واقعة على الوصف الذي يرجع إليه حال الصّبّ . وإليه : متعلق بحائر الثاني . وأمره : مبتدأ .
وحائر : خبره . وفي : متعلقة بعيّ ، والجملة تذييلية مؤكدة حيرة الصّبّ التي فهمت من حاله . وفي البيت الجناس التام بين حائر وحائر ، والجناس المقلوب بين أمر ومرء ، ولنا فيما يناسب حيرة المحبّ :
ما زلت أطلبه في كل ناحية * فينظر الناس مني فعل حيران


( ن ) : يعني أن الصّبّ المتقدّم ذكره متحيّر فيماذا تكون نهاية أمره ، فهل يختم له بالسعادة أو بالشقاوة ، وهذا الأمر قد قطع قلوب الصديقين حتى قال قائلهم :
منى إن تكن حقّا تكن أحسن المنى * وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
وهذه الحيرة هي محنة يعجز الإنسان عن حملها وقد قال تعالى : لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [ البقرة : الآية 264 ] فهم على ما يكسبونه من الخير أو الشّرّ غير قادرين فكيف يقدرون على ما لا يكسبونه . اه .
 
16 - فكأيّن من أسى أعيا الإسا *** نال لو يغنيه قولي وكأيّ


 « 48 »
 
كأي : أصله أي دخلت الكاف عليها وصارت بمعنى كم ، والنون : تنوين أثبت في الخط على غير قياس وهي في البيت خبرية . و « من أسى » : بيان لها ، والأسى الحزن . و « أعيا » : أتعب . و « الإسا » : بكسر الهمزة جمع آس على وزن فاعل وهو الطبيب ، وإن قرىء بالضم على ما هو المشهور فأصله إساة كقضاة ، ثم حذفت الهاء منه . وقوله « نال » بالنون من ناله الأمر يناله وينيله إذا أصابه . و « لو » : هنا للتمنّي ، أو هي الامتناعية . و « يغنيه » : مضارع أغنيته أي أبديته وأظهرته .
 
الإعراب :
كأيّن : مبتدأ . ومن أسى : تمييزه . وجملة أعيا الإسا : في محل جر صفة أسى . وجملة قوله نال من الفعل والفاعل العائد إلى أسى المجرور بمن في محل رفع على الخبرية . ولو : للتمني . وقولي : فاعل يغنيه . وكأي في آخر البيت ترك منها التنوين للوقف ، والمراد حكاية قوله : وكأيّن من أسى أعيا الإسا نال بقوله قولي وحذف ما بعد كأي لدلالة السياق عليه والتقدير أتمنى أن يظهر ذلك الأسى الكثير قولي وكأيّن إلى آخره ، ولكن لا يظهره وإنما يدلّ على كثرة إفراده إجمالا لا تفصيلا .
والغرض من هذا البيت الإشارة إلى أن ما سبق تعداده من أحوال الصّبّ ليس للعصر ، وإنما هو بيان شيء من أحواله ، وهناك أشياء كثيرة من افراد الحزن غير ما ذكر وإبرازها بالتفصيل متعذّر أو متعسّر .
 
والمعنى :
كثير من الحزن المتمكّن الذي عجزت عنه الأطباء قد أصابني ولكن حكايتي له بأداة التكثير لا يبرز أفراده مفصّلة وإنما يدلّ عليها إجمالا وإن كانت لو امتناعية ، فالمعنى لو يظهر ذلك الحزن قولهم لرأيتم عجبا من كثرة أفراده فيكون جوابها محذوفا . وفي البيت الجناس المحرّف بين أسى وإسى ورد العجز على الصدر وتقارب الحروف في الجملة بين أعيا ويغنيه .
 
( ن ) : يعني كم أصاب هذا الصّبّ في طريق المحبة والعشق من الحزن الشديد الذي عجزت عنه الأطباء ولم يجدوا له دواء . وقوله لو يغنيه ، فلو للتمني بمعنى ليت ، ويغنيه بغين معجمة بمعنى يفيده ، أي ليت إخباري عن حاله يفيده بتخفيف شيء من حزنه ، قال الشاعر :
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة * يواسيك أو يسليك أو يتوجّع
وأما حال هذا المحبّ فلا تغني الشكوى عنه شيئا فإن محبوبه حاجبه عنه مع أنه ساكن منه في الفؤاد . اهـ .
 
17 - رائيا إنكار ضرّ مسّه حذر *** التّعنيف في تعريف ريّ
 
« 49 »
[ الإعراب ]
« رائيا » : حال من الصّبّ المتقدّم ذكره ، وهو مشتق من رأى في الأمر رأيا .
والضّرّ : بضم الضاد اسم بمعنى الفقر والفاقة والشدّة في البدن ، وبفتحها مصدر ضرّه يضرّه إذا فعل به مكروها يتعدّى بنفسه ثلاثيا وبالباء رباعيّا « 1 » .
والحذر : المخافة وهو مفعول من أجله تعليل لإنكار الضّرّ يعني مخافة التعنيف ، والتعنيف اللوم له من العواذل على المحبة التي كانت سبب مسّ الضّرّ له . و « تعريف » : مصدر عرّفته به فعرفه ، أي عمله . و « ريّ » : بالفتح والتشديد أصله ريا ضدّ عطشى وهو اسم المحبوبة .
والمعنى :
أنه قد استقر في رأيه وتدبيره أنه ينكر ما يصيبه خوفا من العواذل الجاهلين الغافلين الذين يرذلون أهل اللّه وينكرون عليهم ويرمونهم بالفواحش والقبائح مع براءتهم من ذلك خصوصا إذا عرّفوهم بمن يحبّونه من صور التجليات الإلهية والمظاهر الربّانيّة . اه .
 
18 - والّذي أرويه عن ظاهر ما *** باطني يزويه عن علمي زيّ
 
« أرويه » : مضارع روى الحديث ، أي نقله . ويزويه : بزاي معجمة مضارع زوى سرّه عنه طواه . و « زيّ » في آخر البيت مصدره .
 
الإعراب :
الذي مبتدأ . وأرويه : صلة وعائد . وعن ظاهر ما : متعلق بمحذوف على أنه خبر ، وما : موصولة واقعة على السرّ . وباطني : مبتدأ . ويزويه : فعل وفاعل وهو ضمير يعود إلى باطني . وعن علمي : متعلق بيزويه . وزيّ : مفعول مطلق والوقف عليه بالسكون لغة ، وجملة باطني يزويه إلى آخره صلة ما .
 
والمعنى :
والذي أرويه من أحوال الصّبّ الدّالّة على توغّله في الاتّصال بأنواع البلاء إنما هو ناشىء عن ظاهر السّرّ الذي باطني قد طواه وكتمه عن علمي كتما ، والمطوي لا مجال لإظهاره ولا سبيل إلى كشف أستاره ولا طريق إلى إظهار أسراره .
 
وهذا البيت ملائم لما قبله لدلالة كلّ منهما على بقاء أحوال الصّبّ دالّة على استغراقه في الأحزان وانغماسه في أمواج الأشجان ، وما أحسن قوله في تائيّته الكبرى :
وعنوان شأني ما أبثّك شأنه * وما تحته إظهاره فوق قدرتي
وأسكت عجزا عن أمور كثيرة * بنطقي لن تحصى ولو قلت قلت
..........................................................................................
( 1 ) قوله وبالباء رباعيّا أي فيقال أضرّ به ويعدّى الرباعي أيضا بنفسه فيقال أضرّه .
 
« 50 »
 
وفي البيت الجناس اللاحق المصحّف بين أرويه ويزويه ، والمقابلة بين الظاهر والباطن .
( ن ) : يزويه بزاي معجمة مضارع زوى زيّا ، أي جمع ، وزويت المال قبضته ، كذا في المصباح ، وزيّ مصدر مؤكّد للفعل ، يعني جميع ما أذكره لكم من المعاني الإلهية والمعارف الربّانيّة لا اختراع لي فيه وإنما أرويه عن ظاهر الأمر الذي باطني يجمعه ويحويه عن علمي باللّه فلساني يرويه لكم عن الظاهر الذي يظهر لي ، والظاهر الذي يظهر لي يرويه عن باطني وباطني يزويه أي يجمعه عن علمي بالحق تعالى كما قال الشيخ الأكبر قدّس اللّه سرّه :
فؤادي عند معلومي مقيم * بناحية وعندكم لساني اه .
 
19 - يا أهيل الودّ أنّى تنكروني ***  كهلا بعد عرفاني فتيّ
 
« أهيل » : تصغير أهل ، وهو للتحبيب كما صرّح بذلك في قوله ( من الدوبيت ) :
ما قلت حبيبي من التحقير * بل يعذب اسم الشخص بالتصغير
و « أنّى » : بمعنى كيف ، والاستفهام فيها للتعجّب . والكهل : من خطّه الشّيب ، أو من جاوز الثلاثين أو أربعا وثلاثين إلى إحدى وخمسين . والفتى : هو الشاب .
 
الإعراب :
أهيل : منادى مضاف منصوب . وأنّى : في محل نصب على أنها حال من الواو في تنكروني ، وأصله تنكرونني بنون الإعراب ونون الوقاية فحذفت نون الإعراب لغير العامل بل لمجرد التخفيف . و « كهلا » : حال من ياء المتكلم في تنكروني .
و « بعد » : متعلق بتنكروني وهو مضاف إلى عرفاني المضاف إلى الياء التي هي مفعوله وفاعله محذوف أي عرفانكم إيّاي .
و « فتى » حال من الياء في عرفاني والوقوف عليه لغة .
 
والمعنى :
يا أهيل محبتي أتعجب من إنكاركم إيّاي كهلا بعد صدور معرفتكم وأنا شاب ، والمراد من الإنكار له التبرّي منه وجحد ما بينهم وبينه من الائتلاف المقتضي للمعرفة والاعتراف لا للإنكار والاختلاف . وفي البيت الطّباق بين الفتى والكهل ، وبين الإنكار والعرفان ، وعلّة تصغير الفتى تقليل أيامه فهو أبلغ في مقام التعجّب في الإنكار .
 
« 51 »
( ن ) : إنكارهم له إضعافهم لقواه الظاهرة والباطنة كأنهم قاطعون عنه ما عوّدوه عليه وهو شاب من الإمداد في باطنه وظاهره ، وقال ذلك لأنه كان وهو شاب يقوى على حمل مشاقّ محبتهم ويقوم في خدمتهم وامتثال أوامرهم واجتناب نواهيهم على أبلغ وجه وأكمل حال فلما كبر وشاب ضعف عن ذلك وعجز عن تمام الخدمة ، فهو يخاف أن يكون ذلك إنكارا منهم له وهضما لجنابه عندهم . اه .
 
20 - وهوى الغادة عمري عادة *** يجلب الشّيب إلى الشّاب الأحيّ
 
الهوى : مقصور بمعنى العشق . و « الغادة » بالمعجمة : هي المرأة الناعمة البيّنة الغيد . والعمر : بمعنى الحياة . والعادة : الديدن . و « الشيب » : بياض الشعر .
و « الشاب » : اسم فاعل والباء مشددة فالأولى عين الكلمة ، والثانية لامها وهو الفتى وإحدى الباءين محذوفة تخفيفا . و « الأحيّ » : مصغّر أحوى ، وهو من كان سواده يضرب إلى خضرة ، أو هو ذو حمرة ضاربة إلى السواد .
 
الإعراب :
الواو : للحال ، وهوى : مبتدأ ومضاف إليه . وعمري : مبتدأ محذوف الخبر وجوبا ، أي قسمي أي ما أقسم به . وعادة : منصوب على أنها نعت مصدر محذوف أي جلبا عاديّا ، وجملة يجلب الشيب إلى آخره خبر المبتدأ وما بينهما اعتراض وعائد المبتدأ ضمير في يجلب .
 
المعنى :
كيف الإنكار في حال الكهولة لمن عرف فتى صغيرا مع أن هوى الحبيبة سبب في العادة لشيب الشاب الأسمر الذي من شأنه إبطاء الشيب ، فليس إسراع الشيب إلا من تحمّل مشاقّ الهوى ومكابدة ما تقتضيه المحبة من الأسقام والجوى
وللّه درّ القائل حيث قال :
وما إن شبت من كبر ولكن * رأيت من الأحبة ما أشابا
 
وقال المهيار :
بعادك من بعد اكتهالي تكهّل * وعذرك من قبل المشيب مشيب
 
وقال الآخر :
سألت من الأطبا ذات يوم * خبيرا ممّ شيبي قال بلغم
فقلت له على غير احتشام * لقد أخطأت فيما قلت بل غم
 
وقال أبو فراس الحمداني :
وما أربت على العشرين سنّي * فما عذر المشيب إلى عذاري
 
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 01 إلى 25 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 7:51 pm

شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 01 إلى 25 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الأولى سائق الأظعان الأبيات من 01 إلى 25 
« 52 »
 
وفي البيت الجناس المصحّف بين الغادة والعادة ، والمقابلة بين الشباب والشيب .
 
( ن ) : يعني أن محبة المليحة الحسنة تقتضي بياض السواد وحلف عليه بعمره لإنكار بعض المحجوبين لذلك فإذا هدى الحق تعالى فيه العبد واعتنى به كشف له عن سواد الأكوان وظلمة الأعيان فبان له بياضها بنور التجلّي وفنيت الأغيار واتّضحت الأسرار ، قال عليه السلام : « اجعل لي نورا في سمعي ونورا في بصري » إلى أن قال :
« واجعل لي نورا واجعلني نورا » هـ .
 
21 - نصبا أكسبني الشّوق كما *** تكسب الأفعال نصبا لام كيّ
 
النّصب محرّكة : التعب . و « أكسبني » : أفادني . و « الشوق » : حركة الهوى .
وما : مصدرية . و « تكسب » : مضارع اكسب . و « الأفعال » : جمع فعل وهو الاصطلاحي المقابل للاسم والحرف ، والمراد هنا المضارع والنصب على المفعولية عند النحاة . و « لام كي » : هي اللام التي يصحّ حذفها وإقامة كي مقامها ولذا سمّيت بذلك وهذه اللام إنما تنصب على قول الكوفيين ، وأما البصريون فالنصب عندهم بأن مضمرة بعد لام كي لا بها نفسها . فما أفهمه كلامه رضي اللّه عنه من كونها ناصبة مبني على المذهب المذكور أو تجوّز في كونها ناصبة لأنها سبب النصب .
 
الإعراب :
نصبا : مفعول ثان لأكسبني ومفعوله الأول الياء . والشوق : فاعل .
والكاف حرف جر ، وما : مصدرية . والأفعال : مفعول أول لتكسب . ونصبا : المفعول الثاني . ولام كي : فاعله .
 
المعنى :
أفادني الشوق تعبا كما أفادت لام كي الفعل المضارع النصب . وفي البيت الجناس المحرّف بين النّصب والنّصب ، والمناسبة بذكر الأفعال والنصب ولام كي .
 
( ن ) : والمعنى في ذلك أن الشوق إلى الأحبة أكسبني التعب والمشقّة مثل ما أكسبت لام كي الأفعال المضارعة النصب وفي نفس الأمر ما أكسبني ذلك التعب إلا الأحبة لا الشوق إليهم كما أن لام كي ما أكسبت الأفعال النصب وإنما الناصب أن مضمرة بعد لام كي ، ولام كي لم تنصب بنفسها ولكن نسب إليها النصب للأفعال كما نسب النصب والتعب للشوق وفي نفس الأمر الفاعل المؤثّر مضمر وجميع أفعال العباد من هذا القبيل في الخير والشر والنفع والضرّ وهذا عقد أهل التوحيد قاطبة . اه .

« 53 »
 
22 - ومتى أشكو جراحا بالحشى زيد *** بالشّكوى إليها الجرح كيّ
 
[ الإعراب : ]
« متى » : اسم شرط نحو :
متى أضع العمامة تعرفوني
و « أشكو » : شرطها وثبوت الواو إشباع للضمة لضرورة الوزن . والجراح كرجال :
جمع جراحة . والباء في بالحشى : ظرفية ، والحشى : ما في الباطن من كبد وطحال وما يتبعه . والشكوى : مصدر شكا أمره شكوى وينوّن . والجرح : بالضم اسم مصدر من جرحه إذا كلمه ، و « جراحا » : مفعوله . و « بالحشى » : صفتها . و « زيد » على البناء للمجهول : في محل جزم على أنه جواب الشرط . و « بالشكوى » : متعلق به ، والباء :
سببية . و « إليها » : متعلق بزيد . و « الجرح » : نائب فاعل زيد . و « كي » : مفعول ثان لزيد والوقف عليه بالسكون لغة ربيعة .
( ن ) : وهو اسم مصدر والمصدر في البيت الذي بعده فلا إيطاء . اهـ .
 
والمعنى :
كلما حصلت مني شكاية للجراح المستقرة في باطني رجاء زوالها حصل كيّ وإحراق لباطني زيادة على الجرح الذي شكوته فالمحن بالشّكاية تزيد ولا تزول .
قال المتنبي :
فصرت إذا أصابتني سهام * تكسّرت النّصال على النّصال
واختيار متى على إذا لأن متى تفيد الاتصال الكلّي ، وإذا مفيدة للاتصال الجزئي ، فمتى تقتضي أن زيادة الكيّ فوق الجرح حاصلة في كل زمان حصلت فيه الشكاية من جرح الباطن .
 
( ن ) : المعنى أن هذه المحبوبة كلما شكوت إليها ما ألاقيه في طريق محبتها ولو بلسان حالي دون لسان مقالي زادتني كيّا وحرقة على ما أنا فيه لأن الشكوى منبئة عن دعوى الوجود معها وهي تغار أن يكون معها في الوجود غيرها .
 
قال أبو القاسم الجنيد قدّس اللّه سرّه : ما انتفعت بشيء كانتفاعي بأبيات سمعتها وأنا مارّ في بعض الطرقات وهي :
إذا قلت أهدى الهجر لي حلل البلا * تقولين لولا الهجر لم يطب الحبّ
وإن قلت هذا القلب أحرقه الجوى * تقولي بنيران الجوى شرف القلب
وإن قلت ما ذنبي إليك أجبتني * وجودك ذنب لا يقاس به ذنب.

 
« 54 »


23 - عين حسّادي عليها لي كوت *** لا تعدّاها أليم الكيّ كيّ
 
الحسّاد : على وزن رمان ، جمع حاسد وهو من يتمنّى أن تتحوّل نعمة الشخص إليه ، وكذا فضيلته ، أو يسلبهما ، والضمير في عليها للغادة السابقة في قوله : وهوى الغادة . . . . البيت . و « كوت » : أي أحدّت النظر ، والضمير للعين . و « لا » دعائية ، ومن ثم لم يلزم تكرارها مع الماضي . و « تعداها » : تجاوزها . و « أليم الكيّ » : بمعنى المؤلم على صيغة اسم المفعول ، والإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها .
و « كيّ » :
مصدر كوت الواقع في البيت ، وأما الكيّ الذي قبله فهو السابق في البيت قبله .
 
الإعراب :
عين حسّادي : مبتدأ ومضاف إليه . وعليها : متعلق بحسّادي ، على أن المراد والذين يحسدونني عليها ، أو بقوله كوت على أن على تعليلية أي كوتني عليها أي لأجلها واللام في لي للتقوية حيث تقدم المعمول على عامله ولا دعائية وأليم الكي فاعل لقوله تعدّاها وكي مفعول مطلق من كوت والوقف عليه بالسكون لغة وجملة لا تعدّاها أليم الكيّ معترضة بين الفعل والمفعول .
 
المعنى :
عين حسّادي على هذه الغادة كوتني كيّا وأحدّت النظر إليّ غضبا فأسأل من اللّه تعالى أن لا يخلّصها من أليم الاحتراق . وفي البيت جناس الاشتقاق بين كوت وكي المنكر ، وجناس شبه الاشتقاق بينه وبين الكيّ المعرّف ، والجناس التام بين كي وكي .
 
( ن ) : يعني أن عين الحسّاد كوته وآذته وأحدّت النظر إليه بعين البغض حسدا على المحبوبة التي شرّفه اللّه بحبها وعين الحسّاد هي عين الشيطان المقارن له ولغيره فهو يراقب الإنسان خصوصا السالك في طريق العرفان فإنه عدوّه الأكبر يتعرّض لسلب حاله فلا يقدر لحمايته بالإخلاص كما قال :لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ( 82 )إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ( 83 ) [ ص : الآيتان 82 ، 83 ] ، وقد دعا على تلك العين بأن لا يتجاوزها الكيّ المؤلم . اه .
 
24 - عجبا في الحرب أدعى باسلا ***  ولها مستبسلا في الحبّ كيّ
 
« الحرب » : معروفة وهي مؤنثة وقد تذكّر ، وجمعها حروب . و « أدعى » : مضارع مجهول للمفرد المتكلم ، أي أسمّى . والباسل : الأسد والشجاع . والمستبسل : اسم فاعل من استبسل أي طرح نفسه في الحرب ، ويريد أن يقتل أو يقتل . و « كيّ » في آخر البيت : الضعيف الجبان ، وأصله كيء بالهمز فخفّف بقلب الهمزة ياء وإدغامها في الياء .

 
« 55 »
الإعراب :
عجبا : مفعول مطلق لفعل محذوف أي أعجب عجبا . وفي الحرب :
متعلق بأدعى ونائب فاعله ضمير المتكلم وهو مفعوله الأول . وباسلا : مفعوله الثاني .
وقوله مستبسلا : مفعول ثان لأدعى الذي دلّ عليها العطف .
وكيّ في آخر البيت : وصف لمستبسل إن جوّزنا وصف الصفة ، والوقف بالسكون لغة أو هو وصف لموصوف مقدّر إن لم نجوّزه ولها متعلق بمستبسلا على تضمّنه معنى المستسلم . وفي الحب : متعلق بأدعى الذي دلّ عليه العطف .
 
المعنى :
أتعجب من حالي كثيرا لأني في الحرب التي هي موطن الخوف أسمّى الأسد الشجاع لكثرة ما يظهر من أسباب الشجاعة وأدعى في الحب مستسلما لهذه الغادة ضعيفا جبانا وذلك مما يقتضي كمال التعجّب على أنه ليس إلى الغاية بعجيب فإنه ينشأ عن المحبة الأمر الغريب ، فالشجاع فيها جبان ، والعاقل فيها حيران ، والصابر جزوع ، وقاسي القلب سكب الدموع ، فأطوارها عجائب وتقلباتها غرائب لا تمشي على سنن القياس ، ولا تكون على ما تتصور عقول الناس ،
وللّه درّ القائل حيث قال :
تعس القياس فللغرام قضية * ليست على نهج الحجا تنقاد
منها بقاء الشوق وهو بزعمهم * عرض وتفنى دونه الأجساد
وفي البيت الطّباق بين الباسل والمستبسل ، وهذا البيت مع الثلاثة التي قبله في آخرها لفظة كي وكل واحد منها بمعنى مستقل وفيها الجناس التام .
 
( ن ) : حاصل المعنى أني أعجب من نفسي أسمّى شجاعا في حرب الهوى والعشق والمجاهدة النفسانية والمكابدة على العبادة الجسمانية والروحية ومع ذلك أدعى وأسمّى في محبة هذه المحبوبة لها جبانا ضعيفا لا أقوى على ملاقاتها ولا أقدر على مقاساتها
كما قال العفيف التلمساني من أبيات له :
يا بديع الجمال فاز محبّ * بلذيذ الوصال فيك تهنا
كيف يرجو الحياة وهو مع *الهجر قتيل وعند رؤياك يفنى
 
25 - هل سمعتم أو رأيتم أسدا * صاده لحظ مهاة أو ظبيّ
 
« هل » : حرف استفهام لطلب التصديق فقط . والمهاة : هنا البقرة الوحشية .
والظبيّ : تصغير ظبي وهو الغزال .
 
الإعراب :
مفعول سمع محذوف دلّ عليه مفعول رأيتم ، أي هل سمعتم بأسد ، وجملة صاده لحظ مهاة صفة أسد ، وظبي : معطوف على مهاة .

 
« 56 »
 
المعنى :
هل سمع أحد صاحب عقل أن الأسد صاده لحظ الغزال ومن رأى أحدا بهذه الصفة والاستفهام هنا للتعجب وللإنكار وحاصله على كل تقدير لم يسمع أحد بمثل ذلك .
 
( ن ) : قدّم السمع على الرؤية لأنها أعمّ إفرادا لأنها رتبة أهل العموم يسمعون ولا يرون والرؤية رتبة الخواص من الناس وكنّى بالأسد عن نفسه لزيادة شجاعته في طريق اللّه تعالى ومحاربة أعدائه في حرب المحبة والعشق الربّاني من النفس والطبيعة والشهوات وزخارف الدنيا وعقبات العلوم ووساوس الشياطين واصطياده هو وقوعه في حبالات التجليات وخبالات التنزّلات وذلك هو المكنّى عنه بلحظ أي ملاحظة المهاة والظبي وكنّى بهما عن المحبوبة الحقيقة كما يكنّون عنها أيضا بليلى وسعدى ولبنى وميّ ونحو ذلك من محبوبات العرب الحسان .
 
قال عفيف الدين التلمساني بلبل هذا الروح العرفاني :
نظرت إليها والمليح يظنني * نظرت إليه لا ومبسمها الألمى
ولكن أعارته التي الحسن وصفها * صفات جمال فادّعى ملكها ظلما
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 26 إلى 50 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 7:54 pm

شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 26 إلى 50 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الأولى سائق الأظعان الأبيات من 26 إلى 50 
26 - سهم شهم القوم أشوى وشوى *** سهم ألحاظكم أحشاي شيّ
 
السهم : النّبل . والشهم : الذكي الفؤاد المتوقّد كالمشهوم والسيد النافذ الحكم .
و « أشوى » السهم : أي أصاب شوى وهي الأطراف وما كان غير مقتل . و « شوى » :
ماض من شيّ نحو اللحم أي نضجه بغير طبخ . و « سهم ألحاظكم » : من إضافة المشبّه به إلى المشبّه فهو تشبيه بليغ . والأحشاء : جمع حشى وهو ما في البطن . و « شيّ » :
مصدر شوى السابق وأصله شوى فوقع الإعلال بقلب الواو ياء والإدغام على القاعدة المعروفة .
 
الإعراب :
سهم شهم القوم : مبتدأ فمضاف إليه . وجملة أشوى : في محل رفع خبر المبتدأ . وسهم ألحاظكم : فاعل شوى . وأحشائي : مفعوله . وشيّ : مفعول مطلق لشوى ، والوقوف عليها بالسكون لغة ، وجملة شوى الخ . . . . لا محل لها من الإعراب لعطفها على الجملة الكبرى المستأنفة .
 
المعنى :
سهم السيد المتوقّد الفؤاد الماهر لم يصب مقاتل مرميه وأما سهم ألحاظكم فأصاب المقاتل بالعيون القواتل . وفي البيت الجناس المصحّف بين سهم وشهم ، وجناس شبه الاشتقاق بين أشوى وشوى ، وما بين شوى وشيّ جناس الاشتقاق .
 
« 57 »
 
( ن ) : يعني أن شهم القوم الذين هم رجال السلوك في طريق اللّه تعالى إذا رمى بسهم فكره ونبل بصيرته وبصره لظواهر الأكوان أصاب أطرافها فلا يزال متردّدا بين صور المحسوسات وصور المعقولات كما قال تعالى : يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ( 7 ) [ الرّوم : الآية 7 ] وأما سهم عيون هذه المحبوبة فهو النّافذ في تحقيق العرفان ومعنى شوى أحشائي أحرقها وأفناها فتحقّقت بعدمي وعدم كل شيء في الوجود الحق الواحد الأحد . اه .
 
27 - وضع الآسي بصدري كفّه *** قال ما لي حيلة في ذا الهويّ
 
« الآسي » : اسم فاعل بمعنى الطبيب . و « الهويّ » : تصغير هوى بمعنى المحبة ، وفائدة تصغيره التعظيم .
 
الإعراب :
الآسي : فاعل لوضع . وبصدري : متعلق به . وكفّه : بالنصب مفعوله وتقديم المفعول الغير الصريح عليه للوزن . وفي : متعلقة بحيلة أو بمحذوف صفة حيلة . وجملة ما لي حيلة الخ : في محل نصب على أنها مقول القول .
 
المعنى :
وضع الطبيب يده بصدري مختبرا دائي ليصف دوائي فلما تحقّق أنه ليس من قسم الأسقام المعروفة ولا من أنواع الأمراض المألوفة إذ هو مرض الغرام لا ما يعرفه الأنام من الأسقام . قال ما لي حيلة أي ليست لي طريق إلى مداواة المرض الذي هو هوى عظيم وداء جسيم وللّه درّ القائل حيث قال :
زعم ابن سينا في عقود كلامه * أن المحبّ دواؤه الألحان
ووصال غير حبيبه من جنسه * والماء والصهباء والبستان
فصحبت غيرك للتداوي ساعة * وأعانني المقدور والإمكان
فازداد بي شوقي إليك وشفّني * وجدي وثارت نحوك الأشجان
فعلمت أن الحبّ داء مفرط * بقراط فيه كلامه هذيان
 
( ن ) : يعني أن الطبيب الروحاني والكامل الرباني اختبر حالته بوضع كفّه كله على صدره لا بوضع الأصابع على شريان اليد ، فلما علم أنه لم يبق فيه دعوى غيرية قال : لا حيلة في صرفه عن الجهة المتوجّه إليها وهي جهة الغيب المطلق التي هي معشوقة الأرواح لأنه تحقّق بالظهور وانكشفت له الأمور . اه .
 
28 - أيّ شيء مبرد حرّا شوى *** للشّوى حشو حشاي أيّ شيّ
 
 
« 58 »


« أيّ شيء » : استفهام إنكاري بمعنى النفي . و « مبرد » : اسم فاعل من أبرد الماء جاء به باردا . والحرّ خلاف البرد . والشوى : الأطراف وكل ما ليس مقتلا . و « حشو » الحشى : ما جعل في الحشى كالقطن في الوسادة . و « أيّ شيّ » : تكرار للاستفهام في أول البيت فهو تأكيد لفظي .
 
الإعراب :
أيّ شيء : مبتدأ ومضاف إليه . ومبرد : بالرفع خبره . وحرّا :
مفعول مبرّد . وفاعل شوى ضمير يعود لحرّا . واللام في للشّوى زائدة وكونها للتقوية ضعيف إذ لم يتقدّم المعمول على عامله الفعل . وحشو حشاي : ظرف ومضاف . وأيّ شيّ بالنصب على أن يكون نعتا لمصدر شوى أي شوى الشّوى شيّا أيّ شيّ ، وفيه نظر للزوم تكرار شيّ بمعنى واحد في هذا البيت وفيما سبق .
 
المعنى :
هل يوجد شيء يبرّد حرّا موصوفا بأنه شوى أطرافي وبأنه حشو الأحشاء أي لا يوجد ما يبرّد . وفي البيت الطّباق بين البرودة والحرارة ، والجناس التام المستوفى بين شوى وللشّوى ، والاشتقاق بين حشو وحشاي ، وردّ العجز على الصدر .
 
( ن ) : الحرّ الكائن حشو الحشى هو حرارة الروح المنفوخة فيه من أمر ربّه وهو طالب لبرد اليقين الذي يطفئ حرارة الطلب ليطمئن قلبه من قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام :رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى[ البقرة : الآية 260 ] فقيل له :أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [ البقرة : الآية 260 ] فطلب طمأنينة قلبه ببرد اليقين . اه .
 
29 - سقمي من سقم أجفانكم *** وبمعسول الثّنايا لي دويّ
 
[ المعنى ]
السقم الأول كجبل ، والثاني كقفل المرض وهما لغتان فيه ، وفيه ثالثة على وزن سحاب وفعله من باب فرح وباب كرم . والأجفان جمع جفن وهو غطاء العين من أعلى أو أسفل وهو بفتح الجيم والكسر فيه حسن أيضا . والمعسول : اسم مفعول والظاهر أنه من عسلت الشيء إذ خلطته بالعسل ، ويلوح أنه عبارة عن الريق وإضافته إلى الثنايا للاختصاص بالمجاورة والملابسة فكأنه قال وفي ريق الثنايا الذي خلط بالعسل لي دواء عظيم . و « الثنايا » : جمع ثنية وهي الأضراس الأربع التي في مقدّم الفم ثنتان من فوق وثنتان من أسفل . والدّويّ : تصغير دواء وتصغيره للتعظيم بدلالة المقام .
 
 
« 59 »
الإعراب :
سقمي : مبتدأ خبره قوله من سقم أجفانكم . ودويّ : في آخر البيت مبتدأ خبره قوله لي وتعلقه بمحذوف يتعلق به قوله بمعسول الثنايا ولك أن تجعل بمعسول الثنايا حالا من الضمير المستكن في الخبر والباء بمعنى مرضي حادث ومستقر من السقم والاسترخاء الموجود في أجفانكم وذلك لأني أحببته فأثّر في وصف السقم لكن الاشتراك في اسم السقم لا في معناه لأن سقمي موجب للاضمحلال وسقم أجفانكم مورث للجمال
وما ألطف قول بعضهم :
أخذت حبّة قلبي * فصغتها لك خالا
فقد كستني نحولا * لمّا كستك جمالا
 
وقال الأرجاني :
غالطتني مذ كست جسمي الضّنا * كسوة أعرت من اللحم العظاما
ثم قالت أنت عندي في الهوى * مثل عيني صدقت لكن سقاما
 
وقال ابن سنا الملك في ضدّ المعنى :
نظر الحبيب إليّ من طرف خفيّ * فأتى الشفاء لمدنف من مدنف
 
( ن ) : وضمير أجفانكم للأحبة وهي محبوبة واحدة ظهرت في كل شيء وعينها واحدة وعيونها كثيرة وأجفان تلك العين صور الأكوان المحسوسة والمعقولة وضعف الأجفان وانكسارها من جملة محاسنها وقد ورد أن عند المنكسرة قلوبهم من أجلي وإذا انكسر القلب انكسرت كل الجوارح وجعل الكسر في الأجفان تنزيها للحق تعالى عمّا لا يليق به ، ومن عادة الأجفان أن تمنع القذى عن العين . ومعسول الثنايا الأربع كناية عن حضرة الأسماء الإلهية التي أصولها أربع : الاسم الحي ، والاسم العالم ، والاسم المريد ، والاسم القادر .
وهي أركان ظهور العوالم فإن الحيّ يعلم أشياء فيريد إظهارها وهو قادر عليها فتظهر فإذا ظهرت فهي آثار هذه الأسماء الأربع وهي الأكوان تكون حلوة عند السّالك المحقّق .
 
قال في هذا المشرب الشيخ الأكبر قدّس اللّه سرّه :
فأبدت ثناياها وأومض بارق * فلم أدر من شقّ الحنادس منهما
 
30 - أوعدوني أو عدوني وامطلوا *** حكم دين الحبّ دين الحبّ ليّ
 
[ المعنى ]
« أوعدوني » : أمر من الإيعاد وهو إذا أطلق في الشرّ ، وأما وعد فيقال وعده الأمر ووعده به خيرا أو شرّا فإذا أطلقا قيل في الخير وعد وفي الشرّ أوعد . و « أو » :
 
« 60 »
 
حرف عطف للتخيير . و « عدوني » : أمر من الوعد في الخير . « وامطلوا » : أمر من المطل وهو التسويف بالعدة . و « دين » الأول بكسر الدال وهو جميع ما يتعبّد اللّه به .
و « الحب » بالضم : المحبة . و « دين » الثاني بفتح الدال وهو مال له أجل ، والذي لا أجل له قرض . و « الحب » بالكسر : المحبوب . و « ليّ » : بفتح اللام بمعنى المطل وفعله لواه بدينه ليّا وليانا مطله .
 
الإعراب :
أوعدوني : فعل أمر لكنه للدعاء هنا ، والواو فاعل ، والياء مفعول .
وأو : حرف للتخيير . وعدوني : أمر من الوعد . وقوله وامطلوا : عطف على عدوني .
وحكم دين المحب : مبتدأ فمضاف إليه . ودين الحب ليّ : مبتدأ وخبر ، والجملة خبر للمبتدأ والرابط العائد إلى المبتدأ الأول محذوف ، أي فيه ، والمعنى أوعدوني أيها الأحباب بما تريدون من الهجر والصّدّ وإن شئتم فعدوني بما تريدون من القرب والوصال وامطلوا بما وعدتم به إذ الوعد كاف في إفادة التعلّل والسكون .
قال رضي اللّه عنه :
عديني بوصل وامطلي بنجازه * فعندي إذا صحّ الهوى حسن المطل
وقوله حكم دين الحب إلى آخره مقرّر لطلب الوصل ومبيّن لأن حرمة المطل مقررة بالنسبة إلى الشريعة لأن أصحاب الديون غير راضين به ، وأما في شريعة المحبة فجائز لأن الممطولين هم المحبّون وهم راضون بجميع ما يصدر من المحبوب فلا يرد علي البيت قوله صلى اللّه عليه وسلم : « مطل الغني ظلم » لأن ذلك حيث لا يرضى به صاحب الدّين ، وأما إذا رضي فجائز ، فكأنه يقول : ما رضيت منكم بالمطل إلا لأنه حكم دين المحبة ، أو حكم دين المحبّ لأنه يجوز كون المحبّ الأول بالكسر والثاني بالضمّ فتأمّل . وجملة دين الحبّ إلى آخر البيت مقرّرة لرضاه بالوعد مع المطل . وفي البيت الجناس التام المركّب بين أوعدوني وأوعدوني ، والجناس المحرّف بين حب وحب ، وكذا بين دين ودين جناس محرّف .
 
( ن ) : المعنى أن الوعد والوعيد سواء عند المحبّ ومطل الوعد مقبول عنده لأن المحبوب هو المالك الحقيقي فيفعل ما يشاء ولا يسأل عمّا يفعل وكيفما فعل فليس بظالم . اه .
 
31 - رجع اللّاحي عليكم آيسا من *** رشادي وكذاك العشق غيّ
 
« اللّاحي » : فاعل من لحى يلحي إذ لام . والآيس : اسم فاعل من إيس إذا قنط ولم يبق له طمع فيه . والرشاد : الاهتداء ، وبابه نصر وفرح . و « العشق » : إفراط الحب
 
 
« 61 »
أو عمى الحسّ عن إدراك عيوب المحبوب أو مرض وسواسي يجلبه الإنسان إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور . والغيّ : خلاف الرشاد .
 
الإعراب :
اللّاحي : فاعل رجع . وعليكم : متعلق به . وآيسا : حال من اللّاحي .
ومن رشادي : متعلق بآيسا . وكذاك : خبر مقدّم . والعشق : مبتدأ مؤخر . وغيّ : خبر بعد خبر .
 
المعنى :
رجع اللائم لي على حبّكم قانطا من رشادي قاطعا أطماعه منه لما رأى منّي من العلامات التي تدلّ على عدم الالتفات إلى لومه وقرّر ذلك بقوله : العشق من شأنه أن يكون غيّا فكيف مع الغيّ يكون الرشاد . وفي البيت الطّباق بين الرّشاد والغيّ ، والتكميل في قوله : وكذاك العشق غيّ ، وربما كان إيغالا .
( ن ) : اللّاحي هو الشيطان المقارن له ، يقول : إن هذا اللّاحي الذي كان يوسوس لي ويشكّكني في أمركم أيام جاهليتي رجع آيسا لا طمع له في نصيحتي على زعمه ، والعاشق إذا حصل على الكشف العرفاني عن المقام الصمداني لا يعود يتحوّل عن الاشتغال في أنوار التجليات الربّانية بل يفني حواسه الظاهرة والباطنة بالموت الاختياري . اه .
 
32 - أبعينيه عمى عنكم كما *** صمم عن عذله في أذنيّ
 
الهمزة الداخلة على أبعينيه للاستفهام ، والضمير للّاحي . والعمى : عدم البصر عمّا من شأنه أن يكون بصيرا . والصّمم : انسداد الأذن وثقل السمع . والعذل :
الملامة .
 
الإعراب :
عمى : مبتدأ مؤخر . وبعينيه : خبر مقدّم ، وتنكير عمى للتعظيم .
وعنكم : متعلق بعمى . وكاف كما مكفوفة عن العمل بما المتصلة بها . وصمم :
مبتدأ . وعن عذله : متعلق به . وفي أذنيّ : ظرف مستقر هو الخبر وجوّز الابتداء بالصّمم مع تنكيره تعلّق الجار به .
 
 
المعنى :
استفهم استفهام مستبعد ، هل حصل في ناظرتي اللائم لي على محبتكم مريدا رجوعي عنكم عمى عظيم عن رؤيتكم بالخصوص مع ظهور الجمال كظهور الشمس في وسط النهار ، فحالته شبيهة حينئذ بالصّمم الواقع في أذني عن عذله فلا أسمعه ، وكأنه يقول : لا بعد في صممي عن سماع عذله لأنه مكروه تنفر منه الطّباع وتمجّه الأسماع ، وأما عماه عن جمالكم الذي يأخذ بالألباب ويدخل إلى
 
« 62 »
 
القلوب ولا يمنعه الحجاب فهو بعيد الوقوع ، وكيف تخفى الشمس عند الطلوع
قال المتنبي :
وإذا خفيت على الغبيّ فعاذر * أن لا تراني مقلة عمياء
 
وقال الأرّجاني :
وجحود من جحد الصباح إذا بدا * من بعد ما اشتهرت له أضواء
ما دلّ أن الصّبح ليس بطالع * بل مقلة قد أنكرت عمياء
 
وقلت فيما يقرب من ذلك :
ما ضرّني إنكار بعض معاشر * فضلي وقد شهدت به الأبصار
فنواظر الخفاش تعمى عندما * تبدو الشموس وتظهر الأنوار
 
( ن ) : يعني أن العمى حاصر بعيني اللّاحي الثنتين عين البصر وعين البصيرة ، قال تعالى : وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [ الأعراف : الآية 198 ] ، وقال تعالى : وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [ البقرة : الآية 7 ] ، وقال تعالى : بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [ المطفّفين : الآية 14 ] ، فأفعالهم القبيحة التي كانوا يكسبونها هي التي جعلت الرّين على قلوبهم فلهذا صاروا لا يرون الحق المتجلّي . اهـ .
 
33 - أو لم ينه النّهى عن عذله  *** زاويا وجه قبول النّصح زيّ
 
الهمزة الداخلة على الواو للاستفهام الإنكاري وهو إنكار النفي الذي بعده ، ونفي النفي إثبات ، إذ المراد إثبات نهي النّهى عن عذله ، ومن ثم صحّ كون الهمزة للاستفهام التقريري فإنه يقرّر ما بعد حرف النفي حينئذ في تقرير نهي النّهي عن عذله ودخول الهمزة على الواو ، إما على سبيل الزحلقة بتقدير أن الواو كانت سابقة على الهمزة فقدّمت الهمزة عليها لمكان صدارتها ، وإما أن الهمزة باقية في مكانها داخلة في التقدير على جملة محذوفة والتقدير أترك هذا اللّاحي مقبول قوله ولم ينه النّهى عن عذله ، والنهي خلاف الأمر ، والنّهى بضم النون وفتح الهاء وبعده ألف مقصورة جمع نهية بضم النون بمعنى العقل لأنه ينهى عن القبيح ، وإسناد النهي إلى نفس النّهى باعتبار أنها هي التي تنهى صاحبها عن خلاف الفعل الجميل . ومن بلاغات الزمخشري وهو عقلك ليعقلك ، وحجرك ليحجرك ، ونهيتك لتنهاك . والعذل مصدر عذله إذا لامه فهو بمعنى الملامة ، والضمير اللّاحي .
وقوله « زاويا » : اسم فاعل من زوى وجهه قبضه ، ويقال زوى الرجل ما بين عينيه ، أي قبض جبينه وأظهر عقدة الغيظ . والقبول

« 63 »


بفتح القاف وضم الباء وهو مصدر على فعول ، قيل ولا ثاني له ، والحق ثبوت ثان وثالث له . و « النّصح » : التذكير بالخير . و « زيّ » : مصدر من قوله زاويا فهو للتأكيد والوقوف عليه لغة .
 
الإعراب :
الهمزة للاستفهام ، والواو للعطف على مقدّر بعد الهمزة كما تقرّر والعطف على ما قبلها إن قلنا بالزحلقة وقد تقدّم . والنّهى : فاعل ينهى . وعن عذله :
متعلق بالفعل ، والهاء في عذله فاعله . وزاويا : مفعوله ، والوجه مضاف إلى قبول المضاف إلى النصح . وزيّ : مفعول مطلق .
 
والمعنى :
النّهى تنهى عن نصيحة رجل قابض وجه قبول النصح أي يظهر الغضب بالنصيحة ، وكل من كان بهذه الصفة فلا يليق بالعاقل أن ينصحه لأن إبداء قول النصيحة لمن ظهر منه عدم القبول لها عبث من قائله ، وما ألطف قول الأرجاني :
يلومني في هوى الأحباب كل فتى * سهم الصبابة يصميني ويخطيه
يعيبني بالهوى بغيا ويعذلني * وإنما يبتليني من يعافيه
تكليفه الصبّ صبرا عن أحبته * قول يعنيه فيما ليس يعنيه
أقلّ من عذل تلقى المشوق به * فقلبه بسهام اللوم ترميه
والمرء مثل نفوذ السهم من يده * إلى قلوب نفوذ السهم من فيه
دع عنك قلبي فإن الحبّ آمره * أضعاف ما أنت بالتعذال ناهيه
 
( ن ) : المعنى أنه معرض بوجهه عن قبول النّصح العاذل لأن القلب له وجهة واحدة ، فإذا توجّه إلى الحق أعرض عن الباطل وبالعكس ، قال تعالى : وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها [ البقرة : الآية 148 ] ، ثم قال : فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ [ البقرة : الآية 148 ] ، يعني إذا كانت وجهتكم إلى الخيرات فتسابقوا إليها . اه .
 
34 - ظلّ يهدي لي هدى في زعمه *** ضلّ كم يهذي ولا أصغى لغيّ
 
« ظل » بالظاء المشالة : أقام واستمر . و « يهدى » بضم الياء : مضارع أهدى هدية .
والهدى : مصدر هداه ، أي أرشده . والزّعم بالحركات الثلاث : القول ، لكن شاع استعماله في العرف في الأقوال الباطلة . و « ضلّ » بالضاد الساقطة ، والجملة دعائية : أي أضلّه اللّه تعالى . « كم » : تكثيرية . و « يهذي » بالذال المعجمة من الهذيان : وهو الكلام الذي لا معنى له . و « أصغى » : مضارع أصغى من باب الأفعال ، فيكون المضارع
 
 
« 64 »


مضموم الهمزة ، ويجوز كونه مضارع المجرد ، فيكون مفتوحها . والغيّ في آخر البيت ليس بمعنى الضلال لسبق ما هو بمعناه قبله ببيتين ، فإما أن يكون هذا صفة على وزن فعل مثل ضخم ، أي ولا أصغى لكلام غاو ، وإما أن يكون هذا بمعنى الخيبة ، أي ولا أصغى لكلام ذي خيبة .
الإعراب :
ظل : من أخوات كان وهي وإن كانت في الأصل بمعنى الاستمرار على الشيء نهارا لكنها تستعمل بمعنى مطلق الاستمرار ، واسمها راجع إلى اللّاحي .
 
وجملة يهدي لي هدى في زعمه : منصوبة المحل على الخبرية ، وفي زعمه متعلق بيهدي . وجملة ضلّ : دعائية . وكم : في محل نصب على المصدرية ، أي كم مرة يهذي والعامل فيها ما بعدها . وقوله ولا أصغي لغيّ : عطف على جملة قوله ظلّ يهدي لي هدى في زعمه .
وما بين المتعاطفين اعتراض ، ويجوز كون كم استفهامية ومعناه التعجب من كثرة هذيانه مع الإعراض عنه وعدم الإصغاء إليه .
 
والمعنى :
استمر هذا اللّاحي يزعم كاذبا أنه يهدي إليّ الهدى ويتحفني لا زال ضالّا كم مرة هذى في كلامه الذي يلقيه مع عدم الإصغاء لكلامه الذي لا نتيجة له ولا فائدة فيه ، ولو جعلت واو لا أصغي للحال على أن الجملة حال من فاعل يهذي والرابط محذوف ، أي والحال أنني لا أصغي لغيّه لم يكن في ذلك بعد . وفي البيت الجناس المصحّف بين يهدي ويهذي مع التحريف في حركتيّ ياء يهدي وياء يهذي ، والجناس المضارع بين ضلّ وظلّ ، وشبه الاشتقاق بين يهدي وهدى إذ الأول من الهدية والثاني من الهداية .
 
35 - ولما يعذل عن لمياء طوع *** هوى في العذل أعصى من عصيّ
 
[ الإعراب ]
ما في لما استفهامية ، ولم تحذف ألفها بدخول لام الجرّ عليها لأجل الوزن على أنه قد سمع ،
قال الشاعر :
على ما قام يشتمني لئيم * كخنزير تمرّغ في دمان
 
واللام متعلقة بيعذل . و « عن لمياء » كذلك وهي مؤنث ألمى ، وهو اسم الشّفة ، وطوع الهوى مطيعه الذي لا يعصي ما يأمره به ، وعصيّ في آخر البيت أصله عصية كسميّة فرخّم بحذف هائه شذوذا إذ لم يكن منادى ، وعصية بطن . و « طوع » : مفعول يعذل . و « في العذل » : متعلق بأعصى . و « من عصيّ » متعلق به كذلك .
وكان هذا البطن ما سمّي عصية إلا لكثرة عصيانه ، فمن ثم نسب إليه العصيان وزعم أنه أزيد منه في عصيان العاذل على المحبة .
 
« 65 »
 
والمعنى :
أتعجب من عذل اللّاحي عن المحبوبة اللمياء رجلا يطيع الهوى ويعصى العذّال فهو في عصيانه لهم أعصى من عصية مع شهرتها بذلك . وفي البيت الطّباق بين الطاعة والعصيان ، وجناس الاشتقاق بين أعصى وعصيّ ونصف المصراع الأول آخره واو طوع .
 
( ن ) : عصيّ أصله عصية حذفت منه الهاء على طريقة الاكتفاء البديعي بحرف واحد. اهـ .
 
36 - لومه صبّا لدى الحجر صبا *** بكم دلّ على حجر صبيّ
 
الصب : صفة مشبهة وفعله صببت كقلقت من الصّبابة التي هي الشوق أو رقّته أو رقّة الهوى . و « لدى » بمعنى عند .
و « الحجر » بكسر الحاء وإسكان الجيم : المحوط بين الركنين الشاميين بجدار قصير بينه وبين كلّ من الركنين فيحة ، والمراد عند البيت الحرام .
و « صبا » بمعنى جهل جهلة الفتوّة . و « بكم » متعلق به ودلّ فيه ضمير يعود إلى اللّوم . والحجر : العقل وهو بكسر الحاء . و « صبيّ » مصغّر صبيّ ، والصبيّ من لم يفطم بعد .
 
الإعراب :
لومه : مبتدأ وهو مضاف إلى فاعله ومفعوله قوله صبا . ولدى الحجر متعلق بفعل بعده وهو قوله صبا . وبكم : متعلق به أيضا . وجملة قوله صبا بكم لدى الحجر : في محل نصب على أنها صفة لصبا . ودلّ : فعل ماض فاعله يعود إلى لومه .
وعلى حجر صبيّ متعلق به ، وجملة قوله دلّ إلى آخره في محل رفع على الخبرية للمبتدأ ورابطه الضمير في دلّ .
 
المعنى :
لوم الذي يلحى على المحبّة صبا محبّا مشتاقا موصوفا بأنه وقع في مهاوي مهالك المحبة عند البيت دليل على خفّة عقله وأنه عقل صبيّ صغير وللدلالة على كمال قلّة عقل لائمه صغر الصبي إذ كلما كان أصغر كان عقله أخفّ وأقل ، وسبب كون اللوم دليلا على قلّة عقل اللائم أنه يؤذن بأنه يسعى في شيء لا نتيجة له ولا فائدة فيه ، إذ المحبة المعقودة في ذلك المحل المعظّم لا تزول عن محلها وقد كانت العرب إذا أرادت تأكيد الإيمان والعهود يجتمعون في البيت ويتعاهدون على ما أرادوا فلا ينقضه أحدهم .
وكذلك كانت الخلفاء تعلّق كتب بيعة الخلافة في البيت علما منهم بأن ما كان معقودا في ذلك المحل الكريم لا ينحلّ عقده ولا يختلّ عهده .
وفي البيت الجناس التام بين حجر وحجر ، وكذا بين صبّا وصبا باعتبار الألف في الأول ، وجناس الاشتقاق بين اللفظين وصبيّ في آخر البيت .
 
« 66 »
 
( ن ) : والمعنى أن لوم هذا اللّاحي للعاشق الذي جهل جهل الفتوّة في محبتكم عند الكعبة دليل على أن عقله عقل صبي صغير يشير إلى إنكار الغافلين على أهل اللّه العارفين ولومهم لهم إذا رأوهم مدهوشين في محبة الحق تعالى . اهـ .
 
36 - عاذلي عن صبوة عذريّة *** هي بي لا فتئت هيّ بن بيّ
 
العاذل : اسم فاعل من عذل بمعنى لام . والصبوة : جهلة الفتوّة . والعذريّة بضم العين والياء للنسبة إلى عذرة وهي قبيلة مشهورة بالعشق وبأن من عشق منها يموت من المحبة .
 
قال البوصيري رحمه اللّه :
يا لائمي في الهوى العذري معذرة * منّي إليك ولو أنصفت لم تلم
 
و « لا فتئت » : لا زالت من أخوات كان يلزم النفي وما أشبهه ، فلا نافية ويصحّ كونها دعائية ، فالجملة على الثاني إنشائية ، وفتىء تكون ناقصة دائما . و « هيّ بن بيّ » :
كناية عن الذي لا يعرف ولا يعرف أبوه .
 
الإعراب :
عاذلي : مبتدأ خبره هي بن بيّ . وعن صبوة : متعلق بقوله عاذلي .
وعذرية : صفة صبوة . وبيّ : خبر مقدّم لقوله لا فتئت واسمها ضمير يعود إلى الصبوة وهي مبتدأ خبره جملة لا فتئت بي من الفعل واسمه وخبره فكأنه قال : هي لا فتئت مستقرة بي ، ويصحّ أن يكون هي مبتدأ وبيّ خبره ، أي الصبوة مستقرة بي ويكون خبر لا فتئت محذوفا ، أي لا فتئت عني أو لا فتئت عندي وعلى كل تقدير فهي معترضة بين المبتدأ والخبر .
 
المعنى :
عاذلي عن الصبوة العذرية التي لا سلوّ عنها ولا خلاص منها رجل غير معروف فلا يعبأ بكلامه ولا يلتفت إلى ملامه كيف والصبوة عذرية الغرام معروفة بالبقاء بين الأنام فليس لها زوال والسلو عن مثلها محال ، وإن شئت قلت المعنى عاذلي عن الصبوة العذرية التي ليس عنها براح مجهول النسب غير معروف الفلاح فلا ألتفت إلى ما يقول ولا أحول عن المحبة ولا أزول ، فهي لازمة على الدوام إذ هذا شأن الهوى العذري والسلام .
وفي البيت جناس التحريف بين هي بي وهي بيّ .
 
( ن ) : هي بن أبي أصله هيان بن بيان ، يعني لا يعرف هو ولا يعرف له نسب ، يعني أن عاذلي في هذه المحبة الحقيقية مقطوع النسب كأبي لهب الذي هو وإن كان من بني هاشم وأخا حمزة والعباس لكنه بسبب كفره باللّه وإنكاره نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم ذهب
 
« 67 »
 
شرف نسبه لتبرّي أهل الحق منه حتى قال تعالى في حقه : تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [ المسد : الآية 1 ] ، فصار هيان بن بيان ، وكذلك كلّ من أنكر على الورثة المحمّديين ما هم فيه من كمال الإيمان ومحض العرفان فذلك هيان بن بيان عند علماء هذا الشأن . اهـ .
 
38 - ذابت الرّوح اشتياقا فهي بعد *** نفاد الدّمع أجرى عبرتيّ
 
ذاب ضد جمد لازم ، وأذابه غيّره . و « الروح » : ما به حياة الأنفس وهو يذكّر ويؤنّث ، والمراد من ذوبانها زوالها واضمحلالها . والاشتياق بمعنى الشوق الذي هو نزاع النفس وحركة الهوى ، إلا أن في الاشتياق زيادة ليست في الشوق بناء على أن كثرة البناء تدلّ على زيادة المعنى غالبا وإلى هذا الاستعمال
أشار هو رضي اللّه عنه في التائيّة الكبرى حيث قال :
وما بين شوق واشتياق فنيت * في تولّ بحظر أو تجلّ بحضرة
 
والنّفاد بدال مهملة بمعنى الفراغ ، وفعله نفد كفرح ، ومنه قوله تعالى : ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [ لقمان : الآية 27 ] . و « أجرى » أفعل التفضيل من الجري ، بمعنى السيلان . و « عبرتيّ » مثنى عبرة بفتح العين بمعنى الدمعة ، وهو مضاف إلى ياء المتكلم وحذفت نون المثنى لإضافته إلى ياء المتكلم وأدغمت بعد ذلك ياء التثنية في ياء المتكلم .
 
الإعراب :
الروح : بالرفع فاعل ذابت . واشتياقا : مفعول من أجله منصوب على أنه علّة لذابت وهي مبتدأ خبره أجرى المضاف إلى عبرتي . وبعد نفاد الدمع : ظرف فمضاف إليه ، وهو متعلق بأجرى لأنه أداة تفضيل .
 
والمعنى :
ذابت روحي لأجل الاشتياق فهي الآن أجرى من عبرتي السابقة ، وحاصله أن لي عبرة سابقة وهي الدمع المعتاد الجاري من عينيّ ، وعبرة لا حقة وهي الدمعة الحاصلة من ذوب الروح ، بل هي الآن أجرى ، أي أكثر جريانا من عبرتي السابقة
وما أحسن قول من قال :
أشاروا لتوديع فجدنا بأنفس * تسيل من الآماق والاسم أدمع
 
وقلت من قصيدة :
روح أقطرها تسمى أدمعا * ودّعتها مذ قيل خلك ودّعا
 
« 68 »
 
وقال الأرجاني :
رمى فأصمى الحشا مني وما علما * حتى رأى مقلتيّ القرحا تسيل دما
ومما ينتظم في ذلك قول بعضهم :
دم القلب في عيني وتسخو بمائها * فقل في إناء لا بما فيه راشح
 
وينتظم في ذلك ولو على بعد قول الآخر :
وقائلة ما بال دمعك أخضرا * فقلت لها هل تفهمين إشارتي
ألم تعلمي أن الدموع تجفّفت * فأجريتها يا منيتي من مرارتي
 
وقال الآخر :
وقائلة ما بال دمعك أبيضا * فقلت لها يا علوّ هذا الذي بقي
ألم تعلمي أن البكا طال عمره * فشابت دموعي مثل ما شاب مفرقي
وعمّا قليل لا دموعي ولا دمي * ترين ولكن لوعتي وتحرّقي
 
وقال الآخر :
وقائلة ما بال دمعك أسودا * وقد كان محمرّا وأنت نحيل
فقلت لها إن الدموع تصرّمت * وهذا سواد العين فهو يسيل
 
( ن ) : ذابت الروح أي فنيت واضمحلّت في أمر اللّه تعالى لأنها من أمره كما قال تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [ الإسراء : الآية 85 ] ، فنظري الآن إنما هو بأمر اللّه تعالى السريع الذي هو كلمح بالبصر من قبيل قوله : كنت بصره الذي يبصر به الحديث. اهـ .
 
39 - فهبوا عينيّ ما أجدى البكاء *** عين ماء فهي إحدى منيتيّ
 
هبوا : أمر من الهبة ، وفاء الكلمة محذوف وهو واو . و « عينيّ » : مثنى عين مضاف إلى ياء المتكلم ، وحذفت نون التثنية للإضافة . و « ما » : مصدرية ظرفية .
و « أجدى » بالجيم بمعنى نفع . و « البكاء » : إجراء الدموع من حزن ، وقد يكون من فرح ، وقيل : ما كان بصوت فهو ممدود ، وما كان بغير صوت فهو مقصور
 
واستشهد له بقول الشاعر :
بكت عينيّ وحقّ لها بكاها * وما يغني البكاء ولا العويل


« 69 »
 
وقد فرّق بين دمع الحزن ودمع الفرح بأن الأول يكون سخنا والثاني يكون باردا ، ويشهد لذلك قول قيس بن الملوّح العامري المعروف بالمجنون وهو عاشق ليلى حيث يقول :
دعا باسم ليلى أسخن اللّه عينه * وليلى بأرض الشام في بلد قفر
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما * أطار بليلى طائرا كان في صدري
 
وعين الماء معروفة وهي ضمير لعين الماء . و « إحدى » بالكسر بمعنى الواحدة .
و « منيتيّ » مثنى منية بالضم وهي المطلوب والإضافة اقتضت حذف نون التثنية .
 
الإعراب :
هبوا : فعل وفاعل . وعينيّ : مفعوله ، والياء محلها الجر بالإضافة .
وما : مصدرية ظرفية . وأجدى : فعل ماض . والبكا : فاعله ، والظرف المأخوذ من ما المصدرية الظرفية متعلق بقوله : فهبوا . وعين ماء : بالنصب مفعول هبوا ، وهي مضاف إلى الماء وهي مبتدأ . و « إحدى » : خبره وهو مضاف إلى منيتيّ .
 
المعنى :
هبوا يا أحبتي عيني ماء أبكي بها لأن دمعي قد نفد مدة إجداء البكاء ، أي قبل حصول الفناء واضمحلال الجسم ، فإن الدمع حينئذ لا يجدي نفعا فعين الماء إحدى منيتي ، فالمنية الواحدة عين الماء ليبكي بها كما تقرر ، والمنية الثانية الحشا السالي كما ذكرها في البيت الذي بعده . وفي البيت الجناس التام بين العين والعين ولا عبرة بزيادة الأولى لأن الذي زادت به على العين الثانية علامة التثنية وهي زيادة لا تقدح في تمامية الجناس ، وفيه أيضا الجناس المصحّف المحرّف بين أجدى وإحدى ، وفيه أيضا الجناس المستوي بين ما المصدرية وما الذي أضيفت العين إليه .
 
( ن ) : يعني هبوا عينيّ الظاهرة في عالم الحسّ والباطنة في عالم المعاني ، أي عالم الملك وعالم الملكوت مدة نفع البكاء لي ، أي مدة بقاء الوجود منسوبا إلى عين ماء الحياة الحقيقية لأن الماء سرّ الحياة فإذا سرى سرّ الحياة الحقيقة في بصر العين الظاهرة كشفت عن عالم الملك وتجلياتكم فيه ، وإذا سرى سرّ الحياة الحقيقية في بصيرة العين الباطنة كشفت عن عالم الملكوت الأعلى وتجلياتكم فيه . اهـ .
 
40 - أو حشا سال ولا أختارها *** إن تروا ذاك بها منّا عليّ
 
الحشا ما دون الحجاب مما في البطن من كبد وطحال وكرش وما يتبعه وهو باعتبار كونه عبارة عن شيء دون الحجاب مذكّر وباعتبار أن ذلك الشيء عبارة عن
 
 
« 70 »
 
أقسام من كبد وطحال إلى غير ذلك مؤنث ، إذ يكون حينئذ عبارة عن أقسامه المذكورة . فمن ثمّ وصف الحشا بقوله : « سال » على صيغة التذكير .
وأرجع الضمير إليه مؤنثا في قوله : « ولا اختارها » وهو اعتراض .
وقوله : « إن تروا ذاك بها » : أي هبة الحشا السالي لي . وقوله : « منّا » : مصدر وقع بدلا عن اللفظ بالفعل ، أي إن رأيتم هبة الحشا السالية لي فمنّوا عليّ بها منّا ، فحذف الفعل مع الفاء الرابطة للجواب .
 
وبها متعلق بقوله : منّا ، أو بالفعل المحذوف الذي المصدر بدل عن التلفّظ به . وفي قوله : ولا أختارها ، شبّه الرجوع عن طلب الحشا السالي كأنه يقول : أتمنى منكم عين ماء أبكي بها بعد نفاد دمعي وإنما كان الدمع منية لأن البكاء يخفّف ألم الحزين
 
كما قال ذو الرّمّة :
لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة * من الوجد أو يشفي نجي البلابل
وأما الحشا السالية فلا أتمنّاها إلا حيث كانت مرادا لكم ، وأما أنا فلا أختارها لأن السلوّ عنكم ليس من مطالبي ، ولكن إرادتي تابعة لإرادتكم فالمكروه عندي يصير مطلوبا لكونه عندكم مرغوبا .
 
الإعراب :
أو : عاطفة . والحشا : منصوب تقديرا بالعطف على عين ماء .
وسال : صفة له وعدم ظهور النصب فيه مع كونه صفة منصوب على حدّ قول الشاعر :
ولو أن واش باليمامة داره
وجملة ولا أختارها لا محل لها من الإعراب . وقوله : إن تروا : شرط جزاؤه ما سبق ، تقديره من قوله : فمنّوا بها عليّ منّا . وعليّ : متعلق بمنّوا أيضا ، ومعنى البيت ظاهر مما سبق تقريره في أثناء شرح الكلام وفي البيت الرجوع في قوله ولا أختارها .
 
والمعنى
في ذلك أو هبوا لي باطنا منفسحا في أنواع الصور الكونية والتجليات الإمكانية
من قبيل قوله قدّس اللّه سرّه في قصيدته الجيمية :
تراه إن غاب عني كل جارحة * في كل معنى لطيف رائق بهج
 
فيسمّى عنده هذا المقام سلوا لغيبة الحق تعالى عنه في ظهوره بكل معنى لطيف رائق بهج ، وشرط ذلك برؤيتهم له منّة بها عليه . اهـ .
 
41 - بل أسيؤا في الهوى أو أحسنوا *** كلّ شيء حسن منكم لديّ

يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 26 إلى 50 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 7:55 pm

شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 26 إلى 50 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الأولى سائق الأظعان الأبيات من 26 إلى 50 
« 71 »
« بل » هنا للانتقال من غرضه السابق إلى استحسان ما يأتون به من إساءة أو إحسان ، ويجوز أن تكون لإبطال طلب عين ماء لعينيه أو طلب حشا سال يمنّ بها عليه .
 
الإعراب :
بل : حرف عطف لانتقال أو إبطال . وأسيؤا : دعاء بصيغة الأمر .
وفي الهوى : متعلق به . وأو : للتخيير . وأحسنوا : دعاء معطوف على ما قبله . وقوله كل شيء حسن منكم لديّ : تذييل يفيد التعميم في استحسان ما يأتون به وكل شيء مبتدأ ومضاف إليه ، وحسن خبره ، ومنكم صفة شيء ، ولديّ متعلق بقوله حسن .
 
المعنى :
لا أسألكم عن ماء تبكي العيون ، ولا حشا تسلو ما عندي من الشجون ، بل جميع ما ترضون به من إساءة أو إجمال مقبول لديّ على كل حال ،
 
وللّه درّ من قال :
كل سوء في هواكم حسن * وعذاب برضاكم عذبا
 
ولنا في المعنى :
لست مولاي أبتغي منك وصلا * لا ولا أبتغي اقتراب حماكا
إنما منيتي وغاية قصدي * وسروري من الزمان رضاكا


( ن ) : إنه بعد أن كان في البيتين السابقين طلب أن يهبوا لعينيه الظاهرة والباطنة عين ماء أو حشا سالية ، ورجع عن إرادة الحشا السالي أضرب هنا عن ذلك كله وتذكّر أنه لا يليق بالمحبّ أن يختار شيئا مطلقا ، وإنما الواجب عليه أن تكون إرادته هي إرادة محبوبه فقال : لا تنظروا إلى ما تقدّم منّي بل الأمر إليكم فافعلوا ما تريدون من إساءة أو إحسان فإن كل شيء يحصل لي منكم حسن ، وقدّم الإساءة لأن النفس لا حظّ لها فيها ، قال تعالى : قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ [ آل عمران : الآية 26 ] ولم يقل والشّرّ ، بل قال فيما بعد : إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ آل عمران : الآية 26 ] ، والشيء شامل للخير والشّرّ . اهـ .
 
42 - روّح القلب بذكر المنحنى *** وأعده عند سمعي يا أخيّ
 
« روّح القلب » : أي أعطه الروح بفتح الراء ، أي الراحة ، والقلب الفؤاد ، أو أخصّ منه والعقل ومحض كل شيء . والذّكر بالكسر : الحفظ للشيء . و « المنحنى » :
موضع انحناء الوادي وانحطاطه . « وأعده » : أمر من الإعادة ، والهاء : عائدة لذكر
 
« 72 »
المنحنى . والسمع : حسّ الأذن ، أو الأذن نفسها . و « أخيّ » : تصغير أخ ، وهو للتقريب في المرتبة وللتحبيب كما قال صلى اللّه عليه وسلم لعمر رضي اللّه عنه وقد سافر حاجّا : « لا تنسني من دعائك يا أخي » ، ولإيذانها بالقرب والمحبة . قال رضي اللّه عنه : واللّه لقد قال كلمة هي أحبّ إليّ من حمر النّعم .
 
الإعراب :
روّح : أمر من الترويح ، والفاعل مستتر فيه . وعند سمعي : متعلق بأعده . وجملة يا أخيّ ندائية .
 
المعنى :
روّح أيها الخليل قلبي بذكر المنحنى ، وهو المكان الذي فيه أحبتي :
ومن أجل أهليها تحبّ المنازل
وكرّر ذكره مرة بعد مرة أخرى :
يا من هو لي في المحبة شقيق * وعلى حالي من أمري شفيق
 
( ن ) : والمعنى اجعل في القلب الراحة من تعب الغفلة وألق فيه النشاط بذكرك اسم المنحنى وهو موضع انحناء الوادي وانعطافه ، واسم مكان مشهود في بلاد الحجاز والإشارة به إلى الحضرة الربّانيّة من الانحناء وهو التدلّي والدنوّ من قوله تعالى : ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ( 8 ) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ( 9 ) [ النجم : الآيتان 8 ، 9 ] .
 
43 - وأشد باسم اللّاء خيّمن كذا *** عن كدا واعن بما أحويه حيّ
 
« أشد » بالضم من الشدّ وهو الترنّم . و « اللّاء » : اسم موصول ، وهو جمع التي عاقلا كان أو غيره ، وقد تحذف ياؤها فيقال اللّاء . 
و « خيّمن » : ماض مسند إلى نون جماعة النسوة . و « كذا » : كناية عن المكان ، فهي ظرف . ومدخول عن بكاف مضمومة ودال مهملة بعدها ألف مقصورة : وهو جبل بأسفل مكة شرّفها اللّه تعالى ، ويجوز أن يقرأ بفتح الكاف على أن يكون مقصورا لضرورة الشعر من كداء كسماء وهو اسم عرفات واسم جبل بأعلى مكة . و « عن » : متعلق بكون خاص على أنه صفة مكان مكنّى عنه بكدا ، والتقدير خيّمن في مكان منحاز عن كدا ، والمراد من المكان مكة عظّمها اللّه تعالى . 
وقوله : « واعن » بعين مهملة ونون مفتوحة وهو أمر من عنى به على البناء للمجهول ، أي اهتمّ ، وعني كرضي قليل . و « أحويه » : أجمعه . و « حيّ » : مصدره .
 
الإعراب :
أشد : فعل أمر والخطاب لمن خاطبه بقوله : يا أخي . وباسم : متعلق به ، والاسم مضاف إلى اللاء . وخيمن : صلته ، والنون عائده ، وكذا كناية عن
 
« 73 »
 
الظرف . وعن كدا : متعلق بمحذوف على أنه وصف للمكان المكنّى عنه بلفظة كذا .
وقوله : واعن : أمر معطوف على أشد ، أو عطف على روّح في البيت السابق . وبما أحويه : متعلق به . وحيّ : مفعول مطلق لأحويه والوقف عليه لغة وأصله حوى فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها على القاعدة المعروفة .
 
المعنى :
ترنّم أيّها الأخ القريب باسم الحبيبات التي أقمن في مكان منحاز عن ثنية كدا واهتم بما أجمعه من الحزن جمعا فاذكره أيضا في شدوك فلعلّ ذكره يكون سببا لرقّة القلوب من المحبوب . وفي البيت جناس التصحيف بين كذا وكدا ، والجناس الناقص بين عن واعن ، وجناس الاشتقاق بين أحويه وحيّ .
 
( ن ) : يخاطب أخاه المذكور في البيت قبله بقوله : ترنّم باسم الأحبّة القاطنين كدا ، أي الحضرات الربانية التي دخلن تحت أستار هذه الآثار الكونية واهتم بما أحويه وأجمعه وعرّض بعلومي وأسراري في تلويحات مناجاتك . اهـ .
 
44 - نعم ما زمزم شاد محسن *** بحسان تخذوا زمزم جيّ
 
« نعم » : فعل ماض لفظه لا يتصرّف ، والمقصود إنشاء المدح . و « ما » : نكرة موصوفة وقعت تمييزا للفاعل المستكن في نعم الراجع إلى متعقل في الذّهن ، وقيل هي موصولة في موضع رفع بالفاعلية . و « زمزم » : فعل ماض من الزمزمة وهي الصوت البعيد له دويّ . و « شاد » : اسم فاعل من الشّدو الذي بيّنّاه في شرح البيت قبله .
و « محسن » : اسم فاعل من قولك : أحسن زيد في فعله إذا أتى بالشيء الحسن .
والحسان : جمع حسن لا جمع حسنة أو حسناء لتذكير الضمير في قوله تخذوا .
و « تخذوا » : ماض بمعنى أخذوا . و « زمزم » على وزن جعفر : بئر عند الكعبة كرّمها اللّه تعالى . و « جيّ » : بالكسر « 1 » واد يجوز أن يكون مرخّم جية بكسر الجيم وهو الموضع الذي يجتمع فيه الماء .
 
الإعراب :
نعم : ماض لإنشاء المدح . وما : نكرة موصوفة تمييز للفاعل المستكن في الفعل ، أو موصولة وهي فاعل ، والجملة بعدها في موضع نصب أو صلة لا محل لها من الإعراب ، والعائد محذوف ، أي نعم شيئا أو نعم الشيء الذي زمزم به الشّادي الزمزمة المعلومة . وشاد : فاعل زمزم . ومحسن : صفته . وبحسان : متعلق
 
..........................................................................................
( 1 ) قوله بالكسر هو ما في القاموس لكن الذي في كلام الشيخ بالفتح ولعله لغة اطّلع عليها أو للتحرز عن سناد التوجيه .

 
« 74 »
 
بزمزم . وجملة تخذوا زمزم جيّ : صفة حسان ، فهي في موضع جر وزمزم مفعول أول لتخذوا ولا ينصرف للعلميّة والتأنيث ، وجيّ : مفعوله الثاني والوقوف عليه بالسكون لغة .
 
المعنى :
نعمت الزمزمة الصادرة من شاد مترنّم محسن في ترنّمه بحسان تخذوا بئر زمزم مكانا لاجتماع مائهم ، أو اتخذوا وادي زمزم واديا لهم على ما سبق في بيان جيّ .
وعلى كل تقدير فالمراد الحسان المقيمون بمكة شرّفها اللّه تعالى . وفي البيت الجناس التام المستوفى بين زمزم وزمزم ، وجناس الاشتقاق بين محسن وحسان .
 
( ن ) : الشادي المحسن هو الداعي إلى اللّه تعالى على بصيرة هو ومن اتّبعه ، فإن زمزمته صوت بعيد له دويّ مسموع لبعد عهده من زمن المصنّف فيسمعه العارف المحقّق مع بعده عنه من قبيل قوله تعالى : رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [ آل عمران : الآية : 193 ] ، وقوله : بحسان ، أي بأسماء حسان ، قال اللّه تعالى : وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [ الأعراف : الآية 180 ] .
وزمزم اسم بئر عند الكعبة كناية عن القلب المحمّدي وهو المفعول الأول لتخذوا ، وجيّ مفعوله الثاني وهي بالفتح بمعنى الدعاء إلى الطعام فإن ماء زمزم يتحرّك في نفس كل من شرب منه فيطلب العود كما هو المشهور ، فكأن هذه الحسان اتخذوا زمزم دعاء وطلبا لكل من ورد عليهم مرة أن يعود إليهم أيضا . ولا شك أن هذه الأسماء الإلهية الحسان اتخذوا ماء زمزم الذي هو ماء العلوم الإلهية والمعارف الربانية دعاء لكل من ذاقها وشرب نهلة منها على الطعام والشراب ، أي إلى الغذاء الروحاني المغني عن الطعام الجسماني ، قال صلى اللّه عليه وسلم : « لست كأحدكم إني أبيت عند ربّي يطعمني ويسقيني » . اهـ .
 
45 - وجناب زويت من كلّ فجّ *** له قصدا رجال النّجب زيّ
 
الواو في قوله : « وجناب » للقسم ، ويحتمل أن تكون للعطف على حسان ، والجناب : الفناء بكسر الفاء والمدّ ، والجناب أيضا الناحية . و « زويت » بالزاي على البناء للمجهول بمعنى جمعت . والفج : الطريق الواسع بين الجبلين . والرجال : جمع رجل ، وهو ابن آدم إذا احتلم وشبّ وقيل هو اسمه ساعة الولادة .
و « النّجب » : على وزن قفل ، جمع نجيب ، وهو الكريم الحسب . و « زيّ » : مصدر زويت ، أي جمعت جمعا .
 
« 75 »
الإعراب :
جناب : مجرور بواو القسم ، أو بالعطف على حسان . وزويت : مجهول .
ورجال : نائب الفاعل . ومن كل فجّ له : متعلقان بقوله زويت . وزيّ : مفعول مطلق ، والوقوف عليه لغة .
 
المعنى :
أقسم بجناب عظيم جمعت لأجله وبسبب زيارته من كل فجّ الرجال الراكبون على كل بعير نجيب كريم الأصل ، وفيه إشارة إلى قوله تعالى : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ( 27 ) [ الحجّ :
الآية 27 ] ، وجواب القسم يأتي في قوله لمنى عندي المنى الخ . . . . وفي البيت تلميح إلى الآية الكريمة ، وجناس الاشتقاق بين زويت وزيّ .

 
( ن ) : وجناب بالخفض معطوف على حسان ، أي نعم ما زمزم الشادي بحسان وبجناب . وقوله روّيت بالراء وتشديد الواو من روى ضدّ عطش والريّ في آخر البيت مصدر مؤكد للفعل . وقوله من كل فجّ كناية عن عالم الظاهر وعالم الباطن عالم الملك وعالم الملكوت ، فالأجسام من عالم الملك والأرواح والعقول والنفوس من عالم الملكوت ، وقوله : له ، أي لأجله بسبب الوصول إليه وقصدا تمييز ورجال نائب الفاعل مضافة إلى النّجب وهي الأعمال الصالحة التي تحمل العبد السالك إلى حضرة الربّ المالك . وفي نسخة زويت بالزاي مكان الراء من زوى الشيء جمعه . اهـ .
 
46 - وادّراعي حلل النّقع وفي *** علماه عوض عن علميّ
 
الواو عاطفة ، والادّراع : افتعال ، وأصله ادتراع فقلبت التاء دالا وأدغمت في مثلها ، ومعناها لبس الدّرع والحلل بالضم جمع حلّة وهي إزار ورداء بردا أو غيره ، ولا تكون حلّة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة . و « النّقع » : الغبار . والعلمان : جبلا مكة أو جبلا منى ، وهما الأخشبان فالضمير راجع إلى الجناب ، والجناب عبارة عن مكة أو منى .
 
وأما قوله : « عن علميّ » فلا يظهر المراد منهما بسهولة ، لكن يمكن أن يقال هما عبارة عن أرض بالشام تسمى علمين كما في القاموس والشيخ رضي اللّه عنه شامي الأصل إذ مولد والده حماة ، ويجوز أن يقال المراد منهما أرضه ووطنه وإن لم يكن هناك ملاحظة جبل فاستعمل العلمين حينئذ مشاكلة أو تشبيها . هذا ويجوز هنا وجه آخر قريب لطيف وهو أن يكون ضمير علماه راجعا إلى النّقع وذلك لأن العلم يطلق ويراد منه رسم الثوب ورقمه ، فلما أثبت للنقع حللا جاز أن يثبت له رسما ورقما وهما علما الثوب والحلّة ،
وكأنه حينئذ يقول : وعلما النقع عوض لي عن علمي ثوبي الحقيقي ، وحينئذ فمراده من علمي النقع ما ظهر على البدن من طرائق

 
« 76 »
الغبار واختلاف ألوانه ، إذ لا يكون على لون واحد في الغالب ، هذا ما احتمله المقام من الكلام واللّه أعلم بحقيقة المرام .
 
الإعراب :
الواو عاطفة لادّراعي على جناب ، أي وأقسم بادّراعي حلل الغبار عند نزعي ثيابي للإحرام ، والادّراع : مصدر كما سبق ، وهو مضاف إلى فاعله الذي هو الياء . وحلل النقع : مفعوله . والواو في قوله : وفي : حالية . وعلماه : مبتدأ .
 
وعوض : خبره . ولي : خبر بعد خبر ، أو حال من الخبر باعتبار أنه كان مؤخّرا صفة له فقدّم عليه فصار حالا منه . وعن علميّ : متعلق بعوض لما فيه من معنى المعاوضة ، ويروى عوضا بالنصب على أنه حال من الضمير في الخبر وهو لي .
 
المعنى :
وأقسم بلبسي حلل الغبار عند إحرامي ونزع ثيابي وتحصّني بهذه الحلل من سهام الشيطان أو من عذاب النيران ، والحال أن علمي الغبار ، أو علمي ذلك الجناب الرفيع عوض لي عن علميّ المنسوبين إليّ وأشار بذكر الحلل التي لا تكون إلا من ثوبين إلى أن الغبار قد تكاثفت أجزاؤه وتراكمت طبقاته إلى أن صار على بدنه رضي اللّه عنه بمنزلة الحلّة التي هي ثوب فوق ثوب ، ومن ذلك قول الشاعر :
ولربّ معركة أثارت خيلها * نقعا على هام الكماة مطنبا
وتراكمت أجزاؤه فغدا ولو * روّته أخلاف السحاب لأعشيا
 
وقلت من قصيدة بيتا يكاد ينتظم في سلك البيت المشروح لكونهما في وصف التجرّد من الثياب وهو :
خلعوا اللباس نزاهة وتنسكا * وكساهم التهجير ثوبا أسفعا
 
( ن ) : قوله وادّراعي معطوف على حسان أيضا ، يعني نعم ما زمزم الشادي بجناب ذكر شرحه وبادّراعي أي لبسي حلل النّقع وهي الصور الروحانية والصور الجسمانية ، وادّراعي لذلك باعتبار التبدّل مع الأنفاس ، والضمير في علماه راجع إلى الجناب في البيت قبله كناية عن حضرة الجمال أو حضرة الأسماء الإلهية وحضرة الأفعال الإلهية ، أو راجع إلى النّقع كناية عن العالم الروحاني والعالم الجسماني باعتبار ظهورهما له ، وزمزمة الشادي بذلك من كونه خلق من نوره ، فإن الحقيقة المحمدية مادة العوالم الكونية ، والزمزمة عبارة عن كيفية الانتشاء من ذلك ، وقوله : عن علمي ، علماه هما كناية عن جلاله وجماله ، أو أسمائه وأفعاله . اهـ .

 
« 77 »
 
47 - واجتماع الشّمل في جمع و*** ما مرّ في مرّ بأفياء الأشيّ
 
الواو عاطفة على جناب ، أي وأقسم باجتماع الشمل . و « جمع » : اسم المزدلفة .
و « مرّ » بفتح الميم وتشديد الراء : وهو بطن مرّ ، ويقال له مرّ الظهران ، وهو موضع على مرحلة من مكة . والأفياء : جمع فيء ، وهو ما كان شمسا فنسخه الظلّ .
و « الأشيّ » : بضم الهمزة وفتح الشين وتشديد الياء مصغّر أشاء جمع أشاءة وهي صغار النخل .
 
الإعراب :
الواو عاطفة . لاجتماع الشمل على جناب وفي جمع متعلق باجتماع .
والواو في قوله وما مرّ للعطف على جناب ، وما : موصولة وهي واقعة على الوصل ، وجملة مرّ من الفعل والفاعل المستكن فيه صلتها . وقوله بأفياء الأشيّ : حال من الضمير في مرأى . وأقسم بالذي مرّ لنا من الوصال في مرّ حال كونه مستقرّا بأفياء النخل الصغار ، وقوله بأفياء الأشيّ بعد قوله في مرّ تخصيص بعد تعميم لأن موضع فيء النخل جزء من مرّ ففيه فائدة لإفادة تعيين موضع الاجتماع من المكان المسمّى بمرّ .
 
والمعنى :
وأقسم باجتماع شملنا مع الأحبة في المزدلفة بعد انصرافنا من الوقوف بعرفات وبالوصل الذي مرّ لنا في مرّ الظهران قريبا من مكة في ظلال النخيل . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين اجتماع وجمع ، والجناس التامّ المستوفى بين مرّ ومرّ .
 
( ن ) : اجتماع معطوف أيضا على قوله بحسان داخل تحت زمزمة الشادي بذلك أي اجتماع شمل حقيقة الإنسانية بالحقيقة المحمدية ، وجمع اسم المزدلفة كناية عن المقام الروحاني والتحقّق بحقيقة الروح الأعظم روح اللّه الذي قال : وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ الحجر : الآية 29 ] ، وما الواو للعطف على قوله بحسان أيضا ، وما موصولة يعني الحال الذي كان لي وذهب في وقت السلوك قبل الوصول .
وقوله بأفياء الأشيّ :
وهي صغار النخل ، كنّى بذلك عن آثار المرادات الإلهية فإنها بمنزلة الظلالات عن شواخص ما في الإرادة من المغروس في الحضرة العلمية . اهـ .
 
48 - لمنى عندي المنى بلّغتها *** وأهيلوه وإن ضنّوا بفيّ
 
اللام في قوله : « لمنى » مفتوحة ، وهي داخلة في جواب القسم السالف في قوله : وجناب ، ومنّى بكسر الميم : قرية بمكة وتصرف سمّيت بذلك لما يمنى بها من الدماء . وقال ابن عباس رضي اللّه عنه : سمّيت بذلك لأن جبريل عليه السلام لمّا أراد
 
« 78 »
 
أن يفارق آدم عليه السلام ، قال له : تمنّ ، قال له : أتمنى الجنة ، فسمّيت منّى لأمنية آدم عليه السلام ، والمنى بالضم جمع منية وهي المطلوب .
و « بلّغتها » بالبناء للمجهول ، والتاء مضمومة : ضمير المتكلّم ويتعدّى إلى مفعولين ؛ أحدهما التاء التي هي نائب الفاعل ، والثاني الهاء الراجعة إلى المنى .
و « أهيلوه » : تصغير أهل ، وهو مجموع جمع السلامة ، وحذفت نونه للإضافة إلى الهاء الراجعة إلى منى ، وتذكير الضمير مع أن منى عبارة عن قرية كما سبق باعتبار الموضع ، وأهل يجمع جمع سلامة شذوذا لكن مصغّره يجمع على هذا الجمع اطّرادا من غير شذوذ لأنهم نصّوا على أن المصغّر ملحق بالصفات لكونه بمعنى اسم المفعول .
وإن في قوله : « وإن ضنّوا » : وصلية والواو عاطفة على مقدّر هو أولى بالحكم ، أو اعتراضية على اصطلاح أهل المعاني ، أو حالية ، وإن هنا لا تحتاج إلى جواب ، بل هي لمجرد التأكيد لما نصّ على ذلك غير واحد من المحقّقين ووجه كونها للتأكيد أن إفادتها لتعليق الحكم بمدخولها يفيد تعلّقه بضدّه من باب أولى إذ شرط موقع أن الوصلية دخولها على شيء يكون ضدّه أولى بالحكم ، كما شرط ذلك المحقّق التفتازاني .
وضنوا : بمعنى بخلوا ، وفي آخر البيت بمعنى الرجوع وأصله الهمز فقلبت ياء وأدغمت في مثلها .
 
الإعراب :
منّى : مبتدأ وهو علم على قرية كما سبق وخبره المنى . وعندي :
متعلق بالخبر لما فيه من معنى الحدوث لأنه عبارة عن المطلوبات ، وجملة بلغتها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهي دعائية ويجوز كونها حالية من الخبر على حذف قد . وأهيلوه : عطف على المبتدأ والخبر عنهما واحد ويجوز كون خبره محذوفا أي وأهيلوه كذلك فيكون على هذا من عطف الجمل .
 
والمعنى :
أقسم بالأمور السالفة العظيمة لكونها من تعلّقات الحج إلى بيت اللّه الحرام أن منى وأهل منى عين مقصودي ومواطن سعودي ولو كان أهله قد بخلوا عليّ برجوعي إليهم أي لم يبذلوا لي همّة تقتضي انجذابي إلي حيّهم المنيع وجنابهم الرفيع فعلى كل حال هم المطلوب ، وكل فعلهم محبوب . وفي البيت الجناس المحرّف بين منّى ومنى ، وما أحسن قول ابن قاضي ميلة من قصيدة يمدح بها صاحب صقلية :
إذا كنت ترجو في منى الفوز بالمنى * ففي الخيف من أعراضنا تتخوّف
 
( ن ) : لمنّى الجار مع المجرور خبر مقدّم ، وعندي ظرف متعلق بالخبر ، ومنّى بكسر الميم قرية بمكة كناية عن عالم الملكوت السماوي ، والمنى بضم الميم جمع

 
« 79 »
 
منية ، يعني مطالبي كلها هاتيك الحضرة العالية التي تذهب فيها النفوس البشرية وبلغتها جملة دعائية معترضة ، وضمير أهيلوه راجع إلى قوله لمنى ، والتقدير وأهيلوه عندي المنى أيضا . وذلك كناية عن الأرواح القدسية والملأ الأعلى النازلين في هاتيك المنازل العليّة وإن ضنّوا بفيّ ، أي وإن بخلوا عليّ ومنعوا عنّي شهود العالم الجسماني والظل النفساني استغراقا في شهود العالم الروحاني ، وانتقالا من استجلاء لطائف المحسوسات إلى لطائف المعاني . اهـ .
 
49 - منذ أوضحت قرى الشّام و *** باينت بانات ضواحي حلّتيّ
 
« منذ » : ظرف زمان مبني على الضم . و « أوضحت » : أي تبيّنت ورأيت . والقرى بضم القاف : جمع قرية ، وهي بفتح القاف وقد تكسّر المصر الجامع . و « الشام » :
معروف حدّه طولا من الفرات إلى العريش . « وباينت » : فارقت . والبانات : جمع بانة ، والبان : شجر الخلاف . والضواحي جمع ضاحية : وهي الأماكن التي تتنحّى عن المساكن وتكون بارزة ، فضواحي دمشق مثلا القرى الواقعة حولها قريبا منها .
و « حلّتيّ » : مثنى حلّة ، وهي بكسر الحاء منزل القوم وإنما ثنّاها لأن الرجل له حلّة في الصيف وحلّة في الشتاء .
 
الإعراب :
منذ : منصوب المحل على الظرفية ، والعامل فيه يرقّ في قوله بعده لم يرق لي منزل بعد النقا . وجملة أوضحت قرى الشام من الفعل والفاعل والمفعول والمضاف إليه في حل جر بإضافة منذ إليها . وباينت : معطوف على جملة أوضحت فمحلّها الجر أيضا . وبانات : مفعول مضاف إلى ضواحي المضاف إلى حلّتي المضاف إلى ياء المتكلم وحذفت النون للإضافة فأدغمت ياء التثنية في ياء المتكلّم .
 
المعنى :
حين سافرت من بلاد الحجاز وظهرت لي قرى الشام وفارقت منزل أحبابي ما صفا لي منزل بعد جيران النقا كما يفهم من البيت الذي بعده . وفي البيت جناس الاشتقاق بين أوضحت وضواحي ، وجناس شبه الاشتقاق بين باينت وبانات ، وتتابع الإضافات في البيت ليست موجبة للثقل فلا تخلّ بالفصاحة .
 
( ن ) : قرى الشام كناية عن عالم الغفلة والغرور لأنهم شمال الكعبة بيت اللّه قد نبذوا اللّه وراء ظهورهم ، يعني من حين كشف لي عن أحوال الغافلين خواطرهم في نفوسهم . وقوله ضواحي حلّتي إنما ثناها وأضافها إلى نفسه باعتبار حالة الجلال التي يكون فيها وحالة الجمال فإنهما منزلان ينزلهما السّالك في طريق اللّه تعالى . والمعنى
 
« 80 »
 
ومن حين فارقت الحقائق الإنسانية الثابتة حول المنزلين اللذين لي في الطريق الإلهي . اهـ .
 
50 - لم يرق لي منزل بعد النّقا *** لا ولا مستحسن من بعد ميّ
 
راق لزيد المكان يروق ، أي صفت له معيشته فيه . والمنزل : مكان نزول الشخص وهو موطنه الذي يستقر فيه . و « النقا » : القطعة المحدودبة من الرمل وكأنه هنا عبارة عن مكان مخصوص . وقوله لا تأكيد للنفي المفهوم من قوله لم يرق لي .
 
والمستحسن : اسم مفعول من استحسنت الشيء عددته حسنا . و « ميّ » بفتح الميم ترخيم ميّة : وهي محبوبة معروفة كان يتعشّقها ذو الرّمّة غيلان . والمراد هنا المطلوب للشيخ معين لا محبوبة غيلان المعروفة التي كان يتغزّل بها وذلك كما تقول رأيت حاتما وتريد منه وصفه المشهور هو به ، أي الجواد فيكون استعارة .
 
الإعراب :
لم : نافية جازمة للمضارع قالبة معناه إلى المضيّ بعد استقباليته .
ويرق : مجزوم حذفت عينه الواو لالتقاء الساكنين . ولي : متعلق بيرق . ومنزل :
فاعله . وبعد النقا : متعلق به . ولا : نافية مؤكدة لما سبق . والواو : عاطفة ، ولا : نافية .
ومستحسن : عطف على منزل ، وفائدة لا الواقعة بعد واو العطف التنصيص على أن كلّا من المنزل الحاصل بعد النقا والمطلوب المستحسن بعد ميّ لم يصف له على انفراده ولولا ذكرها لأوهمت العبارة أن المراد أن الأمرين من حيث المجموع ما راقا له ، ويمكن أن يروق له أحدهما على انفراده ، وذلك غير مراد ، ومثله ما ذكره القوم من نحو قولك ما جاءني زيد وعمرو ، وقولك ما جاءني زيد ولا عمرو حيث نصّوا على أن العبارة الثانية ناصّة على أن كلّا منهما لم يحضر لا على سبيل الانفراد ولا على سبيل الاجتماع بخلاف الأولى فإنها موهمة لمثل ما ذكرناه في البيت . ومن بعد ميّ : متعلق بيرق الذي دلّ عليه العطف .
 
والمعنى :
ما صفا لي منزل بعد مفارقة النقا ولا صفا لي محبوب استحسنته بعد مفارقتي لمحبوبتي التي فزت منها باللقا .
وحاصل الأمر أنه يقول : فارقت مسكني وسكني فلم ألق بعدهما ما يغني عنهما ،
 
فإن الوطن المألوف محبوب والحبيب الأول لا تسلوه القلوب :
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى * ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل
كم منزل في الأرض يألفه الفتى * وحنينه أبدا لأول منزل
وترخيم ميّة في البيت ليس قياسا إذ ليس منادى ولكن الشعر محل الضرورة .
 
« 81 »
 
( ن ) : النقا كناية عن المقام المحمدي الذي هو النقى من نقي كرضي ، نقاوة وأنقاه وتنقّاه وانتقاه اختاره وهو صلى اللّه عليه وسلم النبي المختار من بين جميع قبائل العرب .
وميّ : كناية عن الحضرة الوجودية المحتجبة بصور الأكوان العدمية . والحاصل أنه يقول من حين كشفت لي قرى الشام ، أي عالم الغفلة والغرور الذي كنت فيه سابقا فأعرضت عن ذلك ودخلت طريق الحق ، ومن حين فارقت مقامات المجاهدات في طريق السلوك لم يعجبني منزل ولا مقام بعد المقام المحمدي الجامع لجميع المقامات ، ولا راق لي شيء أستحسنه من بعد هذه المحبوبة المحتجبة عني بي وبكل شيء . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 51 إلى 75 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 7:56 pm

شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 51 إلى 75 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الأولى سائق الأظعان الأبيات من 51 إلى 75 
51 - آه وا شوقي لضاحي وجهها *** وظما قلبي إلى ذاك اللّميّ
 
[ الإعراب ]
« آه » : بالمدّ والهاء المكسورة كلمة تقال عند الشكاية أو التوجّع ، ولفظة وا داخلة على شوقي مخصوصة بالدخول على المندوب ، ولكن يراد أن يقال الشوق كيف يكون مندوبا والجواب أن المندوب قسمان :
 أحدهما : ما يتوجّع لفقده ،
والثاني : ما يتوجّع لوجوده .
فالشوق من القسم الثاني فإنه يتوجع لوجوده عند فقد من يشتاق التوجّع إليه ، هذا إذا قلنا بأن وا لا تدخل إلا على المندوب . وأما إذا قلنا بجواز استعمال وا في النداء الحقيقي فلا حاجة إلى ما ذكرناه من التأويل ، فيكون الشوق منادى حكما ، أي نزل منزلة من له صلاحيّة النداء ، ثم أدخل عليه حرف النداء فهو في حكم من يطلب إقباله . وضاحي وجهها من إضافة الصفة إلى موصوفها .
 
والمعنى :
لوجهها الضاحي ، والضاحي هو المشرق ، والضمير يعود إلى ميّ .
وظما قلبي عطشه وأصله الهمز فخفّف بقلب الهمزة ألفا لانفتاح ما قبلها ، والظما إلى الشيء الشوق إليه . واللّميّ مصغّر لميّ وهو وإن كان عبارة عن سمرة الشّفة لكن يمكن أن يكون عبارة عن نفس الرّيق للمجاورة إن كان الظما بمعنى العطش ، وإن كان بمعنى الشوق فيبقى اللّميّ على معناه ، وذاك إشارة إلى اللّمى وهو للبعيد فيراد بعد المرتبة لأن كل واحد لا يصل إليه .
 
( ن ) : المعنى أنه أبدى الشكاية والتوجّع من كثرة شوقه لوجه هذه المحبوبة الظاهر له تحت براقع صور الأكوان ، قال تعالى : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ البقرة :
الآية 115 ] ، وقال تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : الآية 88 ] ،

وقوله : وظما بحذف ألف النّدبة تخفيفا ، وأصله واظما ، وأضاف الظما إلى القلب لأنه موضع المعرفة الحقيقة . واللّميّ : كناية عن حضرة الكلام الإلهي الذي ليس بحرف ولا صوت . اهـ .
 
« 82 »
 
52 - فبكلّ منه والألحاظ لي *** سكرة وا طربا من سكرتيّ
 
بكل : أي بكل واحد فالتنوين عوض عن المضاف إليه . ومن بيانية ، والمبين المضاف إليه المعوّض عنه التنوين والهاء راجعة للّميّ في البيت قبله . والمراد من « الألحاظ » هنا العيون . و « سكرة » واحدة السكرات .
وقوله « وا طربا » : أصله واطربي فقلبت الياء ألفا تخفيفا لأن الألف والفتحة أخفّ من الياء والكسرة ، والطّرب محرّكة الفرح والحزن من الأضداد والحركة والشوق ، ولعل المراد منه هنا الأخير فتكون الندبة المفهومة من وا توجعا لشدة وجود الشوق الحاصل من سكرة اللّميّ والشوق الحاصل من ملاحظة الألحاظ .
 
الإعراب :
سكرة : مبتدأ لكونه مصدرا . والباء : سببية . والألحاظ بالجر عطف على الهاء ، فهو بيان أيضا والعطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجارّ جائز في السّعة أيضا .
كما قرىء والأرحام بالجر عطفا على الضمير المجرور في قوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [ النساء : الآية 1 ] .
وقوله واطربا في حكم المنادى المضاف فهو منصوب بفتحة مقدّرة على الباء منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة . ومن سكرتيّ : متعلق بقوله واطربا وهو مثنى أضيف إلى ياء المتكلم .
 
المعنى :
لي سكرتان إحداها حاصلة من لميّ الحبيبة والأخرى صادرة من ملاحظة ألحاظها ، وإنما أتوجّع من وجود هاتين السّكرتين لحصولهما حال غيبة الحبيبة ولقد زاد على هاتين السكرتين
في قوله رضي اللّه عنه في الذاليّة :
من فيه والألحاظ سكرى بل أرى * في كل جارحة به نباذا
وما ألطف قول الأمير أبي فراس الحمداني رحمه اللّه تعالى :
سكرت من لحظه لا من مدامته * ومال بالنوم عن عيني تمايله
فما السلاف دهتني بل سوالفه * ولا الشمول أزدهتني بل شمائله
ألوى بقلبي أصداغ له لويت * وغال قلبي بما تحوي غلائله
 
وقال رضي اللّه عنه :
وبالحدق استغنيت عن قدحي ومن * شمائله لا من شمولي نشوتي
وفي البيت ردّ العجز على الصدر في ذكر سكرة وسكرتي في صدر المصراع الثاني وفي عجزه .
 
« 83 »
 
( ن ) : المعنى أن له سكرة باللّميّ الذي هو كناية عن الكلام الإلهي الذي يقع في قلوب العارفين وسكرة أخرى بالألحاظ التي هي كناية عن حقائق المعلومات الإلهية التي ظهرت آثارها في صور عوالم الإمكان . اهـ .
 
53 - وأرى من ريحه الرّاح انتشت *** وله من وله يعنو الأريّ
 
« أرى » من الرؤية بمعنى العلم وريحه بمعنى رائحته ، والضمير أيضا للّميّ .
و « الراح » : الخمر . و « انتشت » : أي صارت ذا نشوة . والوله بفتح الواو واللام مصدر وله كورث ، أي تحيّر . و « يعنو » : أي يخضع . و « الأريّ » : بضم الهمزة وفتح الراء وتشديد الياء مصغّر أرى على وزن سمع وهو العسل .
 
الإعراب :
أرى : مضارع فاعله ضمير المتكلم . ومن ريحه : متعلق بانتشت .
والراح : مفعول أول ، وجملة انتشت ومن ريحه في محل نصب على أنها مفعول ثان لأرى . « وله » : متعلق بيعنو فمحله النصب . و « من وله » : متعلق بيعنو أيضا ، ومن فيه تعليلية . و « يعنو » : مضارع مرفوع بتجرّده . و « الأريّ » : فاعله وتكون الجملة بأسرها عطفا على الجملة السابقة ويمكن أن يقال الأريّ منصوب بالعطف على الرّاح ، وجملة يعنو له من وله معطوف على الجملة الواقعة مفعولا ثانيا ويكون حينئذ فاعل يعنو ضميرا عائدا إلى الأريّ .
 
المعنى :
واعلم أن الراح اكتسبت نشوة السّكر من رائحة لميّ الحبيب . وكذا اعلم أن العسل يخضع له من تحيّره في لطافته فيكون لماه حائزا الحلاوة ومالكا لكيفية الشراب بل يكون أرجح منهما في لطافتهما فإنه أفاد السكر للشراب وأكسب العسل حلاوة فهو متحيّر فيه خاضع له بلا ارتياب . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين ريحه والرّاح ، والجناس الملفّق بين وله ووله ، والجناس بين أرى والأريّ .
 
( ن ) : يعني أن الخمر المسكر قد سكر من رائحة هذا اللّميّ ولم يشربه كما شربناه نحن فإن التجلّي الإلهي ما تحقّق به إلا الإنسان الكامل ، وأما كلّ ما سواه من بقية العوالم فإنما شمّت رائحته فقط فسكرت فغابت عن الإدراك ومن جملتها الخمر المعروفة ، ومن جملة ذلك الحيوانات التي في صور الإنسان من أهل دير الطغيان فقد سكروا من الرائحة .
قال رضي اللّه عنه :
هنيئا لأهل الدير كم سكروا بها * وما شربوا منها ولكنهم هموا
 
وهكذا الأريّ أي العسل يخضع لهذا اللّميّ من شدة التحيّر فيه لشمّه رائحته ولا يعلمه لأنه ليس من ذوي العلم . اهـ .
« 84 »
 
54 - ذو الفقار اللّحظ منها أبدا ***  والحشا منّي عمرو وحييّ
 
[ المعنى ]
« ذو الفقار » بالفتح : سيف العاص بن وائل قتل يوم بدر كافرا فصار إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم صار إلى عليّ رضي اللّه عنه . قال الشيخ كمال الدين الدميري رحمه اللّه في حياة الحيوان الكبرى : أفاد السهيلي أن صمصامة عمرو بن معديكرب كانت في حديدة وجدت عند الكعبة من جرهم أو غيرهم وأن ذا الفقار سيف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان من تلك الحديدة أيضا ، قال : وإنما سمّي ذا الفقار لأنه كان في وسطه مثل فقرات الظهر . اهـ .
و « اللحظ » : العين ، أو مصدر لحظه لحظا ، أي نظر إليه بمؤخر عينه .
 
و « أبدا » : ظرف لاستغراق ما يستقبل من الزمان . « والحشا » : ما دون الحجاب مما في البطن من كبد وطحال وما يتبع ذلك . و « عمرو » : هو عمرو بن ودّ العامري قتله عليّ رضي اللّه عنه يوم الخندق وكان قد برز معلّما ليرى مكانه فخرج إليه عليّ رضي اللّه عنه في نفر من المسلمين وتجاولا وتقاولا وكان قد قال له عليّ رضي اللّه عنه : إني أحبّ أن أقتلك ، فغضب لذلك فنزل عن فرسه وقتل مع عمرو اثنان من المشركين .
« وحييّ » : هو حييّ بن أخطب وقتلهما عليّ رضي اللّه عنه ، وحييّ هذا هو والد صفية زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم وكانت تحت يهودي يقال له كنانة بن الربيع اصطفاها من سبايا خيبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأعتقها وتزوّجها سنة ستّ ، وتوفّيت سنة ستّ وثلاثين ، وقيل سنة خمس وأبوها حييّ المذكور من سبط هارون النبي .
 
الإعراب :
ذو الفقار : خبر مقدّم . واللحظ : مبتدأ مؤخّر . ومنها : حال من اللحظ على مذهب من يجوّز الحال من المبتدأ . وأبدا : ظرف متعلق بمعنى ذي الفقار إذ المراد منه القاطع . وعمرو وحييّ : خبر ومعطوف عليه . والحشا : مبتدأ .
 
والكلام من باب التشبيه البليغ ، أي اللحظ منها كذي الفقار ، والحشا مني كعمرو وحييّ ، أي كما أن ذا الفقار قاتل لعمرو وحييّ كذلك لحظها قاتل لحشاي . وقولنا اللّحظ مبتدأ وكذلك قولنا الحشا مبتدأ بناء على أن المشبّه مبتدأ تقدّم أو تأخّر ، والمشبه به خبر كما نصّوا عليه في قولهم أبو حنيفة أبو يوسف فإنهم ذكروا أن أبا يوسف مبتدأ إذ المعنى أبو يوسف مثل أبي حنيفة .
 
وقولنا إن الكلام من باب التشبيه البليغ هو مذهب المحقّقين حيث صحّحوا أن المعنى على التشبيه حيث يذكر الطرفان فإذا قلت : زيد أسد ، فالمعنى زيد كأسد ، وإن كان قد ذهب جمع من أهل البيان إلى أن مثل هذا التركيب من باب الاستعارة حتى أن معنى قولنا : زيد أسد زيد شجاع . وانتصر لهذا المذهب المحقّق التفتازاني في مطوّله وقال : من أين لهم أن المعنى زيد كأسد بل المراد من أسد معناه المجازي أعني المجترىء أو الشجاع
 
« 85 »
بدليل تعلّق الجارّ به في قول من قال :
أسد عليّ وفي الحروب نعامة
وفي قول الآخر : والطير أغربة عليه ، أي باكية حزينة ، والمعنى حشاي مقتولة بسيف لحظه ، فحشاي مقتول بلحظ مثل ذي الفقار في القطع ، فحشاي مثل عمرو بن ودّ العامري ، ومثل حييّ بن أخطب ، ولنا في هذا المعنى من أبيات :
رميت بسهم من لحاظك للحشا * فقلبي مقتول ولحظك قاتل
 
( ن ) : قوله ذو الفقار اللّحظ منها ، أي من هذه المحبوبة كناية عن توجّه الحق تعالى إلى عبده السالك فإنه يتنوّر قلب ذلك العبد السالك بالنور الحقيقي فتضمحل رسوم ذلك العبد فيموت ويفنى كما يفعل السيف الماضي بالحيوان الحيّ فإنه يميته ويفنيه بحسب العادة . اهـ .
 
55 - نحلت جسمي نحولا خصرها *** منه حالي فهو أبهى حلّتيّ
 
[ المعنى ]
نحل السقم جسم فلان من باب منع وعلم ونصر وكرم نحولا لكن إذا كان من باب كرم فهو لازم للزوم لزوم هذا الباب ، والحالي معناه المزيّن وهذا ضد العاطل .
« وأبهى » : أفعل التفضيل من البهاء وهو الحسن . و « حلّتيّ » : مثنى حلّة وهو مضاف إلى ياء المتكلم وحذفت النون للإضافة وأدغمت ياء التثنية في ياء المتكلم ، والحلّة كما تقدّم ثوب فوق ثوب أو ثوب له بطانة .
 
الإعراب :
نحلت : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر يعود إلى ميّ . وجسمي :
مفعول . ونحولا : مفعول مطلق . وخصرها : مبتدأ . ومنه : متعلق بحالي خبره ، وجملة خصرها منه حالي في محل نصب صفة المفعول المطلق وهو مبتدأ . وأبهى :
خبره . وحلّتي : مضاف إليه ، والياء مضاف إليه ، ومعنى قوله أبهى حلّتي أن له حلّة حقيقية وهي ما من شأنه أن يلبسه الرجل من الأثواب ، وله حلّة من السقم وهي التي اكتساها من النحول ، ويقول إن حلّة سقامه أبهى وأحسن وأجمل من حلّته المعتادة لأنها كسوة الحبيب وبرده القشيب ،
 
ولنا في هذا المعنى :
ليست حلّة سقم فوّفت بدمي * فمن حديث غرامي في الورى سمر
وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين نحلت ونحولا ، وجناس الاشتقاق بين حالي وحلّتي ، وفي البيت من اللطف أنه أشار إلى أن النحول للعاشقين يشين وللمحبوب في خصره يزين ، وما
 
أحسن قوله في التائية الصغرى :
وأنحلني سقم له بجفونكم * غرام التياعي في الفؤاد وحرقتي

« 86 »
 
( ن ) : نحلت أي المحبوبة ، وخصرها كناية عن نفس السالك التي هي في وسط عالمه الإنساني حاملة لجميع أحواله الظاهرة والباطنة بمنزلة الخصر للإنسان في وسط صورته الجسمانية حامل لأعلاه وأسفله ، والنحول في خصر المليحة ممدوح معدود من محاسنها البديعة . وكذلك ضعف النفس ونحولها ورقّتها من جملة محاسن هذه الصورة الإلهية المعنوية .
ولهذا قال منه ، أي من ذلك النحول حالي أي متحلي متزيّن ، ثم قال فهو أي ذلك النحول أبهى حلّتي لأن حلّة النحول ناشئة في الحقيقة عن نحول نفسه وضعفها الذي كنّى عنه بنحول خصر هذه المحبوبة . اهـ .
 
56 - إن تثنّت فقضيب في نقا *** مثمر بدر دجى فرع ظميّ
 
« تثنّت » : تعطفت وتمايلت . والقضيب : الغصن والشجرة التي طالت وبسطت أغصانها . والنقا : من الرمل القطعة محدودبة ، والتثنية نقوان ونقيان والجمع أنقاء .
والمثمر : فاعل من قولك أثمرت الشجرة إذا خرج ثمرها . والبدر : القمر الممتلىء .
والدجى : جمع دجية وهي الظلمة . و « فرع » : كل شيء أعلاه والشعر التام .
والظّميّ « 1 » : بضم الظاء تصغير أظمى وهو مذكّر ظمياء وهي الحبيبة السمراء .
 
الإعراب :
إن : حرف شرط . وتثنّت : فعل ماض في محل جزم على أنه فعل الشرط . والفاء : رابطة للجواب ، وقضيب : خبر مبتدأ محذوف ، أي فهي قضيب .
وفي نقا : صفة قضيب وفاعله ضمير مستتر يعود إلى قضيب . وبدر : منصوب على أنه مفعول مثمر وهو مضاف إلى دجى . وفرع : منصوب على أنه صفة بدر إن أريد بالفرع أعلى الشيء فيكون عبارة عن نفس الوجه الذي البدر عبارة عنه ، ويجوز جرّ الفرع على أنه صفة دجى إن أريد بالفرع الشعر التامّ .
 
المعنى :
إن تعطّفت الحبيبة وتمايلت بقدّها الرطيب فهي في اللّين قضيب قد أثمر بدرا مبتلجا في ليل الشعر إذا سجا ، فالحاصل أن القضيب قدّها ، والبدر المنير خدّها ، والدّجى شعرها الدّاج ، والنقا ردفها الرجراج ، ومعنى قوله فرع ظمى تابع للوجهين السّالفين في إعرابه . وفي البيت المناسبة في ذكر القضيب والثمرة ، والطّباق بين البدر والفرع من حيث إن المراد منهما النور والظلمة على أحد الوجهين في الفرع .
..........................................................................................
( 1 ) قوله والظمي الخ . . . . ليس بشيء لاقتضائه أنه من المعتل وأنه مصغر مرخم لمذكر ولا تليق إضافة الفرع إليه وليس في القاموس تفسير الظمياء بما ذكره فالأوفق ما قاله النابلسي من أنه مشتق من المهموز مصغر ترخيم ظمآنة بمعنى المليحة العطشانة .
 
« 87 »
 
( ن ) : قوله : إن تثنّت ، أي مالت وانعطفت ، يعني المحبوبة ، وهو كناية عن إظهار سواها منها فكأنها صارت اثنين وهي واحدة فقضيب ، أي فهي قضيب وهو الإنسان الكامل من قوله تعالى : أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [ نوح : الآية 17 ] يعني فنبتّم نباتا ، وقوله في نقا النقا كناية عن المقام المحمدي الدائم الترقّي فكان الكامل مقيم فيه .
وقوله مثمر بدر البدر هو القمر التامّ الممتلىء كناية عن قلب الإنسان الكامل الممتلىء من معرفة ربّه وجعله بدرا لأن نور البدر مستفاد من نور الشمس ، أي شمس الحضرة الإلهية من غير أن ينتقل إليه شيء منها ولا حلّ فيه شيء منها ، ثم أضاف البدر إلى الدجى لأن سلطان ظهوره في الدجى فإذا طلعت الشمس عليه لا يظهر له نور كما أن الحق تعالى إذا انكشف لقلب العارف لا يبقى للعارف وجود لأن وجوده كان بطريق ظهور وجود الحق تعالى عليه .
 
والدجى كناية عن ظلمة الأكوان ، ثم أبدل من الدجى قوله فرع بالجرّ والفرع الشعر ولما نشأ الكون عن تجلّي الحق تعالى وشهده الجاهل والغافل عن المعرفة انقلب نوره ظلمة فصار أسود كالشعر ثم أضاف الفرع إلى ظمى أصله ظمية مصغّر ظمآنة وهي المليحة العطشانة من الشوق والمحبة وبعد التصغير حذف آخره تخفيفا على طريقة الاكتفاء فقيل ظمى كناية عن الحضرة الإلهية المشتاقة إلى الأكوان بالمحبة الحقيقية . اهـ .
 
57 - وإذا ولّت تولّت مهجتي *** أو تجلّت صارت الألباب فيّ
 
« ولّت » و « تولّت » : أدبرت ، والمراد من إدبار المهجة ذهابها عن محلها الذي هو البدن . والمهجة : الروح . و « تجلّت » : بمعنى برزت وظهرت . و « الألباب » : جمع لبّ وهو العقل . والفيّ : في آخر البيت الغنيمة ، وأصله الهمز فخفّف بقلبها ياء وأدغمت في الياء التي قبلها ، ومنه الفيء الذي يذكره الفقهاء وهو المال الذي ينال من غير قتال ولا إيجاف خيل وركاب .
 
الإعراب :
إذا : ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه .
وولّت مع فاعله الراجع إلى ميّ في محل جر بإضافة إذا إليها .
وتولّت مهجتي :
جوابها فلا محل لها من الإعراب لكونها شرطا غير جازم ، وأما إذا نفسها ففي محل نصب بجوابها . وأو : حرف عطف . وتجلّت : عطف على ولّت ، أي وإذا تجلّت .
صارت : فصارت جواب إذا التي دلّ عليها بالعطف ، وصار من أخوات كان .
والألباب : اسمها . وفيّ : خبرها ، والوقف عليه لغة .
 
« 88 »
 
المعنى :
إعراض الحبيبة موجب لذهاب الأرواح وإقبالها مذهب للعقول ولا جناح :
الموت إن ولّت وإن هي أقبلت * وقع السهام ونزعهنّ أليم
وفي البيت جناس الاشتقاق بين ولّت وتولّت ، والمقابلة بين تولّت وتجلت ،
 
وقال رضي اللّه عنه في التائيّة الصغرى :
فإن عرضت أطرق حياء وهيبة * وإن أعرضت أشفق فلم أتلفّت
 
( ن ) : يعني إذا أعرضت عني هذه المحبوبة فإن روحي تذهب وتصير نفسا والروح من أمر اللّه لقوله تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [ الإسراء : الآية 85 ] والنفس أمّارة بالسوء وهي تموت بحكم قوله تعالى : كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [ آل عمران : الآية 185 ] وهي التي تفنى ثم تعود يوم القيامة للجزاء الخير أو الشّرّ ، والروح لا تموت أبدا .
وقوله : وإذا تجلّت ، يعني ظهرت للسالك صارت الألباب ، أي العقول فيا والفيء مهموز حذفت همزته تخفيفا إما بمعنى الظلّ وجمعه أفياء كنّى به عن رسوم الأمر الإلهي وهو ظهور الروح عنه بلا واسطة ، أو كنّى بالفيء عن الغنيمة التي يظفر بها المحارب من مال العدو ، يعني صارت العقول غنائم لها فانتهبتها ،
ويؤيّد الأول إشارة قوله تعالى : أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [ الفرقان : الآية 45 ] إلى قوله : ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ( 46 ) [ الفرقان : الآية 46 ] . اهـ .
 
58 - وأبى يتلو إلّا يوسفا *** حسنها كالذّكر يتلى عن أبيّ
 
« أبى » : فعل ماض بمعنى كره . و « يتلو » بمعنى يتبع ، يقال تلا زيد عمرا في صنعه ، تبعه فيه ، وفعل مثل فعله . ويوسف هذا هو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم والضمير في حسنها لميّ . والذّكر بالكسر القرآن الكريم قال اللّه تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ( 9 ) [ الحجر : الآية 9 ] .
 
و « يتلى » بمعنى يقرأ من تلا القرآن . و « أبيّ » : هو أبيّ بن كعب الصحابي رضي اللّه عنه . وروي عن أنس رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قرأ على أبيّ بن كعب سورة لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [ البيّنة : الآية 1 ] .
 
وقال صلى اللّه عليه وسلّم : « أمرني اللّه عزّ وجلّ أن أقرأ عليك » وهي منقبة عظيمة لأبيّ رضي اللّه عنه لم يشاركه فيها أحد من الناس . وكان عمر رضي اللّه عنه يقول أبيّ سيّد المسلمين .

« 89 »

الإعراب :
أبى : فعل ماض . ويتلو : منصوب بأن محذوفة على حدّ رواية النصب في قول الشاعر من أبيات الكتاب :
ألا أيّهاذا الزّاجريّ أحضر الوغا
أي أن أحضر الوغا .
 
( ن ) : وذلك على حدّ قول العرب : خذ اللص قبل يأخذك ، أي قبل أن يأخذك . اه . وإلا : أداة استثناء . ويوسفا : مفعول ، والاستثناء مفرّغ . وحسنها : فاعل .
وكالذّكر : خبر مبتدأ محذوف ، أي وتبعيّتها ليوسف عليه السلام في الحسن كالذّكر .
وجملة يتلى عن أبيّ من الفعل ونائب الفاعل المستتر العائد إلى الذّكر ومن الجار والمجرور المتعلق بيتلى منصوبة على الحاليّة من الذّكر .
 
المعنى :
وأبى حسنها أن يتبع أحدا في الحسن إلا يوسف ، كما روى سيّدنا محمد صلى اللّه عليه وسلّم القرآن عن أبيّ بن كعب رضي اللّه عنه . وإذا كان المراد من مرجع الضمير الذات المحدّث عنها كما هو المعلوم من مقاصد الشيخ رضي اللّه عنه فلا إشكال في كون ذلك من رواية الأكابر عن غيرهم كما نصّ عليه علماء الحديث . وفي البيت تلميح إلى قصة أبيّ بن كعب رضي اللّه عنه من جهة قراءة الرسول صلى اللّه عليه وسلّم كما سبق .
وفي البيت جناس التحريف بين أبى وأبيّ ، وجناس الاشتقاق بين يتلو ويتلى .
 
( ن ) : يعني كره وامتنع حسن هذه المحبوبة أن يكون تابعا إلا ليوسف النبي عليه السلام ، فحسن يوسف في عصره هو جمال هذه المحبوبة ، وقوله كالذّكر الخ هو جواب عن سؤال مقدّر تقديره كيف يجوز أن يكون جمال الحق تعالى تابعا للمخلوق وهو يوسف ؟ فأجاب بقوله : كالذّكر ، أي كالقرآن العظيم الذي نزل على محمد صلى اللّه عليه وسلّم ومع ذلك كان يقرؤه على أبيّ بن كعب أحد أصحابه المؤمنين به وذلك للدلالة على أنه لا يبعد تبعيّة الأعلى للأدنى .
 
قال الشيخ الأكبر قدّس اللّه سرّه من أبيات له في معنى ذلك :
تطوف بقلبي ساعة بعد ساعة * بوجد وتبريح وتلثم أركاني
كما طاف خير الخلق بالكعبة التي * يقوم دليل العقل فيها بنقصان
وقبّل أحجارا بها وهو ناطق * وأين مقام البيت من قدر إنسان
اهـ .
 
59 - خرّت الأقمار طوعا يقظة *** أن تراءت لا كرؤيا في كريّ

« 90 »
 
« خرّت » : أي سقطت من العلوّ إلى أسفل . و « الأقمار » : جمع قمر ، والهلال قمر في الليلة الثامنة . و « طوعا » : أي اختيارا لا كرها . و « يقظة » : لا مناما .
و « أن » بالفتح : مصدرية ، أي لأن . اه . و « تراءت » : أصله تراءيت على وزن تفاعلت فتحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا فالتقى ساكنان الألف والتاء فحذفت الألف لذلك فوزنه تفاعلت . والرؤيا : ما يرى في المنام ، جمعه رؤى كهدى .
والكريّ بضم الكاف وفتح الراء وتشديد الياء فالياء الأولى ياء التصغير ، والثانية منقلبة عن الألف التي في آخر الكلمة وهو تصغير كريّ بمعنى النوم .
 
الإعراب :
خرّت : فعل ماض والتاء علامة التأنيث . والأقمار : فاعل . وطوعا :
مصدر بمعنى اسم الفاعل فهو حال من الأقمار ، أي خرّت الأقمار طائعة ، والمتعلق بخرّت محذوف ، أي خرّت الأقمار لها طائعة . ويقظة : حال من الهاء في لها ، أي مستيقظة أو هي ظرف ، أي خرّت الأقمار لها في اليقظة . وقوله لا كرؤيا في كريّ :
قيد لسقوط الأقمار عند رؤيتها .
 
والمعنى :
سقطت الأقمار عند رؤيتها سقوطا حقيقيّا لا سقوطا خياليّا نوميّا مثل خيال رؤيا كائنة في النوم ، وهذه التقديرات وإن كانت كثيرة لكن صحة المعنى اقتضتها . وفي البيت تلميح إلى قصة يوسف عليه أفضل السلام من رؤيته الكواكب والشمس والقمر له ساجدة ، وفيه التقارب اللفظيّ بين كرؤيا وكريّ ،
وما أحسن قول القيسراني من قصيدة :
وأهوى الذي أهوى له البدر ساجدا * ألست ترى في وجهه أثر التراب
وهذا البيت والذي قبله والذي بعده الثلاثة مشيرة إلى قصة يوسف عليه أفضل الصلاة وأتمّ السلام ، ومراد الشيخ معلوم من الرجوع إلى اصطلاحات القوم .
 
( ن ) : الأقمار كناية عن العارفين باللّه تعالى . والمعنى أنه تجلّى لهم وانكشف الوجود الحقيقي فبطل وجودهم الموهوم واضمحلّت رسومهم عندهم اختيارا منهم لانكشافهم على حقيقة الشأن الإلهي باليقظة لا بالحلم . اهـ .
 
60 - لم تكد أمنا تكد من حكم *** تقصص الرّؤيا عليهم يا بنيّ
 
« لم » : نافية المضارع جازمة له قالبة معناه إلى المضيّ . و « تكد » : مضارع كاد وأصله تكاد فسكّنت الدال للجازم والألف قبلها ساكنة فحذفت لالتقائها ساكنة مع الدال ، والضمير لميّ . والأمن خلاف الخوف . و « تكد » بضم التاء وفتح الكاف

« 91 »
 
وسكون الدال وهو مضارع مجهول من كاد زيد عمرو إذا مكر به أو حاربه . وقوله من حكم لا تقصص الرؤيا » على حذف مضاف ، أي من مثل حكم هذا الكلام ، والكلام هو نصيحة يعقوب لولده يوسف وحكمة عدم قبول يوسف له وذلك لسبق القضاء والقدر بأمور تصير وسببها بحسب الظاهر حكاية الواقعة التي رآها يوسف في المنام لإخوته .
 
الإعراب :
لم تكد : جازم ومجزوم . وتكد : مضارع كاد التي هي من أفعال المقاربة فترفع الاسم وتنصب الخبر واسمها ضمير يعود إلى ميّ ، وجملة تكد من الفعل ونائب الفاعل الراجع إلى ميّ أيضا والجار المتعلق به وهو من حكم لا تقصص رؤياك والحكم مضاف إلى لفظ الكلام الذي بعده على حذف مضاف كما تقرّر في محل نصب على أنها خبر تكد . وأمنا : منصوب على التعليل لفعل محذوف من معنى البيت ، أي سلمت ميّ من حكم إفشاء سر سقوط الأقمار لها عند رؤيتها الأجل كونها آمنة ، ولو جعلناه علّة للفعل المنفيّ للزم توجّه النفي إلى القيد على القاعدة المعروفة وهو فاسد ، هذا واعلم أن تكد المضموم التاء ساكن الأخير وهو مشكل لعدم ما يجزمه ظاهرا ، وغاية ما يقال إنه بدل من تكد أو أن الدال سكّنت للضرورة وتبعها حرف الألف لالتقائها ساكنة مع الدال ، لكن في كونه بدلا بحث ، إذ لا يصلح بدل كل ولا بعض ولا اشتمال ، كما لا يخفى وكونه بدل غلط لا يليق بفصاحة حضرة الشيخ إذ هو لا يقع في فصيح الكلام هذا عند من يشترط في بدل الفعل من الفعل أن يكون واحدا من الأقسام الأربعة كما هو مذهب جماعة منهم الإمام الشاطبي رحمه اللّه تعالى . وأما من يجوّز ذلك من غير اشتراط أن يكون واحدا منها فلا إشكال في البدل حينئذ ، هذا وقد قيل إن كاد التي هي من أفعال المقاربة إثباتها نفي ونفيها إثبات ، وعلى هذا ورد اللغز المشهور لأبي العلاء المعري حيث يقول :
انحوى هذا العصر ما هي لفظة * جرت في لساني جرهم وثمود
إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت * وإن أثبتت قامت مقام جحود
 
[ المعنى ]
والصواب أن حكمها حكم سائر الأفعال في أن نفيها نفي وإثباتها إثبات ، وبيانه أن معناها المقاربة ، ولا شك أن معنى كاد يفعل قارب الفعل ، وأن معنى ما كاد يفعل ما قارب الفعل ، فخبرها منفيّ دائما ، أما إذا كانت منفيّة فواضح لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى عقلا حصول ذلك الفعل ودليله إذا أخرج يده لم يكد يراها ، ولهذا كان أبلغ من أن يقال لم يرها لأن من لم ير قد يقارب الرؤية ، وأما

يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 51 إلى 75 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 7:56 pm

شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 51 إلى 75 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الأولى سائق الأظعان الأبيات من 51 إلى 75 
« 92 »

إذا كانت المقاربة مثبتة فلأن الإخبار بقرب الشيء يقتضي عرفا عدم حصوله وإلا لكان الإخبار حينئذ بحصوله لا بمقاربة حصوله إذ لا يحسن في العرف أن يقال لمن صلّى قد قارب الصلاة ولا فرق فيما ذكرناه بين كاد ويكاد فإن أورد على ذلك وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [ البقرة : الآية 71 ]
مع أنهم فعلوا إذ المراد بالفعل الذبح ، وقد قال تعالى : فَذَبَحُوها [ البقرة : الآية 71 ]
فالجواب أنه إخبار عن حالهم في أول الأمر ، فإنهم كانوا أوّلا بعداء في ذبحها بدليل ما تلي علينا من تعنّتهم وتكذيب سؤالهم ، ولمّا كثر استعمال مثل هذا فيمن انتفت عنه مقاربة الفعل أولا ثم فعله بعد ذلك توهّم من توهّم أن هذا الفعل بعينه هو الدّال على حصول الفعل وليس كذلك وإنما فهم حصول الفعل من دليل آخر كما فهم في الآية من قوله تعالى : فَذَبَحُوها انتهى .
قلت : ومما بنوه على أسلوب اللغز السابق ما روي أن بعض علماء العربية سمع قول ذي الرّمّة غيلان :
إذا غير الهجر المحبين لم يكد * رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح
 
فاعترض عليه بما حاصله أن كاد ويكاد يوجبان النفي في الإثبات ، والإثبات في النفي والواقع في بيت ذي الرّمّة منفي فيكون مثبتا فيصير المعنى حينئذ رسيس الهوى زال من حبّ ميّة مع أن المراد دعوى عدم ذهابه ، وسلّم ذو الرّمّة له اعتراضه فغيّره بقوله : لم تجد . ثم إن المحقّقين قالوا : المعترض مخطىء وتسليم ذي الرّمّة خطأ أيضا ، والصواب بقاء البيت على ما هو عليه ، ومعناه لم يقرب رسيس الهوى من الزوال إذا زال حبّ المحبّين من البعاد ، بل هذه العبارة أبلغ من قولهم : لم يبرح رسيس الهوى وذلك لأن مقاربة الزوال إذا انتفت فالزوال من باب أولى ، والمعنى هذه الحبيبة قد خرّت لها الأقمار طائعة في اليقظة ومع ذلك فإنها لم يكد بها ولم تحارب بسبب إفشاء سرّ الغرام وإظهار حقيقة المنام .
فالبيت بمنزلة الاحتراس الذي يفيد كمال استيلائها وعدم خوفها من شريك في الحسن أو مناظرة في الجمال أو مقابل في المقام والمقام والحسد إنما يكون للمتقاربين في المراتب ، والمتقارنين في المناصب .
وقد قال ابن الرومي في المعنى وأجاد :
هيهات فتّ الحاسدين فأذعنوا * لك بالفضائل والفعال الأمجد
يتحاسد القوم الذين تقاربت * طبقاتهم وتقارنوا في السّؤدد
 
وفي البيت الجناس المحرّف بين تكد وتكد والتلميح إلى قصة يوسف .

« 93 »
 
( ن ) : الضمير المستتر في لم تكد المفتوحة التاء راجع إلى المكنّى عنهم بالأقمار في البيت السابق . وقوله أمنا تمييز يعني لم تقارب من جهة الأمن الحاصل لها من الحق تعالى ، وقوله تكدّ بضم التاء مجزوم على أنه بدل من تكد الأولى بدل غلط والمقام يقتضي الغلط والسهو فكأنه أراد أن يقول ابتداء تكد بضم التاء فقال تكد بفتح التاء وقوله من حكم ( لا تقصص الرؤيا عليهم يا بني ) مقتضى ما وقع ليوسف عليه السلام فيوسف قد تحدّث بما رآه في المنام قبل أن يتمّ فكاده إخوته ، وأما الأقمار المحمديون السالكون في طريق الكشف لم يتحدّثوا بما رأوه قبل الوصول فلم يكدهم كائد .
قال العفيف التلمساني :
لا تنطقوا حتى تروا نطقها بكم * يلوك لكم منكم فتلكم شؤنها اهـ .
 
61 - شفعت حجّي فكانت إذ بدت *** بالمصلّى حجّتي في حجّتيّ
 
« شفعت » : ماض من الشّفع خلاف الوتر والحج قصد بيت اللّه تعالى للنّسك .
و « بدت » : ظهرت . والمصلّى على صيغة اسم المفعول ، اسم مكان بنواحي مكة ، والحجّة بالضم البرهان وحجّتي مضاف إلى ياء المتكلم وهو بكسر الحاء للمرة الواحدة وهو شاذ لأن القياس الفتح .
 
الإعراب :
الفاعل ضمير يعود إلى ميّ . وحجّي : مفعوله ، والفاء عاطفة . وكانت اسمها يعود إلى ميّ كذلك وحجّتي خبرها وإذ متعلق بكانت وهي مضافة إلى ما بعدها وبالمصلى متعلق ببدت ، والباء بمعنى في . وفي حجّتيّ : متعلق بحجّتي .
 
والمعنى :
صيّرت حجّتي المقصودة بقصد بيت اللّه تعالى مشفوعة بحجة أخرى ، وذلك لأن ظفره بها معادل لأجر حجّ بيت اللّه تعالى ، كيف والمقصود منها الاطّلاع على الواردات الرحمانية والبوارق الصمدانية فلا جرم أنها الدليل القاطع والبرهان الساطع على ثبوت حجّتين له فكان ممّن حجّ في سنة واحدة حجّتين واستفاد الأجر مرتين .
وفي البيت جناس الاشتقاق بين حجّي وحجّتيّ المثنى ، وبينهما وبين حجّتي بمعنى البرهان جناس شبه الاشتقاق .
 
( ن ) : الضمير في شفعت عائد للمحبوبة أي أنها صيّرت حجّي أي قصدي بيت اللّه تعالى حجّين اثنين حجّا في الظاهر إلى الكعبة وحجّا في الباطن إلى قلبي المتجلية عليه ، ثم بيّن ذلك بقوله : فكانت أي تلك الحضرة المحبوبة إذ انكشفت بالمصلى

« 94 »
كناية عن العقل المهتدي المقبل على الحق تعالى برهاني الساطع بأنها صيّرت حجّي حجّين ولا دليل لي ولا حجة عندي غيرها . اهـ .
 
62 - فلها الآن أصلّي قبلت *** ذاك منّي وهي أرضي قبلتيّ
 
[ المعنى : ]
الفاء في فلها فصيحة إذ المعنى إذا كانت سببا لحجّة ثانية صارت معادلة للقبلة ، « فلها الآن » أي حين كونها معادلة للقبلة ، « أصلي » وحيث كانت إشارته رضي اللّه عنه إلى ذات واجب الوجود على اصطلاح القوم فالصلاة الحقيقية راجعة إليها ويصدق قوله رضي اللّه عنه فهي أرضي قبلتي .
 
الإعراب :
وجملة قبلت ذاك مني : جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لأن قوله وهي أرضي قبلتي عطف على قوله فلها الآن أصلّي ، ولها الآن متعلق بقوله أصلّي وهي مبتدأ وأرضي اسم تفضيل خبر ، وقبلتي مضاف إليه ، وقبلتي مثنى قبلة وهو مضاف إلى ياء المتكلم وحذفت نون التثنية للإضافة .
وفي البيت التجنيس المحرّف بين قبلت وقبلتي ، والمناسبة بذكر الصلاة والقبلة والقبول ، والجملة الاعتراضية إطناب فائدتها الدعاء لتقوية دعواه الصلاة إليها فهي جملة دعائية إنشائية لا محل لها من الإعراب وذاك إشارة إلى صلاته إليها .
 
( ن ) : يعني أنني أصلّي لهذه المحبوبة لا لغيرها وقد قبلت مني صلاتي لوجهها الظاهر في كل شيء من قوله : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ البقرة : الآية 115 ] ،
وهي أكثر رضا منها عني إذا صلّيت إليها أو صلّيت إلى الكعبة فصلاة الظاهر قبلتها الكعبة وصلاة الباطن قبلتها وجه المحبوبة . اهـ .
 
63 - كحلت عيني عمى إن غيرها *** نظرته إيه عنّي ذا الرّشيّ
 
« كحلت » على صيغة المجهول . والعمى عدم البصر عمّا من شأنه أن يكون بصيرا ، فبيّن العمى والبصر تقابل العدم والملكة . « إن » : شرطية داخلة على شرط محذوف وهو الناصب لغيرها ويفسّره نظرته ، أي إن نظرت غيرها .
وقوله « إيه » بكسر الهمزة وسكون الياء وكسر الهاء كلمة زجر فيمكن تفسير الزجر في كل مقام بما يناسبه فهنا يناسبه أن يكون بمعنى انصرف عني واذهب عني بدليل عني ، وبدليل أن المراد طرد الرشا عنه لكونه يعمى إن رأى غيرها لكن في القاموس تفسيرها هكذا .
وإيه بكسر الهاء زجر بمعنى حسبك فعلى كونه بمعنى حسبك لا يناسبه أن يتعدّى بعن إذ لا يقال يكفيك عني ، نعم يتعلق به على نوع من التضمين فيفسّر المعنى هكذا حسبك يا رشا من القرب منصرفا عني فيكون متعلقا بمعنى الفعل المضمّن .
و « ذا الرشى » :
 
« 95 »
 
منادى شبيه المضاف حذف منه حرف النداء ، والرشى : مصغّر رشا ، والرشأ محرّكة الظبي إذا قوي ومشى مع أمه ، والهمزة تسهّلت وقلبت ياء وأدغمت في ياء التصغير .
 
الإعراب :
كحلت : فعل ماض مجهول . وعيني : نائب الفاعل . وعمى : مصدر مفعول مطلق على حذف مضاف أي كحل عمى وفعل الشرط محذوف كما تقرر وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله أي إن نظرت غيرها كحلت عمى .
وقوله إيه عني ذا الرشى : جملة مستأنفة لطرد الرشا عنه كي لا يراه فيثبت ما ادّعاه من دعائه على طرفه بعماه .
 
والمعنى :
إن نظرت عيني غيرها مطلقا إن أراد نظر الوجود الحقيقي الواجب ، أو إن نظرت غيرها نظر استحسان كحلت بالعمى معاقبة لها برؤية غيرها ، ولذلك طرد الرشا لئلا يراه كما سبق ، وهذا كقوله رحمه اللّه :
عنّي إليكم ظباء المنحنى كرما * عهدت طرفي لم ينظر لغيرهم
ويناسب ذلك قول بديع الزمان الهمذاني على ما رأيته بخطّ بعض الأدباء :
أبادية الأعراب عنّي فإنني * بحاضرة الأتراك نيطت علائقي
وأهلك يا نجل العيون فإنني * كفلت بهذا المنظر المتضايق
 
وما ألطف قول الشاب الظريف ابن الشيخ العفيف التلمساني رحمهما اللّه تعالى :
ولقد رأيت برامة بان النقا * فمنعت طرفي منه أن يتمتعا
ما ذاك من ورع ولكن من رأى * أشباه عطفك حقّ أن يتورّعا
 
( ن ) : قوله كحلت عيني عمى الخ . . . هو إما جملة إنشائية دعائية دعا بها على نفسه بقوله فليعم اللّه تعالى عيني إن نظرت إلى غير هذه المحبوبة ، يعني أنه لا ينظر إلا إليها
من قبيل قول العفيف التلمساني من أبيات له :
نظرت إليها والمليح يظنني * نظرت إليه لا ومبسمها الألمى
ولكن أعارته التي الحسن وصفها * صفات جمال فادّعى ملكها ظلما
 
وإما أنها جملة خبرية عن حاله بأنه متى نظر إلى مليح الكون عميت عينه عن شهود الحق تعالى في الذي نظر إليه وفي غيره .
وقوله إيه عني ذا الرّشيّ ، أي انزجر عنّي وانصرف يكفيك ما اتّهمت به منك عند الغافلين وبين الجاهلين .
والرّشيّ كناية عن الغلام المليح أو الجارية المليحة كما هو المشهور عند الشعراء ،

« 96 »
قال الحاجري :
أدعوه إن أبدى التلفّت يا رشا * وأشير بالغصن الرطيب إذا مشا
 
وهذا أقوى دليل من المصنّف رضي اللّه عنه على أن كل تغزّل يقع في كلامه سواء كان مذكّرا أو مؤنّثا أو تشبيب في رياض أو زهر أو نهر أو طير ونحو ذلك فمراده به الحقيقة الظاهرة المتجلية بوجهها الحقّ الباقي في ذلك الشيء الفاني وليس مراده ذلك الشيء الذي هو في نظره وتحقيقه مجرد رتبة وهميّة وصورة تقديرية.اهـ.
 
64 - جنّة عندي رباها أمحلت أم *** حلت عجّلتها من جنّتيّ
 
الجنة في اللغة الحديقة ذات النخل والشجر ، جمعه جنان على وزن كتاب .
 
والرّبا جمع ربوة : وهي مثلثة الراء ما ارتفع من الأرض ، وقوله تعالى : أَخْذَةً رابِيَةً [ الحاقّة : الآية 10 ] من ذلك لأن المراد أخذة عالية زائدة شديدة . وأمحل المكان فهو ماحل على غير قياس ، وممحل وهو القياس قليل في السّماع ، ومعناه الشدّة والجدب وانقطاع المطر .
و « أم » : استفهامية .
و « حلّت » : فعل ماض من الحلاوة . وقوله « عجّلتها » على البناء للمجهول أي جعلت هذه الجنة معجّلة لي . وقوله « من جنّتي » بصيغة التثنية والمثنّى مضاف إلى ياء المتكلم .
 
الإعراب :
رباها : مبتدأ . وجنّة : خبر مقدّم . وعندي : متعلق بمعنى الجملة ، أي ثبت عندي أن رباها جنة . وجملة قوله عجلتها من جنتي : صفة جنة . وقوله أمحلت أم حلت معترضة بين الصفة والموصوف .
المعنى :
رباها جنة عندي عجّلت تلك الجنة في الدنيا من جنتي ، أي من جنتي هذه والتي بعدها في الآخرة ، وقد حكمت بكونها جنة عندي سواء كانت ممحلة مجدبة معطّلة من أسباب النفع أم كانت حلوة ، فهي جنة على كل حال في الشدّة والرخاء . وفي البيت الجناس الملفّق بين أمحلت وأم حلت .
 
( ن ) : يعني أن المحبوبة هي جنة عندي . والرّبا كناية عن المقامات الإلهية والأحوال الربّانيّة التي يكون فيها السّالك في طريق اللّه تعالى وهذه هي جنة المعارف والعلوم كما قال تعالى : وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ( 46 ) [ الرّحمن : الآية 46 ] ،
يعني جنة الحسن وهي المعروفة في الآخرة وجنة المعاني وتكون في الدنيا والآخرة .
وقوله أمحلت أم حلت ، يعني أجدبت أم أثمرت بما يحلو من لذائذ المناجاة ولطائف الخطابات والمكالمات الحاصلة في الدنيا والآخرة عجّلها اللّه لي من جملة الجنّتين اللتين وعدهما لمن خاف مقامه والتزم شرائعه وأحكامه . اهـ .

« 97 »
65 - كعروس جليت في حبر  *** صنع صنعاء وديباج خويّ
 
[ المعنى ]
أي هي كعروس . و « جليت » على البناء للمجهول من الجلوة والضمير عائد لميّ . والحبر بكسر الحاء وفتح الباء جمع حبرة كعنبة وهي ضرب من برود اليمن وصنع صنعاء ، أي الحبر صنع مدينة صنعاء باليمن وهي كثيرة الأشجار والمياه تشبه دمشق . و « صنعاء » أيضا قرية كانت بباب دمشق والنسبة إليها صنعائي أو إليهما صنعاني .
و « ديباج » : معرب ديباه وهو نوع نفيس من الأقمشة ينسج بالحرير والذهب ، وأصل ديباج دبباج بباءين أدغمت إحداهما في الأخرى بدليل جمعه على دبابيج .
و « خويّ » : بضم الخاء المعجمة وفتح الواو على صيغة التصغير بلد بأذربيجان منه قد خرج قوم محدثون .
 
الإعراب :
كعروس : خبر مبتدأ محذوف ، أي هي كعروس . وجملة جليت في حبر : صفتها . وصنع بالجر : صفة حبر وهو مضاف إلى صنعاء ، أي في حبر من عمل صنعاء . وديباج بالجر : عطفا على حبر ، أي جليت في حبر من عمل صنعاء وجليت في ديباج خويّ وليس ديباج خويّ عطفا على صنعاء فتأمّل . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين صنع وصنعاء .
( ن ) : يقول إن المحبوبة كعروس جليت الخ . . . . وهو كناية عن التجليات الإلهية المختلفة في أنواع الصور البديعة . اهـ .
 
66 - دار خلد لم يدر في خلدي *** أنّه من ينأ عنها يلق غيّ
 
[ الإعراب ]
أي هي دار خلد بإضافة دار إلى خلد ، والخلد بضم الخاء البقاء والدوام كالخلود . و « لم يدر » : أي لم يخطر . « في خلدي » بفتح الخاء المعجمة واللام : وهو البال والقلب والنفس . و « أنّه » أن المفتوحة واسمها ضمير الشأن . و « من » : شرطية .
و « ينأ » : بحذف الألف فعل الشرط . و « عنها » : متعلق به . و « يلق » : بحذف الألف أيضا جزاؤه وفاعل الشرط والجزاء راجع إلى من . و « غيّ » بالغين المعجمة : مفعول يلق ، والوقف عليه على لغة ربيعة ، والغيّ بالمعجمة بمعنى الخيبة ، أي ما دار في بالي أن البعيد عن هذه الجنة يلقى خيبة ويجوز ضبطها بالعين المهملة على أنه من عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه مراده ، وجملة الشرط والجزاء خبر أنه . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين خلد وخلدي ، وجناس الاشتقاق بين دار ويدر لأن الكل من الدور .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يقول إن المحبوبة دار خلد أي إن عارفيها خالدون في أنواع اللطائف ولذائذ المعارف وهي موصوفة بزيادة الأمان عندي بحيث إنه لم يخطر في بالي أن من

« 98 »
 
يعرض عنها بغفلة يلق غيّا ، أي ضلالا وحيرة وعمى لأنها جامعة للكل بحيث لا يخرج عن حضرة علمها شيء . اهـ .
 
67 - أيّ من وافى حزينا حزنها *** سرّ لو روّح سرّي سرّ أيّ
 
[ المعنى ]
أي من وافى حزنها وهو حزين سرّ بالبناء للمجهول ، أي حصل له السرور .
و « لو » : حرف تمنّ . و « روّح » : أي جلب الراحة خلاف التعب لسرّه ، والسرّ يرد لمعان ؛ فالأول هنا عبارة عن اللبّ والباطن ، والثاني هنا عبارة عن معنى أيّ وما في ضمنها من شرط الموافاة لحزن دار خلده المذكور في البيت قبله .
 
الإعراب :
أي : شرطية . ومن : مضاف إليه وهي عبارة عن شخص ، أي إن وافى شخص . وافى : فعل الشرط في محل جزم وفاعله ضمير يعود إلى من .
وحزنها : مفعول وافى . وحزينا : حال من الضمير في وافى . وسرّ : جواب الشرط .
ولو : للتمني . وسرّي : مفعول روّح . وسرّ بالرفع : فاعله . وأيّ : مضاف إليه . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين حزين وحزنها ، وبين سرّ وسرّي وسرّ الجناس المحرّف ، وفيه ردّ العجز على الصدر في لفظة أي أوّل البيت وآخره . وفيه أيضا الطّباق بين الحزن المفهوم من حزين والسرور المفهوم من سرّ .
 
( ن ) : وافى أتى والحزن بالفتح ضدّ السهل ، يعني أن كل من اقتحم الأمور الصّعاب في محبتها سهلت عليه ودخل عليه السرور من قوله تعالى : وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [ العنكبوت : الآية 69 ] ، وقوله : لو روّح سرّي الخ . . . . يعني أتمنى أن هذا القول يوجد راحة في قلبي . قال أحمد الغزالي :
ما احترق لسان أحد قال نار * ولا استغنى من قال ألف ديناراهـ .
 
68 - بئس حالا بدّلت من أنسها  *** وحشة أو من صلاح العيش غيّ
 
[ الإعراب ]
« بئس » كلمة وضعت ثانيا لإنشاء الذّمّ وفيها ضمير عائد إلى مبهم متصوّر في الذّهن يفسّره حالا المنصوبة على التمييز ، أي بئس الحال حالا . و « بدّلت » على صيغة الفاعل ، والفاعل ضمير يعود على الحال . و « من أنسها » متعلق ببدّلت ، والهاء في أنسها على طبق الضمير الذي قبله عائد على دار خلد في الأبيات السابقة . و « وحشة » :
منصوب مفعول صريح لبدّلت . وقوله « أو من صلاح العيش غيّ » بملاحظة بدّلت ، أي وبئس حالا بدّلت غيّا بدلا من صلاح العيش فالوقف على غيّ حينئذ لغة ربيعة ، وغيّ

« 99 »
 
إن كان بالغين المعجمة فهو بمعنى الضلال أي أذمّ حالا بدّلتني من أنس هذه الحبيبة التي هي دار خلدي بالوحشة وبدّلتني بالضلال بعد الصلاح ومن في قوله أو من صلاح العيش من البدلية ، أي بدلا من صلاح العيش وإن كان بالعين المهملة فهو بمعنى عدم الاهتداء لوجه الشيء وطريقته . وفي البيت الطّباق بين الأنس والوحشة وبين الصّلاح والغيّ في الجملة .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله بدّلت على صيغة المبني للمفعول والضمير للحال ، ولما ذكر في البيت قبله أن من اقتحم مشقّاتها وشدائدها فهو مسرور أتمّ السرور ذكر في هذا البيت أن حاله بئس الحال حيث بدّلت الحال عليه من أنسها أي من أنسه بها أي بالمحبوبة وحشة بسبب ملاحظة أغيارها والغفلة عنها . اهـ .
 
69 - حيث لا يرتجع الفائت و ا *** حسرتا أسقط حزنا في يديّ
« حيث » : ظرف مكان مبني على الضم أو على الكسر أو على الفتح . و « يرتجع » بالبناء للمفعول . و « الفائت » بالرفع نائب الفاعل وهو ما سلف من عيشه مع الأحبّة زمن الصّبا . و « وا حسرتا » : ندبة للتأسّف بسبب طول الحسرة . و « أسقط » في يده بضم الهمزة : زلّ وأخطأ وندم وتحيّر . و « في يديّ » متعلق بأسقط والياء الأخيرة مشددة على إرادة يديه الثنتين .
 
الإعراب :
حيث : في محل نصب على الظرفية متعلق بما في وا حسرتا من معنى أتحسّر . وجملة لا يرتجع : في محل جر بإضافة حيث إليها . وحزنا : منصوب على التمييز ، أي من جهة الحزن أسقط في يديه .
 
والمعنى :
أتأسف لعدم ارتجاع الفائت من عيش الأحباب ، وأتحسّر لدوام البعد عن معاهد الأحباب ، ففي ذلك المكان تأسّفي ، وعلى ذلك العهد تلهّفي .
 
( ن ) : قوله الفائت هو ما وقع منه من الزّلّة الموجبة للغفلة والذهول عن ملاحظة الحق في حال سلوكه كما وقعت الإشارة منه إلى ذلك في صدر الديوان بقوله :
من ذا الذي ما ساء قطّ * ومن له الحسنى فقط
 
حتى سمع الهاتف الغيبيّ يقول له :
محمد الهادي الذي * عليه جبريل هبط
ثم قال هنا : وا حسرتا ندبة لحاله بالتأسّف بسبب ذلك .
وزلّة هذا الشيخ رضي اللّه عنه تحتمل أن تكون غفلة أو هفوة لأن العصمة من الذنوب أمر مخصوص بالأنبياء
 
« 100 »
 
والمرسلين ، وأما الأولياء فهم الورثة لهم في العلوم النبوية لا في الوحي ولا في العصمة من الذنوب ، وإنما لهم الإلهام في مقابلة الوحي والحفظ في مقابلة العصمة فيصدر منهم الذنوب ويحفظون من شؤم ذلك بالتوبة وعدم الإصرار حتى يترقّى الأمر في حقّهم فيصيرون يعدّون الغفلات ذنوبا ، ولذا اشتهر قولهم : حسنات الأبرار سيئات المقرّبين . اهـ .
 
70 - لا تملني عن حمى مرتبعي *** عدوتيّ تيّما لربع بتميّ
 
اعلم أن قوله : « لا تملني » بتقديم التاء المثناة من فوق وهي مضمومة والميم بعدها مكسورة واللام ساكنة جزما للنهي من الإمالة بمعنى تصيير الشيء مائلا إلى الشيء . و « عن حمى » : متعلق بتملني . والحمى : المرعى المحمي ، أي الممنوع ممّن يريد أن يرعى فيه .
و « مرتبعي » بضم الميم وفتح التاء والباء على صيغة اسم المفعول : مصدر ميمي من ارتبع المكان أقام فيه زمن الربيع ، أو مطلقا وهو مضاف إلى فاعله وهو الياء .
و « عدوتي تيّما » : أي طرفي ذلك الموضع ، أي لا تملني عن حمى ارتباعي إلى ربع . « بتميّ » وتميّ : قيل مصر أو اسم مكان تابع لمصر .
 
الإعراب :
لا : حرف نهي . وتملني : فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه سكون اللام . وعن حمى : متعلق بتملني . ومرتبعي : مضاف إليه ، ومرتبعي مصدر ميمي بمعنى ارتباعي مضاف إلى الفاعل وهو الياء . وعدوتيّ مثنى عدوة :
مفعول به كمل به عمل المصدر . ولربع : متعلق بقوله لا تملني . وبتميّ : متعلق بمحذوف على أنه وصف لربع .
 
المعنى :
لا تملني أيّها العاذل عن إقامتي في حمى ارتباعي عدوتي تيّما ، أي طرفي جانب ذلك الموضع وتكون إمالتك عن الحمى المذكور إلى ربع كائن بتميّ لأني لا أترك هذا لهذا فإمالتك إيّاي منه إليه ليست من مقاصد أرباب العقول ، ولا توافق ما أطبق عليه أهل المعقول .
 
( ن ) : هذا بيان لزلّته بأنها ميل خاطره عن جناب الحق تعالى بإمالة حصلت له من جهة عذوله المعادي له في نفسه وهي قرينه ، فقال له : لا تملني عن عدوتي تيّما عن شاطىء المحل المسمّى تيّما ، وكنى بذلك عن طرفيه اليمين والشمال ، ففي اليمين النشأة النفسانية ، وفي الشمال النشأة القلبية ، والمعنى لا تعرض بي عن دوام مراقبة نفسي وقلبي لأشهد بهما تجلّي ربّي ، ولا تملني إلى تميّ وهو اسم مصر ، أو اسم

« 101 »
تابع لمصر ، يعني لا ترجع بي إلى أوطان طبيعتي ومساكن عاداتي فتقطعني عن ذلك الجناب العالي والكوكب المتلالي . اهـ .
 
71 - فلباناتي لبانات ترا *** ضعنا فيها لبان الحبّ سيّ
 
[ الإعراب ]
اللبانات بالضم جمع لبانة ، وهي الحاجات من غير فاقة ، بل من همّة . وقوله « لبانات » : اللام حرف جر ، والبانات جمع بانة وهي واحدة البان وهو شجر الخلاف .
وقوله « تراضعنا » : مصدر تراضع القوم اللبن تراضعا إذا تشاركوا في رضاعه ، ونا :
مضاف إليه وهو الفاعل ، وفيها متعلق به . ولبان بكسر اللام جمع لبن، وهو المعروف ، وهو مفعول المصدر.
و « الحب » : مضاف إليه وهو بضم الحاء بمعنى المحبة . و « سيّ » بكسر السين بمعنى سواء ، وهو مرفوع على أنه خبر المبتدأ ، أي تراضعنا في البانات لبان المحبة سواء . وجملة قوله فلباناتي : جملة تعليلية لقوله لا تملني الخ . . . وفي البيت التجانس بين لباناتي بضم اللام ولبانات بكسر اللام ولبان بكسر اللام أيضا . ويجوز أن يقرأ تراضعنا على أنه فعل ماض من باب التفاعل ويكون على هذا سيّ منصوبا على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي تراضعنا لبان الحب فيها تراضعا سواء والوقف عليه حينئذ لغة ربيعة .
 
[ المعنى ]
( ن ) : كنّى بالبانات عن مشايخه العارفين وأمثاله من السالكين الصادقين من قوله تعالى : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ( 17 ) [ نوح : الآية 17 ] .
وقال عفيف الدين التلمساني مخاطبا عالم الروح الشريف بقوله في مطلع أبيات له :
أسكرت بان الحمى يا نسمة السّحر * فهل أتيت من الأحباب بالخبر
 
فكنى عن رفقائه من العارفين ببان الحمى . وكلمة سيّ بفتح السين قال في القاموس : وقع في سيّ رأسه بالفتح وسوائه ويكسر أي حكمه من الخير أو في قدر ما يغمر رأسه أو في عدد شعره انتهى . فمعناه تراضعنا الذي وقعنا به في سيّ رؤوسنا ، أي قدر ما يغمر رؤوسنا أو عدد شعر رؤوسنا رضعات يعني المحبة الإلهية التي تشاركنا في تراضع لبانها والإيواء إلى منازل بأنها . اهـ .
 
72 - مللي من ملل والخيف حيف *** تقاضيه وأنّى ذاك ويّ
 
« مللي » : سأمي . و « ملل » الثاني على وزن جبل كالأوّل : اسم موضع .
و « الخيف » بالخاء المعجمة والياء المثنّاة من أسفل ما انحدر من غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء وكل هبوط وارتقاء في سفح جبل وغرّة بيضاء في الجبل الأسود الذي خلف أبي قبيس وبها مسجد الخيف ، والمراد هنا الأخير . وقوله « حيف » بالحاء

« 102 »
 
المهملة والياء المثناة من أسفل : أي جور وظلم . والتقاضي : مصدر تقاضى الدّين طلبه . وقوله « وأنّى » بفتح الهمزة وتشديد النون والألف المقصورة بمعنى كيف ، وهو استفهام تعجّبي . و « ذاك » : اسم إشارة والمشار إليه الخيف . وقوله « ويّ » : كلمة تعجّب كما في القاموس .
 
الإعراب :
مللي : مبتدأ . ومن ملل : خبر . والخيف : يجوز فيه الرفع على أنه مبتدأ أول ، ويجوز فيه الجرّ على أنه معطوف على ملل ، فعلى الأول الخيف مبتدأ أول . وتقاضيه : مبتدأ ثان . وحيف : خبر عن الثاني ، والجملة خبر الأول وعلى الثاني الخيف بالجرّ عطف على ملل ، وحيف خبر مقدم ، وتقاضيه مبتدأ مؤخر ، أي تقاضيه وطلبه وإرادة الرجوع إليه حيف وجور .
ثم استبعد ذلك الحصول فقال : وأنّى ذاك ، وزاده استبعاد في الحصول بكلمة التعجب في قوله : ويّ . وفي البيت الجناس التام في ملل وملل ، وجناس التصحيف بين خيف وحيف .
 
( ن ) : ملل اسم جبل كنى به عن هذا الجسم الطبيعي المركّب من العناصر الأربع الكثيف الحجاب ، وكنى بالخيف عن حضرة الجلال الإلهيّ .
 
والمعنى :
أن هذه الحضرة الجلالية إذا تجلّت بالحقيقة الأمريّة محقت الأكون وأفنت جميع الأعيان فتقاضى ديون دعوها بالوصال حيف ومطال وهو من قسم المحال إذ لا ثبوت فيه لشيء ولا مجال حتى تتجلّى تلك الحضرة الجمالية بتلك الحقيقة أيضا فتثبت الأعيان ويتحقّق الخلق بأمركنّ فكان وأنّى للاستفهام التعجّبي وذاك اسم إشارة والمشار إليه التقاضي . اهـ .
 
73 - بالدّنا لا تطمعنّ في مصرفي *** عنهما فضلا بما في مصرفيّ
 
الدنا جمع دنيا نقيض الآخرة وقد ينوّن . وقوله في « مصرفي » بفتح الميم وكسر الراء بمعنى الانصراف . و « عنهما » : أي عن ملل والخيف أو عن عدوتي تيماء . وقوله « فضلا » بالفاء والضاد المعجمة ، واعلم أنه مصدر منصوب بفعل محذوف وهو أبدا يتوسّط بين أعلى وأدنى للتنبيه بنفي الأدنى واستبعاده على نفي الأعلى واستحالته ويقع بعد نفي صريح أو نفي ضمنيّ وقد يقع بعد النهي كما في البيت .
 
والمعنى :
أنا لا أنصرف عنهما بالدنيا بل بكل ما يسمى دنيا فكيف انصرافي عنهما بما في مصر من الفيء والغنيمة أو الخراج ، فإن الفيء يطلق بمعنى الغنيمة وبمعنى الخراج ، وأصله مهموز فقلبت الهمزة ياء وأدغمت الياء في الياء .
 
« 103 »
الإعراب :
بالدّنا : متعلق بتطمعن ، أي لا تطمعن في انصرافي عنهما بالدنيا كلها فكيف بما في مصر من الفيء . فضلا : مفعول مطلق . وما : في بما موصولة . وفي مصر : صلتها ، وفي مجرور لأنه بدل من ما ، والمعنى ظاهر . وفي البيت الجناس المحرّف الملفّق بين مصرفي ومصر فيّ .
 
( ن ) : عنهما أي عن ملل والخيف كناية عن عالم جسمانيته وعن عالم روحانيته الأمري الإلهي ، يعني أنني بالدنيا كلها لا أنصرف عن مقام فرقي النازل به الفرقان من قوله تعالى : تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ( 1 ) [ الفرقان : الآية 1 ] ولا أنصرف أيضا عن مقام جمعي النازل به القرآن من قوله تعالى : الرَّحْمنُ * ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ ( 2 ) [ الرحمن : الآيتان 1 ، 2 ] ،
أي أوصل إلى مقام الجمع ، وفي الجمع لا شيء غير الوجود الحقّ ، فكيف أنصرف بسبب ما في مصر من ظل الأغيار والاحتماء بأرباب المناصب الكبار . اهـ .
 
74 - لو ترى أين خميلات قبا *** وتراءين جميلات القبيّ
75 - كنت لا كنت بهم صبّا يرى *** مرّ ما لاقيته فيهم حليّ
 
[ الاعراب ]
« لو » : شرطية . و « ترى » : مضارع من الرؤية . و « أين » استفهام عن المكان مبني على الفتح . و « خميلات » بالخاء المعجمة جمع خميلة ، وهي المنهبط من الأرض مكرمة للنبات أو رملة تنبت الشجر أو الشجر الكثير الملتفّ أو الموضع الكثير الشجر حيث كان . و « قبا » بالضم : موضع قرب المدينة ويجوز فيه التذكير والقصر .
وقوله « وتراءين » فعل ماض يقال تراءى فلان ، أي تصدّى لي لأراه من باب التفاعل ، والنون للنسوة فاعله وجميلات بالجيم جمع جميلة وهي المرأة الحسناء .
 
و « القبيّ » بضم القاف وفتح الباء وياء التصغير مدغمة في الياء التي كانت همزة فانقلبت أصله قباء كسماء من الثياب فعلى هذا يكون الأول ترى كلمة مستقلة وأين كلمة مستقلة بخلاف الثاني فإن تراءين فعل ماض اتصل به فاعله .
وأقول هذا هو المشهور في ضبط البيت ولك أن تقرأ الكلمتين على نمط واحد ، وذلك بأن يكون تراءين فعلا ماضيا مع نون النسوة وذلك بأن يريد بالخميلات شجر النخل .
 
وقد قال في القاموس : وتراءى النخل : ظهرت ألوان بسره ، أي لو ظهرت ألوان بسر الخميلات التي هي النخل وتصدّت جميلات القباء لمن يراهنّ . وقوله « كنت » بفتح تاء الخطاب جواب الشرط .
و « بهم » متعلق بقوله صبا وهو خبر كنت ، وجملة لا كنت : جملة معترضة بين كنت وخبرها وهي دعائية على العاذل بأن لا يكون في الوجود . و « يرى » بمعنى يعتقد ،

« 104 »
 
وفاعله ضمير الصب . و « مرّ » بالنصب مفعوله الأول . و « ما » : مضاف إليه . وجملة « لاقيته » صلتها . و « حليّ » تصغير حلو ، وهو مفعول ثان ليرى والوقف عليه على لغة ربيعة . وجملة « يرى مرّ ما لاقيته فيهم حليّ » في محل نصب على أنها صفة صبا .
وفي البيتين الجناس التام بين ترى أين وتراءين أو بين تراءين وتراءين على القولين ، وجناس التصحيف بين خميلات وجميلات ، وبين قبا وقبى الجناس اللاحق ، والطّباق بين المرّ والحلو ، والإثبات والنفي بين كنت ولا كنت .
 
والمعنى :
لو رأيت ما رأيت من حسن الجميلات ولطف الخميلات لكنت مثلي تعتقد مرّ جفاهم حاليّا وعاطل إعراضهم حاليّا ولكن لا نلت أيّها العاذل ذلك المقام ولا تقرّبت منه ولا في المنام لأنك لست أهلا لذلك ولا سلكت في الحب أصعب المسالك أو تعتقد مساواة المرّ للحال ، والحمد للّه على كل حال .
( ن ) : كنى بخميلات قبا وجميلات القبيّ عن منازل الحقيقة المحمدية وورثتها من الأولياء العارفين فإنهم ثابتون في أصلها الثابت والخطاب للعذول والجاهل ، فالجميلات هي نفوس وأرواح الورثة المحمديين المستترة بالقباء الجسماني ، والخميلات بالخاء هم الأجسام . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 76 إلى 100 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 7:57 pm

شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 76 إلى 100 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الأولى سائق الأظعان الأبيات من 76 إلى 100 
76 - فأرح من عذل مسمعي و*** عن القلب لتلك الرّاء زيّ
 
[ الاعراب ]
أرح : فعل أمر من أراح اللّه زيدا من التعب ، أي خلّصه منه . واللذع : إن كان من النار فهو بالذال المعجمة والعين المهملة ، وإن كان من ذوات السموم فهو بالدال المهملة والغين المعجمة وهو مضاف إلى عذل .
و « مسمعي » : مفعول أرح . و « زيّ » كطيّ لغة في الزاي ، يعني اجعل الراء من أرح زايا وأزح العذل عن قلبي ، وهذا النوع من التعمية في مقاصد الكلام ، ولم أر من استعمله غير الشيخ رضي اللّه عنه . وفي البيت جناس التصحيف المعنوي بين أرح الملفوظ بها وأزح المشار إليها ، وفيه قلب مستويين لذع عذل . ولأجل تحصيل هذه النكتة وجب أن يكون اللّذع بالذال المعجمة والعين المهملة .
 
والمعنى :
أرح أيّها العاذل سمعي من احتراقه بنار العذل والملام وأزحه عن قلبي حيث كان كلاما بمنزلة الكلام . اهـ .
 
77 - خلّ خلّي عنك ألقابا بها جيء *** مينا وانج من بدعة جيّ
78 - وادعني غير دعيّ عبدها نعم *** ما أسمو به هذا السّميّ

« 105 »
 
« خلّ » : فعل أمر ، أي اترك ودع . و « خلّي » بكسر الخاء منادى مضاف حذف حرف ندائه . و « عنك » متعلق بخلّ . والألقاب مثل قولك شرف الدين وناصر الدين وسمّني بالاسم الذي يناسب وصفي معها . وقوله : « بها » متعلق بجيء بعده .
 
و « جيء » : ماض مجهول ، أي جاؤوا بها مينا ، أي جاؤوا مجيئا كذبا . قوله « وانج » :
فعل أمر من النجاة واويّ ، فلذلك ضمّت جيمه . والبدعة بكسر الباء الحدث في الدين بعد الإكمال ، أو ما استحدث بعد النبي صلى اللّه عليه وسلّم من الأهواء والأعمال جمعه بدع على وزن عنب . و « جيّ » بالجيم مفتوحة لقب أصبهان قديما أو قرية بها قيل هي أول مكان ظهرت البدعة به ، يعني تلقيبك إيّاي بوصف غير عبوديتي أمر مبتدع بل هو في الشناعة كبدعة القرية التي أوّل ما ظهرت البدعة منها . وفي البيتين الجناس المحرّف بين خلّ وخلّي لأن الأوّل بفتح الخاء والثاني بكسرها ، وبين جيء وجيّ ، وبين ادعني ودعيّ جناس الاشتقاق ، وكذا بين أسمو والسّميّ .
 
الإعراب :
« ادعني » : فعل أمر بمعنى سمّني حال كونك غير دعيّ . و « عبدها » : مفعول ادعني .
و « نعم » : كلمة وضعت ثانيا لإنشاء المدح ، وفاعلها هنا ضمير مبهم عائد إلى متصوّر في الذّهن . و « ما » : نكرة في محل نصب على التمييز . وجملة « أسمو به » في محل نصب على أنها صفة لما و « هذا السّميّ» المخصوص بالمدح وتصغير الاسم في قوله سميّ للتحبيب أو لمناسبة المقام لأنه مقام الخضوع والتذلّل.
والدّعيّ المتّهم في نسبه . وقوله « غير دعيّ » : منصوب على الحال وفائدته الاحتراس عن أن يكون وصفه بالعبودية لها كاذبا وأسمو بضم الميم بمعنى أعلو .
وما أحسن قول من قال وأبدع في المقال :
لا تدعني إلا بيا عبدها * فإنه أشرف أسمائي
 
وللنواجي في ذلك من قصيدة :
ودعته بالعبد يوما فقالوا * قد دعته بأشرف الأسماء
 
ولقد رأيت في طبقات السبكي رحمه اللّه قارئا قرأ يوما بحضرة الشيخ أحمد أبي الفتوح الغزالي أخي الإمام حجّة الإسلام الغزالي رضي اللّه عنهما قوله تبارك وتعالى :
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [ الزّمر : الآية 53 ]
فصاح الشيخ أحمد وقال : واعشقاه شرّفهم بالإضافة إليه
حيث قال : يا عبادي وأنشد :
وهان عليّ اللوم في جنب حبّها * وقول الأعادي إنه لخليع
أصمّ إذا نوديت باسمي وإنني * إذا قيل لي يا عبدها السميع
 
« 106 »
وقلت في ذلك من أبيات : وإنما الأعمال بالنيّات :
وإذا ما أردت رفعة قدري * فادعني في عشيرتي يا غلامي
 
[ المعنى ]
( ن ) : يعني لا تذكرني بلقب شرف الدين ونحوه كما لقّبني بذلك الناس فإنه كذب في حقي واترك هذه الألقاب فإنها بدعة في دين المحبة وسمّني عبدها ، وقوله غير دعيّ : أي غير كاذب في نسب عبوديتي . اهـ .
 
79 - إن تكن عبدا لها حقّا تعد *** خير حرّ لم يشب دعواه ليّ
 
[ الاعراب ]
في هذا البيت تقرير ما ادّعاه في البيت قبله من أنه يسمو بتسميته عبدا لكونه يصير حرّا خالصا فإن العبودية إذا صحّت وثبتت أغصانها في مغارس الإخلاص نبتت عاد العبد حرّا وصار العيش حلوا بعد أن كان مرّا . وقوله « تعد » : مجزوم على أنه جواب الشرط ، وتعد هنا ترفع الاسم وتنصب الخبر على أنها بمعنى صار واسمها ضمير تقديره أنت . و « خير حرّ » : خبرها . وقوله « لم يشب » : أي لم يخالط دعواه ، مفعول مقدّم . و « ليّ » : فاعل ، واللّيّ بمعنى الجحد والإنكار ، والمعنى ظاهر . وفي البيت الطّباق بين العبد والحرّ . اهـ .
 
80 - قوت روحي ذكرها أنّى تحور *** عن التّوق لذكري هيّ هيّ
 
القوت : المسكة من الرزق ، والكفاية من العيش . والروح : بالضم يرد لمعان منها ما به حياة الأنفس ويؤنّث وهو المناسب هنا . و « ذكرها » بكسر الذال ويكون باللسان ، وبضم الذال يكون بالقلب . وقوله « أنّى » : استفهام تعجّبي وهو بمعنى كيف . و « تحور » بالحاء المهملة والراء بمعنى ترجع ، ومنه قوله تعالى : إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ( 14 ) [ الانشقاق : الآية 14 ] . و « التّوق » : مصدر تاق إلى الشيء توقا ، أي اشتاق إليه . وهيّ هيّ : كلمة متكررة لطلب الإقبال إلى الذّكر بسرعة كأن المتكلم بها يزعج السامع ليقبل إلى الفعل .
 
الإعراب :
قوت روحي : مبتدأ . وذكرها : خبر . وأنّى : حال مقدّم من الضمير في تحور الراجع إلى الروح . وعن التوق : متعلق بتحور . وقوله لذكري : يجوز تعلقه بالتوق ، أي الشوق إلى الذكر ويجوز بهيّ الذي بعده ، لأن المعنى بادر إلى الذّكر .
 
والمعنى :
قوت روحي ومسكة وجودي ذكرها فكيف يرجع الشخص عن قوته الذي منه قوامه وبه نظامه ، فالبدار البدار إلى ذكرها لتقوى الروح ويعظم الفتوح . وفي البيت الجناس المقلوب بين قوت وتوق ، وكذا بين روح وتحور لأن التاء في تحور زائدة .
 
« 107 »
 
( ن ) : يعني تذكّروا استحضار هذه المحبوبة قوت لنفسي فإذا ذهلت عنه ماتت لعدم القوت فصارت نفسا والنفس أمّارة بالسوء كما قال عنها تعالى ، ثم إن النفس إذا ماتت بزوال غفلتها عن شهود ربها وتركت شهواتها عادت روحا ، والروح من أمر اللّه كما قال تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [ الإسراء : الآية 85 ] ،
ولهذا لا يموت ويحيا إلا النفوس بخلاف الأرواح فإنها لا تموت قال تعالى : كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [ آل عمران : الآية 185 ] . اهـ .
 
81 - لست أنسى بالثّنايا قولها كلّ *** من في الحيّ أسرى في يديّ
 
« لست » : ليس واسمها وليس فعل ماض لنفي الحال مطلقا ولنفي غيره بقرينة ، وأصله ليس على وزن علم ولم تقلب الياء ألفا مع تحرّكها وانفتاح ما قبلها لكونه فعلا غير متصرّف إذ لا يجيء منه مضارع ولا غيره فسكنت الياء تخفيفا . و « بالثنايا » : المراد بها جمع ثنية وهي العقبة أو طريقها أو الجبل أو الطريق فيه أو إليه . و « الحيّ » : البطن من بطونهم جمعه أحياء . والأسرى بفتح الهمزة وسكون السين جمع أسير . وقوله « في يدي » بصيغة التثنية .
 
الإعراب :
جملة أنسى بالثنايا قولها : في محل نصب خبر ليس ، وقولها بالنصب مفعول أنسى ، وبالثنايا : ظرف متعلق بقولها إذ المراد لست أنسى قولها ، أي ما قالته لي في الثنايا . وقوله في يدي : متعلق بأسرى ، أو صفة لها ، فالتعلّق بمحذوف والبيت بعده مقرّر لما ادّعاه من أن من في الحيّ أسراه .
 
[ المعنى ]
( ن ) : كنّى بالثنايا عن حضرات الأسماء الإلهية والضمير في قولها عائد للمحبوبة ، أي الحضرة الإلهية وكنّى بالحيّ عن عالم الإنسان الذي هو نوع من أنواع الأكوان . واليدان هما الحضرتان اللتان تنقسم إليهما الأسماء الإلهية فإنها تنقسم إلى أسماء الجلال وأسماء الجمال . اهـ .
 
82 - سلهم مستخبرا أنفسهم هل *** نجت أنفسهم من قبضتيّ
 
[ الاعراب ]
الضمير المستكن في « سلهم » لكل من يصلح للخطاب ، والهاء لمن في الحيّ .
و « مستخبرا » حال من الضمير المستكن . و « أنفسهم » على صيغة اسم التفضيل من النّفاسة منصوب على أنه مفعول مستخبرا . وجملة قوله « هل نجت أنفسهم » : جملة مفسّرة لسلهم ، وأنفسهم : بالرفع جمع نفس فاعل نجت . و « من قبضتي » : متعلق بنجت . وفي البيت الجناس المحرّف بين أنفسهم وأنفسهم ، وقوله مستخبرا أنفسهم
« 108 »
 
ليدل بالطريق الأولى على أنه إذا كان أنفسهم وأغلاهم قيمة ما نجا فكيف بمن دونه وباللّه المعونة .
 
[ المعنى ]
( ن ) : الضمير المستكن في قوله سلهم راجع إلى قوله خلي أي يا خلي في البيت السابق وضمير الهاء المنصوب راجع إلى من في الحيّ . وقوله قبضتي أي قبضة السعادة وقبضة الشقاوة كما قال تعالى : فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [ الشّورى : الآية 7 ] اهـ .
 
83 - فالقضا ما بين سخطي والرّضا *** من له أقص قضى أو أدن حيّ
 
مقرّر أيضا لما قبله . والقضا يشمل ما كان قضاء بالخير وما كان قضاء بالشّرّ ، ولذلك قال « ما بين سخطي والرضا » وما : زائدة أي القضاء بالخير في رضاي وبغيره في سخطي . ثم قرّر رضي اللّه عنه أن الموت في بعدها والحياة في قربها بقوله : «من له أقص قضى أو أدن حيّ».
 
الإعراب :
الفاء : للتفريع ، والقضا : مبتدأ . وما : زائدة . وبين سخطي والرضا : الظرف متعلق بمحذوف هو خبر المبتدأ . ومن : شرطية . وله : متعلق بأقص . وأقص : فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف الياء وهو من الإقصاء بالصاد المهملة ، أي الإبعاد . وقضى : بالضاد المعجمة : مات ، وهو جواب الشرط . وقوله أو أدن من الإدناء أي التقريب وهو فعل الشرط بمقتضى العطف ، أي ومن له أدن . وحيّ : مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي ومن أدن فهو حيّ ، والجملة جواب الشرط في موضع جزم . وفي البيت الطّباق بين السخط والرضا ، والطّباق بين الإقصاء والإدناء ، وكذا الطّباق بين الموت المفهوم من قضى وحيّ المذكور صريحا .
 
[ المعنى ]
( ن ) : والمعنى أن كل من أبعدته عن شهود حضرتي في التجلّي بأسمائي فقد أقصيته فإنه يموت ويهلك من حيث إنسانيته وروحانيته وكل من أدنيته مني بشهود حضرات أسمائي فهو حيّ بي وبتجلّي حياتي الأزلية الأبدية عليه قال اللّه تعالى : أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [ الأنعام : الآية 122 ] اهـ .
 
84 - خاطب الخطب الدّعوى فما *** بالرّقى ترقى إلى وصل رقيّ
 
[ الاعراب ]
« خاطب » : اسم فاعل بمعنى طالب . و « الخطب » بفتح الخاء وسكون الطاء الأمر العظيم والأمر الصغير ، لكن المراد هنا الأول أخذا من قرينة المقام . و « دع » فعل أمر
 
« 109 »
 
من يدع بمعنى يترك ، وماضيه الذي هو ودع أماتوه فلا ينطقون به إلا شذوذا .
و « الدعوى » في اللغة مصدر دعا أو رغب إلى اللّه تعالى ، وفي اصطلاح القوم الدعوى عبارة أن يظهر الإنسان من نفسه أنه عامر الذات بالأدوات وهي مذمومة فيما بينهم والمراد هنا الدعوى الاصطلاحية . وقوله « فما بالرّقى ترقى إلى وصل رقيّ » : تقرير لقوله : دع الدعوى . والرّقى جمع رقية بضم الراء وسكون القاف وهي ما يرقى به الملسوع من نحو الفاتحة . و « ترقى » : أي تعلو وترتفع . و « رقيّ » مرخّم رقية على غير قياس ، واستعمال مثله في النظم سائغ والمراد بها مطلق الحبيبة كقولهم : لكل يوسف يعقوب ، ولكل فرعون موسى ، أي لكل حبيب محبّ ، ولكل مبطل محقّ .
 
والمعنى :
يا طالب الأمر العظيم والخطب الجسيم من التقريب إلى وصل الحبيب لست تنال ذلك بالدعوى من غير تحمّل المشقّة والبلوى فاصبر على ما تلاقي لتحظى بالتّلاقي . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين خاطب وخطب ، وكذا بين دع والدعوى ، وكذا بين ترقى والرقيّ ورقى .
 
( ن ) : قوله خاطب الخطب : أي طالب الأمر العظيم . قال تعالى : عَمَّ يَتَساءَلُونَ ( 1 ) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( 2 ) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ( 3 ) [ النبأ : الآيات 1 - 3 ] فسمّاه نبأ ، أي خبرا عظيما لاتّصافه بالعظمة ولهذا لا يدرك كما قال : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [ الأنعام : الآية 103 ] الآية ، وقوله : اترك الدعوى ، أي دعوى الحول والقوة ، قال تعالى : أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [ البقرة : الآية 165 ] ، بل دعوى الوجود لأنه للحق تعالى وحده كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : الآية 88 ] ، كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ( 26 ) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [ الرحمن : الآيتان 26 ، 27 ] .
فلام الدعوى لام العهد الذّهني ، وقوله : ما بالرّقى ترقى الخ . . . أي ليس بمجرد تلاوة الأوراد والمداومة على الأذكار فقط من غير تنبّه لشهود تجليات الحق تعالى ترتفع من حضيض نفسك وطبعك إلى أوج وصل المحبوبة المطلقة الجمال والحضرة العليّة المتّصفة بالكمال التي كنّى عنها برقيّ على الاكتفاء وأصله رقية.اهـ.
 
85 - رح معافى واغتنم نصحي وإن *** شئت أن تهوى فللبلوى تهيّ
 
[ الاعراب ]
« رح » بمعنى اذهب من راح بمعنى سار وذهب لا بقيد كونه في الرّواح . وقوله « معافى » : اسم مفعول من عافاه اللّه تعالى ، أي جعله صاحب عافية . واغتنم من الغنيمة . والنّصح من النصيحة . وما ألطف قوله « فللبلوى تهيّ » فإنه يشير إلى أن المحبة هي البلوى ، وأن من تهيّأ لأن يهوى وجب أن يتهيّأ للبلوى . و « تهيّ » : أصله
« 110 »
 
تهيّأ بالهمز على وزن تقدّم لكن حذفوا الهمزة اعتباطا لمجرّد التخفيف أو أنهم قلبوا الهمزة ياء فاجتمع ثلاث ياءات فحذفوا الواحدة تخفيفا . وقال رضي اللّه عنه :
نصحتك علما بالهوى والذي أرى * مخالفتي فاختر لنفسك ما يحلو
وقال رضي اللّه عنه :
يا ساكن القلب لا تنظر إلى سكني * واربح فؤادك واحذر فتنة الدّعج
 
( ن ) : يعني أن هذا الأمر الذي تحاوله أمر صعب فإن لازمه المحبة فإنها الوسيلة إلى المعرفة الإلهية الذوقية فإن شئت أن تدخل في هذه المعرفة الذوقيّة المذكورة فتهيّأ للابتلاء وهو الامتحان من اللّه تعالى في أيّ نوع يريد كما قال : وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً [ الأنفال : الآية 17 ] أي لا بلاء قبيحا لأنّ البلاء الحسن كالبلاء في البدن أو العرض بالتهمة والإنكار والافتراء والبغي ونحو ذلك .
والابتلاء القبيح كالبلاء بالجهل والكفر والضلال والفسق ونحو ذلك . اهـ .
 
86 - وبسقم همت بالأجفان أن *** زانها وصفا بزين وبزيّ
 
السقم : المرض ، وهو على وزن فعل . و « همت » : أي أحببت ، قال في القاموس : هام يهيم هيما وهيمانا : أحبّ . والأجفان جمع جفن : وهو غطاء العين وهو مفتوح الجيم وإن كسر الجفن فهو مقبول أيضا . و « أن » بفتح الهمزة : هي أن المصدرية . و « زانها » : جمّلها . والزّين ضدّ الشّين . والزيّ بالكسر : الهيئة .
 
الإعراب :
وبسقم : متعلق بهمت . وبالأجفان : صفة سقم ، أي همت بسقم كائن بالأجفان . وأن : مصدرية وقبلها لام جرّ مقدّرة ، أي لأن زانها أي لأجل ذلك ، والضمير الفاعل في زانها راجع إلى السقم ، والهاء : مفعول وهو عائد إلى الأجفان .
وقوله وصفا : منصوب على التمييز ، أي زان السقم الأجفان من جهة الوصف ، وقد يكون الأصل لأن زان وصفها . وقوله بزين متعلق بزانها . وبزيّ : معطوف على زين ، أي زان السقم ، وصف الأجفان بالحسن والهيئة اللطيفة فإن السقم في العينين محمود وكثيرا ما يمدح الشعراء العيون المراض التي لا تطيق الحركة والانتهاض
فمن ذلك قول القاضي السعيد ابن سنا الملك :
أشبهت جسمي نحولا * فهل تعشقت حسنك
وكان جفنك مضنى * فصرت كلّك جفنك
وزادك السقم حسنا * واللّه إنك إنك
 
« 111 »
وقال الشيخ في تائيته الصغرى :
وانحلق سقم له بجفونكم * غرام التياعي في الفؤاد وحرقتي
وفي البيت الجناس الناقص بين زين وزيّ . ويروى البيت على غير هذا الأسلوب وليس مرضيّا .
 
( ن ) : كنّى بالأجفان عن صور الأكوان التي هي حجب على العين الإلهية وضعف الأجفان مقبول لأنه نوع من المحاسن . قال اللّه تعالى : الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [ الرّوم : الآية 54 ] الآية ، ولا أضعف من العارف باللّه تعالى لتحقّقه في نفسه بلا حول ولا قوة إلا باللّه العليّ العظيم . وبزيّ في آخر البيت بفتح الزاي وأصله زيء بالهمز فحذف تخفيفا وهو مصدر زأى كسعى تكبّر ، يعني أن السقم زان الأجفان بالحسن وبالتكبّر ، أي الامتناع عن العشّاق وهو نوع من الملاحة . اهـ .
 
87 - كم قتيل من قبيل ما له *** قود في حبّنا من كلّ حيّ
 
« كم » : تكثيرية . والقتيل : فعيل بمعنى مفعول يستوي في المذكّر والمؤنث .
والقبيل : الزوج والجماعة من الثلاثة فصاعدا من أقوام شتّى ، وربما كانوا بني أب واحد . والقود محرّكة : القصاص . وقوله « في حبّنا » يجوز أن يتعلق بقوله ما له قود وبقوله « من كل حيّ » .
 
الإعراب :
كم : مبتدأ . وقتيل بالجر : مضاف إليه أو مجرور بمن مقدّرة . وجملة ما له قود : جملة اسمية في محل رفع على أنها خبر المبتدأ . وفي البيت الجناس المصحّف بين قتيل وقبيل ، وبين الحبّ والحيّ .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يعني كم لذلك السقم الذي في الأجفان من قتيل موصوف بأنه من جماعات متفرّقين من أنواع الناس . وقوله ما له قود في حبّنا : هو كلام على لسان المحبوبة التي في أجفانها السّقم . وقوله من كل حيّ : هو تأكيد لمعنى القبيل لأنّ من أهل اللّه تعالى المحبّين من هو من العرب ومن هو من العجم ومن الفرس ومن الهند ومن الروم وغيرهم . اهـ .
 
88 - باب وصلي السّام من سبل الضّنا *** منه لي ما دمت حيّا لم تبيّ
 
[ المعنى ]
« السام » بالسين المهملة جمع سامة وهي الموت . والسبل جمع سبيل : وهو الطريق . و « الضنا » : المرض . وقوله « لم تبيّ » مأخوذ من بوّأه فاعل بحذف الهمزة
 
« 112 »
 
وقلب الواو المشددة ياء كذلك ومعناه ما دمت حيّا ولم تمت لم تبوّأ بداري لأنك لم تأت البيوت من أبوابها ، كذا رأيته منقولا على حواشي بعض النسخ القديمة .
 
الإعراب :
باب : مبتدأ مضاف إلى وصل . والسام « 1 » : مرفوع على أنه خبر .
وقوله من سبل الضنا : متعلق بمحذوف . وقوله لم تبيّ على حذف إحدى التاءين ، أي لم تتبيّ فيصير التقدير ما دمت حيّا غير ميت لم تتبوّأ دارا حال كونك وأصلا من ذلك الباب إليّ ، فاللام بمعنى إلى . وفي البيت المناسبة بذكر الباب والطريق والمقابلة بين الموت والحياة هذا غاية ما أمكن بيانه في البيت .
 
( ن ) : يعني أن الباب الذي يتوصّل منه إلى وصالي والقرب إليّ هو الموت في محبّتي عن شواغل النفس والخروج عن حكم الطبيعة بمخالفة النفس والهوى وهذا تكلم على لسان المحبوبة أيضا كما ذكرنا . وقوله لم تبيّ في آخر البيت بفتح التاء وفتح الباء وتشديد الياء ساكنة هي من تبا يتبو كدعا غنم ، أي ما دمت حيّا لم تغنم لي ، أي لا أكون غنيمتك . اهـ .
 
89 - فإن استغنيت عن عزّ البقا *** فإلى وصلي ببذل النّفس حيّ
 
اللغة ظاهرة إلا أن « حيّ » في آخر البيت بمعنى أقبل كقولك في الأذان : حيّ على الفلاح ، أي أقبل أيّها المؤمن على فلاحك .
 
الإعراب :
الفاء استئنافية ، وإن بالكسر : شرطية . واستغنيت : أي صرت غنيّا فعل الشرط . وعن عزّ البقا : متعلق باستغنيت . وإلى وصلي : متعلق بحيّ . وكذا قوله ببذل النفس : متعلق بحيّ ، وجملة قوله : فإلى وصلي ببذل النفس حيّ : جواب الشرط إذ المعنى فأقبل إلى وصلي ببذل نفسك وإلا فمتى ما دمت باقيا على الرغبة في الحياة ولم تزهد في الوجود فلا تقبل إليّ راغبا في وصلي فإنك لا تناله ولقد أحسن حيث قال :
وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن * وها أنت حيّ إن تكن صادقا مت
ولقد أحسن الشيخ السهروردي حيث قال في المعنى :
الشرط بذل النفس أوّل وهلة * لا يطمعن ببقائها الأشباح
..........................................................................................
( 1 ) قوله السام هو في البيت مخفف المشدد للضرورة . اهـ .
 
« 113 »
[ المعنى ]
( ن ) : أي إن وجدت الغنى بما خلقه لك الحق تعالى من الجوارح والأعضاء والحواس والعقل والفكر والخيال وبقية الأحوال عن عزّ البقاء أي عن العزيز الذي له البقاء والدوام ولك الفناء والزوال ، وهذا الاستغناء مجرّد توهّم منك إذ لا غنى لك عنه فأقبل عاجلا إلى وصلي بخروجك عن نفسك في سبيل مرضاتي لأمتّعك بنعيم جنّاتي . اهـ .
 
90 - قلت روحي إن تريّ بسطك *** في قبضها عشت فرأيي أن تريّ
 
« قلت » : جواب لقولها من ابتداء قوله لست أنسى بالثنايا قولها إلى آخر قوله فإن استغنيت عن عزّ البقاء ، أي لمّا سمعت ما قالته من المقالات التي حاصلها أن الوصال لا يحصل إلا بمفارقة هذا الوجود قلت لها في الجواب إن كان بسطك في قبض روحي فإن رأيي وما أراه صوابا أنك ترين قبضتها ليكون القبض سببا للبسط بالوصال .
 
الإعراب :
روحي : مبتدأ . « 1 » والياء في قوله تري للمخاطبة المؤنّثة فاعله .
وبسطك بالنصب : مفعوله . وفي قبضتها : متعلق بتري . وقوله عشت : جواب الشرط في موضع جزم إن كان بضم التاء . ويكون قوله فرأيي أن تريّ : جملة مستأنفة مقرّرة أن رأيه رأيها ، ومطلوبه مطلوبها ويجوز وجه ظريف لطيف وهو أن يقرأ عشت بكسر التاء خطابا للمحبوبة على أنها جملة دعائية ، ويكون قوله فرأيي أن تريّ جواب الشرط على أن رأيي مبتدأ وأن مصدرية ناصبة لتريّ بحذف النون ، أي إن رأيت بسطك في قبض روحي فرأيي رأيك في قبضها فعشت أنت ودام لك البقاء . وعندي أن هذا الوجه هو الوجيه بغير تمويه . وفي البيت إيهام الطّباق بين البسط والقبض ، وجناس الاشتقاق بين رأيي وأن تريّ .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يعني قلت للمحبوبة في جواب قولها ذلك إن كان رضاك في قبض روحي فقد عشت أي صرت حيّا بالحياة الحقيقية الأزلية وزال عني حكم الحياة المجازية الفانية ، فرأيي أنك ترتضين بذلك . اهـ .
 
91 - أيّ تعذيب سوى البعد لنا *** منك عذب حبّذا ما بعد أيّ
 
[ الاعراب ]
« أي » : مبتدأ مضاف إلى تعذيب . و « سوى » : صفة تعذيب . و « البعد » : مضاف إليه . و « لنا » : متعلق بتعذيب . و « منك » : متعلق بمحذوف على أنه صفة تعذيب .
و « عذب » : مرفوع خبر المبتدأ . و « حبّذا » : خبر مقدّم . و « ما » : مبتدأ مؤخر أي ما بعد
..........................................................................................
( 1 ) قوله : روحي مبتدأ أي والخبر جملة الشرط . اهـ .

« 114 »
أي وهو التعذيب ما أحسنه . واختلف الناس في حبذا زيد ، فالصحيح أن حب فعل ماض ، وذا فاعله وما بعده مبتدأ والجملة التي قبله خبر هذا قول سيبويه . ولزم ذا حب وجرى كالمثل بدليل قولهم في المؤنث حبّذا لا حبّذه . قال ابن مالك في ألفيّته مشيرا إلى ذلك :
وأول ذا المخصوص أيّا كان لا * تعدل بذا فهو يضاهي المثلا
 
المعنى :
كل تعذيب صدر منك لنا فهو عذب سوى البعد فإنه ليس بعذب ولا مقبول ، واستأنف مدحا للتعذيب الصادر من الحبيب بقوله : حبّذا ما بعد أي وما بعد أي هو التعذيب . والمراد بأي في آخر البيت لفظها . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين تعذيب وعذب ، والجناس المحرّف بين بعد بضم الباء وبعد بفتحها ، وفيه ردّ العجز على الصدر في أي .
( ن ) : يعني أن كل أنواع العذاب حلوة لديه إلا عذاب البعد عن شهود المحبوبة فهو عذاب الكافرين كما قال تعالى في حقهم : إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [ المطفّفين : الآية 15 ].اهـ .
 
92 - إن تشيّ راضية قتلي جوى *** في الهوى حسبي افتخارا أن تشيّ
 
« إن » : مكسورة الهمزة هي الشرطية . و « تشي » : مهموزة ، والهمز في لام الكلمة ، وخفّفت بقلبها ياء والموجودة ياء المؤنثة المخاطبة ( ن ) وحذفت النون للجازم وأصله تشائين . اهـ . والجوى : هوى باطن ، والحزن وشدة الوجد وتطاول المرض .
و « حسبي » : كفايتي . و « أن تشيّ » أن المفتوحة المصدرية .
 
الإعراب :
إن : شرطية . وتشي : فعل الشرط مجزوم بحذف النون ، والياء فاعل .
وراضية بالنصب : حال من الياء . وقتلي : مفعول تنازع فيه تشي وراضية ، أي إن تشي قتلي راضية . قتلي وجوى : منصوب على التمييز أو على أنه مفعول لأجله . وفي الهوى : متعلق بقتلي .
وحسبي : مبتدأ وأصله فحسبي على أن تكون الفاء رابطة للجواب بالشرط .
وافتخارا : تمييز أيضا . وأن تشي : مسبوك بالمصدر على أن المصدر خبر حسبي أي كفايتي من جهة الافتخار مشيئتك قتلي ، والجملة في موضع جزم على أنها جواب الشرط .
 
والمعنى :
إن شئت قتلي وأنت راضية بذلك لأجل ما عندي من الجوى فذلك كاف لي في الافتخار . ولا يخفى ما في البيت بين إن تشي وأن تشيّ من التقارب والتجانس مع التحريف .
 

« 115 »
93 - ما رأت مثلك عيني حسنا *** وكمثلي بك صبّا لم تريّ
 
[ الاعراب ]
« مثلك : منصوب على المفعولية ، والكاف مضاف إليه مكسورة لخطاب المؤنث . و « عيني » : فاعل . و « حسنا » : مفعول ثان إن كانت رأت بمعنى علمت ، أو حال إن كانت بصرية ، وصاحب الحال مثلك ، والمراد نفي رؤية الحسن المماثل لا نفي رؤية الحسن مطلقا لما يشهد له توجيه النفي إلى العين . وقوله : « وكمثلي بك صبّا لم تريّ » على نمط المصراع الأول ، فالكاف في كمثلي زائدة أو غير زائدة ، والمراد نفي المثل بنفي مثل المثل على سبيل الكناية على ما حقّق في الكلام على قوله تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ الشّورى : الآية 11 ] ،
ومثلي : مفعول أول على الأول . والكاف على الثاني . و « صبّا » : مفعول ثان إن كانت علمية أو حال إن كانت بصرية . و « بك » : متعلق بصبا ، والصب : صفة مشبهة . وقوله « لم تريّ » : جازم ومجزوم والعلامة حذف نون الإعراب من المفردة المؤنثة المخاطبة ، والياء فاعل .
 
والمعنى :
أنا ما شاهدت باصرتي أو بصيرتي مثلك حسنا ، أي شخصا حسنا مشابها لك في الحسن ، وكذلك أنت ما رأت باصرتك أو بصيرتك مثلي صبّا بك عاشقا لك ، فكما أنك فريدة في الحسن فأنا فريد في المحبة .
قال رضي اللّه عنه في التائية الصغرى :
فلم أر مثلي عاشقا ذا صبابة * ولا مثلها معشوقة ذات بهجة
 
( ن ) : الخطاب للمحبوبة وهي الحضرة الإلهية من حيث ظهور الأكوان عنها وهي حضرة الأسماء والصفات لا من حيث الذات التي هي الغيب المطلق ، فإنه لا شيء بالنسبة إليها ، وقوله لم تري مثلي الخ . . . لأنها لم تتجلّ على شيئين بتجلّ واحد ، فلا شيء يشبه شيئا وإن تشابهت الأشياء في نظر المخلوقين فهي غير متشابهة في نظر الخالق . اه .
 
94 - نسب أقرب في شرع الهوى *** بيننا من نسب من أبويّ
 
[ الاعراب ]
« نسب » : مبتدأ . و « بيننا » : صفته ، أي نسب كائن بيننا . و « أقرب » : خبره . و « في شرع الهوى » : متعلق بأقرب . و « من أبويّ » : صفة لنسب ، أي أقرب من نسب كائن من أبوي ، وأبوي : مثنى مضاف إلى ياء المتكلم ، والنون محذوفة للإضافة .
 
والمعنى :
النسب الكائن بيننا من جهة المحبة هو أقرب من النسب الكائن من أبي وأمي ، لكن أقربيته بشرع الهوى لا بغيره . وقد حكى سبط الشيخ رضي اللّه عنه أنه رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم في منامه فقال له الرسول صلى اللّه عليه وسلم : « يا عمر أنت منّا ، أنت منّا » وكرّر
 
« 116 »

ذلك فأشار إلى مقاله بقوله :
نسب أقرب في شرع الهوى ..   إلى آخر البيت .
قلت : ويجوز أن يكون قول النبي صلى اللّه عليه وسلم للشيخ : يا عمر أنت منّا ،
إشارة إلى كون الشيخ رضي اللّه عنه من قبيلة سعد وحليمة السعدية رضي اللّه تعالى عنها مرضعة النبي صلى اللّه عليه وسلم من قبيلة سعد أيضا كما هو معلوم في موضعه .
واعلم أن المبتدأ في البيت قد أخبر عنه قبل تمامه ، وذلك أن قوله نسب : مبتدأ ، وخبره أقرب .
وقوله بيننا : صفة نسب والموصوف لا يتم إلا بصفته .
وقد وقع مثل هذا في شعر المتنبي حيث قال :
وفاؤكما كالرّبع أشجاه طاسمه * بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
 
فإن قوله وفاؤكما : مبتدأ ، وخبره كالربع . وقوله بأن تسعدا : متعلق بوفاؤكما ، لأن المعنى وفاؤكما بأن تسعدا كالربع . وقد سأل الشيخ أبو الفتح بن جنّي أبا الطيب أحمد بن حسين المتنبي عن هذا التعلّق وعن إخباره عن المبتدأ قبل تمامه ، فأجابه عنه بشواهد أوردها من كلام العرب . والحقّ في الجواب أن ذلك لضرورة الشعر ، فإن الوزن يقتضي إيراد التركيب على هذا الأسلوب . وقد أخذ هذا المعنى صاحبنا العناياتي النابلسي أديب دمشق حيث
قال من قصيدة كتبها إليّ :
 
94 - نسب المحبة في بني *** الآداب أقرب من نسب
 
( ن ) : ما قاله عن نسب الهوى يعني أن نسب التقوى وكمال العبودية هو النسب الحقيقي يوم القيامة ، قال تعالى : فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ ( 101 ) [ المؤمنون : الآية 101 ] .
وقال صلى اللّه عليه وسلم إن اللّه تعالى يقول يوم القيامة : ( اليوم أرفع أنسابكم وأضع نسبي فأين المتقون ) . وقوله : من أبويّ تثنية أب تغليبا ، أي من أم وأب . وفيه ردّ على من اعتبره من أب كقول النصارى إن عيسى ابن اللّه ، فيقول المصنّف : إن نسب المحبة أقرب من هذا النسب ، لأن اللّه تعالى منزّه عن هذا النسب المجازي السببي . اهـ .
 
95- هكذا العشق رضيناه ومن *** يأتمر أن تأمري خير مريّ
 
[ الاعراب ]
الهاء : للتنبيه ، والكاف : للتشبيه ، وذا : للإشارة ، والمشار إليه جميع ما مضى في تضاعيف الأبيات السالفة من ابتداء حكاية أحواله في بوادي المحبة وليست مخصوصة بما قبلها من الأبيات القريبة لأن ذلك قصور في بيان معنى الأبيات . وجملة
 
« 117 »
 
« رضيناه » : مستأنفة لبيان رضاه بما تقتضيه أحكام المحبة الصادقة . ويصحّ أن يكون « العشق » مبتدأ ، وهكذا خبر ، ورضيناه خبر بعد خبر . وقوله و « من » : شرط .
و « يأتمر » : مجزوم فعله . و « أن تأمري » : بفتح همزة أن على أنها مصدرية ، أي ومن يمتثل أمرك لأن يأتمر بمعنى يقبل الأمر . وقوله « خير مريّ » : خبر مبتدأ محذوف ، أي فهو خير مريّ ، والجملة جزاء الشرط ، ومريّ تصغير مرء وذلك بقلب الهمزة ياء وإدغامها في ياء التصغير قبلها .
 
والمعنى :
العشق على هذه الصورة التي حكيناها فيما سلف من الأبيات ، ومن امتثل أمرك وعرف قدرك فهو خير إنسان لأنه يكون عبدا مطيعا خاضعا سميعا . ولا يخفى المجانسة بين يأتمر وتأمري ومريّ .
 
( ن ) : بعد أن بيّن واجبات المحبة والعشق ورضاه بها قال : ومن يمتثل أمرك فهو خير إنسان فذلك إشارة إلى أنه وإن تبع دين المحبة وسلك على حقائق الأمور ورضي ذلك كما قال فإنه لا يخالف الأمر الظاهر من أحكام الشريعة المحمدية فيمتثل الأمر ويجتنب النّهي . اهـ .
 
96 - ليت شعري هل كفى ما قد جرى *** مذ جرى ما قد كفى من مقلتيّ
 
[ الاعراب ]
« ليت » : حرف تمنّ . و « شعري » بمعنى شعوري ، والخبر محذوف ، أي ليت شعري حاصل بمعنى الاستفهام الحاصل من قوله « هل كفى » إلى آخر البيت وحيث وقعت هذه العبارة فإعرابها هكذا .
ومعنى « هل كفى ما قد جرى » : أي هل كفاك في باب الدمع الماء الذي جرى . و « جرى » الأول بمعنى صار ، والثانية بمعنى سال .
 
والمعنى :
ليتني أعلم هل أقنع المحبوبة ما قد صار لي من مشاقّ المحبة حيث جرى من دموع عيني ما قد كفى الناس لسقايتهم ومهماتهم المتعلقة بالمياه ، وذلك لأن جرى قد يستعمل بمعنى صار ، كقولك : وما الذي جرى على فلان من النكاية حتى إنه يصرّح بمثل هذه الشكاية . وتستعمل بمعنى سال . ولا يخفى عليك القلب في كلمات البيت حيث قال : هل كفى ما قد جرى مذ جرى ما قد كفى . وفي البيت القلب في الكلمات ، وفيه الجناس التام بين جرى وجرى . ومما ينتظم في هذا السلك قول القائل :
أما المنام فلست أعرف طعمه * ما حال طرف خانه طيب الكرى
وسألت دمعي أن يزيد فقال لي * يا ظالما أو ما كفى ما قد جرى
 
« 118 »
وقال الآخر :
نقل السحاب حكاية عن أدمعي * واللّه ما نقل الحديث كما جرى
وفي البيت لطف الانسجام الذي يأخذ بمجامع الأفهام ، وفي بعض النسخ من عبرتي مكان مقلتي .
 
97 - حاكيا عين وليّ إن علا خدّ *** روض تبك عن زهر تبيّ
 
[ الاعراب ]
اعلم أن « حاكيا » حال من فاعل جرى في البيت قبله . والوليّ : المطر الثاني الذي يلي الوسميّ ، وفاعل حاكيا يعود إليه . و « عين » : بالنصب مفعول اسم الفاعل .
و « إن » : شرطية . و « علا » : فعل الشرط ، وفاعل علا يعود للوليّ . و « خدّ » : مفعوله .
و « تبك » : جواب الشرط . و « عن زهر » : متعلق به . وقوله « تبيّ » أصله تبيي على وزن تفرح وهو بمعنى تضحك من قول العرب حيّاك اللّه وبيّاك بمعنى أضحكك فنقلوا حركة الياء وهي الفتحة إلى الباء الساكنة ، فلما سكنت الياء بعد نقل حركتها أدغمت في الياء بعدها فصارت تبيّ أي مشابها في دمعه من عينه عين المطر الثاني الذي يلي الأول وهو مطر موصوف بأنه إن وقع فوق خدّ الروض تبك عينه عن زهر يضحك ، فإن الزهر يضحك ببكاء المطر .
 
ولك أن تقول المراد بالوليّ هنا المحبّ وعينه تبكي لفراق حبيبه ففيه تورية ، والروض جمع روضة وهي مستنقع الماء ، وفي البيت التناسب بذكر العين والخدّ وإيهام التضادّ في ذكر البكاء والضحك ، وفيه التورية في العين والوليّ على ما شرحناه ، ولعلّ المراد بخدّ الروض ما علا في جانب الروضة لأن المكان الذي يستنقع فيه الماء منخفض ولا شك أن الماء يجري إليه من علو فذلك العلو بمنزلة الخدّ فيه ليستقر الماء في الروضة بعد أن يصافح أعلاها . وما ألطف قول أبي تمام :
وكانت لوعة ثم اطمأنت * كذاك لكل سائلة قرار
 
[ المعنى ]
 
( ن ) : يعني أن الدمع الذي تقدّم ذكره في البيت السابق هو مثل المطر الذي إن علا خدّ روض تبكي عينه فيضحك ذلك الروض عن زهر فتتفتح كمائمه وتتعطّر نسائمه . اهـ .
 
98 - قد برى أعظم شوق أعظمي *** وفني جسمي حاشى أصغريّ
 
برى العظم : نحته . و « أعظم شوق » : أجله ، واسم التفضيل مضاف إليه شوق .
وأعظم : جمع عظم . و « فني » كرضي ، وفني فناء بمعنى عدم ، وأفناه غيّره .
والجسم :
« 119 »
جماعة البدن .
و « حاشى » : فعل يستعمل للاستثناء ، أي عدم جسمي إلا أصغريّ وهما القلب واللسان . ومن ذلك قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : « المرء بأصغريه قلبه ولسانه » . ويروى هذا الكلام عن المعيدي ، وذلك أن المعيدي كان لصّا مفسدا في ولاية النعمان بن المنذر ملك الحيرة ، وكان الناس ينقلون عنه أخبارا عجيبة في باب التلصّص ، وكان النعمان يتمنى أن يراه ، فلما رآه استحقر صورته لأنه كان دميم الخلقة ، فقال : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ،
فقال المعيدي : أبيت اللّعن إن الرجال ليس بجزر تجزر، إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه ، فاستحسن منه ذلك.
وما ألطف قول الشيخ أبي الفتح البستي مشيرا إلى هذا المعنى :
أقبل على النفس واستكمل فضائلها * فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
 
الإعراب :
برى : فعل ماض وقد دخلت عليه لتحقيق حصول معناه . وأعظم :
أفعل تفضيل فاعل برى . وشوق : مضاف إليه . وأعظم : مفعول ، والياء مضاف إليه .
وفني جسمي : فعل وفاعل . وحاشى : فعل استثناء ، وفاعله مستتر وجوبا وهو عائد إلى البعض المفهوم من الجسم . وأصغري : مفعوله .
 
المعنى :
قد أذهب الشوق الأعظم ما في جسدي من الأعظم ، وعدم جسمي إلا قلبي ولسانه . ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم : « المرء بأصغريه قلبه ولسانه » . ويروى أن أيوب لمّا ابتلاه اللّه تعالى وأفنى جسمه وأعدم جميع جوارحه وجوانحه طلب منه أن يبقى له القلب محل اعتقاد صفاته تعالى ، واللسان محل الإقرار بوحدانيته تعالى .
ونقل المفسّرون عن لقمان أن سيده قال له اذبح لي شاة وائتني بأطيب ما فيها ، فذبحها وأتى له بالقلب واللسان ، فقال له اذبح أخرى وائتني بأخبث ما فيها ، فذبحها وأتى له بهما أيضا .
فقال له سيده : ما هذا ؟
فقال : هما أطيب ما في الجسد إن طابا ، وأخبث ما فيه إن فسدا .
وفي البيت الجناس المحرّف بين أعظم وأعظم ، وفيه الطّباق بين الأعظم والأصغر ، ثم إنه أشار إلى عدم فناء قلبه ولسانه بقوله : حاشى أصغريّ .
( ن ) : يشير بهذا البيت إلى اضمحلاله ظاهرا وباطنا في شوقه إلى المحبوبة وفي تجلّي وجه الحق له وانكشاف نور وجوده إلا قلبه ولسانه ، فقلبه لتلقّي المعارف الإلهية ، ولسانه لنشر العلوم الدينية . اهـ .
 
99 - شافعي التّوحيد في بقياهما *** كان عند الحبّ عن غير يديّ
 
[ الاعراب ]
« شافعي » : مبتدأ . و « التوحيد » : خبر . أو « التوحيد » : مبتدأ . و « شافعي » : خبر .
وإن قلنا بالأول فشافعي ليس بمعنى الحدوث ، بل بمعنى الثبوت . و « في بقياهما » :

يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 76 إلى 100 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 7:58 pm

شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 76 إلى 100 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الأولى سائق الأظعان الأبيات من 76 إلى 100 
« 120 »
متعلق بشافعي ، والضمير للقلب واللسان ، والضمير في كان يعود إلى الصّنع ، وهو صنع الشفاعة إذ لو عاد إلى الشفاعة لكانت مؤنثة . و « عند الحب » : خبر كان . و « عن غير يدي » : كذلك خبر بعد خبر .
والمعنى :
ما كان لي صنع في بقاء القلب واللسان ، ولو كان لي صنع لملت إلى عدمهما وفنائهما ، لكن التوحيد قد شفع عند الحب في بقياهما ، وكان ذلك عن غير يدي وبغير إرادتي ، وإنما كان الحبّ شافعا عنده لأنه الحاكم في فناء الجسم والمستولي على مملكة الجسد ، فهو الملك الذي له القدرة على ما يريد من إبقاء الجسد وإعدامه ، وإنما كان التوحيد شافعا لأنه مستقر في القلب وظاهر باللسان .
 
وإذا كان القلب مسكنه ، واللسان مورده فمن يريد بقاءهما غيره . والحب يجوز أن يقرأ بكسر الحاء على أنه بمعنى المحبوب ، وبضمّها على أنه بمعنى المحبة . وما ألطف قول ابن الخياط الدمشقي وقد وقع سكران على باب محبوبه ليلا وجاء المحبوب وفي يده شمعة فرأى رجلا واقعا على بابه ، مطروحا على أعتابه ، فأراد أن يعرف من الواقع فوقف على رأسه فسقط من الشمعة نقطة على وجه ابن الخياط فأفاق من حرارة النقطة وفتح عينه فرأى الحبيب واقفا على رأسه مستخبرا حقيقة حاله بضوء نيرانه فقال :
يا محرّقا بالنار وجه محبّه * مهلا فإن مدامعي تطفيه
أحرق بها جسدي وكل جوارحي * واحرص على قلبي لأنك فيه
 
وفي البيت شبه الطّباق بين شافعي والتوحيد باعتبار الشفع الذي هو الزوج والتوحيد الذي هو خلافه وفي مقابلته.
 
( ن ) : يعني أن اعتقاده بوحدانية اللّه شفع به عند المحبوب في عدم فناء قلبه ولسانه على غير إرادة منه لأنه كان يريد فناءهما أيضا كفناء بقية جوارحه مع جملته غيرة منه على المحبوب أن يكون معه غيره ، وهذا البقاء إنما هو بقاء المحبوب لا معه ، وإذا كان بالمحبوب فلا يقتضي نقصان توحيده لأنه بالتّبعيّة له لا بالاستقلال وهو بقاء اعتباري والأمور الاعتبارية لا تغيّر الحقائق عمّا هي عليه . اهـ .
 
100 - وتلا فيك كبرئي دونه سلوتي *** عنك وحظّي منك عيّ
 
التلافي بالفاء : التدارك . والبرء : الشفاء . والسلوة : نسيان المحبة . والحظ :
البخت والجد والنصيب مطلقا بشرط أن يكون من الخير . والعيّ بالعين المهملة : عدم الاهتداء لوجه المراد .
 
« 121 »
الإعراب :
تلافيك : مبتدأ . وكبرئي : خبر . ودونه : خبر مقدّم . وسلوتي : مبتدأ مؤخر . وعنك : متعلق بسلوتي . وحظي : مبتدأ . ومنك : متعلق به . وعيّ : خبره .
 
والمعنى :
تداركك بإرجاعك لي مقام الاقتراب وإنزالك إيّاي في منازل الأحباب كبرئي من سقام المحبة . والبرء من هذا المرض محال في دعواه ، فكذا المعلّق عليه والمشبه به وبين أن البرء من حيّز عدم الإمكان بقوله دونه سلوتي عنك ، أي لا يمكن الوصول إلى البرء إلا بعد حصول سلوته عن محبتها ، وبيّن أن حظّه منها ونصيبه مقام الحيرة وعدم الاهتداء لوجه مراده . ويجوز أن يكون العيّ بمعنى التعب فيصير المعنى وحظي منك تعب ، وما ألطف هذا المسلك وهذه العقيلة التي لا تملك كيف يتلاعب بالمعاني الحسنة والألفاظ العذبة المستحسنة .
وفيه إدماج حسن لطيف يظهر بالتأمّل للفكر الظريف ،
ولقد سلك هذا المسلك في التائية الصغرى حيث قال :
فلم ير طرفي بعدها ما يسرّني * فنومي كصبحي حيث كانت مسرّتي
 
( ن ) : الخطاب للمحبوبة يقول : إذا تداركتني قبل أن أهلك في محبتك كان ذلك بمنزلة شفائي من دائي ، والتدارك لا يكون إلا بالظهور له والانكشاف عليه ، وعند ذلك كان يبرأ من داء الهجر والإعراض عنه . ثم قال دون تلافيك في ذلك سلوتي عنك ، أي نسياني محبتك ، فالتلافي بتمام الظهور محال لعدم المناسبة بيني وبينك لأنك وجود ونور وحق ، وأنا عدم وظلمة وباطل ، والسلوى عنك محال لتمكّن محبتك في قلبي . وقوله وحظي منك عيّ : الواو للحال ، والعيّ التغب والمشقّة . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 101 إلى 125 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 7:59 pm

شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 101 إلى 125 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الأولى سائق الأظعان الأبيات من 101 إلى 125 
101 - ساعدي بالطّيف أن عزّت منى *** قصر عن نيلها في ساعديّ
 
[ الاعراب ]
« ساعدي » : أمر للمؤنثة المخاطبة ، والياء : فاعله . و « بالطيف » : متعلق بساعدي ، أي أسعفيني بمشاهدة طيفك . و « أن » : شرطية . و « عزّت » : فعل الشرط . 
و « منى » : فاعله وهي بضم الميم جمع منية وهي المطلوب الذي يتمنى ، وجواب الشرط محذوف ، أي إن عزّت مني فساعدي بالطيف فما قبل الشرط دليل على الجزاء .
وقوله « قصر » : مبتدأ وهو بكسر القاف وفتح الصاد . و « عن نيلها » : متعلق بقصر .
و « في ساعدي » : خبره ، وجوّز الابتداء بالنكرة تعلق الجار به ، وجملة قصر عن نيلها في ساعدي صفة منى ، والهاء في نيلها لها .
 
والمعنى :
إن عزّت المرادات التي أتمناها وقصرت عنها يدي ولم أستطع الوصول إليها فساعديني بخيال الطيف فإني أقنع به عن الوصال الحقيقي . وفي البيت الجناس التامّ المحرّف بين ساعدي وساعديّ . وما ألطف قول الشريف العلوي نقيب
« 122 »
 
الطالبيين بمصر حيث قال :
يا بانة الوادي التي سفكت دمي * بلحاظها بل يا فتاة الأجرع
لي أن أبثّ إليك ما ألقاه من * ألم النّوى وعليك أن لا تسمعي
كيف الوصول إلى تناول حاجة * قصرت يدي عنها كزند الأقطع
 
وقال الآخر وتلطّف :
أقول لها بخلت عليّ يقظى * فجودي في المنام لمستهام
فقالت لي وصرت تنام أيضا * وتطمع أن أزورك في المنام
 
( ن ) : طلبه من المحبوبة أي الحضرة الإلهية أن تسعفه بطيف الخيال الذي يكون في المنام هو من قبيل والناس جميعهم في منام في الحياة الدنيا . قال تعالى : وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ [ الروم : الآية 23 ] .
قال صلى اللّه عليه وسلم : « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » ، ولكن ليس كل أحد من الناس يعرف نفسه بأنه في منام ، وأن الذي يراه هو طيف خيال المحبوبة ما عدا العارفين باللّه تعالى المعرفة الذوقية الكشفية ، فإنهم يعرفون ذلك من أنفسهم ولهذا طلب المصنّف أن تساعده بشهود طيف خيالها في مقام الحياة الدنيا . وقوله إن عزّت مني ، فأن مفتوحة الهمزة أي لأن عزّت ، يعني إن قصرت يدي عن المرادات التي أتمناها من إدراك المحبوبة والكشف عنها على الوجه التام فساعديني بطيف الخيال ومشاهدته . اهـ .
 
102 - شام من سام بطرف ساهر *** طيفك الصّبح بألحاظ عميّ
 
[ الاعراب ]
« شام » : بالشين المعجمة نظر ، ولا يكون إلا في نظر البرق أو ما أشبهه .
و « سام » الثاني بسين مهملة بمعنى طلب . وقوله « بطرف » : متعلق به . و « طيفك » :
منصوب على أنه مفعول سام الثاني . و « الصبح » : بالنصب مفعول شام الأول .
و « بألحاظ عميّ » : متعلق بشام ، وعميّ : تصغير أعمى .
 
والمعنى :
نظر الصبح بألحاظ رجل أعمى ، كل من طلب طيفك بطرف ساهر فكما أن طالب نظر الصبح بلحظ أعمى لا يحصل من مرامه على شيء كذلك من طلب أن يرى طيف خيالك بطرف ساهر فإنه لا يحصل من طلبه على شيء . وفي ضمن البيت أغراب لأنه جعل تفتيح العين في السهر سببا لعدم رؤية الطيف ، كما أن العمى الذي هو ضدّ فتح العين سبب لعدم رؤية الصبح فالسبب الذي اقتضى عدم الرؤية من شأنه أن يكون سببا لها ، فلذا كان مشبّها بعمى العين ووجه الشبه أن كلّا
 
« 123 »
 
منهما ينشأ عنه عدم الرؤية . وفي البيت أيضا من اللطف تشبيه وجهها بالصبح في قوله شام الصبح . وفي البيت التشبيه البليغ لأنه حكم أن الذي طلب طيف الحبيب بطرف ساهر هو الذي نظر الصبح بطرف رجل أعمى ، والحال أن مقتضى الظاهر أن يقال إن هذا مثل هذا فتأمّل هذا فإنه من نفائس المباحث .
ومثل هذا للشيخ جمال الدين بن نباتة المصري في قوله :
وأقسم لو جاد الخيال بزورة * لصادف باب الجفن بالفتح مقفلا
 
وفي البيت أيضا إدماج عدم النوم ودوام السهر إذ المراد من لفظة من هو نفسه .
وفي البيت جناس التصحيف بين شام وسام ، وبين طرف وطيف جناس لاحق . لكن في بيت ابن نباتة لطف ظاهر في ذكر الفتح والقفل وأن الفتح سبب للقفل .
 
( ن ) : المعنى أن الذي طلب أن يشاهد خيالك أيّتها المحبوبة بطرف ساهر ، أي غير نائم نوم التسليم لأمر اللّه تعالى فقد نظر الصبح بعيون أعمى فلا يرى صبح الظهور ولا يفرّق بين الظلمة والنور . اهـ .
 
103 - لو طويتم نصح جار لم يكن *** فيه يوما يأل طيّا يال طيّ
 
[ الاعراب ]
« لو » : حرف يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه على ما حققه ابن هشام وإن كان جمهور المتقدمين عبّروا عن معناها بقولهم حرف امتناع لامتناع . و « طويتم » : فعل الشرط . وطيّ النصح عبارة عن عدم بيانه وإظهاره . والجار : قريب الدار ولو إلى أربعين دارا من كل جهة . « ولم يكن » : جزاء الشرط . وضمير يكن يعود للمتكلم على سبيل الالتفات من التكلّم إلى الغيبة وهو اسمها . و « يوما » : متعلق بيأل الذي بعده .
 
و « يأل » : مضارع بمعنى يقصر من الألو وهو التقصير وهو مرفوع غير أن الواو حذفت منه تخفيفا للوزن ودلّ عليها بالضمة على اللام وفاعله مستتر فيه يعود على ما عاد عليه ضمير يكن . و « طيّا » : تمييز أي لم يقصر من جهة الطيّ . وقوله يأل طي : منادى مضاف ، ينادي آل طيّ غير أن الهمزة محذوفة أو مسهّلة يقلبها حرف اللين وهو الألف .
 
والمعنى :
لو فرضنا أنكم طويتم نصح جاركم يا آل طيّ وفعلتم خلاف المعتاد منكم فإن عادتكم نشر النصح للجار لكن لو فعلتم خلاف معهودكم على سبيل الفرض لطاوعكم في ذلك وإن كان غير ممدوح ولم يكن مقصرا هو أيضا في طيّ الجار يا آل طيّ فإن من أحبّ قوما وجب عليه أن يتبعهم في أخلاقهم :
لو كان حبك صادقا لأطعته * إن المحبّ لمن يحب مطيع
 
 
« 124 »
 
وما ألطف قول القائل :
أحب اسمه من أجله وسميّه * ويتبعه في كل أخلاقه قلبي
ويجتاز بالقوم العدا فأحبهم * وكلهم طاوي الضمير على حربي
وفي البيت الجناس بين يأل طيّا ويأل وطيّ .
 
( ن ) : كنّى بالجار عن نفسه ونصحه هو التكلّم له بالمعارف الإلهية والحقائق الربانية تنشيطا لهمّته في دوام الطلب والخطاب لحضرة شيخه الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر محيي الدين بن العربي الحاتمي الطائي وكنّى عنه بآل طيّ تفخيما له وتعظيما لمقامه لأنه هو أول من بسط الكلام في الحقائق الإلهيات والمعارف الربّانيّات وصنّف الكتب الكثيرة في هذا الشأن تنشيطا وتسهيلا على أهل السلوك في طريق العرفان .
يقول ما طويتم أنتم نصح الجار لكم في السلوك ، يعني نصحه فتبعكم هو أيضا وما طوى نصح الجار لكم في السلوك لأنه مقتد بكم وأنتم شيوخه وأساتذته فلو طويتم أنتم نصحه لكان يفعل مثل ما تفعلون معه اهـ .
 
104 - فاجمعوا لي همما إن فرّق الدّهر***  شملي بالأولى بانوا قصيّ
 
[ الاعراب ]
اجمعوا الجماعة المخاطبين . و « لي » : متعلق به . و « همما » : مفعوله وهو جمع همّة وهي العزم بالشيء . وقوله « إن فرّق الدهر شملي » : شرط جزاؤه محذوف دلّ عليه ما قبله ، والمعنى إن فرّق الدهر شملي فاجمعوا لي همما . و « بالأولى » متعلق باجمعوا والأولى : اسم موصول بمعنى الذين . وجملة « بانوا » : صلته .
و « قصيّ » : منصوب على أنه نعت لظرف محذوف ، والتقدير بانوا مكانا قصيّا ، وتصغيره للضرورة ، وتسكينه لغة ربيعة .
 
والمعنى :
اجمعوا لي الهمم منكم بالقوم الذين بانوا وفارقوا وخلوا في مفارقتهم مكانا بعيدا قاصيا إن كان الدهر قد فرّق شملي بهم . وفي البيت الطّباق بين الجمع والتفريق .
( ن ) : الخطاب في البيت لآل طيىء بإرادة الواحد منهم على جهة التفخيم .
وأن بفتح الهمزة أي لأن فرّق الدهر شملي أي لأجل تفريقه شملي بالذين بانوا وهم الأحبة كناية عن حقائق الأسماء الإلهية الظاهرة بآثارها وهي الأكوان .
 
105 - ما بودّي آل ميّ كان بثّ *** الهوى إذ ذاك أودى ألميّ
 
« 125 »
« ما بودّي » : ما بمرادي ولا بقصدي يا آل ميّ . والآل : الأقارب ولا يستعمل إلا في الأشراف وذوي الخطر . و « ميّ » : ترخيم ميّة على خلاف القياس لأنه ليس منادى .
و « بثّ الهوى » : إظهار مصدر بثّ يبث بثّا . و « الهوى » : المحبة مقصور . و « إذ » تعليلية .
و « ذاك » : اسم إشارة عائد إلى بثّ الهوى . و « أودى » : خبره وهو اسم تفضيل من الودي على وزن فتى بمعنى الهلاك . و « ألميّ » : مثنى ألم مضاف إلى ياء المتكلم .
 
الإعراب :
ما : نافية . وبودّي : خبر لكان مقدّم . وآل مي : منادى مضاف حذف حرف ندائه . وكان : ناقصة . وبثّ الهوى : اسمها ، أي ما كان إظهار الهوى بمرادي يا آل ميّ لأن إظهاره أشدّ إهلاكا لي فإن ستره ألم وإظهاره ألم ، ولكن بثّه أضرّ من ستره وإن كان كلّ منهما مضرّا مؤلما .
 
والمعنى :
ما كان بثّ الهوى وإظهاره حاصلا عن إرادتي ولا عن قصدي يا آل ميّ . وبين آل ميّ وألمي الجناس الناقص ، وكذا بين ودّي وأودى مع تحريف مّا ، والثاء في بثّ مشددة ، فالثاء الأولى من المصراع الأول ، والثانية من المصراع الثاني ، وما ألطف قول أبي تميم معدّ بن المعز العلوي الفاطمي في معنى هذا البيت :
أما والذي لا يعلم الأمر غيره * ومن هو بالسرّ المكتم أعلم
لئن كان كتمان السرائر مؤلما * لإعلانها عندي أشدّ وآلم
وبي كل ما يصبي الحليم أقلّه * وإن كنت منه دائما أتكتّم
 
( ن ) : آل ميّ كناية عن أهل هذه المحبوبة الحقيقية وهم الأولياء الكاملون ، يقول إن إفشاء سرّ المحبة بشكوى الغرام وإيراد معاني حقائق المقام لم يكن بقصد مني ، وإنما ذلك من غلبة الحال وامتلاء القلوب بتجليات الغيوب . اهـ .
 
106 - سرّكم عندي ما أعلنه غير *** دمع عندميّ عن دميّ
 
هذا البيت متصل بالذي قبله بحسب المعنى لأنه لما ادّعى أنه لم يكن بثّ الهوى بمراده لأنه أشدّ إهلاكا عليه من ستره بيّن في هذا البيت أنه ما أعلن سرّهم عنده وكشفه إلا الدمع العندميّ .
« أعلنه » : أظهره . والعندمي بالعين المهملة والنون والدال المهملة والميم بعدها ياء النسب نسبة إلى العندم وهو نبت أحمر . و « عن » :
حرف جر . و « دميّ » : تصغير دم .
 
الإعراب :
سرّكم : مبتدأ . وعندي : حال منه . وما : نافية . وأعلنه : فعل ومفعول . وغير دمع : بالرفع فاعل أعلنه ، والاستثناء مفرّغ . وعندميّ : بالجر صفة

« 126 »
دمع . وعن دميّ : نعت ثان للدمع . والتقدير ما أظهره غير دمع عندميّ ناشىء عن دمي ، ولعل التصغير للتعظيم لأن المقام يناسبه . وفي البيت التجنيس بين عندميّ وعن دميّ ، والطّباق بين السرّ والإعلان المفهوم من أعلن .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يقول : يا آل ميّ سرّكم أي سرّ المحبة الحقيقية ما أظهره غير دمع أحمر صادر عن دمي كناية عن سيلان حقيقته عن عين الأمر الإلهي فكأن روحه دمع يسيل عن تلك العين الأمرية أحمر اللون ينتج السرور . اهـ .
 
107 - مظهر ما كنت أخفي من قديم  *** حديث صانه منّي طيّ
 
[ الاعراب ]
« مظهر » : يجوز فيه الجر على أنه صفة دمع ، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو مظهر ، والنصب على أنه حال من دمع لوصفه بعندميّ ، وفاعله ضمير مستتر فيه . و « ما » : اسم موصول في موضع نصب على أنه مفعول . و « كنت » أخفي :
صلة ما ، ومفعول أخفي هو العائد المحذوف . و « من » : بيانية ، والبيان مجرورها .
وجملة « صانه منّي طيّ » : في محل جر على أنه صفة حديث .
 
والمعنى :
أظهر ذلك الدمع الحب الذي كنت أخفيه من الحديث القديم الذي قد كان صانه مني طيّ في فؤادي ، ولكن الدمع من شأنه أن يظهر الأسرار الساكنة من القلب في القرار . ولقد أحسن العباس بن الأحنف ، وبهذه الأبيات قدّمه المأمون في الصلاة عليه مع وجود الكسائي والإمام أبي يوسف رحمهم اللّه تعالى فإنه قال : أفليس هو القائل كذا ؟ فقيل : نعم .
فقال : يستحق التقديم لذلك :
لا جزى اللّه دمع عيني خيرا * وجزى اللّه كل خير لساني
باح دمعي فليس يكتم سرّا * ورأيت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طيّ * فاستدلّوا عليه بالعنوان
 
وما ألطف قول من قال :
ومما شجاني أنها يوم ودّعت * تولّت ودمع العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظرة * إليّ التفاتا أسلمته المحاجر
وفي البيت الطّباق بين الإظهار والإخفاء ، وإيهام الطّباق بين القديم والحديث ، فإن المراد من الحديث الكلام لا مقابل القديم لكنه يوهمه ، وفيه المناسبة بين الصيانة والطيّ .
 
« 127 »
 
( ن ) : مظهر نعت لدمع في البيت قبله ، أي إن الدمع أظهر ما كنت أعلمه من الحديث القديم ، أي الكلام الربّاني المنزّل ، قال تعالى : وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ [ الشّعراء : الآية 5 ] . اهـ .
 
108 - عبرة فيض جفوني عبرة *** بي أن تجري أسعى واشييّ
 
العبرة بكسر العين : العجب . والفيض : كثرة الدمع حتى يسيل . والجفون جمع جفن ، وهو بالفتح ، وقد يكسر غطاء العين . والعبرة بفتح العين : الدمعة قبل أن تفيض ، وقد تطلق مطلقا وهو الكثير في كلام المولّدين . و « أن تجري » : ناصب ومنصوب ، و « أن » : هي المصدرية . و « أسعى » : اسم تفضيل من السعاية بالإنسان عند الحاكم وما أشبهه ، وهي المعدودة من الكبائر . وقوله « واشييّ » : مثنى مضاف إلى ياء المتكلم وحذفت نونه لذلك .
 
الإعراب :
عبرة : خبر مقدّم . وفيض جفوني : مبتدأ ومضاف إليه . وعبرة : حال من الجفون على التوسّع ، أو على ادّعاء أن الجفون نفسها فاضت فصارت دمعا على نحو قول القائل وأجاد :
وقائلة ما بال دمعك أسودا * وقد كان محمرّا وأنت نحيل
فقلت لها إن الدموع تجفّفت * وهذا سواد العين فهو يسيل
 
وبي : بتحريك الياء متعلق بأسعى ، إذ يقال سعى زيد بعمر . وأن تجري : مبتدأ .
وأسعى : خبره ، أي جريانها أشدّ . واشييّ : سعاية بي . وواشياه أحدهما الدمع والآخر الواشي بالمحبّ من ادّعاء المحبة ، وإنما كان جريان الدمع أشد سعاية من عدوّ المحبّ لكون الدمع صادقا في دلالته بخلاف الواشي من الناس فإنه قد يحمل كلامه على الغرض فلا يصدق بخلاف الدمع فإنه لا يحتمل التزوير .
وفي بعض النسخ بي إذ تجري فينطقون بإذ مكان إن وهو تحريف نشأ من فساد الرواية للزوم اللحن الفاحش عليه وهو تحرّك الياء في تجري بدون ناصب ، وحاشا مقام الشيخ رضي اللّه عنه من ذلك ، وما ألطف قول القائل :
يا واشيا حسنت فينا سعايته * نجيّ حذارك إنساني من الغرق
 
وفي البيت جناس التحريف بين عبرة وعبرة ، وفيه المناسبة بين الفيض والجري والسعاية والوشاية ، وحيث أشار الشيخ رضي اللّه عنه إلى الدمع فلا بأس بذكر أبيات في معناه ولكنها أرقّ من الدمع وألطف من صفاء الجمع ، فإني قد اخترتها من أبيات في المعنى ، وناهيك بلذّة البيت في المعنى ، فمن ذلك قول ابن الخيّاط الدمشقي
 
« 128 »
 
رحمه اللّه حيث أجاد فيما أفاد :
وكنت إذا ما اشتقت عوّلت في البكا * على لجّة إنسان عيني غريقها
فلم يبق من ذا الدّمع إلا نشيجه * ومن كبد المشتاق إلا خفوقها
فيا ليتني أبقى لي الدهر عبرة * فأقضي بها حقّ النّوى وأريقها
 
وللشيخ صلاح الدين الصفدي في ذلك :
أقول والدمع قد غاضت جواهره * ولم تلح في سما خدّي كواكبه
لو كان غيثا وجفن العين يسفحه * من بعد بعدك لا نجابت سحائبه
 
وما ألطف ما قيل في الاعتذار عن عدم الدمع :
قالوا أترقد إذ غبنا فقلت لهم * نعم وأشفق من دمعي على بصري
ما حقّ طرف هداني نحو حسنكم * أني أعذّبه بالدّمع والسّهر
 
وللأرّجاني في المعنى :
سأضمر في الأحشاء عنكم تحرّقا * وأظهر للواشين عنكم تجلّدا
وأمنع عيني اليوم أن تكثر البكا * لتسلم لي حتى أراكم بها غدا
 
وللحسن بن محمد البارع :
نشدتكما أن تمنحاني وقفة * أبلّ بها شوقا وأقضي بها نحبا
وأن لا تلوما في البكا لعلّه * يبلّ غليلا أو ينفّس لي كربا
 
وللمهيار الديلمي في بكاء المحبوب :
ظلّ من العيش نعمنا به * لكنه ظلّ من الصّبح زال
أبكي ويبكي غير أن الأسى * دموعه غير دموع الدلال
 
وللواو الدمشقي :
وليل طويل كان لمّا قرنته * برؤية من أهوى قصير الجوانب
كواكبه تبكي عليه كأنما * ثكلن الدّجى أو ذقن هجر الحبائب
وللتهامي وأجاد :
قرّح الدّمع خدّها فرأينا * قهوة شعشعت بماء قراح
 
« 129 »
ولتقيّ الدين بن السروجي :
سألتك وقفة قدر التشاكي * أبثّ إليك ما بي من هواك
ونظرة مشفق في حال صبّ * لرحمة حاله تبكي البواكي
وللشريف البياضي وأجاد :
لقد مدّ الفراق إلى جفوني * أكفّ الدمع فاستلبت رقادي
كأن العيس تشرب من دموعي * فتنبت أرضها شوك القتاد
وللأمير حسام الدين الحاجري :
روحي الفداء لغائب ودّعته * والطّرف يذري الدمع من آماقه
لو أنني أنصفته ووفّيته * بعهوده ما عشت بعد فراقه
 
[ المعنى ]
( ن ) : عبرة بالكسر : خبر مقدّم ، وفيض : مبتدأ مؤخر ، أي سيلان دموعي عبرة بفتح العين ، أي حزنا ، وهذا كناية عن ظهوره من عين الوجود بطريق الأمر الجاري كلمح بالبصر ، قال تعالى : وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( 50 ) [ القمر : الآية 50 ] ،
وقوله : أسعى واشييّ ، أسعى : أفعل تفضيل وأحد الواشيين الدمع والآخر الذي يسعى بين المحبّ والمحبوب بإيقاع العداوة وهو خاطر الأغيار . اهـ .
 
109 - كاد لولا أدمعي أستغفر اللّه *** يخفى حبّكم عن ملكيّ
 
[ الاعراب ]
« كاد » : من أفعال المقاربة ، ونفيها نفي وإثباتها إثبات على الصحيح ، وهي ترفع الاسم وتنصب الخبر . و « حبّكم » : اسمها . وجملة يخفى من الفعل والفاعل المستكن فيه في محل نصب خبرها . و « عن ملكيّ » بصيغة التثنية : ملك ، والمراد ملك اليمين وملك الشمال . وجملة لولا أدمعي وأستغفر اللّه جملتان معترضتان بين الفعل واسمه وخبره .
و « لولا » : حرف امتناع لوجود . و « أدمعي » : مبتدأ خبره محذوف وجوبا ، أي لولا أدمعي موجودة . وقوله « أستغفر اللّه » : جملة تفيد رجوعه عن ادّعائه خفاء حبّه عن ملكيه لولا الأدمع . وفي البيت محسّنان للمبالغة ؛
أحدهما : كاد على حدّ قوله تعالى : يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [ النّور : الآية 35 ] ،
والثاني : جملة أستغفر اللّه وفيه حذف ، أي أستغفر اللّه من هذه الدعوى ، فإن اللّه جلّ وعلا قد وكّل الملكين بأفعال العباد بكتابتها ظاهرة وباطنة فلا يخفى عليه من أفعالهم شيء قلّ أو جلّ ، ظهر أو بطن ، وجواب لولا محذوف ، أي لولا أدمعي موجودة لقرب خفاء حبّكم عن ملكيّ اللذّين قد وكّلا بضبط أعمالي وأنا أستغفر اللّه من ذلك .
 
« 130 »
[ المعنى ]
( ن ) : قال تعالى : وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( 27 ) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [ الأنبياء : الآيتان 27 ، 28 ] الآية . وقال تعالى : وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ( 10 ) كِراماً كاتِبِينَ ( 11 ) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ( 12 ) [ الانفطار : الآيات 10 - 12 ] ، فقد أخبر تعالى عنهم أنهم يعلمون ما يفعل العباد .
والمحبّة فعل القلب ، فلو كانوا لا يعلمونها وتخفى عنهم لخفي عليهم من أفعال العباد ولما صدق قوله تعالى : يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ( 12 ) [ الانفطار : الآية 12 ] ، ولهذا قال أستغفر اللّه ، أي من هذه المبالغة في الكتمان . اهـ .
 
110 - صارمي حبل وداد أحكمت *** باللّوى منه يد الإنصاف ليّ
 
[ الاعراب ]
الصارم : القاطع ، و « صارمي » جمع سلامة مذكر منادى مضاف إلى حبل حذف حرف ندائه وحذفت نون الجمع ، إذ أصله يا صارمين . و « حبل وداد » : الحبل مشبه به ، والمشبه الوداد فهو من إضافة المشبه به للمشبّه ، أي يا أحبائي الذين قطعوا ودادي الذي هو كالحبل في القوّة والمتانة . و « أحكمت » من إحكام الشيء ، أي تقويته .
و « باللّوى » : متعلق به . و « منه » كذلك . و « يد الإنصاف » : فاعل ومضاف إليه . و « ليّ » :
مفعوله ، وإنما وقف عليه بالسكون على لغة ربيعة . وجملة أحكمت باللّوى منه إلى آخره في محل جر على أنه صفة حبل .
 
والمعنى :
أيّها الأحبّة القاطعون ودادي المحكم المشبّه بالحبل الذي أحكمت يد الإنصاف ليّه ، أي فتله . وفي البيت المقابلة بين الصّرم والإحكام واللّيّ ، وفيه التجانس بين اللّوى واللّيّ . وفي البيت شمّة من قول الشاعر :
نقضوا العهود وحقّ ما يبنى على * رمل اللّوى بيد الهوى أن ينقضا
وقول الآخر :
ولم يبن على الرمل * فكيف انتقض العهد
وقول الآخر وهو من شواهد العربية :
كأن لم يكن بيني وبينكم هوى * ولم يك موصولا إلى حبلكم حبلي
 
( ن ) : الخطاب لأحبابه من العارفين ورفقائه في سلوك طريق اللّه تعالى ووصف الوداد الذي بينه وبينهم بالارتباط في اللّوى وهو اسم مكان كناية عن مقام التجلّي الأمري الملتوي بتصاوير الكائنات . يقول : يا قاطعين حبل ودادي الذي أتقنت منه يد العدل منّي فتلا وليّا فصار محكما متقنا في المتانة والقوة . اهـ .
 
111 - أترى حلّ لكم حلّ أواخي *** روى ودّ أواخي منه عيّ
 
« 131 »
 
هذا جواب البيت الذي قبله لأن المعنى يا قاطعي حبل المودّة هل حلّ لكم حلّ عقود الودّ ؟ فالهمزة للاستفهام ، وترى بضم التاء على البناء للمجهول ونائب الفاعل شيء مأخوذ من معنى الجملة بعده ، أي أيظن حلّ حلّ عقود الوداد ؟ و « حلّ » : فعل ماض من الحلّ خلاف الحرمة ، والحلّ مصدر حلّ الشيء خلاف عقده . والأواخي جمع آخية ، وهي عود في حائط أو في جبل يدفن طرفاه في الأرض ويبرز طرفه كالحلقة يشدّ فيه الدّابّة . و « روى » : أي فتل من رويت الحبل ، أي فتلته . والودّ : المحبة .
و « أواخي » : فعل مضارع للمتكلّم من المؤاخاة وهي ملازمة الشيء واتخاذه ديدنا . و « عيّ » بالعين المهملة بمعنى التعب .
 
الإعراب :
الهمزة للاستفهام ، وترى بضم التاء مجهول ، بمعنى أتظن ، ونائب الفاعل حاصل الجملة بعده . ولكم : متعلق بحلّ . وحلّ بالرفع : فاعله . وفي حلّ أواخي روى ود تتابع إضافات ليست مخلّة هنا بالفصاحة لعدم ثقلها . وأواخي : فاعله ضمير مستتر للمتكلم . وعيّ : مفعوله . والوقف عليه لغة ربيعة . وفي البيت التجنيس في حلّ وحلّ ، وفي أواخي وأواخي ، وفي ترى وروى قرب يحسّن اللفظ ، أيضا والاستفهام للعتب والملاطفة
كقول القائل :
أيحلّ في شرع الغرام ودينه * أني ألام وملبسي ثوب الضّنا
 
[ المعنى ]
( ن ) : المعنى هل حلّ لكم يا أيّها الصّارمين لحبل ودادي أن تحلّوا حبال فتل الودّ ؟
 أي فتل حبال الودّ على القلب وجعلها حبّا لا لأنه يخاطب جمعا فكل واحد منهم له حبل ودّ مفتول قد حلّه هو . وأفرد الحبل في البيت قبله لأنه حبل ودّه الذي صرموه هم . 
ومن المعلوم أن نقض العهد وحلّ عقد الودّ من غير عذر حرام . وأما عذر القوم فمعروف ، وبالقبول موصوف لأن الاشتغال باللّه لم يترك لهم حسّا لسواه، ولا تذكّرا لمن عداه.اهـ.
 
112 - بعدي الدّاريّ والهجر عليّ *** جمعتم بعد داري هجرتيّ
 
[ الاعراب ]
علم أن بعدي ينبغي أن يضبط بلفظ المفرد مضافا إلى ياء المتكلّم محرّكة بالفتح .
و « الدّاريّ » بياء النسب : صفته . و « الهجر » يكون منصوبا على أنه معطوف على بعدي ، ويكون العامل فيهما جمعتم ، أي جمعتم على البعد الذي يتعلق بالدار .
والبعد المتعلق بالقلب وهو الهجر ، فكأنه قال : جمعتم عليّ بعدين ؛ أحدهما يتعلق بالدار فصرتم بعيدين عن داري وأبعدتموني عن قلبكم بهجركم فصار عليّ منكم بعدان مجتمعان ؛ أحدهما بعد الدار ، والثاني بعد الخاطر ، وبعض الناس يظن أن بعدي مثنى
 
« 132 »

 
وأن أصله بعديّ بتشديد الياء على أن ياء التثنية أدغمت في ياء المتكلم وحذفت من بينهما نون التثنية لكن خفّفت بحذف ياء واحدة من اللفظ للوزن ، وعلى كونه مفردا فالدال مكسورة ، وعلى كونه مثنى فالدال مفتوحة ، وعلى الثاني الداري بالنصب والهجر بدلان من بعدي .
 
والمعنى :
جمعتم عليّ بعدين ؛ البعد الداري ، والبعد القلبي بعد أن كنت معكم في داري هجرتي . والمراد بداري الهجرة المدينة ومكّة على سبيل التغليب ، لكن يجوز أن يكون أراد أنهما دارا هجرتيه هو بأن كان يهاجر من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى المدينة ، والحكم على الهجر بأنه بعد قد وقع في كلامهم ، بل هو عند بعضهم أشدّ وأصعب من هجر الدار . 
قال الأديب شرف الدين عنين الدمشقي :
حبيب نأى وهو القريب المصاقب * وسخط نوى لم تنض فيه الركائب
وإن حبيبا لا يرجى اقترابه * بعيد فناء والمدى متقارب
 
وفي المعنى أقول من قصيدة :
بعدت بعدا من الصّدود فلا * تقطعه يا فتى ولا عني

وبعضهم يرى أن بعد الدار أصعب من بعد الأحباب وعليه قول ابن الخياط :
كلني إلى عنف الصّدود فربما * كان الصدود من النّوى بي أرفقا
يا عمرو أيّ خطير خطب لم يكن * خطب الفراق أشدّ منه وأوبقا
 
وقال ابن عنين في المعنى أيضا :
عبء الصدود أخفّ من عبء النّوى * لو كان لي في الحبّ أن أتخيّرا
وفي البيت المجانسة بين الدّاريّ وداريّ ، وبين الهجر والهجرة ، وبين بعد وبعد ، والمصراع الأول آخره الياء الأولى في عليّ .
 
( ن ) : وصف البعد بالدّاريّ أي المنسوب إلى تميم الدّاري رضي اللّه عنه الذي اختطفته الجانّ في قصته المشهورة وهو بعد اختطافه من بين أهله ومعارفه من الناس بحيث لا يشعر بهم ولا بأحوالهم لغيبته عنهم الغيبة الكليّة ، يعني يا أيها الأحباب جمعتم عليّ بعدين ؛ بعد الاختطاف الذي اختطفت فيه عني وانفصلت مني ، وبعد الهجر وهو إعراضكم عنّي واشتغالكم بما ينسيكم إيّاي بالكليّة مع أن فنّكم فنّي ، والحاصل أن بعده عنهم بعد الاختطاف وبعدهم عنه بعد الاشتغال ، والأحبّة هم السبب عنده في حصول هذين البعدين . وكنّى بداري الهجرتين عن مثل الهجرتين
 
« 133 »
 
اللتين كانتا للصحابة ؛ الهجرة الأولى من مكة إلى بلاد الحبشة وهي الهجرة النفسانية خرج فيها من النفس التي هي القلب الذي هو بيت الربّ ، ولكنه في جاهليته مملوء بأصنام الأغيار إلى بلاد حبشة الأكوان المكدّرة بغيريّة الأطوار . ثم الهجرة الثانية وفيها النورانية المحمدية من النفس المطمئنة التي هي القلب أيضا إلى المدينة المحمدية والحضرة الأحمدية . اهـ .
 
113 - هجركم إن كان حتما قرّبوا *** منزلي فالبعد أسوا حالتيّ
 
[ الاعراب ]
« هجركم » : مبتدأ . و « إن » : شرطية . و « كان » فعل الشرط واسمها مستتر جوازا عائد إلى هجركم . و « حتما » : خبرها . و « قرّبوا » : جواب الشرط على حذف الفاء الرابطة لكونه أمرا ، أي فقرّبوا . و « منزلي » : مفعوله . وقوله « فالبعد » : مبتدأ . و « أسوا » :
خبره ، وأصله أسوأ بالهمز على وزن أفعل لأنه من السوء لكنه خفّف بقلب الهمزة ألفا ساكنة فإعرابه بعد القلب بضمة مقدّرة على الألف كفتى . و « حالتيّ » : مضاف إليه وهو مثنى حذفت نون التثنية منه وأدغمت ياء المثنى مع ياء المتكلم ، والمراد من حالتيه ؛ حالة البعد وحالة الهجر ، وهذا المعنى يصرّح بأن الهجر في القرب خير من البعد وهو موافق
لما أنشدناه في حلّ البيت قبل هذا :
على أن قرب الدار خير من البعد
 
وجملة الشرط مع جزائه خبر المبتدأ ، وجملة أسوا حالتي جملة مستأنفة مبيّنة لطلب قرب المنزل مع الهجر هربا من البعد لكنه أسوأ الحالتين ، ولكن في البيت لطافة تدرك بالذّوق السليم وهي قوله : هجركم إن كان حتما فإنه صريح في أنه لا يريد الهجر ولا البعد وأن كلّا منهما مكروه عنده ، لكن إن كان صدور الهجر أمرا محتوما به ولا محيد عنه فليكن مع القرب فإن قلب المحبّ لا يقدر على تحمّل الأمرين الأمّرين ، وليست هذه اللطافة في الشعر الذي رويناه في المعنى كما هو ظاهر فتأمّله يظهر لك إن شاء اللّه تعالى .
 
[ المعنى ]
( ن ) : الخطاب للأحباب يعني صدّكم وإعراضكم عنّي لاشتغالكم بربّكم مع احتياجي إليكم في وصول الإمداد الإلهي إلى قلبي ، وتقوية روحي ولبّي بالحكم الإلهية والنصائح العرفانية إن كان لا بدّ منه قرّبوا منزلي فإنه إذا شهد السالك حضرة الغيب المطلق في مظاهر تصاوير المشايخ سهّل عليه ما يصدر منهم من الهجر والإعراض ونسب التقريب إليهم باعتبار الظاهر بهم وهو الحق وهم الفانون فيه . 
وقوله فالبعد أسوأ حالتي ، أي لأن حالة البعد يغيب عنه محبوبه
 
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 101 إلى 125 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:00 pm

شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 101 إلى 125 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الأولى سائق الأظعان الأبيات من 101 إلى 125 
« 134 »
الحقيقي فيشتدّ عليه أمره وحالة الهجر لا يغيب عنه غير إقباله عليه فيسهل الأمر لديه . اه .
 
114 - يا ذوي العود ذوى عود *** ودا دي منكم بعد أن أينع ذيّ
 
« يا ذوي » : أي يا أصحاب . و « العود » بمعنى الإحسان العائد . و « ذوى » بمعنى ذبل ويبس وذهب رونقه . والعود : الغصن . والوداد : المحبة . و « أينع » خلاف ذوى .
و « ذيّ » : مصدر ذوى . والوقف عليه لغة ربيعة .
 
الإعراب :
يا : حرف نداء . وذوى : منادى مضاف منصوب بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم . وذوى : ماض وفاعله عود . وودادي : مضاف إليه . ومنكم :
متعلق بذوي وبعد كذلك . وإن أينع في تأويل المصدر مضاف إليه ، أي بعد إيناعه .
وذيّ : مصدر من ذوى يفيد التوكيد .
 
والمعنى :
يا أصحاب الإحسان والجميل قد ذبل غصن مودّتي بعد إيناعه وذلك استعارة ، إذ المراد قلّ الوداد بعد أن كان كثيرا ولكنه أبرزه في صورة لطيفة فقد جعل الجفاء بمنزلة زوال رطوبة الغصن وجعل الوفاء بمنزلة ارتواء الغصن من ماء الورد .
وفي البيت التجانس ين ذوي وذوى ، وبين العود والعود ، وفيه الطّباق بين ذوى وأينع لأنهما متقابلان .
عهدكم وهنا كبيت العنكبو ت وعهدي كقليب آد طيّ
 
[ الاعراب ]
« عهدكم » : مبتدأ . و « كبيت العنكبوت » : خبره . و « وهنا » : تمييز عن النسبة الواقعة بين المبتدأ والخبر ، أي عهدكم مشابه لبيت العنكبوت من جهة الوهن ، والوهن الضعف . و « عهدي » : مبتدأ . و « كقليب » : خبره . و « آد » : قوي واشتدّ . والقليب : البئر أو العادية القديمة . و « طيّ » : منصوب على أنه تمييز من آد ، أي كبئر اشتدت وقويت من جهة الطيّ ، أي التعمير .
 
والمعنى :
عهدكم ضعيف مثل بيت العنكبوت ، وأما أنا فإن عهدي كبئر عادية قوية .
قال ابن الوردي عمر رضي اللّه عنه :
محبتكم كالورد لونا وريحة * وعمّا قليل تنقضي مدّة الورد
وحبّي لكم كالآس في اللون والبقا * مقيم على الحالين في الحرّ والبرد
 
« 135 »
( ن ) : عهد الأحبة : أي ما يعهد منهم وهي صورهم الظاهرون بها في عالم الأكوان في تجلّي الرحمن فلا تمنع قوة البصائر من شهود الملك الحقّ عند ذوي العرفان . وقوله : وعهدي كقليب الخ . . . يعني أن ما يعهد الناس مني من صورتي الظاهرة والباطنة مثل البئر المعمورة التي اشتدّ وقوي بنيانها ، قال تعالى : وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [ الحج : الآية 45 ] ،
فقال بعضهم البئر المعطّلة قلب الكافر ، والقصر المشيد قلب المؤمن . وهنا البئر المعمورة والشديدة الطيّ القوية البنيان قلب السالك ينتفع به الوارد والصّادر بإدلاء دلو السؤال فيخرج منه الحكم النوادر . اهـ .


115 - يا أصيحابي تمادى بيننا *** ولبعد بيننا لم يقض طيّ
 
[ الاعراب ]
الأصيحاب تصغير أصحاب . و « تمادى » الأمر : تطاول . و « بيننا » : فاعله ، أي تطاول فراقنا . و « لبعد » : متعلق بيقض . و « بيننا » : ظرف متعلق بمحذوف على أنه نعت لبعد ، أي لبعد كائن بيننا . و « طيّ » : نائب فاعل يقض .
 
والمعنى :
يا أصيحابي القريبين مني فالتصغير للتحبيب أو للتقريب قد تطاول فراقنا وتزايد بعادنا ولم يقض طيّ ، وزوال للبعد الذي استقر بيننا . وفي البيت المجانسة بين بيننا وبيننا ، وفيه المجانسة التامّة بين طيّ في هذا البيت وطيّ في البيت الذي قبله ، وفيه الانسجام الذي يأخذ بمجامع الأفهام .
 
( ن ) : الأصحاب كناية عن الملائكة الحفظة الملازمين له ، ويقض : مضارع مبني للمجهول . وطيّ : نائب الفاعل وهو مصدر طواه يطويه ، أي قطعه وأمضاه ، والمعنى أنه يشكو إلى أصحابه أنّ فراق محبوبه تطاول عليه وما ذلك إلا لبعد بينه وبينه لم ينقض طيّه ، وهذا البعد أمر لازم إذ لا مناسبة بين الوجود والعدم ، ولا بين الحدوث والقدم . اهـ .
 
116 - علّلوا روحي بأرواح الصّبا *** فبريّاها يعود الميت حيّ
 
« علّلوا روحي » : أي لا طفوا علّة روحي من قولهم فلان يعلّل بالحكاية مريضه ، أي يلاطفه ويناسيه العلّة بلطف الحكاية . وأرواح الصّبا : الأرواح جمع ريح وجمع روح ، والمراد الأول لا بقطع النظر عن الثاني بالكليّة بل بملاحظته في الجملة ليستقيم قوله . « فبريّاها » : يعود الميت حيّ إذ المناسب لهذا الروح بضم الراء .
 
الإعراب :
علّلوا : أمر ، والواو فاعله . وروحي : مفعوله . وبأرواح الصّبا : متعلق بعلّلوا . وبريّاها : جار ومجرور متعلق بيعود . والميت : اسم يعود لأنها بمعنى يصير .
وحيّ : خبرها وهو مسكّن لضرورة حرف الرويّ ، أو هي لغة ربيعة .
 
« 136 »

المعنى :
لا طفوا يا أحبابي ما في روحي من العلّة بأرواح الصّبا واجعلوا نسيم الصّبا يمرّ على روحي العليلة فإن ذلك يكون سبب شفاء علّتها فإن ريّاها أي رائحتها الطيبة تكون سببا لعود الميت إلى الحياة . وفي البيت جناس الاشتقاق بين روحي والروح ، وفيه الطّباق بين الميت والحيّ .
 
( ن ) : يطلب من أصحابه أن يشغلوا عن شكوى الفراق روحه المتوجّهة من حضرة الأمر الإلهي على الأمر الإلهي بأرواح الصّبا التي هي كناية عن الأرواح المنفوخة في الهياكل النورانية أو الترابية الأرضية المرضية . اهـ .
 
118 - ومتى ما سرّ نجد عبرت *** عبّرت عن سرّ ميّ وأميّ
 
« متى » : اسم شرط للزمان . و « ما » : زائدة . و « سرّ نجد » : اعلم أنك إن قرأت سرّ بكسر السين فالسرّ حينئذ عبارة عن الأرض الطيبة . و « نجد » : مضاف إليه . وإن قرأته بفتح السين فهو موضع بنجد ، وعلى كلا التقديرين فالراء مفتوحة منصوبة على المفعولية لقوله عبرت ، وفاعل عبرت يعود لأرواح الصّبا . وقوله « عبرت » من التعبير عن المعنى باللفظ ، مثلا فمرجعه إلى العبارة . و « عن سرّ ميّ » : السين فيه مكسورة وهو ما يسرّ ، أي يكتم وهو عبارة عن الرائحة الطيبة التي لا تحجبها الحبيبة إلا عن أهلها . و « ميّ » : ترخيم ميّة على غير قياس وهي محبوبة غيلان ذي الرّمّة ، أو المراد مطلق المحبوبة كما يطلق يوسف ، ويراد الجميل مطلقا . وقوله « وأميّ » : عطف على ما قبلها ، أي عبّرت عن سرّ ميّ وعن سرّ أميّ ، والمراد أميّة مرخّم كالذي قبله وهو اسم أيضا .
 
الإعراب :
متى : اسم شرط جازم . وما : صلة زائدة . وسرّ : مفعول مضاف إلى نجد ، وعامله عبرت من العبور . وعبرت : جواب الشرط ، وفاعله ضمير يعود لأرواح الصّبا أيضا . وعن سرّ ميّ : متعلق بعبرت .
 
والمعنى :
متى دخلت أرواح الصّبا إلى سرّ نجد وتكيّفت بما في سرّ نجد من النفحات الطيبة عبرت وأظهرت بما في ضمنها من المسكية عن سرّ الحبائب لأن هذه الرائحة والعرف معروف منها فمن تنشقها فمنها تحقّقها . وفي البيت الجناس التامّ المحرّف بين سرّ وسرّ ، والجناس التام بين عبرت وعبّرت ، وفيه الجناس الناقص بين ميّ وأميّ .
 
( ن ) : السر بكسر السين وتشديد الراء بطن الوادي وأطيبه وما طاب من الأرض ونجد ما أشرف من الأرض والطريق الواضح وما خالف الغور فقوله سرّ نجد كناية
 
« 137 »
 
عن عالم الهياكل الطيبة الطاهرة والأجسام الزكيّة بالأخلاق الفاضلة الزاهرة ، يعنى أن أرواح الصّبا متى ما عبرت أي جازت ومرّت على هذه الهياكل الطاهرة عبّرت أي أخبرت عن أسرار ميّة وأميّة وهما كناية عن حضرة الذات الإلهية وحضرة الأسماء الربانية ، يعني لا يكون منها التعبير عن ذلك إلا بعد هبوطها إلى هياكلها الطبيعية فإنها ما أدركت الكمال في عالم الكثافة وهو عين حقيقة اللطافة .
قال الشيخ الأكبر قدّس اللّه سرّه :
ولا فخر إلا في الجسوم وكونها * مولدة الأرواح ناهيك من فخر اهـ .
 
119 - ما حديثي بحديث كم سرت *** فأسرّت لنبيّ من نبيّ
 
« ما » : نافية . والحديث : الكلام والقصة والخبر . والحديث الثاني مقابل القديم فهو بمعنى الجديد . و « كم » : خبرية ، ومميزها محذوف ، أي كم مرة بالجرّ . « سرت » :
من سرى الليل . وقوله « فأسرت » : من السّرّ خلاف الجهر . وقوله « لنبي » : المراد منه النبي الذي أوحى اللّه إليه ، وهو من النبأ مهموز مخفّف ، أو من النبوة مقلوب مدغم .
و « من نبيّ » ، « نبيّ » بضم النون وفتح الباء وتشديد الياء وهو تصغير النبأ بمعنى الخبر ، وفيه أيضا قلب الهمزة وإدغامها في الياء التي قبلها وهي ياء التصغير .
 
الإعراب :
ما : نافية . وحديثي : اسمها ، والباء زائدة ومدخولها خبرها . وكم : خبرية مبتدأ والمميز محذوف . وجملة سرت في محل رفع على أنها خبر لكم . و
قوله فأسرت : معطوف على سرت ، وفاعل القولين عائد إلى أرواح الصبا .
ولنبي : متعلق بأسرت . ومن نبي : كذلك ، وينبغي أن تكون من زائدة على مذهب الأخفش الذي يرى زيادتها في الإثبات .
 
المعنى :
ما حديثي وقصتي في تعبير أرواح الصبا عن سرّ الحبيب مبتدع جديد ولا اخترعته أو حدث لي بالخصوص ، بل ذلك أمر معتاد قد سبق قبل للأنبياء ، فكثيرا ما أوجب روائح الصبا الأنباء للأنبياء ، وتصغير النبأ في آخر البيت للتعظيم ، قلت وفي هذا البيت إشارة إلى لطيفة وهي ما ذكره الإمام الواحدي رحمه اللّه تعالى في تفسير الوسيط من أن ريح الصّبا هي التي أوصلت رائحة يوسف إلى يعقوب حيث قال : إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ [ يوسف : الآية 94 ] ، وذلك بإذن ربّها ، قال : ولذلك ترى العشّاق يستريحون إليها ويذكرونها في أشعارهم
 
« 138 »

الغرامية وأنشد قول القائل :
أيا جبلي نعمان باللّه خليا * نسيم الصّبا يخلص إلى نسيمها
أجد بردها أو يشفّ مني حرارة * على كبد لم يبق إلا صميمها
فإن الصّبا ريح إذا ما تنفست * على كبد حرّى تجلّت همومها
 
قلت : وذكر صاحب الكشاف في تفسير سورة النمل أن ريح الصّبا كانت ترفع البساط لسيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام فيسير مسيرة شهر ، ففي البيت إشارة إلى كون ريح الصّبا تبلغ الأنباء للأنبياء ، ففي البيت تلميح إلى قصة يعقوب عليه السلام وما أشبهها حيث كانت ريح الصّبا هي التي تبلغ الأنباء لهم وكل ما كان حاصلا للأنبياء جاز أن يكون واقعا للأولياء . فلذا قال رضي اللّه عنه ما حديثي بحديث إلى آخر البيت .
وفي البيت الجناس التام بين حديثي وحديث ، والناقص بين سرت وأسرّت ، والجناس المحرّف بين نبيّ ونبيّ ، وفيه التلميح بتقديم اللام على الميم وهو غير التمليح . اهـ .
 
120 - أي صبا أيّ صبا هجت *** لنا سحرا من أين ذيّاك
121 - الشّذيّ ذاك أن صافحت ريّان *** الكلا وتحرّشت بحوذان كليّ
122 - فلذا تروي وتروي ذا صدى *** وحديثا عن فتاة الحيّ حيّ
 
[ الاعراب ]
« أي » : بفتح الهمزة وسكون الياء حرف نداء للقريب على ما في القاموس .
و « صبا » : منادى منكر مقصود ، ويجوز أن يكون غير مقصود بناء على إرادة نفحة ما في الصّبا إذ المعهودية هنا ادّعائية لا حقيقية ، إذ المراد منه ريح الصبا وهي ريح مهبها من مطلق الثريا إلى بنات نعش وتثنى صبوان وصبيان جمعه صبوات وأصباء ، وقوله أيّ صبا هجت لنا .
 
( ن ) : الصبا بالفتح من الصبوة وهي جهلة الفتوّة ، صبا يصبو إليه : مال وحنّ . اه . هجت : أثّرت بكسر الهاء ، والتاء وأيّ مفعوله مقدّم وجوبا إن لاحظتها استفهامية وإلا فجوازا إن قدّرتها دالّة على معنى الكمال وهي صفة موصوف محذوف ، أي هجت لنا صبّا أيّ صبا وسحرا منكر منصوب ، أي هجت لنا الرائحة الطيبة التي أثارتها ريح الصّبا ، وفيه تعجّب من حصول مثل هذه الرائحة الطيبة التي أثارت الميل الكامل من جهة الأحبة .
وذيّاك : مصغّر على خلاف القياس . والشذا : مصغّر أيضا ، وفي التصغيرين تحبيب .
وقوله « ذاك أن صافحت » بكسر التاء لأنه خطاب للريح ، والمشار إليه الشذا في البيت قبله أو حصوله على حذف مضاف ويدل على الوجه

« 139 »
 
الثاني أن التقدير ذاك لأجل أن صافحت ريّان الكلا . والكلا في الأصل مهموز وإن كان في البيت مخفّفا وهو عبارة عن العشب رطبه ويابسه ، وإضافة ريّان إلى الكلا من إضافة الصفة إلى الموصوف ، وتحرّشت بكسر التاء خطابا للصبا عطفا على صافحت .
 
( ن ) : تحرش واحترش بالشيء تصدّى له وقصده ، أي ذاك الشذا حصل لأنك صافحت العشب الريّان ، ولأنك تحرّشت بحوذان جوانب الوادي ، والحوذان بحاء مهملة وذال معجمة نبت . والكليّ بضم الكاف وفتح اللام وتشديد الياء تصغير كليّ بكسر الكاف « 1 » .
وكلا الوادي جوانبه . قوله فلذا تروي لأجل مصافحتك العشب الرّيّان ولأجل تحرّشك بنبت جوانب الوادي . تروي صاحب العطش وهو بضم التاء من أروى الماء العطشان .
قوله وتروي بفتح التاء من رويت الحديث أرويه عن فتاة الحيّ متعلق بتروي الثاني .
وحيّ : صفة حديثا والوقف عليه لغة ربيعة .
 
( ن ) : وهي بمعنى الحق . قال في القاموس : لا يعرف الحيّ من الليّ ، أي لا يعرف الحق من الباطل . اه . وإنما أتينا بالأبيات الثلاثة لأن بعضها متعلق ببعضها ومعانيها كذلك ، وهي متعلقة بمعنى واحد لأن الخطاب في أي صبا لريح الصبا .
وكذلك الخطاب في فلذا تروي لها أيضا .
 
والمعنى :
أيتها الصبا ما هذا والميل والمحبة التي قد ثار لنا منك في وقت السحر من أين لك هذه الرائحة الطيبة ، ما أرى ذاك حصل لك إلا بمصافحتك وملاصقتك العشب الرّيّان ، وبسبب تحرّشك بالنّبت الموجود بجوانب الوادي ، ولأجل المصافحة والتحرّش المذكورين يحصل منك أيتها الريح ريّ العطشان ورواية أخبار الحبائب . وفي الأبيات الجناس التام بين صبا وصبا ، والتجانس أيضا بين أي وأيّ ، وفيها المناسبة بين المصافحة والتحرّش ، وفيها التجانس بين كلا وكليّ ، والجناس المحرّف بين تروي وتروي .
 
( ن ) : وفيها اللّفّ والنشر المرتّب في قوله تروي وتروي ذا صدى وحديثا . اهـ .
وفيها الطّباق بين الرّيّ المفهوم من تروي والعطش الذي هو الصدا ، وفيها المناسبة بين الرواية والحديث ، وفيها التجانس بين الحيّ وحيّ في آخر البيت .
..........................................................................................
( 1 ) قوله بكسر الكاف في القاموس كلية كسمية في موضع فيكون قد رخمه للضرورة وبه تعلم ما فيه . اه .
 
« 140 »
 
( ن ) : أي : حرف نداء . وصبا : منادى وهو ريح الصبا ، كناية عن عالم الأرواح الأمرية . وقوله سحرا وهو وقت نزول الرّبّ إلى سماء الدّنيا كما ورد في الخبر ، أي ظهوره متجليا بعالم المحسوسات . 
قال عفيف الدين التلمساني قدّس اللّه سرّه :
أسكرت بان الحمى يا نسمة السّحر * فهل أتيت من الأحباب بالخبر
وقوله من أين الخ . . . أي من عالم الكون ، أو من عالم العين المغيّبة عنّا .
وقوله ريّان الكلا كناية عن الأسرار المحمدية ، والأنوار الأحمدية . وقوله حوذان كناية عن الجانب الإلهي الغيبي الذي لا يدرك ولا يترك ، وأضافه إلى كلّي كناية عن جوانب وادي الأكوان فإنها مظاهر تجليات الرحمن ، ومعنى ذلك أن هذه الرائحة لعلّها فاحت لدينا من أحد هذين الأمرين وليس بعد اللّه ورسوله عين هي أشرف عين وقوله عن فتاة الحيّ كناية عن الحضرة الأسمائية الإلهية التي مبدأها الاسم الحيّ وكونها فتاة أي ظاهرة في كل حين بتجلّ جديد فهي فتاة دائما . اهـ .
 
123 - سائلي ما شفّني؟؟ في سائل *** الدّمع لو شئت غنى عن شفتيّ
 
« سائلي » : أي يا سائلي . « ما شفّني » : أي ما هزلني وصيّرني نحيلا . 
وقوله « في سائل الدمع » : أي في الدمع السائل . « لو شئت » بفتح تاء المخاطب : أي لو أردت أيها السائل وشئت علم حالي من غير محادثة لي في هذا الاستخبار لكان دمعي السائل يغنيك في إفادة الأمر الذي هزلني واستغنيت بذلك عن أخبار شفتيّ .
 
الإعراب :
سائلي : منادى مضاف ، حذف حرف ندائه . وقوله ما شفّني ، ما :
مبتدأ ، وجملة شفني خبره . وقوله في سائل الدمع : خبر مقدّم . وغنى : مبتدأ مؤخر ، وجملة لو شئت معترضة بين المبتدأ والخبر . وعن شفتي : متعلق بغنى ، وأصل شفتي مثنى وأضيف إلى ياء المتكلّم فحذفت نون التثنية .
 
والمعنى :
يا من يسائلني عن الأمر العظيم الذي شفّني وأنحلني وصيّرني مهزولا لو شئت الاطّلاع على حقيقة حالي لا كتفيت في ذلك بهذا الدمع السائل واستغنيت به عن أخبار شفتي ونطقهما . وفي البيت الجناس التام بين سائلي وسائل ، والتقارب اللفظي بين شفّني وشفتيّ . وقد تلاعب الشعراء في أبياتهم بذكر الدمع وكونه يظهر الأسرار الخفيّة ويفضح المحبّين . ومن لطيف ما سمعت من ذلك قول العباس بن الأحنف ، وبهذه الأبيات قدّمه المؤمون الخليفة في الصلاة عليه مع وجود الإمام أبي يوسف والكسائي النحوي كما هو منقول في تاريخ ابن خلكان مفصّلا
 
« 141 »
 
وذلك في قوله :
لا جزى اللّه دمع عيني خيرا * وجزى اللّه كل خير لساني
باح دمعي فليس يكتم سرّا * ورأيت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طي * فاستدلوا عليه بالعنوان
وآخر المصراع الأول لام الدمع ، وأول المصراع الثاني دال الدمع فاعلم ذلك .
 
( ن ) : قوله في سائل الدمع كناية عن المعاني التي تفيض من عين بصيرته ، أي معاينتها للحقائق الإلهية بحيث تظهر شواهدها في أثناء عباراته من غير قصد منه من قبيل قول العفيف التلمساني قدّس اللّه سرّه :
لا تنطقوا حتى تروا نطقها بكم * يلوح لكم منكم فتلكم شؤونها
فالعارف ساكت والحق ينطق عن لسانه بالمعاني الفائضة على قلبه . وقال الجنيد رضي اللّه عنه لمّا سئل عن التوحيد فأجاب بكلام لم يفهمه السائل فطلب منه أن يعيده فقال : إن كنت أجريه فأنا أمليه . اهـ .
 
124 - عتب لم تعتب وسلمى أسلمت *** وحمى أهل الحمى رؤية ريّ
 
في البيت إشارة إلى جواب السائل عمّا شفّه كأنه يقول كان الدمع سائلا يردّ جوابك ولكن حيثما سألت فأنا أجيبك ، فسبب هزالي ونحولي أن عتب لم تعتب وأن سلمى أسلمت وأن أهل الحمى حموني عن رؤية ريّ فكيف لا أذوب نحولا وأختفي مهزولا . « عتب » بضم العين وسكون التاء علم على امرأة معلومة . وقوله « لم تعتب » بضم التاء وسكون العين وكسر التاء : مضارع من أعتب ، أي أزال العتب ، يقال فلان عتبت عليه فما أعتبني ، أي ما أزال عني سبب عتبي . « وسلمى » : علم أيضا .
و « أسلمت » : أي أسلمتني للبلاء ودفعتني إليه . « وحمى » : أي منع « أهل الحمى رؤية ريّ » : أي ريا .
 
الإعراب :
عتب : مبتدأ ، وهو مما يجوز فيه الصّرف وعدمه لكونه مؤنثا معنويّا ثلاثيّا عربيّا ليس محرّك الوسط ، والشيخ رحمه اللّه منعه من الصرف . وجملة لم تعتب خبره . وسلمى أسلمتني للبلاء ودفعتني إلى مداحض القضاء ومنعني أهل الحمى رؤية ريّا فكيف لا يغيّرني النّحول ويستمر الجسم وهو مهزول .
 
والمعنى :
عتب قد عتبتها على عدم الوفاء فما أزالت سبب العتب . وأما سلمى فقد سمحت بي وأسلمتني للوقوع في مهاوي مهالك الصّبابة ، ومنعني أهل الحمى أن
 
« 142 »
 
أرى ريّا . وفي البيت التجانس بين عتب وتعتب ، وبين سلمى وأسلمت ، وبين حمى والحمى ، وبين رؤية وريّ ، وريّ مرخّم على خلاف القياس إذ أصله ريّا . والشيخ رضي اللّه عنه ذكر قريبا من ذلك في التائية فقال :
عتبت فلم تعتب كأن لم يكن لقا * وما كان إلا أن أشرت وأومت
وعتب وسلمى وريّا أعلام على حبائب معلومة ، والشيخ رضي اللّه عنه يريد من الأسماء المتعددة مسمّى واحدا فافهم ذلك .
 
( ن ) : عتب كناية عن الروح الإنسانية المتوجّهة من عالم الملكوت الأعلى لتدبير هذا الهيكل الإنساني . وقوله لم تعتب يعني أنها دائما تكثر العتب عليّ في جميع أقوالي وأفعالي وأحوالي لأنها من العالم الأعلى وأنا من العالم الأدنى . وسلمى كنّى بها عن النفس الإنسانية وأنها أسلمت الأمر ولم تنازع شيئا . وأهل الحمى كناية عن الأسماء الإلهية . وريّ في آخر البيت كنّى بها عن الذات الإلهية المحمية بأسمائها الحسنى . قال العفيف التلمساني قدّس اللّه سرّه :
منعتها الصفات والأسماء * أن ترى دون برقع أسماء
فالأول جمع اسم ، والثاني اسم علم على المحبوبة وهو مقصور ومدّه الشاعر للضرورة الشعرية . اهـ .
 
125 - والّتي يعنو لها البدر سبت *** عنوة روحي ومالي وحميّ
 
« يعنو » : يخضع ويذلّ . و « سبت » : أسرت . والعنوة بفتح السين وسكون النون بمعنى القهر والغلبة . و « حميّ » في آخر البيت مصغّر حمى مضافا إلى ياء المتكلم .
 
الإعراب :
التي : مبتدأ وهو موصول . وجملة يعنو لها البدر : صلة ، والبدر :
فاعل يعنو . ولها : متعلق بيعنو . وسبت : فعل وعلامة التأنيث والفاعل ضمير يعود إلى التي . وعنوة : مفعول مطلق على حذف المضاف ، أي سبي عنوة ، أو على ملاحظة موصوف محذوف ، أي سبيا عنوة . وروحي : مفعول سبت . ومالي وحميّ :
عطف عليه ، والجملة في موضع رفع على أنها خبر المبتدأ وكان المراد من البيت بيان أن هناك حبيبة فوق من سمّاهنّ في البيت قبله ، وهي التي يخضع لها البدر لحسنها ، وهي التي سبت وأخذت قهرا وغلبة روحي ومالي وحماي . وفي البيت نوع مجانسة بين يعنو وعنوة .
والشيخ رضي اللّه عنه غالبا لا يخلي أبياته من نوع من أنواع البديع .


« 143 »
 
[ المعنى ]
( ن ) : البدر كناية عن الإنسان الكامل الذي قابل شمس الأحديّة واقتبس من نورها فلم تدخل عليه الظلمة ، يعني أن المحبوبة التي يخضع لها البدر قد أسرت روحي قهرا وغلبة فصارت روحي ملكا لها فصارت روحها . وظهر قوله تعالى :
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ الحجر : الآية 29 ] ، وأسرت أيضا مالي وحماي فصار ملكها من قوله تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها [ مريم : الآية 40 ] ، وإنما ينتقل الإرث بعد موت المورث ، وهنا انتقل بالسبي والقهر والغلبة . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 126 إلى 151 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:00 pm

شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 126 إلى 151 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الأولى سائق الأظعان الأبيات من 126 إلى 151 
126 - عدت ممّا كابدت من صدّها *** كبدي حلف صدى والجفن ريّ
 
« عدت » : أي صرت فهي ترفع الاسم وتنصب الخبر . وما : مصدرية أو موصولة . وكابد الأمر : أي قاساه . والصدّ : الإعراض . والكبد معروفة ، وقد تذكر .
والحلف : بكسر الحاء وسكون اللام المحالف المعاشر . والصدّى : العطش .
و « الجفن » : بالفتح غطاء العين ويستحسن فيه الكسر أيضا . والريّ : الرّيّان خلاف العطشان .
 
الإعراب :
عدت عاد واسمها وحلف بالنصب خبرها . وصدى : مضاف إليه ، وكبدي : فاعل كابدت . والجفن : ريّ مبتدأ وخبر أو أن الأصل والجفن ريّا على ملاحظة عطفهما على معمولي عدت ، أي عاد الجفن ريّا . والوقف على لغة ربيعة فتأمّل .
 
المعنى :
صرت ملازما للصدى والعطش مما قاسته كبدي من صدّ الحبيبة وعاد جفني ريّان بالبكاء ، فالكبد عطشان ، والجفن من الدموع ريّان ، وقد قلت من جملة قصيدة ما يناسب البيت :
يا ساكن القلب من وجد ومن حرق * غوثا لصبّ مدى الأيام مضطرب
يبكي بدمع يروي الأرض صيّبه * وفي الجوانح قلب ذاب باللّهب
ماء ونار بعينيه ومهجته * والماء والنار في جسم من العجب
 
وفي البيت المجانسة بين كابدت وكبدي ، وبين صدّها وصدى ، والطّباق بين العطشان المفهوم من حلف صدى والريّان فافهم ذلك .
 
127 - واجدا منذ جفا برقعها *** ناظري من قلبه في القلب كيّ
 
« واجدا » : اسم فاعل من وجد الشيء لقيه . و « منذ » : بسيط مبني على الضم ، ومذ بحذف النون مبني على السكون وقد يكسر ميمها وقد تليها الجملة

« 144 »
الفعلية نحو :
ما زال مذ عقدت يداه إزاره
والاسمية نحو :
وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع
وحينئذ فهما ظرفان مضافان إلى الجملة أو إلى زمان مضاف إليها . وجفاه : لم يصله لأن الجفاء نقيض الصلة . والبرقع : بضم الباء والقاف وبفتح القاف أيضا ما تستر به النساء أو جههنّ . والناظر العين أو النقطة السوداء فيها . وقوله « من قلبه » : أي من قلب البرقع . و « قلبه » عقرب . و « القلب » : قلب الإنسان . والكيّ : مصدر كوته العقرب ، أي لدغته .
 
الإعراب :
واجدا : حال من التاء في عدت . ومنذ : ظرف له . وجفا : ماض .
وبرقعها : فاعله . وناظري : مفعوله . ومن قلبه : متعلق بواجدا . وفي القلب : متعلق به أيضا . وكي : مفعول واجدا . والوقف عليه لغة ربيعة .
 
المعنى :
صرت بهذه الحالة حال كوني واجدا كيّا من قلب برقعها ، أي من عقرب صدغها لدغا عظيما في قلبي . ومعنى كون البرقع جفا ناظره أنه منعه من مشاهدة وجه محبوبته لأن البرقع صار يمنعه المشاهدة عقربا يلدغ القلب . وفي البيت الجناس بين قلبه وقلب ، والجناس المقلوب بين برقع وعقرب .
 
( ن ) : كنّى بالبرقع عن الإنسان الكامل الذي هو غطاء على وجه الحق وربما أراد به شيخه . وقوله من قلبه ، أي قلب برقع وهو عقرب ويشبّه به شعر الأصداغ كناية عن حجب الآثار الكونية من أهل الغفلات الطبيعية . اهـ .
 
128 - ولنا بالشّعب شعب جلدي *** بعدهم خان وصبري كاء كيّ
 
الشّعب بكسر الشين : الطريق في الجبل ومسيل الماء في بطن أرض ، أو ما انفرج بين الجبلين . والشّعب بفتح الشين وسكون العين : القبيلة العظيمة . والجلد محرّكة القوّة . و « خان » من الخيانة خلاف الوفاء ، أي لم يسعف وكاء كيا ضعف ضعفا .
 
الإعراب :
ولنا : خبر مقدم . وشعب : مبتدأ مؤخر . وبالشعب : حال من المبتدأ لأنه كان نعته فقدّم عليه فصار حالا ، والباء في بالشعب ظرفية إذ المراد فيه .
وجلدي : مبتدأ . وبعدهم : متعلق بخان ، وفاعل خان عائد للجلد ، والجملة في محل

 
« 145 »
 
رفع على أنها خبر جلدي ، والكبرى مرفوعة المحل على أنها صفة شعب ، والهاء في بعدهم للشعب إذ هو عبارة عن القبيلة . وصبري : مبتدأ . وكاء : ماض ، فاعله الصبر .
وكيا : مفعول مطلق . لكن الوقف عليه لغة ربيعة . والجملة الفعلية في موضع رفع خبر صبري .
 
والمعنى :
لنا بمسيل الماء قبيلة عظيمة عزيزة وقد خانتني بعدهم قوتي وضعف صبري فما بالك بقوة خانت ، وأحباب قد بعدوا ، وأصحاب ما أنجدوا ، فلا صبر ولا قرار ولا تحمّل ولا اصطبار . وفي البيت الجناس المحرّف بين شعب وشعب ، وجناس الاشتقاق بين كاء وكي في هذا البيت وكي في الذي قبله . وأما الانسجام فيأخذ بمجامع الأفهام .
 
( ن ) : الشعب الأولى بالكسر كناية عن عالم الأجسام العنصرية ، والثانية بالفتح كناية عن حضرات الأسماء الإلهية المتجلية بإظهار الأكوان . وقوله بعدهم ، أي بعد فراقي لهم بانحراف خاطري عن مراقبتهم ومشاهدة ظهورهم في الآثار الكونية . اهـ .
 
129 - حلفت نار جوى حالفني لا *** خبت دون لقا ذاك الخبيّ
 
« حلفت » : أقسمت . « نار جوى » : حالفني ، أي لازمني من المحالفة أي المصاحبة . و « لا خبت » : أي لا سكنت تلك النار إلا إذا لاقت ذلك الخباء وإذا لم تلاقه فلا تزال مضطربة موقدة ملتهبة .
 
الإعراب :
حلفت : فعل ماض وعلامة التأنيث ونار جوى فاعل ومضاف إليه .
وجملة حالفني من الفعل والفاعل والمفعول في محل جر على أنها صفة جوى .
وجملة لا خبت دون لقاء ذاك الخبيّ : لا محل لها من الإعراب لأنها جواب القسم .
 
والمعنى :
حلفت نار مرض حدث لي في المحبة ولازمني أنها لا تسكن إلا إذا لاقت ذلك الخباء العظيم والتصغير للتعظيم . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين حلفت وحالفني ، وبين خبت وخبيّ ، والمراد من الخبيّ فيما يظهر كعبته المعظّمة .
 
( ن ) : كنّى بالخبيّ تصغير الخباء عن الصورة الحسّيّة والمعنوية الظاهرة بطريق التأثّر عن الأسماء الإلهية . وقوله لقا بحذف الهمزة لضرورة الوزن . اهـ .
130 - عيس حاجي البيت حاجي لو *** أمكّن أن أضوي إلى رحلك ضيّ
131 - بل على ودّي بجفن قد دمى *** كنت أسعى راغبا عن قدميّ

 
« 146 »
 
العيس بكسر العين وسكون الياء : الإبل البيض يخالط بياضها شقرة وهو أعيس وهي عيساء . و « حاجي » تخفيف حاجي بتشديد الجيم بحذف إحدى الجيمين وأصله حاجين بالنون فحذفت للإضافة إلى البيت ، وقوله حاجي جمع حاجة ، مثل ساع جمع ساعة .
 
( ن ) : حاجي يعني حاجاتي . قال في القاموس : الحوج بالضم الحاجة ، وجمعه حاج وحاجات وحوائج . اه . و « لو » : مصدرية . و « أمكّن » بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد الكاف وفتحها على البناء للمجهول . و « أن » : مصدرية . و « أضوى » : مضارع ضوى بمعنى انضم ولجأ ، وسكّنت ياء أضوى مع وجود أن المصدرية للوزن ومثل هذا حسن مقبول في الشعر . والرّحل للدّابّة معروف . و « ضيّ » : مصدر أضوى لكن الوقف عليه لغة ربيعة .
 
الإعراب :
عيس : منادى مضاف حذف حرف ندائه . وحاجي : مضاف إلى البيت . وحاجي : مبتدأ . ولو : مصدرية . وأمكن : مرفوع بالتجرّد . ولو أمكن : في تأويل مصدر على أنه خبر . وأن أضوي : في تأويل مصدر مجرور بمن ، أي لو أمكن من أن أضوي . وإلى رحلك : متعلق بأضوي . وضيا : مفعول مطلق . والوقف بالسكون لغة ربيعة .
 
والمعنى :
يا أيتها الجمال الحاملة حجّاج بيت اللّه الحرام مرادي لو أمكن من أن أضمّ إلى رحلك ، وألتجىء إلى مكانك التجاء ، وما أحسن التواضع في تمنّيه أن ينضم ويلتجىء إلى رحلها .
وفي البيت الجناس التامّ بين حاجي وحاجى ، وجناس الاشتقاق بين أضوي وضيّ .
وقوله « بل على ودّي » : ترقّ في الطلب من جهة أنه في البيت الأول طلب أن يلتجىء إلى رحل العيس ، ففي ضمن ذلك طلب الركوب .
وفي البيت الثاني طلب أن يسعى على جفنه الدامي رغبة عن سعي قدميه من قبيل الترقّي لا للإضراب ، أي على مرادي وطلبي كنت أسعى بعيني التي بكت بدل الدموع بالدم راغبا عن مشي القدمين .
وفي البيت الثاني الجناس المركّب بين قد دمى وقدمي .
 
( ن ) : كنّى بالعيس عن عالم الأجسام ، وبحاجي البيت عن الأرواح الكاملة المتوجّهة بالهمم العالية إلى حضرات التجليات الإلهية في العوالم الإمكانية . ومعنى قوله لو أمكن أن يمكنني من آناف تصرّف أمره أن انضم إلى جملة الراكبين السائرين على تلك العيس إلى حضرة الغيب المطلق . وقوله بل على ودّي إلى آخر البيت بل

 
« 147 »
 
للإضراب ، والمعنى لو أتمكّن من الانضمام والالتجاء إلى هؤلاء الرّكب السائرين إلى بيت اللّه الحرام كنت أسعى على قدمي معهم بل كنت أسعى بعيني الدامية من البكاء على محبتي التي أجدها لهم معرضا عن المشي على قدميّ وهم ركب العارفين من أهل الكمال السالكين في مقامات الجلال والجمال اهـ .
 
132 - فزت بالمسعى الّذي أقعدت عنه *** وعاويك له دوني عيّ
 
[ الاعراب ]
« فزت » بضم الفاء والتاء مكسورة خطاب للعيس . والمسعى إما مصدر ميمي ، والمراد السعي بين الصفا والمروة ، ويجوز أن يكون المسعى اسم مكان أي فزت بمكان السّعي لكونه قريبا من الكعبة . و « الذي » : صفة للمسعى . و « أقعدت » بضم الهمزة وسكون القاف وكسر العين وضم التاء على أنه مبني للمجهول ، والتاء نائب الفاعل . و « عاويك » بكسر الكاف خطابا للعيس وهو من قولهم عوى الناقة إذا عاجها له . « عي » : أي له تردّد في تلك الأماكن دوني أي نال النيل والزيارة في هاتيك الأماكن الرجل الذي يسوقك أيتها العيس ، وآخر المصراع الأول النون من عنه ، وأول المصراع الثاني الهاء من عنه ، وعاويك مبتدأ مؤخر ، والجملة في موضع رفع على أنها خبر عاويك . وفي البيت الطّباق بين القعود والسّعي ، وجناس الاشتقاق بين عاويك وعيّ .
 
والمعنى :
خطابه للعيس بأنها فازت بالمسعى الذي أقعده الدهر عنه فقد ذهبت إلى الحرم المكرّم والكعبة المعظّمة وما فاز هو بذلك . وكذلك الشخص الذي يسوقها له معاج وحلول في هاتيك الأماكن المكرّمة وهو ليس كذلك .
 
( ن ) : قوله فزت الخطاب للعيس ، والمسعى مكان السّعي بين الصفا والمروة كناية عن مقام تحقيق الشهود بالتردّد بين صفاء الروحانية ، ومروة الجسمانية سبعة أشواط الصفات المعنوية شوط الحياة الإلهية الساري أثرها في عالم الطبيعة العنصرية ، وشوط العلم القديم الممدّ للعقول والحواس الكونية ، وشوط الإرادة الربانية المؤثّرة في النفوس الإنسانية ، وشوط القدرة الأزلية الظاهرة بإظهار القوى الإمكانية ، وشوط السمع الإلهي المؤثّر بإظهار السمع الكوني ، وشوط البصر الرحماني المؤثر بإظهار البصر الحادث ، وشوط الكلام الحقّ المؤثّر بإظهار المعاني والحروف والأصوات .
 
وقوله أقعدت : أي أقعدني الحظ والقصور في الهمّة والحال . وقوله عاويك معطوف على التاء في فزت ، أي وفاز عاويك . وقوله له أي للمسعى المذكور . وقوله عيّ مصدر مؤكد لاسم الفاعل وهو عاويك وأصله عيا وسكونه في لغة ربيعة . اهـ .

 
« 148 »
 
133 - سئ بي إن فاتني من فاتني *** الخبت ما جبت إليه السّيّ طيّ
 
« سئ » : ماض مجهول من المساءة خلاف الإحسان ، أي فعلت معي المساءة .
و « إن » : شرطية . و « فاتني » من الفوت . « من » : حرف جر . و « فاتني الخبت » : مضاف ومضاف إليه ، وأصله فاتنين جمع فاتن وحذفت النون للإضافة . و « الخبت » : بالخاء المعجمة والباء الموحّدة والتاء المثناة من فوق هو المتّسع من بطون الأرض وجمعه أخبات وخبوت وموضع بالشام وقرية بزبيد . و « جبت » بالجيم والباء الموحدة والتاء من جاب الأرض قطعها ، و « السّيّ » : بالسين والياء المشددة الفلاة . و « طيّ » : مفعول مطلق من جبت وهو معنوي لأن جوب الأرض قطعها وطيّها . والوقف عليه لغة ربيعة .
 
الإعراب :
« سئ » : فعل ماض مجهول . و « بي » : متعلق به وهو نائب الفاعل في موضع رفع . و « إن » : شرطية . و « فاتني » فعل الشرط وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله ، أي إن فاتني سئ بي . و « من فاتني الخبت » : متعلق بفاتني .
و « ما » : فاعل فاتني . وجملة جبت إليه صلة الموصول والعائد الهاء في إليه .
و « السيء » : مفعول جبت . و « طيّ » : مفعول مطلق كما سبق .
 
المعنى :
حصلت لي المساءة إن فاتني المطلوب التي قطعت إليه الفلاة طيّا ، وهو من الفاتنين الساكنين في الخبت . وفي البيت الجناس المحرّف بين فاتني وفاتني ، والمصحّف بين جبت والخبت ، وبين سئ والسيّ جناس محرّف لا حق .
 
( ن ) : كنّى بفاتني الخبت عن حضرات الأسماء الإلهية الظاهرة بإظهار آثارهما من العوالم الإمكانية ومعنى كونها فاتنة الخبت ، أي مثيرة في عوالم الإمكان بمن هي أسماؤه وهو الحق تعالى أحوالا مختلفة وأعمالا متقابلة وأقوالا متباينة كما قال تعالى حاكيا عن موسى الكليم : إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ [ الأعراف : الآية 155 ] الآية .
وكنّى بالسيّ عن طريق المجاهدة وسبيل السلوك إلى ملك الملوك يقول فعل اللّه بي المكروه إن فاتني أي ذهب عني من فاتني الخبت الأمر العظيم الذي قطعت الفلاة لأجل الحصول عليه . اهـ .
 
134 - حاظري من حاضري مرماك  *** بادي قضاء لا اختيار لي شيّ
 
« حاظري » : بمعنى مانعي مشتق من الحظر ، وهو المنع .
و « حاضري » جمع حاضر من الحضور خلاف الغيبة ، وهو مضاف إلى مرماك ، ولهذا حذفت نونه .
و « مرماك » بكسر الكاف على أنه خطاب لعيس حاجي البيت .


 
« 149 »
 
( ن ) : أي لراكبي العيس . اه . والمراد منه مرمى الجمار . و « بادي قضاء » : أي ظاهر قضاء من اللّه تعالى . « لا اختيار لي شيّ » في المنع من حضور مرمى الجمار .
الإعراب :
حاظري : مبتدأ . ومن حاضري : متعلق به ، وحاضري مضاف إلى مرماك ، وحذفت نونه للإضافة . وبادي قضاء : خبر المبتدأ ، ولعل إضافة بادي إلى قضاء من إضافة الصفة إلى الموصوف ، إذ المراد ما منعني من أن أكون هذه السنة حاضرا في مرمى الجمار إلا القضاء الظاهر الإلهي . ولا إن كانت عاملة فهي هنا ترفع الاسم وتنصب الخبر ، واختيار اسمها . ولي : صفته متعلق بمحذوف . وشيّ : خبرها .
والوقف عليه لغة ربيعة . وإن كانت غير عاملة فاختيار : مبتدأ ، وشيّ : خبره ، وأصله شيء مهموز لكن قلبت الهمزة ياء وأدغمت الياء في الياء .
 
والمعنى :
مانعي من أن أكون من حاضري البيت الحرام وأكون في جملة من يرمي الجمار في مرماها قضاء ربّاني ظاهر لمن له بصيرة وليس لي اختيار في ذلك بوجه من الوجوه ، إذ لو وكّل الأمر إلى اختياري لما كنت إلا واقفا في الموقف ولا كنت أرضى أن أرى في الخوالف . وفي البيت ما يخفى من التجانس بين حاظري وحاضري ، والحظر والقضاء والاختيار ألفاظ متناسبة .
 
( ن ) : الخطاب للعيس أي لراكبيها ، يقول : إن مانعي عن حضوري في محل رمي الجمار هو قضاء ربّاني إذ أن اختياري ليس هو بشيء ، وكنّى برمي الجمار عن إلقاء دعاوي الصفات السبع صفات المعاني الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام وهي الحصيات السبع المحصوبة بالدعوى في النفس الإنسانية . فرميها في هذه المواضع الثلاثة جمرة العقبة في الدنيا ، والوسطى هي البرزخ ، والتي عند مسجد الخيف من الخوف في العقبى ، إنما ذلك لتظهر له أصولها وهي الصفات السبع الإسمية . اهـ .
 
135 - لا برى جذب البرى جسمك واع *** تضت من جذب البرى والنّأي بيّ
 
« لا » : دعائية . و « برى » : نحت وهزل . والجذب بالجيم والذال المعجمة مصدر جذب الدابة مثلا . و « البرى » : جمع برة ، كثبة وهي حلقة في أنف البعير أو في لحمة أنفه . و « من جدب البرى » الجدب بالجيم فالدال المهملة والباء الموحدة : القحط ، وهو مضاف إلى البرى بمعنى التراب . و « النأي » : البعد . و « بيّ » في آخر البيت بمعنى الشحم والسمن .
« 150 »
 
الإعراب :
لا : دعائية . وبرى : فعل ماض . وجذب : فاعل مضاف إلى البرى .
وجسمك : بالنصب مفعوله . واعتضت : عطف على جملة لا برى لا على برى فقط لأن المعنى حينئذ ينعكس فتدبّر . ومن جدب البرى : متعلق باعتضت . والنأي : عطف على المضاف إليه وهو البري ، إذ المراد عوّضك عن قحط التراب وعدم إنباته وعوّضك عن الجذب الحاصل من البعد ، وهو عبارة عن الهزال الحاصل من تباعد المراحل التي قطعت . وبيّ في آخر البيت مفعول اعتضت . والوقف عليه لغة ربيعة .
 
المعنى :
الدعاء لعيس حاجي البيت الحرام بأن اللّه لا ينحت جسمها ولا يهزله بكثرة جذب القائد براها لأنّ كثرة ذلك الجذب يورث الهزال وعوّضك اللّه بدل القحط الحاصل في الأرض والهزال الحاصل من تباعد المراحل شحما ولحما وسمنا وطرواة . وفي البيت الجناس المصحّف بين جذب وجدب ، والمحرّف بين برى وبرى لأن الأول بفتح الباء والثاني بضمها ، والجناس التام المستوفى بين برى والبرا المضاف إليه الجدب ، والجناس الناقص بين نأي وبي . هكذا مضت الروايات على البيت ، ولو قرىء والنيّ ني على أن يكون بنون وياء مشدّدة لاستقام . ويراد بإحدى الكلمتين « 1 » الشحم وبالأخرى السمن فتأمل .
 
( ن ) : الخطاب لعيس حاجي البيت كناية عن عالم الأجسام الإنسانية وجذب البرى كناية عن التكاليف الشرعية الشاقّة . يقول عوّضك اللّه من قحط أرض النفس من نبات علوم المعرفة ومن البعد عن أوطان التحقيق سمنا من ثواب الأعمال الظاهرة وزيادة أجر ، وهو مناسب لعالم الأجسام ، إذ هي كثيفة وعملها كثيف وجزاؤها كثيف جزاء وفاقا . اهـ .
 
145 - خفّفي الوطء ففي الخيف سلمت *** على غير فؤاد لم تطيّ
 
[ الاعراب ]
« خفّفي » : خطاب لعيس حاجي البيت . و « الوطء » : مفعوله . وقوله « ففي الخيف على غير فؤاد لم تطيّ » : تعليل لأمرها بتخفيف الوطء . وجملة قوله « سلمت » بكسر التاء معترضة بين المتعلق والمتعلّق وهي معترضة للدعاء ، أي سلّمك اللّه أيتها العيس من أن يكون فؤادك من جملة الأفئدة الموطوءة ، والتقدير لم تطئي في الخيف على غير فؤاد ، ويروى على فؤادي بالإضافة إلى ياء المتكلم ، والرواية الأولى هي الصحيحة . ويروى فبالخيف على أن الباء بمعنى في . وقوله لم تطيّ ، أصله تطئي لأنه

 
« 151 »
 
من تطئين بعد حذف الواو التي هي فاء الكلمة فقلبت الهمزة ياء وأدغم الياء في الياء ، وما ألطف البيت وما أحسن معناه إذ فيه إشارة إلى أن قلوب المحبّين قد سقطت في الخيف شوقا لأن من لم يحضر بجسده من المحبّين فقد أرسل فؤاده كما قيل :
سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
ونمط الشيخ رضي اللّه عنه في هذا البيت غير نمط أبي العلاء حيث قال :
خفّف الوطء ما أظن أديم * الأرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن بعد العهد * هوان الآباء والأجداد
وقد أشار الشيخ رضي اللّه عنه إلى أن فؤاده من جملة الأفئدة التي طاحت وساحت وطارت واستطارت .
 
المعنى :
إذا مررت يا عيس حاجي البيت بخيف واديّ خفّفي الوطء فإنك لا تدوسين وتطئين هناك إلا على قلوب المحبّين المنطرحة على هاتيك الأراضي شوقا إليها وتلهّفا عليها . وكنى بالخيف عن مقام الهيبة والجلال في حضرة القرب من الحق المتعال ، فإنّ القلب الداخل في هذه الحضرة يكون معه جسمه كالذي في خيف منى تكون معه مطيّته التي يركبها وتحضر معه المناسك كلها إلا الطّواف بالبيت فإنها لا تدخل معه إلى المسجد الحرام . اهـ .
 
137 - كان لي قلب بجرعاء الحمى *** ضاع منّي هل له ردّ عليّ
 
[ الاعراب ]
« كان لي قلب » : كان مع اسمها المتأخّر وخبرها المتقدم . وقوله « بجرعاء الحمى » : متعلق بضاع ، أي ضاع مني في جرعاء الحمى ، إذ الباء بمعنى في . وقوله « هل له ردّ عليّ » : استفهام يقتضي استبعاد رجوع قلبه إليه ، وما ألطف قول من قال :
ضاع قلبي أين أطلبه * ما أرى جسمي له وطنا
 
وقول الآخر :
لي في الحجاز وديعة خلفتها * أودعتها يوم الوداع مودّعي
وأظنها لا بل يقيني أنها * قلبي لأني لم أجد قلبي معي
وفي البيت المناسبة بذكر القلب والرّدّ ، والطّباق بين منّي وعليّ .
 
[ المعنى ]
( ن ) : الجرعاء كناية عن مقام المجاهدة في اللّه وأضافها إلى الحمى ، أي حمى الحضرة الإلهية ، وقوله ضاع مني ، أي فقدته لأنه ذهب مع القلوب فانطرح في خيف

« 152 »
 
منى بين يدي المحبوب فهل يمكن عوده إليّ فأصحو من سكر الغرام ، أم أبقى كذلك في قيود الهيام ؟ اهـ .
 
138 - إن ثنى ناشدتكم نشدانكم *** سجرائي لي عنه عيّ عيّ
139 - فاعهدوا بطحاء وادي سلم *** فهي ما بين كداء وكديّ
 
« إن » : شرطية مكسورة الهمزة ساكنة النون . و « ناشدتكم » : أي ناشدتكم اللّه تعالى أن تعهدوا بطحاء وادي سلم . وقوله « فهي » يروى فهي على أنّ الضمير للبطحاء ، ويروى فهو على أن الضمير للقلب . وقوله « ما بين كداء وكدي » : يريد بكداء وكدي الثنيتين المعروفتين ، فالممدودة في أعلى مكة المشرّفة ، والمقصورة في أسفلها . وقوله « فاعهدوا » يروى بالهاء من التعهّد للشيء ، ويروى فاعمدوا بالميم من العمد أي تعمدوا بطحاء وادي سلم .
 
الإعراب :
إن : حرف شرط جازم . وثنى : فعل الشرط . ونشدانكم : بالنصب مفعوله . وسجرائي : بالسين المهملة والجيم والراء جمع سجير وهو الخليل المصاحب منادى حذف حرف ندائه ، أي يا أصيحابي وخلّاني . ولي وعنه : متعلقان بنشدانكم ، أي أن أمنع مسألتكم عنه . و « عيّ » : بالرفع فاعل ثنى وهو بمعنى العجز ، وهو مضاف إلى العيّ الثاني وهو بمعنى الحصر في الكلام ، أي إن منع أن تسألوا لي عن قلبي عجز حصر في الكلام فتعهّدوا بطحاء وادي سلم فربما وجدتم قلبي هناك . وجملة فاعهدوا إلى آخرها جواب الشرط . وقوله فهو أو فهي ما بين كداء وكدى ، أي بينهما وما بينهما مكة المشرّفة .
 
والمعنى :
يا أخلائي إن منعتكم من أن تسألوا لي عن قلبي تعب العجز والحصر فسألتكم اللّه تعالى أن تعهدوا بطحاء وادي سلم فإن قلبي بين ثنية كداء وكدي أي في مكة ، وجملة ناشدتكم معترضة بين الفعل ومفعوله . وفي البيت جناس الاشتقاق بين ناشدتكم ونشدانكم ، والجناس المحرّف بين عيّ وعيّ إن كان الأول بفتح العين والثاني بكسرها ، وإن كان بفتح العين فهو تامّ ، وفيه التجانس بين كداء وكدي . ثم إن الشيخ شرع في تذكّر أوقاته الماضية وتفكّر ساعاته السالفة حيث الزمان مساعد والخلّ غير متباعد فقال .
 
( ن ) : كنى ببطحاء وادي سلم عن عالم الأرواح الذي هو الوادي المقدس طوى قدّس عن دنس الطبيعة وانطوى فيه كل شيء ، وبطحاؤه موضع قبول الفيض الإلهي والمدد الربّاني وهو عالم العقول والألباب . وقوله كداء وكدي كنّى بالأول عن النور

 
« 153 »
 
الأول الأعلى وهو نور الحق تعالى ، وبالثاني عن النور الثاني الأسفل وهو نور محمد صلى اللّه عليه وسلم ، قال تعالى فيه : نُورٌ عَلى نُورٍ [ النّور : الآية 35 ] . اه .
 
140 - يا سقى اللّه عقيقا باللّوى *** ورعى ثمّ فريقا من لؤيّ
 
« يا » : حرف نداء ، والمنادى محذوف ، أي يا قوم وما أشبه ذلك . وجملة « سقى اللّه عقيقا باللّوى » : جملة دعائية ، والدعاء للمنازل بالسقاية سنّة معروفة وطريقة مألوفة . والعقيق الوادي وكل مسيل شقّه ماء السيل وموضع بالمدينة وباليمامة والطائف وبتهامة وبنجد وستّة مواضع أخر . واللّوى كإلى ما التوى من الرمل أو مستدقّه ، جمعه ألواء وألوية ، وألوينا صرنا إليه . « ورعى » : حفظ . و « ثمّ » بفتح الثاء المثلثة وتشديد الميم بمعنى هناك . والفريق على وزن أمير من الفرقة لأن الفرقة الطائفة من الناس ، والفريق ما كثر منها . وقوله « من لؤيّ » : يشير إلى أن الفريق الذي دعا له بالحفظ من بني لؤيّ بن غالب بن فهر وهو معتلّ اللام مهموز .
 
الإعراب :
يا : حرف تنبيه ، أو حرف نداء ، والمنادى محذوف . وسقى : فعل ماض . واللّه : فاعل . وعقيقا : مفعوله . وباللّوى : متعلق بمحذوف على أنه صفة لما قبله ، أي عقيقا كائنا باللّوى . وقوله ورعى : معطوف على سقى . وثمّ : ظرف متعلق بمحذوف على أنه حال من الذي بعده وكان صفة له فلما تقدّم عليه أعرب حالا ، فالمراد رعى فريقا كائنا هناك . ولعلّ المشار إليه اللّوى . ومن لؤيّ : صفة لفريقا أيضا ، إذ المراد وحفظ فريقا من نسل لؤيّ بن غالب .
 
المعنى :
الدعاء بالسقاية للعقيق الكائن باللّوى وبالحفظ للفريق الذين هم من نسل لؤي بن غالب ، وما ألطف قوله :
يا سقى اللّه عقيقا * ورعى ثم فريقا
فإن هذا بيت من بعض ضروب الرّمل حاصل في ضمن بيت من مسدس الرّمل ، وذلك من محاسن النّظم . ولا تخفى الموازنة بين سقى ورعى ، وبين عقيق وفريق ، وفي البيت المناسبة بين سقى ورعى والمجانسة بين اللّوى ولؤي ، وفي البيت الانسجام الذي يأخذ بمجامع الأفهام .
 
( ن ) : كنى بعقيق اللّوى عن المقام المحمّدي الذي هو موضع الفيض الربّاني والمدد الصّمداني والوحي الرحماني . والفريق هم جماعة من العارفين المحقّقين في ذلك المقام المحمدي ورثوه بنسب التقوى . اهـ .
 
141- وأويقات بواد سلفت فيه *** كانت راحتي في راحتيّ

 
« 154 »


[ الاعراب ]
« وأويقات » : معطوف على فريقا منصوب بالكسرة ، أو مجرور فتكون الواو واو ربّ وهو تصغير أوقات جمع وقت . وقوله « بواد » : متعلق بقوله سلفت ، والباء في بواد بمعنى في أي سلفت في واد عظيم ، فالتنكير فيه للتعظيم . و « كانت » : فعل ناقص . و « راحتي » : اسمها . و « في راحتي » : خبرها ، وفيه متعلق بكانت بناء على صحة التعلّق بالفعل الناقص . وراحتي الأوّل مفرد مضاف إلى ياء المتكلم ، والمراد منها خلاف التعب . وقوله في راحتي : مثنى راحة وهي بطن الكف .
 
والمعنى :
يدعو للأوقات اللطيفة الحبيبة إليه التي كانت في واد عظيم وكانت راحته وكان نعيمه في كفّيه ، والمراد أن فرحه كان في يده متى شاء أبرزه إلى الوجود كما يقال هذا الأمر في يدك إن شئته أوجدته . وفي البيت الجناس التام بين راحتي وراحتيّ فافهم ذلك .
 
( ن ) : قوله بواد هو الوادي المقدّس طوى قلب العارف الكامل الذي يطوى بأمر اللّه وينشر بأمر اللّه ، وهو أول أثر من آثار أمر اللّه . وقوله سلفت ، أي مضت في ذلك العالم الروحاني قبل النفخ في الأجسام كما ورد في الحديث أن اللّه خلق الأرواح قبل الأجسام بألفيّ عام . وقوله إن راحته كانت في يده كناية عن العالم الروحاني الأصلي الذي كان فيه قبل أن ينزل إلى عالم الطبيعة ويسكن في المركب العنصري . اهـ .
 
142 - معهد من عهد أجفاني على *** جيده من عقد أزهار حليّ
 
« معهد » : بالجر بدل من واد ، والمعهد المكان الذي يتعهّده صاحبه للسّكنى .
والعهد المضاف إلى أجفاني بمعنى المطر . والأجفان جمع جفن ، وهو غطاء العين .
والجيد بكسر الجيم وسكون الياء والدال المهملة : العنق ، وذكره هنا استعارة . والعقد بكسر العين مأخوذ من عقد العروس للدّرّ الذي ينظم ويوضع في عنقها للزينة . وحليّ تصغير حلى بفتح الحاء وسكون اللام وهو ما يتزيّن به .
 
الإعراب :
معهد : بالجرّ بدل من واد ، أو هو خبر مبتدأ محذوف ، أي هو معهد ، ويجوز فيه النصب على المدح ، أي أمدح معهد أو حليّ في آخر البيت مبتدأ .
ومن عقد أزهار : حال منه لكونه كان نعته فلما قدّم عليه أعرب حالا على القاعدة المعروفة . وعلى جيده : خبر مقدّم متعلق بمحذوف وجوبا . ومن عهد أجفاني : متعلق بما تعلق به الخبر ، والجملة كلها من المبتدأ والخبر وما تعلّق بها في محل جرّ على أنها صفة معهد بناء على أنه بدل من واد وإن كان مرفوعا أو منصوبا ، فالجملة على أسلوبه في المحليّة .

« 155 »
 
والمعنى :
وحفظ اللّه أوقاتا كانت في مكان معهود قد لازمت فيه البكاء حتى نبت من ماء أجفاني أزهار لطيفة زيّنت ربا ذلك المنزل المعهود فكأنها عقد نظيم وحلي جسيم . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين معهد وعهد ، وفيه المناسبة بذكر الجيد والعقد والحليّ . 
ويقرب معنى هذا البيت من قول المتنبي :
وتضحى الحصون المشمخرّات بالذّرا * وخيلك في أعناقهنّ قلائد


وقول القاضي أبي بكر ناصح الدين الأرجاني :
ما زال ينظمهنّ في سلك البرى * حتى توسّطهنّ بطن الوادي
 
( ن ) : معهد بالجرّ بدل من واد وهو معهد باعتبار سكناه المعهود ، وما يعهد فيه ساكنه من التوجّهات الربّانية وهو وادي باعتبار انصباب غيوث الفيض وسيول الإمداد إليه النّازلة من سماوات الغيوب الأسمائية ، وحضرات التجلّيات الإلهية .
وقوله من عهد أجفاني كناية عن البكاء بسيلان الدموع منها وهي حجب العين وهي من العين ، والبكاء من الفرقة بالحجاب . وكنى بالأزهار عن الأحوال التي ينتجها له ذلك البكاء من الذلّ والانكسار والشكر والثّناء الجميل . اهـ .
 
143 - كم غدير غادر الدّمع به *** أهله غير أولي حاج لريّ
 
« كم » : تكثيريّة . و « غدير » بالجر مجرور بمن المقدّرة ، أو بالإضافة على أحد القولين . و « غادر » : ترك . و « الدمع » : ما سال من العين فإن كان عن حزن فهو سخن ، وإن كان عن فرح فهو بارد . ومن ثم يقال أسخن اللّه عين زيد ، أي أبكاه بكاء ناشئا عن حزن ، فهو دعاء عليه . ويقال أقرّ اللّه عينه ، أي أبردها ، مأخوذ من القرّ وهو البرودة ، ومنه العين القريرة . و « به » متعلق بغادر ، والباء للسببية . و « أهله » : أي أهل الغدير . و « أولي » بمعنى أصحاب فيعرب إعراب جمع المذكر . والحاج جمع حاجة كالسّاع جمع ساعة . والريّ : الارتواء من العطش ، يقال فلان عنده ارتواء ، أي ليس له عطش .
 
الإعراب :
كم : في محل رفع على الابتداء . وغدير : بالجر تمييزها . وغادر : فعل ماض . 
والدمع بالرفع فاعله . وبه : متعلق بغادر . وأهله : مفعول أول لغادر .
وغير : بالنصب مفعول ثان له . وأولي : مضاف إليه مجرور بالياء إلحاقا له بحكم جمع المذكر السالم .
 ولريّ : متعلق بحاج باعتبار ما فيه من معنى الاحتياج . 
وجملة غادر الدمع به إلى آخره في محل رفع على أنها خبر المبتدأ .


يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 126 إلى 151 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:01 pm

شرح قصيدة سائق الأظعان الأبيات من 126 إلى 151 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الأولى سائق الأظعان الأبيات من 126 إلى 151 
« 156 »
والمعنى :
كثير من الغدران قد امتلأ بالدمع فلم يجعل أهله محتاجين إلى الريّ من مكان آخر لأنّ الدمع قد ملأ من الغدران ما كفى أهلها . وفي البيت جناس الاشتقاق بين غدير وغادر ، وفيه المبالغة ، ويجوز أن يكون به صفة لغدير وتكون هاؤه راجعة للعهد ، أي كم غدير كائن في ذلك المعهد وعلى هذا يكون ضمير أهله أيضا عائدا إلى المعهد وهذا ظاهر وربما يكون هو المقصود .
 
( ن ) : به أي بذلك المعهد - يعني فيه وأهله - مفعول غادر ، أي أهل ذلك المعهد . اهـ .
 
144 - فثرائي من ثراه كان لو *** عاد لي عفّرت فيه وجنتيّ
 
« فثرائي » : أي فغناي وثروتي من ثراه ، أي من تراب ذلك المعهد .
وقوله « لو عاد لي » الرجوع إلى ذلك المعهد عفّرت فيه وجنتي .
 
الإعراب :
ثرائي : مبتدأ . وكان : فعل ماض ناقص ، واسمها ضمير مستتر يعود إليه . ومن ثراه : خبرها ، والضمير في عاد يعود للعهد لكن على حذف مضاف ، أي لو عاد إلى الحلول فيه أو الرجوع إليه عفّرت وجنتي فيه طلبا للسعادة لأنها موضعها .
وفي البيت جناس الاشتقاق بين ثرائي وثراه .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله لو عاد لي ، أي ثراه ، وهو كناية عن حال الذّلّ والانكسار الذي كان له في ذلك المعهد ، وكنى بوجنتيه عن ظاهره وباطنه . اهـ .
 
145 - حيّ ربعيّ الحيا ربع الحيا *** بأبي جيرتنا فيه وبيّ
 
[ الاعراب ]
« حيّ » : فعل أمر من التحية . و « ربعي الحيا » المراد منه الحيا الرّبعي بفتح الراء وفتح الباء على أنه منسوب إلى الربيع ، إذ المراد منه الحيا ، أي المطر الذي ينزل في زمن الربيع لكن الشيخ رضي اللّه عنه سكّن الباء لضرورة الوزن ، وقد نطق بذلك أبو تمام على أصله حيث قال :
ربعت على أوطانها ربعية
وربع الحيا : منزل الحياء . والحيا الثاني هو بمعنى الاستحياء ، وهو انقباض النفس خوف القبائح ، وهو وصف محمود إلى الغاية . وقوله « بأبي جيرتنا » فيه الباء للتعدية ، أي أفدي بأبي جيرتنا ، فجيرتنا حينئذ منصوب على أنه مفعول أفدي الذي دلّ عليه الباء في بأبي . و « فيه » : حال من جيرتنا ، أي أفدي جيرتنا حال كونهم فيه ، أي في ربع الحياء . ويجوز في جيرتنا الرفع على أن المراد جيرتنا فيه مفديون بأبي ، أو
 
« 157 »
 
يفدى بالبناء للمجهول جيرتنا حال كونهم فيه . وقوله و « بيّ » : بفتح الباء وتشديد الياء ساكنة على أنه معطوف على حيّ ، إذ المراد حيّ وبيّ مأخوذ من قولهم حيّاك اللّه وبيّاك ، أي حيّاك وأصلحك ، وعلى هذا جملة بأبي جيرتنا فيه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه .
 
والمعنى :
حيّ يا مطر الربيع منزل الحياء والحجاب ، والمراد وصف من فيه بأنهم أهل الحياء وفداهم بأبيه . وفي البيت الجناس التام بين الحيا والحيا ، وجناس الاشتقاق بين ربعي وربع ، وجناس المضارعة بين حيّ وبيّ ولا يخفى ما بين أبي وبيّ من التجانس الذي يقصده الشيخ رضي اللّه عنه .
 
( ن ) : ربعي الحيا كناية عن مطر العلم الإلهي من سماء الغيب الحق في ربيع قوّة الحال الشوقي الإلهي . وقوله ربع مفعول حيّ ، أي منزل الحيا بمعنى الاستحياء وهو هيكل الإنسان الكامل وجيرته المجاورون له في المقام وهم العارفون الكاملون . اهـ .
 
146 - أيّ عيش مرّ لي في ظلّه *** أسفي إذ صار حظّي منه أيّ
 
« أي » : اسم استفهام يقصد منه التهويل والتعظيم . و « عيش » بالجرّ : مضاف إليه .
والهاء في ظلّه يعود إلى ربع الحيا . وجملة « مرّ لي في ظلّه » جملة فعلية في محل رفع على أنها خبر المبتدأ . و « أسفي » منادى حذف منه حرف النداء ، أي يا أسفي ، والمراد من النداء هنا كمال التحسّر ، إذ المراد يا أسفي احضر هذا أوانك ، والأسف أشدّ الحزن والحسرة . ويجوز أن يكون المعنى أتأسف أسفي المعلوم الواضح المشهور لأجل أن صار حظّي من ذلك العيش ، أي فات فلم يبق لي منه سوى أنني أسأل عنه سؤال معظّم له متأسّف على فراقه . فإذ : تعليلية . و « أيّ » في آخر البيت حكاية اللفظ ، أي الاستفهامية الواقعة أول البيت فعلى هذا يكون حظّي اسم صار وأي خبرها على أن المراد لفظها فتكون محكيّة على ما نطق به أولا .
وفي البيت ردّ العجز على الصدر في أي .
وما أحسن قول من قال :
للّه أيام نعمنا بها * ما كان أسناها وأهناها
غابت فلم يبق لنا بعدها * شيء سوى أن نتمنّاها
 
147 - أي ليالي الوصل هل من عودة *** ومن التّعليل قول الصّبّ أيّ
 
« أي » : حرف نداء للقريب . و « من » في من عودة : زائدة ، والمراد بزيادتها الاستقصاء في السؤال عن عودة ما ، والمراد هل ترتجى عودة . قوله « ومن التعليل » :
 
« 158 »
 
أي من تعليل الرجل لنفسه أن ينادي ليالي الوصل ويسألها هل من عودة إلى الوصل بعد الانفصال ، وإلا فمن المعلوم أن لا عودة لفائت ، والتعليل مأخوذ من قولهم :
علّلت فلانا بالبستان ، أي شغلته به فكان الشيخ رضي اللّه عنه يقول : إن ندائي لليالي الوصل وسؤالي لها عن الوصل بعد الانفصال مجرّد علالة للقلب عن الأحباب .
 
الإعراب :
أي : حرف نداء . وليالي الوصل : منادى مضاف ، وتسكين ياء الليالي للضرورة . وعودة : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي هل من عودة موجودة . ومن التعليل : خبر مقدّم . وقول الصّب : مبتدأ ومضاف إليه . وأيّ مع ما حذف بعدها مقول القول ، إذ المراد من تعليل الرجل لنفسه قوله : يا ليالي الوصل هل من عودة .
وفي البيت ردّ العجز على الصدر في ذكر أول البيت وآخره .
 
[ المعنى ]
( ن ) : ليالي الوصل كناية عن عالم الروح الأمري فكونها ليالي لأنها من عالم الكون فهي أول مخلوق ظهر عن أمر اللّه تعالى القديم ، وكونها ليالي الوصل فإن السّالك إذا صفا عن أكدار الطبيعة وأحكامها يصير روحانيّا فيتصل بأمر اللّه تعالى الذي هو كلمح البصر من غير اتصال . وقوله : هل من عودة ؟
فإن اللّه تعالى خلق الأرواح قبل الأجسام بألفيّ عام كما ورد في الأثر ، ثم إذا سوّى اللّه تعالى الجسم من العناصر والطبائع على حسب ما سبق به العلم القديم نفخ فيه من روحه فاختفى على هذا السّالك حقيقة ما هنالك ، فطلب العود إلى ما كان لتنكشف له شجنة الرّحم المتعلقة بعرش الرحمن ، وللّه درّ الإمام الجيلي حيث قال في مثل هذا الشأن :
تعالوا بنا حتى نعود كما كنّا * ولا عهدنا خنتم ولا عهدكم خنّا اهـ .
 
148 - وبأيّ الطّرق أرجو رجعها *** ربّما أقضي وما أدري بأيّ
 
[ الاعراب ]
هذا البيت يقرّر بأن لا عودة للعود ، وأن سؤاله عنها مجرّد تعليل لنفسه ، وأن لا طمع فيه لأن المراد بأيّ طريق أرجو رجع ليالي الوصل ، أي لا طرق ولا سبب أرجو به رجع ليالي الوصل وحيث انتفى السبب للرجوع انقطعت الأطماع فيه . وقوله « ربما أقضي » أقضي على وزن أرمي ومعناه أموت ، أي ربما أموت وأنا لا أعلم الطريق المؤدّية إلى عود ليالي الوصل . و « بأيّ » : متعلق بأرجو . وربّ : مكفوفة بما ، فلذلك دخلت على الفعل . وجملة وما أدري : جملة حالية من فاعل أقضي وهو ضمير المتكلم .
وقوله « ما أدري بأيّ » أي وأنا لا أدري بأيّ طريق ترجع ليالي الوصل . وفي البيت ردّ العجز على الصدر بذكر أي في أول البيت وآخره . وتأمل هذه الأبيات

« 159 »
 
الثلاثة وهي وبأيّ الطرق والبيتان قبله حيث ذكر الشيخ في كلّ منها صورة أي مع التزام ردّ العجز على الصدر في الثلاثة مع اختلاف معاني أي في الثلاثة .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يقول لا أدري بأي طريق أرجو رجع هاتيك الليالي فإن الروح قبل اتصالها وتعلّقها بالجسم كانت خالية من عالم الخيال فلما اتصلت بالجسم انفتح عليها عالم الخيال فأشغلها عمّا كانت فيه من قبل من الصفاء عن كل ما يشغلها ويلهيها عن الاتصال بعالم القدس وحضرات الأمر الإلهي فتمنى لو رجعت له الحالة الأولى وأخبر أنه لا يدري بأي طريق يصل إلى ترجّيه رجوعها فضلا عن رجوعها . ثم قال : ربما أموت على حالتي هذه والميت يحشر على حالته التي مات عليها ، فكان في حياته لا يدري بأيّ طريق يرجو رجوعها ، وبعد موته كذلك لا يدري . اهـ .


149 - حيرتي بين قضاء جيرتي من *** ورائي وهوى بين يديّ
 
[ الاعراب ]
« حيرتي » بفتح الحاء المهملة بمعنى التحيّر ، وهي عدم الاهتداء للسبيل .
وحاصل البيت حيرتي بين أمرين : أحدهما من ورائي وهو القضاء ، والآخر بين يدي وهو الهوى . والهوى بضم الهاء وفتح الواو جمع هوّة على وزن قوّة وهي في الأصل الوهدة الغامضة من الأرض ، والمراد من الهوى مشكلة لا يدري الإنسان كيف يلقاها .
وقوله « جيرتي » : منادى ، أي يا جيرتي ، وهي جملة ندائية معترضة بين المتعاطفين وكأنه يحكي لجيرته عن تحيّره بين أمرين وهما القضاء والهوى ، فالأول من ورائه ، والثاني بين يديه . وهذا البيت يفيد ما يلحق العارف من التحيّر في آخر أمره .
قال الشيخ السودي :
حيرة عمّت فأيّ فتى * رام عرفانا ولم يحرّ
ولا شك أن القضاء الإلهي وراء كل كل حيّ تابعه على سبيل التحقيق والأمور الغامضة وهي أمور الآخرة بين يديه لا يعلم ما يصير أمره إليه فيها ، ولعمري إن هذا هو التحيّر الكامل الذي يقف العارف عن إدراكه . وفي البيت الجناس المصحّف بين حيرتي وجيرتي ، والطّباق بين ورائي وبين يدي ، وهوى بفتح الهاء والواو وهي بمعنى الميل ، ولعلّ ذلك عبارة عمّا سيأتي من نعيم الآخرة فهو متحيّر في حصوله .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يعني أن حيرته ناتجة عن أمرين :
أحدهما القضاء الإلهي القديم الذي لا بدّ من نفاذه وهو من ورائه بحيث لا يعلم ما تضمنّه من مراد اللّه تعالى .
وثانيهما الهوى أي الميل النفساني الذي لا يمكن ردّه إلا بمعونة اللّه تعالى وهو بين يديه

« 160 »
 
حاضر يعلمه ويعلم ما تضمنّه من الأمور ، وجيرته كناية عن أهل طريق اللّه من العارفين . اهـ .
 
150 - ذهب العمر ضياعا وانقضى *** باطلا إن لم أفز منك بشيّ
 
[ الاعراب ]
هذا البيت ظاهر ومراده أن يتأسف على ما فات من عمره ضياعا حيث لم يجد من ذاهبه انتفاعا ، ويتحسّر على انقضائه باطلا حيث لم يدرك منه نفعا ولا طائلا ، لكن قيّد ذهابه ضياعا وانقضاءه باطلا بما إذا لم يفز من مراده بالمراد ولم يجد من قبله نوعا من الإسعاف والإسعاد . فأما إذا فاز منه بحظ ولو كان قليلا فإنه يكون معدودا ممّن حاز سعدا جليلا ، وعيشا جميلا ،
وما أحسن قول القائل :
لئن كان هذا الدمع يجري صبابة * على غير ليلي فهو دمع مضيع
وما أحسن قول من قال :
قليل منك يكفيني ولكن * قليلك لا يقال له قليل
وقال في مثل ذلك ابن النبيه :
قليل الوصل يكفينا فإن لم * يصبنا وابل منكم فطلّ
وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله ، أي إن لم أفز منكم بشيء فقد ذهب عمري ضياعا وانقضى باطلا . ولكن إن ساعدت الآمال وسعدت منكم الأيام واللّيال فإني ناعم البال فاقد البلبال والحمد للّه على كل حال . وفي البيت لطف المناسبة بين الذهاب والضّياع والانقضاء والبطلان . وأصل « شيّ » أن يكون بياء وهمزة ثم قلبت الهمزة ياء وأدغمت الياء في الياء فصار شيّ .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يندب حاله بأن عمره انقضى باطلا حيث لم يفز من معرفة ربّه بشيء يدركه منه ، والأمر كذلك فإن غاية ما يحصل عليه العارف بربّه يحصل على معرفة نفسه ويكشف له عن فنائها وفناء العوالم كلها في وجود الحق القديم ولا يكشف له عن وجود الحق القيّوم ما هو فيتحقّق به ولا يفوز منه بشيء إذ كل شيء هالك إلا وجهه فلا شيء معه حتى يفوز منه بذلك الشيء . اهـ .
 
151 - غير ما أوليت من عقدي ولا *** عترة المبعوث حقّا من قصيّ
 
قوله « غير ما أوليت » : استثناء منقطع من قوله ذهب العمر ضياعا وانقضى باطلا ، أي لم أر في عمري نفعا غير الذي أولانيه اللّه تعالى من عقدي ولاء عترة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو المبعوث حقّا من قصي . و « أوليت » : ماض مجهول من أولى الذي

« 161 »
 
يتعدّى إلى مفعولين ، تقول أولى اللّه تعالى زيدا إحسانا ، فأوليت أيضا يتعدّى إلى مفعولين ، فالتاء للمتكلم نائب الفاعل وهو المفعول الأول والمفعول الثاني محذوف تقديره غير الذي أوليته . و « من » : بيانية . و « عقدي » : بيان ، والمبيّن الهاء المحذوفة التي هي عائد الموصول وهو ما . و « ولا » : مضاف . و « عترة » : مضاف إليه ، وهو بفتح الواو العبودية ، والعترة بكسر العين وبعدها التاء المثنّاة من فوق قلادة تعجن بالمسك والأفاوية ونسل الرجل ورهطه وعترته الأدنون ممّن مضى وغبر والمراد المعنى الأخير هنا .
و « المبعوث » : صفة لموصوف محذوف ، أي النبي المبعوث حقّا من نسل قصيّ .
و « قصيّ » على وزن سميّ هو قصيّ بن كلاب واسمه زيد .
 
الإعراب :
غير : منصوب على الحالية . وما : في محل جر على أنه مضاف إليه .
وجملة أوليت : صلة الموصول ، والعائد الضمير المحذوف ، أي أوليته . ومن عقدي بيان للهاء المحذوفة ، والياء في عقدي فاعل المصدر . والولا : مفعوله . وعترة :
مضاف إليه ، وهو مضاف أيضا إلى المبعوث . وحقّا : نعت لمصدر محذوف ، أي المبعوث بعثا حقّا لا باطلا . ومن قصيّ : حال من المبعوث باعتبار الموصوف ، أي النبي المبعوث حال كونه من قصيّ .
 
والمعنى :
أني لم أفز من عمري بشيء سوى ما عقدته من موالاة عترة النبي صلى اللّه عليه وسلم وهذا عمل بقوله تعالى : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [ الأنعام : الآية 90 ] إلا المودّة في القربى . وقد نظم هذا المعنى الشيخ محيي الدين بن عربي حيث قال :
جعلت ولائي آل أحمد قربة * على رغم أهل البعد تورثني القربا
وما طلب المختار أجرا على الهدى * بتبليغه إلّا المودّة في القربى
 
والحمد للّه أولا وآخرا وظاهرا وباطنا ، هذا ما قصدنا تعليقه على ألفاظ القصيدة اليائيّة الفارضيّة ، ويعلم اللّه تعالى أني ما قصدت من شرحها إلا أن يقرأها الناس صحيحة الألفاظ ، فإن الرّواة قد بالغوا في تحريفها وتصحيفها . وقد اجتهدت حقّ الاجتهاد في تصحيحها وضبط ألفاظها ، والمطلوب من اللّه تعالى أن يرزقني الحظّ الوافر من الأجر والثّواب يوم المناقشة في الحساب .
 
وكان ختام هذا الشرح في صبيحة الجمعة المباركة وهو اليوم التاسع عشر من جمادى الأولى من شهور سنة عشر بعد الألف من هجرة خير الأنام عليه من اللّه أفضل الصلاة والسلام ، وعلى آله وأصحابه الكرام .

« 162 »
 
( ن ) : قوله غير ما أوليت استثناء من قوله ذهب العمر إلى قوله لم أفز منكم بشي وهو استثناء متصل فإن ما ذكر شيء وهو قوله ما أوليت بضم التاء مبني للفاعل ، وقوله من عقد ولا الخ . . . وفي نسخة من عقدي بالياء والمعنى أنه لم يفز طول عمره من الحقّ تعالى بشيء لأنه تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ الشّورى : الآية 11 ] ،
ثم استثنى من ذلك الشيء الذي لم يفز به من ربّه عقد موالاته لآل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم وعدّ هذا الشيء فوزا ونجاة وهو شيء من أشرف الأشياء . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة صدّ حمى ظمئي لماك الأبيات من 01 إلى 21 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:02 pm

شرح قصيدة صدّ حمى ظمئي لماك الأبيات من 01 إلى 21 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الثانية صدّ حمى ظمئي لماك الأبيات من 01 إلى 21 
[ شرح القصيدة الثانية صدّ حمى ظمئي لماك]
[ مقدمة الشارح ]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
وبه ثقتي وعوني
الحمد للّه الذي شرح صدورنا للإسلام ، ووفّقنا للانتظام في سلك من أدرك دقائق النظام والصلاة والسلام على الذّات المقدسة بأكمل تقديس ، المشتملة من محاسن الأخلاق على كل جوهر نفيس ، وعلى آله السّالكين في مسالكه وأصحابه الواقفين على حقائق مداركه ما شرح كلام واتّضح مرام .
أما بعد . . .
فإن شعر الأستاذ العارف من ظلّ كماله على أهل المعارف وارف ، ومن صفا منهل ورده وطاب ، وارتاحت روحه الشريفة بلذيذ الخطاب ، ووقع الإجماع على أنه ذو نفس قدسية ، وأنه صاحب صفات كاملة لاهوتية ، عنيت به سيّد العشّاق بغير معارض المولى العارف بربّه الشيخ عمر بن الفارض ، روّح اللّه روحه ، وأجزل من معاني الوصل فتوحه قد نزل من الشعر منزلة الواسطة من العقد النّظيم ، وأصبح من اللطافة كنشر الرّوض إذا صافحته كفّ النسيم ، فهو الغاية القصوى ، والمطلب الأنفس الأعلى ، لم ينسج ناظم على منواله ، ولا ظفر بليغ في المطالب بمثاله ، فهو منحة من اللّه الكريم ، وهبة من لطائف المولى السميع العليم ، قد وصل من الفصاحة إلى أقصاها ، وانتهى من البلاغة إلى أعلى المراتب وأسناها ، وإني تشرّفت بحفظه من عهد الشباب ، وكرعت من حياض مناهله في أصفى شراب وتأمّلت في معانيه ، ونشرت ما وصلت القدرة إليه من خفايا مطاويه ، فطلب مني أعزّ الإخوان بل إنسان العين ، وعين الإنسان أن أكتب له تعليقة أنيقة ، وأغرس له حديقة سقيت بغيث السليقة على قصائد الأستاذ المذكور حباه مولاه بمطالع النور ولطائف الحبور إذ لم يوجد لها شرح يحلّ مبناها ويوضح للطالبين معناها ، فتعلّلت بصعوبة المرام ، وانخفاض قدري عن علوّ ذلك المقام ، فقال لا بدّ من ذلك فاستعنت بصادق الاعتقاد في سلوك هاتيك المسالك ، وعند ذلك أيقنت بالبشرى حيث تعرّفتها من صاحبها وصاحب البيت
 
« 164 »
 
أدرى ، وباللّه أستعين ، ومن جوده أطلب الوصول إلى مراتب اليقين . قال الأستاذ الكامل العالم العامل ، سيدي الشيخ عمر بن الفارض سقى اللّه ثرى قبره الشريف أعذب عارض .
 
01 - صدّ حمى ظمئي لماك لماذا  *** وهواك قلبي صار منه جذاذا
 
[ الاعراب ]
الصّدّ : مصدر صدّه عن كذا ، أي منعه ، وصدّ فلان عن فلان أعرض عنه .
و « حمى » بمعنى منع ، واللمى : مثلث اللام سمرة الشّفة ، والمراد هنا ما يجاوره من الرّيق بقرينة الظما . والجذاذ : مثلث الجيم اسم مصدر من جذّ بمعنى قطع قطعا مستأصلا . والصّدّ : مبتدأ وتنكير التعظيم فيه مع كون المقام للشكاية مما يدلّ على وصف له مقدّر ، أي صدّ عظيم ، ولذلك ساغ الابتداء به مع تنكيره . ويجوز أن يكون الصّدّ مبتدأ محذوف الخبر ، أي لك صدّ ، والجملة حينئذ صفة للصّدّ . و « حمى » :
فعل ماض بمعنى منع . و « ظمئي » و « لماك » : مفعولاه . وقوله « لماذا » : متعلق بمحذوف تقديره لماذا حماه ولا يتعلق بحمى المتقدّم الملفوظ لأن عامل الاستفهام لا يتقدّم عليه ، وثبوت الألف في ما الاستفهامية لأنها صارت حشوا وذلك لتركب ما الاستفهامية مع ذا والجملة للسؤال عن سبب منع الصّدّ لما ظمأه والاستفهام للتعجّب ، أي كيف يمنع اللما عن ظمئي مع أن منع الورود عند الظمأ غير معهود . والواو للعطف على الجملة الكبرى . و « هواك » مبتدأ أول . و « قلبي » : مبتدأ ثان . و « صار » مع اسمها المستكنّ فيها الراجع إلى القلب وخبرها الذي هو جذاذا خبر عن الثاني ، والثاني وخبره خبر عن الأول ، ويجب تأويل الجذاذ بمعنى الجذود إلا أن تراد المبالغة . ويجوز هنا وجه لطيف وهو أن تكون الواو الداخلة على هواك للقسم ويكون الضمير في منه راجعا إلى الصّدّ أو إلى هواك ، وعلى الوجه الأول يكون الضمير راجعا إلى هواك ، وتكون جملة قلبي صار منه جذاذا جواب القسم على القول بأن الواو له ، أي وحقّ هواك صار قلبي جذاذا من صدّك ، ولا يخفى التقارب اللفظي بين لماك ولماذا .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يقول : منع حصل من المحبوب الحقيقي صاحب الجمال الحقيقي الذي محبته هي المحبة الحقيقية ، والكاف في لماك حرف خطاب للمحبوب الحقيقي وهو الحق تعالى ، ولماه حلاوة توحيده . وقوله لماذا سؤال واستفهام رغبة في الجواب ولا يمكن أن يكون للعدم من الوجود خطاب ، ولكن إذا وقعت الكنايات من العاشق تكلم بكل ما أراد ، وطلب المستحيل وكلّ ما يتمنّاه الفؤاد . اهـ 
 
« 165 »
 
02 - إن كان في تلفي رضاك صبابة  *** ولك البقاء وجدت فيه لذاذا
 
[ الاعراب ]
الصبابة : الشوق أو رقّته ، أو رقّة الهوى . واللذاذ كاللذاذة مصدر لذّه ولذّ به ، واللذّة نقيض الألم وهي عند الحكماء إدراك الملائم أو شيء ينشأ عن إدراك الملائم قولان ، والتحقيق الثاني وللخلاف فائدة مذكورة في موضعها من علم الكلام . و « إن » الشرطية تمحض الفعل الذي تدخل عليه للاستقبال قبل إلا كان فتبقى مع إن الشرطية على مضيّها لتوغّلها في المضيّ على ما أفاده صاحب الكشّاف ونقله السعد التفتازاني عن بعض شيوخ النحو أيضا . و « صبابة » : نصب على التعليل لتلفي ، أي إن كان في تلفي لأجل الصبابة رضاك . وجواب الشرط وجدت . وقوله « ولك البقاء » : معترضة بين الشرط وجزائه ، ونكتة الاعتراض المطابقة بين البقاء والتلف مع استعطاف المطلوب ، وفيه أيضا شبه احتراس عن مجازاة المحبوب بما فعل من القتل إذ كان الوهم يذهب إلى أن القاتل يستحق مثل ما فعل . قال أبو الطيب المتنبي :
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه * يا جنتي لحسبت فيه جهنّما
وفي البيت المقابلة بين التلف والبقاء ، وفيه الإطناب بالجملة المعترضة وقد بيّنّا فائدتها وللّه درّه .
 
[ المعنى ]
( ن ) : التلف هو الفناء ، والفناء في طريق اللّه هو الكشف عن جميع أعيان العوالم مما هو سوى اللّه تعالى بأنها فانية هالكة معدومة بعدمها الأصلي ، وإنما تظهر موجودة بإضافة الوجود الحقّ إليها من قبل قوله سبحانه : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ النّور : الآية 35 ]
أي وجودهما الذي هو النور الحقيقي بإضافته إليهما ، قال تعالى :
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 3 ) [ الحديد : الآية 3 ] .
وقوله صبابة ، يعني إن كان رضاك في فنائي واضمحلالي بشدة الشوق حتى تنفرد أنت بالوجود وحدك كما هو عليه في نفسه ويكون لك البقاء ، أي الدوام والاستمرار وجدت اللذاذة والنعيم بذلك . اهـ .
 
03 - كبدي سلبت صحيحة فامنن  *** على رمقي بها ممنونة أفلاذا
 
[ الاعراب ]
الكبد معروفة وهي مؤنثة ، وقد تذكّر . والرمق : بقية الحياة . وامنن : فعل أمر من منّ يمنّ كنصر ينصر ، وامنن هنا بمعنى أنعم . 
والممنونة : اسم مفعول من منّ بمعنى قطع ، وهو أيضا من باب نصر . والأفلاذ جمع فلذة ، وهي القطعة من الكبد .
و « كبدي » : مفعول مقدّم لسلبت . و « صحيحة » : حال من كبدي . و « ممنونة أفلاذا » :
حالان من الهاء في بها العائدة إلى الكبد ، والحال حينئذ مترادفة ، وإن جعلت أفلاذا
 
« 166 »
 
حالا من الضمير في ممنونة فمتداخلة . وبين امنن وممنونة جناس شبه الاشتقاق ، وبين الصحيحة والممنونة طباق معنوي لأنه يلزم من التقطيع للكبد عدم صحّتها ، وفي ذكر الرّمق إشارة إلى أنه لم يبق له من الحياة سوى رمق وذماء قليل ففيه شبه إدماج الشّكاية من اقتراب فنائه .
 
والمعنى :
سلبت أيّها المحبوب كبدي وأخذتها حال كونها صحيحة سليمة فأنا الآن أرضى أن تمنّ بها عليّ مقطّعة قطعا لأن الوجود خير من العدم . وفي أفلاذا دلالة على قطع كبده وأنه صار قطعا متفرّقة ففيه زيادة على ما يفهم من ممنونة ، وهذا البيت كقول القائل :
قولوا لمن سلب الفؤاد صحيحة * يمنن عليّ بردّه مصدوعا
 
( ن ) : الخطاب للمحبوب الحقيقي الذي سلب قلبه وأخذه قهرا بسبب المحبّة وأبقاه عنده وإنما طلب أن يرجع إليه قلبه ليتحقّق بمعرفة محبوبه . اه .
 
04 - يا راميا يرمي بسهم لحاظه *** عن قوس حاجبه الحشا إنفاذا
 
[ الاعراب ]
اللّحاظ بفتح اللام مؤخّر العين ، وبكسرها سمة تحت العين . و « الحشا » ما دون الحجاب من كبد أو غيره ، ولعل المراد هنا الكبد وإضافة سهم لحاظه وقوس حاجبه من التشبيه المؤكّد لإضافة المشبّه به إلى المشبه كقول ابن خفاجة :
والريح تعبث بالغصون وقد جرى * ذهب الأصيل عن لجين الماء
 
أي على ماء كاللجين ، والمنادى في قوله
يا راميا يرمي من قبيل الشبيه بالمضاف لأنه تعلّق به من تمام معناه الوصف بالجملة بعده فهو على حدّ قوله :
أعبدا حلّ في شعبي غريبا * ألؤما لا أبا لك واغترابا
 
والباء وعن في البيت يحتملان التعلّق بالفعل وهو يرمي ، أو باسم الفاعل وهو راميا ، غير أن التعلّق بالفعل أولى لقربه ولأصالته في العمل . و « الحشا » : مفعول للفعل أو لاسم الفاعل المذكور . و « إنفاذا » : مصدر أنفذ الشيء أجازه وهو حال على التأويل باسم الفاعل من الضمير في يرمي ، ويحتمل أن يكون مفعولا مطلقا من فعل مقدّر ، أي أنفذه إنفاذا . وفي البيت مراعاة النظير بالجمع بين السهم والقوس والرمي ، وفيه جناس الاشتقاق بين يرمي وراميا ، هذا ولك أن تجعل إنفاذا مصدرا من يرمي ويكون من قبيل جلست قعودا بادّعاء أن رميه منفذ في رميته فليتأمل ففيه ما فيه .

« 167 »
 
[ المعنى ]
( ن ) : اللحاظ كناية عن توجّه أمره تعالى بالروح ، فالسهم أمره ، واللحاظ حضرة الروح المدبّر لعالم الأجسام . وقوله عن قوس حاجبه كنى بالحاجب عن عالم الجسم وكونه قوسا لا عوجاجه بالكثافة ، وهذا الرمي حاصل له من كل شيء .
وقوله الحشا : مفعول يرمي ، يعني أن رميه مخصوص بالبواطن فينفذ فيها إنفاذا ، وهي محل نظر الرّبّ كما ورد في الخبر أن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم . اهـ .

05 - أنّى هجرت لهجر واش بي *** كمن في لومه لؤم حكاه فهاذى
 
[ الاعراب ]
« أنّى » بمعنى كيف ، وهي حيث كانت بمعناها وجب أن يليها الفعل ، والاستفهام هنا للتعجّب . و « هجرت » من الهجر بفتح الهاء بمعنى التّرك . والهجر بالضم :
الهذيان ، وهو المضاف إلى واش . والواشي : النّمّام والساعي . واللّوم بفتح اللام :
العذل . واللؤم بالضم والهمز بعده خلاف الكرم . وهاذى : فعل ماض من باب المفاعلة مثل قاتل مقاتلة . و « أنّى » : حال مقدمة من التاء في هجرت . و « بي » : متعلق بواش ، والكاف مع مجرورها نعت لواش ومجرور الكاف موصول صلته الجملة الاسمية بعده ، وفاعل حكى ضمير يعود لمن ، أي حكى الواشي اللائم في الهذيان فهاذاه ، أي شاركه في الهذيان .
 
[ المعنى ]
ومعنى البيت : كيف هجرتني لأجل هذيان نمّام بي عندك مماثل للذي في عذله لؤم ، فقد حكى النمّام اللائم في الهذيان ، وفي ذلك إشارة إلى عدم قبوله قول اللائم في المحبة وإن كان الحبيب قد سمع هذيان الواشي في حقّه ففيه إدماج وفائه وعدم قبوله نصيحة اللائمين وعذل العاذلين ، وما أحسن قول القائل :
سعى إليك بي الواشي فلم ترني * أهلا لتكذيب ما ألقى من الخبر
ولو سعى بك عندي في الكرى وجرى * طيف الخيال لبعت النوم بالسهر
 
وفي البيت جناس بين اللوم واللؤم وهو جناس محرّف لكن ينبغي أن تبدل همزة اللؤم واوا ، وإلا لزم اختلاف الكلمتين في نوع الحروف وفي شكلها وذلك يقتضي بعد كلّ من الكلمتين عن الأخرى فيذهب فيها التجانس الحسن . وبين هجرت وهجر جناس شبه الاشتقاق ، وكثير من الرّواة يظن أن قوله فهاذا اسم إشارة .
 
( ن ) : قوله واش : أي ساع بالنّميمة للإفساد كنى بذلك عن الهوى الذي يقع في القلب فينقل الأعمال الحسنة إلى حضرة الحق تعالى ناقصة قاصرة عن كمالها . وقوله
 
« 168 »
 
كمن في لومه : أي ملامته لي على المحبة وهو العذول كناية عن العقل القائم به المحجوب عن حقائق المعارف الإلهية كان عقله لائم يلومه على المحبة لأن العقل يمشي بالعبد على مقتضى الإدراك القاصر والوساوس النفسانية والأمور الإلهية من وراء طور العقل ولا يقوم بالعبد على ذلك إلا بتوفيق اللّه تعالى وهدايته . اهـ .
 
06 - وعليّ فيك من اعتدى في حجره *** فقد اغتدى في حجره ملّاذا
 
[ الاعراب ]
« اعتدى » بالعين المهملة من العدوان بضم العين وهو الظلم . والحجر مثلث الحاء بمعنى المنع . 
و « اغتدى » بالغين المعجمة بمعنى صار . والحجر بكسر الحاء بمعنى العقل ، وينبغي أن يقرأ الأول بالكسر أيضا فيحصل الجناس التام . والملاذ بتشديد اللام على وزن فعال وهو الخفيف ، وقد وضع للمتصنّع الذي لا تصحّ مودّته والمراد الأول ، وربما يراد الثاني على بعد . و « عليّ » : متعلق باعتدى . و « فيك » كذلك . و « في » هنا سببية . و « في » الأولى كذلك . و « من » : هنا موصولة ، أو شرطية .
وقوله فقد اغتدى الخ . . . خبر على الأول في محل رفع وجواب شرط على الثاني في محل جزم ، ودخلت الفاء على الأول بتضمّن المبتدأ معنى الشرط . و « اغتدى » من الأفعال الناقصة واسمها ضمير عائد إلى من . و « ملاذا » : خبرها . و « في حجره » : متعلق به .
 
والمعنى :
من ظلمني بمنعي عنك فقد صار خفيفا في عقله أو متصنّعا في ودّه فيكون كقوله :
لومه صبا لدى الحجر صبا * بكم دلّ على حجر صبي
وفي البيت جناس التصحيف بين اعتدى واغتدى ، وقد يسمى الجناس الخطّي أيضا ، ويجوز أن يسمى لاحقا أيضا ، وفيه أيضا الجناس المحرّف والتام بين حجر وحجر ، إن قرىء الأول بالكسر إذ هو إحدى اللغات الثلاث .
 
( ن ) : قوله من اعتدى : أي من ظلمني وافترى عليّ في منعه لي أن ألقاك وأشهدك كناية عن العقل وهو اللائم في البيت قبله من قبيل قول الشيخ أرسلان في رسالته المشهورة : الناس تائهون عن الحق بالعقل . وقوله فقد اغتدى في حجره بفتح الحاء : أي في حفظه وستره ، والمعنى أن عقلي إذ منعني عن أن ألقاك قد غدا في حفظه لي من المؤذيات وستره لأحوالي خفيفا متصنّعا . اهـ .
 
07 - غير السّلوّ تجده عندي لائمي *** عمّن حوى حسن الورى استحواذا


« 169 »
 
[ الاعراب ]
« السّلوّ » : مصدر سلاه إذا نسيه . والاستحواذ : مصدر استحوذ عليه إذا استولى وغلب ولم يعلّ فعله مع أن قياسه أن يعلّ بالنقل والقلب حتى يصير كاستحباب لكنه سمع هكذا وتبعه مصدره في عدم الإعلال وهو فصيح وإن خالف القياس لكونه سمع من الواضع قال اللّه تعالى : اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ [ المجادلة : الآية 19 ] .
واعلم أن غير هنا يروى بالنصب ، وتجده بالسكون وهو مشكل إذ لا جازم هنا ، ويمكن أن يقال إن السكون في هذه للضرورة وغير يكون منصوبا على الاشتغال ويصحّ حينئذ رفعه على الابتداء ، هذا ويظهر أن يقال أن غير السلو نصب بفعل مقدّر أي اطلب غير السّلوّ يا لائمي تجده عندي ويكون تجده مجزوما في جواب الأمر ، ودلّ على الفعل المقدّر جزم تجده مع عدم الجازم له بحسب الظاهر ، والأصل عدم الضرورة .
وقوله « عمّن » : متعلق بالسلو ، يقال سلاه وسلا عنه ، ويصحّ تعلّقه بقوله : يا لائمي ، إما على نيابة عن عن في أو على تضمين لائمي معنى صار في . و « استحواذا » : حال من فاعل حوى وهو عائد من وهو بتأويل اسم الفاعل ، أي مستحوذا ويصحّ كونه مصدر الفعل مقدّر من مادته ، أي استحوذا استحواذا .
 
والمعنى :
اطلب أيها اللائم كل شيء تجده عندي ما عدا السلو عن هذا الحبيب الذي حوى حسن الورى مستحوذا عليه غالبا لمن يرويه فهو جامع بين سلطنتي والحسن .
 
08 - يا ما أميلحه رشا فيه *** حلا تبديله حالي الحليّ بذاذا
 
[ الاعراب ]
« يا » : حرف تنبيه . و « ما » : للتعجب . وأميلح : تصغير أملح وهو شاذ إذ التصغير من خواص الأسماء ، لكنه مسموع على الشذوذ . قال الشاعر :
يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا
 
وهو تصغير تمليح ، وما أحلى قوله رضي اللّه عنه :
ما قلت حبيبي من التحقير * بل يعذب اسم الشخص بالتصغير
والرشا مهموز الظبي إذا قوي ومشى مع أمه ، وخفّفه رضي اللّه عنه للوزن .
و « حلا » : فعل ماض من الحلاوة . والحلي : فعيل وهو صفة مشبهة بمعنى الحالي من الحلاوة ، أو من التحلية بمعنى التزيين . و « بذاذا » بفتح الباء : مصدر بمعنى السوء .
 
و « يا » : للتنبيه أو للنداء ، والمنادى محذوف . و « ما » : تعجبية مبتدأ . و « أميلحه » : فعل ماض وفاعله مستتر وجوبا يعود إلى ما ، والهاء : مفعوله . و « رشا » : حال من الهاء ، ويجوز أن يكون تمييزا وفيه متعلق بحلا الذي بعده . و « تبديله » : فاعل حلا وهو
 
« 170 »
 
مضاف إلى فاعله وكمل بمفعوله وهو حالي . و « الحلي » : بالنصب صفة لحالي .
و « بذاذا » : مفعول ثان للمصدر ، وجملة حلا فيه إلى آخره في محل نصب نعت لرشا .
و « أميلحه » مع ما يتعلق به في محل رفع على الخبرية لما .
 
والمعنى :
أتعجب من حسن محبوب كالظبي في جيده ، ولفتته حلا لي فيه تبديله حالي الحالية بحال سيئة رثّة وإنما كان ذلك حاليّا له لكونه فعل الحبيب وعلامة صدق المحبة استحسان ما يفعل المحبوب ، وإن كان بحسب الظاهر ضررا محضا ، وللّه درّه رضي اللّه عنه حيث قال :
وكل أذى في الحب منك إذا بدا * جعلت له شكري مكان شكيتي
وما ألطف قول من قال :
أحب من أجلكم من كان يشبهكم * حتى لقد صرت أهوى الشمس والقمرا
أمرّ بالحجر القاسي فألثمه * لأن قلبك قاس يشبه الحجرا
 
وفي البيت إبهام التضادّ بين أميلح وحلا فإن الأول مشتق من الملاحة لا من الملوحة . وفيه جناس شبه الاشتقاق بين حالي والحليّ وجناس الاشتقاق بين حلا والحلي إن كان من الحلاوة ، وإن كان من التحلية فجناس شبه الاشتقاق في حلا وحالي .
 
( ن ) : الضمير في تبديله راجع للمحبوب الحقيقي ، ومعنى تبديله ظهوره في كل طرفة عين في صور غير الصور التي ظهر بها أولا وإن تشابهت الصور وظن الغافل أنها جامدة واقفة غير متغيّرة وينكشف ذلك في عالم الآخرة ، قال تعالى : وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [ النّمل : الآية 88 ] ، فهي طورا تخلع وطورا تلبس إلى الأبد في الدنيا والآخرة كما قلت في مطلع قصيدة لنا :
هذه الأثواب والخلع * تكتسى طورا وتختلع
 
قال تعالى : وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [ الأنعام : الآية 9 ] ، وورد في حديث مسلم فيأتيهم ربّهم في غير الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربّكم ، فيقولون : نعوذ باللّه منك لست ربّنا نحن ههنا حتى يأتينا ربّنا فيتحوّل لهم في الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربّكم ، فيقولون : أنت ربّنا فيتبعونه الحديث بطوله فالذين ينكرون هم غير العارفين به في الدنيا وكل الصور فانية في وجوده فلا صور ولا لبس ولهذا قال : وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ [ الأنعام : الآية 9 ] ،
ولم يقل للبسنا من غير أن يقول عليهم .
 
« 171 »
 
وقوله « حالي الحليّ » : فالحالي : اسم فاعل من الحلاوة مضاف إلى الحلي بضم الحاء وتشديد الياء جمع حلي بفتح الحاء وسكون اللام ما يتزيّن به . وحالي الحلي مفعول تبديله الأول ، وكنى بالحالي من الحلي عن جميع الصور المحسوسة والصور المعقولة فهي حليه التي يتحلّى بها ، أي يتزيّن عند عارفه . وقوله « بذاذا » : مفعول ثان لتبديله .
والمعنى : يحلو من هذا المحبوب تبديله وتغييره الهيئة الحلية منه في أنواع حليها بالهيئة الرثّة فيظهر تارة بملابس حسنة فيحلو للناظرين إليه ويتبدّل تارة أخرى فيظهر بالهيئة الرّثّة كما ورد ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له . اهـ .
 
09 - أضحى بإحسان وحسن *** معطيا لنفائس ولأنفس أخّاذا
 
[ الاعراب ]
اللغة واضحة ، و « أضحى » : فعل ماض من الأفعال الناقصة ، وهو هنا بمعنى صار وإن كان في الأصل للدلالة على اتّصاف الاسم بالخبر في وقت الضحى ، واسمها ضمير المحبوب المعبّر عنه بالرشا في البيت الذي قبله . و « معطيا » : خبرها .
و « بإحسان » : متعلق به . واللام في قوله لنفائس للتقوية إذ هي معمول معطيا وهو يتعدّى بنفسه غير أنه ضعيف في العمل فيقوى باللام . و « أخّاذا » : معطوف على معطيا .
« ولا نفس » : متعلق بأخّاذ وهو اسم فاعل للمبالغة من الأخذ .
 
المعنى :
صار المحبوب بإحسانه معطيا لنفائس الأشياء وبسبب حسنه أخّاذا للأنفس العظيمة فقد جمع بين الحسن والإحسان فهو ليس كمحبوب الصفيّ حيث يقول :
قد وجدنا فيك الجمال ولكن * فيك حسن ولم نجد فيك حسنا
والبيت معمور بالصناعات البديعية فإن فيه اللف والنشر المرتّب لأن الإعطاء يعود للإحسان والأخذ يعود إلى الحسن ، وفيه الطّباق بين الأخذ والإعطاء ، وفيه كمال الانسجام الذي يهتز له عطف الأفهام .
 
( ن ) : قوله معطيا لنفائس ، أي نفائس العلوم الإلهية والمعارف الربّانية . وقوله أخّاذا لأنفس اسم فاعل للمبالغة ، أي أنه يأخذ أنفس الكاملين حينما يتجلى لها ببدائع الحسن والجمال فيموتون الموت الاختياري ، وفي الأثر موتوا قبل أن تموتوا ويأخذ أنفس بقية الناس بالموت الاضطراري قهرا عليهم كما قال تعالى : وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [ الكهف : الآية 79]. اهـ .
 
10 - سيفا تسلّ على الفؤاد *** جفونه وارى الفتور له بها شحّاذا
 
« 172 »
 
[ الاعراب ]
« الفؤاد » بضم الفاء : القلب مذكّر ، ويقال بالفتح مع الواو وهو غريب في الاستعمال . والجفن بفتح الجيم ، ويستحسن فيه الكسر أيضا غطاء العين وغمد السيف . و « الفتور » : الضعف واللين . والشحاذ فعال من شحذ فلان السيف سنّه .
وسيفا : مفعول مقدّم لتسلّ . وعلى الفؤاد : متعلق به . وجفونه : فاعل وارى من الرؤية . والفتور وشحاذا : مفعولان له وضمير له راجع للسيف . وبها : للجفون . وله : متعلق بشحاذا .
وبها : حال من الفتور ، أي وارى الفتور شحاذا لهذا السيف حال كون الفتور في الجفون ، فاللام في له لام التقوية ويصحّ أن يكون بها متعلقا بشحاذا ، والباء بمعنى في ، أي فأرى الفتور يشحذ السيف حال كون السيف في جفنه وهذا من العجب فإن عادة السيف أن يشحذ خارج الجفن ، فهذا سيف يشحذ في جفنه .
وللّه درّ القائل وأجاد :
فضل العيون على السيوف لأنها * قتلت ولم تبرز من الأجفان
 
وما ألطف جعل الفتور شاحذا ، فإن شحذ السيف معناه جعله حديدا قاطعا ، وهذا ضدّ الفتور فهو إغراب من جهة جعل الشيء جالبا لضدّه وإنما كان الفتور شحاذا لأنه سبب لتأثير العين في القلب ، كما أن شحذ السيف سبب لزيادة قطعه وكمال تأثيره .
 
والسيف استعارة تحقيقية ، وذكر السّلّ مع الشحذ ترشيح لملاء متهما للمستعار منه ، والجفون هنا إيهام لإرادة المعنى البعيد منها ، فإن قلت بل أريد منها المعنى القريب لأنها عبارة عن جفون العين وهذا المعنى أقرب من كونها عبارة عن إغماد السيف فلا يكون إيهاما قلت بل المعنى القريب هنا الإغماد باعتبار ذكر السيف والسّلّ والشحذ ، فالمقام صيّر جفون العين معنى بعيدا وإن كان قريبا بقطع النظر عن خصوصية المقام فتدبّر هذا . والجمع بين السيف والجفون إيهام التناسب على حدّ قوله تعالى : الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ( 5 ) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ ( 6 ) [الرحمن : الآيتان 5، 6].
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله على الفؤاد ، أي القلب لأنه موضع المعرفة به تعالى والتحقّق بتجلّيه على كل شيء ، والجفون كناية عن الأشياء الموجودة وهي غطاء العين فإذا انفتح نظرت العين والانفتاح رفع الجفن الأعلى إلى فوق وهو النشأة الروحانية العلوية وخفض الجفن الأسفل إلى تحت وهي النشأة الجسمانية فتظهر العين الإلهية حينئذ لا مع الروح ولا مع الجسم وإنما هي قائمة بنفسها بينهما حاملة لهما وهي الرافعة للأعلى والخافضة للأسفل . وكنى عن العين بالسيف لقطعها آثار جميع الأغيار .
وقوله وأرى الفتور الخ . . . يعني أن الضعف والانكسار بتلك الجفون يزيد إرهاف سيف

« 173 »
 
العيون ، ففي الحديث القدسي أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي فإذا انكسر القلب من أجل اللّه تعالى انكسرت جميع الجوارح فظهر الانكسار على ذلك العبد وهو انكسار جفن الحق تعالى لأنه غطاء على عينه كما ذكرنا . وقد سأل أبو يزيد البسطامي رضي اللّه عنه ربّه في بعض تجلياته عليه بماذا يتقرّب إليك المتقرّبون ؟ فقال : بما ليس لي الذلّة والافتقار . اهـ .
 
11 - فتك بنا يزداد منه مصوّرا *** قتلى مساور في بني يزدادا
 
[ الاعراب ]
الفتك مصدر فتك به إذا انتهز منه فرصة فقتله أو جرحه مجاهرة أو أعمّ .
و « مساور » هذا كان رجلا روميّا شجاعا وكان بنو يزداذ أعداءه فأوقع بهم ، وإلى ذلك أشار المتنبي حيث قال من قصيدة يمدح بها مساور هذا ويخاطبه :
أمساور أم قرن شمس هذا * أم ليث غاب يقدّم الأستاذا
هبك ابن يزداذ حطّمت ورهطه * أترى الورى أضحوا بني يزداذا
 
و « يزداذ » بالياء المثناة من تحت ثم بالزاي والدال المهملة ثم الألف والذال المعجمة وهو ممنوع من الصرف لعلميّته ووزن الفعل . وأما « مساور » فقد استعمله الشيخ رضي اللّه عنه ممنوعا من الصرف وليس له سبب في الظاهر سوى العلميّة والعجمة إن ثبت أنه أعجمي وإلا فيكون على لغة من جوّز منع صرف المنصرف للضرورة أو أنه يقرأ مجرورا غير منوّن حذف التنوين منه ضرورة على حدّ قوله يمدح هاشما جدّ النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان اسمه عمرا :
عمرو الذي هشم الثّريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف
 
وفتك : مبتدأ ، وسوغ الابتداء به عمله في بنا فإنه متعلق به . وجملة يزداد منه خبره . ومنه : متعلق بيزداد أو أنه صفة لفتك فيكون مسوّغا أيضا للابتداء بالنكرة ، والهاء في منه عائد إلى الرشا في البيت السابق . ومصوّرا : حال من الهاء في منه .
وقتلي : مفعوله . وقوله في بني يزداذا : حال من قتلي مساور .
 
والمعنى :
يزداد فتك هذا الرشا بنا يا معشر العشّاق حال كونه مصوّرا عند فتكه بنا قتلى مساور في هذه الطائفة فهو يريد أن يقتل منّا قدر ما قتل مساور منهم . وفي البيت جناس التصحيف بين يزداد ويزداذ .
 
( ن ) : قوله منه ، أي من المحبوب الحقيقي أو من السيف الذي تسلّه جفونه .
وقوله فتك بنا يزداد كناية عن عموم الفناء والاضمحلال ، قال تعالى : وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ
 
« 174 »
 
وَزَهَقَ الْباطِلُ [ الإسراء : الآية 81 ] ، أي ظهر الحق وتبيّن اضمحلال كل ما سوى اللّه تعالى كما ورد في حديث مسلم : أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :
ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل » اهـ .
 
12 - لا غرو أن تخذ العذار *** حمائلا أن ظلّ فتّاكا به وقّاذا
 
[ الاعراب ]
« لا غرو » ولا غروى : لا عجب . و « أن » بفتح الهمزة وتخفيف النون وهي المصدرية . و « تخذ » بمعنى اتخذ . و « العذار » : جانبا اللحية ، والمراد هنا ما نبت عليها من الشعر مجاز مرسل ، والعلاقة المجاورة . والحمائل للسيف الجلود التي يحمل بها . و « أن ظل » : أن : المصدرية . وظل بمعنى أقام . والفتك : القتل أو الجرح مجاهرة أو أعمّ . و « الوقاذ » : الضراب صيغة مبالغة من وقذه . ولا : نافية للجنس . وغرو :
اسمها مبني معها على الفتح . وأن : مصدرية . وتخذ : مدخوله ومفعولاه ما بعده ، وأن مع تخذ في تأويل مصدر مجرور بفي المقدرة ، والجار والمجرور خبر لا ، أي لا عجب في اتخاذ المحبوب العذار حمائل . وأن ظل : مصدرية ، وظل من أخوات كان واسمها مستتر يعود إلى الحبيب . وفتّاكا : خبرها . وبه : متعلق به . ووقاذا : خبر بعد خبر ، وأن مع ظل في تأويل مصدر مجرور بلام مقدّرة وهي لام العلّة والضمير في به يعود للسيف في البيت السابق ، والذي يتعلق بوقاذ محذوف دلّ عليه ما يتعلق بفتاك ، أي وقاذا به .
 
المعنى :
لا عجب في أن يتخذ المحبوب عذاره حمائل لأنه ظلّ فتّاكا وقاذا بسيف جفونه ، ومن كان فتّاكا
قتّالا بسيفه يحتاج إلى حمائل ، وللّه درّ القائل :
ما صحّ عندي أنّ لحظك صارم * حتى تخذت من العذار حمائلا
 
وقال ابن الساعاتي :
لقد سلّ سيفا والعذار الحمائل * أروم حياة عنده وهو قاتل
 
( ن ) : قوله العذار وهو ما على الخدّين من الشعر كناية هنا عمّا ينبت في القلب من المعاني وإدراك الأشياء والشعور بها ، ولمّا جعل العين سيفا وجعل جفونها وهي الروح والجسم أجفانا لذلك السيف جعل ما يقع في القلب من الشعور والإدراك للمعاني الإلهية حمائل لذلك السيف لأنها التي تحمله حتى يبقى معلوما عندها وأفرد السيف في البيت الذي سبق وجمع الجفون للإشارة إلى الوحدة الإلهية
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة صدّ حمى ظمئي لماك الأبيات من 01 إلى 21 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:08 pm

شرح قصيدة صدّ حمى ظمئي لماك الأبيات من 01 إلى 21 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الثانية صدّ حمى ظمئي لماك الأبيات من 01 إلى 21 
« 175 »

الظاهرة في كل شيء من غير تعدّد فيها وإن تعدّدت مظاهرها من قبيل قولنا في مطلع قصيدة لنا :
يا شمعة هي في كل الفوانيس * يخالف العقل هذا في التقاييس
 
13 - وبطرفه سحر لو أبصر *** فعله هاروت كان له به أستاذا
 
[ الاعراب ]
الطرف : العين ، لا يجمع لأنه في الأصل مصدر . وقوله « لو أبصر » بنقل حركة الهمزة إلى الواو قبلها . والأستاذ : المعلّم الفارسي لأن السين والذال لا يجتمعان بالأصالة في كلمة عربية . والسحر هنا استعارة ، والمستعار له ما في العين من الفعل الذي يشبه السحر بطرفه . وقوله وبطرفه سحر : مبتدأ وخبر . ولو : حرف يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه . وفعله : مفعول مقدّم لأبصر . وهاروت : فاعله مؤخر .
وكان : جواب لو ، وضمير كان يعود إلى الحبيب المتكلّم عنه ، ويجوز عوده إلى الطرف . وله : متعلق بأستاذا . وبه : كذلك . والهاء في له لهاروت . وفي به للسحر ، ويجوز تعلّقه بكان ومعناه في طرف هذا الحبيب سحر موصوف بأنه لو أبصر فعله هاروت كان الحبيب أستاذا لهاروت بسبب ذلك السحر لأنه يعلم أنه أقوى من سحره في التأثير ،
وفي المعنى قول ابن ظافر حيث قال :
هاروت يعجز عن مواقع سحره * وهو الإمام فمن ترى أستاذه
وقلت من قصيدة :
إن في طرفك سحرا * سحر السحر ببابل
 
وقلت من قصيدة أرسلتها للشيخ البكري بمصر المحروسة :
ولا تخدعوا يوما بتفتير جفنه * ففعل العيون السود أخفى من السحر
 
وإنما كانت البلغاء تصف العيون بالسحر لأنه ينشأ عنها خوارق عادات أعجب من السحر يرى إنسانها الإنسان فيصبح بوسواس العشق حيران ولا يدري ما سبب ذلك ولا يشعر بوقوعه في مهاوي المهالك ، ولا الذي أورده في سلوك هاتيك المسالك ،
 
وللّه درّ القائل :
بالذي ألبس خدّي * ك من الورد نقابا
والذي صيّر حظّي * منك هجرا واجتنابا
ما الذي قالته عينا * ك لقلبي فأجابا
 
« 176 »
 
[ المعنى ]
( ن ) : بطرفه ، أي بعينه وتقدّم معنى الكناية فيها . وقوله سحر ، أي ما يشبه السحر في تشتيت عقل السالك ، وهاروت وهو الملك الذي أنزله اللّه تعالى لتعليم السحر للناس ليفرّقوا بين معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء ، وبين السحر الذي هو استعمال الجنّ في الأمور الخارقة للعادة .
 
14 - تهذي بهذا البدر في جوّ السّما *** خلّ افتراك فذاك خلّي لا ذا
 
[ الاعراب ]
« تهذي » : مضارع هذى إذا تكلم بغير معقول لمرض أو غيره ، والخطاب للّائم الذي تقدّم في قوله غير السلوّ تجده عندي لائمي . والجو : الهواء ، والمراد ، هنا العلو . والسماء معروف ، وقصره للضرورة ، وقد يطلق على مطلق العلو .
والافتراء : اختلاق الكذب كما يظهر من تأمّل معنى قوله تعالى : أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [ سبأ : الآية 8 ] ، وقصر الافتراء أيضا للضرورة . والخلّ الصديق . قال صاحب الكشاف : وأما الصديق الصادق الذي يكون معك بحيث يسرّه سرورك ويسوءه مساءتك فأعزّ من بيّض الأنوق . وقد قيل لبعض الحكماء : ما الصديق ؟ فقال : هو لفظ لا معنى له .
قال القائل :
فعلمت أن المستحيل ثلاثة * الغول والعنقاء والخلّ الوفي
وفي ذلك أقول :
جناية أبناء الزمان أعدها * عليّ جميلا ليس فيه خفاء
لتصديقهم ما في الفؤاد كنيته * بأن ليس في الزمان وفاء
و « البدر » : مجرور على أنه نعت لاسم الإشارة . وفي جو السماء : حال من هذا البدر . ولا : حرف عطف . وذا : معطوف على ذاك ، والإشارة بذلك للمحبوب الموصوف بالأوصاف السابقة ، والإشارة بذا لبدر السماء الواقع في البيت .
 
المعنى :
تتكلم أيها اللائم بهذيانك في حق بدر السماء وتزعم أنني محبّ له دع هذا الافتراء فإن خلّي البدر الموصوف بالأوصاف السالفة لا بدر السماء .
ولا يخفى ما في الإشارة بذاك من التعظيم وما في الإشارة بذا من ضدّه . ولا يخفى الجناس بين تهذي وهذا ، وبين خلّ وخلّي .
 
( ن ) : قوله بهذا البدر كناية عن الحقيقة الإنسانية المستمدّة من شمس الحقيقة الإلهية ، كما أن البدر نوره الظاهر فيه هو نور الشمس كالمرآة الظاهر فيها ما يقابلها من الأنوار بحيث لم ينتقل النور بذاته إلى البدر ولا فارق الشمس والخطاب للائم
 
« 177 »
 
يقول له تتكلم بغير معقول عن البدر الذي في جو السماء ، أي عن العابد الذي أفعاله كلها على طبق الشريعة زاعما أن نوره هو الحق فذلك افتراء منك على الحق تعالى فاترك هذا الافتراء لأن النور الحقيقي هو ذاك البعيد عني وعنك مع كمال قربه إلينا وهو خليلي المصاحب لي الذي لا يفارقني أزلا ولا أبدا كما ورد في الأثر : ( اللّهمّ إنك أنت الصاحب في السفر ) ،
وقال تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [ الحديد : الآية 4 ] . اهـ .
 
15 - عنت الغزالة والغزال *** لوجهه متلفّتا وبه عياذا لاذا
 
[ الاعراب ]
عنا له : خضع وذلّ . و « الغزالة » : الشمس . « والغزال » كسحاب الشادن حين يتحرك ويمشي والعياذ بكسر العين المهملة والذال المعجمة الالتجاء . و « لاذا » بألف التثنية يعود إلى الغزالة والغزال ، ومعنى لاذ تحصّن . قوله « لوجهه » متعلق بعنت . و « متلفتا » :
حال من هاء الضمير العائد إلى الحبيب وبه متعلق بقوله لاذا . و « عياذا » : منصوب على أنه مفعول له أو على الحالية على أن المعنى عائذين بصيغة التثنية .
 
والمعنى :
ذلّت الشمس والغزال لوجهه في حال تلفّته تحصّنا به عائذين قوله لوجهه راجع لخضوع الغزالة له . وقوله متلفتا راجع لخضوع الغزال له فإن الشمس في غاية الضياء ووجهه يزيد عليها والغزال غاية في حسن الالتفات وهو يزيد عليه في ذلك ففيه لف ونشر مرتب ، وفي ذكر الغزالة إيهام . وبين الغزالة والغزال الجناس المطرف .
 
( ن ) : قوله لوجهه ، أي وجه المحبوب الحقيقي ، فالشمس مستمدّة نورها منه لأن الأنوار كلها آثار نور وجهه ، قال تعالى : وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [ طه : الآية 111 ] ، أي لوجهه تعالى . كما قال : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : الآية 88 ] ، وقال : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ البقرة : الآية 115 ] ، وقوله متلفّتا ، أي حال عطفه بالرحمة واللطف والإحسان على السالك في طريقه .
 
والمعنى : لاذ به الغزالة والغزال ، أي استترا بنور وجهه الكريم وتحصّنا عن الفناء والاضمحلال ، وربما كنّى بالغزالة عن الروحانية الإنسانية المشرقة على العالم الجسماني ، وبالغزال عن القلب الإنساني المتلفّت بالفكر والخيال إلى عوالم الإمكان . اهـ .
 
16 - أربت لطافته على نشر *** الصّبا وأبت ترافته التّقمّص لاذا

« 178 »
 
[ الاعراب ]
« أربت » : زادت . واللطافة : الرّقّة . والنشر : الريح الطيبة . والصّبا : ريح مهبّها من مطلع الثريا إلى بنات نعش وتثنيته صبوان . و « أبت » : كرهت . والترافة : التنعّم .
و « التقمّص » : قبول التقميص وهو إلباس القميص ، والتقمص مطاوع التقميص ، يقال قمصته فتقمص ، أي ألبسته القميص فطاوعني ولبسه . واللاذ جمع لاذة ، وهو ثوب حرير صيني . قوله على نشر الصبا : متعلق بقوله أربت . وأبت ترافته : فعل وفاعل .
والتقمص : مفعوله . ولاذا : مفعول المصدر الذي هو التقمص . واعلم أن المصدر المحلّى بأل ينصب المفعول الصريح على قلّة . ومنه بيت الشيخ هذا فإن التقمّص نصب لاذا ، إذ المعنى وأبت ترافته أن يتقمص اللاذ على كمال رقّته
وشاهد ذلك على قلّته قول الشاعر :
دعيت فلم أنكل عن الضرب مسمعا
 
وأما نصب المفعول بواسطة حرف الجر فكثير ومنه قوله تعالى : لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ [ النّساء : الآية 148 ] ، ثم اعلم أن هنا فائدة جليلة ولطيفة جميلة وهي أن الشعراء يذكرون في أشعارهم الغرامية ريح الصبا من بين الأرياح ويكرّرون ذكرها كثيرا ، والسبب في ذلك ما ذكره الإمام الواحدي رضي اللّه عنه في تفسيره الوسيط حيث أفاد أن الريح التي أتت بريح يوسف إلى يعقوب عليهما السلام حين قال : إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ [ يوسف : الآية 94 ]
 
هي الصبا ، وأنشد عند ذلك قول الشاعر :
أيا جبلي نعمان باللّه خليا * نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارة * على كبد لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست * على كبد حرّى تجلّت همومها
وعلى ذكر اللطافة في البيت فقد ذكرت قول الشهاب العزازي :
خطرات النسيم تجرح خدي * ه ولمس الحرير يدمي بنانه
 
وقلت في ذلك من قصيدة :
إذا لحظته أعين الناس خفية * يكاد وحاشاه من اللحظ أن يدمى
 
[ المعنى ]
والمعنى زادت لطافة هذا الحبيب على نشر الصبا وكرهت ترافته وتنعّمه أن يتقمص اللاذ .
وفي البيت الجناس الناقص بين أربت وأبت ، والموازنة بين أربت لطافته وأبت ترافته .
ومما يحسن إنشاده في نحو هذا المعنى قول القائل :
تكلفني حمل الصدود وإنني * لأعجز عن حمل القميص وأضعف
« 179 »
 
( ن ) : قوله نشر الصبا كناية عن الروح الأمري من قوله تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [ الإسراء : الآية 85 ] الآية ،
وهو الروح الأعظم بمنزلة الرائحة الفائحة من المسك ونحوه تنقّل رائحة الأمر الإلهي إلى جميع الأكوان .
وقد أضاف النشر إلى الصبا وهو ألطف الرياح التي تهب وقت الصباح ، والصبا كناية عن الأرواح الجزئية المدبّرة للأجسام الإنسانية . والترافة هنا كناية عن كمال إطلاقه وتنزّهه وجبروته سبحانه .
وقوله التقمّص ، أي لبس القميص وهو الصورة ، والمعنى أنه من كمال نزاهته وإطلاقه امتنع عليه أن يلبس الصور اللطيفة فضلا عن الكثيفة وإن كان متجلببا بها وظاهرا بتصويرها من اسمه المصوّر . اهـ .
 
17 - وشكت بضاضة خدّه من *** ورده وحكت فظاظة قلبه الفولاذا
 
[ الاعراب ]
البضاضة : رقّة الجلد مع امتلائه . والمراد من ورد الخد حمرته مع لطف رائحته ونعومة مجسّه فهو استعارة مصرّحة . والفظاظة : الغلظة . والفولاذ : خالص الحديد .
وإعراب البيت واضح .
 
والمعنى :
شكت رقّة جلد خدّه من ورده مع أن الورد هنا عبارة عن أمور غير مجسّمة ، وهذا غاية في الوصف واللطافة ، وشابهت غلظة قلبه الفولاذ وهو غاية في الشدة ، وقال ابن النبيه من قصيدة :
ترتجّ كالجدول من رقّة * وقلبها أقسى من الجلد
وقال الآخر :
يا قلبه القاسي ورقّة خدّه * هلّا نقلت إلى هنا من ههنا
وقال ابن النبيه أيضا :
أجسامها كالماء إلا أنها * حملت قلوبا من صفا الجلمود
وقال بعضهم :
ولقد شكوت لمتلفي * حالي ولطفت العبارة
فكأنني أشكو إلى * حجر وإن من الحجارة
 
وفي البيت الجناس اللاحق بين شكت وحكت ، والموازنة مع مقاربة اللفظ بين بضاضة وفظاظة ، وتأمّل حسن تجنيس الأبيات الأربعة بلفظ لاذا من غير تكلّف مع لطف المعنى إلا أنه في البيت الأخير وقع جزء كلمة فتأمل .


 
« 180 »
 
( ن ) : كنّى بالخدّ عن صفات الجمال وهو الخدّ الأيمن والخدّ الشمال صفات الجلال وكلاهما في الوجه المكنّى به عن التوجّه على الإيجاد ، وبضاضة الخدّ كناية عن كمال النعيم الصادر لأهل التجلّي الجمالي وهم فريق الجنة فتشكو تلك البضاضة من ورد ذلك الخدّ وهو الحمرة الجمالية التي تتعشق بها النفوس الأبيّة نفوس المحبّين وقوله فظاظة قلبه كناية عن عظم جبروته وتكبّره بحيث لا يذلّ أصلا من حيث اسمه الجبار المتكبّر وهذه الفظاظة إنما هي على أهل محبته الذين أحرقهم بنار بعده عنهم وهجره لهم وهم أهل الشمال . اهـ.
 
18 - عمّ اشتعالا خال وجنته أخا *** شغل به وجدا أبى استنقاذا
 
[ الاعراب]
« عمّ » بمعنى شمل . والاشتعال : بالعين المهملة بمعنى التهاب النار . والخال هنا الشّامّة . والوجنة : كرسي الخد . والشغل بالغين المعجمة معروف . والوجد : ما يجده الإنسان من محبة أو حزن . و « أبي » : كره . والاستنقاذ : طلب النقذ وهو التخليص .
وقوله خال وجنته بالرفع فاعل عمّ . وأخا شغل : مفعوله . واشتعالا : تمييز محوّل عن الفاعل ، أي عمّ اشتغال وجنته أخا شغل به . وبه متعلق بشغل . ووجدا : منصوب على التعليل والعامل فيه الفعل الذي بعده وهو أبى ، وجملة أبى استنقاذا : صفة أخا شغل .
 
والمعنى :
عمّ خال وجنته من جهة الاشتعال صاحب اشتغال به كره التخليص منه لأجل ما يجده من المحبة والحزن . وفي البيت إيهام التناسب في ذكر العمّ والخال والأخ والأب . ورأيت في بعض النسخ القديمة أخو شغل به مرفوعا والظاهر أنه مبتدأ . وجملة أبى استنقاذا خبره وعليه فمفعول عمّ محذوف للتعميم ، أي كل أحد وتكون الجملة مستأنفة ، أي من اشتعل به ممّن اشتعل بنار خال وجنته لا يطلب الخلاص منه ولا السلامة ،
وللّه درّه حيث يقول :
عبد رقّ ما رقّ يوما لعتق * لو تخليت عنه ما خلاكا
 
وقال بعضهم وأجاد :
تصحيف أخي الوالد ما فارقني * مذ لاح أخو الأم على وجنته
 
وقال آخر وأجاد :
ورثته حبّة القلب القتيل به * وكان عهدي أن الخال لا يرث
 
وقال بعضهم وأجاد :
وظن أني سلوت لما * أبعدني سالفا وخالا

 
« 181 »
وما ألطف قول بعضهم :
لهيب الخدّ حين بدا لعيني * هوى قلبي عليه كالفراش
فأحرقه فصار عليه خالا * وها أثر الدخان على الحواشي
 
وأجاد من قال :
وبين الخد والشفتين خال * كزنجي أتى روضا صباحا
تحيّر في الرّياض فليس يدري * أيجني الورد أم يجني الأقاحا
ومن غريب ما استحسنته قول علي أفندي المشهور بقنه لي زاده :
أرى من صدغك المعوجّ دالا * ولكن نقطت من مسك خالك
فأصبح دالها بالنقط ذالا * فها أنا هالك من أجل ذلك
 
( ن ) : الخال كناية عن ظلمة عالم الإمكان في صفحة وجنة الأسماء والصفات ، وأخا شغل به هو العارف به الذي يراه في كل شيء وهذا الاشتغال هو من جهة الوجد والمحبة فهو دائم الاشتعال ، والاشتعال بسبب حسن سواد ذلك الخال الظاهر في بياض وجنة الأسماء الحسنى من وجه الجميل المتعال . اهـ .
 
19 - خصر اللّمى عذب المقبّل بكرة *** قبل السّواك المسك ساد وشاذا
 
[الاعراب ]
الخصر بالخاء المعجمة والصاد المهملة على وزن كتف هو البارد . و « اللمى » مثلث اللام : سمرة في الشفة ، والمراد هنا الريق . والعذب : السائغ . و « المقبل » :
كمعظم محل التقبيل وهو الفم ، والمراد ما فيه .
و « السّواك » هنا مصدر وإن أريدت الآلة ، فهو على حذف المضاف ، أي قبل استعمال السّواك
 . و « ساد » بالدال المهملة بمعنى غلب في السودد .
 
وشاذ في آخر البيت بالشين المعجمة والذال بمعنى أكسب الشذو وهو رائحة المسك ، وقد يراد بالشذو اللون ، والمراد هنا الأول ، وقوله خصر اللمى بالرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي هو . وعذب المقبل : خبر بعد خبر . وقوله بكرة وقبل السّواك متعلقان بساد وشاذ أو بعذب المقبل والسّواك مفعول تنازع فيه ساد وشاذ كذا رأيته على حواشي بعض النسخ القديمة الصحيحة وهو غلط والصواب أنه مفعول للفعل الأول الذي هو ساد ومفعول شاذ محذوف ، أي شاذّه ولا تنازع إذ شرط المتنازع فيه التأخّر إذ المتقدّم والمتوسط للأول حيث يستحقه قبل الثاني .
 
والمعنى :
هذا الحبيب بارد اللمى لطيف الفم بكرة قبل السواك ساد ، أي علا على المسك في الشرف وأكسبه الرائحة مع أن الفم على الصباح قبل السّواك يكون
 
« 182 »
 
متغيّر الرائحة من فضلات الطعام ولذا تأكد استحباب السّواك عند القيام من النوم .
وفي البيت جناس التصحيف بين ساد وشاذ ، وما ألطفه كلاما يأخذ بالألباب ويفتح من طريق المحبة أسعد الأبواب ويدخل إلى حجرة الفؤاد بغير حجاب .
 
( ن ) : اللمى أي الريق وهو ماء الفم كناية عن لطائف المناجاة السرّيّة بالمعاني الربّانية . والمقبل كناية عن التجلّي الرحماني والانكشاف الربّاني بالظهور السبحاني .
وقوله بكرة ، أي في ابتداء كل خلق جديد ، وكنى بالسّواك عن التنزيه الذي يزيل من التجلّي أوساخ الأغيار ودنس الآثار إذ لا يحتاج تجلّيه على ما هو عليه إلى تنزيه لكمال نزاهته في أصله . والمسك مفعول مقدّم لساد ولا شك أن التجلّي الإلهي الذي أظهر المسك وأكسبه الرائحة الطيبة . اهـ.
 
20 - من فيه والالحاظ سكري بل *** أرى في كلّ جارحة به نبّاذا
 
[الاعراب ]
اللّحظ : النظر بمؤخر العين ، و « الألحاظ » جمعه ، والظاهر أن المراد بالألحاظ نفس العيون . والسكر نقيض الصحو . والجارحة : عضو الإنسان . والنباذ : فعال ، والمراد به صاحب النبيذ ، وقد يستغنى عن ياء النسبة بصيغة فعال نحو قطان في الذي يصنع القطن . وقوله من فيه : خبر مقدّم . والألحاظ بالجرّ : عطف على فيه .
وسكرى : مبتدأ ، وفي التقديم حصر ، أي لا في الخمر . وقوله بل أرى ترق في ثبوت ما في المحبوب مما يوجب السكر .
 
والمعنى :
سكري من فيه وألحاظه بل في كل عضو منه نباذ ، وقد زاد رضي اللّه عنه على قوله في اليائية :
فبكلّ منه والألحاظ لي * سكرة واطربا من سكرتي
وما أحسن قول الأمير فراس الحمداني الثعلبي الربعي حيث قال :
سكرت من لحظه لا من مدامته * ومال بالنوم عن عيني تمايله
فما السلاف دهتني بل سوالفه * ولا الشمول أزدهتني بل شمائله
ألوي بقلبي أصداغ له لويت * وغال قلبي بما تحوي غلائله
والبيت مشتمل على لطائف من البلاغة .
 
( ن ) : كنى بفيه ، أي فمه عن تجلّيه كما ذكرنا . وكنى بالألحاظ عن حضرات أسمائه وصفاته . وقوله سكري ، أي ما أجده ويظهر مني من الغيبة عن جميع الأكوان


 
« 183 »
 
بل أرى في كل جارحة أي عضو من أعضائي نباذا . وقوله به ، أي بسبب كل واحد من فيه ومن ألحاظه . اهـ .
 
21 - نطقت مناطق خصره ختما *** إذا صمت الخواتم للخناصر آذا
 
[ الاعراب ]
المناطق جمع منطقة ، كمكنسة ما ينتطق به ، أي ما يربط في الخصر إذ الناطقة الخاصرة ، والمراد نطق المناطق كثرة تحرّكها في الخصر لكمال رقّته وذاك مجاز .
وقوله « ختما » بفتح الخاء المعجمة وسكون التاء المثناة من فوق ما يجمعه النحل من الشمع رقيقا وهو تشبيه بليغ . و « الخواتم » جمع خاتم يجوز فيه فتح التاء وكسرها والفتح أفصح . رأيت في شرح ديوان المتنبي للشيخ أبي الفتح عثمان بن جني عند الكلام على قوله :
بليت بلي الأطلال إن لم أقف بها * وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
ما معناه أن الشيخ أبا الفتح قرأ على المتنبي هذا البيت ونطق بالتاء مفتوحة ، فقال له المتنبي : اكسر التاء ، فقال له أبو الفتح : أليس الفتح أفصح ؟
فقال : ألا تنظر إلى حركات ما قبل الميم كيف تجد الجميع مكسورا ، فعلم مراد المتنبي وأثنى عليه .
قلت : ويناسب ذلك ما رأيته في بعض الكتب أن عبد المحسن الصوري كان قد أفاد كاتبه أن لغة من ينتظر في باب الترخيم أفصح من لغة من لا ينتظر ثم قرأ عليه قول القائل :
يا حار إن الرّكب قد حاروا * فاذهب تجسّس لمن النار
 
فكسر الراء من قوله يا حار بناء على لغة من ينتظر . فقال له عبد المحسن الصوري ، قل : يا حار بضم الراء فإنها أفصح لتوافق ما في آخر المصراع من قوله حاروا ، أي رجعوا فعلم من ذلك أن غير الأفصح قد يصير أفصح لأجل المناسبة .
 
نعود إلى المقصود والمراد بصمت الخواتم عدم حركتها لامتلاء الأصبع وذلك مجاز أيضا ، والخناصر جمع خنصر وهو بكسر الخاء المعجمة وكسر الصاد وفتحها الأصبع الصغرى ونطقت بمعنى تنطق إذ إن إذا هنا مستعملة في معنى المضيّ على حدّ قوله تعالى : وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً [ الجمعة : الآية 11 ] ،
وقوله آذا : فعل ماض على وزن أفعل من الأذى ، وهو الإصابة بالمكروه . وقوله ختما : حال من الخصر .
 
والمناطق : مضاف بمنزلة جزء من المضاف إليه للملازمة فمن ثم جاءت الحال منه فهو على حدّ قوله تعالى : مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [ البقرة : الآية 135 ] .
وصمت : فاعل فعل محذوف مفسّر بآذا لا مبتدأ خلافا لقوم وجواب الشرط محذوف
 
« 184 »
 
دلّ عليه جملة نطقت ولو جعلت إذا هنا مجردة عن الشرط لكان حسنا إذ جعل نطقت المقدّرة جوابا لإذا غير خال عن إشكال إذ لا علاقة بين الشرط والجزاء حينئذ .
 
والمعنى :
إن صمت خواتم هذا الحبيب إذا آذت خنصره لضيقها عليه بامتلائه فلم تتحرك نطقت مناطق خصره جائلة عليه لكونه في غاية الرّقّة ووصف الخصر بالرّقّة والخنصر بالامتلاء كان مطروحا مبتذلا فأخرجه عن ذلك حيث تصرّف فيه بوصف المناطق بالنطق ، وكنى بها عن الحركة المستلزمة لرقّة الخصر ووصف الخواتم بالصمت ، وكنى بها عن السكون المستلزم لامتلاء الأصابع وهذا صنع جليل لكنه بالنسبة إلى شأنه رضي اللّه عنه قليل . ولا يخفى الجناس في نطق ومناطق ، وخصر وخناصر ، وختم وخواتم ، وفيه الطّباق بين النطق والصمت .
 
( ن ) : كنى بالخصر عن حضرة الذات الإلهية وبالمناطق عن حضرات الأسماء والصفات لأنها دائرة على الذات تشبه المحيطة بها وليست بمحيطة لأن الأسماء والصفات هي الظهور من حضرة الذات المطلقة على مقدار ما يناسب الأكوان .
 
وقوله حتما بالحاء المهملة ، أي نطقا حتما ، يعني كلاما ملزما كناية عن الأمر والنهي اللازمين شرعا بالكلام الإلهي ، وفي نسخة ختما بالخاء المعجمة ، أي إن نطقها يشبه الختم في إظهار الأثر على طبق ما هو في الحضرة العلمية ، وكنى بالأصابع عن حضرات الجلال وحضرات الجمال ، وكنى بالخواتم عن مظاهر هذه الحضرات من قلوب العارفين وهي الحضرات الإلهامية والمعاني الكشفية فإنها تضيق عن استيفاء جلال الحضرة وجمالها لسعة عالم الجلال والجمال وضيق عالم الإمكان . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة صدّ حمى ظمئي لماك الأبيات من 22 إلى 51 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:09 pm

شرح قصيدة صدّ حمى ظمئي لماك الأبيات من 22 إلى 51 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الثانية صدّ حمى ظمئي لماك الأبيات من 22 إلى 51 

22 - رقّت ودقّ فناسبت منّي النّسيب *** وذاك معناه استجاد فحاذا
 
[ الاعراب ]
« رقت » : أي المناطق . و « دق » : أي الخصر . « فناسبت » : أي قاربت ، والضمير في ناسبت للمناطق . و « النسيب » : التشبيب بالحبيب في الشعر وذكر محاسنه والإشارة بذاك إلى الخصر واستجاد عدّ الشيء جيدا . وقوله « فحاذا » بالحاء المهملة ، أي قارب واقتفى الأثر . وقوله « مني » : حال مقدّم من النسيب .
و « ذاك » مبتدأ ومعناه مفعول مقدّم لاستجاد ، والهاء في معناه عائدة إلى النسيب . وقوله فحاذا : معطوف على استجاد ، ومفعوله محذوف ، أي فحاذاه ، ومعناه رقّت المناطق ودقّ الخصر فالمناطق ناسبت رقّة لفظ نسيبي والخصر استجاد معنى نسيبي فحاذاه في الرقّة واقتفى أثره فيها فكأنه أراد بالنسيب اللفظ فيكون قد شبّه المناطق برقّة لفظه ودقّة الخصر بدقة معناه ولعمري لقد
 
« 185 »
 
تلطّف في ذلك حيث أشار بمناسبة الخصر للمعنى والمناطق للفظ إلى أن الخصر أدقّ من المناطق لأن المعنى أدقّ من اللفظ لكونه معقولا مع أن الرقّة للفظ والدقّة للمعنى . وفي البيت الجناس اللاحق بين رقّ ودقّ ، وجناس شبه الاشتقاق بين ناسبت والنسيب ، واللف والنشر المرتّب بين مناسبة المناطق للنسيب أوّلا واقتفاء الخصر معنى النسيب في الدقة ثانيا وفيه أيضا الإدماج في وصف لفظه بكمال الرقّة ومعناه بغاية الدقّة واستعمال ذاك في الإشارة إلى الخصر تنبيه على علوّ مقامه .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله رقّت يعني المناطق المذكورة فكادت تخفي من كمال رقّتها التناسب اللفظي الإلهي من اسمه اللطيف وقوله دقّ أي الخصر يعني خفي فلا يكاد يظهر إلا بقيام المناطق عليه فالمناطق ناسبت النسيب مني وأما الخصر فلا مناسبة له لعدم ظهوره بالكليّة .
وقوله ذاك : أي الخصر استجاد ، أي جعل الأسماء والصفات جيدة له ولهذا يقال لها الأسماء الحسنى . وقوله فحاذا من المحاذاة ، أي المقابلة والمقاربة للأسماء والصفات . اهـ .
 
23 - كالغصن قدّا والصّباح صباحة *** واللّيل فرعا منه حاذى إلحاذا
 
[ الاعراب ]
الصباحة : الجمال . والفرع : الشعر . و « حاذى » : قارب . والحاذ : الظهر . وقوله كالغصن : خبر مبتدأ محذوف ، أي هو كالغصن . وقدّا تمييز محوّل عن المبتدأ وأصله قدّه كالغصن والصباح مجرور بالعطف على الغصن أيضا . وفرعا : تمييز أيضا .
والحاذ : مفعول حاذى ، وفاعل حاذى ضمير يعود إلى الفرع .
 
والمعنى :
قدّه كالغصن وصباحته كالصباح وفرعه الذي حاذى الظهر طولا كالليل . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين الصباح والصباحة ، والجناس التام في حاذى إلحاذا باعتبار ألف الإطلاق في إلحاذ وإلا فهو مطرف والتشبيه الواقع في البيت يسمّى التشبيه المفروق فهو مثل قوله :
النشر مسك والوجوه دنا * فيرو أطراف الأكفّ عنم
وما ألطف قول بعضهم :
أحب له بدر السماء لأنني * تأملت فيه لمحة من جماله
وأهوى قضيب البان من أجل خطرة * تعلمها من قدّه واعتداله
 
( ن ) : المعنى أن هذا المحبوب الحقيقي قدّه كالغصن ، يعني ظهوره في قلوب العارفين به يشبه الغصن النابت من أصل الشجرة الإنسانية بقدر طاقتها في أرض
 
« 186 »
 
الحقيقة الغيبية . وقوله والصباح : أي وكالصباح ، أي نوره الذي إن أشرق على ظلام الأكوان أفنى الأكوان كنور الصباح الذي إن أشرق على ظلام الليل أعدمه . وقوله والليل : أي وكالليل من جهة الفرع ، أي الشعر النابت من الشعور بمعنى الإدراك وهو شعور العقول بالمعاني الثابتة في نفوسهم فإنها له تعالى بحكم لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [ البقرة : الآية 284 ] ، أي سماوات الأرواح وأرض النفوس .
وقوله منه :
أي من ذلك المحبوب الحقيقي . وقوله حاذى إلحاذا : أي وصل إلى حذاء الظهر من طوله فإن الشعور والإدراك النفساني متصل بعضه ببعض طويل إلى أن ينكشف الأمر الإلهي على ما هو عليه وتشهد البصيرة خلق اللّه فيذهب الليل ويأتي نهار العرفان . اهـ .
 
24 - حبّيه علّمني التّنسّك إذ حكى *** متعفّفا فرق المعاد معاذا
 
[ الاعراب ]
« التنسّك » : التعبّد ، وعفّ واستعفّ وتعفّف فهو متعفّف كفّ عمّا لا يحلّ ولا يجمل ، والفرق كفرح الفزع والمعاد بفتح الميم ، وبالدال المهملة الآخرة . ومعاذ بضم الميم والذال المعجمة على صيغة اسم المفعول هو معاذ بن جبل الصحابي رضي اللّه عنه . وقوله حبّيه : مبتدأ مضاف إلى الياء وهي الفاعل ، والهاء مفعوله ، أي حبّي إيّاه ، وجملة علّمني التنسّك من الفعل والفاعل والمفعولين في محل رفع على أنها خبر المبتدأ .
وإذ : تعليلية وهي حرف بمنزلة لام العلّة ، وقيل هي ظرف ، والتعليل حينئذ مستفاد من قوّة الكلام لا من اللفظ وتكون إذ حينئذ مضافة إلى الجملة بعدها وفاعل حكى ضمير يعود إلى الحبيب المتحدّث عنه . ومتعفّفا : حال منه .
وقوله فرق المعاد :
منصوب على أنه مفعول حكى .
 
والمعنى :
حبّي لهذا الحبيب علّمني التنسّك لأنه متعفّف تارك ما لا يحلّ ولا يجمل حاكيا لمعاذ الصحابي في ذلك ، ومن أحبّ أحدا تعيّن عليه أن يسلك طريقه ،
ولذلك قال القائل :
لو كان حبّك صادقا لأطعته * إن المحبّ لمن يحبّ مطيع
 
وقد أحسن القاضي ابن عبد العزيز الجرجاني حيث يقول :
أحبّ اسمه من أجله وسميّه * ويتبعه في كل أخلاقه قلبي
ويجتاز بالقوم العدى فأحبّهم * وكلهم طاوي الضمير على حربي
وفي البيت الجناس المصحّف المحرّف بين معاد ومعاذ .
 
« 187 »
 
( ن ) : يعني أن حبّي إيّاه علّمني التعبّد رغبة في الوصول إليه لأنه أي حبّي شابه معاذ بن جبل الصحابي المشهور حال كونه أي معاذ متعفّفا عن كل شيء سوى محبوبه من خوف مجيئه في الآخرة إلى بين يدي محبوبه . اهـ .
 
26 - فجعلت خلعي للعذار لثامه *** إذ كان من لثم العذار معاذا
 
[ الاعراب ]
خلع العذار : التهتّك وعدم التقيّد بما تعتبره العامّة من الآداب ، وأصل العذار للدّابّة وهو ما سال من اللّجام على خدّ الفرس وجانبي اللحية . واللثام : ما كان على الفم من النّقاب . واللّثم : القبلة . وقوله « معاذا » : أراد به اسم مفعول من أعاذه اللّه من كذا سلّمه منه . وقوله فجعلت : عطف على علّمني ، والفاء سببية تدلّ على أن الجعل المذكور مسبّب عن كون حبّه له قد علّمه التنسّك . وخلعي : مفعول أول . وللعذار : متعلق به .
ولثامه : مفعول ثان ، والياء في خلعي فاعله . وإذ : تعليلية متعلقة بجعلت واسم كان يعود إلى الحبيب المتكلم عنه . ومن لثم العذار : متعلق بقوله معاذا .
ومعاذا : خبر كان .
 
والمعنى :
لمّا علّمني حبّه التنسّك جعلت خلعي للعذار لثاما له وساترا كي لا يعلم الناس محبتي له ، وذلك لأني لو أظهرت للناس متابعتي له وشعروا بمحبتي له عثروا على غرامي به حيث كان المحبّ يتبع محبوبه في أخلاقه .
وقوله إذا كان من لثم العذار إلى آخره : تعليل لجعل خلع العذار لثاما له دون غيره من النقابات المعتادة الساترة في الحسّ للفم وغيره من الوجه كأنه يقول : لمّا كان معاذا ومسلما وموقى من لثم العذار لم يحتج إلى نقاب حسّي يمنعه عن ذلك فجعلت خلع العذار لثاما لذلك الحبيب ساترا له أو فبدّلت خلع العذار بالأمر الساتر للمحبة لأنني تعلّمت منه التنسّك وهو يقتضي السّتر وترك خلع العذار وحينئذ فتظهر السببيّة ويصير قوله إذا كان من لثم العذار معاذا واضحا باعتبار أن المعنى يصير هكذا جعلت له لثاما وسترا بعد خلع العذار لكونه معاذا ومسلما من لثم العذار . فالستر ينبغي أن يكون ملازما له . وفي البيت الجناس التّامّ في العذار والعذار ، وجناس شبه الاشتقاق بين اللثم واللثام ، وفيه الإغراب بالغين المعجمة في جعل الخلع الذي هو ضدّ اللثام نفس اللثام ، وهذا ظاهر على المعنى الأول ، هذا ما ظهر لي في ظاهر البيت واللّه أعلم بالسّرائر . وفي البيت والذي قبله الجناس التام بين معاذ ومعاذ .
 
( ن ) : يعني أنني جعلت خلعي للعذار حجابا له وسترا لوجهه الكريم عن أعين الناظرين غيرة مني عليه فإذا رأوا أحوالي أنكرها من لم يعرف الطريق فيزداد
 
« 188 »
 
الحجاب على غير الأحباب ، لأنه أي المحبوب الحقيقي كان معاذا ومحفوظا من لثم العذار ، أي تقبيل الشعر النابت على الخدّين كناية عمّا يشعر بوجهه الكريم من الحجب الروحانية النورانية لكمال علوّه وفرط تنزّهه عن إدراك الأبصار والبصائر . اهـ .
 
26 - ولنا بخيف منى عريب دونهم *** حتف المنى عادى لصبّ عاذا
 
[ الاعراب ]
الخيف : ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء ومنه سمّي مسجد الخيف بمنى . و « منى » بكسر الميم مقصور : موضع بمكة وهو مذكر يصرف ، وقد امتنى القوم إذا أتوا منى عن يونس . وقال ابن الأعرابي : أمنى القوم أتوا منى .
 
والعريب تصغير العرب ، والتصغير للتعظيم . ودون نقيض فوق وهو تقصير عن الغاية وتكون ظرفا . قال المحقّق التفتازاني : ومعنى دون في الأصل أدنى مكان من الشيء ، يقال هذا دون ذاك إذا كان أحطّ منه قليلا ، ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرّتب ، فقيل : زيد دون عمرو في الشرف ، ثم اتّسع في كل تجاوز إلى حدّ ، وتخطّى حكم إلى حكم . والحتف بحاء مهملة ثم تاء مثناة من فوق الموت ، ومات حتف أنفه وحتف فيه على قلة ، وحتف أنفه على فراشه من غير قتل ولا ضرب وخصّ الأنف لأنه أراد أن روحه تخرج من أنفه بتتابع نفسه أو لأنهم كانوا يتخيلون أن المريض تخرج روحه من أنفه ، والجريح من جراحته .
و « المنى » بفتح الميم : الموت وقدر اللّه ، والقصد ينبغي أن يكون المراد المعنى الأوسط ، وإن روي المنى بضم الميم كان جمع منية وهي البغية والطّلبة . ويروى الحيف بالحاء المهملة والياء المثناة من تحت بمعنى الجور والظلم . و « عادى » : فعل ماض على وزن فاعل من المعاداة والمادّة العداوة .
والصّبّ : العاشق المشتاق . وعاذ على وزن فعل والألف للإطلاق ، وأصله عوذ كقام أصله قوم ، ومعنى عاذ به لجأ إليه ، والواو للاستئناف . ولنا : خبر مقدّم . وعريب :
مبتدأ مؤخر ، والجملة صفة لعريب ، وفاعل عادى ضمير يعود إلى حتف المنى .
ولصبّ : متعلق بقوله عادى ، وفاعل عاذ يعود للصب ، وجملة عاذ من الفعل والفاعل صفة لصبّ ، والمتعلق بعاذ محذوف ، أي عاذ بهم ، وجملة عادى لصب عاذا : خبر آخر لحتف المنى .
 
والمعنى :
لنا عريب عظيمون استقروا في خيف المنى لكنهم موصوفون بأن موت القدر استقرّ قبل الوصول إليهم فلذلك الموت يعادي كل صبّ عاذ بهم والتجأ إليهم . وفي البيت جناس التصحيف بين خيف وحتف ، وجناس التحريف بين منى ومنى ، وجناس التصحيف بين عادى وعاذا .
 
 
« 189 »
 
( ن ) : كنى بخيف منى عن القلب الملازم للخوف وللتمنّي فهو يخاف ويرجو ، وكنى بعريب عن الحق الذي وسعه قلب عبده المؤمن وهو مقدار ما انكشف للقلب من الغيب المطلق . ومنى بضم الميم جمع منية وهي البغية والطلبة ، يعني أن دون الوصول للعريب هلاك المنى واضمحلاله ، كما قال الشيخ عبد القادر الجيلاني :
أصبحت لا أملا ولا أمنية * أرجو ولا موعودة أترقّب
 
27 - وبجزع ذيّاك الحمى ظبي حمى *** بظبى اللّواحظ إذ أحاذ إخاذا
 
الجزع بكسر الجيم منعطف الوادي . و « ذياك » : اسم إشارة مصغّر على غير قياس إذ حقّ التصغير أن يكون للأسماء المتمكّنة لكن خولف ذلك في ذا والذي وفروعهما ولشبهها بالأسماء المتمكّنة في كونها توصف ويوصف بها لكن صغرت على وجه خولف به تصغير المتمكّن فترك أوّلها على ما كان قبل التصغير وجعلوا الألف المزيدة في الآخر عوضا عن الضمة ووافقت المتمكّن في زيادة ياء ساكنة . والحمى :
المكان الممنوع الذي لا يقرب . وحميت المكان : جعلته حمى . وفي الحديث « لا حمى إلا للّه ولرسوله » . والظبي معروف ، وثلاثة أظب وهو أفعل فأبدلوا ضمة العين كسرة لتسلم الياء وجمعه الكثير ظباء . وظبي وحمى بمعنى منع . و « الظبي » جمع ظبة السهم وهي طرفه ، والمراد باللواحظ العيون . وأحاذ بالحاء المهملة والذال المعجمة على أفعال فأصلها أحوذ ومعناه قهر . و « إخاذا » بكسر الهمزة وبعدها خاء معجمة شيء كالغدير ، والواو في قوله وبجزع ذياك الحمى للعطف على قوله ولنا بخيف منى .
وبجزع ذياك الحمى : خبر مقدّم . وظبي : مبتدأ مؤخر . وجملة حمى بظبي اللواحظ إلى آخره نعت لظبي . وإذ : متعلق بحمى وإخاذا : مفعول حمى .
 
ومعناه :
وقد استقر في منعطف وادي ذلك الحمى البعيد المنال ظبي عظيم حمى بسهام عيونه وقت قهره غدران الماء التي هناك فلا يقدر أحد أن يردّها حذرا منه ولا يخفى التجنيس بين حمى وحمى ، وبين ظبي وظبي ، وبين أحاذ وإخاذ .
 
( ن ) : كنى بالحمى عن قلب العارف أيضا ، وكنى بالظبي عن جناب الغيب المطلق الذي لا يزال نافرا عن الحصول لكمال تنزّهه عن مدارك العقول . واللواحظ العيون كناية عن حضرات الأسماء والصفات الإلهية . وقوله إذا حاذ أي لأنه قهر وغلب إخاذا وهو غدير الماء كناية عن عالم الأكوان ، فالمعنى أنه تعالى حمى عالم الأكوان بأسمائه الحسنى لأنه متّصف بالقهر والغلبة . اهـ .
 
28 - هي أدمع العشّاق جاد وليّها *** الوادي ووالى جودها الألواذا
 
« 190 »
 
[ الاعراب ]
« هي » : أي تلك الإخاذ أدمع العشاق المنسكبة في ذلك الحمى . و « جاد » المطر جودا إذا نزل فهو جائد ، وجمع جائد جود مثل صاحب وصحب . والوليّ : المطر الثاني الذي يكون بعد الوسميّ . « ووالى » من الموالاة وهي التتابع . والجود : المطر الغزير ، ويجوز كونه مصدرا ، وجمع جائد والألواذ جمع لوذ وهو جانب الجبل وما يطيف به وهي مبتدأ خبره أدمع العشّاق . وجاد وليّها الوادي : فعل وفاعل ومفعول .
 
وسكّن ياء الوادي للضرورة وذلك مستفيض . وقوله وإلى جودها الألواذ على حذف مضاف ، أي سقى مطرها الذي تكرر صوبه وادي ذلك الحمى وتابع مطرها الغزير الكثير سقاية جوانب الجبل أيضا ، ولا يخفى التجنيس بين وليّها ووالى ولا بين جودها وجاد .
 
[ المعنى ]
( ن ) : هي ضمير القصة مرجعه القصة مثل ضمير الشأن وبيان القصة صدور عالم الأكوان الذي كنّى عنه بالغدير في البيت قبله عن الأسماء الحسنى الإلهية المكنّى عنها هنا بالعشّاق ، وما تحمله وتتوجّه به كنى عنه بالأدمع ، وكنى بالولي بمعنى المطر عمّا كنى عنه أولا بأدمع العشّاق باعتبار تجدّده من قوله تعالى : بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ ق : الآية 15 ] ، وكنى بالوادي عن أهل الحضرة القدسية
كما قال تعالى : إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [ طه : الآية 12 ]
لانطواء الكل فيها ورجوعه إليها ، وكنى بالألواذ جمع الألوذ وهو الذي لا يميل إلى عدل ولا ينقاد لأمر عن المتكبّرين على أصلهم الذي نشؤوا عنه الجبارين على خلقه ، كما كنى بالوادي عن العارفين المحقّقين الفانين المضمحلّين في حقيقة العالم بهم . اهـ .
 
29 - كم من فقير ثمّ لا من جعفر *** وافى الأجارع سائلا شحّاذا
 
[ الاعراب ]
الفقير : مكان سهل تحفر فيه ركايا متناسقة وفم القناة وحفير يحفر حول الشجرة وغير ذلك . و « جعفر » : اسم للنهر الصغير ، ويقال للكبير فهو ضدّ ولعلّ المراد هنا الصغير . وقوله « لا من جعفر » : متعلق بقوله سائلا ، والغرض بيان كثرة أدمع العشّاق المذكورة في البيت قبله وادّعاء أنها أكثر من النهر الصغير فكأنه يقول إن فم القناة هناك امتلأ سائلا من دموع العشّاق من نهر كبير لا من نهر صغير . وذكر « الأجارع » هنا يدلّ على المبالغة في كثرة الدمع ، وذلك لأنها الرمال التي لا تنبت شيئا فبسبب أدمع العشّاق وكثرتها صارت بحيث يطلب الفقير منها الورد من الماء الكثير . هذا والشحاذ هنا هو الملح في سؤاله فهو صفة للسائل يفيد شدّة سؤاله ، وفي ذكر الفقير والسائل والشحاذ إيهام التناسب .

« 191 »
 
[ المعنى ]
( ن ) : فقير : أي بئر كناية عن المريد الكاذب في إرادته ، كما قال تعالى : وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [ الحجّ : الآية 45 ] ، فالبئر قلب المريد الكاذب لطلبه أسافل الأمور كالدنيا والشهوات ، والقصر قلب المريد الصادق لطلبه معالي الأمور كمعرفة ربّه ومعرفة ما يقرّبه إليه . وقوله ثمّ : أي هناك إشارة إلى الوادي في البيت قبله ، وقوله لا من جعفر : أي لا كم من جعفر وهو النهر الصغير كناية عن المريد الصادق . وقوله وافى الأجارع وهي كثبان الرمل والحجارة كناية عن المشايخ الكاذبين فإن أمثال هؤلاء لا يقصدهم إلا المريد الكاذب في إرادته . اهـ .
 
30 - من قبل ما فرق الفريق *** عمارة كنّا ففرّقنا النّوى أفخاذا
 
[ الاعراب ]
« فرق » : كنصر فصل والفريق الطائفة الكثيرة من الناس . والعمارة : بالفتح أصغر من القبيلة ، وتكسر أي الحيّ العظيم كذا في القاموس ، والظاهر أن المراد هنا الثاني .
و « النّوى » : التحوّل من مكان إلى آخر . والأفخاذ جمع فخذ وهو هنا حيّ الرجل إذا كان من أقرب عشريته . وقوله من قبل : متعلق بقوله كنا . وما : مصدرية ، أي من قبل فرق الفريق . وعمارة : خبر مقدّم لكنّا ، ونا اسمها . وقوله ففرّقنا النوى عطف على كنّا . وأفخاذا : حال من مفعول فرقنا ويصحّ أن يكون مفعولا ثانيا لفرّقنا على تضمينه معنى صيّرنا .
 
والمعنى :
كنّا قبل فصل الفريق عنّا ومفارقتهم إيّانا حيّا عظيما فصيّرنا التحوّل من مكان إلى آخر أفخاذا متبدّدين . ولا يخفى التجانس بين فرق والفريق وفرقنا ، ولا جمع النظير بين الفريق والعمارة والأفخاذ .
 
( ن ) : الفريق الطائفة الكثيرة من الناس ، قال تعالى : فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [ الشّورى : الآية 7 ] ، والمراد هنا الفريق الأول ، ومعنى فرق الفريق : انفصل إلى خواص وعوام وذلك بانصباغ أعيانهم بنور الوجود . وقوله كنّا أي معشر أهل اللّه عمارة . وقوله ففرقنا النوى : أي البعد المتفاوت بيننا عن الحق تعالى بحسب الأحوال وتوجّهات الهمم وبهذا اختلفت المراتب بين أهل اللّه تعالى. وقوله أفخاذا : أي أقساما وأنواعا.اهـ.
 
31 - أفردتّ عنهم بالشّآم بعيد *** ذاك الالتئام وخيّموا بغداذا
 
[ الاعراب ]
« أفردت » بالبناء للمجهول ، أي جعلت فردا عنهم ، أي عن الفريق ، والباء بمعنى في . والشآم بالهمز والمدّ لغة في الشام المعروف . و « بعيد » تصغير بعد وهو للتقريب .
و « الالتئام » : الاتفاق والانضمام . وخيّم بالمكان : أقام به . وبغداد : مدينة السلام
 
 
« 192 »
بمهملتين ومعجمتين وتقديم كل منهما ، ويقال فيها بغدان وبغدين ومغدان وتبغدد أي انتسب إلى بغداد وتشبّه بأهلها . وكان الأصمعي يكره تسميتها بغداد ويعلّل ذلك بأن لفظ بغ اسم صنم وداد بالفارسية معناه العطية فكأن المعنى عطية الصنم . وقوله « بالشآم » : متعلق بأفردت أو حال من التاء التي هي نائب الفاعل والظرف متعلق بأفردت . وبغداد : مفعول به على الحذف والإيصال إذ الأصل خيّموا ببغداد كما تقدّم اللّهمّ إلا أن يكون على تضمين خيّموا استوطنوا فتكون بغداد منصوبة على الظرف حملا على المبهم كما في دخلت الدار .
 
والمعنى :
جعلت فردا عن الفريق في الشام وخيّموا بغداد بعد أن كنت منضمّا إليهم متفقا معهم وأصعب الفراق ما كان بعد الاتفاق :
لو حار مرتاد المنيّة ما رأى * إلا الفراق على النفوس دليلا
 
( ن ) : عنهم : أي عن العمارة المذكورة ، ومعنى إفراده دخوله في مقام الفردية الخارجة عن حكم الأقطاب كلهم . وقوله بالشآم : أي حصل له ذلك بسبب دخوله أرض الشام ومفارقته مصر ، وقوله خيّموا بغداذ فخصّ بغداد لأنها مسكن القطب الذي تدخل جميع أهل المراتب الإلهية تحت حيطته من أقطاب المقامات وغيرهم إلا الأفراد خاصّة . اهـ .
 
32 - جمع الهموم البعد عندي بعد *** أن كانت بقربي منهم أفذاذا
 
[ الاعراب ]
وهذا البيت مقابل لما قبله فإن الأول يقتضي تفريق الأحبة بعد اجتماعها وهذا البيت يقتضي جمع الهموم بعد تفريقها . والأفذاذ جمع فذّ وهو الفرد . والهموم :
منصوب على أنه مفعول مقدّم . والبعد فاعل مؤخر . وأن : مصدرية ، واسم كان ضمير يعود للهموم ، ومنهم متعلق بقربي . وأفذاذا : خبر كان ، والباء في بقربي للسببية وإن مع الفعل في تأويل مصدر أضيف إليه بعد .
 
والمعنى :
جمع بعدي عنهم الهموم عندي من بعد أن كانت بسبب قربي منهم أفرادا قليلة . وفي البيت الطّباق بين البعد والقرب ، وبين الجمع المفهوم من جمع والتفريق المفهوم من أفذاذا ،
وما أحسن قوله رضي اللّه عنه :
وما سكنت والهمّ يوما بموضع * كذلك لم يسكن مع النغم الغم
 
( ن ) : قوله بعدي عنهم جمع الهموم عندي لأن مقام الفردية يقتضي الانفراد بمرتبة خاصة لا يعلمها إلا صاحبها فلا تتفرّق هموم صاحبها على بقية أهل اللّه لعلو مرتبته عليهم وكمال تحمّله للبلاء النّازل أكثر منهم . وقوله إنها كانت متفرّقة بسبب
 
« 193 »
 
قربه إليهم فإن البلايا والمصائب تتفرّق على جميع الصالحين بحسب مراتب صلاحهم . وكان النّاظم رضي اللّه عنه أوّلا منهم فكان له نصيب من ذلك البلاء فلما كان في الفردية كان بلاؤه أشدّ لأنه الوارث المحمدي الجامع . قال صلى اللّه عليه وسلم : « أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل » . اهـ .
 
33 - كالعهد عندهم العهود على *** الصّفا أنّى ولست لها صفا نبّاذا
 
[ الاعراب ]
العهد هنا أول مطر الوسمي . و « العهود » : جمع عهد وهو الموثق والصفا جمع صفاة وهي الحجر الصلد . و « أنّى » : اسم بمعنى كيف وهو هنا استفهام للتعجب .
وقوله « صفا » المراد منه نقيض الكدر . والنباذ : فعال من نبذت الشيء إذا طرحته في الأمام أو الوراء أو مطلقا . وقوله كالعهد خبر مقدّم . وعندهم : متعلق بما تعلق به الخبر . والعهود : مبتدأ مؤخر . وعلى الصفا : حال من العهد ، أي العهود عندهم كالعهد مستقرا على الصفا ومدخول أنّى : محذوف . والواو في ولست : واو الحال ، والتاء : اسم ليس . ونباذا : خبرها . ولها : متعلق به . وقوله صفا : منصوب على أنه مفعول لأجله والعامل فيه فعل مأخوذ من معنى الجملة ، أي تركت نبذ عهودهم لأجل صفاء محبتي وصدق مودّتي والتأويل للاحتراز عن توجّه النفي للقيد وذلك يوجب فساد المعنى إذ يصير هكذا لست نبّاذا للعهود لأجل الصفا بل لشيء آخر مع أن المراد نفي نبذه للعهود مطلقا هذا إن قيل بتوجّه النفي إلى القيد كما هو الأغلب ، وإما إن قيل بصحة توجّهه إلى المقيد فلا إشكال .
 
والمعنى :
عهودهم ومواثيقهم مثل نزول المطر على الحجر الصلد لا ثبات له ولا بقاء فكيف يكون منهم ذلك وأنا لست نبّاذا لعهودهم لأجل ما عندي من الصفاء والصدق في محبتهم . ولا يخفى الجناس بين صفا وصفا ، وبين عهدي وعهود .
وما أحسن قول بعضهم :
نقضوا العهود وحق ما يبنى على * رمل اللّوى بيد الهوا أن ينقضا
وقال الآخر :
ولم يبنى على الرمل * فكيف انتقض العهد
 
( ن ) : يعني أن العهود والمواثيق عند الأحبة المذكورين في الأبيات قبله بأنه انفرد عنهم هي كالمطر على الحجر الصلد فإن الحجر لا يمسك شيئا منه وذلك لكمال اشتغالهم بربّهم فليسوا مع أحد غير الحق ، ثم قال كيف يكون ذلك منهم وأنا مع اشتغالي الزائد بالحق تعالى لم أطرح عهودهم لأجل ما عندي من الصفاء . اهـ .
 
« 194 »
 
34 - والصّبر صبر عنهم وعليهم  *** عندي أراه إذا أذى ازّاذا
 
[ الاعراب ]
« الصبر » نقيض الجزع . وقوله « صبر » هو عصارة شجر مرّ وهو على وزن كتف ، وسكّن الشيخ للضرورة . و « إذا » منوّنة هي التي تقع في الجواب وكان حقها أن تدخل على الفعل لكن تأخّرت عنه لضرورة الوزن وهي هنا ليست عاملة . و « أذى » بفتح الهمزة كهوى وهو المكروه . و « ازّاذا » في آخر البيت نوع من الثمر . وقوله الصبر :
مبتدأ . وصبر : خبر . وعنهم : متعلق بالمبتدأ . وعليهم : متعلق به أيضا إذ المعنى صبري عنهم صبر وصبري عليهم أراه في حال كونه أذى كالأزاذ الذي هو نوع من الثمر حلوا . وعندي : متعلق بأراه . وإذا : جوابيّة . وأذى : حال مقدّم من ازاذ ، أي أراه ازاذا في حال كونه أذى .
 
المعنى :
صبري عن أحبتي بأن أهجرهم ولا ألقاهم مرّ لا قدرة لي على تحمّله ، وأما صبري عليهم بأن أتحمّل جفاهم وأطلب رضاهم أراه حلوا مقبولا ، كقوله رضي اللّه عنه :
وصبري صبر عنكم وعليكم * أرى أبدا عندي مرارته تحلو
وقوله أيضا رضي اللّه عنه :
وصبري أراه تحت قدري عليكم * مطاقا وعنكم فاعذروا فوق قدرتي
وقال أيضا رضي اللّه عنه :
وعقبى اصطباري في هواك حميدة * عليك ولكن عنك غير حميدة
وقول بعضهم :
الصبر يحمد في المواطن كلها * إلا عليك فإنه مذموم
 
وفي البيت الجناس التام بين الصبر وصبر ، والطّباق المعنوي بين الصبر بمعنى المرّ والأزاذ إذ هو حلو ، والطّباق بين عنهم وعليهم ، والجناس المحرّف بين إذا وأذى .
عزّ العزاء وجدّ وجدي بالألى صرموا فكانوا بالصّريم ملاذا
 
[ الاعراب ]
« عزّ » معناه قلّ ولا يكاد يوجد . و « العزاء » بفتح العين والمدّ الصبر . و « جدّ » :
اجتهد . والوجد : ما يجده الإنسان من حبّ أو حزن . والألى جمع الذي لا عن لفظه ولا يكتب بالواو وكأن النكتة في ذلك التباسه حين يكتب بالواو بالأولى بمعنى ضدّ
 
« 195 »
 
الأخرى . و « صرموا » بمعنى قطعوا قطعا بائنا ومفعوله محذوف ، أي قطعوا حبل مودّتي . والصريم : موضع . والملاذ : الحصن . قوله بالألى متعلق بقوله وجدي ، والمتعلق بالعزاء محذوف ، أي عزّ صبري عن الأحبة القاطعين ، وجملة صرموا صلة الموصول والواو عائد . وقوله بالصريم : حال من الواو في كانوا .
 
والمعنى :
صبري قلّ بحيث إنه لا يكاد يوجد ، وأما حزني فقد اجتهد بقوم قطعوا حبل مودّتي وكانوا في الصريم ملاذا لي ومحصل الكلام أن صبره فقد ووجده وجد حيث فقد الوصال ووجد الملال . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين عزّ والعزاء ، وبين جدّ وجدّي ، وبين صرموا والصريم .
 
( ن ) : قوله الألى : أي الأحبة الذين قطعوا حبل مودّتي لكمال اشتغالهم بمحاسن أحوالهم ، وقوله بالصريم كناية عن الحالة التي يجتمعون فيها حيث يمتازون عن عوامّ المؤمنين وهو معهم في تلك الحالة . وقوله ملاذا أي حصنا لبعضهم بعضا في المساعدة على الخير ورفع الضّير . اهـ .
 
35 - ريم الفلا عنّي إليك فمقلتي *** كحلت بهم لا تغضها استيخاذا
 
[ الاعراب ]
الريم : الظبي الخالص البياض . و « الفلا » جمع فلاة وهي المفازة التي لا ماء فيها أو القفر . و « إليك » اسم فعل بمعنى تنحّ . و « عني » : متعلق به . والمقلة : الحدقة أو سواد العين أو شحمة العين التي تجمع السواد والبياض . و « كحلت » على البناء للمجهول ونائب الفاعل يعود للمقلة ، والضمير في بهم للألى في البيت الذي قبله .
 
وأغضى بالغين المعجمة ثم بالضاد المعجمة بمعنى أدنى جفونها وضمّ بعضها إلى بعض . والاستيحاذ استفعال وهو بالخاء المعجمة ومعناه تنكيس الرأس من وجع ، ويجوز أن يكون معناه الرّمد . قوله ريم الفلا : منادى حذف حرف ندائه .
وعنّي : متعلق بقوله إليك لأن المراد تنحّ عنّي .
وقوله استيخاذ : حال من الهاء ووصفها بالتنكيس حينئذ باعتبار أنها في الرأس فتوصف بما هو وصف للرأس ، وأما إذا كان الاستيخاذ بمعنى الرمد فظاهر والجملة استئناف تكون جوابا عن سؤال تقديره ما سبب طلبك من الريم أن يتنحّى عنك ؟ فقال : لأن أجفاني كحلت بأحبابي ، أي برؤيتهم فلا يليق بي بعد ذلك أن أنظر إلى غيرهم مما يشبّه بهم لأن النظر إلى غير الأحبة ليس من شرط الأصدقاء ،
وما أحسن قول ابن العفيف :
ولقد رأيت برامة بان النقا * فمنعت طرفي منه أن يتمتعا
ما ذاك من ورع ولكن من رأى * أشباه عطفك حقّ أن يتورّعا
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة صدّ حمى ظمئي لماك الأبيات من 22 إلى 51 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:10 pm

شرح قصيدة صدّ حمى ظمئي لماك الأبيات من 22 إلى 51 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الثانية صدّ حمى ظمئي لماك الأبيات من 22 إلى 51 
« 196 »
[ المعنى ]
( ن ) : ريم الفلا كناية عن المحبوب المجازي وهو المليح اللطيف الشمائل ، يقول له : تنحّ عنّي فإن عيني كحلت بهم ، أي بالأحبّة المشار إليهم بالألى في البيت قبله ، يعني رأتهم وشاهدتهم . وقوله لا تغضها : أي لا تحجب عيني عن رؤية محبوبي الحقيقي . وقوله استيخاذا كناية عن النظر إلى الأغيار . اهـ .
 
37 - قسما بمن فيه أرى تعذيبه *** عذبا وفي استذلاله استلذاذا
 
[ الاعراب ]
الاستذلال الاستفعال من الذّلّ ، يقال استذلّه جعله ذليلا ، واستذلّه رآه ذليلا .
والاستلذاذ استفعال من اللذّة ، يقال استلذّه وجده لذيذا . قوله قسما : مفعول مطلق لفعل محذوف ، والباء متعلقة به . وفيه : متعلق بقوله أرى . وتعذيبه عذبا : مفعولان له . وفي « استلذاذه استلذاذا » : مفعولان لأرى بمقتضى العطف ، والرؤية بمعنى العلم وفي الجارّة للهاء سببية . وتعذيب : مضاف إلى فاعله ، والمفعول محذوف ، أي تعذيبه إيّاي وكذا استذلاله إذ المراد إيّاي .
 
والمعنى :
قسما بالحبيب .
 
( ن ) : أي المحبوب الحقيقي الذي اعتقد تعذيبه لي عذبا لأجله واعتقد جعله إياي ذليلا لذّة . وفي البيت تجنيس شبه الاشتقاق بين تعذيبه وعذبا ، وتجنيس القلب بين الاستلذاذ والاستذلال ، وجواب القسم قوله رضي اللّه عنه .
 
38 - ما استحسنت عيني سواه وإن  *** سبا لكن سواي ولم أكن ملّاذا
 
[ الاعراب ]
« سبا » بمعنى أسر . والملاذ : المتصنّع الذي لا تصحّ مودّته . والواو في قوله وإن سبا اعتراضية أو للعطف على مقدّر هو أولى بالحكم ، أي إن لم يسب وإن سبى ، أو حاليّة ، وإن هذه لا تحتاج إلى جواب لكونها لمجرّد التأكيد ، أقول صرّح بذلك المحقّق التفتازاني عند الكلام على قول النابغة :
وإنك كالليل الذي هو مدركي * وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
 
كذا في بحث الإطناب ولكن مقحمة بين الفعل ومفعوله ، وفاعل سبا ضمير يعود إلى سواه ، والمراد بسواه غيره من أصحاب الحسن ، أي ما استحسنت عيني سواه وإن كان سواه سبى بحسنه لكن غيري وما سبى غيره لي بل سبى سواي ، ويجوز على بعد عوده على من في البيت الذي قبله . وقوله ولم أكن ملاذا عطف على جواب القسم .
 
« 197 »
والمعنى :
على كون فاعل سبا يعود إلى من قسما بالحبيب الذي أرى تعذيبه عذبا واستذلاله إيّاي استلذاذا ما عدّت عيني سواه حسنا وإن سبا سواي ، وكأنه أراد بسبي اختار لأن المحبوب لا يسبي إلا من يختار لأن سبيه للإنسان عبارة عن جعله مختارا ومريدا ، فالاختيار من لوازم السبي إذ ليس المراد به السبي الحقيقي وما كنت متصنّعا فيما قلته من عدم استحساني سواه وإن سبى غيري وأراده . وبالجملة فكأنه يقول أنا لا أستحسن سواه وإن استحسن سواي واختاره لأن يكون أسيرا في محبته ولست متصنّعا في قولي ولا فعلي .
وللّه درّه رضي اللّه عنه حيث يقول :
لا تحسبوني في الهوى متصنّعا * كلفي بكم خلق بغير تكلّف
وأما إذا كان فاعل سبى يعود إلى سواه فالمعنى ما استحسنت عيني سواه من الملاح وإن كان له قدرة على السبي لكن ما سباني ولكن سبا سواي .
 
( ن ) : ما استحسنت عيني سوى المحبوب الحقيقي وإن سبا ذلك السّوى غيري . اهـ .
 
39 - لم يرقب الرّقباء إلّا في *** شج من حوله يتسلّلون لواذا
 
[ الاعراب ]
« يرقب » : فعل مضارع بمعنى يحرس كراقب ، والرقباء جمع رقيب بمعنى الحارس . و « شج » كفرح بمعنى الحزين ، وقد يستعمل في الفرح فهو ضدّ يتسللون معناه ينطلقون في استخفاء . و « لواذا » : أي استتارا فكأنه مؤكّد لقوله يتسلّلون من غير لفظه . وقوله « من حوله » متعلق بقوله يتسلّلون على حدّ قولهم جلست قعودا ، وجملة يتسللون لواذا مبيّنة لمراقبة الرقباء أو حال من الرقباء .
 
والمعنى :
لم يحرس الحارسون إلا في محبة حزين فهم يتسللون من حوله مستخفين والرقيب إذا كان مستخفيا كان أشدّ وأصعب على المحبّ لأنه يراه من حيث إنه لا يراه بخلاف ما إذا كان متجاهرا في المراقبة فإنه يعرفه فيحذره ويوري له عن المحبوب بخلاف المطلوب . وللّه درّ القائل :
أقول زيد وزيد لست أعرفه * وإنما هو لفظ أنت معناه
 
( ن ) : الرقباء كناية عن الأغيار المستحسنة فإنها تراقب أهل المحبة الإلهية فتلهى قلوبهم عن مشاهدة الحق تعالى . وقوله إلا في شج : أي محبّ أحزنته المحبة ، وأما الفاني المتحقّق بمعرفة نفسه وربّه الذي فات مقام المحبة فلا رقيب له . اهـ .
 
40 - قد كان قبل يعدّ من قتلى  *** رشا أسدا لآساد الشّرى بذّاذا

 
« 198 »
 
[ الاعراب ]
القتلى جمع قتيل كمرضى ومريض . والرّشا محرّكا مهموز اللام : الظبي إذا قوي ومشى مع أمه وقلبت همزته ياء وأعلّ إعلال هوى . والأسد معروف ، والآساد جمعه .
و « الشّرى » : طريق في جبل يسمى سلى كثيرة الأسد وجبل بتهامة كثير السّباع . والبذاذ فعال وهو الذي يغلب كثيرا . واسم كان ضمير يعود لشج . وقبل : مضاف إلى الجملة بعده فهو منصوب معرب متعلق بكان ، أو بقوله أسدا على أنه بمعنى الشجاع المجتري ، كقوله :
أسد عليّ وفي الحروب نعامة
وقوله من قتلى متعلق بقوله يعدّ . ورشا مضاف إليه . وقوله أسدا : خبر كان .
وبذاذا : نعته . وقوله الآساد الشرى : متعلق بقوله بذاذا .
 
المعنى :
قد كان هذا الشجي بالتحقيق قبل عدّه من جملة قتلى حبيب كالغزال في نفاره وجيده وعيونه والتفاته شجاعا كالأسد غلّابا بالآساد المكان المشهور لكن بعد أن عدّ منهم انتفى عنه اسم الأذيّة والشجاعة ، وما أحسن قوله رضي اللّه تعالى عنه :
عجبا في الحرب أدعى باسلا * ولها مستبسلا في الحبّ كي
وقد يروى بضم لام قبل توهّما أنه مبني وأن يعدّ خبر كان وهو غلط مفسد للمعنى ، والصواب ما بيّنته .
 
( ن ) : الرشا إشارة إلى المليح الجامع للمحاسن وهو كناية عن المحبوب الحقيقي . اهـ .
 
41 - أمسى بنار جوى حشت أحشاءه *** منها يرى الإيقاد لا الإنقاذا
 
[ الاعراب ]
« حشت » بمعنى ملأت ، أو بمعنى أصابت الحشا لكن على إرادة أن حشا بمعنى أصاب الحشا يجب أن يجرّد عن إصابة خصوص الحشا لئلا يستدرك المفعول فتدبّر . والأحشاء جمع حشا وهو ما في البطن . و « الإيقاد » : مصدر أوقد النار ، وأصله أوقاد سكنت الواو وانكسر ما قبلها فقلبت ياء .
 
والإنقاذ : مصدر أنقذه من كذا ، أي خلّصه . واسم أمسى يعود إلى الشجي . وبنار جوى : خبر ، أي أمسى الشجي متلبّسا بنار جوى ، وفاعل حشت يعود إلى النار وأحشاءه مفعوله ، والجملة صفة لنار جوى ، ومنها متعلق بيرى . والإيقاد : مفعول يرى . ولا : عاطفة للإنقاذ على الإيقاد .
 
« 199 »
 
والمعنى :
أمسى ملابسا لنار جوى ملأت أحشاءه وأصابتها يرى من تلك النار الإيقاد ولا يرى منها إنقاذا وخلاصا وإنما هي مستمرة باقية على الدوام . ولا يخفى الجناس بين حشت وأحشاءه ، وبين الإيقاد والإنقاذ .
 
( ن ) : أمسى : أي دخل في المساء وهي ظلمة الأكوان واسمها ضمير راجع إلى الشجي المقدّم ذكره فإنه محترق بنار شوق إلى حبيبه يراها متّقدة ولا يرى مناصا منها . اهـ .
 
42 - حيران لا تلقاه إلّا قلت من *** كلّ الجهات أرى به جبّاذا
 
[ الاعراب ]
الحيران من لا يهتدي لسبيله ، والمراد بالجهات الجهات الست . والجباذ فعال من جبذه بمعنى جذبه وليس مقلوبه بل هي لغة صحيحة . وحيران : خبر مبتدأ محذوف ، أي هو حيران أو حال من فاعل يرى في البيت السابق ، وجملة قلت بعد إلا حال والاستثناء مفرّع ، أي لا تلقاه في حال من الأحوال إلا في حال قولك أرى به جباذا من سائر الجهات ، وهذه الحال هنا لا تحتاج إلى تقدير قد نصّ عليه المحقّق التفتازاني .
قال في المطوّل قبيل باب الاستثناء كثيرا ما تقع الحال بعد إلا ماضيا مجرّدا عن قد والواو نحو ما أتيته إلا أتاني . وفي الحديث ما أيس الشيطان من بني آدم إلا أتاهم من قبل النساء ، وذلك أنه قصد لزوم تعقيب مضمون ما بعد إلا لما قبلها فأشبه الشرط والجزاء ، وهذه الحال مما لا يقارن مضمونه مضمون عامله إلا على تأويل العزم ، والتقدير ما أيس الشيطان من بني آدم غير النساء إلا عازما على إتيانهم من قبلهنّ ، كقولهم خرج الأمير معه صقرا صائدا به غدا ، جعل المعزوم عليه المجزوم به كالواقع الحاصل ومن كل الجهات متعلق بأرى أو بقوله جباذا . وكذا به والباء بمعنى في وإنما جعل الجباذ فيه لأنه عبارة عمّا في قلبه من الحيرة التي أوجبت له عدم القرار وأزالت عن قلبه وصف الاصطبار ، فالجباذ ليس خارجا عن ذاته . وأرى هنا بصرية والجملة من الفعل والفاعل والمفعول مقول القول .
 
والمعنى :
هذا الشجي حيران لا يهتدي لسبيله وإن من لقيه يقدّر عليه أن به وفي باطنه جباذا يجذبه من سائر الجهات وإلى ذلك أشرت حيث قلت من قصيدة :
ما زلت أطلبه في كل ناحية * فينظر الناس مني فعل حيران
 
( ن ) : حيران من كثرة تراكم الظهورات الإلهية على قلبه في الأضداد والأمثال الكونية وبه جباذ يجذبه من كل الجهات لانكشاف المعنى الإلهي له . اهـ .
 
« 200 »
 
43 - حرّان محنيّ الضّلوع على أسى *** غلب الأسا فاستنجذ استنجاذا
 
[ الاعراب ]
الحرّان : العطشان . والمحني الضلوع : هو المعطوف الضلوع ، فهو مضاف إلى نائب الفاعل . والأسى بفتح الهمزة : الحزن الزائد . و « الأسا » « 1 » مختصر من أساة كقضاة ، وهكذا يرويه الناس ، والأولى أن يقرأ بكسر الهمزة على وزن ظباء فلا يكون حينئذ فيه اختصار ، وهو جمع آس كقاض ، ومعناه الطبيب . وقوله « فاستنجذا استنجاذا » يروى بالتاء المثناة من فوق والنون والجيم والذال المعجمة ،
ولم أجد له في القاموس معنى يناسب البيت مناسبة تامّة بل لفظ استنجذ ليس مذكورا في القاموس أصلا غير أنه قال : النجذ شدّة العضّ بالنواجذ وهي الأضراس والكلام الشديد ، وعضّ على ناجذه بلغ أشدّه ، والمنجذ كمعظم المجرب والذي أصابته البلايا . وقال في آخر المادة ونجذه الخ . . . : ألحّ عليه ،
فنقول على ما يروى في البيت إما أن يكون استنجذ ، أي صار منجذا أي مصابا بالبلايا ، فالضمير حينئذ للحرّان ، وإما أن يكون من نجذه بمعنى ألحّ عليه ويكون الضمير عائدا إلى الأسى ، وإما أن يكون استنجذ مأخوذا من النجذ وهو شدّة العضّ بالنواجز مجازا فيكون الضمير عائدا إلى الأسى أيضا . ولا يخفى بعد المناسبة في هذه الأوجه والأظهر أن يروى هكذا فاستأخذ استئخاذا على أن يكون استأخذ بمعنى استكان وخضع وحينئذ فالضمير للحرّان .
 
والمعنى :
عليه لمّا رأى أن داءه من المحبة غلب الأطباء ولم يقدروا على علاجه استكان وخضع وسلّم وترك الدواء ، وقلت من أبيات :
إن صدّ عني ولم ينظر لمسكنتي * وضعت في جيب فقري رأس تسليمي
وقوله حرّان : خبر مبتدأ محذوف ، أي هو حرّان . ومحنيّ الضلوع : خبر بعد خبر . وعلى أسى : متعلق بقوله محنيّ الضلوع . وجملة غلب الأسا : صفة الأسى .
 
وجملة قوله فاستنجذ استنجاذا على ما قرّرناه من الوجه الأظهر مستأنفة ، ومعناه حرّان عطشان قد حنى ضلوعه وعطفها على حرن غلب الأطباء ولم يقدروا على علاجه فاستكان وسلّم وترك طلب الدواء . ومن ذلك قوله رضي اللّه عنه وأرضاه :
وضع الآسي بصدري كفّه * قال ما لي حيلة في ذا الهوى
..........................................................................................
( 1 ) لا يخفى أن فيه قصر الممدود للضرورة .
 
« 201 »
 
( ن ) : قوله استنجذ استنجاذا ، أي عضّ عضّا شديدا بنواجذه وهو أقصى أضراسه .
والمعنى : أن حرارته تزايدت وضلوعه انحنت من زيادة الحزن ومرضه غلب الأطباء فعجزوا عنه ، فمن شدّة تألّمه وتوجّعه مما هو فيه من المرض والدّاء العضال عضّ على نواجذه عضّا شديدا . اهـ .
 
44 - دنف لسيب حشى سليب *** حشاشة شهد السّهاد بشفعه ممشاذا
 
[ الاعراب ]
الدنف كفرح المريض مرضا ملازما . واللسيب : اللديغ بمعنى الملدوغ .
والحشا : ما في البطن . والسليب بمعنى المسلوب . والحشاشة بضم الحاء : بقية الروح في المريض والجريح . و « السّهاد » بالضم : الأرق . والشفع على وزن نفع مصدر شفعه كمنعه ، أي صار ثانيا له . وممشاذ بميم مكسورة بعدها ميم ساكنة : رجل كان من كبار الصالحين المجاهدين قيل إنه استمر أربعين سنة لا ينام . وقوله بشفعه :
مصدر مضاف إلى الفاعل وكمل بالمفعول الذي هو ممشاذ .
 
والمعنى :
هو مريض ملسوع الحشا من حيّة الهوى ومسلوب بقية الروح ، وقد شهد السهر بأنه صار ثانيا لممشاذ الدينوري في سهره ، وما ألطف قوله رضي اللّه عنه :
واسأل نجوم الليل هل زار الكرى * جفني وكيف يزور من لم يعرف
سقم ألمّ به فآلم إذ رأى بالجسم من اغداده إغذاذا
 
[ الاعراب ]
السّقم محرّكة ضعف البدن . و « ألمّ » بمعنى نزل . وآلم بمعنى أوصل الألم .
وقوله « من اغداده » هو بعين معجمة ودالين مهملتين مصدر قولك أغدّ الشيء إذا صارت به الغدّة . والإغذاذ في آخر البيت : بغين معجمة وذالين معجمتين مصدر قولك أغذّ الجرح إذا سال ما فيه أو ورم وسقم : مبتدأ وسوّغ الابتداء به وصف مقدّر دلّ عليه التنكير ، أي سقم عظيم . وجملة ألمّ به خبر . وقوله فآلم عطف على ألم . وإذ ظرف للفعل المعطوف والضمير في به وفي رأى للدنف في البيت الذي قبله .
وبالجسم : متعلق برأي . وإغذاذا : مفعوله . ومن اغداده : حال من اغذاذ إذ كان وصفا له تقدّم عليه فأعرب حالا . ومن : ابتدائية .
 
والمعنى :
سقم عظيم نزل بهذا الدنف المريض فآلمه حين رأى سيلانا أو ورما من غدد جسمه على الأول فيكون قد نزل الغدّة بمنزلة الجرح هذا أقرب ما يمكن

« 202 »
 
ذكره في توجيه هذا المقام ، وثم وجوه أخر بعيدة عن المرام واللّه تعالى أعلم بأسرار الكلام .
 
( ن ) : قوله من اغداده كناية عن ظهور نفسه له وظهور صفاتها على جسمه من التكبّر والعجب ونحو ذلك ، وقوله اغذاذا كناية عن رؤية ما تقتضيه صفات نفسه من الأحوال فهو في مجاهدة شديدة مع نفسه وهذه كلها أوصاف الشجي الذي مضى الكلام عليه في قوله لم ترقب الرقباء إلا في شج إلى آخره . اهـ .
 
45 - أبدى حداد كآبة لعزاه إذ *** مات الصّبا في فوده جذّاذا
 
[ الاعراب ]
« أبدى » : أظهر . والحداد في الأصل ترك الزينة للعدّة ، والمراد به إظهار أمارات الحزن والكآبة لموت الصبا على سبيل التشبيه . والكآبة : الغمّ وسوء الحال . والعزاء :
الصبر . وإذ : تحتمل التعليل والظرفية وعليهما فهي متعلقة بأبدى على القول بأن التعليلية اسم وإلا فتعلّق معنى فيها . والمراد من الصبا هذا ما يدلّ على التشبيه من اسوداد الشعر بدليل قوله في فوده . والفود بفتح الفاء جانب الرأس . والجذاذ : صيغة مبالغة من جذ بجيم وذال معجمة بمعنى قطع ، وفاعل أبدى يعود إلى ما سبق . وحداد كآبة : مفعوله ، واللام متعلقة بأبدى ، وهي للتعليل . وفي فوده : متعلق بمات . وقوله جذاذا : حال من الصبا ، أي أبدى حداد غمّ حين مات الصبا قطاعا بموته للذّاته ،
وما أحسن قول المتنبي :
ولقد بكيت على الشباب ولمّتي * مسودّة ولماء وجهي رونق
حذرا عليه قبل يوم فراقه * حتى لكدت بماء وجهي أغرق
 
[ المعنى ]
( ن ) : يقول أظهر حداد الكآبة في رأسه لأجل تعزيته وتصبّره حيث مات الصبا قطاعا للذائذه وشهواته وظهور الحداد في رأسه هو شيب شعره كناية عن لبس البياض الذي كان علامة الحداد في اصطلاح أهل الأندلس عوض السواد حتى قال شاعرهم :
قد كنت لا أدري لأيّة علّة * صار البياض لباس كل مصاب
حتى كساني الدهر بحق ملاءة * بيضاء من شيب لفقد شبابي
 
ولأبي الحسن علي بن عبد اللّه الحصري :
إذا كان البياض لباس حزن * بأندلس فذاك من الصواب
ألم ترني لبست بياض شيبي * لأني قد حزنت على الشباب
 
وكنّى بحداد الكآبة عن ظهور نور الوجود له في مشاعره ومداركه . اهـ .
 
« 203 »
 
47 - فغدا وقد سرّ العدا *** بشبابه متقمّصا وبشيبه مشتاذا
 
[ الاعراب ]
المتقمص : لابس القميص . والمشتاذ بضم الميم : اسم فاعل من اشتاذ بمعنى تعمّم وهو بشين معجمة وفي الآخر ذال والفاء للعطف على أبدى . وغدا : ماض واسمها ضمير يعود إلى الدنف في ما سلف والخبر قوله متقمّصا . وبشبابه : متعلق بالخبر . وجملة قوله وقد سرّ العدا جملة معترضة بين الفعل وخبره . وقوله مشتاذا :
عطف على خبر غدا . وبشيبه : متعلق به وهو يشير إلى الشيب في رأسه ، وأما بدنه وقوّته فباقيان على أسلوب الشباب وهو إدماج أنه شاب في غير وقت شيبه . وما أحسن استعارة القميص لقوة البدن ، والعمامة لشيب الرأس ، وهما استعارتان تبعيتان .
 
قال الأمير أبو فراس الحمداني :
وما زادت على العشرين سني * فما عذر المشيب إلى عذاري
وقد أشار الشيخ رضي اللّه عنه باستعارة العمامة للشيب إلى أنه قد عمّ جميع رأسه كالعمامة ، وإنما سرّ العدا لأن الشيب في غير وقت أوانه لا سيما عند أهل المحبة محنة ، ومحنة الإنسان منحة عدوّه .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله بشبابه : أي بلبسه الشباب كالقميص ، ولباس الشباب القوة ، وسواد الشعر ، أي الشعور فلا يرى إلا الأكوان في بعض الأحيان وبشيبه ، أي لباس شيبه وهو ضعف قوّته وبياض شعره بظهور نور الوجود في شعوره وإدراكه أحيانا وسرور العدا وهي شياطين الوساوس النفسانية لتقلّبه بالتلوّن في مقام المحبة الإلهية لأن المحبة حجاب عن المحبوب . اهـ .
 
48 - حزن المضاجع لا نفاد لبثّه *** حزنا بذاك قضى القضاء نفاذا
 
[ الاعراب ]
« حزن » كسهل ضدّه . و « المضاجع » جمع مضجع ، وهو مكان الاضطجاع .
والنفاد بالنون والفاء والدال المهملة بمعنى الفراغ . والبثّ إن كان بمعنى أشدّ الحزن كان قوله حزنا مصدرا مؤكّدا لمعناه ، وإن كان بمعنى النشر أو إظهار السرّ كان قوله حزنا مفعولا به للبثّ . والنفاذ آخر البيت بالنون والفاء والذال المعجمة بمعنى جواز الشيء عن الشيء والخلوص منه ، وقضى حكم ، والقضاء هنا عبارة عن الحكم الأزلي . وقوله حزن المضاجع : خبر مبتدأ محذوف ، أي هو ، والإضافة إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها .
وقوله بذاك : متعلق بقضى . وقوله نفاذا : مصدر لفعل محذوف من لفظه ، ويصحّ كونه حالا من القضاء على تأويله باسم الفاعل ، أي قضى القضاء بذاك حال كونه نافدا جائزا خالصا من شائبة التغيير والزوال . وفي البيت الجناس
 
« 204 »
المحرّف بين حزن وحزن ، وجناس التصحيف بين نفاد ونفاذ ، وجناس الاشتقاق بين قضى والقضاء .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله حزن المضاجع كناية عن صلابة حاله على حجاب المحبة وقوّة الشوق النفساني إلى الجناب الرّبّاني . وقوله لا نفاد لبثّه : أي لإظهاره ونشره . والضمير لحزن المضاجع ، أي بثّ المحبّ له . وحزنا منصوب على أنه تمييز لنسبة البثّ إليه . اهـ .
 
49 - أبدا تسحّ وما تشحّ جفونه *** لجفا الأحبّة وابلا ورذاذا
 
[ الاعراب ]
« تسحّ » بالمهملة بمعنى تصبّ مضارع سحّ وبابه نصر . و « تشحّ » بالمعجمة مضارع شح بمعنى بخل وبابه علم وضرب ، والشح مثلثة البخل والحرص . والجفون جمع جفن وهو غطاء العين من أعلى وأسفل ، وقد يكسر . والجفا نقيض الصلة كما في القاموس . 
والوابل : المطر الكثير القطر . والرذاذ كسحاب المطر الضعيف . وقوله أبدا : متعلق بتسح ، وتقديمها لاستقامة الوزن . وقوله لجفا الأحبة : متعلق بتسح على أنه علّة له . وقوله وابلا : مفعول تسح . ورذاذا : عطف عليه .
 
والمعنى :
تسحّ جفونه أبدا دائما لأجل جفاء أحبته المطر الغزير والضعيف ، والمراد كثرة الدموع فلا يشكل الجمع بينهما . وكان القانون تقديم الرذاذ ليصحّ الترقّي لكن ضرورة القافية ألجأت إلى تأخيره ، على أن المراد أن عينه تسكب أنواع الدموع ، فذكر هذين النوعين من أنواع المطر عبارة عن أنواع المطر بأسرها إذ ما من نوع إلا وهو قويّ أو ضعيف ، فالأول أشار إليه بالوابل ، والثاني أشار إليه بالرذاذ . وفي البيت جناس التصحيف بين تسح وتشح ، وجمع النظير بين الوابل والرذاذ .
 
( ن ) : الضمير في جفونه راجع للمحبّ في الأبيات قبله ، وجمع الأحبة لكثرة ظهورات الأسماء الإلهية فالظاهر الحق بكل اسم حبيب له والجفاء الامتناع عن الإدراك . اهـ .
 
50 - منح السّفوح سفوح مدمعه  *** وقد بخل الغمام به وجاد وجاذا
 
[ الاعراب ]
« منح » : أعطى ، والاسم المنحة بالكسر . و « السفوح » جمع سفح وهو عرض الجبل المضطجع . و « سفوح مدمعه » السفوح على وزن دخول مصدر سفح الدمع أرسله . وقوله « وجاد » : فعل ماض من الجود بفتح الجيم من قولهم : جاد المطر الأرض . وقوله « وجاذا » في آخر البيت بكسر الواو وبالجيم وهو جمع وجذ على وزن سمع ، والمراد النقرة في الجبل تمسك الماء . والسفوح وسفوح مدمعه بالنصب على
 
« 205 »
 
أنهما مفعولان لمنح وفاعله ضمير يعود إلى الدنف السابق ، والواو للحال ، والجملة المنصوبة على أنها حال من سفوح مدمعه ، والضمير في به يعود إلى سفوح مدمعه .
 
وفيه إشكال إذ كيف يصحّ أن يقال بخل الغمام بسفوح مدمع العاشق ؟ نعم ، يصحّ عوده إلى السفوح مجرّدا عن إضافته إلى مدمعه أو أنه على حذف مضاف ، أي بخل الغمام بمثل سفوح مدمعه .
 
المعنى :
أعطى الدنف السفوح سكب مدمعه حيث بخل الغمام بالسكب . وقوله وجاد : عطف على منح ، أي وأمطر غدران الجبال دمعه . وفي البيت الجناس التام بين السفوح وسفوح ، والجناس المفرّق بين جاد ووجاذ ، وإيهام التضاد بين بخل وجاد لأنه من الجود بفتح الجيم لا من الجود بضمّها .
 
( ن ) : يعني أن المحبّ المذكور في الأبيات قبله أعطى سفوح الجبال هطل دمعه ، وذلك كناية عن كثرة سياحته بين الجبال جبال مكة في ابتداء سلوكه في طريق اللّه تعالى وكثرة بكائه وحزنه على فوات حظّه من الحق تعالى . وقوله وجاد وجاذا ، أي وملأ أيضا دمعه نقرات الجبال . اهـ .
 
51 - قال العوائد عندما أبصرنه *** إن كان من قتل الغرام فهذا
 
[ الاعراب ]
« العوائد » جمع عائدة ، وهي تأنيث عائد المريض ، وإنما أسند القول إلى العوائد لأن حال المريض يظهر من جهة عوّاده غالبا . وقوله « عندما » متعلق بقال . و « ما » :
مصدرية . والنون : فاعل أبصر ، والهاء مفعوله ، وما مع أبصرنه في تأويل مصدر مجرور بإضافة عند إليه . و « إن » : شرطية . و « كان » : تامّة . و « من » : فاعله ، أو ناقصة ومن اسمها والخبر محذوف ، أي موجود ، أو مفعول « قتل » محذوف وهو عائد من ، أي من قتله الغرام . والفاء : رابطة للجواب ، وهذا : مبتدأ ، وخبره هو المقتول مقدّرا .
ويصحّ كون المحذوف هو المبتدأ ، أي فالذي قتله الغرام هذا ، وجملة الجزاء في محل جزم على أنها جواب الشرط ، وجملة جواب الشرط مع الجزاء في محل نصب على أنها مقول القول . وقد ذكر بعض المحقّقين أن إن الشرطية لا تحوّل كان بعد دخولها عليها إلى معنى الاستقبال بل تبقيها على معنى المضي .
 
والمعنى :
قال العوائد عند إبصارهنّ لهذا الدنف السابق ذكره إن كان مقتول الغرام موجودا فهو هذا المذكور ، وهذا تحقيق لكونه مقتولا للغرام قطعا لكونه علّق كونه قتيلا على وجود من قتله الغرام ، ووجوده محقّق بلا شبهة على حدّ ما قرّروه في قولهم .
أما زيد فهو فاضل فإنهم قرّروا أن المعنى مهما يكن من شيء فزيد فاضل ،
 
« 206 »
 
فقد علّق كون زيد فاضلا على وجود شيء في الدنيا ووجوده محقّق بلا شبهة ، فكذا ما علّق عليه .
وما أحسن موقع هذا البيت فإنه وقع بعد تعديد أوصاف من الأسقام المترتبة على المحبة من قوله حرّان محني الضلوع فإنه قد ذكر من الأوصاف كون دائه قد أعيا طبيبه وأنه مريض ملسوع الحشا مسلوب الحشاشة وأنه ساهر سهرا طويلا ، فهو به يشابه ممشاذا الدينوري إلى غير ذلك من الأوصاف التي تضمنتها الأبيات المذكورة فلزم أن تقول العوائد إن كان من قتل الغرام موجودا فهذا هو لا غيره ، لأن أوصاف قتل المحبة منطبقة على هذا صادقة عليه دون غيره ، فإن هذه الأوصاف ربما لا تجمع لغيره ، وما أحسن قول بعضهم :
باح مجنون عامر بهواه * وكتمت الهوى فمت بوجدي
فإذا كان في القيامة نودي * من قتيل الهوى تقدّمت وحدي
 
( ن ) : قتل الغرام للمحبّ المقدّم ذكره هو العشق الملازم لقلبه شوقا إلى رؤية المحبوب الحقيقي فيتجلّى عليه الاسم الحيّ بالاسم المحيي فينكشف له حقيقة الموت فيقتله سيف الجمال الحقيقي المجرّد من غمد المعاني الإمكانية والصور الكونية في اليد الممتدّة الإلهية . اه . واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال ، وإليه المرجع في الحال والمآل ، والحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمد سيّد المرسلين ، وعلى آله الطاهرين وأصحابه نجوم الدين . وليكن هذا آخر ما أردت تعليقه على القصيدة الذاليّة لأستاذ العارفين وسلطان ملك العاشقين سيدي عمر بن الفارض رضي اللّه عنه وأرضاه ورزقه من القرب ما تمنّاه .
آمين آمين لا أرضى بواحدة * حتى أزيد عليها ألف آمينا
 
وقد فرغ المؤلّف أطال اللّه عزّه من هذا الشرح يوم الثلاثاء سابع شهر ربيع الأول المنتظم في سلك شهور عام ألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، ويليه شرح التائية الصغرى للمؤلّف أيضا وهي هذه .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 01 إلى 31 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:11 pm

شرح قصيدة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 01 إلى 31 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الثالثة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 01 إلى 31 
[ شرح القصيدة الثالثة نعم بالصبا قلبي صبا ]
[ مقدمة الشارح ]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه الذي أورد أولياءه مناهل الصفا ، وهداهم بلطفه إلى سلوك سبيل المودّة والصفا ، وجعل صبا الغرام تهبّ على رياض أسرارهم ، وتسري فتسرّ لقلوبهم أحاديث أخبارهم ، والصلاة والسلام على من أبرأ بهدايته مرض القلوب ، وأزال بإشراق حكمته عن الأفئدة غيوم الغيوب ، وعلى آله أشرف الأنام وأصحابه السّادة الكرام ما أطرب سجع الحمام وفاح نشر البشام ، صلاة وسلاما دائمين إلى يوم القيام .
 
أما بعد . . . فإن اللّه تعالى قد خصّ أولياءه الكرام بحقائق يبرزونها لذوي الأفهام منجلية عليهم في حلل النظام لأن الأفكار السليمة والطّباع المستقيمة تميل إلى الكلام المنظوم طبعا فتقرّ به عينا ، وتلتذّ به سمعا . وقد اختصّ الأستاذ الكامل الرّافل في حلل الفضائل ذو النفس القدسية ، والصفات المسكيّة ، سيدي وسندي الشيخ عمر بن الفارض ، سقى اللّه ثرى قبره الشريف أعذب عارض من ذلك بأوفى نصيب ، وأنسى كل محبّ برقائق نظمه ذكرى حبيب قد سبح في بحار النظام واستخرج دررا يحار فيها النظام ، فهو سلطان العاشقين على الإطلاق ، وصاحب علم أعلام المحبّين بالاتفاق .
 
قد شغفت بكلامه في إبّان الشباب ، وتمسّكت من محبته بأوثق الأسباب ، واستعنت على فهم كلامه بالاعتقاد الصادق والغرام الذي زاد على جميل ووامق ، فسألني من تهذّبت أخلاقه بخدمة الطريق ، وسلك في مجاز السالكين على التحقيق أن أعلّق له شرحا على تائيته الصغرى لأنها لم تزل عذراء بكرا ، ولم يتسهّل لها شرح يكشف عن مخدّراتها النّقاب ، ويزيل عن مستوراتها حجاب الاحتجاب ، فأجبته إلى سؤاله رغبة في دعائه المقبول ، وطمعا في أن أنتظم في سلك خدمة الأولياء الفحول ، وأنا وإن كنت لم أظفر من وصفهم بمقدار حبّة فيكفيني أن أذكر ولو على المجاز من أهل المحبّة :
وإن لم أفز حقّا إليك بنسبة * لعزّتها حسبي افتخارا بتهمتي
 
« 208 »
 
وها أنا أشرع في المقصود بعون اللّه الملك المعبود فأقول : قال الأستاذ مجيبا لمن سأله بلسان الحال عن غرامه عند هبوب الصبا والشمال ، لمّا أذكره الهبوب ، شمائل ذلك المحبوب .
 
01 - نعم بالصّبا قلبي صبا لأحبّتي *** فيا حبّذا ذاك الشّذى حين هبّت
 
اللغة : الصبا : ريح مهبّها من مطلع الثّريا إلى بنات نعش ، تثنيتها صبوان وصبيان ، وجمعها صبوات وأصباء وصبا . « لأحبتي » : أي حنّ إليهم ، والأحبة جمع حبيب بمعنى محبوب . وقوله « فيا حبّذا » جرى مجرى المثل فيبقى دائما على حالة واحدة ، ومن ثم يقال في المؤنث : حبّذا هند لا حبّذت ، وحبّ : ماض ، وذا : فاعله .
 
و « ذاك الشذى » : مبتدأ ، وما قبله خبر . وقيل جعل حبّ وذا كشيء واحد وهو اسم وما بعده مرفوع به . و « الشذى » : قوة ذكاء الرائحة والضمير في هبّت يعود للصبا .
 
الإعراب :
قلبي : مبتدأ . وصبا لأحبتي : خبره ، وبالصبا ولأحبتي متعلقان بصبا أيضا . وجملة فيا حبذا ذاك الشذى : معترضة . نقل الإمام عن الواحدي أنه ذكر في تفسيره الكبير أن الريح التي جاءت بريح يوسف إلى يعقوب هي الصّبا ، ولأجل ذاك ترى المحبّين يكثرون من ذكرها في أشعارهم الغرامية . وأنشد على ذلك قول القائل :
أيا جبلي نعمان باللّه خلّيا * نسيم الصّبا يخلص إليّ نسيمها
أجد بردها أو تشفّ مني حرارة * على كبد لم يبق إلا صميمها
فإن الصّبا ريح إذا ما تنفست * على كبد حرّا تجلّت همومها
 
وقال آخر :
هبّت لنا صبحا يمانية * متّت إلى القلب بأسباب
أدّت رسالات الهوى بيننا * عرفتها من دون أصحابي
وفي البيت الجناس التام المستوفى بين صبا والصبا ، وما ألطف التشطير في البيت فإن الشطر الأول قد صار سجعه نعم بالصبا قلبي صبا ، والشطر الثاني فيا حبذا ذاك الشذا . وقد أشار إلى سبب ميل القلب للأحبّة عند هبوب الصّبا ، فقال : سرت إلخ . . . .
 
[ المعنى ]
( ن ) : نعم كلمة تأتي في جواب الواجب فكأنه قيل له أصبا قلبك لأحبتك ؟ فقال في جوابه : نعم بسبب اتصال الصبا بجسمي ، وهي هنا كناية عن الروح الأمري الإلهي . صبا قلبي لأحبتي ، أي حنّ ومال إليهم لأنها روح محبوبه ، كما قال تعالى :
 
« 209 »
 
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ الحجر : الآية 29 ] .
وقوله ذاك إشارة إلى البعيد لبعد الحضرة الإلهية عن مشابهة الأكوان والشذى وهو الرائحة كناية عمّا تنقله الروح إلى الحقيقة الإنسانية عن الحقيقة الرّبّانية من الأخبار اللطيفة والأسرار المنيفة والعلوم اللدنية والمعارف الرحمانية . اهـ .
 
02 - سرت فأسرّت للفؤاد غديّة *** أحاديث جيران العذيب فسرّت
 
[ الاعراب ]
السرى كهدى ، سير عامّة الليل . و « سرت » : فعل ماض منه ، والضمير للصبا .
وأسرّت ضدّ أعلنت . والفؤاد : القلب ، مذكّر جمعه أفئدة ، والفتح والواو غريب .
و « غدية » بضم الغين تصغير غداة ، والمراد التقريب من زمن الصبح . والأحاديث جمع حديث ، وهو شاذّ . و « جيران » بكسر الجيم جمع جار ، وأصله جوران ، فقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، والدليل على أن أصل يائه الواو كونه مشتقّا من الجوار فيقال جاورت زيدا . و « العذيب » على صيغة التصغير : ماء . وسرت : فعل ماض من السرور . وأحاديث بالنصب مفعول أسرّت . وللفؤاد وغديّة متعلقان بأسرّت ، والفاء في أسرّت وسرت للعطف والتعقيب وفيهما معنى السببية .
 
والمعنى :
سرت الصبا عامّة الليل من عند الأحبّة فأسرّت للقلب وخاطبته بأحاديث جيران ذلك الماء في وقت الغداة فسّرته . وفي سراها عامّة الليل مع موافاتها الغدوة الصغرى رمز إلى بعد ما بين المحبّ وأحبّته حيث كانت الريح على ما لها من السرعة لا تقطع مدى ما بينهما إلا بسري ليلة تامّة . وما أحسن قول أبي العلاء بن سليمان المعرّي :
وسألت كم بين العقيق إلى الحمى * فعجبت من طول المدى المتطاول
وعذرت طيفك في المنام لأنه * يسري فيمسي دوننا بمراحل
وفي البيت الجناس التام بين سرت وسرت ، والجناس الناقص بين كلّ منهما وبين أسرّت . وفيه أيضا كمال الرقّة والانسجام الآخذين بمجامع القلوب والأفهام .
 
( ن ) : الضمير في سرت للصبا المكنّى بها عن الروح ، يعني انبعاثها الآن عن أمر اللّه تعالى في ليل الأكوان . وقوله فأسرّت للفؤاد غدية ، يعني إسرارها لقلبي كان في حال انتشار نور فجر الأحديّة قبيل طلوع شمس الوجود الحق على صفحات الأعيان الكونية . وقوله جيران جمع جار ، وهو القريب ، كما قال تعالى : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ ق : الآية 16 ] ،
وجمع الجار باعتبار الظهور بالأسماء الحسنى بحيث لا يحصرها الإحصاء . والعذيب كناية عن حضرة الإمداد الرّبّاني .

« 210 »
 
03 - مهيمنة بالرّوض لدن رداؤها *** بها مرض من شأنه برء علّتي
 
[ الاعراب ]
« مهيمنة » : اسم فاعل من الهيمنة ، وهي الصوت الخفي . والروض جمع روضة ، وهي من الرمل والعشب مستنقع الماء لاستراضة الماء فيهما . واللدن : اللين من كل شيء . والرداء : ملحفة معروفة . و « مرض » : الريح ، عبارة عن كمال رقّتها . وقوله من شأنه برء علّتي : أي من عادته أن تبرأ به علّتي لتبليغه أحاديث أحبّتي . وبالروض :
متعلق بمهيمنة . ومهيمنة : خبر مبتدأ مقدّر ، والظاهر أنه شبّه الريح بذات لطيفة محجّبة بالأستار ، فأثبت لها الرداء الملازم للمشبّه به عادة ، فإثبات الرداء تخييل . وذكر اللدن ترشيح يشير بها إلى لطف مهبّها . ففي قوله بها مرض إلى آخره إغراب ، حيث جعل البرء ناشئا من المرض الذي هو ضدّه . وما ألطف قول القاضي السعيد بن سنا الملك :
نظر الحبيب إليّ من طرف خفي * فأتى الشّفاء لمدنف من مدنف
وفي البيت الطّباق بين المرض والبرء مع كمال الانسجام واللطف .
 
[ المعنى ]
( ن ) : المهينمة وصف للصبا المكنّى بها عن الروح والروض الذي يهينم فيه هو عالم الأجسام والهياكل العنصرية فتدرك هينمتها النفوس وهو الكلام النفساني الخفي .
وقوله رداؤها : أي ثوبها الذي هي ملفوفة به وهو النفس ، فإن النفس غشاء يشمل الروح بحيث يسترها ، وهذا الغشاء اعتراها من طبيعة الجسم . والنفس هي التي يدركها الموت كما قال تعالى : كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [ آل عمران : الآية 185 ] ،
والروح لا تموت لأنها من أمر اللّه . وقوله بها مرض : أي ضعف ، وهو عجزها الحقيقي الذي هي متحقّقة به لظهور الأمر الإلهي الذي هي ظاهرة عنه ، وهذا المرض الذي بها هو عين صحتها وهي ضعيفة جدّا من قبل نفسها وقوّتها قوة الأمر الإلهي . وقوله من شأنه إلخ . . . : أي من شأن ذلك المرض إذا تحقّقت به وكشفت عنه فهو شفاء مرضي وهو مرض الدعاوى النفسانية والأغراض الشهوانية ، فإن السالك مريض بالجهل والغفلة فإذا عرف نفسه عرف روحه ، وإذا عرف روحه صحّ من مرضه ذلك وكان في مرض هو صحة وشفاء. اهـ.
 
04 - لها بأعيشاب الحجاز تحرّش *** به لا بخمر دون صحبي سكرتي
 
[ الاعراب ]
أعيشاب تصغير أعشاب ويفتح ما بعد ياء التصغير في أفعال إذا كان جمعا كما في أجيمال تصغير إجمال ، والعشب الكلأ الرطب . و « الحجاز » : بلاد سمّيت بذلك لأنها حجزت بين نجد والغور . والتحرّش بالأعيشاب : الدخول بينها ليحرّك بعضها
 
« 211 »
 
بعضا بسبب تحريك الصّبا لها . والخمر معروفة وهي مؤنثة وسمّيت خمرا لأنها تركت واختمرت ، واختمارها تغيّر ريحها ، ويقال سمّيت بذلك لمخامرتها العقل . والصحب جمع صاحب مثل ركب وراكب . والسكرة مصدر سكر فلان إذا زال صحوه ، والضمير في لها للصبا ، وهو خبر مقدّم . وتحرّش : مبتدأ مؤخر . وبأعيشاب الحجاز :
متعلق به ، أي للصبا تحرّش بأعيشاب الحجاز . وقوله به : خبر مقدّم ، والهاء عائدة إلى التحرّش . وسكرتي : مبتدأ مؤخر . وقوله لا بخمر : متعلق بما تعلق به به . وقوله دون صحبي متعلق بهذا التعلّق أيضا .
 
والمعنى :
تجوز الصبا بنبات الحجاز فتولع به ، ويلزم تكيّفها بكيفية النبات فبذلك التحرّش وما يحصل بسببه من الرائحة الطيبة سكرتي لا بخمر ، وأصحابي ليسوا كذلك إذ لا يدركون من الرائحة ما أدركته . وما ألطف قول أبي فراس الحمداني :
سكرت من لحظه لا من مدامته * ومال بالنوم عن عيني تمايله
فما السلاف دهتني بل سوالفه * ولا الشمول أزدهتني بل شمائله
ألوي بقلبي أصداغ له لويت * وغال قلبي بما تحوي غلائله
 
( ن ) : قوله لها : أي لتلك الصبا المكنّى بها عن الروح الآمري . والأعيشاب هنا كناية عن العلوم النبوية المحمدية المضافة إلى الحجاز وهي بلاد معروفة ، الكناية فيه عمّن ظهر ونشأ في تلك البلاد وهو النبي صلى اللّه عليه وسلم . والتحرّش : الإغراء ، كأن هذه الصّبا المكنى بها عن الروح الأمري تدخل بين الحقائق والمقامات المحمدية والعلوم والمعارف النبوية فيحرّك بعضها بعضا فتظهر في قلوب الورثة المحمديين وعلى ألسنتهم وتمرّ على خواطر الأولياء الكاملين . وقوله دون صحبي : أي أصحابي ورفقتي لأنهم بعد لم يدركوا ما أدركت. اهـ.
 
05 - تذكّرني العهد القديم لاءنّها  *** حديثة عهد من أهيل مودّتي
 
[ الاعراب ]
تذكّرني العهد القديم : أي ترسم صور العهد القديم في قوتي الحافظة بعد النسيان لطول العهد . 
و « العهد » : اليمين ، أو الموثق ، أو المنزل الذي لا يزال القوم يرجعون إليه بعد الرحيل عنه ، أو المودّة . 
و « القديم » : خلاف الجديد . والحديثة :الجديدة . 
والعهد الثاني بمعنى اللقاء ، إذ يقال عهدته بمكان كذا أي لقيته . وأهيل : تصغير أهل . والمودّة : المحبة . 
وفاعل تذكّرني ضمير يعود إلى الصّبا . والعهد : مفعوله . والقديم : صفته . وقوله لأنها : متعلقة بتذكّرني على أنه علّة له . ومن : ابتدائية وهي متعلقة بمحذوف على أنها حال من الضمير في حديثة عهد ، أو متعلقة بحديثة
 
« 212 »
 
عهد على تضمين معنى القرب ، أي قريبة عهد من أهيل مودّتي ، وقرب يتعدى بمن يقال قرب من كذا وهو قريب من كذا . وفي البيت الجناس التام بين العهدين ، والطّباق بين القديم والحديث .
 
[ المعنى ]
( ن ) : العهد القديم هو قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [ الأعراف : الآية 172 ] ، وقوله لأنها الخ . . . أي لأن الصّبا المكنى بها عن الروح الآمري متجدّدة حادثة مخلوقة ، وإنما سمّيت روحا من سرعة رواحها وذهابها وتجدّدها مع الأنفاس فهي قريبة العهد من أهل مودّتي وهم حضرات الأسماء الإلهية الحسنى التي من جملتها الودود ، أي الكثير التودّد إلى عباده . اهـ .
 
06 - أيا زاجرا حمر الأوارك تارك *** الموارك من أكوارها كالأريكة
 
الزجر : سوق الإبل . « الأوارك » جمع آركة ، وهي الإبل التي أقامت في الأراك ولزمته . و « الموارك » جمع الموركة أو الموارك وهو الموضع الذي يثني الراكب رجليه عليه قدّام واسطة الرّحل إذا ملّ من الركوب . والأكوار جمع كور ، وهو الرّحل بأداته .
والأريكة : سرير منجّد مزيّن في قبّة أو بيت ، وإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة ، والجمع الأرائك .
 
الإعراب :
قوله أيا زاجرا حمر الأوارك : منادى شبيه بالمضاف . وحمر الأوارك :
منصوب بزاجرا . وتارك الموارك : حال . ومن : تبعيضية . وتارك : يتعدى إلى مفعولين أضيف إلى مفعوله الأول ، ومفعوله الثاني قوله كالأريكة ، فالكاف حينئذ متعلق بتارك ، وخصّ من الأوارك الحمر لأنها خيار الإبل ، وقد ورد كثيرا خير عندي من حمر النعم .
 
والمعنى :
يا سائقا يسوق هذه الإبل ملازما ركوبها بحيث إنه ترك مواضع رجليه عند تثنّيها كالسرير من كثرة الركوب . ولا يخفى ما في البيت من الكلمات المتجانسة لما اشتملت عليه من حرف الكاف والراء .
 
( ن ) : الزاجر : السائق ، كناية عن القائم على كل نفس بما كسبت وهو الحق تعالى . وحمر الأوارك كناية عن الأنفس البشرية التي تتزيّن لها شهوات الدنيا فتلازمها وتقيم فيها . واحمرارها باعتبار قوة شهوتها . وزجرها كناية عن تكليفها بالأوامر والنواهي . وقوله تارك الموارك الخ . . . كناية عن كمال استيلاء الحقيقة الإلهية على النفوس البشرية .
كما ورد وما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي

 
« 213 »
المؤمن فإذا استولى على القلب الذي وسعه حيث آمن بتنزيهه عن مشابهة كل شيء فقد استولى على جميع جسده ظاهرا وباطنا . اهـ .
 
07 - لك الخير إن أوضحت توضح مضحيا *** وجبت فيافي خبت آرام وجرة
 
[ الاعراب ]
أوضح زيد المكان إذا أشرف على موضع فنظره منه . و « توضح » : اسم بقعة ، فهو ممنوع من الصرف للعلميّة والتأنيث . و « مضحيا » : اسم فاعل من أضحى زيد إذا دخل في الضحى . « وجبت » : فعل ماض أجوف من جاب الأرض إذا قطعها .
والفيافي جمع فيفاء ، وهي الصحراء الملساء ، وألف فيفاء زائدة لأنهم يقولون : فيف في هذا المعنى . والخبت : المطمئن من الأرض فيه رمل . والآرام : وزنه أفعال مقلوب أرآم واحدها رئم بهمزة بعد راء وهو الظبي الأبيض الخالص البياض .
و « وجرة » : اسم موضع . ولك الخير : جملة يراد بها الدعاء للسائق .
 
والمعنى :
لك الخير إن نظرت المكان المسمّى بتوضح حال كونك داخلا في وقت الضحى وقطعت صحاري الأماكن المطمئنة التي بها غزلان وجرة ، وجواب الشرط يأتي في قوله فسل عن حلة فيه حلّت . وفي البيت تجنيس شبه الاشتقاق بين أوضحت وتوضح ومضحيا ، وجناس التصحيف بين جبت وخبت .
 
( ن ) : لك الخير : أي أنت مختصّ بك الخير كما قال تعالى : بِيَدِكَ الْخَيْرُ [ آل عمران : الآية 26 ] . وأوضح زيد المكان : إذا أشرف على مكان فنظره منه ، والحقّ تعالى مشرف من الأزل باسمه السميع البصير على جميع معلوماته المترتبة أزلا باسمه المقسط الجامع . وقوله توضح ، كناية عن حضرة العلم القديم . وقوله مضحيا ، كناية عن كمال طلوع شمس الأحدية على جدران الأعيان الكونية . وقوله جبت ، كناية عن تكرار الظهور بالتجلّي المتنوّع باعتبار كثرة الأسماء الإلهية . وقوله فيافي ، كناية عن استواء عوالم الإمكان بالنظر إلى تصرّف الأسماء الإلهية فيها . وقوله خبت وهو المتّسع من بطون الأرض ، كناية عن وسع الإمكان بحيث يشمل ما كان وما يكون وما هو كائن وما لا يكون مما لا يريده الحقّ تعالى . والآرام ، كناية عن الممكنات التي يريدها الحقّ تعالى ، فإنه ما أرادها إلا وهو يحبّها ، ولا يحبّها إلا وهي ذات ملاحة وحسن في نظره سبحانه تشبه الآرام في جمال العيون والأعناق . اهـ .
 
08 - ونكّبت عن كثب العريض معارضا *** حزونا لحزوى سائقا لسويقة
 
[ الاعراب ]
التنكيب مصدر نكب عن الطريق تنكيبا إذا عدل . والكثب جمع كثيبة الرمل .
و « العريض » على وزن زبير واد في بلاد الحجاز . و « معارضا » : اسم فاعل من عارض
 
« 214 »
 
الشيء إذا جانبه وعدل عنه . والحزون جمع حزن ، وهو ما غلظ من الأرض .
وحزوى : اسم موضع بالدهناء ذي تلال شامخات من الرمل . و « سائقا » : اسم فاعل من ساق الإبل . وسويقة : اسم موضع بمكة . ومعارضا : حال من فاعل نكبت .
 
وحزونا : مفعوله . ولحزوى : متعلق بمحذوف ، أي قاصد الحزوى . وسائقا : حال من فاعل نكبت فهي مترادفة ، أو من ضمير معارضا فهي متداخلة . وقوله لسويقة : متعلق بسائقا . ونكبت معطوف على أوضحت ، فهو داخل في حكم الشرط ، أي ولك الخير إن نكبت وعدلت عن رمل العريض الذي هو واد معروف مجانبا حزونا قاصد الحزوى سائقا إبلك لسويقة . وما ألطف هذا البيت فإن بين كل كلمتين تجانسا فبين نكبت وكثب جناس شبه الاشتقاق ، وكذا بين العريض ومعارضا ، وكذا بين حزون وحزوى ، وكذا بين سائق وسويقة .
 
[ المعنى ]
( ن ) : التاء في نكبت للزاجر في الأبيات قبله ، والعريض : اسم واد بالمدينة فيه أموال لأهلها ذكره في القاموس . والكثب كناية عن الجبّارين المتكبّرين الغافلين المعرضين عن الحق تعالى الذين هم في وادي الجهل والغرور بأموالهم وما يمسكونه من أنواع الزخارف ، فإنه تعالى عادل عنهم ومعرض عن الالتفات إليهم لفساد أحوالهم . وقوله حزونا كناية عن الكثائف الطّباع القباح الأفعال ، فإنه تعالى مجانب لهم وعادل عنهم . ونسب الحزون لحزوى لكمال كثافته كناية عن أصول أولئك الكثائف الطّباع المذكورين . وقوله سائقا لسويقة وهو موضع يسكنه آل علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه كناية عن سوق الحق تعالى السعداء من بني آدم إلى منتهى أحوالهم بالكشف عن النور المحمدي الذي هم متكوّنون منه ، فإنه تعالى يسوقهم مقبلا عليهم كما يسوق من تقدّم ذكرهم من الأشقياء معرضا عنهم . اهـ .
 
09 - وباينت بانات كذا عن طويلع *** بسلع فسل عن حلّة فيه حلّت
 
[ الاعراب ]
« باينت » : فارقت . « بانات » جمع بانة ، وهو من الشجر المعروف . و « كذا » هنا كناية عن المجانب المتباعد ، أي وفارقت شجرات بان منحازا عن طويلع قاصد السلع . و « طويلع » على صيغة التصغير علم ماء أو ركية عادية بناحية الشواجن عذبة الماء قريبة الرشاء . وسلع : اسم جبل بالمدينة . والحلّة بكسر الحاء المهملة القوم النزول . و « حلّت » : فعل ماض أقامت قوله . وباينت : عطف على ما قبله . وكذا :
نصب على الحالية ، أي مجانبا عن طويلع سائقا وقاصد السلع . وقوله فسل عن حلّة فيه حلّت : صفة حلّة ، أي فسل عن حلّة حلّت في سلع . وفي البيت جناس شبه
 
« 215 »
الاشتقاق بين باينت وبانات . وفي قوله سلع فسل عن جناس ملفّق ، وبين حلّة وحلّت جناس محرّف .
 
[ المعنى ]
( ن ) : البانات كناية عن النشآت الإنسانية الفاضلة ، قال تعالى : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ( 17 ) [ نوح : الآية 17 ] . وقوله كذا كناية عن المجانب المتباعد وعن طويلع كناية عن الطاعات والعبادات والأعمال الصالحة الواقعة لصاحبها . وقوله لسلع كناية عن الأحوال السّنيّة والمقامات المحمدية التي تنتجها تلك الأعمال الصالحة .
وقوله فسل : أي تفقدهم وراعهم . وقوله حلّة كناية عن أهل اللّه تعالى العارفين به النازلين بفناء أسمائه الحسنى ، وفيه أي في سلع أي في المقامات المحمدية حلّت ، أي أقامت والضمير راجع للحلّة . اهـ .
 
10 - وعرّج بذيّاك الفريق مبلّغا *** سلمت عريبا ثمّ عنّي تحيّتي
 
[ الاعراب ]
« عرّج » فلان تعريجا ميّل وأقام وحبس المطية على المنزل والكل مناسب هنا غير أن الباء في بذياك ترجّح المعنى الثاني فتأمل . ذيّاك تصغير ذاك ، وذا : اسم إشارة ، وتصغيره بزيادة ياء التصغير قبل الآخر ، وبسبب ذلك تنقلب الألف ياء وتدغم ياء التصغير فيها وفتحوها لوجود الألف فيها فضمة الصدر المعتادة في المصغّر تسقط من تصغير المبهمات وتعوّض الألف عنها في الآخر لأن هذه الأسماء مبنية وسكون الآخر هو الأصل في البناء فناسب أن يؤتى في الآخر بحرف لازم للسكون ثم أتوا بالياء ثانية لأنه لمّا لم يضمّ الصدر لم يمتنع وقوع الياء الساكنة بعد الحرف الأول .
و « الفريق » كأمير جماعة من الناس فوق الفرقة بكسر الفاء . ومبلغ : اسم فاعل من التبليغ وهو إيصال الرسالة لأهلها . والعريب تصغير عرب وهم سكان الأمصار ، والأعراب سكان البادية ، وثم بفتح الثاء المثلثة اسم إشارة للمكان البعيد . والتحية :
السلام . ومبلغا حال من الضمير في عرج . وعريبا : مفعوله . وجملة سلّمت معترضة بين العامل والمعمول وفائدتها الدعاء المقتضي للتحريض على إبلاغ التحية . وثم :
صفة لقوله عريبا فهو متعلق بمحذوف ، أي عريبا كائنة هناك ، أي في سلع المتقدم في البيت قبله . وعنّي : متعلق بقوله مبلغا . وتحيتي : مفعول ثان لمبلغا ومعناه ظاهر .
 
[ المعنى ]
( ن ) : وعرّج معطوف على سل في البيت قبله وذياك اسم إشارة للبعيد لعلوّ المقام وهم البانات أصحاب طويلع الحلّة المذكورة في البيت قبله . والفريق هم فريق السعادة فريق الجنة كما قال تعالى : فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ [ الشّورى : الآية 7 ] .
وقوله سلمت : يعني سلمت من كل تشبيه ونقص يحلّ بكمالك المطلق . وقوله عريبا تصغير

« 216 »
 
عرب بين العروبة ، وهي إشارة إلى المقامات المحمدية المشار إليها في البيت قبله . اهـ .
 
11 - فلي بين هاتيك الخيام ضنينة *** عليّ بجمعي سمحة بتشتّتي
 
الضنينة : البخيلة ، وهي فعيلة بمعنى فاعلة من ضننت بالشيء أضنّ به من باب علم . والسمحة خلاف الضنينة . والتشتّت : التفرّق .
 
الإعراب :
لي : خبر مقدّم . وضنينة : مبتدأ مؤخر . وبين هاتيك الخيام : حال من الضمير في الخبر . والخيام : بالجر صفة لهاتيك أو بدل منه . وعليّ وبجمعي : متعلقان بقوله ضنينة . وسمحة : صفة ضنينة إن جوّزنا وصف الصفة المشبهة على ما أفاده بعض النحاة في قول كثيّر عزّة :
قضى كل ذي دين فوفى غريمه * وعزّه ممطول معنى غريمها
كما أفاده العلّامة البيضاوي رحمه اللّه في تفسير قوله تعالى : لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ [ البقرة : الآية 71 ] .
وإن منعناه كما منعه المحقّق التفتازاني رحمه اللّه في المطوّل عند الكلام على الاستعارة فسمحة معطوفة على ضنينة بحذف حرف العطف أو صفة لموصوف محذوف يقدّر بحسب المقام . وبتشتّتي : متعلق بقوله سمحة . وجملة فلي بين هاتيك الخيام الخ . . . تعليل لأمر السائق بالسؤال عن الحلّة وبالتعريج على ذاك الفريق . وفي البيت الطّباق بين الضنينة والسّمحة ، وبين الجمع والتشتّت والمعنى ظاهر واضح .
 
[ المعنى ]
( ن ) : الإشارة بهاتيك الخيام إلى المكنى عنهم بالعريب من العارفين الكاملين في البيت قبله باعتبار قيامهم بها من حيث إنهم مظاهرها عنده . وقوله ضنينة بجمعي ، أي بخيلة عليّ باجتماعي وهو مقام الجمع الذي لا يشهد صاحبه فيه غير الحق تعالى ، وإنما عبّر عن الحقيقة بضنينة لكمال تنزّهها وامتناعها عن إدراك العقول وظهورها بحسب المظاهر وهذه شكوى حاله رضي اللّه عنه في ابتداء سلوكه في طريق اللّه تعالى أيام تجرّده للعبادة والزّهد . وقوله سمحة بتشتّتي ، أي كريمة بتفرّقي وهو مقام الفرق الذي يشهد فيه صاحبه الكثرة والتعدّد في الخلق على الاستقلال ، وإنما كانت سمحة بذلك لغلبة شهود أعيان الكاملين على بصيرته من شيوخه . اهـ .
 
12 - محجّبة بين الأسنّة والظّبا *** إليها انثنت ألبابنا إذ تثنّت
 
[ الاعراب ]
المحجّبة المستورة . والأسنّة جمع سنان وهو عامل الرمح . و « الظبا » بضم الظاء جمع ظبة ، والظبة : الطرف من السهم والسيف ، وأصلها ظبو ، والهاء عوض من

« 217 »
 
الواو . والألباب جمع لب وهو العقل . ومحجّبة : خبر مبتدأ محذوف ، أي هي محجّبة . وبين الأسنّة متعلقة بقوله محجّبة . وقوله إليها متعلق بانثنت . وألبابنا : فاعل .
وإذ : متعلق بانثنت . وجملة تثنّت في محل جر بإضافة إذ إليها .
قال الأرجاني :
وقفا لصائدة القلوب بدلها * وخفا جناية عينها الحوراء
وتحدّثا سرّا فحول خبائها * سمر الرماح يملن للإصغاء
وقال أيضا من أخرى :
يا طارق الحيّ إذا جئته * فحيّ عنّي ساكنات البطاح
وارم بطرف من بعيد فمن * دون صفاح البيض بيض الصّفاح
والمراد من كونها محجّبة بين الأسنّة والظبا أنها في غاية العزّة والمنعة والصيانة وأنها محجوبة بين الرماح والسيوف وليس حجابها كغيرها بالجدران والبيوت .
والإشارة بقوله إليها انثنت ألبابنا إلى أن غلبة المحبة والعشق قد أزالا عن قلوب المحبّين الخوف وحسبان العواقب والنظر إلى الحسود المراقب . وما أحسن قول ابن خفاجة الأندلسي :
لقد جبت دون الحيّ كل تنوفة * يحوم بها نسر السماء على وكر
وجئت ديار الحيّ والليل مطرف * منمنم ثوب الأفق بالأنجم الزهر
وخضت سواد الليل يسودّ فحمه * ودست عرين الليث ينظر عن جمر
فلم ألق الأصعدة فوق لأمة * فقلت قضيب قد أطلّ على نهر
ولا شمّت الأغرّة فوق أشقر * فقلت حباب يستدير على خمر
وسرت وقلت البرق يخفق غيرة * هناك وعين النجم تنظر عن شزر
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله محجّبة صفة لضنينة في البيت قبله . وحجابها ظهور صور الكاملين عنها من تجلّي الاسم المصوّر . وقوله بين الأسنّة والظبا ، أي محميّة بالرّماح والسيوف عمّن يخبر عنها بأنها مستورة خلف صور هؤلاء الكاملين لقصور أفهام علماء الشريعة عن معرفة ذلك فيفهمون من القائل به حلولها أو اتحادها فيحكمون بكفر من يقول ذلك ويغزونه بالرّماح والسيوف . وهذا سبب إيراد أهل العلوم الذوقية الكشفية معارفهم وحقائقهم بالكنايات الغزلية وغيرها لأنهم لو صرّحوا بذلك لما قدر أن يفهم مرادهم غير أبناء طريقهم وتقع الغافلون بالأفهام العقلية في أديانهم وأعراضهم بغير علم .
 
وقوله تثنّت كناية عن توجّهها بالإرادة الأزلية على التكوين . اهـ .
 
« 218 »
 
13 - ممنّعة خلع العذار نقابها *** مسربلة بردين قلبي ومهجتي
 
[ الاعراب ]
« العذار » في الأصل ما سال على خدّ الفرس ، والمراد من خلع العذار هنا التهتّك وعدم المبالاة بما يتحفّظ الناس عنه . والنقاب على وزن كتاب ما تنقّبت به المرأة . والمسربلة : اسم مفعول من سربلته ، أي ألبسته السربال ، وهو القميص أو الدّرع أو كل ما يلبس . و « بردين » : مفعوله الثاني ، ونائب فاعل مسربلة وهو الضمير المفعول الأول . و « قلبي ومهجتي » : بدلان من بردين بدل التفصيل من الإجمال ، أو التقدير هما قلبي ومهجتي ، والمهجة في الأصل الدم أو دم القلب أو الروح ، والمراد هنا الروح . وفي جعل خلع العذار نقابا لها غرابة حيث جعل الشيء من ضدّه . ووجه كون خلع العذار نقابا أن الناس يحملونه على محامل غير المحبة الحقيقية من الانهماك في الأمور العادية والاستغراق في المشاهدة المجازية ولا يحاولون ما أوجب خلع العذار وأذهب وصف الاصطبار . وأعدم الفؤاد القرار آناء الليل وأطراف النهار فيكون صارفا عن معرفة حقيقة الحال ، وما الذي أسكن البلبال في البال . ويجوز أن يكون المعنى خلع العذار المعتاد للمحبّين مع من يحبونهم بالنسبة إلى هذه الحبيبة غير ممكن لتمنعّها وتحجّبها وتسربلها ، وإنما يصنع في محبتها عوض خلع العذار النقاب لها والستر لمحبّها الكمال عزّتها ونهاية صيانتها . وقد تكلمنا على نحو ذلك في شرحنا الذالية
عند قوله رضي اللّه عنه :
فجعلت خلعي للعذار لثامه * إذ كان من لثم العذار معاذا
وفي البيت المقابلة بين الخلع والتنقّب المفهوم من النّقاب ، والتناسب في ذكر العذار والنقاب والسربال والتوشيع في قوله مسربلة بردين قلبي ومهجتي .
 
[ المعنى ]
( ن ) : ممنعة ، أي عن إدراك العقول . وقوله خلع العذار نقابها : أي أن التهتّك حجاب وجهها عن الظهور فإن كل متهتّك لا يبالي بما يظهر منه من المباحات التي تتحرّز العقلاء منها فيفعلها فلا يخطر لأحد من الناس أنه وليّ وأن الحق تعالى متصرّف به في ظاهره وباطنه . وقوله قلبي ومهجتي ، فالقلب هنا العقل وهو القوة الروحانية الربّانية المحمدية ، والمهجة هي دم القلب الجسماني ، والمعنى أن هذه الحقيقة لابسة صورة قلبه الروحاني وهي صورة عقله النوراني ولابسة أيضا صورة قلبه الجسماني وهي المهجة من تجلّي اسمه المصوّر كما قال تعالى :
وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [ الأنعام : الآية 9 ] .
قال الشيخ عفيف الدين

« 219 »
 
التلمساني من قصيدة :
شمس ومطلعها ذاتي ومغربها * بين السوادين من قلبي ومن بصري اهـ .
 
14 - تتيح المنايا إذ تبيح لي المنى *** وذاك رخيص منيتي بمنيّتي
 
[ الاعراب ]
« تتيح » : فعل مضارع من أتاح اللّه الأمر ، أي قدّره . و « المنايا » جمع منية وهي الموت . و « تبيح » : مضارع من أباحه جعله مباحا ولم يمنع منه . و « المنى » : جمع منية وهي المطلوب .
 
والمعنى :
إن هذه المحبوبة إذا سهّلت لي مطلوبا قدّرت لي موتا ولست في ذلك بمغبون ، إذ المنية أغلى من المنية فتكون رخيصة .
وما أحسن قوله رضي اللّه عنه في التائية الكبرى :
هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا * من الحب فاختر ذاك أو خلّ خلّتي
وفي البيت الجناس المصحّف بين تتيح وتبيح فالأول بتاء مضارعة ثم تاء من نفس الكلمة والثاني بتاء مضارعة وياء موحّدة ، كذلك والجناس الناقص بين المنى والمنايا ، وما أحسن الإشارة إلى أنّ المنى بعض المنايا .
 
ومما ينتظم في هذا السلك قول الشاعر :
إن الهوى عين الهوان ونونه * سقطت فيترك حمله المرتاح
 
وما ألطف قول القائل وأجاد :
وسألتها بإشارة عن حالها * وعليّ فيها للوشاة عيون
فتنفّست كمدا وقالت ما الهوى * إلا الهوان وزال عنه النون
وجناس التحريف بين منية بضم الميم وتسكين النون ومنيّة بفتح الميم وكسر النون .
 
( ن ) : المنايا جمع منية وهي الموت وجمعه لكثرة الموتات ، فالموت الأبيض الفقر ، والموت الأحمر مخالفة النفس ، والموت الأسود تحمّل أذى الخلق ونحو ذلك .
والمنى جمع منية وهي المطلوب ، وجمعها لكثرة مطالبه في حين سلوكه في طريق اللّه تعالى .
وقوله فذاك رخيص الخ . . . فمعنى الرخص هنا كونه مبذولا سهل الاطّلاع عليه إن أراد الحقّ تعالى ، كما ورد اللّهمّ لا سهل إلا ما جعلته سهلا ، وأفرد
 يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 01 إلى 31 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:12 pm

شرح قصيدة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 01 إلى 31 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ


شرح القصيدة الثالثة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 01 إلى 31 
« 220 »
المنية في آخر البيت لجمعها لجميع المنى المتفرّقات من قبيل إذا حصلت لك حصل لك كل شيء . وأفرد المنية أيضا أي الموت وهو موت التحقّق بحقائق العرفان . اهـ .
 
15 - وما غدرت في الحبّ أن هدرت  *** دمي بشرع الهوى لكن وفت إذ توفّت
 
[ الاعراب ]
الغدر خلاف الوفاء . و « أن » بفتح الهمزة وسكون النون مصدرية . و « هدرت دمي » : أبطلته وأسقطت حقه . وقوله توفّت بمعنى قبضت الروح . وأن مع هدرت في تأويل مصدر مجرور بلام مقدرة ، أي ما غدرت لهدرها دمي . ويجوز عدم تقدير اللام على أن يكون المصدر في تأويل اسم الفاعل منصوبا على الحالية من فاعل غدرت ، أي ما غدرت في الحب هادرة دمي .
 
والمعنى :
لم يكن هدرها دمي غدرا بل كان وفاء لكونه ذهب بشرع الهوى .
وفي البيت الجناس اللاحق بين غدرت وهدرت ، والجناس الناقص بين وفت وتوفّت .
وما أحسن قوله رضي اللّه عنه في قصيدته اليائية :
كم قتيل من قبيل ماله * قود في حبّنا من كل حيّ
وقال آخر :
الشرط بذل النفس أول مرة * لا يطمعن ببقائها الأشباح
 
( ن ) : قوله وما غدرت الخ . . . لأن المحبوب الحقيقي يأبى انفراده بالوجود وتوحّده بالأسماء والصفات أن يكون معه محبّه يضاهيه في ذاته وأسمائه وصفاته ويزاحمه في جماله وجلاله وكماله فيقتضي شرع المحبّة أن يقتل محبّه ويفنيه ، ويبقى هو على ما هو عليه أزلا وأبدا. اهـ.
 
16 - متى أوعدت أولت وإن وعدت *** لوت وإن أقسمت لا تبرىء السّقم برّت
 
[ الاعراب ]
« متى » : شرط زماني وهي أعمّ من إذا فإن متى قيد للكلية وإذا قيد للجزئية .
و « أوعدت » : فعل ماض من الإيعاد وهو للشرّ . و « أولت » : فعل ماض بمعنى اتبعت الإيعاد بما أوعدت به من الهجر والصدود وما أشبههما ، والوعد يقال في الخير والشّرّ ، ومقابلته بالإيعاد تمحّضه للخير . و « لوت » بمعنى مطلت . و « أقسمت » بمعنى حلفت . و « تبرىء » : مضارع من أبرأ اللّه مرضه شفاه . و « السقم » : المرض . و « برّت » :
فعل ماض من برّ فلان في يمينه ، أي صدق .
 
والمعنى :
إيعادها بالهجر معجل ، ووعدها بالوصل ممطول ، وحلفها على عدم شفاء مرض المحبّ قسم صادق لا خلف فيه . ولا يخفى جناس الاشتقاق بين أوعد


« 221 »
ووعد ، وجناس شبهه بين أولت ولوت ، وكذا بين أقسمت والسقم ، وكذا بين تبرىء وبرّت .
 
( ن ) : هذا شأن الحق تعالى بعباده المؤمنين الكاملين متى صدرت منهم هفوة في الدنيا عجّل لهم العقوبة ليؤدّبهم فيحسن تأديتهم فينفذ وعيده فيهم في الحال ، أو يعفو كما قال سبحانه : وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [ الشّورى : الآية 30 ] ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [ المائدة : الآية 15 ]
وإن صدرت منهم أفعال حسنة مرضية أخّر الجزاء عليها إلى الآخرة فيبقى الوفاء بوعده إلى دار البقاء . والسقم المرض ، أي مرض عباده المؤمنين وهو من البلاء الحسن ، قال تعالى : وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً [ الأنفال : الآية 17 ] ،
وقوله : ( وإن أقسمت ) ، ومعنى إقسامه تأكيد ابتلائه لعباده ، كما قال : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ [ البقرة : الآية 155 ] الآية . اهـ .
 
17 - وإن عرضت أطرق حياء وهيبة ***  وإن أعرضت أشفق فلم أتلفّت
 
[ الاعراب ]
« عرضت » : ماض من العرض ، وهو الإظهار والإبراز . والإطراق : مصدر أطرق إذا أرخى عينيه ينظر إلى الأرض . والحياء : انقباض النفس خوف القبائح . والهيبة :
الإجلال والمخافة . و « أعرضت » من الإعراض ، وهو خلاف الإقبال . و « أشفق » :
مضارع أشفق من كذا ، أي خاف منه ، ومفعول عرضت محذوف ، أي وإن عرضت جمالها ورونقها أطرق حياء منها وهيبة لها ، وإن أعرضت عني ولم تقبل عليّ حذّرتها وخفت من إعراضها ولم أتلفت إلى جانب هيبة لها . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين عرض وأعرض ، والسجع في قوله وإن عرضت أطرق وإن أعرضت أشفق .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يعني إذا تجلّت له وانكشفت ينظر إلى الأرض يعني ينظر إلى ذلّه ومسكنته في كمال عزّ الحقيقة وتكبّرها وجبروتها إجلالا وتعظيما لها واحتراما لشأنها فيذوب العبد حينئذ بين يدي ربّه وتضمحل رسومه ، وإذا استترت واحتجبت عنه خاف منها ولم يتلفّت لا يمينا ولا يسارا حذرا أن تكون قد مكرت به بإعراضها عنه . قال تعالى : فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [ الأعراف : الآية 99 ] . اهـ .
 
18 - ولو لم يزرني طيفها نحو مضجعي *** قضيت ولم أسطع أراها بمقلتي
 
[ الاعراب ]
الطيف : مجيء الخيال في النوم . والمضجع : مكان النوم ، وهو بفتح الميم والجيم لأنه من باب منع يمنع . و « قضيت » : فعل ماض من قضى نحبه قضاء ، أي مات . وقوله « ولم أسطع » من اسطاع يسطيع ، محذوف التاء استثقالا لها مع الطاء .
والمقلة : شحمة العين التي تجمع البياض والسواد .
 
« 222 »
 
والمعنى :
لولا زيارة طيف المحبوبة لي في مكان منامي لما أمكن رؤيتها في حال حياتي لعزّة رؤيتها بل لسطوع أنوارها .
 
وما ألطف قول القاضي ناصح الدين الأرّجاني :
أيزاد حسنك بالتبرقع ضلة * فأرى السّفور لمثل حسنك أصونا
كالشمس يمتنع اجتلاء وجهها * فإذا اكتست برفيق غيم أمكنا
وما ألطف قوله رضي اللّه عنه في لاميّته :
وكيف أرجى وصل من لو تصوّرت * حماها المنى وهما لضاقت به السّبل
 
( ن ) : ورد في الأثر الناس نيام ، وفي القرآن وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ [ الرّوم : الآية 23 ] ، فكل صورة يراها السّالك فهي طيف خيال محبوبه الحقّ تعالى من تجلّي اسم المصوّر . وقوله نحو مضجعي ، لأن الاضطجاع لصوق الجنب بالأرض فلا يكشف له أن تلك الصورة التي زارته صورة محبوبه إلا إذا رجع إلى أصله بلصوقه بالأرض تواضعا وذلّا وانكسارا ، يعني لو لم يزرني ذلك الطيف كما ذكرنا متّ فلم أقدر أن أرى تلك المحبوبة بعيني لأن الميت جماد لا يمكن أن يرى بنفسه لأنها هي التي تملك بصره فتريه ما شاءت ، فإذا أفرزها عنه لا يراها . اهـ .
 
19 - تخيّل زور كان زور خيالها *** لمشبهه عن غير رؤيا ورؤيتي
 
[ الاعراب ]
التخيّل : التوهّم . والزّور بضم الزاي : الكذب ، والزّور بفتح الزاي ، بمعنى الزيارة . والخيال عبارة عن طيف الخيال . والرؤيا على فعلى بلا تنوين مصدر رأى في منامه . والرؤية مصدر رأى في اليقظة . وتخيل زور بالنصب خبر مقدّم لكان . وزور خيالها : اسمها . ولمشبهه : متعلق بزور خيالها . وعن غير رؤيا : متعلق بمحذوف على أنه حال من خبر كان ، أي كان زيارة خيالها تخيّلا صادرا عن غير رؤيا نوم ولا رؤية يقظة ، وإنما هو نوع من التخيّل وضرب من التوهّم المحض .
وما ألطف قول أبي تمام :
قد زار طيف الكرى لا بل أزاركه * فكر إذا نامت العينان لم ينم
 
وقال أبو الطيب المتنبي :
ولولا أنني في غير نوم * لكنت أظنني مني خيالا
وبين الزّور والزّور جناس محرّف ، وبين رؤيا ورؤية جناس شبه الاشتقاق ، وبين التخيّل والخيال اقتراب لفظيّ لا يخلو من لطف .

« 223 »
[ المعنى ]
( ن ) : يعني أن الصورة التي أراها بها محض تزوير عليها لأنها لا تشبه شيئا ولا يشبهها شيء ، كما قال : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ الشّورى : الآية 11 ] ، وقوله لمشبهه ، أي لمشبه ذلك الخيال فإنه صورة خيالية أيضا مثل صورة الخيال ، وقد صدر ذلك التخيّل عن غير رؤيا مناميّة لأنه متحقّق بذلك يقينا وعن غير رؤية في اليقظة ، بل كان ذلك في عالم الانسلاخ عن النوم واليقظة في حالة ذوقية يعرفها العارف لا تنال بالعقل . اهـ .
 
20 - بفرط غرامي ذكر قيس *** بوجده  وبهجتها لبنى أمتّ وأمّت
 
[ الاعراب ]
الفرط اسم مصدر من الإفراط والغلبة . والغرام : الولوع والعذاب . و « قيس » هذا هو قيس بن الملوّح العامري ، وهو المشهور بمجنون عامر . والوجد : مصدر وجد به وجدا ، إذا أحبه . و « لبنى » : اسم امرأة محبوبة . « أمتّ » من الإماتة ، أصله أموت على وزن أكرمت ، ثم نقلت حركة الواو إلى الميم الساكنة قبلها ، ثم قلبت الواو ألفا ، ثم حذفت الألف لالتقائها ساكنة مع التاء الأولى المدغمة . « وأمّت » : فعل ماض من أمّ فلان فلانا ، أي صار إماما له . وبفرط غرامي متعلق بأمت .
وذكر قيس بالنصب : مفعوله . وبوجده : متعلق بذكر قيس ، أي جعلت ذكر قيس بالوجد ميتا بسبب فرط غرامي وغلبته . وقوله وبهجتها بالجر معطوف على فرط غرامي ، والضمير في بهجتها للمحبوبة المتكلّم عنها . ولبنى : مفعول مقدّم لأمّت أي صارت إماما للبنى بسبب بهجتها ، فحاصل الأمر أنه يقول فقت بوجدي على كل المحبّين كما فاقت بهجتها على كل المحبوبات . وفي البيت الجناس بين أمتّ وأمّت ، وقد أوضح معنى هذا البيت وأظهر المراد منه بقوله بعده .
 
21 - فلم أر مثلي عاشقا ذا صبابة *** ولا مثلها معشوقة ذات بهجة
 
[ الاعراب ]
العاشق : اسم فاعل من العشق ، وهو إفراط الحب ، أو هو عمى المحبّ عن إدراك عيوب المحبوب ، أو مرض وسواسي يخيله الإنسان إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور . والصبابة : الشوق ، أو رقّته ، أو رقّة الهوى ، أي لم أر مثل نفسي في وصف العاشقية ولا مثلها في وصف المعشوقية ، وفي ذكر العاشق والمعشوق مقابلة . و « ذا صبابة » : صفة قوله عاشقا . كما أن « ذات بهجة » صفة لمعشوقة ، والرؤيا هنا بمعنى العلم فتعدّت إلى مفعولين .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يعني لم أر مثلي صاحب صبابة لأن عشقي حقيقي وعشق العشّاق كلهم مجازي يعدلون به عن المحبوبة الحقيقية فيعشقون الصور ويتركون
 
« 224 »
المصوّر ، ولم أر مثل جمال المحبوبة الحقيقية لأن الحسن كله لها ، وكل الجمال منها . اهـ .
 
22 - هي البدر أوصافا وذاتي سماؤها *** سمت بي إليها همّتي حين همّت
 
[ الاعراب ]
« هي البدر » : تشبيه بليغ ، أو استعارة على اختلاف في المسألة . و « أوصافا » :
نصب على التمييز ، أي هي مثل البدر من جهة الأوصاف ، فنسبة مشابهتها للبدر مبهمة فأوضحها التمييز لأن الأوصاف أنواع : فمنها السنا ، ومنها السناء ، ومنها الاستدارة ، ومنها شرف الموضع إلى غير ذلك ، ولمّا أثبت للحبيبة أوصاف البدر احتاج إلى أن يثبت له سماء إذ هي من لوازم البدر فجعل ذاته سماء له إشارة إلى كونه مركوزا في ذاته منطبعا فيها كانطباع صورة البدر في السماء . و « سمت » بمعنى ارتفعت . والباء في « بي » للملابسة على حدّ قوله تبارك وتعالى : فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا [ مريم : الآية 22 ] .
وكقول أبي الطيّب أحمد بن الحسين المتنبي :
كأن خيولنا كانت قديما * تسقى في قحوفهم الحليبا
فمرّت غير نافرة عليهم * تدوس بنا الجماجم والتريبا
 
والهاء في « إليها » للحبيبة المتكلّم عنها . و « همّت » : فعل ماض من الهمّ بالشيء وهو العزم على فعله ، ولا يحسن جعل الهاء في إليها للسماء لأنه قد جعل السماء ذاته فكيف تسمو به همّته إلى ذاته ، لكن له محمل صوفي لسنا بصدد بيانه .
 
والمعنى :
أن هذه الحبيبة بدر في أوصافه وذاتي في سماء له ، وقد رفعتني إلى هذا البدر بحيث صرت سماء له همتي حين عزمت على الترقّي إلى المراتب العليّة .
وفي البيت الجناس المحرّف بين همّتي وهمت .
 
( ن ) : هي البدر التام في الظهور بالنور . وقوله أوصافا لأن للبدر أوصافا كثيرة :
منها علوّه وارتفاعه ، ومنها كمال نورانيته ، ومنها أنه لا ينال لأحد من أهل الأرض ، ومنها أنه لا يضام أحد في رؤيته . قال صلى اللّه عليه وسلم : « إنكم سترون ربكم كما ترون البدر ، هل تضامون في رؤيته ؟ » الحديث . وفي رواية « كما ترون الشمس » . ولنا في هذا المعنى من مطلع قصيدة :
يا طلعة الشمس أو يا طلعة القمر * تختال في حلل الأشباح والصور
 
وقوله وذاتي سماؤها من قوله عليه السلام : « ووسعني قلب عبدي المؤمن » وهو وسع معرفة لا وسع إحاطة . وقوله سمت بي إليها الخ . . . يعني ارتفعت همّتي ، أي باعث قلبي إلى تلك المحبوبة الحقيقية . اه .
 
« 225 »
23 - منازلها منّي الذّراع توسّدا *** وقلبي وطرفي أوطنت أو تجلّت
 
[ الاعراب ]
ثم لمّا أثبت أنها بدر وأن ذاته سماء له أراد أن يثبت في ذاته منازل لذلك البدر ، إذ من شأن السماء أن يكون فيها منازل القمر ، فقال : « منازلها مني الذراع توسّدا » . وقوله « وقلبي وطرفي » إشارة إلى منزلين أيضا من منازل القمر .
والذراع منزل أيضا وهو ذراع الأسد المبسوطة . وللأسد ذراعان مبسوطة ومقبوضة وهي تلي الشام . والقمر ينزل بها ، والمبسوطة تلي اليمن وهي أرفع في السماء وأمد من الأخرى ، وربما عدل القمر فنزل بها تطلع لأربع يخلون من تموز وتسقط لأربع يخلون من كانون الأول . وقلب العقرب منزل من منازل القمر وهو كوكب نيّر وبجانبيه كوكبان . والطرف كوكبان يقدمان الجبهة وهما عينا الأسد ينزلهما القمر ، فذكر الذراع والقلب والطرف ، والمراد منها ما في الإنسان من الأعضاء وهي معادن بعيدة بالنسبة إلى القمر الحقيقي فيكون فيها إيهام التورية ، ومع ذلك فهي ترشيح للاستعارة أو التشبيه لملائمتها المستعار منه أو المشبه به .
وتوسدا منصوب على الظرفية المقدّرة أي حالة التوسّد . وقوله أوطنت أو تجلّت راجعان للقلب والطرف على سبيل اللف والنشر المرتّب ، أي منزلها القلب في حالة الاستيطان ، والطرف حالة التجلّي . وفي البيت التناسب بذكر الذراع والقلب والطرف واللفّ والنشر المرتّب وإيهام التورية .
 
[ المعنى ]
( ن ) : عدّد المنازل لأنه أراد كثرة تجلياتها في اتحاد إقباله عليها في مرتبة الذراع المشار إليها بقوله في الحديث القدسي : « من تقرّب إليّ شبرا تقرّبت إليه ذراعا » .
فالذراع موعد تقرّب الرّبّ من عبده المتقرّب إليه بالشبر الذي هو ثلث الذراع وهو النفس ، والثلث الثاني الروح ، والثالث الجسم .
وقوله مني إشارة إلى أن المتقرّب واحد منهما ولا بدّ أن يكون تقرّب العبد إلى الرّبّ بالرّبّ لا بالنفس فإذا كان بالرّبّ فهو من الرّبّ حقيقة ، وإن كان من العبد صورة .
ولهذا قال في الحديث بعد ذلك : « ومن تقرّب إليّ ذراعا تقرّبت إليه باعا » ، فجعل قرب الذراع من العبد أيضا .
وقوله توسدا كناية عن الجسم المركّب الكثيف الذي تتوسده الروح فتتوكأ عليه فمنازلها في حالة التوسّد المذكورة مرتبة الذراع من الرّبّ تعالى أو منه .
وقوله وقلبي أي منازلها أيضا قلبي من قوله في الحديث القدسي : «وسعني قلب عبدي المؤمن».
وقوله وطرفي ، أي عيني من قوله تعالى : قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ يونس : الآية 101 ] ،
وقوله : وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [ الأنعام : الآية 3 ] .
ثم بيّن منازل القلب ومنازل الطرف بقوله : أوطنت أو تجلت ، فأوطنت راجع إلى القلب ،

« 226 »
يعني لا ينفك عن القلب وإن اختلفت تجلياتها عليه ، وتجلّت راجع إلى الطرف فتتكشف بتجليات مختلفة فتتعدد منازلها منه أيضا . اهـ .
 
24 - فما الودق إلّا من تحلّب مدمعي *** وما البرق إلّا من تلهّب زفرتي
 
[ الاعراب ]
وهذا البيت من تتمّة جعل نفسه سماء فإنه أثبت لذاته منازل القمر فيريد أن يثبت لها ما يلزم السماء من الودق والبرق . و « الودق » : المطر . والتحلّب بالحاء المهملة مصدر تحلب المطر ، أي سال . والمدمع : إما مكان الدمع ، أو مصدر ميمي بمعنى الدمع . و « البرق » معروف . وتلهّبه : اضطرابه . والزفرة : اسم مصدر من الزفير وهو إدخال النفس ، والشهيق إخراجه ، أي ليس المطر إلا من سيلان دمعي ، وليس البرق إلا من اتّقاد نفسي . وفي البيت السجع في قوله فما الودق إلا من تحلّب وما البرق إلا من تلهّب ، وفيه طباق معنوي بين البارد والحار المفهومين من الودق والبرق ، وفيه المساواة فإن اللفظ على قدّ المعنى ، وفيه الانسجام التامّ الآخذ بمجامع الأفهام .
 
[ المعنى ]
( ن ) : هذه شكاية حاله في مقام المحبة الإلهية بعد ذكر ما هو فيه من القرب الربّاني فإنه من جهة أن الحق تعالى يحبّه ينعم عليه بالتجليات والمعارف والحقائق ، ومن جهة أنه يحبّ الحق تعالى يبتليه الحق تعالى بالبكاء والنحيب والشهيق واللهيب . اه .
 
25 - وكنت أرى أنّ التّعشّق منحة *** لقلبي فما إن كان إلّا لمحنتي
 
[ الاعراب ]
« أرى » بضم الهمزة بمعنى أظن . و « التعشّق » مصدر تعشق ، أي تكلّف العشق .
والمنحة بكسر الميم : العطية . وما : نافية . و « إن » بكسر الهمزة زائدة لتأكيد النفي المفهوم من ما . والمحنة بكسر الميم : البليّة . وأن مع اسمها وخبرها في محل نصب على أنها سادّة مسدّ مفعولي أرى . وجملة أرى أن التعشّق منحة : في محل نصب خبر كان . ولقلبي : صفة لمنحة . واسم كان ضمير يعود إلى التعشّق . ولمحنتي : خبرها متعلق بمحذوف . والاستثناء مفرّغ ، أي فما كان من الأشياء إلا لمحنتي . وفي البيت جناس القلب بين المنحة والمحنة ، والمقابلة بينهما أيضا .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يقول : كنت أعلم أن العشق هبة من اللّه لقلبي فلم يكن إلا بلية لي ، فإن التعشّق يقتضي حصول المحبة الإلهية في القلب وهي قربة وطاعة ، ومن هنا يرى العبد السالك أنها منحة له وعطية من اللّه تعالى ، وإنما ذلك وأمثاله من القربات والطاعات بلاء من اللّه تعالى ومحنة للعبد ، كما أن الذنوب والمخالفات بلاء ومحنة أيضا ، كما قال تعالى : وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ الأعراف : الآية
 
« 227 »
168 ] ، وقال تعالى : وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ [ الأنبياء : الآية 35 ] .
فالحسنات والخير بلاء ومحنة وهو البلاء الحسن الذي قال تعالى : وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً [ الأنفال : الآية 17 ]
وهو بلاء الأنبياء والأولياء والصالحين . كما جاء في الحديث « أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل » . اهـ .
 
26 - منعّمة أحشاي كانت قبيل *** ما دعتها لتشقى بالغرام فلبّت
 
[ الاعراب ]
الأحشاء بالمدّ جمع حشى بالقصر وهو ما انضمّت عليه الضلوع ، وقصر الأحشاء للضرورة . و « قبيل » تصغير قبل ، والمراد منه التقريب . و « ما » : مصدرية .
والشقاوة خلاف النعيم . ولبّت : أي قالت : لبّيك عند الدعاء . والمراد حسن الإجابة .
واللام في لتشقى للعاقبة ، ويجوز كونها لنفس التعليل وهو أبلغ . ومنعمة بالنصب :
خبر كان . وأحشاي : اسمها . وقبيل ما دعتها : متعلق بمنعمة واللام في لتشقى متعلق بدعتها . وبالغرام : متعلق بقوله لتشقى . وقوله فلبّت : معطوف على دعتها ، أي كانت أحشائي منعمة قبل دعاء المحبوبة لها للشقاوة فحصل منها التلبية وسرعة الإجابة . وفي البيت المقابلة بين النعيم والشقاوة .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يقول كانت أحشائي منعمة مستريحة براحة الغفلة والجهل متلذّذة في الدنيا باللذائذ الوهمية ، وذلك قبل أن تدعوها المحبوبة الحقيقية ، وهذا النداء كناية عن انكشاف نعم اللّه تعالى ومحاسن أفعاله للعبد فإن ذلك يقتضي المحبة من العبد لربّه وهو دعاء ونداء للعبد السالك بأن يحبّ ربّه ، ثم قال لتشقى بالغرام ، أي بالشوق الملازمم . اهـ .
 
27 - فلا عاد لي ذاك النّعيم ولا أرى *** من العيش إلّا أن أعيش بشقوتي
 
[ الاعراب ]
لا : نافية ، ومن حقها إذا دخلت على الماضي ، وهي نافية أن تكرر ، وكأنها هنا مكررة بمعنى بناء على جعل أرى بمعنى رأيت عدل عنه إلى المضارع للدلالة على التجدّد والحدوث ، وذلك لتعلّقه بالمعيشة وهي مما تتقضى آنا فآنا على أنه قد سمع دخول لا على الماضي غير متكررة قليلا ، قال الشاعر :
إن تغفر اللّهمّ تغفر جما * وأيّ عبد لك لا ألما
وعلى كل تقدير ففيما قرّرناه من دخولها على الماضي مكررة أو غير مكررة ردّ على الزمخشري حيث ادّعى في تفسير سورة الكافرين أن نفي لا مخصوص بالاستقبال اللّهمّ إلا أن يريد اختصاصها في الأكثر .
و « العيش » : الحياة ، أي فلا عاد لي ما كنت فيه من التنعّم بعد دعاء المحبوبة للشقاوة ولا أرى أن في الحياة نوعا إلا نوع المعيشة
 
« 228 »
 
مبتليا بالشقوة ، وأتى بالإشارة البعيدة إشارة إلى بعد نعيمه عنه . وفي البيت المقابلة بين الشقاوة والنعيم ، وجناس الاشتقاق بين العيش وأعيش .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله فلا عاد لي الخ . . . هو إخبار بمعنى الإنشاء ، جملة دعائية فإنه اختار شقوة الغرام الرّبّاني على نعيم الغفلة والجهل باللّه واللذائذ الفانية . اهـ .
 
28 - ألا في سبيل الحبّ حالي وما *** عسى بكم أن ألاقي لو دريتم أحبّتي
 
[ الاعراب ]
« ألا » : حرف استفتاح ، ومعناها التنبيه . والسبيل : الطريق . و « ما » : موصولة .
واسم « عسى » ضمير يعود إليها . و « بكم » : متعلق بألاقي . و « أن » مع « ألاقي » : خبر عسى على حذف المضاف ، أي زمن الملاقاة . ومفعول « دريتم » يحتمل أن يكون حالي ، وما معطوف عليه ، أي لو دريتم أحبتي حالي الآن والذي قرب زمن ملاقاته من الأحزان والأشواق فيكون جواب لو محذوفا ، ويحتمل أن يكون مفعول دريتم محذوفا ، أي لو دريتم ذلك يا أحبتي لرحمتم . ويكون حالي مبتدأ ، وفي سبيل الحب : خبرا مقدما . وما : معطوف عليه على كل تقدير ، ويحتمل أن تكون لو للتمني فلا تحتاج إلى جواب ، وقد شرع في تفصيل حاله فقال أخذتم الخ . . .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله حالي ، أي ما أقاسيه وأكابده من البلاء المذكور . وعسى هي فعل إشفاق هنا من مكروه ما يقاسيه . وقوله بكم أن ألاقي ، أي بسببكم أجد في المستقبل من البلاء . وقوله لو دريتم ، فلو للتمني ، والمراد الدراية الذوقية لا مجرد العلم لأن الحق تعالى عليكم بكل شيء ، ولكن إذا خلق للعبد ذوق الألم فلا يكون هو الذي يذوق ذلك الألم ، بل هو تعالى العالم به على الوجه التامّ وليس العالم بالشيء ذائقا له ، فمعنى دريتم ذقتم عين ما أذوق . وقوله أحبتي بالجمع لكثرة ظهوره تعالى بأسمائه وصفاته المختلفة . اهـ .
 
22 - أخذتم فؤادي وهو بعضي فما *** الذي يضرّكم أن تتبعوه بجملتي
 
[ الاعراب ]
الفؤاد : القلب . وما : استفهامية مبتدأ . و « الذي » : خبره ، وما الاستفهامية إذا كانت نكرة لزم الإخبار عن النكرة بالمعرفة وذلك جائز في مثل هذا . و « أن » مع « تتبعوه » في تأويل مصدر مجرور بفي المقدّرة ، أي أيّ شيء يضرّكم في اتّباع القلب بالجملة .
وقال رضي اللّه عنه في اللامية :
أخذتم فؤادي وهو بعضي فما الذي * يضرّكم لو كان عندكم الكل
 
« 229 »
ويقرب من هذا قول محمد بن هانىء المغربي الأندلسي حيث قال :
امسحوا عن ناظري كحل السّهاد * وانفضوا عن مضجعي شوك القتاد
أو خذوا مني ما أبقيتم * لا أريد الجسم مسلوب الفؤاد
وما ألطف قول من قال وأجاد في المقال :
لي في الحجاز وديعة خلفتها * أودعتها يوم الوداع مودّعي
وأظنها لا بل يقيني أنها * قلبي لأني لم أجد قلبي معي
وفي البيت المقابلة بين البعض والجملة .
 
30 - وجدت بكم وجدا قوى كلّ عاشق *** لو احتملت من عبئه البعض كلّت
 
[ الاعراب ]
وجد به يجد كوعد يعد في الحب فقط وفي الحزن أيضا لكن بكسر ماضيه .
و « قوى » بضم القاف جمع قوة . والعبء كالحمل وزنا ومعنى ، ويكون بمعنى الثقل من أيّ شيء كان . و « كلّت » : فعل ماض من الكلال ، بمعنى التعب . وقوى : مبتدأ مضاف إلى كل . وكل إلى عاشق . ولو مع فعلها وجزائها في محل رفع خبر المبتدأ .
والكبرى في محل نصب صفة وجدا .
 
والمعنى :
وجدت بكم في المحبة وجدا موصوفا بأن قوى جميع المحبّين تضعف عن حمل بعضه . وفي البيت جناس الاشتقاق بين وجدت ووجدا ، والمقابلة بين الكل والبعض ، والتقارب اللفظي بين كل وكلّت .
 
( ن ) : إنما كان كما ذكر لأن كل عاشق مناط عشقه أمر كوني زائل فان مضمحل وهو المحبوب المجازي وأما هو فمناط عشقه الحق تعالى . اهـ .
 
31 - برى أعظمي من أعظم الشّوق ضعف *** ما بجفني لنومي أو بضعفي لقوّتي
 
[ الاعراب ]
« برى » السهم يبريه نحته ، وبراه السفر يبريه بريا هزله . والأعظم جمع عظم وهو وإن كان جمع قلّة لكنه أفاد العموم بإضافته إلى الياء التي هي ضمير المتكلم . وضعف المضاف إلى ما فاعل يرى وهو صفة موصوف محذوف ، أي برى أعظمي شوق هو ضعف الشوق الذي استقر في جفني لنومي وضعف الشوق الذي استقر في ضعفي لقوتي ومن أعظم الشوق : حال من فاعل برى .
 
[ المعنى ]
وحاصل المعنى : قد نحت أعظمي شوق ضعف الشوق الذي استقر في جفني لنومي وضعف الشوق الذي استقر في ضعفي لقوّتي . ولا يخفى الإدماج في البيت
 
« 230 »
 
فإنه أدمج في شكايته من بري عظامه شكايته من ذهاب نومه من جفنه ومن ذهاب قوته من بدنه . وأشار إلى أن جفنه مشتاق لنومه كما أنه هو مشتاق لمحبوبه ، ولكن شوقه هو ضعف ذينك الشوقين . وفي البيت المقابلة بين الضّعف والضّعف ، وبين أعظمي وأعظم .
 
( ن ) : ضعف الشيء بالكسر مثلاه أو ثلاثة أمثاله ، يعني أن الشوق الذي نحت عظامي وبراها مقدار الشوق الذي في جفني لنومي مرتين أو أكثر ، ومقدار الشوق الذي في ضعفي لقوّتي مرتين أيضا أو أكثر ، وفي ذلك إخبار أن جفنه لا نوم له وهو مشتاق إلى النوم غاية الاشتياق وأن ضعفه وعجزه ومرضه الكائن فيه مشتاق إلى القوة غاية الاشتياق ، وهذا كله شكوى الحال لتطويل المناجاة مع الحبيب المتعال . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 32 إلى 67 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:13 pm

شرح قصيدة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 32 إلى 67 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الثالثة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 32 إلى 67 
32 - وأنحلني سقم له بجفونكم *** غرام التياعي بالفؤاد وحرقتي
 
[ الاعراب ]
« أنحلني » : أي صيّرني نحيلا مهزولا . والالتياع : الاحتراق من الهمّ . و « له » :خبر مقدّم . 
و « غرام التياعي » : مبتدأ مؤخر . و « بالفؤاد » : حال من المضاف إليه ، إذ المضاف بالنسبة إليه كالجزء . و « حرقتي » : معطوف على غرام التياعي . 
وقوله « بجفونكم » حال من الهاء في له .
 
والمعنى :
أن عندي سقما أنحلني ، وفي جفونكم سقم لأجله حصل احتراقي من الهمّ . فإن قلت : كيف يكون السقم الذي أنحله موجودا في جفونهم والحال أن السقم الذي ينحل غير السقم الذي يجمّل ، والضمير إنما يرجع إلى السقم الذي ينحل .
قلت : الظاهر أن الضمير عائد إلى السقم بقطع النظر عن كونه ينحل ، أي السقم من حيث هو إذا استقر بجفونكم فهو سبب احتراقي ، فالسقم في بدني يوجب النّحول ، وفي جفونكم سبب الجمال الموجب للغرام وللحرقة .
وما ألطف قول من قال :
أخذت حبة قلبي * فصغتها لك خالا
فقد كستني نحولا * كما كستك جمالا
 
( ن ) : قوله بجفونكم جمع جفن وهو غطاء العين كناية عن صور المخلوقات المحسوسة والمعقولة ، فإن كل صورة من ذلك غطاء على العين الإلهية من التجلّي بكل اسم من الأسماء الحسنى وسقم تلك الجفون هو زيادة ضعف المخلوق ، كما قال تعالى : وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [ النّساء : الآية 28 ] ، وقال : لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [ البقرة : الآية 264 ] .
وهذا الضعف فيهم من جملة الجمال الإلهي الظاهر في الأكوان . اهـ .
 
« 231 »
 
33 - فضعفي وسقمي ذا كرأي عواذلي  *** وذاك حديث النّفس عنكم برجعتي
 
[ الاعراب ]
الضعف بفتح الضاد وضمّها ضدّ القوة والسقم كقفل المرض . و « ذا » : إشارة إلى السقم . « وذاك » : إشارة إلى الضعف ، واعلم أنه يجوز في الموضعين جعل ذا إشارة ، والكاف للتشبيه ، ويجوز جعلها فيهما ذاك باسم الإشارة مع كاف الخطاب غير أني أختار أن تكون الإشارة إلى الضعف ذاك بكاف الخطاب لبعده وإلى السقم ذا وحدها وتكون الكاف للتشبيه ، ويجوز كون النشر مرتّبا وغير مرتّب ، والأولى كونه غير مرتّب لمناسبة الحديث للضعف فتأمّل . و « حديث النفس » عبارة عمّا يهجس فيها من الأفكار وإن لم يكن ذلك لتحصيل مطلب . وضعفي : مبتدأ وخبره ذاك حديث النفس « 1 » واسم الإشارة ظاهر أقيم مقام الضمير . والنكتة في استعمال الإشارة عوضا عن الضمير الإشارة إلى أن ضعفه وسقمه تميّزا كمال التميّز حتى صحّت الإشارة إليهما كالمحسوس وهو يسدّ مسدّ العائد . وسقمي : مبتدأ أيضا . 
وذا كرأي عواذلي : جملة وقعت خبرا عنه وفيه من وضع الظاهر موضع المضمر مع الاكتفاء باسم الإشارة عن العائد ما في الجملة الأولى والكلام من عطف الجمل كأنه قيل ضعفي ذاك حديث النفس وسقمي ذا كرأي عواذلي . وعنكم : متعلق برجعتي . وبرجعتي : متعلق بحديث النفس .
 
والمعنى :
رأي عواذلي رأي لا قوّة له فهو مثل سقمي وحديث النفس برجوعي عن محبتكم حديث ضعيف . وفي البيت اللف والنشر المرتّب والتناسب في ذكر الضعف والسقم وفي ذكر الرأي والحديث .
 
( ن ) : قوله ذا كرأي عواذلي وذا كحديث النفس ، فذا الأولى إشارة إلى الضعف والثانية إلى السقم ، يعني ضعفي مثل رأي عواذلي فإن رأيهم ضعيف جدّا ، وسقمي الذي اعتراني في محبتكم يشبه حديث نفسي بالرجوع عنكم فإنه أسقم من سقمي لأنه مشبه به وهو أشدّ من المشبه في صفة السقمية فيقال حديث سقيم . اهـ .
 
34 - وهي جسدي ممّا وهي جلدي *** لذا تحمّله يبلى وتبقى بليّتي
 
[ الاعراب ]
« وهي » يهي مثل وعد يعد بمعنى سقط . والجسد محرّكة جسم الإنسان والجنّ والملائكة .
..........................................................................................
( 1 ) قوله وخبره ذاك حديث النفس فيه نظر ظاهر .
 
« 232 »
 
( ن ) : الواو : للعطف ، وكلمة ها للتنبيه « 1 » لأنه أمر غريب . وجسدي :
مبتدأ . اه . وما : مصدرية . والجلد بالجيم : القوة . والتحمّل : تكلّف الحمل . ويبلى :
مثل يرضى من البلا بكسر الباء ، والقصر وهو الاضمحلال وذهاب الجدة في الثوب ونحوه .
 
والمعنى :
ضعف جسدي من ضعف قوّتي فلأجل ذلك يبلى تحمّل جسدي وتبقى بليّته، وذلك لأن الجسد تابع للقلب والباطن.
وقال أبو تمام في ذلك :
شاب رأسي وما أظنّ مشيب * الرأس إلا من فضل شيب فؤادي
وكذاك الأجساد في كل بؤس * ونعيم طلائع الأكباد
 
وقال أبو الحسن التهامي :
وتلهب الأحشاء شيب مفرقي * هذا البياض شواظ تلك النار
ولذا : جار ومجرور متعلق بقوله يبلى . وتحمّله بالرفع مبتدأ . وجملة يبلى خبره .
ومن متعلقة بوهى وهي تعليلية ، أي وهي جسدي لأجل أن وهي جلدي . وفي البيت الجناس اللاحق بين جسدي وجلدي ، والطّباق بين يبلى وتبقى ، وجناس شبه الاشتقاق بين يبلى وبلية .
 
ومما اتفق لنا فيما يناسب معنى البيت قولنا :
أرى الجسم مني يضمحل وإنما * محبتكم تقوى عليّ وتثبت
ولم تبق من غرس الوداد بقية * ولكن غصون الودّ في القلب تثبت
 
وقال ابن الدهان :
تعس القياس فللغرام قضية * ليست على نهج الحجى تنقاد
منها بقاء الشوق وهو بزعمهم * عرض وتفنى دونه الأجساد
 
35 - وعدت بما لم يبق منّي موضعا *** لضرّ لعوّادي حضوري كغيبتي
 
[ الاعراب ]
« عدت » بمعنى رجعت وصرت . وما : موصولة ، وهي واقعة على الأمر العظيم الذي هو الشوق وما يتبعه من لوازمه كالبعد والهجر وغيرهما . و « يبق » بضم الياء من أبقى يبقى بمعنى يترك . والعوّاد مثل زوّار لفظا ومعنى غير أنهم مخصوصون بزيارة المريض وقوله « لضرّ » متعلق بيبق ، أي صرت بسبب الشوق الذي لم يترك فيّ لضرّ
..........................................................................................
( 1 ) قوله وكلمة ها للتنبيه إلى قوله . اه لا يخفى فساده .
 
« 233 »
 
موضعا ، أي أنحلني الشوق وأفناني حتى أن الضرّ لو قصد الإقامة بفناء جسدي لم يجد موضعا يمكث فيه فإن العرض لا يقوم بنفسه . وقوله « لعوّادي » متعلق بقوله حضوري .
 
والمعنى :
عدت أي صرت بسبب هذا الفناء الذي طرأ على حضوري لعوّادي كغيبتي عنهم فلا يرونني عند قصد رؤيتي لا في حضور ولا في غيبة إذ العدم لا يرى . وما أحسن قوله رضي اللّه عنه :
تحكم في جسمي فلو أتى * لقبضي رسول ضلّ في موضع خالي
وقوله في اللامية رضي اللّه تعالى عنه :
خفيت ضني حتى لقد ضلّ عائدي * وكيف ترى العوّاد من لا له ظل
وقال المتنبي :
وشكيتي فقد السقام لأنه * قد كان لمّا كان لي أعضاء
 
( ن ) : يقول صرت بالأمر العظيم الذي لم يترك من جميعي موضعا يقوم به الضّرّ والأمر العظيم الذي فعل به ذلك هو تجلّي وانكشاف الوجود الحقّ له ، فإنه وجود واحد حيّ قائم بنفسه علم ما لا يعلمه سواه مما لا نهاية له مرتّبا على أكمل ترتيب فحكم أزلا بجميع ما عمله فقدّر كل شيء مما علمه بمقداره المعلوم وقضى بذلك فظهر كل شيء بنور وجوده الحق فلا وجود في نفس الأمر سوى وجوده الحق والكل فان مضمحل فإذا تحقّق العارف في نفسه بهذا الأمر كان فانيا في نفسه . اهـ .
 
36 - كأنّي هلال الشّك لولا تأوّهي *** خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي
 
[ الاعراب ]
« هلال الشك » : هو الذي يتحدّث الناس برؤيته ولم تثبت رؤيته . وقوله « لولا تأوّهي » وهي إلى آخره جملة للفرق بينه وبين هلال الشك فإن فيه تأوّها اقتضى اهتداء العيون لرؤيته لاستدلالها به بخلاف هلال الشك . والتأوّه مصدر تأوّه الرجل إذا قال أوّه . و « خفيت » من باب علمت ضدّ ظهرت . ولم تهد على صيغة المجهول .
و « العيون » : جمع عين بمعنى الجارحة المعروفة فإيقاع الهداية حينئذ حقيقة . وقوله فلم تهد العيون لرؤيتي : عطف على خفيت ، والفاء فيها معنى السببية ، والهداية الدلالة بلطف على طريق يوصل إلى المطلوب .
 
[ المعنى ]
ومعنى البيت : قد صرت في الخفاء مثل هلال الشك لا يرى وإن تحدّث بعض الناس برؤيته لكن التأوّه أوجب لي ظهورا في الجملة بحيث اهتدت العيون لرؤيتي .
 
« 234 »
 
وقد قال رضي اللّه عنه في اليائية :
كهلال الشك لولا أنه * أن عيني عينه لم تتأي
 
وقال المتنبي :
كفى بجسمي نحولا أنني رجل * لولا مخاطبتي إياك لم ترني
 
وقال آخر :
قد سمعتم أنينه من بعيد * فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين
واعلم أن التشبيه بهلال الشك في الخفاء مما اختص به الأستاذ رضي اللّه عنه فإنّا لم نر في كلام أحد من البلغاء هذا التشبيه واللّه تبارك وتعالى أعلم بحقيقة الحال .
 
( ن ) : يعني أنا عند نفسي بمنزلة هلال الشك أتحدّث في نفسي برؤيتي ولم تثبت رؤيتي عندي لأن عندي أن المرئي لي هو الوجود الحق المطلق وأن الموجود كله له تعالى لا لنفسي ، فلولا تألّمي وتوجّعي من نسبة الوجود إليّ عند قيامي بالتكاليف الشرعية التي لا بدّ لها من فاعل تصدر هي منه عن قصد ونيّة لم أتبيّن عند نفسي لنفسي ولم ترني عيون الناس على ما أنا عليه من الشهود والتحقّق بحقيقة الوجود وإنما تراني العيون معتوها مجنونا لا يوثق بكلامي ولا يلتفت إليّ لعدم انضباطي وانتظامي . اهـ .
 
37 - فجسمي وقلبي مستحيل وواجب *** وخدّي مندوب لجائز عبرتي
 
المستحيل : الشيء الذي انقلب عن حاله التي كان عليها . والواجب هنا بمعنى الساقط . والمندوب هنا اسم مفعول من ندبه للأمر دعاه إليه . والجائز هنا بمعنى السائر . والعبرة بفتح العين الدمعة قبل أن تفيض ، ولعل المراد هنا الأعم بقرينة الجائز فتأمل .
 
الإعراب :
فجسمي : مبتدأ ، وخبره مستحيل . وقلبي : مبتدأ معطوف على المبتدأ الأول . وواجب : خبره معطوف على الخبر ، مثل قولهم : زيد وعمرو كاتب وفقيه .
وخدّي مندوب : مبتدأ وخبر . ولجائز عبرتي : متعلق بقوله مندوب ، وإضافة الجائز إلى العبرة من إضافة الصفة إلى الموصوف .
 
والمعنى :
جسمي متغيّر منقلب عن الحال التي كان فيها . وقلبي ساقط . وخدّي معدّ لعبرتي السائلة السائرة . وفي ذكر المستحيل والواجب والمندوب والجائز إيهام
 
« 235 »
 
التورية فإن كلّا منها له معنيان لغوي واصطلاحي ، والاصطلاحي هو القريب ، واللغوي البعيد ، مع أن المراد منها هو البعيد . وفي ذكر هذه الأشياء إيهام التناسب فإن المراد منها غير المعاني الشرعية المتناسبة . وفي المصراع الأول أيضا اللف والنشر على الترتيب . وأما ذكر الجسم والقلب فتناسب على بابه .
 
( ن ) : يقول جسمي مستحيل ، أي اضمحل وانمحق لفنائه في التجلّي ، وقلبي واجب أي خفق وهبط من قوله تعالى : ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [ البقرة : الآية 74 ] وهي قلوب الغافلين عن التجلّي الإلهي . وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [ البقرة : الآية 74 ]
وهي قلوب العارفين بالتجلّي الإلهي المتحقّقين به . وقوله وخدّي مندوب اسم مفعول من الندبة أثر الجرح الباقي على الجلد يعني أن خدّه مجروح بكثرة سيلان دموعه من بكائه من خشية اللّه تعالى . اهـ .
 
38 - وقالوا جرت حمرا دموعك قلت عن *** أمور جرت في كثرة الشّوق قلّت
39 - نحرت لضيف الطّيف في جفني الكرى *** قرى فجرى دمعي دما فوق وجنتي
 
[ الاعراب ]
البيت الأول متعلق بالثاني فإن الثاني مبيّن لعلّة كون الدموع حمرا ، والضمير في قوله قالوا يعود إلى العذّال . ويروى عن أمور ومن أمور وحمرا حال مقدّم من الفاعل وهو دموعك . والرواية إن كانت عن فهي متعلقة بمحذوف ، أي ناشئة عن أمور . وإن كانت من فهي تعليلية متعلقة بجرت ، أي جرت من أجل أمور . وجرت الأولى بمعنى سالت . والثانية بمعنى صدرت .
وقوله « في كثرة الشوق » متعلق بقوله « قلّت » . وجملة جرت صفة لأمور . وكذلك جملة قلت في كثرة الشوق ، أي احمرّت دموعي لأمور صادرة قليلة في كثرة الشوق ، أي لأمور كثيرة في نفسها ، غير أنها قليلة بالنسبة إلى كثرة الشوق .
وكثرة الشوق عبارة عن كثرة أسبابه ، أو كثرة ما ينشأ عنه من السهر والدمع والحزن وغير ذلك . وفي البيت الجناس التام بين جرت وجرت ، والجناس المحرّف بين قلت وقلّت ، والمقابلة بين الكثرة والقلّة . ونحرت الشيء : أصبت نحره .
والضيف معروف للواحد والجمع . و « الطيف » : الخيال الطائف في المنام . و « في جفني » متعلق بنحرت .
و « الكرى » : مفعول نحرت . و « قرى » : منصوب على التعليل ، أي نحرته لأجل القرى . و « دما » : حال من دمعي ، وهو فاعل جرى . و « فوق وجنتي » :
متعلق بجرى .

« 236 »
والمعنى :
نحرت الكرى لأجل قرى الضيف الذي هو الخيال الطائف فجرى بسبب ذلك النحر دمعي دما فوق وجنتي . وفي البيت الجناس اللاحق بين ضيف وطيف ، وكذا بين الكرى والقرى ، وكذا بين جرى وكرى ، والكرى النوم والقرى بكسر القاف مصدر قراه ، أي أضافه ، وقوله فجرى عطف على نحرت ، وفي الفاء معنى السببية .
 
( ن ) : الضمير في قالوا راجع للأحبة . وقوله من أمور جمع أمر وهو الشأن المهم في طريق المحبة . وجرت أي صدرت من المحبوب الحقيقي كالصّدّ والهجران وإظهار الغضب عليّ والابتلاء الحسن في أحوال الدنيا والبدن . وتلك الأمور كثيرة في نفسها غير أنها قليلة بالنسبة إلى كثرة الشوق . ثم اعتذر عن حمرة دموعه بإشارته إلى أمر واحد من تلك الأمور الكثيرة ، فقال : ذبحت النوم في جفني لخيال المحبوب الذي زارني ، ومعنى الطيف الذي زاره ما يقع في القلب من الصور عند توجّهه إلى شهود الحق تعالى فإن الناس نيام كما ورد في الخبر فما يجدونه بمنزلة الخيال الذي يجده النائم فإذا استيقظ بالموت ذهب ما كان يجده . اهـ .
 
40 - فلا تنكروا إن مسّني ضرّ بينكم *** عليّ سؤالي كشف ذاك ورحمتي
 
[ الاعراب ]
جملة « فلا تنكروا » دالّة على جزاء الشرط المقدّر ، والتقدير إن مسّني ضرّ بينكم فلا تنكروا عليّ سؤال كشفه . و « ضرّ بينكم » : فاعل ومضاف إليه ، أي الضرّ صادر من بينكم وفراقكم ، فإضافته بيانية إن جعلت الضرّ نفس البين وبمعنى اللام إن جعلته منسوبا إليه صادرا عنه . و « على » متعلق بتنكروا . و « سؤالي » : مفعوله ، وهو مضاف إلى فاعله . و « كشف » : منصوب على أنه مفعول المصدر . « ورحمتي » : عطف على كشف ذاك .
 
والمعنى :
إن أصابني الضرّ الذي يكون من ألم البين فلا تنكروا عليّ سؤالي من اللّه إزالته وإعاذة نفع الوصال والقرب ، وكذا لا تنكروا عليّ أن أسأل من اللّه أن يرحمني ويزيل عنّي ضرّ البين ، وقد أشار إلى سبب نهيه عن إنكار سؤاله كشف الضّرّ وسؤاله الرحمة بقوله وصبري الخ .
 
( ن ) : الخطاب للأحبة المتحدّث عنهم في البيتين قبله ، والمعنى لا تنكروا عليّ يا أحبتي إذا طلبت منكم أن تكشفوا عنّي ما مسّني من ضرّ فرقتكم وبعدكم فإن أيوب عليه السلام قال : أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ الأنبياء : الآية 83 ] ،
ولغيره أسوة به فإنه فتح باب الاقتداء بشكاية الحال للأحبة . اهـ .
 
« 237 »
41 - وصبري أراه تحت قدري عليكم *** مطاقا وعنكم فاعذروا فوق قدرتي
 
[ الاعراب ]
فصبري : مبتدأ . و « عليكم » : متعلق به . والهاء و « مطاقا » : مفعولان لأرى .
و « تحت قدري » : متعلق بأراه . و « عنكم » : متعلق بصبري ، أي وصبري عنكم أراه فوق قدرتي . وجملة « فاعذروا » : معترضة بين معمولي أراه بحسب التقدير وإن قدرت صبري بعد واو وعنكم مبتدأ ، وجعلت فوق قدرتي خبرا عنه من غير تقدير أراه تكون جملة فاعذروا معترضة بين المبتدأ والخبر .
 
والمعنى :
صبري عليكم بتحمّل المشاقّ الصادرة من صدّكم وجوركم وجفاكم أراه مقدورا مطاقا تحت قدري ، وأما صبري عنكم بأن أنساكم أو أتناساكم عند بعدكم عني فذلك غير مقدور لي بل هو فوق قدرتي فليكن منكم العذر عن عدم صبري عنكم .
وما أحسن قوله رضي اللّه عنه :
وصبري صبر عنكم وعليكم * أرى أبدا عندي مرارته تحلو
وقال رضي اللّه عنه :
والصبر صبر عنكم وعليكم * عندي أراه إذا إذا ازاذا
وقال غيره :
الصبر يحمد في المواطن كلها * إلا عليك فإنه مذموم
وفي البيت الطّباق بين فوق وتحت ، وبين عنكم وعليكم . اهـ .
 
42 - ولمّا توافينا عشاء وضمّنا *** سواء سبيلي ذي طوى والثّنيّة
43 - ومنّنت وما ضنّت عليّ بوقفة *** تعادل عندي بالمعرّف وقفتي
44 - عتبت فلم تعتب كأن لم يكن *** لقى وما كان إلّا أن أشرت وأومت
 
[ الاعراب ]
التوافي من الأصحاب أن يأتي كلّ منهم الآخر . وسواء السبيل : وسط الطريق .
و « ذي طوى » مثلث الطاء ويجوز تنوينه : موضع قرب مكة . و « الثنية » : موضع أيضا .
و « منّت » بمعنى تفضلت . « وما ضنّت » : أي ما بخلت ، وعلى تنازع فيه منّت وضنّت .
وكذا قوله بوقفة . و « تعادل » بمعنى تساوي وتماثل .
والمعرّف على وزن معظّم : الموقف بعرفات . وعتبت أعتب ، وأعتب من باب نصر وضرب ، أي وصفت ما أجد .
وقوله « فلم تعتب » بضم التاء : مضارع أعتبه ، أي أعطاه العتبى ، أي الرّضى .
 
وقوله « كأن » هي مخفّفة من كأن . و « لقى » بكسر اللام : مصدر لقيه ، أي صادفه . وقوله « وما كان إلا أن أشرت وأومت » : أي لم يكن في الملاقاة بيني وبينها غير إشارة مني
 
« 238 »
 
وإشارة منها ، فإن الإشارة والإيماء بمعنى واحد ويحصلان بالكفّ والعين والحاجب .
ولما : أداة تدل على وجود شيء لوجود شيء آخر يليها فعل ماض لفظا أو معنى ، قال بعض النّحاة باسميّتها وبعضهم بحرفيّتها . وعشاء : ظرف لتوافينا . وسواء سبيلي ذي طوى والثّنيّة : فاعل ضمّنا وحذف نون سبيلي مع أنه مثنى لإضافته إلى ذي طوى .
 
ومنّت : معطوف على توافينا . وجملة تعادل عندي بالمعرّف وقفتي : في محل جر صفة وقفة ، وبالمعرف : متعلق بوقفة ومعمول المصدر يتقدم عليه إن كان ظرفا أو جارا ومجرورا . وعتبت : جوابا لما . واسم كأن المخفّفة ضمير الشأن . وجملة لم يكن لقى : خبرها ، ولقى : فاعل يكن . وكذا كان في قوله وما كان إلا أن أشرت وأومت : تامّة وفاعلها المصدر المسبوك من أن أشرت وأومت ،
أي : ما وجد مني ومنها إلا إشارة وإيماء ، وذلك إشارة إلى قصر زمن الموافاة . واعلم أن قوله وما كان إلا أن أشرت وأومت معطوف على خبر كأن المخففة أي كأنه لم يكن لقى ، وكأنه ما كان إلا الإشارة والإيماء .
 
ولو عطفنا وما كان على جملة كأن لم يكن لقى لكان المعنى ما كان في نفس الأمر غير الإشارة والإيماء فينافي حكمه في البيت الأول بحصول التوافي والضم ، وفي البيت الثاني بأنها منّت عليه بالوقفة التي تعادل عنده وقوفه في موقف عرفات اللّهمّ إلا أن يكون المعنى لم يحصل في تلك الوقفة والضم والتوافي غير الإشارة والإيماء فلا ينافي التلاقي ولا يلزم إدخال جملة وما كان إلا أن أشرت وأومت في حكم التشبيه فتأمّل . وفي البيت الثاني الطّباق بين منّت وضنّت ، والتناسب بين الإشارة والإيماء .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله توافينا كناية عن إقباله على حضرة الحق تعالى فإنه عيّن إقبال الحق تعالى عليه . وقوله عشاء كناية عن ظهور العدم المقدّر المصور بنور الوجود الحق بعد غروب شمس الذات الأحدية . وقوله سبيلي ذي طوى والثّنيّة فالأولى قرية قرب مكة كناية عن الحضرة الإلهية من قوله تعالى : إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [ طه : الآية 12 ] ،
والثّنيّة كناية عن النفس الإنسانية من قوله تعالى : فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( 11 ) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ ( 12 ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( 13 ) [ البلد : الآيات 11 - 13 ] ،
وهي عتق النفس بمعرفتها المستلزمة معرفة ربّها من رقّ الأغيار ، فالعشاء المذكور هو اختلاط نور وجود الحق بظلمة عدم النفس .
وكنى بالوقفة هنا عن وقوف العارف إذا تحقّق بفناء نفسه واضمحلال رسومه وبوجود ربّه وثبوت أسمائه وصفاته فتلك الوقفة المذكورة تساوي عنده تمام الحج والوقوف بعرفات ، والضمير في تعتب راجع إلى حضرة الحق تعالى إذ هي المحبوبة الحقيقية في الأبيات قبله ،

« 239 »

قال الشاعر :
أعاتب ذا المودّة من صديق * إذا ما رابني منه اجتناب
إذا ذهب العتاب فليس ودّ * ويبقى الودّ ما بقي العتاب
ثم قال : ولم يكن بعد الوقفة والعتب إلا أن أشرت مصرّحا إليها بالذلّ منّي والمسكنة والافتقار . وأومأت هي ، والإيماء من الحضرة المذكورة كناية عن إشارتها بعدم قبوله إما بحاجبها وهو أحد الأشخاص الإنسانية المحجوب عنها بنفسه من الغافلين أو بيدها في أثر من آثار قدرتها من إنسان أو غيره ، فإيماؤها أخفى من إشارته . اهـ .
 
45 - أيا كعبة الحسن الّتي لجمالها *** قلوب أولي الألباب لبّت وحجّت
 
[ الاعراب ]
الكعبة تطلق في اللغة لمعان منها البيت الحرام ، وإطلاقها على ما يريده الشيخ على نوع من التشبيه وإضافتها إلى الحسن ليعلم منها أن المراد منها غير كعبة الحج المعروفة . و « الحسن » : الجمال ، جمعه محاسن على غير قياس وهو مما يدرك بالذوق ولا يوصف . و « الألباب » جمع لب ، وهو العقل . و « لبّت » : أي قالت : لبّيك اللّهمّ لبّيك وأقامت على الطاعة . و « حجّت » : أي قصدت . وقوله لجمالها متعلق بلبّت ومتعلق حجّت مثله محذوف ، أي حجّت قلوب العقلاء لجمالها ولبّت له . وقلوب أولي الألباب : مبتدأ خبره لبّت وحجّت والكبرى صلة الموصول .
 
والمعنى :
أنادي كعبة الجمال التي أطاعتها قلوب أرباب العقول وقصدتها . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق في الألباب ولبّت ، والتناسب في ذكر الكعبة والحج والتلبية ، وفي ذكر الألباب والقلوب .
 
( ن ) : أراد بكعبة الحسن الحضرة المقصودة من حيث تجلّيها في قلوب العارفين الكاملين . اهـ .
 
46 - بريق الثّنايا منك أهدى لنا  *** سنا بريق الثّنايا فهو خير هديّة
 
[ الاعراب ]
البريق على وزن أمير التلألؤ واللمعان . و « الثنايا » جمع ثنية والمراد بها الأضراس الأربع التي في مقدم الفم ثنتان من فوق وثنتان من أسفل . والسّنا بالقصر : ضوء البرق . و « بريق » مصغّر برق . و « الثنايا » جمع ثنية ، والمراد بها العقبة أو طريقها أو الجبل أو الطريق فيه أو إليه . وقوله « فهو خير هدية » : أي بريق ثناياك الذي أهداه البرق هو خير هدية ، فقوله بريق الثنايا : مفعول مقدّم لأهدى ، وفاعله
 
« 240 »
 
سنا المضاف إلى بريق المضاف إلى الثنايا . وقوله منك : حال من بريق الثنايا الذي هو مفعول .
 
والمعنى :
أهدى لنا ضوء البريق الساطع من الجبال والعقبات لمعان ثناياك ، ومعنى إهدائه له إحضاره بالبال لأنه مثل البرق والشيء يذكر بمثله . وما أحسن قول الشيخ جمال الدين بن نباتة المصري رحمه اللّه من قصيدة يمدح بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
تذكّرت لمّا أن رأيت جبينها * هلال الدّجى والشيء بالشيء يذكر
ونكتة تصغير البرق تحبيبية ، كما قال رضي اللّه عنه :
ما قلت حبيبي من التحقير * بل يعذب اسم الشيء بالتصغير
واعلم أنه يجوز في توجيه البيت من جهة بيان الفاعل والمفعول مع توجيه التقديم والتأخير أوجه غير ما ذكرنا أعرضنا عن ذكرها اختيارا لما قرّرناه . وفي البيت الجناس التام بين الثنايا والثنايا ، والجناس المحرّف بين بريق وبريق ، وجناس الاشتقاق بين أهدى وهدية .
 
( ن ) : كنى ببريق أي لمعان الثنايا الأربع من المحبوبة المذكورة عن الأسماء الإلهية الأربعة التي هي أركان الإيجاد والتأثير في العوالم وهي الاسم الحيّ والعليم أعلى والمريد والقدير أسفل ، وكنى بسنا أي ضياء برق الثنايا المذكورة عن إيجاد العوالم على اختلاف تكاوينها فإنها ظاهرة عن أمر اللّه مكوّنة بالأسماء الأربعة الإلهية كلمع البرق وكلمح بالبصر
كما قال تعالى : وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( 50 ) [ القمر : الآية 50 ] ،
وقوله : فهو خير هدية لأن به تعرف الحقيقة المتجلية وهو النّعم كلها . اهـ .
 
47 - وأوحى لعيني أنّ قلبي مجاور  *** حماك فتاقت للجمال وحنّت
 
[ الاعراب ]
أوحى : أشار . والحمى على وزن إلى ما يحمى من شيء ، والمراد به هنا مكانها الذي حمى من تطرّق الحوادث إليه . وتاقت : فعل ماض من التّوق وهو الاشتياق والجمال الحسن في الخلق والخلق والفعل . « وحنّت » : فعل ماض من الحنين وهو الشّوق والطرب أو صوت عن حزن أو فرح وفاعل أوحى يعود لسنا بريق الثنايا ، أي أهدى بريق الثنايا وأوحى لعيني مجاورة قلبي لحمي الحبيبة فاشتاقت العين للجمال الباهر وحنّت إليه حيث علمت أن القلب مجاور للحمى وتذكّرت بعدها عنه .
وفي هذا البيت من الانسجام ما يأخذ بمجامع العقول والأفهام .


« 241 »
 
[ المعنى ]
( ن ) : يعني أن ضياء برق الثنايا أشار لعيني أن قلبي مجاور ، أي معتكف في المسجد . وقوله حماك كناية عن جملة الأكوان مما يلي المكوّن . ومجاورة القلب لذلك مراقبته للخلق الجديد . فتاقت أي اشتاقت عيني لجمال تلك الحقيقة الظاهرة بتجلّيها في آثار أفعالها . اهـ .
 
48 - ولولاك ما استهديت برقا ولا *** شجت فؤادي فأبكت إذ شدت ورق أيكة
 
[ الاعراب ]
استهديت البرق : أي طلبت منه هدية بريق ثناياك ، أو استهديته طلبت منه الهداية ، أي بأن يوحي لعيني عن مكان قلبي . فإن البيتين السابقين على هذا قد أفهما هدية لبريق الثنايا وهداية إلى مكان القلب واستهديت صالح لطلب الهدية والهداية فهو مستعمل فيهما على استعمال المشترك في معنييه . و « شجت » : فعل ماض من الشجو وهو الحزن ، وشجا وإن كان يستعمل تارة بمعنى أطرب إلا أن المراد منه هنا الحزن بقرينة أبكت . و « شدت » بالدال المهملة فعل ماض من الشدو وهو الغناء والترنّم . والورق على وزن قفل جمع ورقاء وهي الحمامة .
والأيكة : الشجرة الملتفّة الأغصان مع كثرة . ولولا هنا حرف جر على مذهب سيبويه لدخولها على ضمير متصل ولا تتعلق بشيء إذ لم تؤثّر في معنى مدخولها بدليل حكمهم بأن الكاف في مثله واقعة موقع المبتدأ وخبره مقدّر ، ومع كونها جارّة لا تخرج عن كونها حرف امتناع لوجود . وجملة ما استهديت برقا جوابها . ولا شجت : عطف على الجواب ، أي ولولاك ما شجت الفؤاد فأبكته مجازا أو أبكت العين لحزن الفؤاد ، فمفعول أبكت محذوف على كل تقدير .
وورق أيكة : فاعل تنازع فيه شجت وأبكت فهو لأحدهما وهو الثاني على مذهب البصريين والأول على مذهب الكوفيين ، وفاعل الآخر مضمر فيه يعود إليه .
 
والمعنى :
لولا ما أرجو من البرق أن يهدي لي صورة لمعان ثناياك أيتها المرأة ، أو يدل عيني على محل قلبي ما استهديت البرق لأنه في حدّ ذاته غير مناسب لي .
وكذا لولاك ما شجت الورق فؤادي وأعقبتني صفة البكاء عند ترنّمها فوق أغصان الأشجار . قال :
يا برق لولا الثنايا اللؤلؤيات * ما شاقني في الدجى منك ابتسامات
 
وما ألطف قول الآخر :
أحمامة فوق الأراكة خبري * بحياة من أبكاك ما أبكاك
أما أنا فبكيت من ألم الهوى * وفراق من أهوى فأنت كذاك

« 242 »
 
وفي البيت الجناس اللاحق بين شجت وشدت ، والانسجام التام وقولي إن في استهديت معنى الهداية يدلّ عليه قوله بعده فذاك هدى أهدي إليّ فتأمّل .
 
( ن ) : الخطاب للحقيقة المشار إليها في الأبيات قبله . وقوله ما استهديت برقا ، أي طلبت الهداية من البرق اللموع وهو برق الأكوان يهدي إليّ حقيقة المكوّن بالكشف عن تجلياته بأسمائه الحسنى وكنّى بالورق عن الروحانيات الكاملات من أرواح المشايخ المحقّقين وبالأيكة عن الجسم المختلف المزاج والطبيعة وجمع الورق لكثرة اختلاف مشارب الأرواح وأفرد الأيكة لاتحاد التركيب الجسماني من العناصر والطبائع ، فكل ورقاء على غصن من تلك الشجرة الواحدة.اهـ .
 
49 - فذاك هدى أهدى إليّ وهذه على *** العود إذ غنّت عن العود أغنت
 
[ الاعراب ]
الإشارة بذاك إلى البرق . والهدى بضم الهاء وفتح الدال مصدر هداه بمعنى أرشده . و « أهدى » : ماض من باب الأفعال بمعنى أتحف . والإشارة بهذه إلى ورق الأيكة لقربها ، وبذاك إلى البرق لبعده . والعود الأول عود الشجر ، والثاني عود آلة الطّرب . و « غنّت » من الغناء على وزن كساء وهو ما طرب به من الصوت . و « أغنت » :
أي صيّرت السّامع غنيّا عن سماع آلة الطرب . وذاك : مبتدأ . وهدى : مفعول مقدّم لأهدى إليّ ، وضمير أهدى يعود لاسم الإشارة ، والجملة خبر المبتدأ . وهذه : مبتدأ .
وعلى العود : متعلق بغنّت . وإذ : متعلق بقوله أغنت ، وهي مضافة إلى جملة غنّت .
وعن العود : متعلق بقوله أغنت ، وجملة قوله أغنت عن العود إذ غنّت على العود خبر هذه ، والكبرى عطف على الكبرى قبلها .
 
والمعنى :
فالبرق أهدى إليّ هدى وهو بريق ثناياك وإخباره لعيني عن مكان قلبي . وورق الأيكة أغنتني عن آلة الطرب بغنائها وإطرابها على الأغصان فشوّقتني إليك . وبهذا البيت تظهر حكمة قوله : ولولاك ما استهديت برقا البيت ، كأن قائلا قال له : أيّ مناسبة بينها وبين البرق وبين الورق حتى استهديت الأول وشجتك الثانية لأجلها ؟ فأجاب بقوله : لأن الأول أهدى إليّ الهدى من جانبها ، والثانية أغنتني في التشوّق إلى حمى الحبيبة عن نغمات عود آلة الطرب .
 
وللّه درّ القائل :
حمام الأراك ألا فأخبرينا * لمن تندبين وما تعلمينا
تعالي نقاسمك همّ النّوى * ونندب إخواننا الظاعنينا
ونسعدكنّ وتسعدّننا * فإن الحزين يواسي الحزينا
 
"243"
وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين هدى وأهدى ، والجناس التام بين العود والعود ، والجناس الناقص بين غنّت وأغنت ، واللّف والنشر المرتّب ، وأما الانسجام المقبول فذلك معنى يدركه أرباب الذوق بالعقول .
 
( ن ) : ذاك أي برق الأكوان ، وهذه أي ورق الروحانيات الكاملات . اهـ .
 
50 - أروم وقد طال المدى منك نظرة *** وكم من دماء دون مرماي طلّت
 
[ الاعراب ]
« أروم » : أطلب . و « المدى » : كفتى الغاية . و « دماء » : جمع دم . و « مرماي » :
مكان الرّمي ، والمراد به مكان قصده وهو النظرة ، يقال في كلامهم فلان يعرف مرمى طرفه ، أي موضع نظره . وطلت على البناء للمجهول على الأكثر ، بمعنى هدرت ولم يؤخذ حقها . ونظرة مفعول أروم . وجملة وقد طال المدى معترضة بين الفعل ومفعوله . ومنك : متعلق بأروم . وكم : خبرية مبتدأ . ومن : زائدة .
ودماء تمييز كم . ودون مرماي : متعلق بقوله طلّت . وجملة طلّت : خبر كم الخبرية .
 
والمعنى :
أروم وأتمنى منك نظرة حيث طال العهد بيني وبين تمنّيها ولكن كيف حصولها وقد هدرت قبل الوصول إليها دماء كثيرة ، فالمصراع الثاني يشبه الرجوع عن تمنّي النظرة .
وما أحسن قوله رضي اللّه عنه في اليائية :
كم قتيل من قبيل ماله * قوّد في حبّنا من كل حيّ
 
وفي البيت جناس القلب بين مدى ودماء ، والجناس الناقص بين طال وطلت والرجوع إن كان مرادا .
يحكى عنه رضي اللّه عنه أنه في احتضاره تمثّلت له الجنّة فنظر إليها وصرخ صرخة عظيمة وتأوّه وبكى وتغيّر لونه وأنشد :
إن كان منزلتي في الحبّ عندكم * ما قد رأيت فقد ضيّعت أيامي
أمنية ظفرت روحي بها زمنا * واليوم أحسبها أضغاث أحلام
ثم قال ليس هذا المقام الذي كنت أطلبه وقضيت عمري في السلوك لأجله ، فسمع قائلا يقول : يا عمر فما تروم ؟ فقال :
أروم وقد طال المدى منك نظرة * وكم من دماء دون مرماي طلت
ثم تهلّل وجهه وتبسّم فعلم الحاضرون أنه فاز بمرامه .
 
« 244 »
 
( ن ) : يعني كم من دماء رجال ادّعوا النظر إلى هذه المحبوبة فهدرت دماؤهم بحكم شريعتها إنكارا عليهم من علماء الرسوم مع الخلاف في جواز ذلك عندهم والمعتمد جوازه في الدنيا والآخرة . اهـ .
 
51 - وقد كنت أدعى قبل حبّيك باسلا *** فعدت به مستبسلا بعد منعتي
 
[ الاعراب ]
الباسل : الأسد أو الشجاع الغضبان . والمستبسل : هو الذي وطّن نفسه للموت .
والمنعة : ما يمنع الرجل من عشيرته وأصحابه . وأدعى بالبناء للمجهول بمعنى أسمّى وهو يتعدّى إلى مفعولين ، الأول نائب الفاعل وهو ضمير المتكلم ، وباسلا مفعوله الثاني . وقبل حبّيك : متعلق بأدعى ، والياء في حبّيك فاعل المصدر ، والكاف مفعوله .
وجملة أدعى قبل حبّيك باسلا : خبر كنت . وعدت بمعنى صرت يرفع الاسم وينصب الخبر . ومستبسلا خبرها ، والتاء اسمها . وبه : متعلق بعدت أو بالخبر . وبعد منعتي متعلق بعدت .
 
والمعنى :
كنت بالتحقيق قبل محبتي إياك مسمّى بالأسد لشجاعتي فصرت بسبب حبّيك مستسلما للموت بعد امتناعي وحفض « 1 » جانبي .
وما أحسن قوله رضي اللّه عنه في الذاليّة :
قد كان قبل يعدّ من قتلى رشا * أسدا لآساد الشّرى بذاذا
وهذه عادته رضي اللّه عنه يكرّر المعنى في ألفاظ مختلفة في وضوح الدلالة ويلبسه الخلع الفاخرة من ألفاظه الباهرة . وهذا لعمري هو البيان الصريح والبديع الصحيح في اللفظ الفصيح .
 
52 - أقاد أسيرا واصطباري مهاجري *** وأنجد أنصاري أسى بعد لهفتي
 
[ الاعراب ]
وهذا البيت يقرّر أمر استبساله في البيت السابق بألطف عبارة وأكمل إشارة ، ولعمري إن هذا هو السحر الحلال الذي يعزّ على مدارك الآمال . « أقاد » : فعل مضارع مجهول ، أي أسحب وأجرّ حال كوني أسيرا .
وحال كون اصطباري مهاجري : مقاطعي تاركي لا يألف مراتع قلبي .
و « أنجد » : فعل تفضيل من النجدة وهي الإعانة .
والأنصار جمع ناصر ، بمعنى معين . والأسى : الحزن . واللهفة واحدة اللهفات ، وهي بمعنى الحزن أيضا . وأنجد : مرفوع مبتدأ ، وفي هذا الكلام من تأكيد فقد أنصاره ما لا مزيد عليه .
 
« 245 »

والمعنى :
صار استسلامي بمرتبة أني أسحب مأسورا وأنا فاقد للصبر إذا استنجدت على تلك الحالة بمعين فأقوى من يعينني الحزن المستعقب لحزن آخر وهلمّ جرّا . وفي البيت إيهام التناسب بين المهاجر والأنصار وتأكيد العجز بما يوهم القوة في قوله : وأنجد أنصاري أسى بعد لهفة وهذا داخل في تأكيد المدح بما يشبه الذمّ إذ التسمية فيه باعتبار الأعمّ الأغلب حيث جعلوا منه قوله تعالى : وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [ النّساء : الآية 22 ] .
قال الشيخ التفتازاني رحمه اللّه وليتمّ تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه .
 
( ن ) : القائد هو الحقّ تعالى إلى حيث يريد والقائد من أمام يرى بخلاف السائق فإنه من وراء فلا يرى . وقوله أنجد الخ . . . يعنى أن الحزن والتحسّر وكثرة الاستغاثة أنجد ما يكون لي من الأنصار على تحمّل ما أجده من المشقّات والبلاء في طريق المحبة . اه .
 
53 - أما لك عن صدّ أمالك عن صد *** لظلمك ظلما منك ميل لعطفة
 
[ الاعراب ]
« أما لك » : استفهام عن النفي ، أي هل انتفى أن يكون لك ميل للعطفة . والصّدّ مصدر صدّه عن كذا منعه وصرفه . و « أمالك » : فعل ماض مزيد من باب الأفعال وهو أجوف وأصله أميلك فنقلت حركة الياء إلى الميم وقلبت الياء ألفا . والصدى على وزن فرح صفة مشبهة بمعنى العطشان . و « لظلمك » بفتح الظاء هو ماء الأسنان . وقوله « ظلما » بضم الظاء وهو وضع الشيء في غير موضعه .
والميل : مصدر مال إليه ، أي أحبّه وأراده ، وقد يستعمل مال عنه بمعنى كرهه ولم يردّه ولكن اللام في لعطفة تعين المعنى الأول والعطفة بفتح العين مصدر عطف عن الشيء إذا مال عنه . و « ميل لعطفة » : مبتدأ وخبره لك . وعن صدّ : متعلق بميل أو بعطفة ، أي هل يحصل لك ميل عن الصّدى للعطفة أو هل يحصل ميل لعطفة عن صد . وجملة أمالك عن صدّ في محل جر صفة صد . وعن صد : متعلق بأمالك . ولظلمك : متعلق بصد ، أي عطشان لظلمك . وقوله ظلما تعليل لأمالك . ومنك صفة ثانية لصد وإن شئت جعلت منك صفة لقوله ظلما لكن يكون ظلما تعليلا لمدخول عن الأولى لا لأمالك لعدم اتحاد الفاعل حينئذ فتأمّل .
ولعطفة : متعلق بميل ، واعلم أن عن الأولى إن علّقناها بميل فلا حاجة إلى حذف شيء لأن الذي يمال إليه قوله لعطفة وإن علقناها بعطفة فلا بدّ من تقدير الذي يمال إليه أي أمالك ميل للانعطاف عن الصد إلى الإقبال والوفاء فتدبّر .
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 32 إلى 67 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:14 pm

شرح قصيدة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 32 إلى 67 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الثالثة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 32 إلى 67 
« 246 »
والمعنى :
هل يحصل لك أيّتها الحبيبة ميل إلى الانعطاف ورجوع عن صد موصوف بأنه أمالك وأرجعك عن العطشان إلى ريقك ظلما لا بسبب ولا بذنب أوجب تلك الإمالة عنه . وفي البيت الجناس التام المركّب بين أمالك وأمالك ، وبين صدّ وصد ، وجناس التحريف بين الظلم والظلم ، وجناس التصحيف بين منك وميل .
( ن ) : قوله صد لظلمك : أي عطشان لريقك وماء فمك كناية عن العلوم الإلهية اللدنية . وقوله ظلما منك خطاب أيضا للمحبوبة والظلم منها مستحيل شرعا بحكم قوله تعالى : وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [ الكهف : الآية 49 ] ، وقوله : وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ فصّلت : الآية 46 ] . وهذا المستحيل عليه تعالى من حيث هو لا من حيث تجلّيه بظهور آثاره بأن يخلق الصور الإنسانية ويقوم على نفوسها بما كسبت من ظلم وعدل وغير ذلك . اهـ .
 
54 - فبلّ غليل من عليل على  *** شفا يبلّ شفاء منه أعظم منّة
 
البل مصدر بلّه ، جعل فيه نداوة . والغليل بالغين المعجمة ، كأمير العطش وشدّته ، أو حرارة الجوف . والعليل بالعين المهملة المريض . و « شفا » بفتح الشين والقصر هنا بقية الروح . و « يبلّ » : مضارع أبل زيد من علّته إذا حسنت حاله بعد الهزال . والشفاء بكسر الشين والمد بمعنى العافية .
 
الإعراب :
فبلّ غليل : مبتدأ ومضاف إليه . ومن عليل : صفة لغليل . وعلى شفا : صفة عليل . وشفاء : منصوب على أنه علّة يبل . ومنه : متعلق بيبلّ . ومن :
تعليلية ، والهاء في منه تعود إلى الظلم في البيت السابق أو إلى بل الغليل ، ويجوز أن يكون منه صفة شفاء ، أي شفاء ناشئا من بلّ الغليل ، أو من الظلم فتكون من ابتدائية .
وجملة يبل شفاء منه : صفة ثانية لعليل . وأعظم منّة : خبر المبتدأ ، ويجوز في منه أن يتعلق بالمبتدأ فتكون من صلة له ، أي بل غليل من الظلم أعظم منّة .
 
والمعنى :
بل العطش الكائن في هذا العليل الذي تحسن حاله منه لأجل الشفاء أعظم منّة . ويجوز في منه وجه آخر وهو أن يكون صلة لشفاء ، أي شفاء من ذلك الغليل . وفي البيت الجناس الناقص بين بل ويبل ، والمصحّف بين غليل وعليل ، والمحرّف بين شفا وشفاء ، والمصحّف أيضا بين منه وبين منّة .
 
55 - ولا تحسبي أنّي فنيت من الضّنا *** بغيرك بل فيك الصّبابة أبلت
 
[ الاعراب ]
هذا البيت مقرّر لأن سبب اضمحلاله عن مرتبة الوجود الخارجي إنما هو محبتها لا غيرها . « ولا تحسبي » من الحسبان بمعنى الظن . « فنيت » على وزن رضيت

« 247 »
 
من الفناء بفتح الفاء والمدّ والمراد منه العدم الجسماني . و « الضنا » بالضاد المعجمة السقم . و « الصبابة » : الشوق . و « أبلت » : ماض من البلى بكسر الباء والقصر وهو اضمحلال الذات . وأنى بفتح الهمزة . ومن الضنا وبغيرك : متعلق بفنيت وأن مع اسمها وخبرها في محل نصب على أنهما سدّا مسدّ مفعولي تحسبي . وبل هنا للترقّي إلى حصر أسباب البلى في محبتها بعد أن نهى عن أن تحسب الفناء الحاصل بسبب غيرها والحصر مفهوم من تقديم متعلق الفعل وهو فيك فإنه متعلق بأبلت . والصبابة :
مبتدأ . وجملة أبلت : خبره . ويروى من الصّبا بكسر الصاد والباء الموحدة ويكون المراد توقّيت فنائه بأنه من زمن الصبا فهو حينئذ على حذف مضاف .
 
56 - جمال محياك المصون لثامه *** عن اللّثم فيه عدت حيّا كميّت
 
[ الاعراب ]
الجمال : الحسن في الخلق والخلق . والمحيّا : الوجه . والمصون : المحفوظ .
واللثام على وزن كتاب ما على الفم من النّقاب . و « اللّثم » مصدر لثمه إذا قبّله .
و « عدت » بمعنى صرت . والحيّ : صاحب الحياة وهو خلاف الميت . وجمال محيّاك :
مبتدأ ومضاف إليه . والمصون : نعت سببي لمحياك . ولثامه : نائب فاعل المصون .
وعن اللّثم : متعلق بالمصون ، وفيه متعلق بعدت والتاء اسمها . وحيّا : خبرها .
والجملة من عدت واسمها وخبرها خبر جمال محياك . وميّت مشدد الياء على وزن فيعل .
 
والمعنى :
جمال وجهك المحفوظ لثامه عن القبلة صرت فيه وبسببه حيّا لكن مثل ميت لعدم الحركة والانتعاش لما استولى عليه من البلى والبلاء في محبتك . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين اللّثام واللّثم ، والطّباق بين الحيّ والميت .
 
( ن ) : الخطاب للمحبوبة ، والمحيّا الوجه من قوله تعالى : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ البقرة : الآية 115 ] ، وقوله المصون لثامه ، أي المحفوظ نقابه وحجابه وصف للوجه كناية عن كل شيء فإن كل شيء ساتر للوجه سترا عن الغافل الجاهل لا عن العارف المحقّق ، وكون الوجه مستورا عنه لأنه ليس من محارم هذه المحبوبة الحقيقية حتى تكشف وجهها له فيراها لعدم تقواه القلبية لأن النسب المعتبر الذي يقتضي المحرمية المقتضية لكشف الوجه له إنما هو التقوى في الباطن كما ورد في الحديث قوله تعالى في القيامة :
( اليوم أرفع أنسابكم وأضع نسبي أين المتقون ) ، وقوله عن اللّثم كناية عن التمتّع بالنقاب والحجاب من كل شيء . اهـ .
 
57 - وجنّبني حبّيك وصل معاشري *** وحبّبني ما عشت قطع عشيرتي


 
« 248 »
 
[ الاعراب ]
« جنبني » : أي صيّرني متجنّبا ، أي متباعدا ، ومنه الأجنبي . و « حبّيك » : أي حبّي إيّاك ، فالمصدر مضاف إليه فاعله الياء ومفعوله الكاف . والوصل خلاف القطع .
ومعاشر الرجل : مصاحبه . « وحبّبني » : أي صيّرني محبّا مائلا من المحبة . والعشيرة للرجل بنو أبيه الأدنون ، أو قبيلته . وحبّيك : فاعل جنّبني . ووصل معاشري : مفعوله ، وفاعل حبّبني يعود إلى فاعل جنّبني . وما : مصدرية ظرفية ، أي مدة عيشتي . وقطع عشيرتي : مفعول ومضاف إليه .
 
المعنى :
باعدني حبّك عن وصل مخالطي وحبّب إليّ مدة حياتي قطع أقاربي وأهل بيتي وما ذاك إلا أني اشتغلت بك عن كل مخلوق فلا أرى سواك ولا أريد إلا إياك . وقد قلت في ذلك :
شغلت بحبّيه عن الخلق جملة * سوى من به شاهدت بعض صفاته
وعمّا قليل يعدم الناس كلهم * لديّ فلا أهفو إلى غير ذاته
وفي البيت تجنيس التصحيف بين جنّبني وحبّبني ، والطّباق بين الوصل والقطع ، وجناس الاشتقاق بين معاشري وعشيرتي .
 
( ن ) : إذا تجنّب مواصلة من يعاشره بسبب اشتغال قلبه بمحبتها فكيف لا يتجنّب مواصلة غير المعاشر له وهو مقام العزلة والتجرّد عن الأغيار من أحوال السالكين الأخيار في ابتداء الطريق بمحض العناية والتوفيق . اهـ .
 
58 - وأبعدني عن أربعي بعد أربع *** شبابي وعقلي وارتياحي وصحّتي
 
[ الاعراب ]
« أبعدني » : صيّرني بعيدا . والأربع بفتح الهمزة وضمّ الباء جمع ربع وهو الدار بعينها حيث كانت . والأربع بفتح الهمزة والباء مرتبة العدد وأبدل منها شبابي وما عطف عليه بدل المفصل من المجمل وترك التاء ، والحال أنها عبارة عن أشياء غالبها مذكر لعدم ذكر معدودها أوّلا معها ، وفي مثل ذلك يجوز ترك التاء على أن كلّا من الأشياء يمكن تأويله بمؤنث أو لتغليب الصحة على البقية روما للاختصار وإلا لاختار التاء . وأبعدني : فعل ومفعول .
وعن أربعي : متعلق به . وبعد أربع بالرفع فاعل أبعدني ، وهو مضاف إلى العدد ويجوز في شبابي وما عطف عليه الرفع على القطع أو النصب عليه أيضا ، والمعنى أبعدني عن منازلي بعد أشياء أربعة عني وهي : الشباب والعقل والارتياح والصحة ، وإنما كان بعد هذه الأشياء يبعد الرجل عن منازله لأن من فقدها يصير ذليل النفس هابط المقام ، ولا شك أن الإنسان لا يرضى بالهوان بين
 
« 249 »
 
الإخوان والخلّان . وفي البيت جناس الاشتقاق بين أبعدني وبعد ، وجناس التحريف بين أربعي وأربع .
 
[ المعنى ]
( ن ) : الضمير في أبعدني راجع إلى حبّيك في البيت قبله وعن أربعي يعني عن عاداتي وطبائعي في الباطن ، أو عن دوري وما كنت أسكن فيه في الظاهر يعني حبّك أبعدني عن ذلك بعد إبعاده لي عن أوصاف أربع : الأول عصر شبيبتي فصرت أعجز عن تعاطي كل شيء ، والثاني عقلي فصرت لا أعي ولا أدرك شيئا ، والثالث ارتياحي أي نشاطي واهتمامي بالأمور ، والرابع صحتي أي عافيتي في بدني فما حال إنسان فقد شبابه فشاخ وانهزم وفقد عقله فجنّ وذهل وعدم إدراكه وفقد ارتياحه فزال نشاطه وابتهاجه بالأمور وذهبت عافية بدنه فمرض وسقم ، ثم بعد هذه الأربعة خرج عن أوطانه وساح في الأرض على هذه الحالة بسبب محبته هذه المحبوبة الحقيقية . اهـ .
 
59 - فلي بعد أوطاني سكون إلى الفلا  *** وبالوحش أنسي إذ من الإنس وحشتي
 
[ الاعراب ]
الأوطان جمع وطن وهو منزل الإقامة . والسكون : القرار ، وفيه معنى الميل ، ومن ثم تعدّى بإلى . و « الفلا » : جمع فلاة وهي المفازة التي لا ماء فيها . والوحش :
حيوان البرّ كالوحيش . والأنس بالضمّ ضدّ الوحشة . والإنس بالكسر البشر كالإنسان .
وسكون مبتدأ مؤخر . وإلى الفلا : متعلق به . ولي بعد أوطاني : خبر مقدّم .
وبالوحش : خبر مقدّم . وأنسي : مبتدأ مؤخر . وإذ : تعليلية متعلقة بما تعلق به بالوحش . ومن الإنس : خبر مقدّم . ووحشتي : مبتدأ مؤخر .
 
والمعنى :
بعدت عن منازلي بحيث صار لي ميل وقرار إلى الفلا بعد مفارقة أوطاني وصار لي أنس بالوحش واستيحاش من الإنس ، وهذا مقام الأنس بالحبيب والاستيحاش مما سواه . وفي البيت الجناس المحرّف واللاحق بين فلي والفلا ، والمحرّف أيضا بين أنسي والإنس ، والجناس الناقص بين الوحش والوحشة ، وقلب الكلمات في الجملة حيث قال بالوحش أنسي إذ من الإنس وحشتي . اهـ .


60 - وزهّد في وصلي الغواني إذ بدا *** تبلّج صبح الشّيب في جنح لمّتي
 
« وزهّد في وصلي الغواني » : أي صيّر صبح الشيب الغواني زاهدة في وصلي .
و « الغواني » جمع غانية وهي المرأة التي تستغني بحسنها عن الزينة ، أو التي تطلب ولا تطلب ، أو التي غنيت ببيت أبويها ، أو الشابة العفيفة ذات زوج أم لا . و « بدا » يبدو وظهر . التبلّج مصدر تبلج الصبح : أي أضاء وأشرق . و « الشيب » : الشعر وبياضه
 
« 250 »
 
كالمشيب . والجنح بالكسر والضم الطائفة من الليل . واللمّة بكسر اللام الشعر المجاور شحمة الأذن . ثم اعلم أن الرّواة كانوا يروون البيت هكذا وزهدني بالنون وهو غلط فاحش يوجب فساد اللفظ وإخراجه عن قانون القواعد العربية ويقتضي انقلاب المعنى في البيت الذي بعده ، فالصواب ما ذكرناه في حل البيت فتأمّل .
 
الإعراب :
زهد : فعل ماض . وفي وصلي : متعلق بزهد . والغواني بالنصب مفعول زهد . وتبلج بالرفع فاعل زهد وهو مضاف إلى صبح المضاف إلى الشيب والفاعل تنازع فيه بدا وزهد . وفي جنح لمّتي : متعلق بتبلج .
 
والمعنى :
تبلج صباح الشيب وإشراقه في ليل شعري زهد الغواني في وصلي حين ظهوره وصبح الشيب وجنح اللمّة من التشبيه البليغ لإضافة المشبّه به فيهما إلى المشبّه ويجوز أن يكون في الكلام استعارة بالكناية فيكون قد شبّه الشيب بالنهار وأثبت له شيئا من لوازم النهار وهو الصبح ، وشبّه اللّمّة بالليل وأثبت لها شيئا من لوازمه وهو الجنح . وفي البيت الطّباق بين الصبح والجنح ورائحة من شبه التقابل في زهد والغواني فليتدبر .
 
( ن ) : قوله الغواني كناية عن حضرات الأسماء الإلهية والتجليات الربانية ، وصبح الشيب كناية عن ظهور نور الوجود الحق وجنح اللمّة كناية عن الشعور بمعنى الإدراك وهو حديث النفس فإنه ينبت فيها كما ينبت الشعر في البدن وهو أسود فإذا شاب فأشرق وأضاء كان ذلك بظهور نور العلم اللدني الإلهي والفيض الإلهامي الرباني وإذا ظهر نور الوجود الحقّ أعرضت عنه غواني الأسماء الحسنى الإلهية التي هي لا عين الدات الإلهية ولا غيرها . اهـ .
 
61 - فرحن بحزن جازعات بعيد ما *** فرحن بحزن الجزع بي لشبيبتي
 
[ الاعراب ]
رحن : أي ذهبن ، والرواح وإن كان الغالب فيه استعماله بمعنى السير بعد الزّوال إلا أنه قد يستعمل بمعنى الذهاب مطلقا والضمير للغواني . والحزن بضم الحاء خلاف الفرح والباء فيه للمصاحبة . و « جازعات » : خائفات . و « بعيد » : تصغير بعد ، والمراد منه التقريب . و « فرحن » : أي سررن . والحزن بفتح الحاء ضدّ السهل .
 
و « الجزع » بكسر الجيم منعطف الوادي . والشبيبة » الشباب . والنون : فاعل وهو ضمير النسوة . وبحزن : حال منه . وجازعات : حال منه أيضا . وبعيد ما فرحن : متعلق برحن . وما : مصدرية . وبحزن الجزع : متعلق بفرحن ، والباء فيه بمعنى في . وبي :
صلة فرحن . ولشيبتي : متعلق به أيضا على أنه علّة له .
 
« 251 »
 
والمعنى :
لمّا تبلج صبح الليل في لمّتي زهد الغواني في وصلي فذهبن مصاحبات للحزن جازعات من اقترابي بعد فرحهن في حزن الجزع بي لشبيبتي ، وحيث كان فرحهنّ بالشباب فمن المعلوم أن حزنهنّ للمشيب . وفي البيت الجناس المحرّف في فرحن وفرحن ، وفي بحزن وبحزن ، وشبه الاشتقاق بين جازعات والجزع .
 
( ن ) : رواح الغواني : أي الأسماء الإلهية كناية عن رجوعهنّ إلى حقيقة الذات الأقدس في نظر المحبّ لفنائه وفناء كل شيء عنده فلا يبقى ما تتعلق الأسماء الإلهية بالتأثير فيه . وجزعهن : أي جزع الأسماء الإلهية كناية عن زيادة طلبهنّ للتأثير في الأشياء وكمال توجّههنّ إلى إيجاد العوالم فإذا انكشف للسّالك فناؤه في الوجود الحقّ اختفين عنه في ذات الوجود الحقّ بحيث لم يبق عنده غير ذات الوجود الحقّ سبحانه . والجزع كناية عن باطن الجسم الإنساني فإن الأسماء الإلهية متوجّهة على الروح ، والروح متوجّهة على الجسم الإنساني بالقوى العرضية . وفرحهنّ به كناية عن تصرّفهنّ فيه بتوجيه الروح الأمري وإعطاء كل اسم مقتضاه . وقوله لشبيبتي : أي لأجلها وهي حالة صغره وجهله مقام العرفان ورعونته وغفلته عن التحقّق بعالم الإمكان . اهـ .
 
62 - جهلن كلوّامي الهوى لا علمنه *** وخابوا وإني منه مكتهل فتي
 
[ الاعراب ]
الضمير في جهلن للغواني أيضا . واللوّام على وزن رمّان جمع لائم وهو المعنّف على المحبة . و « الهوى » بالقصر المحبة . وقوله « لا علمنه » : جملة دعائية يدعو بها على الغواني اللاتي جهلن هواه فنفرن عنه عند شيبه ظنّا منهنّ أن الشيب يذهب المحبّة ويسكن نارها ، والحال أن المحبة تزيد ولا تزول وتجول في القلب ولا تحول .
وقوله « وخابوا » : معطوف على لا علمنه وهي أيضا دعائية ، والضمير في خابوا اللوام . وقوله « وإني منه مكتهل فتي » :
إشارة إلى طول مدة محبته وقوّتها فهو من حيث طول مدّة الهوى مكتهل منه ومن حيث قوته وشدّته فتى فإن الفتى الشاب الناشئ والمكتهل من دخل الأربعين فكأنه يقول جدّة الهوى وقوته غير متغيّرة بتطاول زمان المحبة .
 
وقد قلت في ذلك :
أرى الجسم مني يضمحل وإنما * محبتكم تقوى عليّ وتثبت
ولم يبق من غرس السلو بقية * ولكن أصول الحبّ في القلب تنبت
وقال الشيخ إبراهيم بن رفاعة رضي اللّه تعالى عنه في هذا المعنى :
صرت شيخا وما تغيّر حالي * في هواهم وهمّتي كالشباب
 
« 252 »
 
وفي البيت المقابلة بين الجهل والعلم ، وبين الفتى والمكتهل .
 
[ المعنى ]
( ن ) : ضمير جهلهنّ للغواني أيضا ، وجهلهنّ كناية عن توجّه كل اسم إلهيّ على ما هو متوجّه إليه من الأثر المخصوص بمقتضى توجيه المسمّى الحق سبحانه فهو تعالى يعلم السّالك وجميع صفاته وأحواله على التمام ولكن لا يتّصف سبحانه بشيء من صفاته ولا بحال من أحواله . وقوله كلوّامي : أي مثل لوّامي على المحبة فإنهم أيضا لا يتّصفون بشيء من صفاتي ولا بحال من أحوالي فهم لا يعرفون أمري والهوى الذي أكابده وإن كان أثرا من آثار الأسماء الإلهية وهو من جملة معلوماتها فهو حالي لا حالها فهنّ جاهلات به ذوقا وإحساسا . وقوله لا علمنه جملة دعائية ، أي لا علمنه علم ذوق له واتّصاف به لأن ذلك من شأن الممكنات والأسماء قديمات أزليّات ليست بممكنات حتى يذقنه ويتّصفنّ به . وقوله وخابوا بضمير الجمع المذكر الراجع إلى اللوّام ، يعني ولا نالوا ما طلبوا مني من ترك الهوى والمحبة . اهـ .
 
63 - وفي قطعي اللّاحي عليك ولات ***  حين فيك جدال كان وجهك حجّتي
 
[ الاعراب ]
القطع للّاحي عبارة عن قطع خصومته وإلزامه فيما يتعلق بمحاجّته عن المحبة .
و « اللاحي » هو من يلحي المحبّ عن المحبة وينهاه عنها . و « عليك » متعلق باللاحي .
وقوله « ولات حين فيك جدال » : كان يريد به أن الاستغراق في سكر المحبة والاستهلاك في لذّات المشاهدة مانعان من الجدال مزيلان لمعنى القيل والقال غير أن وجهك كان كافيا في قطع خصومته ، فرؤية وجهك تمنعه من المعارضة والمنازعة والمجادلة والمدافعة فلا احتياج حينئذ إلى ترتيب مقدمات دليل ، ولا إنارة طريق ، ولا إيضاح سبيل . وفي قطع اللاحي متعلق بحجتي أي كان وجهك حجتي في قطعي اللاحي عليك . واسم لات محذوف . وحين جدال : خبرها . وفيك : واقع بين المضاف والمضاف إليه لأجل استقامة الوزن وهو متعلق بجدال . وجملة ولات حين فيك جدال : جملة معترضة بين المتعلق والمتعلق به . وحاصل المعنى وجهك دليلي في قطعي من يلحي عليك ، فهو كفاية في ذلك وإلا فليس الحين حين جدال في محبتك لضيق المجال عن ترتيب الاستدلال واللّه أعلم بحقيقة الحال .
 
[ المعنى ]
( ن ) : الضمير في عليك للمحبوبة الحقيقية المشار إليها في أثناء الكلام المتقدّم يعني في قطعي اللاحي بالحجة وإلزامه بها على إثبات عذري في المحبة وثبوتها عندي اضطرارا مني من دون اختياري قد كان وجهك حينئذ حجتي والحال أن الحين ليس حين جدال ومخاصمة في محبة هذه المحبوبة لأنها حاضرة لا غيبة لها عن المحبّ ،
« 253 »
 
والوجه هنا هو الذات العليّة من قوله : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ البقرة : الآية 115 ] . اهـ .
 
64 - فأصبح لي من بعد ما كان عاذلا *** به عاذرا بل صار من أهل نجدتي
 
[ الاعراب ]
أصبح اللاحي وصار من بعد لومه لي عاذرا لي باسطا لعذري موضحا لأسباب محبتي قائلا لا لوم على هذا في المحبة . ثم ترقّى في أمر اللاحي وقال « بل صار من أهل نجدتي » وإعانتي أي وضح عذري لديه وثبت برهان محبتي بين يديه فهو الآن مسعد لي بعد أن كان مسعدا عليّ . واسم أصبح ضمير يعود إلى اللاحي ، وخبرها قوله عاذرا ، واسم كان ضمير يعود إليه أيضا ، وخبرها قوله عاذرا وبه متعلق بخبر أصبح ، وبل هنا للترقّي لا للإبطال ، واسم صار يعود إلى اللاحي ، ومن أهل نجدتها خبرها . وفي البيت الجناس المضارع بين العاذل والعاذر . وما أحسن قول القائل :
أبصره عاذلي عليه * ولم يكن قبل ذا رآه
فقال لي لو عشقت هذا * ما لامك الناس في هواه
فظلّ من حيث ليس يدري * يأمر بالحبّ من نهاه
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله به : أي بسبب الوجه المذكور الذي هو أقوى حجّة في المحبة ، وصار ذلك اللاحي من أهل معاونتي في مهمات أموري عندما رأى الوجه المذكور لأن لومه لي على المحبة إنما هو بسبب جهله بالمحبوب ، وكذلك المنكرون على أهل اللّه لو رأت عيونهم ما رأته عيون المحبّين من النور الإلهي الظاهر والجمال الربّاني القاهر لعذروهم وتركوا لومهم . اهـ .
 
65 - وحجّي عمري هاديا ظلّ مهديا *** ضلال ملامي مثل حجّي وعمرتي
 
الحج هنا مصدر حجّه إذا غلبه في المحاجّة . و « عمري » بفتح العين بمعنى العمر بضمّها غير أن القسم لا يستعمل فيه إلا مفتوحا والغالب فيه اقتران اللام به كقوله تعالى : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ الحجر : الآية 72 ] ،
وقد لا يقترن كما نطق به رضي اللّه عنه . والهادي : اسم فاعل من الهداية التي هي الدلالة بلطف على طريق يوصل إلى المطلوب ، أي من شأنه الإيصال وإن لم يوصل بالفعل ، وقيل يشترط الإيصال بالفعل ، وقيل إن تعدّى الفعل إلى المفعول الثاني بنفسه فلا بدّ من الإيصال أو بحرف الجرّ فلا يشترط أقوال ثلاثة مذكورة في محلها . و « ظل » بمعنى استمر . والمهدي : اسم فاعل من أهدى هدية. والضلال : خلاف الهدى. والملام :
 
« 254 »
العذل . وقوله « مثل حجّي وعمرتي » : أي مثل قصدي مكة للنّسك ، والعمرة تنقص عن الحج بركن واحد وهو الوقوف بعرفات .
 
الإعراب :
حجّي : مبتدأ ، وهو مصدر مضاف إلى فاعله . وهاديا : مفعوله .
وعمري : مبتدأ محذوف الخبر ، أي عمري قسمي فتكون جملة القسم معترضة بين المبتدأ والخبر . وقوله ظلّ مهديا ضلال ملامي : فعل من الأفعال الناقصة واسمه ضمير يعود إلى قوله هاديا . ومهديا : خبره . وضلال : منصوب مفعوله وهو مضاف إلى ملامي ، والجملة في محل نصب على أنها صفة هاديا ومثل حجّي وعمرتي بالرفع خبر حجّي .
 
والمعنى :
غلبني بالحجة الرجل الذي يزعم أنه هاد وإن كان في نفس الأمر إنما هو مهد ضلال الملام مساوية في الآخرة للحجّ والعمرة ، وذلك لأني بيّنت له طريق الهدى ونهيته في المعنى عن طريق الضلال . وقد قال صلى اللّه عليه وسلم : « لأن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير لك من عبادة الثقلين » . وفي البيت الجناس التام بين حجّي وحجّي ، والجناس المحرّف بين عمري وعمرتي ، وجناس الاشتقاق بين هاديا ومهديّا .
 
( ن ) : والمعنى أقسم بعمري أن إقامتي الحجّة برؤية وجه المحبوب لهذا اللاحي الذي يزعم بنفسه لجهله أنه يهدي إلى الصواب بلومه لي في المحبة الإلهية وإنما هو في نفس الأمر يهدي لي ضلال لومه وثواب إلزامي له وأجر هدايتي إيّاه يعادل ثواب حجّي وأجر عمرتي في سبيل اللّه تعالى . اهـ .
 
66 - رأى رجبا سمعي الأبيّ ولومي *** المحرّم عن لؤم وغشّ النّصيحة
 
[ الاعراب ]
المراد من رجب هنا الأصمّ لأنه من أوصافه فهو قريب من استعمال حاتم مثلا وإرادة وصفه المشهور به وهو الجود فيكون استعارة . و « رأى » هنا من الرؤية العلمية .
 
و « الأبيّ » فعيل من أبى الشيء إذا كرهه . وأما « المحرّم » هنا فهو اسم مفعول من حرّم فلان الشيء إذا جعله ممتنعا ومدخول عن هو اللؤم بالهمز ضد الكرم . والغشّ بكسر الغين عدم محض « النصيحة » وهو اسم مصدر ، والنصيحة اسم مصدر أيضا وهي خلاف الغش . ومفعول رأى الأول سمعي ، والأبيّ بالنصب نعت له . ورجبا : مفعوله الثاني ، أي علم الهادي سمعي الأبيّ أصم ورأى لومي المحرّم .
و « عن لؤم وغشّ النصيحة » متعلق برجب الذي هو بمعنى الأصمّ ، أي رأى سمعي أصم عن لؤم وغشّ النصيحة . وقوله ولومي المحرّم يجوز فيهما الرفع على أنهما مبتدأ وخبر ، وتكون الجملة معترضة بين المتعلق والمتعلق فلا يكون معنى الرؤية منسحبا عليها .
 
« 255 »
والمعنى :
لما غلبت ذلك الهادي وحججته علم الهادي أن سمعي أصمّ عن سماع لومه وغش نصيحته ولومي في المحبة محرّم لأنه صادر في غير موضعه . وفي البيت إيهام التناسب بين رجب والمحرّم ، والجناس المحرّف بين لوم ولؤم ، وإن قلبنا همزة الثاني واوا فهو لاحق لا محرّف ، والمقابلة بين الغش والنصيحة . اهـ .
 
67 - وكم رام سلواني هواك ميمّما *** سواك وأنّى عنك تبديل نيّتي
 
« كم » هنا خبرية مميّزها محذوف ، أي كم مرة . و « رام » بمعنى أراد . والسلوان بكسر السين النسيان ، والميم اسم فاعل من يمّم فلان الأرض الفلانية ، أي قصدها وأنى بهمزة مفتوحة ونون مشدّدة وألف مقصورة ، واعلم أن هذه الكلمة تستعمل تارة بمعنى كيف ويجب أن يكون بعدها فعل نحو فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [ البقرة : الآية 223 ] ،
وتستعمل تازة أخرى بمعنى من أين نحو : أَنَّى لَكِ هذا [ آل عمران : الآية 37 ] ،
أي من أين لك هذا الرزق الآتي كل يوم . فإذا كان كذلك فأنّى التي في البيت إن كانت بمعنى كيف يجب تقدير الفعل بعدها أي وأنّى يحصل تبديل نيّتي عنك ؟
أي من أيّ مكان ومن أيّ قلب حصل تبديل النيّة عنك حتى يروم الهادي سلواني عنك طالبا غيرك .
 
الإعراب :
كم : خبرية محلها نصب على المصدرية والعامل فيها رام ، وفاعل رام يعود إلى الهادي . وسلواني : مفعوله وهو مضاف إلى الياء وهي فاعله . وهواك :
مفعوله . وميمّما : حال من فاعل المصدر فتكون مقدّرة . وسواك : مفعول الحال .
وأنّى إن كانت بمعنى كيف فالفعل مقدّر حال مقدّم من فاعل الفعل المقدّر ، وإن كانت بمعنى من أين فهي خبر مقدّم . وتبديل نيّتي : مبتدأ ومضاف إليه .
وعنك :
متعلق بتبديل على نوع من التضمين ، أي منصرفا عنك ، والاستفهام في وأنّى للاستبعاد أو للإنكار وهذا يفهم عدم التبديل بالطريق الأولى لأن تبديل النيّة إذا كان بعيدا غير موجود فما بالك بالتبديل نفسه .
 
والمعنى :
رام الهادي مرّات كثيرة سلوى لمحبتك وإن أقصد بهواي غيرك ، ولكن ليس تبديل نيّتي عنك ممكنا فضلا عن تبديل هواي . وما أحسن قول الأرجاني القاضي ناصح الدين رحمه اللّه تعالى :
حبّي بلومك يا عذول يزيد * فاستبق سهمك فالرّمي بعيد
 
( ن ) : الخطاب للمحبوبة يعني كم مرة رام اللاحي سلواني هواك قبل أن ألزمه بالحجّة . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 68 إلى 103 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:15 pm

شرح قصيدة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 68 إلى 103 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الثالثة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 86 إلى 103 
68 - وقال تلافى ما بقي منك *** قلت ما أراني إلّا للتّلاف تلفّتي
 
[ الاعراب ]
« تلافى » : فعل أمر من التلافي ، وهو التدارك ، والألف « 1 » إشباع من فتحة الفاء وإلا فالأمر يقتضي حذف الألف فهو على حدّ قوله تعالى : إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [ يوسف : الآية 90 ] . و « ما » : واقعة على الرمق وبقية الحياة وهو مفعول تلافى .
و « منك » : متعلق ببقي . و « قلت » : استئناف مقرّر جوابه للهادي . و « ما » : نافية .
و « أراني » بضم الهمزة بمعنى أظنني ، أو بفتحها بمعنى أجدني ، والاستثناء مفرّغ والمستثنى منه المحذوف أعمّ الصفات ، أي ما أجدني في صفة من الصفات إلا في صفة التلفّت للتلاف ، فالجملة بعد إلا في محل النصب على أنها مفعول ثان لأراني على كلا معنييه . ولو قدّرت الرؤية بصرية لكانت الجملة بعد إلا في محل النصب على الحالية وكان المستثنى منه أعمّ الأحوال .
 
[ المعنى ]
ومعنى البيت : قال لي الناصح حيث قصّرت فيما سلف ولم تبال بأسباب التّلف فتدارك ما بقي فيك من رمق الحياة فلعلك أن تدرك الشفاء والنجاة . فقلت له : دع عنك هذه الكلمات فما لي إلى غير التلاف التفات ، فكيف الخلاص وَلاتَ حِينَ مَناصٍ [ ص : الآية 3 ] .
وفي البيت المراجعة في قال وقلت ، والتجنيس بين تلافي والتلاف مع قرب حروف تلفّتي لهاتين الكلمتين . وأما ما فيه من الانسجام فذلك طور وراء طور الأفهام بل تجد فيه حالة لا يمكن وصفها باللسان بل يدركها الذوق ولا يوضحها البيان فهي كالحسن في الوجه الحسن النضير ولا ينبئك عن ذلك مثل خبير . اهـ .
 
69 - إبائي أبى إلّا خلافي ناصحا *** يحاول منّي شيمة غير شيمتي
 
[ الاعراب ]
« إبائي » بالمدّ مصدر أبى الشيء إذا كرهه ، وأبى بمعنى كره ، والاستثناء مفرّغ أي إبائي أبى كل شيء إلا خلافي للناصح الذي يحاول مني ويطلب طبيعة في السلوّ ليست طبيعتي وإسناد الكراهية إلى الكراهة مجاز عقلي لأنه هو الكاره لما عدا المخالفة المذكورة في الحقيقة ، وفيه من المبالغة ما لا يخفى . و « خلافي » : مصدر مضاف إلى فاعله . ومفعوله قوله ناصحا . وجملة « يحاول مني شيمة غير شيمتي » : في محل نصب على أنها صفة لمفعول المصدر .
..........................................................................................
( 1 ) قوله والألف الخ . . . لا حاجة لها في البيت إلا إن كانت الرواية بها .
 
« 257 »
والمعنى :
كره امتناعي كل شيء مما يتعلق بالعذل في المحبة إلا مخالفتي للناصح الذي يروم مني نسيان الحميم ويطلب مني جبلة جبلت على غيرها من الزمن القديم .
وما أحسن قول المتنبي :
يراد من القلب نسيانكم * وتأبى الطّباع على الناقل
 
واعلم أن المصراع الثاني قد ضمّنه الشيخ من كلام البحتري من قصيدة مطلعها :
بنا أنت من مجفوة لم تعتب * ومعذورة في هجرها لم تؤنب
ونازحة والدار منها قريبة * وما قرب ثاو في الثّرى بمغيب
مضت نوب الأيام فينا بفرقة * متى ما تغالب بالتجلّد تغلب
فإن أبك لا أشف الغليل وإن أدع * أدع حرقة في الصدر ذات تلهّب
فيا لائمي في عبرة قد سفحتها * لبين وأخرى قبلها لتجنّب
تحاول مني شيمة غير شيمتي * وتطلب مني مذهبا غير مذهبي
فما كبدي بالمستطيعة للبكا * فأسلو ولا قلبي كثير التقلّب
مضت دون ذاك الوصل أيام فخرهم * وطارت بذاك العيش عنقاء مغرب
ولما تناءينا عن الجزع وانتأى * مشرّق ركب مصعّد عن مغرّب
تيقنت أن لا دارس بعد عالج * تسرّ وأن لا خلّة بعد زينب
عسى وجفات العيس في غلس الدجى * وطيّ الفيافي سبسبا بعد سبسب
تبلغني الفتح بن خاقان أنه * نهاية آمالي وغاية مطلبي
 
ولكن لا يخفى أن وقوع المصراع في شعر الشيخ الأستاذ أحسن موقعا منه في بيت البحتري وأجود سبكا مع ما فيه من زيادة التجنيس في مصراعه الأوّل وارتباطه بالأول غريب فإنه جعله صفة لكلمة فيه فصار كأنه جزء منه في الأصل وهذا من محاسن التضمين .
 
70 - يلذّ له عذلي عليك كأنّما *** يرى منّه منّي وسلواه سلوتي
 
لذّ الشيء صار لذيذا ، ولذّ الشيء واستلذّه والتذّه وجده لذيذا ، وما نحن فيه من الأوّل ، والمنّ الأوّل هو ما وقع من الطلّ على حجر أو شجر ويحلو وينعقد عسلا ويجفّ جفاف الصّمغ ، والمشهور بهذا الاسم ما وقع على شجر البلّوط . والمنّ الثاني بمعنى القطع . والسلوى العسل . والسلوة بالفتح ، وتضمّ مصدر من سلاه ، أي نسيه .
 
« 258 »
 
الإعراب :
عذلي : فاعل يلذ . وعليك : متعلق به ، أي يلتذّ الناصح بعذلي عليك ، أي لأجلك ، والجملة صفة ثانية لناصح أو مستأنفة لبيان حاله ثانيا . وما في كأنما : كافّة . ويرى : علمية ومفعولاها منه مني وسلواه سلوتي : مفعولان لها أيضا بواسطة استحضارها بالعطف .
 
والمعنى :
يلذّ هذا الناصح بعذلي على حبّك حتى كأنّ قطعي محبّتك منه وعسله الذي يستحليه وكأنّ سلوتي عنك سلواه وحلاوته التي يرتضيها . وفي البيت الجناس التام بين منه ومني ، واللاحق بين سلوتي وسلواه .
 
( ن ) : السلوى طائر معروف واحدته سلواة ، يعني يرى طيره الذي يأكل لحمه ويلتذّ بأكله السلوة عن المحبة ، والمعنى يرى شرابه اللذيذ قطعي عن المحبة وتركها ومأكله اللذيذ سلواني محبة المحبوب . اهـ .
 
71 - ومعرضة عن سامر الجفن راهب *** الفؤاد المعنّى مسلم النّفس صدّت
 
هذا البيت استفتاح في بيان حاله مع الحبيب بعد الفراغ من بيانه مع اللاحي والناصح والرقيب . فالمعرضة : اسم فاعل للمؤنث من أعرض زيد إذا صدّ ، والواو واو ربّ . و « سامر الجفن » : ساهر الجفن الذي لا تنام عينه . و « راهب الفؤاد » : خائف القلب من رهب كعلم رهبة . و « مسلم النفس » : من أسلم نفسه واستسلم لحكم القضاء والقدر .
 
الإعراب :
معرضة بالجرّ والجارّ ربّ المقدّرة بعد الواو لا الواو نفسها خلافا لقوم ومحل مجرور ربّ الرفع على الابتداء . وعن سامر الجفن : يحتمل أن يكون متعلقا بمعرضة ، ويحتمل أن يتعلق بصدّت الواقع في آخر البيت . وراهب الفؤاد بالجرّ صفة لموصوف محذوف ، أي عن رجل سامر الجفن راهب الفؤاد ومسلم النفس مثله وإن جوّز أن توصف الصفة كما هو مذهب البعض فهما صفتان لسامر الجفن ، والمعنى مجرور على أنه صفة الفؤاد ، وجملة صدّت في محل رفع على أنها خبر المبتدأ الذي هو مجرور ربّ ، والسامر والراهب والمسلم مضافات إلى فواعلها « 1 » .
 
والمعنى :
ربّ معرضة صدّت عن محب ساهر الجفن خائف القلب الحزين مستسلم النفس . وفي البيت إيهام التناسب بذكر السامر والراهب والمسلم وليس تناسبا
..........................................................................................
( 1 ) قوله إلى فواعلها غير ظاهر في الأخير باعتبار حله الأول وظاهر باعتبار الثاني . اه .

« 259 »
 
إذ المراد بها معانيها اللغوية لا معاني الأديان المختلفة ولكن التناسب حقيقة واقع بين الجفن والفؤاد والنفس .
 
( ن ) : المعرضة هي المحبوبة الحقيقية وإعراضها كناية عن كمال تنزّهها وتجرّدها عن المواد كلها ، وقوله سامر الجفن يعني عينه لم تنم عن مشاهدة تلك المحبوبة المعرضة عنه فإعراضه لم يزل مع شهوده لها . اهـ .
 
72 - تناءت فكانت لذّة العيش وانقضت ***  بعمري فأيدي البين مدّت لمدّتي
 
« تناءت » : أي تباعدت . واللذّة نقيض الألم . و « العيش » : الحياة . والباء في بعمري للمعيّة . وفي أيدي البين مدّت : استعارة بالكناية ، كأنه شبّه البين بفرقة محاربين يغتالون النفوس ، وحذف المشبّه به وكنى عنه بإثبات شيء من لوازمه وهو الأيدي للمشبه فإثباتها تخييل وذكر المدّ ترشيح .
 
الإعراب :
فاعل تناءت ضمير يعود إلى المعرضة . واسم كانت كذلك . ولذّة العيش بالنصب خبرها ، ولا تخفى المبالغة في الحكم عليها بأنها نفس لذّة العيش .
وفاعل انقضت ضمير يعود إلى لذّة العيش . وبعمري متعلق بقوله انقضت ، أي انقضت مصاحبة في الانقضاء لعمري . وكذلك استأنف بيان انقضاء عمره بقوله فأيدي البين مدّت لمدتي ، أي أيدي الفراق تطاولت لتناول مدة عمري ونهبها هذا هو الوجه الصحيح في حلّ البيت ، ويروى على أوجه أخر بعضها صحيح ولكنه بعيد . وفي البيت الجناس التام بين مدّت ومدتي .
 
[ المعنى ]
( ن ) : تناءت أي تباعدت عني تلك الحبيبة المعرضة بإزالة الخاطر المستقيم لأمر اقتضاه الوقت لا بدّ من نفاذه فكانت لذّة الحياة الدنيا وانقضت تلك اللذّة بعمره ، يعني لا يعدّ من عمره إلا ذوقه لتلك اللذّة فلما تباعدت عنه بإسدال الحجاب انقضت لذّته فانقضى عمره . اه .
 
73 - وبانت فأمّا حسن صبري فخانني *** وأمّا جفوني بالبكاء فوفّت
 
[ الاعراب ]
« بانت » : فارقت الحبيبة المعرضة فكأنّ سائلا يسأله ويقول : كيف تفصيل حالك بعدها ؟ فقال : فأما حسن صبري فقد خان ولم يسعفني عند فراقها . وأما الجفون فقد وفت بالبكاء وأسعفت عند الفراق . وأما حرف شرط وتفصيل وتأكيد . وحسن صبري :
مبتدأ والرابط للجواب الفاء . والجملة بعدها خبر ومثلها الجملة بعدها . وفي البيت المقابلة بين الخيانة والوفاء وفيه كمال الانسجام الذي يحرّك بواعث الغرام .
« 260 »
 
[ المعنى ]
( ن ) : يقول بعدت تلك الحبيبة فخانني صبري ولم يف ببقائه على حاله ، وأما جفوني - أي عيوني - فكنى عنها بالجفون لكونها أغطيتها إشارة إلى أنه في ذلك الحين لم يفن فهو مع الغطاء وهو الحجاب النفساني الذي يقتضيه بعد المحبوبة عنه . وقوله بالبكاء ، أي بما يظهر من تلك الجفون من الدموع كناية عن الأعمال النفسانية . وقوله فوفت أي أدّت ذلك على الوفاء . اهـ .
 
74 - فلم ير طرفي بعدها ما يسرّني *** فنومي كصبحي حيث كانت مسرّتي
 
[ الاعراب ]
الفاء عطف على بانت وفيها معنى السببية . والطّرف : العين ، ولا يجمع لأنه في الأصل مصدر والضمير في بعدها للمعرضة . و « ما » : مفعول ير وهي إما موصولة أو موصوفة . ونومي : مبتدأ وخبره حيث كانت مسرّتي . و « كصبحي » :
حال من الضمير المستقر في الظرف المستقر ، والمعنى نومي استقر في مكان وجدت فيه مسرّتي وقد قرّر أن طرفه لم ير مثلها ، وذكر أيضا أن النوم استقر في فضاء العدم حال كونه كالصبح فيكون الصبح أيضا معدوما بالنسبة إليه فقد قرّر أن مسرّته ونومه وصبحه متماثلات في العدم ولك أن تجعل كصبحي هو الخبر ويكون حيث متعلقا بما تعلق به الخبر ، والمعنى راجع إلى ما قرّرناه . وكان تامّة على الوجهين .
 
والمعنى :
لما تناءت هذه الحبيبة المعرضة لم تنظر عيني بعدها شيئا يسرّني فنومي وصبحي مستقران مع مسرّتي المفقودة . وفي البيت إدماج الشّكاية من فقد صبحه ونومه فإنه كان بصدد تقرير فقد مسرّته بعدها فأدمج في ذلك الشّكاية من فقد هذين . ومما ينتظم في ذلك قول الأرجاني :
فنومي من عيني وقلبي من الحشى * وجسمي من الأوطان كلّ مشرّد
 
وما أحسن قول بعضهم :
عهدي بنا ورداء الشمل مجتمع * والليل أطوله كاللمح بالبصر
والآن ليلي مذ بانوا فديتهم * ليل الضرير فصبحي غير منتظر
 
( ن ) : الطرف كناية عن العين النفسانية . وقوله بعدها ، أي بعد احتجاب تلك المحبوبة عنه لم ير شيئا يسرّه . وكنى بالنوم عن الغفلة عن الحق تعالى ، وبالصبح عن ظهور الحق تعالى له وهذه الأبيات شكاية حاله في ابتداء سلوكه . اهـ .
 
75 - وقد سخنت عيني عليها كأنّها *** بها لم تكن يوما من الدّهر قرّت
 
« 261 »
 
[ الاعراب ]
« سخنت العين » كفرحت لم تقر ، وأسخن اللّه عينه أبكاه ، وقرّت العين تقرّ بالكسر والفتح قرّة بالفتح وتضم وقرورا بردت وانقطع بكاؤها أو رأت ما كانت متشوّقة إليه . و « عليها » متعلق بسخنت ، وعلى هنا للتعليل ، أي لأجلها ، أي أجل فراقها . « كأنها » : أي العين بها ، أي المحبوبة . واسم تكن يعود للعين . وجملة قرّت خبرها . ويوما متعلق بقرّت . ومن الدهر : صفة يوما .
 
والمعنى :
طال عدم قرار هذه العين بسبب بعد هذه الحبيبة حتى نسيت قرارها بها وكأنها يوما من الأيام ما قرّت بها . وفي البيت المقابلة بين سخونة العين وقرارها .
وسمع المجنون يوما رجلا يقول ليلى فاضطرب وقال :
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى * فهيّج أشجان الفؤاد وما يدري
دعى باسم ليلى أسخن اللّه عينه * وليلى بأرض الشأم في بلد قفر
 
( ن ) : كنى بسخونة العين عن تجلّي المحبوبة الحقيقية عليه بالجلال والفيض فإن ذلك يورثه الحجاب والأعمال النفسانية الحارّة ، وكنى بقرور العين عن تجلّي الجمال والبسط ومنه برد اليقين الذي يقع في قلوب الصدّيقين . اهـ .
 
76 - فإنسانها ميت ودمعي غسله *** وأكفانه ما ابيضّ حزنا لفرقتي
 
[ الاعراب ]
إنسان العين عبارة عن المثال الذي يرى في سواد العين . و « ميت » مخفّف ميت .
فإنسانها ميت : مبتدأ وخبر . ودمعي غسله كذلك . وأكفانه : مبتدأ . وما ابيضّ : خبره .
وحزنا : تعليل لقوله أبيض . ولفرقتي : متعلق بأبيض أو بحزنا ، والمعنى ظاهر ومع ظهوره فقد اشتمل على محاسن لا تحصى ولطائف لا تستقصى ومحاسنه كالبدر في النور بل كالشمس عند الظهور :
وليس يصحّ في الأذهان شيء * إذا احتاج النهار إلى دليل
 
[ المعنى ]
( ن ) : إنسان العين كناية عن المثال الذي يرى في سواد العين وهو الناظر من قبيل وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [ طه : الآية 39 ] وهو مقام القرب . وقوله ميت وهو الموت الاختياري كما ورد في الأثر موتوا قبل أن تموتوا . وقوله ودمعي ، أي ما يظهر عني من الأعمال . غسله أي طهارته من دنس الأغيار . وأكفان ذلك الميت ما ابيضّ من شعره حزنا على فراق أحبّته وذلك الذي ابيضّ شعره من الشعور وهو الإدراك فإن إدراكه كان أسود بملاحظة الأكوان فلما عرف ومات الموت الاختياري في معروفه ابيضّ إدراكه وزالت ظلمة الأكوان من شعوره وإدراكه . اهـ .

« 262 »
 
77 - فللعين والأحشاء أوّل هل أتى *** تلا عائدي الآسي وثالث تبّت
 
[ الاعراب ]
للعين متعلق بتلا . و « الأحشاء » بالجر عطف على العين . و « أوّل هل أتى » :
بالنصب مفعول مقدّم لتلا . و « عائدي » : فاعل تلا . و « الآسي » : نعت له . و « ثالث تبّت » بالنصب عطف على أوّل هل أتى ، والمراد من هل أتى السورة وأوّلها هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [ الإنسان : الآية 1 ] . وتلاوة هذا للعين عبارة عن تقرير موت إنسانها المفهوم من البيت قبله ووجه التقرير أن في المتلو تقرير أن الإنسان لم يكن شيئا مذكورا وإن كان معنى الإنسان مختلفا في الآية وفي العين لكنه لفظ مناسب يمكن استعارته أو عبارة عن إفادة التالي الانتظار للعين المفهوم من الآية في هَلْ أَتى [ الإنسان : الآية 1 ] 
وثالث تبّت عبارة عن أبي لهب فتلا للأحشاء هذا اللفظ المفيد ملازمة اللهب وذلك حظ الأحشاء لا يقال المراد اللهب وهو رابع لا ثالث لأن المراد أبو لهب لأنه علم إضافي فهو كلمة واحدة ولو أريد المركب الإضافي كان الأمر أيضا سهلا لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة الكلمة الواحدة .
 
والمعنى :
أنّ العائد رأي عيني ملازمة للانتظار فتلا لها أوّل هَلْ أَتى [ الإنسان : الآية 1 ] أو رأى الإنسان ميتا فتلا له ذلك ، ورأى الأحشاء محترقة فتلا لها الآية المناسبة لدوام اللهب والاحتراق . وفي البيت اللفّ والنشر على الترتيب والمقابلة في ذكر الأول والثالث والمناسبة في ذكر العين والأحشاء وهل أتى وتبّت والآسي يمكن كونه عبارة عن الطبيب أو أن يكون عبارة عن خلاف المحسن . اهـ .
 
78 - كأنّا حلفنا للرّقيب على الجفا *** وأن لا وفا لكن حنثت وبرّت
 
[ الاعراب ]
« كأنّا » : أي كأني وكأنّ الحبيبة حلفنا للرقيب على أن كلامنا يجفو صاحبه ، فأما أنا فما وفيت بمعاهدتي للرقيب على جفائها وعدم وفائها بل حنثت وتركت الجفاء وتديّنت معا بدين الوفاء ، وأما هي فإنها برّت في قسمها ووفت فجفتني وما وفتني وإنما أبرز وفاءه لها وجفاءها له في هذه الصورة للإشارة إلى أن ملازمتها على تركها ملازمة معاهد يخشى نقض العهد ومداومته هو على وفائها ملازمة من اضطرّ إلى الوفاء فنقض العهد فإن نقض العهد لا يكون إلا عن ضرورة تامّة واضطرار لازم. وفي البيت المقابلة بين الجفا والوفاء والحنث والبرّ.
 
[ المعنى ]
( ن ) : الرقيب كناية عن الشيطان الذي يوسوس في الصدور فيلقي الأوهام والشكوك وهذا الحلف التقديري للرقيب حتى يطمئن قلبه بعدم اجتماعنا فيترك مراقبتنا . اهـ .

« 263 »
79 - وكانت مواثيق الإخاء أخيّة *** فلما تفرّقنا عقدتّ وحلّت
 
[ الاعراب ]
المواثيق جمع ميثاق أو موثق كمجلس وهي العهود . و « الإخاء » بكسر الهمزة والمدّ مصدر آخيت زيدا إخاء . والأخية بفتح الهمزة وكسر الخاء وتشديد الياء كالحلقة تشدّ فيها الدّابّة والطنب والذمة والمواثيق اسم كانت وأخية خبرها .
 
والمعنى :
كانت عهود إخوتي مع الحبيبة ثابتة مربوطة مشدودة فبعد التفرّق عقدت موثقي وحلّت عقدة صداقتي وإخوتي وهو في المعنى موافق للبيت الذي قبله .
وفي البيت شبه الاشتقاق بين الإخاء والأخية والمقابلة بين الحلّ والعقد .
 
( ن ) : والمعنى كانت عهود إخوتي مع المحبوبة الحقيقية وهي الحضرة العليّة ثابتة مربوطة بحلقة القلب الدائرة الروحانية فلما تفرّقنا أي بالنفخ الروحاني في الهيكل الجسماني عقدت أنا أي ربطت تلك المواثيق الأكيدة بحلقة القلب المذكورة وحلّت هي ذلك الربط لبقائها على ذلك التجرّد الأزلي فبعدت المناسبة بيني وبينها . اهـ .
 
80 - وتاللّه لم أختر مذمّة غدرها *** وفاء وإن فاءت إلى ختر ذمّتي
 
[ الاعراب ]
المذمّة مصدر ذمّه ضدّ مدحه . والغدر بالغين المعجمة ضدّ الوفاء . و « فاءت » :
رجعت . والختر بخاء معجمة وتاء مثناة من فوق النقض والغدر الخديعة أو أقبح الغدر كالختور . والذمّة : العهد . وقوله وفاء منصوب على التعليل لفعل مأخوذ من معنى لم أختر مذمّة ، أي تركت مذمّة غدرها وفاء . والواو في وإن فاءت إما للعطف على مقدّر هو أولى بالحكم ، أي إن لم تفىء إلى ختر ذمتي وإن فاءت أو للحالية أو للاعتراض على ما نقله التفتازاني في شرح التلخيص وإن هذه لا تحتاج إلى جواب لأنها لمجرّد التأكيد . والمعنى وباللّه أقسم لقد تركت مذمة غدرها وفاء بعهدها وإن كان لها رجوع إلى الغدر بعهدي فإن المحبّ المخلص في المودّة لا يتغيّر ولو نقض المحبوب عهده . وهذا البيت كالدفع لوهم ربما صدر من الأبيات السابقة فإنّ فيها تقرير نقضها لعهده والعادة ذمّ الغادر فأفاد أنه لم يذمّ غدرها لأن جميع ما يفعله المحبوب محبوب
 
ولو كان مخالفا للمراد والمطلوب :
أحب اسمه من أجله وسميّه * ويتبعه في كل أخلاقه قلبي
ويجتاز بالقوم العدى فأحبهم * وكلهم طاوي الضمير على حربي
وقال الآخر :
أريد وصاله ويريد هجري * فأترك ما أريد لما يريد
« 264 »
 
وفي البيت الطّباق بين الغدر والوفاء ، وجناس شبه الاشتقاق بين أختر والختر ، وبين وفاء وفاءت ، وبين الذمّة والمذمّة .
 
[ المعنى ]
 
( ن ) : غدرها نقض عهدها وهذا النقض كناية عن تبعيد العبد من حضرة العلم الأزلي إلى إظهاره في عينه بإيجاده واجدا لنفسه على طبق ما هو عليه في الحضرة العلمية . اهـ .
 
81 - سقى بالصّفا الرّبعيّ ربعا به الصّفا *** وجاد بأجياد ثرى منه ثروتي
 
[ الاعراب ]
« الصفا » الأوّل من مشاعر مكة بلحف جبل أبي قبيس . و « الربعي » : مطر ينزل في زمن الربيع ، والربع الدار بعينها حيث كانت ، والموضع يرتعون فيه في الربيع وهو أنسب . و « الصفا » الثاني ضدّ الكدر . و « جاد » بمعنى أمطر والضمير يعود إلى الربعي .
وأجياد : أرض مكة أو جبل بها . والثرى : التراب . والثروة : الغنى . الربعي بالرفع فاعل سقى . وربعا : مفعوله . وبالصفا : حال مقدّم من المفعول وكان نعتا له فقدّم عليه فأعرب حالا ، فالباء فيه بمعنى في ، ويحتمل وجها آخر بعيدا وهو أن تكون الباء في قوله بالصفا للمصاحبة وتتعلق بسقى ، أي سقاه بالصفا واللطف لا بالكدر والفساد فيكون على حدّ قوله :
فسقى ديارك غير مفسدها * صوب الربيع وديمة تهمي
وبه الصفا : مبتدأ وخبر على التقديم والتأخير ، والجملة صفة النكرة قبلها وفاعل جاد يعود للربعي الذي هو فاعل سقى والباء في بأجياد بمعنى في وبأجياد حال مقدّم من ثرى وكان نعتا له قبل تقديمه عليه . وقوله منه ثروتي : مبتدأ وخبر ، والجملة صفة ثرى .
 
والمعنى :
سقى مطر الربيع ربعا كائنا في مكة كان بذلك الربع صفاء الوداد ، ونهاية الإسعاف والإسعاد . وسقى ثرى كائنا في أجياد من ذلك الثرى حصل لي الغنى لأن الفتوح به قد حصل وبدر السعود به قد وصل . وفي البيت الجناس التام بين الصفا والصفا ، وجناس شبه الاشتقاق أو جناس الاشتقاق بين الربعي وربع ، وجناس الاشتقاق بين ثرى وثروة ، وقرب الحروف في جاد وأجياد .
 
( ن ) : الربعي كناية عن العلوم الإلهية اللدنية . وقوله ربعا : مفعول سقى ، كناية عن قلب العارف المحقّق ، فإنه منزل المحبوبة الحقيقية من قوله صلى اللّه عليه وسلم : « وسعني قلب عبدي المؤمن » ، وكون ذلك الربع في الصفا ، أي في المقام الروحاني والسرّ الإنساني .
وقوله بأجياد : وهي أرض مكة أو جبل فيها كناية عن الجسم العنصري
 
« 265 »
للإنسان الكامل . والثرى : التراب ، كناية عن أصل جسم الكامل الذي نشأ منه كاملا بتربيته في حجر أحكامه ، وهو الحقيقة المحمدية النورانية . وقوله منه ثروتي : أي غناي ، وهو حصول الفتح له في ذوق التجليات الإلهية . اهـ .
 
82 - مخيّم لذّاتي وسوق مآربي  *** وقبلة آمالي وموطن صبوتي
 
[ الاعراب ]
مخيم على وزن معظم ، اسم مكان من خيّم زيد بالمكان إذا أقام فيه ، وكان أصله مخيّما به لكن حذف الجار تخفيفا . واللذّات : جمع لذّة وهي شيء ينشأ عن إدراك الشيء الملائم . والسوق : معروفة وقد تذكّر . والمآرب : جمع مأربة مثلثة الراء وهي الحاجة . والقبلة بكسر القاف : الجهة . والآمال جمع أمل ، وهو الرجاء .
والموطن على وزن منزل مكان الإقامة . والصبوة : جهلة الفتوّة . فقوله مخيم : بالنصب بدل من مفعول سقى في البيت قبله ، أو من مفعول جاد فيه أيضا . ويصحّ فيه النصب على المدح والرفع على أنه خبر لمحذوف ، وما عطف عليه مثله .
 
والمعنى :
الربع الذي دعوت له مكان إقامة لذّاتي وسوق لحاجاتي في وجهة رجائي ومكان طيش شبابي ، والنفس ما زالت تحنّ إلى أماكن أقامت بها زمن الصّبا .
قال ابن الرومي :
بلد صحبت به الشبيبة والصبا * ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تصوّره الضمير رأيته * وعليه أغصان الشباب تميد
وفي البيت من تناسب أطراف الكلام ، وتقارب أعطاف النظام ما هو واضح لذوي الأفهام ، فهذا هو البناء المتين ، بل هذا هو الدّرّ الثمين . اهـ .
 
83 - منازل أنس كنّ لم أنس ذكرها  *** بمن بعدها والقرب ناري وجنّتي
 
[ الاعراب ]
أي هذه المذكورات « منازل أنس » بسبب المحبوبة التي بعدها ناري ، والقرب منها جنتي . وكان : تامة ، وبمن : متعلق بها . ومن : موصولة وهي عبارة عن الحبيبة وصلتها جملة بعدها ناري . وقوله والقرب جنتي : عطف على الصلة . وقوله لم أنس ذكرها : جملة معترضة بين المتعلق والمتعلّق . والألف واللام في « والقرب » عوض عن الضمير المضاف إليه. وبعدها : مبتدأ. والقرب : معطوف عليه. وناري : خبر بعدها.
وجنتي : خبر القرب .
والمعنى :
هذه الأماكن مواضع أنس وجد بسبب قرب حبيبة بعدها ناري وقربها جنتي . وفي البيت الجناس المحرّف بين أنس وأنس ، والمقابلة بين القرب والبعد ، وكذا بين النار والجنة ، وفيه أيضا اللّفّ والنشر على الترتيب .

« 266 »
 
( ن ) : منازل : منصوب على أنه خبر كنّ ، وضمير جمع المؤنث لما تقدّم في البيت قبله من قوله : مخيم وسوق وقبلة وموطن ، فإنها أربعة منازل محيطة بالحقيقة الإنسانية تنزلها وتقيم بها ، إما على الكشف في الكاملين ، وإما على الجهل والغفلة في القاصرين . اهـ .
 
84 - ومن أجلها حالي بها وأجلّها عن *** المنّ ما لم تخف والسّقم حلّتي
 
[ الاعراب ]
أي ومن أجل المحبوبة وبسبب محبتها « حالي بها » ما لم تخف ، أي الحال التي لم تخف ، والحال أن السقم حلّتي . فحالي : مبتدأ . وما لم تخف : موصول وصلة خبره . وقوله وأجلها عن المنّ : أي أرفع مقامها عن أن أمّن عليها بما لاقيته في طريق محبتها ، فتكون جملة وأجلّها عن المنّ معترضة بين المبتدأ والخبر ، والواو في والسقم حلّتي : واو الحال . والسقم : مبتدأ . وحلّتي : خبر ، والجملة في محل نصب على أنها حال من فاعل تخف ، وهو ضمير يعود لحالي « 1 » .
وأما قوله من أجلها : فمتعلق بمحذوف ، أي استقرّ ذلك السقم الظاهر من أجلها . وأما قوله وأجلّها عن المنّ : فإنه قرّر أنه بسببها قد وصل إلى أن تردى السقام حلة ، فربما يظن أن ذلك الكلام منه منّة عليها ، فدفعه بقوله وأجلّها عن المنّ . ولا يخفى الإيهام في قوله ما لم تخف : أي الأمر العظيم الذي وصل في الظهور إلى أنه لا يخفى على أحد ، ولإرادة العموم حذف متعلق تخف ، أي على الحال التي لم تخف عن أحد في العالم . وفي البيت الجناس المحرّف بين أجلها وأجلّها ، وبين من ومنّ ، وقرب الحروف في حالي وحلّتي . اهـ .
 
85 - غرامي بشعب عامر شعب عامر *** غريمي وإن جاروا فهم خير جيرتي
 
الغرام : الولوع والشوق الدائم والهلاك والعذاب . والشعب بفتح الشين وسكون العين المهملة يأتي لمعان المراد منها هنا القبيلة العظيمة . و « عامر » : اسم فاعل من عمر المكان عمارة . والشعب الثاني بكسر الشين وسكون العين أيضا الطريق في الجبل . و « عامر » الثاني اسم قبيلة . والشعب : مضاف إليها لإقامتهم به .
 
الإعراب :
غرامي : مبتدأ . وبشعب : متعلق به . وعامر : بالجرّ نعت لشعب .
وشعب : منصوب مفعول عامر ، وهو مضاف إلى عامر . وغريمي : خبر المبتدأ . قوله وإن جاروا : الضمير يعود إلى الشعب لأنه بمعنى القبيلة . ووصفه أولا بعامر الذي هو
..........................................................................................
( 1 ) قوله يعود لحالي ، المناسب يعود لما .

« 267 »
 
وصف المفردات بناء على لفظه . وجملة فهم خير جيرتي : في محل جزم على أنه جواب الشرط .
 
والمعنى :
غرامي وشوقي بهذه القبيلة العامرة ، لذلك المكان المعروف غريمي ملازم لي ، وإن حصل منهم جور فلا يذمّون به بل هم مع ذلك خير جيرتي ، فجورهم عدل وصدّهم وصال وبعدهم قرب وعذابهم عذب ، فليس عليهم اعتراض ولا عن مودّتهم إعراض ، بل هم الأغراض ولو جعلوا القلوب لسهامهم بمنزلة الأغراض وللّه درّه حيث يقول :
وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم * عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل
وفي البيت الجناس التام بين عامر وعامر ، والجناس المحرّف بين شعب وشعب ، وجناس شبه الاشتقاق بين الغرام والغريم ، وبين جاروا وجيرة .
 
( ن ) : عامر الثاني اسم قبيلة يقال لهم بنو عامر وكنّى بهذه القبيلة عن إخوانه وأشياخه من أهل اللّه العارفين الكاملين المعمّرين أوقاتهم بذكر اللّه تعالى على الكشف والشهود ، وهم القائمون له في صدق العبودية بدوام الركوع والسجود . اهـ .
 
86 - ومن بعدها ما سرّ سرّي لبعدها *** وقد قطعت منها رجائي بخيبتي
 
« من بعدها » بفتح الباء ضدّ قبلها . و « لبعدها » بضم الباء ضدّ قربها . و « سرّ » بالبناء للمجهول بمعنى حصل له السرور . والسرّ : اللب . والرجاء بالمدّ ضدّ اليأس .
والخيبة : الحرمان .
 
الإعراب :
من بعدها : متعلق بسرّ . ولبعدها : متعلق به أيضا . وسرّي : نائب الفاعل . ورجائي : فاعل قطعت . وبخيبتي : متعلق بقطعت .
 
والمعنى :
ما حصل لخاطري السرور من بعدها لأجل بعدها وقد قطعت الخيبة رجائي منها بسبب حرمانها لي . وفي البيت الجناس المحرّف من بعدها وبعدها ، وجناس شبه الاشتقاق بين سرّ وسرّي ، والمقابلة بين الرجاء والخيبة .
 
( ن ) : قوله « من بعدها » : أي من بعد تلك القبيلة المشار إليها في البيت قبله ، كأنه كان قبل ذلك يترجّى المعونة والإمداد من حيث تلك الأرواح النازلة في كوامل الأشباح ، حتى انكشفت له حقائق تجليات الأسماء الإلهية في مظاهر هاتيك الأعيان الإنسانية ، فانقطع رجاؤه منها بالخيبة واليأس والحرمان وتوجّه إلى حقيقة الغيب المطلق في تجليات الرحمن . اهـ .
 
« 268 »
87 - وما جزعي بالجزع عن عبث *** ولا بدا ولعا فيها ولوعي بلوعتي
 
الجزع محرّكة نقيض الصبر . و « الجزع » بالكسر منعطف الوادي ومحلة القوم ، وكلاهما مناسب هنا . والعبث محرّكة : اللعب . والولع محرّكة : الاستخفاف والكذب .
والولوع بالشيء بضم الواو : التحرّش به . واللوعة : حرقة القلب وألم من حبّ أو همّ أو مرض .
 
الإعراب :
ما : حجازية ترفع الاسم وتنصب الخبر . وجزعي : اسمها . وبالجزع :
متعلق به . وعن عبث : متعلق بمحذوف على أنه خبر ما ، أي وما جزعي بالجزع حاصلا عن عبث وولع . وبدا : فعل ماض . وولوعي : فاعله . وولعا : منصوب على التعليل لبدا وفيها راجع للجزع باعتبار البقعة . وبلوعتي : متعلق بولوعي ، ويروى ولوعي ولوعتي فتكون لوعتي معطوفا على ولوعي .
 
المعنى :
ما ذهب صبري ونحن بالجزع عن عبث ولعب ، ولا كان تحرّشي باللوعة في تلك البقعة كذبا واستخفافا بها . ويجوز أن يكون الضمير في فيها راجعا للخيبة ، وتكون سببية . وفي البيت الجناس المحرّف بين جزعي والجزع ، وجناس الاشتقاق بين الولع والولوع ، وشبهه بين اللوعة وبينهما .
 
( ن ) : قوله بالجزع : كناية عن مقام السادة المكنّى عنهم بالقبيلة فيما تقدم ، - يعني ما قلّة صبري بسببهم عن ملاقاتهم صادر عني عن عبث مني بلا فائدة - ، وإنما ذلك لكونهم مظاهر تجليات الغيب المطلق والحق المحقّق ، فعين التوجّه عليهم عين التوجّه عليه . اهـ .
 
88 - على فائت من جمع جمع تأسّفي *** وودّ على وادي محسّر حسرتي
 
الجمع الأول ضدّ التفريق . والثاني علم على المزدلفة . والتأسّف : التحزّن الشديد . والودّ مثلث الواو : الحب . و « وادي محسّر » بكسر السين مكان قرب المزدلفة ، يستحبّ للحاجّ أن يسرع عند الوصول إليه لأنه من الأماكن المغضوب عليها ، باعتبار أن عذاب أصحاب الفيل صدر فيه . والشيخ رضي اللّه عنه أورده هنا بلا تنوين فإن اعتبرناه مذكّرا كان ترك التنوين فيه ضرورة وكان مكسورا ، وإن اعتبرناه علما على بقعة ولاحظنا التأنيث فيه كان ممنوعا من الصرف وكان مفتوحا . والحسرة : واحدة التلهّفات .
 
الإعراب :
على فائت : خبر مقدّم . وتأسّفي : مبتدأ مؤخر . ومن جمع جمع :
بيان لفائت فهو صفة له متعلق بمحذوف . وود : معطوف على فائت .
وعلى وادي 
[ltr] يتبع[/ltr]



عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 68 إلى 103 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:16 pm

شرح قصيدة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 68 إلى 103 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ


شرح القصيدة الثالثة نعم بالصبا قلبي صبا الأبيات من 86 إلى 103 
« 269 »
محسر : صفة لود وإضافة وادي إلى محسر إما بيانية أو لامية . وحسرتي : مبتدأ مؤخر أيضا . 
وعلى ود : خبر باعتبار أن العطف يقتضي تقدير حرف الجرّ في المعطوف كما هو في المعطوف عليه .
 
والمعنى :
تأسّفي وتحزّني على الفائت من جمع في مزدلفة بعد الانصراف من عرفات ، وحسرتي على الودّ الذي صدر على وادي محسر عند الانصراف من مزدلفة إلى منى .
وفي البيت الجناس التام بين جمع وجمع ، وجناس شبه الاشتقاق بين ودّ ووادي ، وبين محسّر وحسرتي .
 
( ن ) : جمع الأول ضدّ الفرق وهو شهود الوحدة في عين الكثرة ولا بقاء له إلا في غلبة الروحانية على الجسمانية ، والفرق شهود الكثرة في عين الوحدة ، وذلك من غلبة الجسمانية على الروحانية . وأصل ذلك كلام اللّه تعالى النفساني القديم الذي هو عين العلم الأزلي من وجه نزل قرآنا فهو جمع ، ونزل فرقانا فهو فرق ، ولا يقدر على شهوده قرآنا إلا الأنبياء . فشهده محمد صلى اللّه عليه وسلم قرآنا ، وكذلك ذريّته الكاملون .
وشهده أيضا فرقانا كعوامّ الخلق ، وشهده آدم وشيث وإدريس ونوح وإبراهيم صحائف ، وشهده موسى توراة ، وداود زبورا ، وعيسى إنجيلا ، والكلّ كلام اللّه تعالى القديم النفساني المنزّل لا يختلف إلا بالحروف والأصوات المرقومة في صفحات الصور والمعاني .
وكذلك ورثة هؤلاء الأنبياء عليهم السلام شهدوه ، كذلك من أممهم ومن هذه الأمة من مشكاة محمد صلى اللّه عليه وسلم الجامع الخاتم ، وكذلك شهدوه فرقانا هم وأممهم ، وقوله جمع الثاني : علم على المزدلفة مكان بين عرفات ومنى .
ووادي محسر : اسم مكان قرب المزدلفة سمّي بذلك لأن فيل أبرهة حسر هناك ، أي أعيا وبرك لمّا جاء به لهدم الكعبة . وكنى بالود : على وادي محسر عن المحبة الحاصلة له مع العجز والإعياء عن حمل مشقّاتها وإن كانت أدنى من مقامه لحنينه إلى البداية في مقام النهاية . اهـ .
 
89 - وبسط طوى قبض التّنائي بساطه *** لنا بطوى ولّى بأرغد عيشة
 
« الواو » : واو ربّ . والبسط : الانشراح والمسرّة . و « طوى » : خلاف نشر .
والقبض : خلاف البسط . و « التنائي » : مصدر بمعنى التباعد . والبساط بكسر الباء : ما بسط . وطوى مثلثة الطاء وينوّن موضع قرب مكة ، لكن في القاموس ذو طوى موضع قرب مكة . وفيه طوى بالضم والكسر : واد بالشام .
والظاهر من مراد الشيخ أنه أراد الذي بمكة ، فيكون قد حذف لفظة ذو للضرورة . لكن قال بعض النحاة وقد جاء
 
« 270 »
 
إضافة ذو إلى علم وجوبا إن اقترنا وضعا مثل ذي يزن وهو اسم أبي سيف جدّ ملوك العرب ، فإن لم يقترنا وضعا كانت إضافته إلى العلم جائزة ، مثل جاءني ذو عمرو وسبيل المسألتين السماع ، انتهى . فالظاهر أن لفظة ذو قد قارنت طوى وضعا فهي واجبة الاقتران فيشكل حذفها في كلامه رضي اللّه عنه ، وإن أراد المكان الذي في الشام فلا إشكال غير أن إرادته الأماكن الشامية بعيدة . واللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال .
 
الإعراب :
بسط : مجرور بربّ بعد واوها ومحلها الرفع على الابتداء . وقبض :
فاعل طوى . وبساطه : مفعوله ، والجملة في محل جرّ صفة مجرور ربّ . ولنا : متعلق بولّى وبطوى كذلك ، وبأرغد عيشة كذلك ، والباء : للمصاحبة ، أي ولي مصاحبا لا رغد عيشة . وجملة ولي بأرغد عيشة : خبر المبتدأ . وفي البيت المقابلة بين القبض والبسط ، والجناس التام والمحرّف بين طوى وطوى ، وجناس شبه الاشتقاق بين بسط وبساط ، وبالبيت استعارة بالكناية ، كأنه شبّه بسطهم بمجلس الأنس الذي يلزمه البساط فأثبت له البساط تخييلا وجعل طيّه كناية عن انقضاء مجلس الأنس فإنه يلزم من الطيّ الانقضاء .
 
[ المعنى ]
( ن ) : الواو في وبسط للعطف على ودّ في البيت قبله ، أي حسرتي على بسط أيضا . أو الواو هي واو ربّ . والبسط الانشراح والمسرّة وهو ضدّ القبض كما قال تعالى : وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ [ البقرة : الآية 245 ]
وهما تجليان إلهيّان ، فالبسط إعطاء العبد حقيقته العلمية على تمامها ، والقبض ظهور الاستيلاء الإلهي على تلك الحقيقة لنقصان ظهورها ، وطوى خلاف نشر ، والقبض خلاف البسط كما ذكرنا ، والتنائي بمعنى التباعد عن حقيقة العبد السالك بحيث يفقد بغلبة ظهور الاستيلاء الإلهي عليه . وطوى : اسم واد بالشام ، كنى به عن مقام الفرق . اهـ .
 
90 - أبيت بجفن للسّهاد معانق *** تصافح صدري راحتي طول ليلتي
 
[ الاعراب ]
وفي هذا البيت وما بعده تقرير انطواء بساط بسطهم ، وتقرير ما نشأ عن انطوائه من الآلام ، يقول : أستمرّ في الليل مصاحبا لجفن معانق للشهر ، أي ملازم لا ينفكّ عنه ، فكيف مع وجوده يرد عليّ النوم ، ففيه تشبيه ملازمة السهر للجفن بالمعانقة ، فإطلاقها استعارة مصرّحة تبعية . وكذا المراد من مصافحة الراحة للصدر وملازمتها له طول الليل ، وهذا شأن المفكّر الساهر فإنه لو نام ذهبت يده إلى جهات مختلفة . ففي تصافح استعارة مصرّحة تبعيّة أيضا ، والضمير المستكن في أبيت اسمها ، وبجفن خبرها . ومعانق : صفة جفن . وللسهاد : متعلق بمعانق . وجملة تصافح صدري راحتي
 
« 271 »
 
طول ليلتي : حال من الضمير في أبيت . ويمكن أن تكون خبرا بعد خبر ، ويمكن أن يكون بجفن للسهاد معانق حالا ، وجملة تصافح هو الخبر .
 
والمعنى :
أدوم طول الليل مصاحبا بجفن معانق ملازم للسهر لا يزايله حتى يلمّ به النوم وراحتي مصافحة لصدري طول الليل ، وطول ليلتي قيد في المعنى لأبيت ولمعانق ولتصافح ، فإن المراد دوام هذا الصنع منه طول الليل . وفي البيت المناسبة في ذكر المعانقة والمصافحة .
 
( ن ) : معانقة جفنه للسهاد كناية عن عدم غفلته في مراقبة ربّه في ظلمة الأكوان ، ومصافحة راحته لصدره من التصفيح وهو التصفيق ، وذلك من كمال الوجد والحال الغالب عليه . اهـ .
 
91 - وذكر أويقاتي التي سلفت بها *** سميرى لو عادت أويقاتي التي
 
أويقات : تصغير أوقات ، وما بعد ياء التصغير يفتح في بناء أفعال إذا كان جمعا كما هنا . والضمير في « بها » يعود إلى من في قوله :
بمن بعدها والقرب ناري وجنتي
والباء : في بها بمعنى مع . والسمير : حديث الليل والمحادث فيه ، فإن أريد الأول فهو على حقيقته ، وإن أريد الثاني كان على ضرب من التجوّز بتنزيل الذكر مسامرا . و « لو » في « لو عادت » للتمني وصلة التي محذوفة ، وهي مثل صلة التي الأولى ، أي أتمنى عود أوقاتي التي سلفت بها .
 
الإعراب :
ذكر أويقاتي : مبتدأ . والتي سلفت بها : صفة أويقاتي . وسميري : خبر المبتدأ .
 
والمعنى :
ذكر أوقاتي التي سلفت مع تلك الحبيبة سميري فلما أثبت من نفسه معانقا وهو السهاد ومصافحا وهو الراحة أثبت له أيضا سميرا وهو الذكر ، وهذه عادة المحبّين يعانق أجفانهم السّهاد ، وراحاتهم الواحدة تصافح الصدر ، والأخرى بمنزلة الوسادة ، والذكر سميرهم ، والدمع نصيرهم :
ترى المحبّين صرعى في ديارهم * كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
واللّه لو حلف العشّاق أنهم * موتى من الحبّ أو سكرى لما حنثوا
وقد قلت في معنى ذلك :
وحقك لو تشاهدني بليل * ولي في طوله حزن طويل
 
« 272 »
 
ولي كف غدت سندا لخدّي * وأخرى فوق صدري لا تحول
وقد جرّيت من عيني دموعا * غزارا دون مجراها السيول
وقد علقت جفوني في نجوم * تزول الراسيات ولا تزول
لكنت بكيت لا أبكيت حزنا * لحال ليس يرضاها خليل
 
وفي البيت ردّ العجز على الصدر مع الاكتفاء ، وهذا من تقدير انطواء بساط بسطهم .
 
92 - رعى اللّه أيّاما بظلّ جنابها *** سرقت بها في غفلة البين لذّتي
 
[ الاعراب ]
« رعى » : أي حفظ . والظل بالكسر : العز والمنعة أو الكنف . والجناب : الفناء أو الناحية . و « سرقت » : بمعنى اختلست خفية . و « البين » : الفراق . واللذة : معنى ينشأ عن إدراك ملائم . وبظل جنابها : صفة أياما . و « بها » : متعلق بسرقت ، والباء للسببية إن كانت الهاء عائدة للحبيبة ، وبمعنى في إن كانت عائدة للأيام . و « لذتي » : مفعول سرقت . و « في غفلة البين » : متعلق بسرقت أيضا ، ويجوز في بها أن يتعلق بلذتي ، أي سرقت التذاذي بها في غفلة البين ، وجملة سرقت الخ صفة ثانية لمفعول رعى . ولا تخفى المناسبة في ألفاظ البيت مع الانسجام الكامل والرقّة التي فاقت على هبوب الصّبا في الأصائل .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله أياما : أي تجليات إلهية بحضرات كونية كنى عنها بقوله « بظل جنابها » أي جناب تلك المحبوبة ، والظل أثر الإرادة والمشيئة من قوله تعالى : أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [ الفرقان : الآية 45 ] الآية . اهـ .
 
93 - وما دار هجر البعد عنها بخاطري *** لديها بوصل القرب في دار هجرتي
 
يقال « ما دار » الشيء بخاطري : أي ما خطر ببالي . والهجر بالفتح : الترك .
« الخاطر » وإن كان بمعنى الهاجس ، إلا أنّ المراد به هنا الفكر . و « لديها » : بمعنى عندها . ودار الهجرة بكسر الهاء : هي المدينة المنوّرة .
 
الإعراب :
هجر البعد : فاعل دار وهو مضاف إلى البعد لأجل تمييزه عن الهجر الصادر في القرب . وعنها : متعلق بالبعد . وبخاطري : متعلق بدار . ولديها : حال من الياء في بخاطري ، ولا شك أن الخاطر كالجزء من صاحبه ، أو هو جزء إن أريد به محل الهاجس . ويوصل بالقرب : حال بعد حال ، وصاحب الحال الياء أيضا ، والباء في بوصل : للمصاحبة . وفي دار هجرتي : متعلق بوصل القرب .
 
« 273 »
والمعنى :
لمّا كنت مصاحبا لوصل قربها في المدينة المنوّرة ما خطر لي حينئذ ترك صادر من بعدها ، بل كنت أظن أن القرب يدوم ، وأن أطيار البعاد على حمى القرب لا تحوم . وفي البيت الجناس التام المستوفى بين دار ودار ، ومقابلة اثنين باثنين في هجر والبعد ووصل القرب ، والجناس المحرّف بين هجر وهجرتي .
 
( ن ) : دار الهجرة هي مدينة الرسول صلى اللّه عليه وسلم كناية عن الحقيقة النورية الأصلية المحمدية التي خلق اللّه تعالى منها كل شيء بوجه الأمر الإلهي القائم به كل شيء . اهـ .
 
94 - وقد كان عندي وصلها دون مطلبي *** فعاد تمنّي الهجر في القرب قربتي
 
[ الاعراب ]
لغة البيت ظاهرة غير أن المراد من القربة الواقعة في آخر البيت الوصلة والنسبة وهي بضم القاف . ووصلها : اسم كان . ودون مطلبي : خبرها . وعندي : متعلق بكان . وتمنّي الهجر : اسم عاد . وفي القرب : متعلق بالهجر . وقربتي : خبرها .
 
والمعنى :
كان وصل الحبيبة عندي دون مطلبي فلما تمادت أيام البعاد وزالت من اسم القرب والوداد صار تمنّي الهجران قربة في الاقتراب ووصلة معدودة من أوثق الأسباب . وفي البيت المقابلة بين الوصل والهجر ، وجناس الاشتقاق بين القرب وقربتي .
 
( ن ) : عندي أي بالنسبة إلى ما أجد أنا في نفسي . وضمير « وصلها » راجع إلى المحبوبة . وقوله دون مطلبي : أي أدنى ما أطلب وأتمنى لالتحاقه بالحقيقة المحمدية التي مطلبها أعلى المطالب كلها والالتحاق المذكور أعلى من الوصل لذهاب الاثنينية فيه بدخول الفرع في أصله . وقوله « فصار تمني الهجر » يعني اختلف عليه الحال بانفصاله عن حاله الأول فرجع إلى اثنينيته . وقوله « في القرب » أي في مقام القرب ، وهو التمكّن في العرفان بالتحقّق بحقائق العيان . وقوله « قربتي » أي وصلتي بالمحبوبة لتفصيل حضراتها وتبيين مراتب ذاتها . اهـ .
 
95 - وكم راحة لي أقبلت حين أقبلت *** ومن راحتي لمّا تولّت تولّت
 
« كم » : تكثيرية . والراحة : خلاف التعب . والراحة الثانية : بطن الكفّ .
 
الإعراب :
كم : خبرية تكثيرية وهي مبتدأ . وراحة : بالجر تمييزها مجرور بالإضافة أو بمن مقدّرة . ولي : صفة راحة . وجملة أقبلت حين أقبلت : خبر المبتدأ .
ومن راحتي : متعلق بتولّت الثانية ، والجملة عطف على الخبر ، والتقدير كثير من
 
« 274 »
 
الرّاحات أقبلت وقت إقبالها ، وتولّت من راحتي وقت أن تولّت عني ، فضمير أقبلت الأولى عائد إلى الراحة ، وضمير الثانية عائد إلى الحبيبة ، وضمير تولّت الثانية عائد إلى الراحة ، وضمير الأولى عائد إلى الحبيبة . وفي البيت الجناس التام بين راحة وراحة ، والمقابلة بين تولّت وأقبلت .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله « حين أقبلت » يعني المحبوبة ، وإقبالها تجلّيها على قلبه وانكشاف الأمر له أنها هي لا هو على وجه اليقين . اه .
 
96 - كأن لم أكن منها قريبا ولم *** أزل بعيدا لأيّ ما له ملت ملّت
 
[ الاعراب ]
هذا البيت يقرّر ذهابها عنه وذهاب راحته من راحته بسبب ذهابها . وهذه كان المخفّفة من كأنّ التشبيهية ، واسمها في البيت ضمير الشأن . وجملة لم أكن قريبا منها : خبرها . وجملة لم أزل بعيدا : عطف على جملة الخبر . وقوله لأيّ ما له ملت ملّت : أي كل شيء مال خاطري إليه ملته ، فأي هذه شرطية منوّنة مجرورة باللام .
وما : زائدة لتأكيد معنى الشرط . وله : متعلق بملت . وملّت : جواب الشرط .
 
والمعنى :
طال بعد هذه الحبيبة حتى صرت كأنني ما قربت منها عمري وأنني طول بقائي بعيد عنها فإني إن ملت إلى شيء من الأشياء ملّت هي منه ولم ترده . وفي البيت المقابلة بين القريب والبعيد ، والجناس التام بين ملت المشتق من الميل وملّت المشتق من الملل ، وتشديد اللام في ملّت لا ينافي التجنيس لأن الحرف المشدد في مثله بمنزلة المخفّف .
 
( ن ) : قوله « لأيّ ما له ملت » أي لأيّ شيء من الأشياء ملت أنا ملّت هي ، أي سئمت من شهودي لها فاحتجبت عنّي فإن ميل الإنسان بقلبه إلى شيء من الأشياء حجاب له عن هذه المحبوبة فلا يقدر معه أن يشهدها أصلا . اهـ .
97 - غرامي أقم صبري انصرم دمعي انسجم *** عدوّي انتقم دهري احتكم حاسدي اشمت
 
[ الاعراب ]
الغرام : الولوع والشوق الدائم والهلاك والعذاب . و « أقم » من الإقامة خلاف الرحيل . والصبر : نقيض الجزع . و « انصرم » : أمر من الانصرام بمعنى الانقطاع .
و « انسجم » : أمر من الانسجام ، وهو انسكاب الدمع وما أشبهه . و « انتقم » : أمر من الانتقام بمعنى المعاقبة . و « احتكم » : أمر من الاحتكام ، وهو جواز الحكم . والحاسد :
من يتمنّى أن تتحوّل إليه نعمتك وفضيلتك أو أن تسلبهما . و « اشمت » بكسر الهمزة أمر
 
« 275 »
 
من الشماتة ، وهي فرح الإنسان ببلية عدوّه . وكسر تاء اشمت لموافقة الرّوي . وألفاظ هذا البيت كلّ منها إما منادى حذف منه حرف ندائه ، أو فعل أمر .
ومعنى البيت ظاهر والأوامر في البيت ليست على أصلها بل هي للتفويض على حدّ قوله تعالى : فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ [ طه : الآية 72 ] .
وفي البيت من جهة اللفظ المماثلة لتماثل أكثر ألفاظه في الوزن والتفقيه . ومن جهة المعنى التفويق وتجوز تسميته مراعاة النظير ، ولا يخفى مغمورية هذا البيت باللطائف البديعة التي استوفت الحسن جميعه .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يقول : يا غرامي أقم عندي ملازما لي ، ويا صبري على الأحبة انقطع ، ويا دمعي على بعدهم انسكب ، ويا عدوّي انتقم مني وعاقبني على مقدار ما تقدر وعدوّه هو شيطانه المقارن له الذي يدعوه إلى السوء والطغيان .
قال تعالى : إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [ فاطر : الآية 6 ] الآية .
وقال تعالى : وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [ الإسراء : الآية 64 ] الآية .
قيل لأبي مدين : كيف أنت مع الشيطان ؟ فقال : أرأيت لو بال أحدهم في البحر فهل ينجس ؟ قالوا : لا . قال : فكذلك الشيطان معنا .
ثم قال : يا دهري احتكم ، أي أمض حكمك فيّ ونفّذ عليّ كلّ ما يقتضيه أمري في الخير والشّرّ والنفع والضّرّ ، ويا حاسدي اشمت ، وهو كناية عن معاصره الذي يعمل بعمله فإنه يتمنى زوال النعمة عنه ورجوعها إلى نفسه حتى لا يبقى له عليه رفعة رتبة .
وكنى بما تقدم عن كمال الثبات والرسوخ بحيث لا يتحرك لشيء من ذلك أصلا ، كما قال تعالى :
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [ إبراهيم : الآية 27 ] . اهـ .
 
98 - ويا جلدي بعد النّقا لست *** مسعدي ويا كبدي عزّ اللّقا فتفتّتي
 
الجلد محرّكة : الشدّة والقوّة . و « النقا » في الأصل قطعة من الرمل محدودبة ، وهو هنا اسم مكان . والمسعد : اسم فاعل من أسعده إذا أنجده وأسعفه . والكبد معروفة وقد تذكّر . و « عزّ اللّقا » : أي قلّت الملاقاة ولا تكاد توجد . وتفتّتي : أمر من التفتّت وهو الانقطاع والتكسّر .
 
الإعراب :
ويا جلدي : عطف على غرامي في البيت قبله . والتاء : اسم ليس .
ومسعدي : خبرها . وبعد النقا : متعلق بمسعدي . ويا كبدي : منادى مضاف معطوف كذلك . وعزّ اللّقا : فعل وفاعل . وقوله « فتفتّتي » أمر للكبد بالتقطّع حيث قلّت ملاقاة الحبائب .
 
« 276 »
المعنى :
يا قوّتي لا مساعدة لي منك بعد مفارقة جيران النقا . ويا كبدي تقطّعي لعزّة ملاقاتهم . وفي قوله « ويا جلدي بعد النقا » و « يا كبدي عزّ اللقا » مماثلة . هذا البيت لم يوجد بشرح الشيخ عبد الغني النابلسي . اهـ .
 
99 - ولمّا أبت إلّا جماما ودارها ان *** تزاحا وضنّ الدّهر منها بأوبة
100 - تيقّنت أن لا دار من بعد طيبة *** تطيب وأنّ لا عزّة بعد عزّة
 
هذان البيتان بينهما تلاحق كلّي ، لأن قوله تيقنت جواب لما في البيت الأول
وهما على أسلوب بيتين من قصيدة البحتري وهما قوله :
ولما تناءينا عن الجزع وانتأى * مشرق ركب مصعد عن مغرب
تيقنت أن لا دار من بعد عالج * تسرّ وأن لا خلّة بعد زينب
 
وقد تقدم ذكرهما . و « أبت » : أي كرهت . والجماح على وزن رمال ، مصدر جمح الفرس إذا غلب صاحبه . والانتزاح : مصدر التزح المكان إذا بعد . و « ضنّ » بالضاد المعجمة ، بمعنى بخل . والأوبة : الرجعة . و « طيبة » بفتح الطاء ، علم على المدينة المنورة . و « تطيب » : أي تزكو وتلذّ . والعزّة بكسر العين المهملة نقيض الذلة . و « عزّة » بفتح العين ، علم على حبيبة كثيّر عزّة المشهور بعشقها ومحبتها .
والمراد هنا حبيبة ما على حد قولهم لكل يوسف يعقوب ، أي لكل محبّ محبوب .
 
الإعراب :
إلا جماحا : استثناء مفرّغ والمستثنى منصوب على أنه مفعول أبت ، أي ولما كرهت الحبيبة كل شيء إلا الجماح وعدم اللّين والطاعة . ودارها بالرفع عطف على الضمير في أبت . وانتزاحا : عطف على جماحا ، فالواو عطفت هذين الاسمين عطف مفرد على مفرد على حدّ ضرب زيد عمروا وبكر خالدا . والدهر :
فاعل ضن . ومنها : حال من أوبة ، لأنها صفتها ، قدّمت عليها فأعربت حالا . وبأوبة :
متعلق بضنّ . وتيقنت : جواب لما . وأن : مخففة من الثقيلة أدغمت في لام لا النافية واسمها ضمير الشأن . ودار : بالفتح اسم لا النافية للجنس . ومن بعد طيبة : خبرها .
وجملة تطيب : صفة دار ، والجملة خبر أن المخففة . وأن لا عزّة بعد عزّة : أن بعد واو العطف مقحمة زائدة . ولا : نافية . وعزّة : بالنصب والتنوين عطف على دار .
وبعد عزّة : خبرها متعلق بمحذوف .
 
والمعنى :
لما كرهت الحبيبة غير التمنّع والجماح ، كرهت دارها غير البعد والانتزاح ، وبخل الدهر بأوبتها ولم يسمح برجعتها ، تحقّقت أن لا دار تطيب لي بعد

« 277 »
 
طيبة وأن لا عزّة لي بعد عزة . وفي البيت جناس شبه الاشتقاق بين طيبة وتطيب ، وجناس التحريف بين عزّة وعزّة .
 
( ن ) : يعني أن المحبوبة التي عزّ لقاؤها لما كرهت أن تعمل إلا امتناعا عنّا وزيادة نفور لعظمتها وكبريائها وتفرّدها في جلالها وكره دارها إلا البعد عنّا لأنّا آثارها ، وأشار بدارها إلى حظيرتها النزيهة ، ورتبتها السامية كناية عن حضرة أسمائها وصفاتها ، وبخل الدهر منها برجوع إلى مثل تجلّيها الأول الذي به أوجدتنا من عدمنا تيقنت أي تحقّقت أن لا دار من بعد طيبة . وطيبة هي مدينة الرسول صلى اللّه عليه وسلم .
والدار من الدوران ، يعني لا تدور الأمور إلا عليها فإنها دائرة محمدية تدور عليها جميع الدوائر الكونية ، وقوله تطيب ، أي تلذّ تلك الدار لمن دار عليها وسكنها فدارت به محيطة له . وعزّة في آخر البيت كناية عن المحبوبة التي أشار إليها في هذه الأبيات .
قال الشيخ عملت هذه الآبيات بعد ما فرغت من القصيدة التي تليها ، وهي نظم السلوك ، فمن أراد أن يصلها بها فليقل . اهـ .
 
101 - سلام على تلك المعاهد من فتى *** على حفظ عهد العامريّة ما فتي
 
ثم إنه لما تيقن أنه لا دار له بعد طيبة تطيب ، ولا عزّة توجد بعد الحبيب ، تقطّعت منه الأطماع وسلّم على معاهد الأحبّة سلام الوداع ، فقال : سلام مني على مستقر تلك المعاهد . و « المعاهد » جمع معهد : وهو المنزل المعهود به الشيء .
والفتى : الشاب والسخي الكريم . والعهد : الموثق واليمين . و « العامرية » : الحبيبة المنسوبة إلى عامر القبيلة المعروفة . وقوله « ما فتي » : أي ما برح وما زال .
 
الإعراب :
سلام : مبتدأ . وعلى تلك المعاهد : خبر المبتدأ وجاز الابتداء بالنكرة إذ أصله سلامي . ومن فتى : متعلق بما تعلق به الخبر . وعلى حفظ عهد العامرية :
خبر مقدّم لفتى ، واسمها ضمير يعود إلى فتى ، وتقديم الخبر على النافية ممتنع وكأنه جاز هنا للضرورة . والجملة من فتى واسمها وخبرها في محل جر على أنها صفة فتى .
 
والمعنى :
سلام مستقر على هاتيك المعاهد المعهودة من شاب ما زال مقيما على حفظ عهد الحبيبة العامرية . وفي البيت الجناس التام المحرّف بين فتى وفتي فإن الأول بفتح الفاء والتاء والثاني بفتح الفاء وكسر التاء ، وفيه جناس الاشتقاق بين المعاهد والعهد .
اللّهمّ يا واجب الوجود ويا مفيض الخير والجود ارزقنا البقاء على حفظ العهود واسقنا من صفاء ذلك الحوض المورود فإنك وليّ من توجّه إليك وتوكّل
 
« 278 »
 
في جميع أموره عليك . وليكن هذا آخر ما قصدنا تعليقه على التائية الصغرى ، والمعذرة منّي إلى من وقف على هذا الشرح فإني وجدت القصيدة عذراء بكرا لم يكشف شارح عن محاسنها اللّثام ، ولا أبرز معانيها للناظرين أحد من الأنام ، وما تعرّضت لما بها من الدقائق الصوفية ، ولا قصدت الخوض في الإشارات المعنوية لأني كرهت الاكتفاء بالمقال من غير مساعدة الحال ، وكان يمكنني تلفيق كلام في هذا المرام لكن اللّه يعلم أني لا أحبّ إظهار خلاف ما بطن ، فإن ذلك قبيح ولا تليق القباحة بالحسن ، واللّه تعالى أعلم بالسرائر ومطّلع على مكنونات الضمائر ، والحمد للّه على كل حال وإليه المرجع في جميع الأحوال والمفزع في سائر الأهوال ، والصلاة على سيّدنا محمد خاتم عقد الكمال وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل ما طلع هلال وسمع إهلال . قال المؤلّف أطال اللّه عمره وشرح صدره ونشر بالخير ذكره وصدّر شرحها في مجالس آخرها يوم الاثنين الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك المنتظم في سلك شهور سنة إحدى بعد الألف من الهجرة النبوية على مهاجرها أفضل الصلاة والسلام .
 
( ن ) : نكر السلام للتعظيم . وتلك المعاهد إشارة إلى ما تقدّم من حضرات الحقيقة المحمدية . والمعاهد جمع معهد وهو المنزل المعهود به الشيء ، فإن تلك الحضرات محطّ عهد الربوبية حين خرجت الذرية من ظهر آدم يوم الميثاق .
قال تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [ الأعراف : الآية 172 ] الآية .
وقوله من فتى ، يعني ثقة . والعامرية كناية عن المحبوبة الحقيقية المشار إليها فيما سلف من الأبيات بنحو ذلك .
 
102 - أعد عند سمعي شادي القوم ذكر *** من بهجرانها والوصل جادت وضنّت
 
[ الاعراب ]
« أعد » : فعل أمر من الإعادة ، وهو تكرار الشيء . وقوله « عند سمعي » : أي بحيث أسمع ذلك . وقوله « شادي » : أي يا شادي بالدال المهملة وهو المغني .
و « القوم » : كناية عن جملة العارفين ومغنّيهم هو الذي ينشدهم كلام العارفين بربّهم على معنى العلوم الإلهية والمعارف الكشفية والحقائق اليقينية . و « ذكر » : مفعول أعد ، يعني كرّره حتى أسمعه سمع الامتثال المشار إليه بقوله تعالى : وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ( 21 ) [ الأنفال : الآية 21 ] .
وقوله « من » : أي التي ، كناية عن المحبوبة الحقيقية . وهجرانها : إرخاء حجاب الغفلة . و « الوصل » : كشف ذلك الحجاب . و « جادت » : راجع إلى هجرانها - يعني سمحت بهجرانها - . و « ضنّت » : أي بخلت راجع إلى الوصل .
« 279 »
 
103 - تضمّنه ما قلت السّكر معلن *** لسرّي وما أخفت بصحوي سريرتي
 
[ الاعراب ]
جملة « تضمنه » من الفعل والفاعل وهو الضمير المستتر والمفعول وهو الضمير البارز في محل نصب حال شادي القوم في البيت قبله ، ومعنى « تضمنه » تجعل في ضمنه ، أي ضمن ذكر المحبوبة الحقيقية .
« ما قلت » : أي المعنى الذي قلته في أبيات القصيدة التي تقدمت ، فقد طلب من الشادي المذكور إنشاد الكلام بالمعنى لأنه المقصود عند العارفين كيفما كانت الألفاظ غزلية أو رياضية أو في وصف الأطلال أو مديح الرجال أو غير ذلك مما يحمل المعاني الإلهية في سمع هذه الطائفة العليّة .
ثم قال « والسكر » : أي الغيبة بالاستغراق في مطالعة التجليات الإلهية في الصور الكونية بحيث تغيب عنه الغيرية بالكلية وتحضر عنده الأفعال الربانية . وقوله « معلن » : أي كاشف لسرّي ، أي لما أخفيه وأكتمه في قلبي من المحبة الإلهية والأشواق . وقوله « وما » : معطوف على سرّي ، أي الذي أو أمر عظيم .
« أخفت » : أي أخفته صلة الموصول أو صفة النكرة . وقوله « بصحوي » : أي بسبب صحوي من ذلك السكر المذكور يعني في وقت صحوي . « سريرتي » : فاعل أخفت والسريرة هي ما يكتم ، واللّه تعالى أعلم وأحكم .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة قلبي يحدّثني بأنّك متلفي الأبيات من 01 إلى 51 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:17 pm

شرح قصيدة قلبي يحدّثني بأنّك متلفي الأبيات من 01 إلى 51 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الرابعة قلبي يحدّثني بأنّك متلفي الأبيات من 01 إلى 51
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قال رضي اللّه عنه :
01 - قلبي يحدّثني بأنّك متلفي روحي *** فداك عرفت أم لم تعرف
القلب في اللغة عبارة عن الشكل الصنوبري ويكون مقرّه في جهة الشمال ، كما أن الكبد في جهة اليمين وهو مستقر العقل على ما يدلّ عليه قوله تعالى : لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [ الأعراف : الآية 179 ] 
والمراد هنا من القلب العقل الكامل لأن التحديث بما سيحدث أو بما حدث منه ، أو أن المراد بالقلب النظر المؤدّي إلى علم أو ظن باعتبار رجوع ذلك إليه . والتحديث : الإخبار . والإتلاف : الإفناء .
 
والرّوح بالضم ، ما به حياة الأنفس وقد يؤنّث . وقوله « فداك » يجوز فيه أن يكون فعلا ماضيا بناء على تذكير الروح كما هو الأكثر فيه ، أو أن تجعله مصدرا مكسور الفاء أو مفتوحها على وجهي التذكير والتأنيث في الروح .
 
و « عرفت » مفتوح التاء للمخاطب . والمراد من قوله « عرفت أم لم تعرف » جازيت أم لم تجاز ، ولك أن تجعله من قولهم عرف فلان لفلان صنيعته ، أي إحسانه ، أي ادّخر له في باطنه ذلك الإحسان ليكافئه به في وقته فلا يردّ ما قيل من أن الشيخ إنما يقصد خطاب الباري جلّ وعلا ، فكيف يخاطبه بقوله « عرفت أم لم تعرف » على أني أقول إن كلام الشيخ رحمه اللّه ليس منزّلا بأسره على قانون الحقيقة فكثيرا ما ترى فيه ما لا يصلح للمجاز
 
ألا ترى إلى قوله :
أهواه مهفهفا ثقيل الرّدف * كالبدر يجلّ حسنه عن وصف
 
وإلى قوله :
ما أحسن ما بتنا معا في برد * إذ لاصق خدّه اعتناقا خدّي
 
[ الاعراب ]
وإعراب البيت ظاهر ، وقيل عرفت همزة التسوية مقدّرة إذ المعنى أعرفت أم لم .
 
« 281 »
 
والمعنى :
عقلي يخبرني دائما ووقتا بعد وقت أنك آخذي إلى دار الفناء ، ومع ذلك فأنا قد اخترت الفناء لعل روحي تكون فداء لك وعوضا عنك في مقام الفناء ، ولست طالبا على هذا الفداء جزاء لأنه لمجرّد المحبة ومحض المودّة لا لغرض ولا عوض .
 
( ن ) : قوله « قلبي » يعني لا نفسي ، لأن القلب لا يكذب والنفس لا تصدق .
وقوله « يحدّثني » أي يأتي الحديث من قلبي إلى نفسي ، والقلب من أمر اللّه لأنه روحاني ، فحديث القلب حديث ربّاني وحديث النفس حديث شيطاني ، وقد أشرنا إلى الفرق بين القلوب والنفوس بقولنا في مطلع قصيدة :
قلوب متى منه خلت فنفوس * لأحرف وسواس اللعين طروس
وإن ملئت منه ومن نور ذكره * فتلك بدور أشرقت وشموس
 
وقوله « بأنك » الخطاب للمحبوب الحقيقي وهو الحقّ تعالى المتجلّي بالوجود على كل شيء أراده من معلوماته . وقوله « متلفي » أي مهلكي ، قال تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : الآية 88 ] أي إلا وجوده الحق . وقوله « روحي فداك » يعني كونك متلفي ومعدمي بظهور وجودك الحق لي أمر يسرّني وهو مطلوبي ومرغوبي .
قال الشاعر :
أنت تبقى والفناء لنا * فإذا أفنيتنا فكن
ثم قال « عرفت » بفتح التاء ، خطاب من المعدوم الفاني للوجود الحقّ الظاهر له في صورته العدمية الفانية ، يعني اتصفت بالمعرفة العدمية الفانية من حيث ظهورك بي بعد فنائي عن وجودك الحقّ الذي كنت أدّعي بأنه وجودي ، ثم خرجت عنه وعلمت أنه وجودك الحق .
 
وقوله « أم لم تعرف » من هذه الحيثية المذكورة فإنك ظاهر فيها بصورة من يعرف وصورة من لم يعرف بل بصورة قادر وصورة عاجز إلى غير ذلك من النقص والكمال ، فإن الحق تعالى له مرتبتان مرتبة الغيب ومرتبة الشهادة ومرتبة الباطن ومرتبة الظاهر ومرتبة الأوّل ومرتبة الآخر ومرتبة التنزيل ومرتبة التنزّل .
قال تعالى : هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [ الحديد : الآية 3 ] ففي مرتبة الغيب والباطن والأوّل والتنزّه لا يعرف ولا يوصف إلا بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان نبيّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأما في مرتبة الشهادة والظاهر والآخر والتنزّل فهو موصوف بجميع ما اتصف به هو في شهادته وظهوره وآخريته وتنزّله على الإطلاق .
وقوله « عرفت أم لم تعرف » يعني عرفت أنك متلفي بظهورك في صورتي بعد زوال الإنسان الموهوم الذي

« 282 »
 
هو أنا أم لم تعرف ذلك لأنه في هذه المرتبة مرتبة الشهادة والظهور والآخرية والتنزّل قد يعرف وقد لا يعرف وقد يقدر وقد لا يقدر ، وهذا البيت لنا في معناه رسالة على الاستقلال سمّيناها النظر المشرف في معنى عرفت أم لم تعرف . اهـ .
 
02 - لم أقض حقّ هواك إن كنت الذي *** لم أقض فيه أسى ومثلي من يفي
 
و « كنت » مضموم التاء للمفرد المتكلم . و « لم أقض » الثانية من قضى زيد ، مات .
والأسى : الحزن .
 
الإعراب :
إن : شرطية ، وما بعدها فعل الشرط ، والتاء اسم كان . والذي : مع صلته خبرها . وأسى : مفعول لأجله متعلق بقوله لم أقض فيه وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله ، أي إن كنت الرجل الذي ما مات في حبك حزنا على لقائك فما قضيت حق هواك إذ ليس وفاء حقك إلا بالموت كما قال رضي اللّه تعالى عنه :
هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا * من الحب فاختر ذاك أو خلّ خلّتي
 
وقوله « ومثلي من يفي » جملة تذييلية مكمّلة ما قصد رضي اللّه عنه من تحقّق موته في هواه . يعني إذا كان الوفاء حاصلا بالوفاة فأنا ممّن قضى ما عليه ووفاه .
فموته حينئذ محقّق الوجود لأنه ممّن تحقّق منه وفاء العهود . وفي البيت الجناس التام بين أقض وأقض ، وفيه الإكمال بالجملة التذييلية ، وفي البيت إيجاز أي ومثلي من يفي الحقوق ويوفي بالعهود .
 
[ المعنى ]
( ن ) : الخطاب للمحبوب الحقيقي وهو الحق تعالى ، وكنت بفتح التاء ضمير المخاطب أو بالضمّ ضمير المتكلم . والمعنى إن كنت أنت المحبوب الذي لم أمت في محبته حزنا لم أؤدّ حقّ محبتك لأن محبتك حينئذ لا حق لها . أو إن كنت أنا المحبّ الذي لم أمت في هواك حزنا لم أؤدّ حق ذلك الهوى والمحبوب الذي لم يمت في محبته حزنا هو الإنسان الموهوم الذي هو نفسه قبل أن يظهر له أنه المحبوب الحقيقي متجليا في صورة ذلك الإنسان الموهوم الذي هو نفسه ، فلما ظهر له أنه المحبوب الحقيقي متجليا في صورة ذلك الموهوم كان مؤديا حقّ هواه ، وحقّ هواه هو الفناء والاضمحلال بالكلية عن كل ما سواه حتى يبقى هو وحده . وقوله « ومثلي من يفي » ، أي والمحبّ الذي يماثلني في مقامي لا يترك حقوق محبوبه الحقيقي وإنما يوفيها بالتمام ويفنى وينعدم في وجوده ، والسلام . اهـ .
 
03 - ما لي سوى روحي وباذل نفسه *** في حبّ من يهواه ليس بمسرف
 
« 283 »
 
[ الاعراب ]
البيت يقتضي أن تكون الروح والنفس فيه بمعنى واحد وهو اصطلاح الأصول ، ولقد فسّر إحداهما بالأخرى الشيخ جلال الدين المحلي في ( شرح جمع الجوامع ) .
والإسراف : بذل المال بكثرة فيما لا يليق بمحاسن شعائر الشرائع ليس ما لاق بها إسرافا كما قيل لأسرف في الخير كما أنه لا خير في السرف ، وما أحسن قول الشيخ شهاب الدين السهروردي رحمه اللّه تعالى حيث قال :
الشرط بذل النفس أوّل وهلة * لا يطمعن ببقائها الأشباح
والاستثناء في البيت المفرّغ فلذلك كان سوى : مبتدأ مؤخرا ، والجارّ قبله خبر .
وباذل : مبتدأ . وفي حب : متعلق بباذل . وجملة ليس بمسرف : من اسم ليس وخبرها خبر المبتدأ .
 
[ المعنى ]
( ن ) : ما لي ، أي ليس لي لأني متّ عن الجسد بمقتضى البيت السابق بأنه قضاه حق هواه . وقوله سوى روحي ، وهي التي بقيت له وإنما الباقي نسبتها إليه فقط لأنه تعالى يقول : وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ الحجر : الآية 29 ] فالروح له تعالى . وقد قلت في مطلع قصيدة :
إن قلت يا روحي لسبوحي * يقول لي بل أنت يا روحي
وقوله وباذل نفسه ، أي روحه . قال تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [ البقرة : 235 ] ولم يقل روحه تفننا أو تحاشيا عن التكرار . اهـ .
 
04 - فلئن رضيت بها فقد أسعفتني *** يا خيبة المسعى إذا لم تسعف
 
[ الاعراب ]
اللام المفتوحة موطئة وممهّدة للقسم ، وإن : شرطية . ورضي : فعل الشرط في موضع الجزم . وجملة « فقد أسعفتني » : لا محل لها من الإعراب لأنها جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه جواب القسم المذكور . وقوله « يا خيبة المسعى » :
في حكم المنادى المضاف وإن كان المراد منه الاستعانة . وقوله « إذا لم تسعف » :
شرط وجزاؤه محذوف دلّ عليه ما قبله .
 
والمعنى :
إذا لم تسعف بقبول الروح فقد خاب المسعى لأن غاية مرامه أن يفنى عن الروح ويبذلها في محبة حبيبه فإذا لم يحصل على المرام من قبوله للروح فقد خاب ما يرجوه وبطل ما أمله ، وما أحسن جعله قبول روحه إسعافا وإعانة ، والغير يرى ذلك خسرانا واختلاف المطالب باعتبار مراد الطالب .
 
« 284 »
 
( ن ) : رضيت بفتح التاء خطاب للمحبوب الحقيقي . وبها ، أي بنفسي التي هي روحي . ورضاه بها قبوله لها ، وقبوله لها التحاقها بالروح الأعظم المنفوخة منه . وقوله فقد أسعفتني ، أي أفنيتني عن مرادي . وقوله خيبة المسعى الخ . . . يعني إذا لم ترض مني برفع نسبة الروح إليّ وتسليمها لك فأنا أندب جدّي وسعيي في هذا الخير وذلك خيبة في حقي . اهـ .
 
05 - يا مانعي طيب المنام ومانحي *** ثوب السّقام به ووجدي المتلف
 
[ الاعراب ]
المانع : خلاف المانح ، لأن المانح بمعنى المعطي . والباء في به : سببية ، أي كان سقامي بسببه ومن أجله . وقوله « ووجدي » معطوف على السقام ، فيصير المعنى :
ومانحي ثوب وجدي المتلف ، فيكون المتلف صفة للوجد لكونه مجرورا بالعطف على المضاف إليه ولو قال رضي اللّه عنه :
يا مانعي طيب المنام ومانحي * ثوب السقام وثوب وجدي المتلف
لظهر كون الصفة مجرورة كموصوفها غير أن الذي أتى به رضي اللّه عنه أولى لعدم التكرار في لفظة ثوب . ولقد حضرت من قرأ هذه القصيدة من الأفاضل فقال : هذا البيت ملحون .
فقلت له : لماذا ؟ فقال : وجدي معطوف على ثوب المضاف إلى السقام وهو منصوب لأن المراد ومانحي ثوب السقام ومانحي وجدي فيكون وصفه منصوبا تبعا لموصوفه . فقلت له : ليس ما ذكرتم متعينا إذ يجوز أن يكون وجدي معطوفا على المضاف إليه وهو السقام .
فقال لي : المقصود بالذات هو المضاف والعطف عليه هو الأصل .
فقلت له : لا بأس بالعطف على المضاف إليه إذا قامت القرينة عليه .
وذكرت له من ذلك شواهد تدلّ على جواز العطف على المضاف إليه فسكت وسلّم .
وفي البيت الجناس المضارع بين المانع والمانح ، وفيه أيضا الطّباق بذكر المانع الذي هو ضدّ المانح ، لأن المانح المعطي والمانع غير مانح ، ولا تخفى المساواة في الحروف والكلمات في قوله : يا مانعي طيب المنام ، ومانحي ثوب السقام . والبيت الذي بعده جواب النداء .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله « يا مانعي » ، أي يا من يمنعني في الحال والاستقبال فإن اسم الفاعل شرط عمله أن يكون بمعنى الحال والاستقبال ذكره الرضى وغيره . وقوله به ، أي بسببه أو الضمير للمانع والمانح ، وذلك إشارة إلى المحبوب الحقيقي . اهـ .
 
06 - عطفا على رمقي وما أبقيت لي *** من جسمي المضنى وقلبي المدنف
 
« 285 »
 
« عطفا » بفتح العين مصدر عطف عطفا بمعنى مال ميلا ، والمعنى أعطف عطفا ، فهو بدل من اللفظ بالفعل فيكون طلبا . والرمق بالتحريك بقية الحياة . و « المضنى » على صيغة اسم المفعول من أضناه المرض ، أي أوصله إلى مرتبة هي أنه كلما قارب البرء عاد إلى المرض . و « المدنف » : الذي أثقله المرض من أدنفه المرض .
 
الإعراب :
عطفا : مفعول مطلق لفعل محذوف أي اعطف عطفا . وعلى رمقي :
متعلق به . وقوله وما أبقيت لي : معطوف على رمقي ، أي اعطف على رمقي وعلى البقية التي أبقيتها لي والعائد محذوف ، أي أبقيته لي . ومن : في من جسمي بيانية والمبين ما . وقلبي : عطف على جسمي فيكون داخلا في حكم المدنف . فكأنه يقول تلطف أيها الحبيب الطبيب على بقية الحياة التي تعلقت بجسم مضنى وقلب مدنف .
وقوله أبقيت لي ، دليل على أن المأخوذ من جسده بفعل الحبيب وأنه لو شاء أخذ البقية فبقاء ذلك من إحسانه ولو شاء لألحقها بما أخذ من روحه وجثمانه .
 
07 - فالوجد باق والوصال مماطلي *** والصّبر فان واللّقاء مسوّفي
 
[ الاعراب ]
هذا البيت يفهم تعليل طلب العطف في البيت الذي قبله ، يعني إنما طلبت منك العطف على بقية جسم مضنى وقلب مدنف لأجل أن وجده باق ووصاله مماطل وصبره فان ووعد لقائه مسوّف فالجسم مضنى والقلب مدنف ، وقد اجتمعت هذه الأمور عليه فهو محتاج إلى العطف عليه والالتفات إليه . الوجد : الحزن أو الحب . و « الوصال » : مواصلة الحبيب . و « الصبر » نقيض الجزع . و « اللقاء » : الملاقاة .
و « مسوّفي » : اسم فاعل مضاف إلى ياء المتكلم من سوف في الدين ، أي بالغ في المطل . والبيت عبارة عن أربع جمل اسمية فالأولى تقابل الثالثة في الجملة ، والثانية تقارب الرابعة فهي هكذا الوجد باق والصبر فان والوصال مماطل واللقاء مسوّف ، والكل شكايات تقتضي طلب العطف من الحبيب فلذلك قلنا إنها تعليل للطلب المذكور .
وإذا تأملت ما في هذه الجمل من التقابل والتقارب علمت أنه كلام مؤيّد قائله بالعناية الربّانية والسعادة الأزلية يدرك ذلك من اتّصف بالشوق وأحرز لذّة الذّوق .
 
[ المعنى ]
( ن ) : الوجد : ما يجده المحبّ من شدائد المحب . وباق : أي ملازم لا ينفكّ ولا يزول . والوصال : أي الاتصال بالمحبوب اتصال معدوم مقدّر مصوّر بالمقدّر المصوّر لا اتصال موجود بموجود فإنه مستحيل عقلا وشرعا .
وقوله مماطلي : أي يعدني مرة بعد أخرى .
والمعنى في ذلك أن خاطر الاتصال المذكور تارة يغلب عليه
 
« 286 »
 
فيلقيه في الأمل والمطمع ، وتارة يستقصي عليه بالكلية . وقوله والصبر فان : أي لا وجود له أصلا . وقوله واللقاء : أي الاجتماع برحمته وعلمه . قال تعالى : رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [ غافر : الآية 7 ] ،
وقوله مسوّفي : أي يعدني بالوفاء مرة بعد أخرى . قال تعالى : وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [ الأحقاف : الآية 9 ]
وقال : وإليه يرجع الأمر كله . وقال : ليس لك من الأمر شيء ونفسه شيء فليس له أمرها. اهـ .
 
08 - لم أخل من حسد عليك فلا تضع *** سهري بتشنيع الخيال المرجف
 
[ المعنى ]
يعني بقوله « لم أخل من حسد عليك » أن جميع أطوارك في معاملتي مما يعدّ من قبيل النّعم فأنا دائما محسود عليك فالوصال والهجران والقرب والبعد والإقبال والصّدّ والقبول والرّدّ توجب رضاي لكونها منك وما كان منك فهو مقبول ، وعلى العينين محمول :
يا باعثين سهادا لي وفيض بكا * مهما بعثتم على العينين محمول
 
وقوله « فلا تضع سهري » : إشارة إلى أنه ترك نوم الليل انتظارا للوصال يقظة ، فإذا لم يحصل الوصال المطلوب ومالت العين إلى الهجوع وأرسل الخيال الذي يوجب الخفقان ظنّا أنه الحبيب زال المنام واضطربت الأعضاء ولم يحصل من سهر مضعف إلا على خيال مرجف . والتشييع : مصدر شيع بشين معجمة وياء مشدّدة بمعنى أرسل وبعث .
 
( ن ) : التشنيع بالنون تكثير الشناعة من شنع الشيء بالضم قبح فهو شنيع ، وشنعت عليه الأمر نسبته إلى الشناعة .
وقوله لم أخل : أي لم أفرغ . والخطاب للمحبوب الحقيقي ، يعني أن الناس يحسدونني كثيرا على حصول محبتي لك واشتياقي إلى رؤيتك واهتمامي بأمرك ليلا ونهارا فلا تجعل سهري في مقاساة أوجاع المحبة وآلام الاشتياق إليك ضائعا متلفا لا نتيجة له فإنني ربما تغفل عيني فأنام بحكم الطبيعة وتضعف قوّتي عن تجرّع الأوجاع وكثرة السهر عليك ، فإذا نمت وجدت خيالك مقبحا عليّ ما أنا فيه من أحوالي يختلق عليك ما لم ترده بي من سوء القول والفعال فيذهب سهري ومقاساة شدائدي عبثا فتفرح حسّادي ويشمتون بي .
أو يكون المعنى أني سهران لا أنام من شدة المقاساة لأوجاع محبتي لك فأتخيل في يقظتي خيالات فاسدة فلا تضع سهري عليك بما أتخيله من صور الأكوان والأشكال المختلفة فإن ذلك كله تشنيع عليك وإرجاف فإنني متحقّق بأنك لا صورة لك فيما أنت عليه في
 
« 287 »
 
نفسك وأحسن الصور الكونية أقبح ما يكون بالنسبة إلى عظمة جلالك وكمال جمالك فتكون أنت بذلك أشمت بي حسّادي . ويساعد هذا المعنى الأخير قوله بعده : واسأل نجوم الليل الخ . .. اهـ .
 
09 - واسأل نجوم اللّيل هل زار الكرى *** جفني وكيف يزور من لم يعرف
 
[ المعنى ]
وهذا البيت من محاسن البيوت الموصوفة بين أهل الذوق بألطف النعوت ، وهو مقرّر عدم نفع الخيال على تقدير إرساله إليه حيث كان الكرى لا يزور جفنه القريح ، ولم يلم بحمى جسده الجريح والشاهد على ذلك النجوم فإنها تراقبه وطائر السّهاد على جفنه يحوم وطرفه في لجّة دمعه يعوم ، وما ألطف استعارة الزيارة الرامزة إلى أن المتوقّع منه دخول الكرى إلى جفنه دخول زائر يتذكر أحبابه أحيانا فيتعهّد بالزيارة في الشهر أو العام مرّة أو مرّتين . وقوله « وكيف يزور من لم يعرف » : استفهام إنكاري يقتضي نفي الزيارة بتقريب يقتضي نفيها وهو عدم المعرفة . فإن قوله :
« واسأل نجوم الليل هل زار الكرى * جفني . . . . . . . . . . . . . . »
 
وإن كان يقتضي باعتبار مفهومه ملاحظة النفي من حاصل التركيب لكنها دعوى خلية عن التقريب بخلاف قوله « وكيف يزور من لم يعرف » فإنها دعوى بيّنة وحجة مبينة . وفي البيت إدماجان ؛ الأول أنه ملاحظ النجوم طول ليله فهو يرعاها ويستطيب مرعاها ، ولولا ذلك لما ساغ سؤال نجوم الليل عن زيارة الكرى لجفنه . والإدماج الثاني كونه لم ينم في عمره لأن عدم معرفة النوم للجفون دليل على أنه ما ألمّ بحماها ولا عرّج على موطنها ومرساها ، والذوق السليم بذلك شاهد وعليه من أدلته أعظم الشواهد . وقوله « وكيف يزور من لم يعرف » يشبه الرجوع البديعي لأن ما قبله يحتمل أن يكون أحد شقّيه بعد السؤال .
 
الجواب بأن الكرى قد زار جفنه فرجع عنه رجوعا صريحا ينفي الاحتمال المذكور بالمرّة لما قرّرناه من التحقيق . فافهم ذلك فإنه من نفائس الأفكار وعرائس الأبكار ، وما ألطف قول إسحق النديم في المعنى :
هل لعيني إلى الرّقاد سبيل * إن عهدي بالنوم عهد طويل
 
( ن ) : الخطاب للمحبوب الحقيقي مع علمه بأنه يعلم ، فإن كلام العاشق مما يطوى ويكتم . والكرى النعاس كما في الصحاح فإذا كان الكرى لم يزر وهو أوائل النوم فكيف يزور النوم .
 
10 - لا غرو إن شحّت بغمض جفونها *** عيني وسحّت بالدّموع الذّرّف
 
« 288 »
« لا غرو » ولا غروى : لا عجب . و « شحّت » من الشحّ مثلثة البخل والحرص .
والغمض بضم العين . و « سحّت » بالسين والحاء المهملة من سح السحاب مطر وسكب . و « الذرف » بالذال المعجمة جمع ذارفة بمعنى ساكبة .
الإعراب :
لا : نافية للجنس . وغرو : اسمها . وإن : يجوز فيها الفتح والكسر ، فإن فتحت كانت مصدرية وكان حرف الجرّ مقدّرا ، أي لا عجب من أن شحت ، ويكون الجارّ والمجرور خبرها متعلقا بمحذوف . وإن كانت بالكسر فهي شرطية والخبر محذوف ، أي لا عجب موجود . وبغمض جفونها : متعلق بسحت . وعيني :
فاعله . وقوله وسحت : معطوف على شحت . وبالدموع : متعلق بسحت . والذرف :
صفة للدموع وجواب الشرط ، أي إن شحّت وسحت فليس ذلك بعجب .
 
المعنى :
لا عجب من بخل عيني بنومها وسماحتها بدموعها الساكبة لأن ما عنده من الغرام أقله يذهب المنام . وفي البيت الجناس المصحّف بين شحّت وسحّت ، وفيه أيضا الطّباق بين معنى شحّت وسحّت لاستلزام سحّت معنى الجود .
 
11 - وبما جرى في موقف التّوديع *** من ألم النّوى شاهدتّ هول الموقف
 
[ الاعراب ]
« الواو » : عاطفة ، والباء : حرف قسم ، وما : عبارة عن ألم البعد الموجود في موضع وقوفهم للتوديع . و « من » : بيانية . و « ألم النّوى » : بيان والمبين ما . وجملة « شاهدت هول الموقف » : جواب القسم .
 
المعنى :
أقسم بالألم الذي حصل لي في مكان وقوف الوداع . لقد شاهدت هول موقف القيامة . وفي البيت الجناس التام بين موقف التوديع والموقف لأن المراد من الأوّل موقف الوداع ومن الثاني موقف القيامة .
 
( ن ) : الواو : للحال ، والياء : للسببية . وما : موصولة أو نكرة موصوفة ، والجار والمجرور متعلق بشاهدت . وجرى : وقع وصدر . وكنى بموقف التوديع عن عالم الذرّ الوارد في قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [ الأعراف : الآية 172 ]
فإن هذا الاجتماع توديع بين الحق تعالى وبين الحقائق الإنسانية وابتداء سفرها منه تعالى إليه تعالى . وقوله من ألم النوى : بيان لما . والنوى : البعد والتحوّل من مكان إلى آخر ، ولا شك أن الغيبة عن الحضور والرجوع إلى أحكام النفس بعد عن الحق تعالى وفراق له . وقوله شاهدت هول الموقف : أي عاينت خوف موقف يوم القيامة وهو آخر أحوال الإنسان كما أن عالم الذر المذكور أول أحواله ، يعني شهدت الآخر في الأول والأول في الآخر . اهـ .
 
« 289 »
12 - إن يكن وصل لديك فعد به *** أملي وماطل إن وعدت ولا تفي
 
[ الاعراب ]
إن : شرطية . ويكن : مجزوم بلم لا بأن . ووصل : اسمها . ولديك : خبرها .
وجملة فعد به أملي : جواب الشرط في موضع جزم . وأملي : يجوز أن يكون مفعولا لعد ، ويجوز أن يكون منادى ، أي فعدني به يا أملي ويا مرامي . وماطل : عطف على عد . ولا تفي : عطف على ماطل ، أو على عد . وجواب إن عدت : محذوف دلّ عليه ماطل ، أي إن وعدت فماطل ، وكان مقتضى القياس حذف الياء من تفي لكنه سبقت كسرة الفاء في تفي فتولّدت منها ياء على حدّ قوله تعالى : إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [ يوسف : الآية 90 ] .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله « إن لم يكن وصل » الخ : يعني إن لم يوجد عندك ملاقاة لذلك بالرجوع بعد الفناء فيك إلى حضرة علمك فعد أملي به وماطله إن وعدته بذلك ولا تفيه. وأملي : مفعول أول لعد . وبه مفعولها الثاني. اهـ.
 
13 - فالمطل منك لديّ إن عزّ الوفا *** يحلو كوصل من حبيب مسعف
 
[ الاعراب ]
البيت تعليل لمفهوم البيت الذي قبله وذلك لأنه يدلّ على أن الشيخ رضي اللّه عنه قد رضي بالمطل مع عدم الوفاء بعد حصول الوعد . وحاصل التعليل أن المطال ولو طال عند عزّة الوفاء يحلو كحلاوة الوصال من حبيب وخليل منصف فهذه الحلاوة من الوعد قائمة مقام الإقبال مع السعد . والمطل : مبتدأ . ومنك : حال منه أو صفة له بناء على متانة المعنى وإن بعد عن القاعدة . ولديّ : متعلق بيحلو . وجملة يحلو لديّ : في محل رفع على أنه خبر المبتدأ . وقوله كوصل : متعلق بيحلو على حذف مضاف ، أي يحلو كحلاوة وصل . وقوله من حبيب : متعلق بمحذوف على أنه صفة وصل . وقوله مسعف : صفة حبيب .
وجواب قوله إن عزّ الوفا محذوف دلّ عليه قوله فالمطل منك يحلو لديّ وتقديره إن عزّ الوفاء فالمطل عندي صفاء .
وفي البيت المقابلة بين المطل والوفاء . ولفظة مسعف بمعنى مطلق الإسعاف ومسعف بوصله .
 
14 - أهفو لأنفاس النّسيم تعلّة *** ولوجه من نقلت شذاه تشوّفي
 
« أهفو » من هفا هفوا وهفوة وهفوانا ، أسرع ، فكأنه يقول : أسرع في التلفّت لاستنشاق أنفاس النسيم .
والمراد من أنفاس النسيم هبوبها ، أو المراد خفقان القلب عند هبوب الرياح ، وفي رواية أصبو بالصاد والباء الموحدة بمعنى أميل ولعله مناسب جدّا .
وقوله « تعلة » بمعنى التعلّل وهو بمعنى التشاغل بالشيء . وقوله « ولوجه » : متعلق بمحذوف على أنه خبر المبتدأ ، والتقدير هنا وتشوّفي مستقرّ لوجه من نقلت شذاه .
 
« 290 »
 
الإعراب :
تعلة : منصوب على أنه تعليل لقوله أهفو لأنفاس النسيم . وتشوّفي :
مبتدأ مؤخر . ولوجه من نقلت : خبر مقدّم ، والضمير في نقلت يعود لأنفاس النسيم .
والشذا : بالشين المعجمة والذال كذلك مفعوله . ومن : واقعة على الحبيب ، أي لي ميلان متباينان أحدهما لمجرّد التعلّل لا في الحقيقة وهو الميل لأنفاس النسيم ، والثاني الميل الحقيقي وهو الميل إلى وجه حبيب نقلت الأنفاس شذاه وريحه الذي هو كالمسك الأذفر إليّ وألقت الأرواح الطيبة أرواحه عليّ .
وما أحسن قول الشيخ علي بن المقرب :
تظل بعينيه نشاوى وثغره * فما نتحسى الكأس إلا ترشفا
 
وقال مهيار بن مزرويه الكاتب :
واذكر عذبا من رضا بك سلسلا * فما أشرب الصهباء إلا تعللا
وما ألطف قول أعرابية جميلة مرّ على بيتها أميران من أمراء آل عباس فطلبا منها ماء لغير الظما ، وإنما هو لمجرّد التعلّل لينظرا منها ذلك الجمال . فقالت وأحسنت في المقال :
هما استسقيا ماء على غير ظماة * ليستشفيا باللحظ ممّن سقاهما
 
[ المعنى ]
( ن ) : يعني يميل قلبي وأطرب لهبوب النسيم تعلّلا وتشاغلا ولكن تشوّفي ، أي تطلّبي هو لذات من نقلت لنا أنفاس النسيم شذاه . فالإشارة بأنفاس النسيم قوى الروح المنفوخ في جسده لأنه منبعث عن أمر ربّه تعالى ، والمعنى بالشذا هنا ما تأتي به الروح الآمرية من أخبار الحق تعالى فتبثّه إلى القلب ويسمى الوارد . اهـ .
 
15 - فلعلّ نار جوانحي بهبوبها *** أن تنطفي وأودّ أن لّا تنطفي
 
البيت فيه الرجوع المذكور في علم البديع، وذلك أنه رضي اللّه عنه قال : فلعل نار جوانحي بهبوبها أن تنطفي.
 
والمعنى :
أترجّى أن تنطفي نار جوانحي بهبوب أنفاس النسيم . ثم رجع عن ذلك ، وقال : وأودّ أن لا تنطفي ، أي وأحبّ أنها لا تنطفي بل أترجّى بقاء إيقادها في الجوانح فهو رجوع عمّا ترجاه أوّلا كأنه جرى على أكثر عادة الناس في ترجّيهم انطفاء نار جوانحهم .
ثم نظر إلى وجدانه وراجع ما به يحصل للقلب غاية اطمئنانه فوجد وجوده قائلا بوقوده غير راض بسكون ناره من وجوده فصرّح بضدّ ما كان قد ترجّاه وطلب ما يطلبه خاطره ويتمنّاه من بقاء اللهيب لكونه ناشئا عن الحبيب ،
 
« 291 »
 
ولذلك ترى المحبّين لا يشكون داءهم إلى الطبيب . قلت : ومن شواهد الرجوع قول المتنبي :
دمع جرى فقضى في الربع ما وجبا * لأهله فشفى أنى ولا كربا
 
قوله : فشفى أنى ولا كربا ، أنى : بمعنى كيف ، وهي هنا للاستفهام الإنكاري ، وقوله : ولا كربا ، أي ولا قارب وأنّى ولا كربا رجوع عن قوله فقضى في الربع ما وجب لأهله أو رجوع عن قوله فشفى فإن كلّا منهما مما يرجع عن المحبوب فتأمّل .
 
( ن ) : ابتدأ في أن يترجّى انطفاء حرارة شوقه إلى الحق تعالى ببثّ العلوم الإلهية التي تثيرها الروح الآمرية المنفوخة في جسده السويّ حيث تأتيه بالأخبار الربّانية من الحضرة الرحمانية . ثم قال : وأتمنى أن لا تنطفي تلك النار لعلمه بعدم إمكان اجتماع الحق والباطل فإن المخلوق باطل والحق حق . قال تعالى : جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [ الإسراء : الآية 81 ] . اهـ .
 
16 - يا أهل ودّي أنتم أملي ومن *** ناداكم يا أهل ودّي قد كفي
 
[ الاعراب ]
« يا أهل ودّي » : أي يا من ودّي ومحبتي لهم فهم أهله ومحله . وقوله « أنتم أملي » : أي أنتم رجائي ومطلوبي من الدنيا لا غيركم لأن تعريف الطرفين يؤذن بالقصر . وأما قوله « ومن ناداكم يا أهل ودّي » : فمعناه وكلّ من ناداكم واستند إليكم فقد كفاه اللّه تعالى جميع المهمات ودفع عنه سائر الملمّات . وقوله : يا أهل ودّي ، بعد قوله : ومن ناداكم ، فيه لطيفة لأنه يحتمل أن يكون نداء ثانيا مفيدا لتأكيد التضرّع والتخضّع ، ويحتمل أن يكون تفسيرا للنداء الواقع في قوله : ومن ناداكم ، أي ومن ناداكم بقوله يا أهل ودّي قد كفى . وفي البيت ردّ العجز على الصدر بقوله : يا أهل ودّي ويا أهل ودّي . ومن : مبتدأ . وجملة قد كفى : خبره ، ونائب الفاعل في كفي هو الرابط بين المبتدأ وخبره .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله يا أهل ودّي : كناية عن الحضرات الإلهية والتجليات الربانية الظاهرة بصور الأعيان الكونية . وقوله : أنتم أملي ، أي ما أؤمّله في الدنيا والآخرة . اه .
عودوا لما كنتم عليه من الوفا كرما فإنّي ذلك الخلّ الوفي
 
[ المعنى ]
يخاطب أهل ودّه بأن يعودوا إلى ما عوّدوه من الوفاء . وأشار إلى أنه باق على خلّته ووفائه فلا بدع في أن يطلب منهم أن يستمرّوا على عادتهم معه من الوفاء .
وقوله كرما : منصوب على أنه مفعول لأجله لعودوا ، يعني عودوا كرما ولطفا لا جبرا
 
« 292 »
وعنفا . وقوله فإني ذلك الخل الوفي : جملة تعليلية لطلبه العود إلى الوفاء . وما أحسن قوله : فإني ذلك الخلّ الوفي ، فإنها جملة تقتضي أنه مشهور بالوفاء معلوم لكل من يشاهد وينظر بدليل التعبير عنه باسم الإشارة للبعيد وبدليل تعليل الطرفين المقتضي لحصر الوفاء فيه مع الاتّصاف بالخلّة والوفاء .
( ن ) : قوله : عودوا ، أي ارجعوا بنا من قوله تعالى :كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ [ الأنبياء : الآية 104 ]
وإذا أعاد الشيء إلى ما كان عاد إلى معاملته كما كان . وقوله : لما كنتم عليه ، أي لما وجدتم أزلا . اهـ .
 
18 - وحياتكم وحياتكم قسما وفي *** عمري بغير حياتكم لم أخلف
 
ما ألطف هذا البيت وما أحسنه ، وما ألطف لفظة « وفي » فإنها تحتمل أن تكون صفة قسم الذي قبله على لغة ربيعة ، ويحتمل أن تكون واو العطف داخلا على حرف الجرّ فإن كانت صفة فعمري بضم العين ظرف منصوب بقوله : « لم أحلف » إذ المراد مدّة عمري وطول حياتي ، وإن كانت جارا ومجرورا فهو متعلق بقوله لم أحلف في عمري بغير حياتكم لأن الحلف مبنيّ على العزّة ولا عزيز عندي سواكم .
 
الإعراب :
قسما : مفعول مطلق للفعل المقدّر العامل في قوله وحياتكم . يعني أقسم بحياتكم قسما وفيّا . وقوله في عمري بغير حياتكم لم أحلف : جملة معترضة بين القسم وجوابه فإن جملة قوله: لو أن روحي في يدي: جواب القسم.
 
( ن ) : الواو للقسم ، والخطاب للمكنّى عنهم بأهل ودّه . وقوله وحياتكم : مرفوع بالابتداء . وقوله قسم : خبره . اهـ .
19 - لو أنّ روحي في يدي ووهبتها *** لمبشّري بقدومكم لم أنصف
 
[ الاعراب ]
لو : حرف يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه . وأن المفتوحة مع اسمها وخبرها في تأويل مصدر وهو فاعل فعل مقدّر بعد لو لاختصاصها بالدخول على الفعل ، أي لو ثبت كون روحي في يدي . قوله ووهبتها : معطوف على الشرط فهو في حيزه . ولم أنصف : جواب لو .
 
والمعنى :
لو ثبت كون روحي في يدي ووهبتها لمن بشّرني بقدومكم لم أنصف ، فعدم الإنصاف مفرّع على كون الروح في اليد وعلى هبتها للمبشّر .
 
( ن ) : جملة هذا البيت جواب القسم . وقوله لو أن روحي في يدي : أي لو كنت مالك أمرها أتصرّف فيها . والمعنى بقدومكم : أي عليّ من الغيب المطلق بحيث


 
« 293 »
يتجلّى بكل شيء على التنزيه التامّ . والمبشر كناية عن الوارد الرباني في المقام الصمداني. اهـ .
 
20 - لا تحسبوني في الهوى متصنّعا *** كلفي بكم خلق بغير تكلّف
 
[ المعنى ]
كأنه لمّا حلف بحياتهم أن روحه قليلة في بشارة من يبشّره بقدومهم ، فما بالك بمعن يبشّره بوصالهم توهم أن أحدا لا يصدقه فيما قال ولا يسلم له ذلك المقال فنفى عنه تلك التهمة بقوله « لا تحسبوني في الهوى متصنّعا » وقد فسّروا المتصنّع بالمتكلّف في تحسين سمته .
والكلف بفتح الكاف واللام العشق وبكسر اللام الرجل العاشق .
 
والتكلّف كالتصنّع . وحاصل البيت أنه يقول جميع ما يصدر مني من دعوى المبالغة في المحبة فهو واقع ، وليست تلك الدعوى مني مكلفة بل هي صادقة ثابتة وأغصانها في القلوب نابتة . وفي البيت المجانسة بين الكلف والتكلّف وهي شبه الاشتقاق ، وفيه الطّباق بين الخلق والتكلّف .
 
21 - أخفيت حبّكم فأخفاني أسى *** حتّى لعمري كدتّ عنّي أختفي
22 - وكتمته عنّي فلو أبديته *** لوجدته أخفى من اللّطف الخفي
 
[ المعنى ]
إخفاء الحب أمر مطلوب مطلقا سواء كان متعلقا باللّه تعالى أو ببعض المخلوقين . قال بعضهم : سبب ذلك أن دعوى المحبة ممّن يدّعيها إعلاء لنفسه وتقريب لوجوده إلى حضرة المحبوب والقانون من المحبّ دعوى بعده عن ساحة الحبيب ، وأنه منه بعيد لا قريب ، فلذلك ترى المحقّقين من أرباب العشق لا يحبون أن يبيحوا بالغرام ، ولا أن يبرزوه في نظام الكلام ، إبعادا لأنفسهم عن منازل المقرّبين ، واستبعادا لأن يكونوا إلى الحضرة من المنسوبين .
 
قال الشيخ السهروردي رضي اللّه عنه :
بالسرّ إن باحوا تباح دماؤهم * وكذا دماء العاشقين تباح
 
وما أحسن قوله رضي اللّه عنه في التائية الكبرى :
وكشف حجاب السرّ أبرز سرّ ما * به كان مستورا له من سريرتي
وعنه بسرّي كنت في خفية وقد * خفته لوهن من نحولي أنتي
فأظهرني سقم به كنت خافيا * له والهوى يأتي بكل غريبة
وأفرط بي ضرّ تلاشت لمسّه * أحاديث نفس كالمدامع نمت
فلو همّ مكروه الردى بي لما درى * مكاني ومن إخفاء حبك خفيتي
 
« 294 »
 
ومن عادته رضي اللّه عنه أنه يتلاعب بالمعاني في قوالب متغايرة ويكسوها حللا فاخرة . ولغة البيتين ظاهرة .
 
الإعراب :
فاعل أخفاني يعود إلى الحب ، يعني أخفيته فأسقمني حتى صرت من السقم خافيا عن العيون لأن إظهار الحب يوجب فرح النفس وسرورها ، وكتمه يوجب سقم الأبدان ونحولها فصدق أن إخفائي له يوجب أنه يخفيني .
وقوله أسى : يجوز أن يكون مفعولا لأجله فإن قلت إذا كان الفاعل الحب فكيف يجوز أن يكون الأسى مفعولا لأجله ولم يتّحد الفاعل ، وقد شرط الجمهور اتحاده ، والجواب أن الشيخ رضي اللّه عنه جوّز عدم التّشارك في الفاعل مستدلّا بما في نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه ، فأعطاه اللّه النظرة استحقاقا للسخطة واستضماما للبليّة ، والمستحق للسخطة إبليس والمعطي للنظرة هو اللّه تعالى .
ويجوز أن يكون الفاعل أسى ، أي أخفيت حبّكم فأخفاني الحزن الناشئ عن الحب .
ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الحب ، وأسى : منصوبا على التمييز ، أي أخفاني الحب من جهة الأسى لأن الحب له جهات متعددة فينشأ عنه الحزن والفرح والسهر والهجر والبعد والصّدّ وغير ذلك .
فكأنه لمّا قال أخفاني الحب ، سأله سائل وقال : من أيّ جهة أخفاك الحب ؟
فقال : من جهة الأسى . وحتى : ابتدائية . ولعمري : بفتح العين قسم وخبره محذوف ، أي قسمي . وكدت : اسمها التاء . وجملة اختفى : خبرها . وعني : متعلق بأختفي .
قوله وكتمته : أي الحب عني ، أي عن علمي بحيث أنني أودعته حيث لا تشعر أسباب علمي فلو فرض أنني أبديته لوجدته عند الإبداء أخفى من اللطف الخفي ، والحال أن اللطف الخفي هو التوفيق الذي يخلقه اللّه في العبد من حيث لا يشعر .
وهذه مبالغة تامّة لأنه يقول مرتبة إظهاره أن يكون أخفى من اللطف الخفي ، فما بالك بمرتبة إخفائه وليس وراء هذا مبالغة .
 
( ن ) : قال المتنبي :
أبلى الهوى أسفا يوم النّوى بدني * وفرّق الحب بين الجفن والوسن
جسم تردّد في مثل الخيال إذا * أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
كفى بجسمي نحولا أنني رجل * لولا مخاطبتي إياك لم ترني
 
وقوله عني أختفي : إشارة إلى الفناء باللّه فإنه تعالى إذا ظهر للعارف المحقّق أخفاه عن نفسه فلا يجد غيره تعالى . اهـ .
 
23 - ولقد أقول لمن تحرّش بالهوى *** عرّضت نفسك للبلا فاستهدف
24 - أنت القتيل بأيّ من أحببته فاختر *** لنفسك في الهوى من تصطفي
 
« 295 »
[ المعنى ]
التحريش : الإغراء بين القوم ، يقال : حرشته فتحرّش ، أي أغريته بالشيء فتعلق به وأولع به . والهوى : المحبة . واستهدف : فعل أمر معناه انتصب هدفا لتكون علامة ترمى إليها سهام المحبة . وقوله « أنت الفتيل بأيّ من أحببته » : اعلم أن أيّا هذه كانت في الأصل شرطية ، ثم إنها تصرّف فيها حتى صارت بمعنى النكرة ، أي أنت القتيل بكل ذات أحببتها وإنما قلنا إنها في الأصل شرطية لأن المعنى « من أحببته » .
 
وقد مثّل الشيخ الرضي لأي الموصولة بقولهم : اضرب أيّهم لقيت ، وهو في المثال مثل التي في البيت . وقوله : « فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي » مفرّع على قوله : « أنت القتيل بأيّ من أحببته » ، يعني إذا كان القتل لازما للمحبة فليختر المحبّ لنفسه حبيبا يصلح أن يقتل به ، وعلى نحو ذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم : « يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل » .
 
لكن يشكل على كون « أي » في البيت موصولة أنها حينئذ لا صلة لها لأن من التي أضيفت إليها إما موصولة فما بعدها صلتها ، وإما نكرة فما بعدها صفتها ، فأين صلة أي ، اللّهمّ إلا أن تقول أن « من » هنا نكرة تامّة فلا تحتاج إلى صفة ، والكلام مع هذا محل تأمّل فليحرّر وهذا الشعر هو السحر الحلال .
 
( ن ) : قوله ولقد أقول : اللام موطئة للقسم المقدّر ، والتقدير واللّه قد أقول ، وقد لتوقّع حصول القول منه ، وقوله بالهوى : أي بالمحبة مطلقا للمحبوب الحق من حيث ظهوره بالصور العلمية . وقوله للبلا : أي للامتحان من اللّه تعالى لإظهار صدقك في المحبة ، أو كذبك فيها . والبلا هنا مقصور لضرورة الوزن .
وقوله أنت القتيل : أي المقتول على الحالة التي أنت فيها من خير أو شرّ ، والقتل هنا بمعنى الموت اللازم الذي لا بدّ منه لكل حيّ بالحياة الدنيا .
وقوله بأي من أحببته : الباء للملابسة ، أي أنت القتيل بملابسة محبة ، أي شيء أحببته فإن المرء يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه .
أو الباء للسببية ، أي بسبب أي حبيب أحببته فاختر حالة تكون عليها في الدنيا وتموت عليها وتحشر عليها ، وقد عرضنا عليك محبة اللّه تعالى ومحبة الأغيار من العوالم ، وشرحنا لك ذلك فانظر في نفسك ولا تغشّها وأصدق في حالك ومقالك . قال تعالى : لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [ الأحزاب : الآية 8 ] فكيف الكاذبون . اهـ .
 
25 - قل للعذول أطلت لومي طامعا *** أنّ الملام عن الهوى مستوقفي
26 - دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى *** فإذا عشقت فبعد ذلك عنّفي
 
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة قلبي يحدّثني بأنّك متلفي الأبيات من 01 إلى 51 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:18 pm

شرح قصيدة قلبي يحدّثني بأنّك متلفي الأبيات من 01 إلى 51 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الرابعة قلبي يحدّثني بأنّك متلفي الأبيات من 01 إلى 51
« 296 »
 
[ المعنى ]
اعلم أن البيت الأول يقرأ دائما محرّف اللفظ وذلك لأنهم يروونه إن الملام بكسر همزة إن ، وذلك يقتضي فساد المعنى لأنه يقتضي الجزم بكون الملام استوقفه عن الهوى وليس ذلك من شأن الصادقين في الهوى ولا الذين تمكّن من قلوبهم الجوى .
فالصواب في الرواية أن تروى بفتح همزة أن على أن المعنى طامعا في أنّ الملام يستوقفني عن الهوى وليس طمعه حاصلا ، بدليل قوله في البيت التالي :
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى
 
والمعنى الحاصل بين البيتين متداول بين الأدباء غير أن الشيخ رضي اللّه عنه سبكه سبك النضار ، وأبرزه ضاحكا بالسرور والاستبشار ، ورأيت بعض الأدباء وأظنه ابن حجة الحموي قد ضمن حصة من المصراع الثالث فقال وأجاد في المقال :
يا من يقول بان طع * م لمى الحبائب لم يرق
وغدا يعنّف في الهوى * دع عنك تعنيفي وذق
 
وقد ذكر الشيخ رضي اللّه عنه هذا المعنى في قصيدته الهمزية على عادته في التلاعب بالمعاني المتقاربة في ألفاظ مختلفة :
لو تدر فيم عذلتني لعذرتني * خفّض عليك وخلّني وبلائي
ويقرب من ذلك قول من قال وأجاد في المقال :
إن لامني من لا رآه فقد * جار على الغائب في الحكم
وإن لحاني من رآه فقد * أضلّه اللّه على علم
 
التعنيف في أصل اللغة الإتيان بالكلام العنيف الشديد . والمراد به هنا تقريع المحبّ على المحبة ولومه عليها بكلمات غليظة على قلبه شديدة على سمعه . وقوله « فإذا عشقت فبعد ذلك عنف » : أي إن كنت قادرا فهو من باب إرخاء العنان مع الخصم ، أي عنف بعد العشق ، ومن المعلوم أن لا قدرة لك على التعنيف بعد العشق لما بينهما من المباينة . وفي قوله : « وذق طعم الهوى » إشارة إلى امتناع التعنيف بمجرّد ابتداء العشق في عشقه ،
 
وما ألطف قول من قال وأجاد في المقال :
قال الخليّ الهوى محال * فقلت لو ذقته عرفته
فقال هل غير شغل قلب * إن أنت لم ترضه صرفته
وهل سوى زفرة ودمع * إن لم ترد جريه كففته
فقلت من بعد كل وصف * لم تعرف الحبّ إذ وصفته
 
« 297 »
 
( ن ) : قل : فعل أمر خطاب لمن تحرّش بالهوى في البيت السابق ، أو لكل من يصدر منه القول . وقوله للعذول وهو الذي يلومه بالقياس على نفسه فيظنه يحب الأغيار وهي الصور الكونية ، وهو أنه يحبّ الظاهر المتجلّي بتلك الصور وهو الحقّ تعالى .
والعذول الجاهل بتجليات ربّه وظهوراته في كل شيء .
وقوله طامعا : حال من العذول المطيل عذله لأجل تركي للمحبة الإلهية التي هي ديني واعتقادي من قوله تعالى : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [ المائدة : الآية 54 ] .
 
قال الشيخ الأكبر قدّس اللّه سرّه من أبيات له :
أدين بدين الحب أنّى توجّهت * ركائبه فالدين ديني وإيماني
لنا أسوة في بشر هند وأختها * وقيس ولبنى ثم ميّ وغيلان
 
وقوله ذق طعم الهوى : أي المحبة الإلهية كما أنا ذائق فإنك لا تعرف إلا المحبة الكونية المتعلقة بصور البرية . فإذا أحببت الظاهر المتجلّي بالصور وتركت محبة الصور صارت محبتك إلهية لا كونية ، فحينئذ لا تقدر على التعنيف بل يمنعك إيمانك باللّه وإذعانك للحق . اهـ .
 
27 - برح الخفاء بحبّ من لو في الدّجى *** سفر اللّثام لقلت يا بدر اختف
 
[ المعنى ]
« برح الخفاء بحب » وزن الفعل سمع ، أي وضح الأمر كما في القاموس .
و « من » : واقعة على الحبيب ، أي وضح الأمر بحب حبيب . لو سفر اللثام في دجى الليل وظلمته لقلت للبدر اختف لأن نوره يغلب على نور البدر ، فكأن نور وجهه شمس ، ولا شك أن نور الشمس يغلب نور القمر ويستره . و « الدجى » : جمع دجية .
وقوله « سفر اللئام » : أي أزاله وكشفه . وحاصل البيت كيف أستر حبّ حبيب لو كشف ذلك الحبيب وجهه في الظلام بعد أن يزيل عن وجهه اللثام لا ختفى البدر في الدجى ،
 
وما أحسن قول من قال وأجاد في المقال :
لم يطلع البدر إلا من تشوّقه * إليك حتى يوافي وجهك النظرا
ولا تغيب إلا عند خجلته * لما رآك فولّى عنك واستترا
 
وقال الآخر :
روحي فداك وعدتني بزيارة * فظللت أرقبها إلى الإمساء
حتى رأيت قسم وجهك طالعا * لم تنتقصه غضاضة استحياء
فعلمت أنك قد حجبت وأنه * لو شام وجهك ما بدا بسماء
 
« 298 »
 
( ن ) : قوله برح الخفاء : أي ظهر أمري واشتهر بسبب محبتي لمحبوب لو أنه في الظلمات التي هي عوالم الإمكان . سفر اللثام : أي كشفه ، والإشارة باللثام لصور الكائنات كلها وبسفورها لظهور فنائها واضمحلالها في تجلّي وجود الحق تعالى .
 
وقوله يا بدر اختف ، فالبدر كناية عن بدر الروح الآمري المنفوخ منه عن أمر اللّه تعالى في كل جسد مسوّى ، فهو بدر مشرق في ظلمة كل جسد ، واختفاء نور البدر إذا طلع ضوء الشمس وهي شمس الحقيقة الوجودية الأحدية فإن نور البدر مستفاد من ضوء الشمس فإذا ظهر المتجلّي الحقّ في ظلمة صورة كون من الأكوان اختفى بدر روح تلك الصورة بالكليّة وبقي الوجود الحقّ على ما هو عليه أزلا وأبدا فذهب ما لم يكن وظهر ما لم يزل . اهـ .
 
28 - وإن اكتفى غيري بطيف خياله *** فأنا الّذي بوصاله لا أكتفي
 
[ المعنى ]
هذا المعنى يشير إلى علوّ همّة الأستاذ رضي اللّه عنه في مقام المحبة باعتبار ما يعرف من الأدلة بمقام الإخلاص وانتصابه تحت علم العشّاق على الاختصاص ، فذلك يقول : « وإن اكتفى غيري » البيت ، وذلك كله ترقّ في مدارج الاتحاد في معنى الوصال . وما أحسن قول الوزير أبي علي بن معلم :
وإذا رأيت فتى بأعلى رتبة * في شامخ من عزّه المترفّع
قالت لي النفس العروف بقدرها * ما كان أولاني بهذا الموضع
 
وهو رضي اللّه عنه لمّا رأى حالة احتضاره الجنة وقد عرضت عليه والملائكة صاح وتأوّه ونادى :
إن كان منزلتي في الحبّ عندكم * ما قد رأيت فقد ضيّعت أيامي
أمنية ظفرت روحي بها زمنا * واليوم أحسبها أضغاث أحلام
قال الراوي لهذه القصة : فلما قرأ هذه الأبيات سمع هاتفا يقول له : فماذا تريد يا عمر ؟
 
فأنشد قوله من التائية الكبرى :
أروم وقد طال المدى منك نظرة * وكم من دماء دون مرماي طلّت
قال : ثم تبسّم وفاضت روحه رحمه اللّه فعلم الحاضرون من الأولياء والصالحين أنه قد نال مرامه .
ومن جملة الأولياء المشهورين في ديار العجم المولى الصالح المسمّى بالشيخ محمد المغربي ولم يكن مغربيّا وإنما كان تبريزيّا لكنه سافر إلى ديار المغرب واعتقد في أحوال الشيخ محيي الدين بن عربي رضي اللّه عنهما فلقّب

« 299 »
 
بالمغربي لذلك ، وله أحوال مشهورة وكرامات مذكورة ، وله ديوان فيه شعر بالفارسية وشعر بالعربية ، فمن ذلك قصيدة عربية من جملتها قوله :
يا سادتي هل يخطرنّ ببالكم * من ليس يخطر غيركم في باله
حاشاكم أن تغفلوا عن حال من * هو غافل في حبّكم عن حاله
بخيالكم إن كان غيري يكتفي * فأنا الذي لا أكتفي بوصاله
وهو صريح بيت الشيخ رضي اللّه عنه غير أنه غيّر الأسلوب في حرف الرّويّ فاعلم ذلك .
 
( ن ) : قوله « وإن اكتفى غيري » : أي من الجاهلين المحجوبين المكتفين بشهود صور أنفسهم عن شهود ظهوراته تعالى وتجلياته بكل صوره ، وطيف خيال المحبوب هو ما في علم ذلك الجاهل باللّه تعالى المحجوب عنه في وقت استحضاره له . وقوله « فأنا الذي بوصاله » : أي المحبوب المذكور في اليقظة الحقيقية التي لا نوم فيها بأن يذهب عني الخيال بالكليّة وأتحقق بفناء جميع صور البريّة . وقوله « لا أكتفي » وإنما أطلب فوق ذلك حتى أرجع إلى حضرة الذات الأقدس عارية عن الأسماء والصفات بحسب ما هنالك . وهناك ينقطع الكلام وتسكن حركة اللام والسلام . اهـ .
 
29 - وقفا عليه محبّتي ولمحنتي *** بأقلّ من تلفي به لا أشتفي
 
[ الاعراب ]
وقفا : منصوب بفعل مقدّر تقديره وقفت عليه محبتي وقفا . ومحبتي حينئذ منصوب بالفعل المقدّر . وقوله ولمحنتي : متعلق بقوله لا أشتفي ، والتقدير وقفت محبتي عليه وقفا . ولا أشتفي لأجل محنتي بأقل من تلفي به . ولعمري إن في البيت لطافة عجيبة وهي أنه جعل غاية شفاه نهاية تلفه ، وكيف يكون تلفه سببا للشفاء .
الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ، فهو حينئذ إغراب لأنه أنتج الشيء من ضدّه على حدّ قوله تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [ البقرة : الآية 179 ] . وفيه جناس التصحيف بين محبتي ومحنتي .
 
[ المعنى ]
( ن ) : وقفا : مفعول مطلق ، والوقف هو حبس العين على ملك اللّه تعالى كما قال الفقهاء . والضمير في عليه للمحبوب الحقيقي يعني جعلت محبتي وقفا عليه فهي محبوسة عن التصرّف فيها تقرّبا إليه ، وأمّا ما تنتجه من العلوم والمعارف الإلهية التي هي بمنزلة الغلّة أتصدّق بها على المريدين من أهل الإيمان ينتفعون بذلك وأنا الناظر على ذلك الوقف أتصدّق بالغلّة على المستحقّين لها ، وأجمع ما فضل منها فأجعله في ضمن القراطيس نظما أو نثرا يتصرّف فيه الناظر بعدي على هذا الوقف بتولية سلطان
 
« 300 »
 
السلاطين عزّ وجلّ . ومعنى قوله « ولمحنتي » الخ . . . أنني معاد لنفسي في محبته كما ورد عاد نفسك فإنها انتصبت لمعاداتي ولأجل هذا الأمر الذي هو محنة لي واختبار وابتلاء من الحق تعالى لا أشتفي من نفسي بأدنى من إهلاكها وإفنائها في محبة ربّي عزّ وجلّ . اهـ .
 
30 - وهواه وهو أليّتي وكفى به *** قسما أكاد أجلّه كالمصحف
31 - لو قال تيها قف على جمر الغضى *** لوقفت ممتثلا ولم أتوقّف
32 - أو كان من يرضى بخدّي موطئا *** لوضعته أرضا ولم أستنكف
 
[ الاعراب ]
قوله وهواه : قسم ومقسم به ، أي أقسم بهواه . وجملة قوله لو قال تيها إلى آخر البيت من الشرط ، وجوابه جواب القسم ، يعني أقسم بهواه على أنه لو قال لي تيها أي لا لغرض ولا لسبب ظاهر ولا لحكمة عقلية قف على جمر الغضى الذي لا تنطفي ناره لوقفت ممتثلا أمره من غير مخالفة . وجملة قوله وهو أليتي ، وقوله وكفى به قسما : جملتان معترضتان بين القسم وجوابه . وأما قوله أكاد أجلّه كالمصحف :
 
فهي جملة في موضع نصب على أنها صفة قوله قسما ، يعني وصل هواه في العظم إلى أنني قاربت أن أجلّه كإجلال المصحف ولذلك أقسم به . وقوله أو كان من يرضي بخدّي موطئا إلى آخر البيت عطف على البيت المتقدّم ، وحاصل الأبيات الثلاثة أنه يقول أقسم بهواه العظيم الذي لا ألية لي سواه ، ويكفيني في صدق كلامي أن أحلف به لو قال لي تيها وتكبّرا منه لا لسبب عقلي ولا لغرض مرعي قف على جمر الغضى المعلوم جمره المفهوم حرّه لوقفت لمجرّد امتثال أمره من غير توقّف مني ولا تخلّف بل لو كان يرضى بخدّي أن يكون موطئا لنعاله لوضعت خدي أرضا يدوم وطؤه عليها من غير استنكاف ولا خلف ولا إخلاف لأن ذلك نهاية شرفي وغاية تنعّمي وترفي .
 
وإنما جمعنا الأبيات الثلاثة وتكلمنا عليها جملة لتعلّق بعضها ببعض وفيها من البديع المبالغة كما ترى . وفي البيت الأول المقاربة في اللفظ بين هواه وهو ، وفيها جناس الاشتقاق بين وقفت وأتوقف ، وفيها جناس شبه الاشتقاق بين يرضى وأرض ، وأما الانسجام فهو موجود في جميع الأبيات الثلاثة بل في جميع شعره رضي اللّه عنه .
 
( ن ) : الضمير في هواه للمحبوب الحقيقي . وقوله هو أليتي ، أي هو حلفي .
وقوله وكفى به ، أي بهواه . وقسما تمييز . وقوله أجلّه ، أي أجلّ هواه بمعنى أعظمه وإنما يكاد يعظّمه كالمصحف ، لأن المحبة الإلهية التي في العبد نزول المحبة الإلهية التي في الرب كما قال تعالى : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [ المائدة : الآية 54 ] فلولا يحبهم ما
 
« 301 »
ظهر يحبونه ، فإذا ظهرت المحبة الإلهية في العبد ظهرت منه أسرار معاني القرآن العظيم وانكشفت له العلوم الإلهية والمعارف والحقائق الربانية فكانت تلك المحبة الإلهية متضمّنة للقرآن العظيم بمنزلة المصحف المتضمّن لذلك ، فلهذا يكاد يجلّها كالمصحف . وقوله لو قال تيها إلى آخر البيت ، يعني لو كلّفني هذا المحبوب الحقيقي بأن أدوم قائما على النار الموقدة بأشدّ الأحطاب فإني أمتثل أمره لا خوفا منه ولا رجاء فيه بل حبّا وشغفا في وجهه الكريم كيف ولم يأمرني بشيء من ذلك محبة منه لي ورحمة .
قال تعالى : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [ البقرة : الآية 286 ] ،
وقال : وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ الحجّ : الآية 78 ]
ومنه إشارة إلى أنه بعد كمال معرفته باللّه تعالى والتحقّق به هو قائم بخدمة أوامره ونواهيه على أكمل الوجوه وأتمّ الأحوال ، وكذا قوله أو كان من يرضى إلى آخر البيت .
 
33 - لا تنكروا شغفي بما يرضى وإن *** هو بالوصال عليّ لم يتعطّف
 
[ المعنى ]
هذا البيت بمنزلة الجواب عن السؤال المقدّر تقديره ما بالك تبادر إلى رضاه وهو لا يتعطّف عليك بما تحبه وتهواه ، ونقرير الجواب لا تنكروا أيها الأحباب عليّ مبادرتي إلى رضاه وإن عطف على غيري ولم يتعطّف عليّ . والجواب في قوله رضي اللّه عنه :
 
34 - غلب الهوى فأطعت أمر صبابتي *** من حيث فيه عصيت نهي معنّفي
 
[ المعنى ]
يعني ما شغفت بما يرضاه واتّبعت في مطلوبه رضاه إلا لأن هواي قد غلب فألزمني له بما طلب وأطعت ما أمرت به الصبابة ، وما أطعت أمرها إلا بعصيان نهي معنّفي لأن ما يأمر به المعنّف ضد ما تأمر به الصبابة فلا أستطيع إطاعة أحدهما إلا بعصيان الآخر . والهاء في فيه يعود إلى الهوى . وفي البيت المقابلة بين الطاعة والعصيان ، وبين الأمر والنهي . وقوله « من حيث » متعلق بأطعت إذ المراد أطعت أمر الصبابة من جهة المكان الذي عصيت فيه نهي من عنّفني . وقوله : مني له ذلّ الخضوع إلى أواخر القصيدة في شرح حاله مع الحبيب وأنه لحديث عجيب ونوع من العشق غريب .
 
35 - منّي له ذلّ الخضوع ومنه لي *** عزّ المنوع وقوّة المستضعف
 
[ المعنى ]
هذا شرح لحاله بعد غلبة الهوى ومبالغة الجوى ، فحالي معه ذلّ الخضوع .
اعلم أن المشهور في الرواية الخضوع بضم الخاء على أنه مصدر ، فيصير المعنى مني لحبيبي ذلّ ناشىء من خضوعي له فالإضافة بمعنى اللام وإن شئت قدّرت المعنى منّي
 
« 302 »
 
له الذلّ الذي هو الخضوع فتكون الإضافة بيانية ، ويظهر لي أن تكون الرواية « الخضوع » بفتح الخاء ليكون صفة للمبالغة بمعنى الرجل الخاضع ليطابق بعده .
« المنوع » بفتح الميم على أنه بمعنى المانع للمبالغة ، فذلّ الشخص الخاضع صفتي له وعزّ الرجل المانع صفته لي . ومن صفته لي أيضا قوّة الرجل المستضعف خصمه وقوي عليه عزمه ، وفي البيت المقابلة بين مني وله وبين له ولي ، وبين ذلّ الخضوع وعزّ المنوع ، وقوة المستضعف زيادة ليس لها مقابل ، وكم بين ذليل وجليل .
 
36 - ألف الصّدود ولي فؤاد لم يزل *** مذ كنت غير وداده لم يألف
 
وفي هذا البيت أيضا بيان المخالفة بين حاله وحال الحبيب ، لأنه يقول ألف الحبيب صدوده عني وبعده مني ، وفؤادي ما ألف غير وداده في قربه وبعاده ، وكم بين الودود ومن ألف الصدود .
 
الإعراب :
ألف : فعل ماض من الباب الرابع وفاعله ضمير يعود للحبيب .
والصدود : مفعوله . ولي : خبر مقدّم . وفؤاد : مبتدأ مؤخر . ومذ : متعلق بقوله : لم يألف . وجملة كنت : في محل جرّ بالإضافة . وكان تامّة لأنها بمعنى وجدت . وغير :
بالنصب مفعول مقدّم لقوله لم يألف . وجملة لم يألف غير وداده مذ كنت : في محل رفع على أنها خبر بعد خبر . فإن قلت لم يزل على هذا الشرح الذي قرّرته حشو لأن المعنى ألف الحبيب الصدود وفؤادي لم يألف منذ وجدت غير وداده في قربه وبعاده .
قلت : نعم ما ذكرته هو الظاهر لكن يمكن أن يقرأ هكذا ألف الصدود بكسر همزة ألف وسكون لامها على أنه اسم على وزن عرق ويكون منصوبا مضافا إلى الصدود ويكون خبرا مقدّما لقوله لم يزل فيصير المعنى حينئذ لم يزل الحبيب ألف الصدود ولي فؤاد لم يألف مذ كنت غير وداده وهو معنى ليس عليه غبار أصلا سوى توسّط قوله ولي فؤاد بين لم يزل وخبرها ولو جعلت خبر لم يزل محذوفا ، أي ولي فؤاد لم يزل وافيا لأبقى الجملة بعده مفلتة أجنبية غير ملتئمة بما قبلها على أن البيت لو كان هكذا :
ألف الصدود ولي فؤاد صادق * مذ كنت غير وداده لم يألف
لكان حسنا غير محتاج إلى تكلّف فتدبّر .
 
[ المعنى ]
( ن ) : المعنى في قوله ألف الصدود أنه لا يشغله شأن عن شأن وإن كان قيّوما مدبّرا لجميع الأكوان فهو تعالى لا يؤده حفظ شيء ولا يخرج عن تصرّفه شيء ، فمعنى إعراضه عن كل شيء أنه لا يشغله شيء إذ لا وجود معه لشيء كان اللّه ولا
« 303 »
 
شيء من الأكوان ولامكان ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان . وقوله ولي فؤاد الخ . . . يعني لي قلب ما زال من حين وجدت غير آلف سوى وداد هذا المحبوب . اهـ .
 
37 - يا ما أميلح كلّ ما يرضى به *** ورضابه يا ما أحيلاه بفي
 
« يا ما أميلح » : شاذ لأن التصغير من خواص الأسماء وشاهده على شذوذه قول الشاعر :
يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا
و « ما » : تعجبية . وكذلك قوله « يا ما أحيلاه بفي » .
 
الإعراب :
يا : حرف تنبيه أو حرف نداء ويكون المنادى محذوفا ، أي يا قوم .
وما : مبتدأ . وأميلح : فعل ماض وفاعله مستتر فيه وجوبا . وكل : بالنصب مفعوله .
وما : مضاف إليه . وجملة يرضى به : إما محلها الجرّ إن كانت ما نكرة أو لا محل لها إن كانت موصولة . ورضابه : مبتدأ أول . وما : مبتدأ ثان وما بعدها خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول . ووقوع الجملة التعجبية خبرا عن المبتدأ مع كونها إنشائية إما على تقدير مقول إن كان لازما على ما يفيده السيد الموفق أو على عدم تقديره بناء على ما جوّزه المحقّق التفتازاني وبفي متعلق بأحيلاه . والمعنى لقد اشتدّت ملاحة ما يرضى به الحبيب واشتدّت حلاوة رضابه الذي هو أحلى من الضرب وألطف من الضريب . وفي البيت شبه الطّباق بين أميلح وأحيلى لأنه يوهم الطّباق بين ملوحة وحلاوة ، والحال أن الأوّل من الملاحة لا من الملوحة وأصله بفيّ بالتشديد لكنها خفّفت لمناسبة حرف الروي ولا يخفى أيضا ما في البيت من نوع مجانسة بين رضابه ويرضى به.
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله يرضى به ، أي ذلك المحبوب الحقيقي من الإيمان والتقوى . قال تعالى : وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [ الزّمر : الآية 7 ] وكنى بالرضاب عن الروح الآمري الذي هو أوّل صادر من كن فيكون قبل الحركة والسكون في ظهور مراتب التجليات الإلهية والشؤون . قوله بفي ، يعني حين أتكلم بما يلقي ذلك المكنى عنه بالرضاب في قلبي من العلوم الإلهية والمعارف الربانية والحقائق الرحمانية . اهـ .
 
38 - لو أسمعوا يعقوب ذكر ملاحة *** في وجهه نسي الجمال اليوسفي
39 - أو لو رآه عائدا أيّوب في سنة *** الكرى قدما من البلوى شفي


« 304 »
 
[ المعنى ]
أي لو فرض أن الراوين الرائين لإخبار محاسنك أيها الحبيب ذكروا ليعقوب النبي شيئا من محاسنك المتوجهة في وجهك لأنساه ذلك جمال يوسف الصدّيق مع ما هو عليه من الجمال ومع ما هو عليه من المحبة ليوسف التي أجرت دموعه كالسحاب الهطال ، وكذلك لو فرض أن أيوب النبيّ المبتلى رأى ذلك الحبيب حال كونه عائدا له في مرضه في ابتداء النوم قدما أي قبل وجود الحبيب الذي رآه أيوب لاشتفى برؤيته هذه من بلواه . ولو : شرطية . ويعقوب وذكر : منصوبان مفعولان لأسمعوا .
 
وقوله في وجهه : متعلق بملاحة . ونسي : جواب لو ، وفاعله مستتر . والجمال :
منصوب مفعوله . واليوسفي : صفة الجمال وأصله اليوسفي مشدّد الياء ، لكن حذفت الياء الواحدة تخفيفا لمناسبة حرف الرويّ . وقوله أو : حرف عطف عطف ما بعده على الجملة الشرطية في البيت الأول . وفاعل رأى أيوب ، والهاء : مفعوله . وعائدا :
حال من المفعول . وفي سنة الكرى : متعلق برآه . وقدما : منصوب على الظرفية متعلق أيضا برآه . ومن البلوى : متعلق بشفي . وشفي : مبني للمجهول ، أي شفاه اللّه تعالى بتلك الرؤيا . وقوله رضي اللّه عنه عائدا وفي سنة الكرى وقدما أمور تقتضي تأكيد تأثير جماله في إزالة الأمراض العظيمة ، وذلك لأن العائد لا يمكث كثيرا بل جلسته خفيفة في حدّ ذاتها لأنها مبادي النوم فالرؤية فيها خفيفة في خفيف ، وقوله قدما كذلك لأن المراد لو رآه أيوب في سنة الكرى عائدا له قبل وجود المرئي لأن الحبيب المذكور عبارة عن ذات الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فرؤية أيوب متقدّمة على وجوده في الخارج فلذلك قال قدما فتأمّل ما ذكرنا لك من القيود الموجبة لكمال تأثير جماله في إزالة الأمراض المستحكمة . وقوله من البلوى ، فيه مبالغة عظيمة وذلك أن المراد شفي من البلوى المعهودة المعروفة المألوفة وهي ابتلاء اللّه تعالى المذكور في القرآن الكريم ، وإنما قال ذلك ليبالغ في كمال تأثيره في مثل هذه البلوى العظيمة التي حارت فيها الأطباء واستحكمت في بدنه أعواما كثيرة ، ولو لم يقل من البلوى لأوهم أنه شفي من مرض مّا ولو كان قبل تلك البلوى العظيمة فلا يكون فيه المبالغة المذكورة فتأمّل فإنه دقيق ، وبالاستفادة حقيق ، وبالحرص عليه خليق ، واللّه تعالى يعطي كل عبد ما به يليق ، وفي كلّ من البيتين تلميح إلى قصة نبيّ كما ترى وفي الأوّل شبه الطّباق بين التذكّر المأخوذ من ذكر والنسيان المفهوم من نسي ، ولولا ذلك لقال : لو أسمعوا يعقوب وصف ملاحة ، أو ما أشبه ذلك .
وفيه التجانس بين في وفي المأخوذة من اليوسفي ، وفيه أيضا المناسبة بين ذكر يوسف ويعقوب وبين الملاحة والجمال ، وفي البيتين جناس التصحيف بين شفي في الثاني بالشين المعجمة وفي سفي في الأول بالسين المهملة .
 
« 305 »
( ن ) : قوله لو أسمعوا ، يعني الناس المطّلعين في ذلك الزمان الأول على تجلّي الوجه الربّاني في الشخص المحمدي الإنساني . وقوله يعقوب ، هو الذي كان يحب الحقّ تعالى المتجلّي عليه بصورة ابنه يوسف عليه السلام . وقوله في وجهه ، أي وجه هذا المحبوب الحقيقي الظاهر من مشكاة الحقيقة المحمدية في الصورة الآدمية . وقوله نسي الجمال اليوسفي ، أي المنسوب إلى ابنه يوسف كما ورد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : « أعطي يوسف شطر الحسن » .
 
وأما نبيّنا محمد صلى اللّه عليه وسلم فإنه أعطي الحسن كله كما ورد عنه أيضا صلى اللّه عليه وسلم ، فلو ذكر المحمديون أوصاف حسنه صلى اللّه عليه وسلم المتجلّي به الحق تعالى على قلوب الورثة المحمديين ليعقوب لنسي الجمال اليوسفي الإلهي المتجلّي عليه .
وقوله أو لو رآه الخ . . . ، يعني أنّ أيوب النبي عليه السلام لو رأى هذا المحبوب الحقيقي المتجلّي بالصورة المحمدية في عالم غفلته وفتوره عن إدراك الدنيا وما فيها من أحوال أهلها وهو نوم الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم لشفي من البلوي . اهـ .
 
40 - كلّ البدور إذا تجلّى مقبلا *** تصبو إليه وكلّ قدّ أهيف
 
[ المعنى ]
« كل البدور » : يريد بالبدور هنا الملاح الذين كل واحد منهم يفوق البدر في الإشراق . و « تصبو » بمعنى تميل . « وكل قدّ أهيف » : أي مائل ، يعني وكذلك تصبو إليه القدود الهيف في ميل إذا تجلى وأقمار الملاحات . وقوله « إذا تجلى » : يفهم الوجه والإقبال يقتضي أنه ماش والميل يظهر عند مشيه ، فلذلك قال : « وكل قدّ أهيف » فإن تجلّى مع الإقبال شرح وجود الوجه الفائق على البدور ، والقدّ الذي يفوق كل غصن مهصور . ولو قال : كل البدور إذا تجلّى مائلا ، لكان نصّا على القدّ أيضا .
ولنا في المعنى المذكور :
وبمهجتي من لو تبدّى وجهه * فضح الشموس المشرقات جبينه
وإذا رنا متمايلا في عالج * سجدت له غزلانه وغصون
 
( ن ) : يريد بالبدور النفوس الإنسانية الكاملة التي هي مجلى ومظهر لشمس الوجود الحق في ظلمة عالم الإمكان . وقوله وكل قدّ أهيف ، المعنى بالقدّ هنا المقدار المحدود المصوّر من مقادير عالم الإمكان . يعني كل مقدار حسن الاعتدال من صور أهل الكمال والجلال والجمال فإنه يصبو إلى هذا المحبوب الحقيقي ويميل إليه . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة قلبي يحدّثني بأنّك متلفي الأبيات من 01 إلى 51 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:19 pm

شرح قصيدة قلبي يحدّثني بأنّك متلفي الأبيات من 01 إلى 51 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الرابعة قلبي يحدّثني بأنّك متلفي الأبيات من 01 إلى 51
41 - إن قلت عندي فيك كلّ صبابة *** قال الملاحة لي وكلّ الحسن في
 
[ المعنى ]
في : في قوله « فيك » : سببية ، أي إن شرحت للحبيب ما عندي من الصبابة بسببه ، وقلت له جميع الصبابة حاصلة عندي بسبب محبتي لك . قال في جوابي أنا

« 306 »
 
مستحق لذلك لأن جميع الحسن والملاحة فيّ فحيث جمعت جمع الجمال ، واتّصفت بنهاية الدلال ، فلا بدع أن يكون جميع الحبّ عندك لأن الحب في مقابلة الملاحة ، والجمال على مقدار الصباحة فمن ملك جميع الجمال تملّك قلوب الرجال وقد فرّق بعضهم بين الملاحة والحسن بأنّ الأوّل أمر يقتضي جذب الفؤاد من غير تعيين لأمر يدركه الناظر النقّاد .
 
بخلاف الحسن فإنه عبارة عن لطافة الأعضاء وتناسبها فالملاحة تدرك ولا تحدّ ، والحسن يدرك ويحدّ ، ومنع بعضهم كون الحسن يحدّ ، وقال إنه أيضا يدرك ولا يوصف واللّه تعالى أعلم بحقيقة ذلك ، وقوله في ، أصله بتشديد الياء ولكنه خفّف بحذف إحداهما لموافقة الرويّ .
 
42 - كملت محاسنه فلو أهدى السّنا *** للبدر عند تمامه لم يخسف
 
[ المعنى ]
اعلم أن بعضهم فرّق بين التكميل والتتميم بأنّ الأول عبارة عن أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه ، أي يدفع إيهام خلاف المقصود
كما قال الشاعر :
فسقى ديارك غير مفسدها * صوب الغمام وديمة تهمي
 
الشاهد في قوله غير مفسدها ، وبأن الثاني عبارة عن أن يؤتى في كلام لا يوهم خلاف المقصود بفضله كالدعاء في قوله :
إن الثمانين وبلغتها * قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
 
غير أن « كملت » في بيت الشيخ من الكمال اللغوي وهو وصول محاسنه إلى غايتها . قوله « فلو أهدى السنا » : السنا المقصور الضوء والممدود الرّفعة ، والمراد هنا الأول ، ومعنى ذلك أنه لو فرض أنه أهدى نوره إلى البدر وقت كماله لم يتطرّق إلى البدر كسوف لأن نوره الذي أهداه إليه يمنع من تطرّق الخسوف إليه ، وإنما قيّد ذلك بقوله وقت كماله لأن الخسوف للقمر لا يكون إلا ليلة التمام كما أجمع عليه علماء الهيئة والواقع هكذا .
 
قال الشيخ أبو العلاء المعرّي :
توقّى البدور النقص وهي أهلة * ويدركها النقصان وهي كوامل
 
ثم اعلم أنّ الخسف والكسف يستعملان في القمر والشمس ، غير أن الخسف يستعمل في القمر أكثر ، والكسف يستعمل في الشمس أكثر ، قال الأمير قابوس بن وشمكير من أبيات :
وفي السماء نجوم لا عداد لها * وليس يكسف إلا الشمس والقمر

« 307 »
 
وقلت في معنى ذلك :
صبرا على نوب الزمان فإنها * مخلوقة لنكاية الأحرار
لا يكسف النجم الضعيف وإنما * يسري الكسوف لرفعة الأقمار
 
( ن ) : معنى البيت أن شمس الوجود الحق يتجلّى ويظهر في قمر التعينات الكونية فتظهر موجودة عند العقول والأبصار ، وتارة يستتر عنها فتفنى وتزول ، فلو أهدى لها نور وجوده الحق على الدوام ما فنيت ولا زالت ولا انخسف نورها . اهـ .


43 - وعلى تفنّن واصفيه بحسنه *** يفنى الزّمان وفيه ما لم يوصف
 
[ الاعراب ]
التفنّن : الإتيان بالفنون المختلفة مثلا إذا مدح البليغ ممدوحه بالنظم والنثر باللغة العربية والفارسية والتركية ، فيقال تفنّن فلان في مدح فلان أي أتى في مدحه بالفنون المختلفة . و « على » بمعنى مع . و « واصفيه » جمع واصف وهو جمع سلامة لكنه قد حذفت منه نون الجمع لإضافته إلى الهاء . وقوله « بحسنه » : متعلق بواصفيه لأن المراد تفنّن القوم الذين وصفوه بالحسن كما تقول وصفت زيدا بالجمال ونعت عمرا بالكمال . وقوله « يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف » : معناه أن الواصفين الذين تفنّنوا في وصفه بالحسن لا يستطيعون أن يبلغوا غاية وصفه ولا أن يستغرفوا ما فيه من وافر الجمال ولو استمروا على ذلك إلى انقضاء الزمان وتمام الدوران حتى أن الزمان يفنى في وصفه ، وقد بقيت فيه أوصاف لم يدركوها ولم ينعتوها ، فعلم أن أوصاف جماله أكثر من أوقات الزمان . وما أحسن سبك البيت .
وعلى تفنن : متعلق بيفنى . وبحسنه :
متعلق بواصفيه . والواو في قوله وفيه ما لم يوصف ، واو الحال ، وفيه : خبر مقدّم ، وما : مبتدأ مؤخر ، أي يفنى الزمان ، والحال أن في الحبيب أوصافا لم توصف إلى الآن لأنّ أوصافه لا يحصرها الحاسب ولا يحصيها الكاتب فهي أوسع من الزمان وأوفر من حوادث الحدثان :
ولو أن ينبوع المياه محابر * وكل نبات في البسيطة أقلام
وراموا بأن يحصوا إليك تشوّقي * لمّا أدركوا معشار عشر الذي راموا
 
ولقد بلغني ممّن أثق به أن الشيخ رضي اللّه عنه قال : لو لم يكن لي بمدح الرسول صلى اللّه عليه وسلم سوى هذا البيت لكفى . فدلّ ذلك على أنه قصد به مدحه صلى اللّه عليه وسلم .
 
[ المعنى ]
( ن ) : المعنى أن هذا المحبوب الحقيقي لو أتى الواصفون له بأنواع الفنون في وصف حسنه وجماله تذهب الدنيا وتنقضي ، وقد بقي من ذلك الحسن والجمال أمور

 
« 308 »
 
لم توصف ولم تذكر ولا شك في ذلك فإن أول مخلوق قبل كل شيء هو الحقيقة المحمدية وهو النور المادي الذي خلق اللّه تعالى منه كل شيء ، وجماله وحسنه هو كل الجمال وكل الحسن . فإذا وصف الواصفون ما عسى أن يصفوا لا يبلغوا ذلك . اهـ .
 
44 - ولقد صرفت لحبّه كلّي على *** يد حسنه فحمدت حسن تصرّفي
 
[ المعنى ]
أرباب الحقائق يقولون الشرط بذل النفس أوّل مرة والحب أعطه الكلّ حتى يعطيك البعض ، وعباراتهم وإن اختلفت في اللفظ متفقة في المعنى وما ذاك إلا أن مطلب المحبّين عزيز لا ينال إلا ببذل الروح في مقام الامتهان من حرزها الحريز .
 
وما ألطف المناسبة في قوله : « صرفت لحبّه على يد حسنه » كأن الحب قد جعل الحسن وكيلا له في استيفاء ما له من الحقوق الواجبة على من اتّصف به . وقوله « فحمدت حسن تصرّفي » : لأن مآل الفناء وعاقبة الموت الحياة ، ومن كانت نتيجة تصرّفه الرّضا بالمطلوب والاجتماع بجمال المحبوب كان محمود التصرّف مفقود التأسّف :
هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا * من الحب فاختر ذاك أو خلّ خلّتي
وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن * وها أنت حيّ إن تكن صادقا مت
 
( ن ) : ولقد : الواو للاستئناف ، واللام : موطئة لقسم مقدّر تقديره واللّه لقد صرفت لحبّه باللام ، أي لأجل محبتي له ، والضمير للمحبوب الحقيقي ، وقوله كلّي :
أي باطني وظاهري . اهـ .
 
45 - فالعين تهوى صورة الحسن الّتي *** روحي بها تصبو إلى معنى خفي
 
[ المعنى ]
هذا البيت يشير إلى أن العين تنظر الصورة المحسوسة وتسوق ذلك إلى الروح فتستفيد منه خلاصته ، وهو معنى الحسن الذي يليق بالروح ، فالحسن سبب لسوق المعنى إلى جانب الروح ، ولعل المعنى الخفي الذي هو حصة الروح من نظر العين هو العشق لموجدها والحبّ لمبرزها ، ولذلك يقولون المحبّ الصادق لا يهوى الصورة المحسوسة وإنما هو فان في المعاني اللطيفة المأنوسة ، ولنا فيما يقرب من هذا المعنى :
تحقّق أني فيه أصبحت مغرما * ولكنه لم يدر ما سبب الحب
تعشقت منه حالة لست قادرا * على وصفها إذ لم يذقها سوى قلبي

« 309 »
 
( ن ) : قوله صورة الحسن ، كناية عن الحقيقة المحمدية التي هي مجلى المحبوب الحقيقي ومظهر جماله الذاتي . وقوله معنى خفي ، إشارة إلى مقام الوراثة المحمدية الجامعة بانكشاف صورته له عن صورة الحقيقة المحمدية المتصوّر في مادتها ، وهي المائلة إلى ذلك المعنى الخفي الذاتي الإلهي الذي لا يدركه عقل ولا تحيط به بصيرة. اهـ.
 
46 - أسعد أخيّ وغنّني بحديثه *** وانثر على سمعي حلاه وشنّف
47 - لأرى بعين السّمع شاهد *** حسنه معنى فأتحفني بذاك وشرّف
 
[ الاعراب ]
« أسعد » : فعل أمر نحو أكرم من باب الإسعاد وهو الإعانة . و « أخي » : منادى مضاف مصغّر للتحبيب وهو بضم الهمزة وفتح الخاء المعجمة وتشديد الياء المفتوحة وقد قلبت فيها الواو ياء وأدغمت ، وقد حجّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه مرة فجاء لوداعه النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال له الرسول صلى اللّه عليه وسلم : « لا تنسني من دعائك يا أخي » . فقال رضي اللّه عنه : والذي بعثه بالحق لقد قال كلمة هي عندي خير من حمر النّعم . وقال رضي اللّه عنه :
ما قلت حبيبي من التحقير * بل يعذب اسم الشخص بالتصغير
والهاء في حديثه للحبيب المفهوم من قوله :
برح الخفاء بحب من لو في الدّجى
 
و « انثر » : فعل أمر من النثر وهو رمي شيء متفرّقا . والحلى بضم الحاء وكسرها جمع حلية بالكسر وهو الحلي الذي يتزيّن به .
وقوله « وشنّف » : أي واجعل حلاه لي شنفا فقد جعل حديثه مما يتغنّى به ويفيد سماعه الطرب واللذّة ، وذلك دليل على كونه من أنفس ما يلقى على الأسماع ، ويفيد لذّة السّماع ، وقد جعل ما يلقى من أوصافه على السّمع من قسم الحليّ الذي يفيد الزينة كالعقود الثمينة ، وجعل حديث محاسنه شنفا تتشنّف به الآذان حتى كأنه شاهدته العينان بالعيان ، ولذلك قال : لأرى بعين السمع شاهد حسنه .
والشاهد هنا الحاضر الواضح فقد شبّه إدراكه المسموع بالسّمع بما يدرك بالعين فالقوّة التي بها تدرك المسموعات مشبه والعين مشبه به وذلك إدراك .
فلذلك قال معنى فسماعه لأخبار حسنه الحاضر يقوم مقام الرؤية المحسوسة فلذلك قال معنى . وقوله « فأتحفني بذاك وشرف » علّة لرؤيته المعنوية ، أي وشرّفني به أيضا .
وبين شنّف وشرّف الجناس اللاحق ، ولا تخفى المناسبة بين الرؤية والعين



« 310 »
والسمع والشاهد . وقوله « معنى » : مفعول مطلق على حذف مضاف أي لأرى بعين السمع رؤية معنى ، أي رؤية معنوية لا حسّيّة .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله بحديثه ، أي بحديث ذلك المحبوب الحقيقي الظاهر بالصورة المحمدية التي هي مادتي وأنا المخلوق منها مع كل شيء ، والمراد بحديثه الحديث عنه . وقوله وانثر على سمعي ، يعني اذكر لي صفاته منثورة مثل نثار اللآلي والجواهر على مسامعي لأفرح بذلك وأتطرب له . اهـ .
 
48 - يا أخت سعد من حبيبي جئتني *** برسالة أدّيتها بتلطّف
49 - فسمعت ما لم تسمعي ونظرت ما *** لم تنظري وعرفت ما لم تعرفي
 
[ المعنى ]
اعلم أنه يقال يا أخا بني فلان ، ويراد يا من هو منسوب إلى تلك القبيلة ، وهكذا في القرآن الحكيم ، نحو:
 وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً [ الأعراف : الآية 85 ]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [ الأعراف : الآية 73 ]
فكل ما ذكر فيه الأخ وأضيف إلى القوم فيكون منهم ومن قبيلتهم ، فمعنى كونه أخاهم أنه قريبهم ونسيبهم ، فقوله « يا أخت سعد » : يعني يا من هي من قبيلة سعد . وفي العرب سعود كثيرة : سعد تميم ، وسعد قيس ، وسعد هذيل ، وسعد بكر وغير ذلك . ولا يخفى عليك أن الشيخ الأستاذ صاحب هذا الشعر سعدي ، وكذا حضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم فإن حليمة التي أرضعته من بني سعد كما قال : أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد ، فلك أن تقول مراد الشيخ رضي اللّه عنه أن يخاطب روحه الشريفة ،
يعني :
يا روحي التي هي من بني سعد قد جئت إليّ برسالة من حبيبي الذي أحبني فتعرّف إليّ لأعرّفه بك ، وتلك الرسالة هي أنه ما أوجدني في هذا البرزخ إلا لأوحّده وأعرفه . وإنما أدّتها بتلطّف لأن الروح لطيفة سارية في البدن . ومن المعلوم أن كل شيء من اللطيف لطيف ، ويحتمل أن المراد نداء حبيبة من بني سعد كما هو عادة العرب .
وقوله « فسمعت ما لم تسمعي » إلى آخره : إشارة إلى كمال تلطّفها في أداء الرسالة وأنه فهم من الرسالة مسموعا منظورا ومعروفا لم تفهمه أخت سعد التي أدّت الرسالة لأنه فهم من رسالتها أمورا مخصوصة به ، ومن ذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم : « ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه » .
 
ولبعضهم :
هبّت لنا صبحا يمانية * متّت إلى القلب بأسباب
أدّت رسالات الهوى بيننا * عرفتها من دون أصحابي
وفي البيت الأول جناس التصحيف بين حبيبي وجئتني .

 
« 311 »
( ن ) : أخت سعد كناية عن روحه المنفوخة فيه من روح اللّه عن أمر اللّه ، فكأن روح اللّه الذي هو أول مخلوق هو السعد المحض الذي لا شقاء معه وهو روح أرباب العصمة من الأنبياء عليهم السلام ، وتنكير سعد للتعظيم والروح المنفوخة في غيرهم أخت لأنهما صادران عن أمر اللّه تعالى . وقوله برسالة ، يريد بالرسالة هنا العلوم الإلهية والمعارف الربّانية والحقائق الرحمانية .
 
ثم قال : فسمعت ما لم تسمعيه ، أي العلوم المذكورة لأنها رسالة حبيبي لي ونظرت ما لم تنظريه من فناء الأشياء وظهور الموجود الحقّ تعالى . وعرفت ما لم تعرفيه من تجليات الحقّ المبين ، وانكشاف مظاهر الوجود المسمّى بالأسماء الحسنى الموصوف بصفات العزّ والتمكين على اليقين ، وهذه رموز إلهية في قوالب كلمات معنوية لا يعرفها إلا صاحب البيت الذي وضع اللّه في سراج بصيرته من الهداية زيت . اهـ .
 
50 - إن زار يوما يا حشاي تقطّعي *** كلفا به أو سار يا عين اذرفي
 
[ الاعراب ]
الضمير في « زار » و « سار » للحبيب . والكلف محرّكة ، كفرح من كلف به أولع به . و « اذرفي » بكسر الراء من ذرف يذرف ، كضرب يضرب أمر للعين ، أي ليسلّ دمعك .
وجملة قوله : تقطّعي يا حشاي ، جواب للشرط وهو إن زار ، والفاء فيه محذوفة للوزن .
وكذلك القول في اذرفي فعند زيارته تتقطّع حشاه وعند سيره عنه تسيل عينيه من شدة بكاه .
وما أحسن قول القائل :
وما في الأرض أشقى من محبّ * وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه شاكيا في كل حال * مخافة فرقة أو لاشتياق
فيشكو إن نأوا شوقا إليهم * ويشكو إن دنوا خوف الفراق
وفي البيت الجناس المضارع بين زار وسار .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله إن زار ، يعني إن زارني بأن انكشف لي متجليا بعد فناء وجودي وتحقيق شهودي . وقوله يا حشاي تقطعي ، أي صيري قطعا ليكون ذلك مؤديا إلى الموت والفناء والاضمحلال فيذهب ما لم يكن ويظهر ما لم يزل . وقوله أو سار ، أي سار عني واستتر بإظهار نفسي عندي أكثري يا عيني من البكاء على ذهاب حظّك من رؤيته والتمتّع بشهوده . اهـ .
 
51 - ما للنّوى ذنب ومن أهوى معي *** إن غاب عن إنسان عيني فهو في
 
[ الاعراب ]
هذا البيت ربط آخر القصيدة بأولها ، وهو من أحسن أنواع البديع ، لأن المراد إن غاب عن إنسان عيني فهو في قلبي ، وقلبي مطلع القصيدة . و « الواو » في « ومن

« 312 »
 
أهوى معي » : واو الحال ، ومن : مبتدأ ، وأهوى : صلته ، ومعي : خبره .
وقوله « إن غاب عن إنسان عيني فهو في » : جملة مقرّرة لكون من يهواه معه ، وتقرير ذلك أن حبيبي إن كان حاضرا في الحسن فأنا أشاهده ، وإن غاب عن إنسان عيني كان معي في خاطري وفي قلبي ، فتقرّر أن النّوى لا ذنب له لوجود الاتصال الدائم ،
وما أحسن قول القائل :
ومن عجب أني أريد لقاءهم * وأسأل عنهم دائما وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها * ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
 
ولنا فيمن أخذته عزّة الجمال ، ونشوة الدلال ، فأقسم لما عزّ تلافيه أن لا يدخل بيتا أنا فيه :
يا مقسما بالمثاني * أن لا يجيء مكاني
كفّر يمينك حتما * فأنت وسط جناني
متى تباعدت عني * وأنت في القلب داني
متى تغيّبت عنّي * وأنت عين عياني
واللّه ما كنت وحدي * إلا رأيتك ثاني
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله ومن أهوى معي ، أي المحبوب الذي أهواه معي لا يفارقني أبدا .
قال تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [ الحديد : الآية 4 ] ، فالبعد عنه التفات من العبد إلى سواه فلا ذنب للبعد حينئذ ، وإنما الذنب لسببه وهو الالتفات المذكور والاشتغال بالمحال والغرور ، وغيبته عن العين استتاره في الحسن بسبب شهود صور الأكوان الساترة له باعتبار النظر إليها وكونه في القلب بسبب انكشافه للبصيرة القلبية وشهود فناء الأكوان في وجود الحق . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة ته دلالا فأنت أهل لذاكا الأبيات من 01 إلى 60 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:20 pm

شرح قصيدة ته دلالا فأنت أهل لذاكا الأبيات من 01 إلى 60 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الخامسة ته دلالا فأنت أهل لذاكا الأبيات من 01 إلى 60
[ شرح القصيدة الخامسة ته دلالا فأنت أهل لذاكا ]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
وقال رضي اللّه تعالى عنه .
01 - ته دلالا فأنت أهل لذاكا *** وتحكّم فالحسن قد أعطاكا
 
[ الاعراب ]
« ته » بكسر التاء أمر من تاه يتيه ، أي تكبّر ، والأمر بعده ته بحذف عين الكلمة التي هي الياء لالتقاء الساكنين . و « دلالا » : مفعول لأجله ، أي تكبر لمجرد الدلال الذي أوجبه الجمال . وقوله « فأنت أهل لذاكا » تعليل لقوله دلالا ، ووضع الظاهر موضع الضمير في قوله : فأنت أهل لذاكا ، مكان فأنت أهل له لكمال العناية بتمييز المشار إليه وهو كونه يتيه دلالا .
« وتحكم » : التحكّم دعوى بلا دليل والتحكّم الحكم القوي المؤكّد ، والمراد حكم على ما تريد فالحسن قد أعطاك الحكم ، والحسن حاكم لا يردّ ، والدل والدلال أن تظهر المرأة وما شابهها جرأة في تغنّج وتشكّل كأنها تخالف وما بها خلاف .
وجملة « فالحسن قد أعطاكا » تعليل لقوله وتحكّم ، وأعطى يتعدى إلى مفعولين ثانيهما محذوف ، أي قد أعطاك الحكم في جميع العاشقين .
 
[ المعنى ]
( ن ) : الخطاب للمحبوب الحقيقي والأمر بالتّيه رضا من المحبّ بصفة المحبّ وهي الكبرياء والعظمة فإن ذلك له تعالى لا يشاركه فيه أحد .
روي في الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال اللّه تعالى : الكبرياء ردائي ، والعزّ إزاري ، فمن نازعني في شيء منهما عذّبته . وقوله « أهل لذاكا » : أي مستحق للتيه والتكبّر والعظمة . فإن ذلك حقك ولا يليق إلا بك .
وقوله فتحكم : يعني افعل ما شئت بنا فإننا منقادون لحكمك على كل حال .
 
وقوله « فالحسن قد أعطاكا » : أي الجمال الحقيقي الإلهي اقتضى أن تكون في هذه المثابة من كمال الذات وجمال الأسماء والصفات وجلال الأحكام والأفعال . اهـ .
 
02 - ولك الأمر فاقض ما أنت *** قاض فعلى الجمال قد ولّاكا
 
« 314 »
[ المعنى ]
أي ولك الأمر المطلق والحكم المحقّق وحيث كان الأمر له فليقض ما يريد . وقوله « فعليّ الجمال قد ولّاكا » : أي فأنت مولى عليّ من جانب من له الأمر . وقوله « فعلي » متعلق بقوله « ولّاكا » ، وفي التعبير بعليّ إشارة إلى التسلّط والغلبة والقهر عليه ، وما أحسن موقع قوله « فاقض ما أنت قاض » فإنها اقتباس لطيف . وقوله « فعليّ الجمال قد ولّاكا » : هو جار مجرى التعليل لقوله : فاقض ما أنت قاض . اهـ .
 
03 - وتلافي إن كان فيه ائتلافي *** بك عجّل به جعلت فداكا
 
[ الاعراب ]
« تلافي » : هو التلف والزوال . والائتلاف : مصدر من ائتلف به ، أي صارت له به ألفة . و « بك » : متعلق بائتلافي . وجملة « عجّل به » : جواب الشرط على حذف الفاء ، أي فعجّل به . وجملة « جعلت فداكا » : دعائية ، أي جعلني اللّه فداك .
 
وجملة الشرط والجزاء في موضع رفع على أنها خبر المبتدأ الذي هو تلافي ولكن يلزم الإخبار بالإنشاء عن المبتدأ لأن الجزاء حيث كان إنشاء ، فالجملة الشرطية كلها إنشاء وحيث كان خبرا فهي خبرية لأنه مقرّ الكلام وبه يتمّ المرام . والجواب أن ذلك صحيح بتقدير المقول . وفي البيت الجناس الناقص بين تلافي وائتلافي ، وجناس القلب بين عجّل وجعل .
 
[ المعنى ]
( ن ) : الخطاب للمحبوب الحقيقي ومعنى الائتلاف به الاستئناس بتجلّيه وشهود مظاهره في كل شيء فإن شهود الإنسان نفسه وائتلافه بحضورها حجاب له عن شهود ربّه فإذا فنيت نفسه تفرّغ للوجود وتمتّع بلذيذ الشهود . اهـ .
 
04 - وبما شئت في هواك اختبرني *** فاختياري ما كان فيه رضاكا
 
[ الاعراب ]
« ما » : موصولة . و « شئت » : بمعنى أردت ورضيت . و « في هواك » : متعلق باختبرني وبما شئت كذلك ، أي اختبرني في هواك بالذي شئته ورضيته في البعد والصّدّ والجفاء . وقوله « فاختياري » : مبتدأ . و « ما كان » : خبره . والاختيار هنا بمعنى اسم المفعول ، أي مختاري ومطلوبي الأمر الذي فيه رضاك على أيّ صفة .
ولنا في المعنى :
لست مولاي أبتغي منك وصلا * لا ولا أبتغي اقتراب حماكا
إنما منيتي وغاية قصدي * وسروري من الزمان رضاكا
 
05 - فعلى كلّ حالة أنت منّي *** بي أولى إذ لم أكن لولاكا
 
« 315 »
 
ما ألطف هذا البيت وما أدخله في مقام العرفان ، وما ذاك إلا أن الرب أولى بالعبد من نفسه لأن للربّ على العبد منّة الإيجاد ، وللعبد على نفسه حقوق الصحبة والمجاورة ، وأين أحدهما من الآخر . وعلى كل حالة : متعلق بأولى ، أي أنت أولى بي مني على كل حالة ، أي في القرب والبعد والوصل والصدّ .
و « إذ » : تعليلية متعلقة باسم التفضيل . ولولا في مثل هذا التركيب حرف جرّ لدخولها على ضمير متصل ، هذا مذهب سيبويه وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه ، أي لولاك لم أكن ولم أوجد ، والظاهر أن أكن هنا تامة لما ذكرنا .
وقد ذكر شيخ الإسلام البدر الغزي أن والده القاضي رضي الدين رضي اللّه عنهما أصبح يوما مهتمّا بشأنه  فسمع هاتفا يقول :
لا تدبّر لك أمرا * أنا أولى بك منكا
 
06 - وكفاني عزّا بحبّك ذلّي *** وخضوعي ولست من أكفاكا
كفى : فعل يستعمل على أنحاء مختلفة .
 
[ الاعراب ]
وإعرابه هنا أن ذلّي : فاعل كفاني . وبحبك متعلق بذلّي . وعزّا : منصوب على التمييز . والمعنى : كفاني ذلّي بحبك عزّا ، وكأنه محوّل عن الفاعل على أن الأمل وكفاني عزّ ذلّي ، أي العزّ الناشئ لي من ذلّي بحبك . وخضوعي : معطوف على ذلّي . وقوله ولست من أكفاكا : على وزن أفعال مفردة كفء ، أي لست من أمثالك ولا من أقرانك ولا من الذين يصلحون لخدمتك .
 
والمعنى :
غاية ما أروم من العزّ حاصل في ذلّي بحبك وفي خضوعي لجلالك فما أنا من الأقران الذين ينسبون إليك بالمساواة ولا من الأشباه الذين يضافون إليك بالمواساة .
بل عزّي بذلّي لديك وارتفاعي بخضوعي بين يديك . وفي البيت المقابلة بين العزّ والذلّ ، ونوع مجانسة بين كفاني وأكفاكا ،
وهذه عادة الشيخ رضي اللّه عنه لا يخلى غالبا كلامه من نوع مجانسة بين الكلمات ومناسبة بين الألفاظ ولو بنوع مّا من المقاربة . اهـ .
 
07 - وإذا ما إليك بالوصل عزّت *** نسبتي عزّة وصحّ ولاكا
08 - فاتّهامي في الحبّ حسبي *** وأنّي بين قومي أعدّ من قتلاكا
 
[ الاعراب ]
إذا : ظرف لما يستقبل من الزمان متضمّن معنى الشرط . وما : زائدة .
وإليك : متعلق بنسبتي . وبالوصل : كذلك كما يقال انتسب زيد إلى عمرو بالقرابة أو بالمحبة .
وعزّت : فعل الشرط . ونسبتي : فاعله . وعزّة : مفعول لأجله إن كان المعنى فيهما

« 316 »
 
متغايرا ، وإن كان المعنى فيهما متّحدا ، فعزّة مفعول مطلق . وصحّ : معطوف على عزّة . وولّاكا : ملكك لي . وقوله فاتّهامي : مبتدأ . وفي الحب : متعلق باتهامي .
وحسبي : خبر . وأني : مفتوحة والياء اسمها . وبين قومي : متعلق بأعد . ومن قتلاكا كذلك . والجملة خبر أن . وأن مع : اسمها وخبرها في تأويل مصدر وذلك المصدر معطوف على اتهامي ، يعني فاتهامي في الحب وكوني أعدّ من جملة مقتوليك حسبي ، أي يكفيني من الفخر والعزّة اتهامي بحبك ، وكوني معدودا من جملة مقتوليك .
 
ومعنى البيتين إذا صحّ ولاك عليّ وملكك إيّاي ولم أنتسب إليك بالوصل لعزّة النسبة فاتهامي في الحبّ وعدّي من جملة قتلاك يكفيني في الافتخار ، ولعمري أن من عادته رضي اللّه عنه أنه يكرّر المعاني بألفاظ مختلفة ومعان مؤتلفة ، فإنه ذكر هذا المعنى في التائية فقال :
وإن لم أفز حقّا إليك بنسبة * لعزّتها حسبي افتخارا بتهمتي
 
واعلم أن عزت من العزّة ، بمعنى قلّة وجود الشيء ، وأما عزة فهي العزّة بمعنى الرفعة . وجملة فاتهامي في الحب إلى آخرها جواب الشرط . وفي البيت الأول جناس شبه الاشتقاق بين عزّت وعزّة ، فإن المعنى متغاير كما في كتب اللغة . اهـ .
 
09 - لك في الحيّ هالك بك حيّ *** في سبيل الهوى استلذّ الهلاكا
10 - عبد رقّ ما رقّ يوما لعتق *** لو تخلّيت عنه ما خلّاكا
 
« الحيّ » الأول عبارة عن القبيلة والثاني ضد الميت .
والمعنى :
لك في القبيلة محبّ هالك لكنه حيّ بك وباستقرار حبك في باطنه فهو هالك حيّ ، فهالك باستيلاء أسباب الغرام عليه ، وحيّ بما عنده في باطنه من الشوق الذي يفيده الحياة فهو كالروح له . وقوله « في سبيل الهوى » : أي في طريق الحب استلذّ الهلاك ، أي رأى الهلاك لذيذا في طريق هواك . وعبد رقّ : بالرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي هو عبد رقّ ، أو معطوف على المبتدأ الذي هو هالك ، أي لك في الحيّ هالك وعبد رقّ . والرّقّ الملك ، أي لك عبد مملوك تتصرّف فيه كما تريد .
 
وقوله « ما رقّ » ، يعني ما صار لك رقيقا ليعتق بعده أو ما مال خاطره إلى أن يعتق من قولهم رقّ فلان لكذا أي مال إليه وتعطّف عليه ، وقوله لو تخليت عنه ما خلاك ، يعني لو تخليت عنه وتركته لما تركك ولا أعرض عنك بإعراضك عنه . وفي البيت الأول الجناس التام بين حيّ وحيّ ، والطّباق بين الهلاك والحي . وفي البيت الثاني الجناس المحرّف بين رقّ ورقّ ، وجناس الاشتقاق بين تخلّيت وخلّاكا .
 
« 317 »
 
11 - بجمال حجبته بجلال هام *** واستعذب العذاب هناكا
 
هذا البيت فيه بيان أن جماله محجوب بجلاله ومع ذلك فقد هام به واستعذب فيه عذابه واستسهل فيه حجابه .
 
[ الاعراب ]
وإعرابه : بجمال متعلق بهام . وبجلال : متعلق بحجبته ، والتقدير هام بجمال محجوب ، لأن جملة حجبته بجلال صفة جمال ، ومع ذلك فقد استعذب العذاب الحاصل من حجب الجمال بالجلال . وقوله « هناك » إشارة إلى بعد مكان الحجاب الساتر للجمال عن الطلاب . وفي البيت المقابلة بين الجمال والجلال ، وجناس شبه الاشتقاق بين استعذب والعذاب .
 
12 - وإذا ما أمن الرّجا منه أدناك *** فعنه خوف الحجى أقصاكا
 
[ الاعراب ]
نصف البيت آخره ألف أدناك ، وأول المصراع الثاني الكاف . وما الواقعة بعد إذا زائدة وهي دائما بعد إذا زائدة ، وفائدتها توكيد الشرط المفهوم من إذا . وأمن : على وزن دمع مبتدأ . والرّجا بعده بمعنى الطمع وهو مضاف إليه . ومنه : متعلق بأدناك .
 
والفاء في عنه رابطة للجزاء بالشرط . وعنه : متعلق بأقصاك . وخوف الحجى : مبتدأ ومضاف إليه . وفي أقصاك ضمير يعود إلى خوف الحجى . وجملة أقصاك عنه : خبر المبتدأ ، أعني خوف الحجى ، كما أن أدناك منه : خبر المبتدأ أعني أمن الرجا .
 
والمعنى :
إذا رجاك وطمع في أن يراك اطمأن خاطره وصفت سرائره فصار منك قريبا وحاول من لطفك نصيبا فيستشعر بعد ذلك خوف الحجى الذي هو العقل العاقل فيبعده عنك إلى أقصى المعاقل فهو دائر بين أمن رجا وخوف حجى ، فهذا يبعده وهذا يدنيه ، وهذا يقرّبه وهذا يقصيه ، فهو بين إقدام وإحجام ، وافتراق وانتظام ، يرجو أنه ينجو فيدنو من حماك ، ويخاف من الاعتساف بعد الائتلاف فيبعد عن ذراك فتراه يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى ، وتحسبه تارة الخنساء وآونة تظنه صخرا ، قال الشاعر :
اشتاقه فإذا بدا * أطرقت من إجلاله
لا خيفة بل هيبة * وصيانة لجماله
وأصدّ عنه تعمدا * وأروم طيف خياله
 
وفي البيت المقابلة بين الأمن والخوف ، والرجا والحجى ، وعنه ومنه ، وأدناك وأقصاك ، فإن قلت أي مقابلة بين الرجا والحجى مع أن ذلك غير ظاهر فكيف تحريره ، فالجواب أن الحجى بمعنى العقل والعاقل دائما خائف لأنهم نصّوا على أنه
« 318 »
 
لا يطمئن لهذه الدنيا إلا مجنون ولا يميل إليها سوى من هو بداء الغرور مفتون .
قال أحمد بن الحسين المتنبي :
تصفو الحياة لجاهل أو غافل * عمّا مضى منها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه * ويسومها طلب المحال فتطمع
 
( ن ) : الرجا مقصور لضرورة الوزن . وقوله منه ، أي من عبد رق تقدم ذكره .
والكاف في أدناك راجع للمحبوب الحقيقي . والحجى بالكسر العقل وبالفتح الحجاب والستر كذا في المصباح .
والمعنى : خاف من أن عقله يصوّرك أو يكيّفك وأنت لا تقبل التصوير والتكييف ، أو أنه خاف من حصول الحجاب والستر لعين بصره أو بصيرته فأبعدك عنه ونزّهك وقدّسك .
 
13 - فبإقدام رغبة حين يغشاك ***  بإحجام رهبة يخشاكا
 
[ المعنى ]
نصف البيت آخره ألف يغشاك والكاف أول المصراع الثاني . وهذا البيت كالمقرر المفسّر لما قبله لأنه على نمطه وأسلوبه . فقوله بإقدام رغبة متعلق بيغشاك ، أي حين يغشاك بإقدام رغبة يخشاك بإحجام رهبة ، فإقدام الرغبة التي توجب الغشيان ، أي الزيادة على وزان أمن الرجاء المدني من الحبيب ، وإحجام الرهبة التي توجب الخشية على وزان خوف الحجى المبعد عن الحبيب القريب . وقوله « بإحجام رهبة » : متعلق بيخشاك . وفي البيت المقابلة بين الإقدام والإحجام ، وبين الرغبة والرهبة ، وبين يغشاك ويخشاك ، باعتبار معنى التزامي لأنه يلزم من زيارة الرجل لك اختبارا منه أن يكون آمنا منك غير خائف كما يلزم من خوفه منك أن لا يزورك بل يبعد عنك ، فالطّباق حينئذ حاصل بين التلازم في المعنى ، ومع ذلك ففي البيت الترصيع في إقدام وإحجام ، ورغبة ورهبة ، ويخشاك ويغشاك ، مع التجانس المضارعي بين يغشاك ويخشاك لوجود قرب المخرج بين الغين والخاء ، وفيه أيضا المساواة في عدد حروف الكلمات المتقابلة وحاصل الأمر أنه بيت معمور بالمحاسن مغمور جمع بين صحة المعنى ولطف الألفاظ ، وذلك مما ينوّر البصائر ويكحل الأبصار .
 
( ن ) : يعني يقسم عليك عبد رقّ تقدم ذكره بحقّ إقدامه عليك رغبة منه فيك محبة لك حين يأتيك للزيارة بمفارقة نفسه وفنائها في وجودك الحق ، ويقسم عليك أيضا بامتناعه عن شهودك خوفا منك واحتراما لجنابك وتنزيها لك عن قيود المظاهر وحدود المجالي ، وجواب القسم يأتي في البيت الذي بعده . اهـ .

« 319 »


14 - ذاب قلبي فأذن له يتمنّاك ***  وفيه بقيّة لرجاكا
15 - أو مر الغمض أن يمرّ بجفني *** فكأنّي به مطيعا عصاكا
16 - فعسى في المنام يعرض لي *** الوهم فيوحي سرّا إليّ سراكا
 
« ذاب قلبي » : أي من شدة شوقي إليك . « فأذن له يتمناك » : أي يطلبك . وفي التعبير بالتمني إشارة إلى بعد الطلب وعزّة المرام . وقوله فأذن له يتمناك ، يفهم أدبا عظيما وهو أنه لا يطلبه ولا يتمناه إلا بإذن .
وقوله « وفيه بقية لرجاك » : إشارة إلى أن القلب أشرف على الزوال وقارب الفناء والارتحال لأجل ذلك طلب الإذن بالتمنّي ما دام في قلبه بقية للرجاء والتمنّي .
 
[ الاعراب ]
وإعرابه ظاهر غير أن يتمناك لا بدّ أن يلاحظ فيه أحد أمرين : إما أن يلاحظ خاليا من معنى الزمان ويكون بمعنى الحدث ، أو ائذن له في تمنّيك بملاحظة حرف الجر أيضا مقدّرا على حدّ تسمع بالمعيدي خير من أن تراه . والواو في وفيه بقية : واو الحال ، أي والحال أن فيه بقية لرجاك فإني لا أتمناك إلا بتأهيل منك لي لذاك وقد أشرفت على زوال بقية الفؤاد لشدة التهاب الأكباد بنار البعاد . وآخر المصراع الأول الألف في يتمناك والكاف أول المصراع الثاني .
وقوله أو مر الغمض أن يمرّ بجفني :
أو : حرف عطف . ومر : فعل أمر معطوف على ائذن ، أي إما أن تأذن لقلبي في تمنّيك ، وإما أن تأمر الغمض أن يمر بجفني . وفي التعبير بيمر إشارة إلى أن إقامة النوم بجفنه غير ممكنة حتى يطلبها وإلى أن النوم بعيد العهد عن الجفن ونزوله ، فلذلك طلب من الحبيب أن يأمر الغمض بالمرور بساحة جفنه . وكان في قوله فكأني للتقريب كما نقله في المغني عن الكوفيين ، ومثّلوا له بقولهم : كأنك بالفرج آت .
وتخريج ذلك أن تقول الياء في كأني حرف تكلم لا أنها اسم ضمير فهي مثل كاف الخطاب في ذلك مثلا . والباء في به زائدة في اسم كان . فعلى هذا « الهاء » اسم كان .
وجملة عصاك : خبرها . ومطيعا : حال من الضمير في عصاك .
 
والمعنى :
مر النوم أن يمرّ بجفني فلقد قارب أن يعصيك مع إطاعته لك .
ومعنى عصيانه له أن الجفن يخرج بالفناء عن دائرة إمكان دخول النوم فيه لأن النوم لا يدخل دار العدم ، فالعصيان عبارة عن عدم إمكان المأمور به فيصير كأن المأمور به قد عصاه لعدم حصول ما طلب ، وعدم الحصول تارة ينشأ عن عصيان المأمور ، وتارة ينشأ عن عدم إمكان المأمور به يعني مره ما دام في الأمر إمكان فلقد قارب أن تأمر النوم بالدخول إلى جفني فلا يطيعك لعدم بقاء الجفن لأن الفناء قد قارب أن يحلّ
 
« 320 »


بساحته . وما أحسن قول أحمد بن الحسين المتنبي رحمه اللّه تعالى :
وشيكتي فقد السقام لأنه * قد كان لمّا كان لي أعضاء
 
وقوله فعسى في المنام يعرض لي الوهم مفرع على طلبه أن يمر الغمض بجفنه ، كأنّ قائلا يقول : ما ينفعك مرور الغمض بجفنك حتى طلبت من الحبيب أن يأمر الغمض بالمرور به . فقال : عسى في المنام يعرض لي الوهم سراك إلي سرّا ،
أي في السرّ ، فيكون سرّا منصوبا على الظرفية ، ويجوز أن يكون سرّا مفعولا به ليوحي ، والفاعل سراك على وزن هداك إليّ سرّا من الأسرار الإلهية . ولا يخفى عليك ما في هذه الأبيات الثلاثة من المبالغات التي تقتضي غاية الشكاية من دواعي الغرام وبواعث الهيام .
وآخر المصراع الأول الهاء في الوهم ، وأول الثاني الميم . والقصيدة من البحر الخفيف .
 
( ن ) : قوله ذاب قلبي ، القلب كناية عمّا ينفخ فيه من الروح ، و ( الروح من أمر الله ) ، و ( أمر اللّه كلمح بالبصر ) فالقلب كلمح بالبصر فهذا معنى الذوبان هنا . وقوله « فأذن له » جواب القسم ، المقدّر . اهـ .
 
17 - وإذا لم تنعش بروح التّمنّي *** رمقي واقتضى فنائي بقاكا
18 - وحمت سنّة الهوى سنة *** الغمض جفوني وحرّمت لقياكا
19 - أبق لي مقلة لعلّي يوما *** قبل موتي أرى بها من رآكا
 
[ الاعراب ]
« تنعش » : مضارع أنعش ، ومعناه رفع كأن رمقه وهو بقية الحياة كان منحطّا وارتفاعه إلى مرتبة القوة يكون بروح التمني ، وهو بفتح الراء وسكون الواو بمعنى الراحة ، يعني إذا لم تنتهض بقية روحي براحة تمنّيك واقتضى فنائي ولكن بشرط أن يكون فنائي سببا لبقائك ،
وهذا رجوع إلى قوله رضي اللّه عنه : « ذاب قلبي فأذن له يتمناك » .
 
يعني إذا لم تأذن لي في تمنّيك ولم تنعش روحي بروح تمنّيك فعلّك أن تمنّ عليّ وتبقي لي من جسمي الذي هو بصدد الفناء في حبك مقلة فلعلّي أن أرى بها من رآك .
 وما ألطف هذه المبالغات في هذه الأبيات . الأبيات أولا تنظر إلى قوله رضي اللّه عنه : أبق لي مقلة الخ ، حيث قال : « أبق » ، فيقتضي أنه كان قادرا على إفنائه مطلقا ولكنه طلب منه مقلة ، أي ولو واحدة ، وقال « لعلي » : أي بطريق الترجّي طلب إبقاء المقلة لرجاء أن يرى بها . وقال « يوما » : أي ولو في يوم مجهول وقد يطلق اليوم على مطلق الزمان ولو قصر فيكون حينئذ أدخل في باب المبالغة . وقال « قبل موتي » :
إشارة إلى أنه مستشرف أن يشرف على منازل الفناء .
وقال « أرى بها من رآكا » : إشارة
« 321 »


إلى أن رؤيته له بالذات مما تتعسر أو تتعذر فطلب أن يرى بتلك المقلة المجهولة من رأى المخاطب .
وقوله « أبق » بهمزة القطع من أبقى يبقي من باب الأفعال وكأنه رضي اللّه عنه رأى إبقاء الهمزة على أصلها أولى من إدخال جزاء الشرط مع وصل ما حقّه القطع ، وعندي أن الفاء للوصل مع همزة الوصل أولى من حذف فائه وتبديل الهمزة لأن ذلك أقرب إلى غرضه وما كتبنا عليه أنسب بمقام الشكاية فتدبّر .
 
( ن ) : الخطاب للمحبوب الحقيقي والفناء في الحق تعالى يقتضي ظهور بقائه وانكشاف دوامه وثبوته لعبده الفاني فيه ولا يلزم من الفناء الحاصل للعبد السالك أن يكون عدما صرفا وإنما يكون معدوما مقدّرا بتقدير اللّه تعالى في الأزل ، ولم يذهب عنه إلا دعوى الوجود مع الحق تعالى فإن الوجود الظاهر عليه وعلى جميع المخلوقات إنما هو الوجود الواحد الحقّ القديم . وقوله وحمت : يقال حميت المكان من الناس حميا من باب رمى ، وحمية بالكسر منعته عنهم . وقوله سنّة : بضم السين وتشديد النون فاعل حمت .
والسّنّة الطريقة والسّيرة حميدة كانت أو ذميمة ، الجمع سنن بالضم . وقوله سنّة بكسر السين وفتح النون المخفّفة مفعول حمت ، والسنة والوسن : الغفلة والنعاس وأول النوم . وقوله الغمض : أي النوم .
وقوله جفوني : مفعول ثان لحمي . وقوله وحرمت : معطوف على حمت وفاعله ضمير يعود إلى سنّة الهوى . وقوله لقياكا : مفعول حرمت .
 
والمعنى :
أن مقتضيات المحبة والهوى توجب اشتغال القلب عن المحبوب وورد عن مجنون ليلى أنها جاءته فقالت له : أنا ليلى . فقال لها : عنّي إليك فإن حبّك شغلني عنك . وقوله أرى من رآك : فالذي رآه تعالى هو نور محمد صلى اللّه عليه وسلم الذي هو من نور اللّه ، وقد رأى ربّه تعالى في ليلة الإسراء حتى قال تعالى : ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ( 8 ) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ( 9 ) [ النجم : الآيتان 8 ، 9 ]
فمن رأى نور محمد صلى اللّه عليه وسلم فقد رأى من رأى الحق تعالى . اهـ .
 
20 - أين منّي ما رمت هيهات بل *** أين لعيني بالجفن لثم ثراكا
21 - فبشيري لو جاء منك بعطف *** ووجودي في قبضتي قلت هاكا
 
[ المعنى ]
« أين » : استفهام للتبعيد ، أي تبعيد أن تبقى له مقلة بإبقاء الحبيب لها يرى بها من رأى ذلك الحبيب ، فلما ذكر استبعاد هذا القدر من الوصل ربما خطر في البال أن ما دون هذه المرتبة من الوفاء وهي أن تلثم عينه بجفنها ثرى ذلك الحبيب كما يلثم الفم الموضع الذي يقبّله ، فكأنه قال : إنني طلبت إبقاء مقلة أرى بها من رأى

« 322 »
 
المحبوب ترجيا وطمعا . ثم استبعد هذه المرتبة بقوله : « أين مني ما رمت » ثم أعقب ذلك باستبعاد ما هو أدون من هذه المرتبة في باب الوصل فيكون استبعاد ما فوقها من مراتب الوصل أحرى بالاستبعاد فلذلك قال : « بل أين لعيني بالجفن لثم ثراكا » .
 
[ الاعراب ]
وإعرابه : أين : خبر مقدّم لزوما لما فيه من معنى الاستفهام . وما : مبتدأ مؤخر .
ومني : واقع موقع الحال متعلقا بكون خاص دلّت عليه قرينة الحال ، أي أين الأمر الذي رمته متقرّبا مني ، ثم زاده استبعادا بقوله : هيهات ، فهيهات : اسم فعل بمعنى بعد فهو استبعاد بعد استبعاد . ثم ترقّى في باب الاستبعاد إلى أن استبعد أن يلثم جفن عينه تراب منزل حبيبه . ثم إنه في البيت الثاني جعل بذله لوجوده الذي به يمتاز عن الفاني موقوفا على أمرين واقعين موقع الشرط ، أحدهما : أن يأتي البشير من جانبه بنوع عطف وميل في الظاهر أو في الباطن . الثاني : أن يكون وجوده في قبضته وتحت حكمه . فبشيري : مبتدأ . ولو : شرطية . وجاء : شرطها . ومنك بعطف متعلقان به ، وقوله وجودي : أي كان وجودي في قبضتي . وقوله : قلت هاكا : جزاء الشرط .
وهاكا : اسم فعل بمعنى خذ ، والكاف : حرف خطاب ، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والجملة بعد المبتدأ في محل رفع خبره .
 
( ن ) : قوله ثراكا : الثرى ندى الأرض ، وهو الحياة الآمرية السارية في الأجسام العنصرية . فهو من كثرة شوقه إلى لقاء المحبوب الحقيقي يتمنى تقبيل سرّ الحياة الساري في الأجساد الإنسانية على وجه الكمال ولو ثقيلا حاصلا بأجفان عينيه من غير مسّ بالفم . وقوله فبشيري : كناية هنا عن روحه المنفوخ فيه عن أمر اللّه تعالى . اهـ .
 
22 - قد كفى ما جرى دما من جفون *** بك قرحى فهل جرى ما كفاكا
 
[ الاعراب ]
« قد » : للتحقيق هنا . و « كفى » : ماض . و « ما » : فاعله ، أي قد كفى في باب المحبة الدمع الذي جرى دما . و « دما » بفتح الدال مفرد الدماء حال من فاعل جرى .
 
و « من جفون » : متعلق بجرى ، أي جرى من جفون ، وجفون : جمع جفن نكرة .
و « قرحى » : صفتها . و « بك » : جار ومجرور متعلق بقرحى ، أي كفى الذي جرى حال كونه دما من جفون . قرحى ، جمع قريحة وهي المجروحة .
 
وقوله « فهل جرى » : أي هل صدر شيء في باب المحبة قد كفاك أنت واطمأن به قلبك في تصديق مثلي في دعوى محبته ، فجرى الثانية بمعنى صدر ، والأولى بمعنى سال بدليل دما . ولك أن تقول أن جرى الثانية بمعنى الأولى أيضا ، ولكن الأولى ما ذكرناه . وفي البيت
 
« 323 »


الجناس التام بين جرى بمعنى سال وجرى بمعنى صدر ، وقلب الكلمات في قوله : قد كفى ما جرى ، فهل جرى ما كفى .
23 - فأجر من قلاك فيك معنّى *** قبل أن يعرف الهوى يهواكا
 
[ الاعراب ]
أجر : هنا فعل دعاء . و « من قلاك » : متعلق به ، والقلى البغض ، ومنه ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ( 3 ) [ الضّحى : الآية 3 ] وإنما طلب الإجارة من القلى فقط إشارة إلى أن القلى أمر لا صبر له عليه فإن أهل المعرفة دائما يطلبون من الحبيب أن يفعل بهم ما رام غير القلى . ومن ذلك قوله رضي اللّه تعالى عنه :
وما الصدّ إلا الودّ ما لم يكن قلى * وأصعب شيء غير إعراضكم سهل
ومعنى مفعول أجر ، أي أجر معنى فيك ، أي مغرما تعبا شقيّا فيك وبسببك .
 
وقوله : « قبل أن يعرف الهوى يهواكا » : هنا في يعرف احتمالان : أحدهما : أن يروى يعرف بالبناء للمجهول أو يعرف بالبناء للفاعل . وقوله « يهواكا » يحتمل أن يكون مضارعا للفاعل أيضا ويحتمل أن يكون يهواكا بالباء التي هي للجر ، ويكون متعلقا بمعنى أي معنى بهواك قبل أن يعرف الهوى فينحل على أربعة أوجه : أي أجر محبّا معنّى بهواك قبل أن يعرف هو الهوى ، أو قبل أن تحصل معرفة للهوى من أحد ، أو أجر محبّا معنّى فيك هو يهواك ويحبك قبل أن يعرف هو الهوى . أو قبل أن يعرف عارف الهوى وقبل أن يحصل له من أحد معرفة .
وفي البيت جناس التصحيف بين فيك وقبل ، وجناس الاشتقاق بين الهوى ويهواكا .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله قبل أن يعرف الهوى يهواك ، أي هو يحبك من حين خرج من بطن أمه .
قال تعالى : وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [ النّحل : الآية 78 ]
ومن حينئذ هو يحبك ظاهرا له بصورة ما يحبه من لبن أمه ومن كل ما يوافقه عن نغمة مربية المسكتة لصياحه واضطرابه وإن لم يعرف حقيقة ذلك فإن التجلّي العامّ بآثار الأسماء والصفات لا يتوقف على المعرفة وذلك هو الولادة على الفطرة ،
قال صلى اللّه عليه وسلم : « كل مولود يولد على فطرة الإسلام ، ولكن أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه » ، فالكفر طار على كل مولود من بني آدم لأنهم أولاد نبيّ فعصمتهم في الصغر ذاتية ما لم يبدلوها بوسواس الشيطان الذي قال كما حكى اللّه تعالى عنه بقوله :
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [ النّساء : الآية 119 ]
وخلق اللّه هي الفطرة التي فطر الناس عليها . اهـ .
 
24 - هبك أنّ اللّاحي نهاه بجهل *** عنك قل لّي عن وصله من نهاكا
25 - وإلى عشقك الجمال دعاه *** فإلى هجره ترى من دعاكا

« 324 »


[ المعنى ]
هب : من أفعال القلوب ، وهي من النوع الثاني الذي يفيد رجحان الوقوع ، والكاف في نحو هبك كاف الخطاب وهي حرف خطاب لا اسم ضمير . وشاهد عمله قول الشاعر :
فقلت أجرني أبا خالد * وإلا فهبني امرءا هالكا
 
ولا يتصرف فلا يجئ منه ماض ولا مضارع ولا يعمل إلا وهو بصيغة الأمر .
قال في القاموس : وهبني فعلت ، أي احسبني واعددني كلمة للأمر فقط ووهبني اللّه فداك جعلني . و « اللاحي » : من لحاه لامه ، ولعل أصله من لحى زيد العصا ، أي قلع لحاءها بمعنى قشرها ، وبقية اللغة في البيتين ظاهرة .
 
[ الاعراب ]
وإعرابه : أن المفتوحة تنصب الاسم وترفع الخبر . واسمها اللاحي مسكّن للضرورة . وجملة نهاه بجهل عنك : خبرها . وبجهل وعنك : متعلقان بنهاه ، والمعنى ظاهر وحاصله أن نهيه عنك حاصل من جهة اللاحي ولو تقديرا لكن نهيك عنه وعن وصلته التي تقتضيها محبته الخالصة لك لم يعلم لها وجها ولا سببا .
 
والبيت الثاني على أسلوب الأول ، أي ما دعاه إلى عشقك إلا الجمال الذي أعطاك مولاك ، والجمال مطاع وخلافه لا يستطاع ، وأما هجرك فما عرفنا الداعي إليه ولا الباعث لك عليه . وأما قوله « ترى من دعاك » هي بضم التاء بمعنى تظن ، وهي معترضة بين المتعلّق والمتعلّق بحسب المعنى لأن المراد من دعاك إلى هجره وأن مع اسمها وخبرها في محل نصب على أنهما سدّا مسدّ مفعولي هب ، ولا يخفى ردّ العجز على الصدر في نهاه ونهاك ودعاه ودعاك والمقابلة بين العشق والهجر في البيت الثاني .
 
26 - أترى من أفتاك بالصدّ عنّي *** ولغيري بالودّ من أفتاكا
 
[ الاعراب ]
اعلم أن هذا البيت يروى هكذا بضم تاء ترى بعد همزة الاستفهام على أن المعنى أتظن .
و « من » مفتوحة الميم استفهامية . و « أفتاك » من الفتوى في المسألة .
 
و « بالصدّ » متعلق به . و « عنّي » متعلق بالصدّ . وقوله و « لغيري » متعلق بحسب المعنى بقوله « أفتاك » إذ المعنى : ومن أفتاك لغيري بالود . و « بالود » كذلك ، أو تقول « بالود » متعلق بأفتاك . « ولغيري » متعلق به ، أي : من أفتاك بأن تودّ غيري دوني . وقد يروى الثاني هكذا : ولغير بالودّ ما أفتاكا . على أن الرواية للتعجّب ، أي كيف تقبل فتوى غيرك حيث أفتاك بأن تصدّ عنّي مع أنك عظيم الفتوى أو الفتوّة بالوّد للغير . لأن أفتاك

« 325 »
 
يصحّ أن يكون تعجّبا من الفتوى لغيره بالودّ أو من الفتوّة التي هي بمعنى المكارم والمروءة العالية . وقد وقع في البيت تعليق ترى عن العمل باعتبار كون من الاستفهامية في صدر الجملة وإن كانت الرواية في المصراع الثاني ما أفتاكا فهي ما التعجبية كما أبرزناه سالفا .
هذا وفي البيت المقابلة بين الصدّ والودّ ، وفيه الجناس التام بين أفتاك وأفتاك على المعن الثاني لا على المعنى الأول فإنه يكون الفعل مكررا عليه فتأمل .
 
27 - بانكساري بذلّتي بخضوعي *** بافتقاري بفاقتي بغناكا
28 - لا تكلني إلى قوى جلد خان *** فإنّي أصبحت من ضعفاكا
 
[ الاعراب ]
أي أقسم عليك « بانكساري » في بابك وذلّتي لعزّك المنيع ، وافتقاري إلى غناك الوسيع وفاقتي إلى غناك . « لا تكلني » بفتح التاء وكسر الكاف وسكون اللام ، أي لا تجعلني يا رب محتاجا وعاجزا إلى « قوى » جمع قوة . والجلد محرّكة ، الشدّة والقوّة .
 
و « خان » : فعل ماض ، أي لم يساعد عند الاحتياج إليه . وقوله : « فإني أصبحت من ضعفاكا » : جملة تعليلية لقوله لا تكلني إلى قوى شدة كانت فخانت وهانت فإني أصبحت معدودا من جملة ضعفائك الذين يرجون شفاك ويطلبون رضاك . والضعفاء في آخر البيت جمع ضعيف نحو شرفاء جمع شريف . وجمل لا تكلني جواب القسم في قوله بانكساري الخ . . .
وآخر المصراع الأول في البيت الثاني الألف في خان والنون أول الثاني . وفي البيت الأول المناسبة بين الانكسار والذلّة والخضوع والافتقار والفاقة . وفيه المقابلة بين الفاقة والغنى ، وفي الثاني المقابلة بين القوة في القوى والضعف في ضعفاكا ، ويروى أمسيت .
 
والمعنى :
أقسم عليك بالانكسار وما بعده من الأوصاف التي تقتضي رحمة المالك للمملوك والغنيّ للصعلوك لا تجعلني محتاجا إلى قوة من شدّة كانت فخانت وبانت وضعفت وهانت ، فإني عبد ضعيف ، وأنت قويّ لطيف ، ومن ورد بالافتقار إلى باب العزيز الغفّار نظر إليه بإحسانه وحيّاه بغفرانه ، فإنه يحبّ العبد المتملّق الذي هو بأهداب التأمّل متعلق ، واعلم أن بعض العلماء جوّز القنوت بهذين البيتين لأنهما خطاب لربّ العزّة جلّ وعلا ، وبعضهم منع القنوت بهما بناء على منعه منظوما فتأمل .
 
وقلت في المعنى :
إلهي بتقديس النفوس الزكيّة * وتجريدها من عالم البشرية
أزل عن فؤادي ما يعاني من العنا * فإني ضعيف الصبر عند البليّة
 
« 326 »
 
ونقل كثير ممّن يعتني بأخبار الشيخ رضي اللّه عنه أنه لمّا قال :
وبما شئت في هواك اختبرني * فاختياري ما كان فيه رضاكا
 
ابتلاه اللّه تعالى بحصر البول فكان يصيح لذلك ويتوجّع إلى أن قال هذين البيتين مشيرا إلى عدم قواه ، وإلى أنه وإن طلب الاختبار فقد فقد الاختيار ، وعدم الصبر والقرار آناء الليل وأطراف النهار . وقد بلغني من أفواه الناقلين أنه كان يصيح بين البيوت وينادي الأولاد ويقول لهم : اصفعوا عمّكم عمر الكذاب حيث طلب الاختبار ونفى عن نفسه الاختيار .
 
29 - كنت تجفو وكان لي بعض صبر *** أحسن اللّه في اصطباري عزاكا
 
[ الاعراب ]
قوله رضي اللّه عنه « كنت تجفو » ليس المراد منه الإخبار عن وقوع الجفاء في الزمن الماضي فقط حتى يلزم أن يكون قد ترك الجفاء الآن ، بل المراد كنت تجفو مع وجود بعض الصبر مني ، وأما الآن فإنك تجفو ولا صبر عندي .
قالوا وفي قوله :
« وكان لي بعض صبر » : واو الحال . وقوله « أحسن اللّه في اصطباري عزاكا » : جملة إنشائية لإنشاء تعزية الحبيب في صبر المحبّ فيدلّ على فقد الصبر بموته لأن الصبر لو فقد من غير موت لكان يرجى رجوعه لكنه لمّا كان مفقودا بالموت زال رجاء رجوعه
كما قال عبيد بن الأبرص :
لكل ذي غيبة إياب * وغائب الموت لا يؤب
وقد أشار الأستاذ الشيخ محمد البكري رضي اللّه عنه إلى هذا البيت حيث قال :
قد كان لي قبل هذا الهجر مصطبر * واليوم جئتك في صبري أعزّيكا
واعلم أن العزاء بالمدّ عبارة عن الصبر أو حسنه ، فاستعمله رضي اللّه عنه مقصورا وأراد بقوله عزاكا المعنى الاصطلاحي لا اللغوي وإن أردت المعنى اللغوي فهو ممكن أيضا فتأمل .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله كنت تجفو : إشارة إلى أيام غفلته وجهله بربّه . وقوله وكان لي بعض صبر : أي عن لقائك وشهود تجلّيك في كل شيء والإشارة بالبعض إلى أيام سلوكه في الطريق بالأعمال الصالحة فإنه يشتاق إلى الحق مع الغفلة عنه فله بعض صبر عن مشاهدته ، وقوله أحسن اللّه الخ . . . كناية عن ذهاب صبره الآن بالكلية لبلوغه مرتبة العرفان وتحقّقه بحقائق الوجدان. اهـ .
 
30 - كم صدود عساك ترحم شكواي *** ولو باستماع قولي عساكا

« 327 »
[ المعنى ]
المصراع الأول آخره « شكواي » ، وياء المتكلم فيها أول المصراع الثاني . وكم هنا تكثيرية . وصدود : مجرور بمن المقدّرة وهو تمييز كم المذكور ، وكم : محلها الرفع بالابتداء ، وخبرها محذوف ، أي كثير من الصدود موجود . وقوله ترحم شكواي : أي ترجّ للرحمة بعد الشكاية من كثرة الصدود .
 
ثم اعلم أن الشيخ الرضي رضي اللّه عنه قال : الذي أرى أن عسى ليس من أفعال المقاربة إذ هو طمع في حق غيره تعالى وإنما يكون الطمع فيما ليس الطامع على وثوق من حصوله فكيف يحكم بدنوّ ما لا يوثق بحصوله ، ولا يجوز أن يقال معناه دنوّ الخبر كما هو مفهوم من كلام الجزولي والمصنّف .
أي أن الطامع يطمع في دنوّ مضمون خبره فقولك : عسى أن يشفى مريضي ، أي أني أرجو قرب شفائه ، وذلك لأن عسى ليس متعيّنا بالوضع للطمع في دنوّ مضمون خبره بل لطمع حصول مضمونه مطلقا سواء ترجى حصوله عن قريب أو بعد مدة مديدة .
تقول : عسى اللّه أن يدخلني الجنة ، وعسى النبي أن يشفع لي : فإذا قلت : عسى زيد أن يخرج ، فهو بمعنى لعله يخرج ولا دنو في لعل اتفاقا . اهـ .
 
وفي قوله « عساك » الثاني ردّ العجز على الصدر لتكراره ، ولكن وقع في اللفظ لطف كامل وذلك لأن قوله « ولو باستماع قولي عساكا » يحتمل أن يكون المراد ولو كانت رحمتك لشكواي باستماع قولي أي مقولي أي ما أقوله .
وعساك الثاني حينئذ يكون مجرد تكرار وتوكيد للأول ويحتمل أن يكون المعنى ولو باستماع قولي لفظة عساكا ، فيكون مقول القول عساك .
يعني أنا راض منك أن تسمع لي لفظة عساك فإنها تدلّ على الرجاء المطلق وإيقاع ترحّم على نفس الشكوى مجاز إذ الرحمة لصاحب الشكوى ، وهو من قبيل المجاز في الحكم وإن كان إيقاعا كما حقّق في موضعه فتأمل . اهـ .
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة ته دلالا فأنت أهل لذاكا الأبيات من 01 إلى 60 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:21 pm

شرح قصيدة ته دلالا فأنت أهل لذاكا الأبيات من 01 إلى 60 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الخامسة ته دلالا فأنت أهل لذاكا الأبيات من 01 إلى 60
31 - شنّع المرجفون عنك بهجري *** وأشاعوا أنّي سلوت هواكا
32 - ما بأحشائهم عشقت فأسلو *** عنك يوما دع يهجروا حاشاكا
33 - كيف أسلو ومقلتي كلّما  ***  لاح بريق تلفّتت للقاكا
 
[ المعنى ]
اعلم أن البيت الأول يتضمن أمرين :
أحدهما : أن المرجفين شنّعوا ونقلوا عنك أنك هجرتني ، فالمصدر في هجري مضاف إلى مفعوله أي بهجرك إياي .
الثاني : أنهم أشاعوا عليّ أني سلوت هواك وتباعدت عن حماك . وأما البيت الثاني فإنه يتضمن ردّ الأمرين اللذين في ضمن البيت الأول لكن على سبيل اللف والنشر المشوّش ، لأن قوله « ما بأحشائهم عشقت فأسلو » ردّ لقوله « وأشاعوا أني سلوت هواكا » .
وقوله « دع يهجروا حاشاكا » ردّ لقوله شنع المرجفون عنك بهجري ، فالنشر ليس على ترتيب
 
« 328 »
 
اللف ، وقوله دع يهجروا له ثلاث احتمالات :
الأول : أن يكون من تتمة قوله « ما بأحشائهم عشقت فأسلو عنك يوما » ، ويكون حينئذ قوله حاشاكا كافيا في ردّ قوله شنع المرجفون عنك بهجري كما سنقرره إن شاء اللّه تعالى .
الثاني : أن يكون مع ما بعده ردّا لقوله شنع المرجفون عنك بهجري .
الثالث : أن يكون ردّا لهما معا ، أي دعهم يهجروا فيما ادّعوه وأشاعوه وأذاعوه وشنّعوه من كونك تهجرني ، ومن كوني سلوت هواك هذا .
واعلم أن قوله دع يهجروا المتبادر منه أن يكون من الهجر بضم الهاء وسكون الجيم ، وهو الكلام الفاحش . ويحتمل على بعد أن يكون من الهجر بفتح الهاء بمعنى الترك .
وقوله « كيف أسلو » إلى آخر البيت تأكيد لردّ قول المرجفين أني سلوت هواك كما سنقرره إن شاء اللّه تعالى .
والألف في لاح آخر المصراع الأول والحاء فيها أول المصراع الثاني . ولنرجع إلى حلّ الألفاظ الواقعة في الأبيات الثلاثة وبيان معانيها ، فنقول « شنع » : أي أثار الشناعة .
و « المرجفون » : الخائضون في بحار الفتن ومنه المرجفون في المدينة .
و « عنك » : متعلق بشنع ، أي شنع الخائضون في بحار الفتن عنك أنك هجرتني ، وأشاعوا أيضا أني سلوت هواك فكذبوا عليك حيث نسبوك إلى أنك هجرتني ، وكذبوا عليّ حيث نسبوني إلى أني سلوت محبتك . فأما ما ادّعوه عني من سلوّي هواك فهو كذب لأن حشاي التي عشقتك بها ليست حشا القوم الذين أرجفوا وشنعوا عني وعنك بالأمرين المذكورين ، لأن حشاهم معتادة بسلوّ الأحباب لأنهم يعشقون في الباب ويسلون في الأعتاب .
وأما حشاي فليس لها عن حبيبها سلوة ، ولا تطلب من جماله جلوة ، ولا تريد خلوة ولا تشكو من تطاول الجفوة ، فهم يقيسون حشاي على حشاهم ، ويظنون هواي مثل هواهم ، وأين الثريا وأين الثرى ، وأين من لم يدر ممّن درى . وقوله « عنك » متعلق بأسلو .
 
و « يوما » : قيد له أيضا ، أي فأسلو عنك يوما من الأيام . وقوله « دع يهجروا » قد تقدم ما له من الاحتمالات ، وقوله « حاشاكا » ردّ لما زعموه من كون الحبيب قد هجره . أي حاشاك وتنزّهت عن أن تتّصف بهجر المحبّين ، أو أن توصف بنسيان المخلصين . وقوله « كيف أسلو » إلى آخر البيت الثالث ، تقرير لعدم سلوانه وتأكيد أشجانه فكيف استفهام إنكاري بمعنى النفي ، أي : لا أسلو .
 
والواو في « ومقلتي » واو الحال ، « ومقلتي » :
مبتدأ . و « كلما » بالنصب على الظرفية لأن كل تابعة لما أضيفت إليه وما عبارة عن الوقت ، أي كل وقت وبريق على صيغة التصغير الذي هو للتحبيب . قال رضي اللّه عنه :
ما قلت حبيبي من التحقير * بل يعذب اسم الشخص بالتصغير
 
« 329 »
 
والظرف متعلق بتلفتت ، وللقاكا كذلك . وحاصل الأبيات الثلاثة حكاية ما صدر من تشنيع المرجفين وإشاعتهم ومن ردّه عليهم للأمرين على ما سلف تقريره ومضى تحريره . والبيت الثالث تأكيد للردّ الأول المتعلق بالتشنيع الثاني ، وفي البيت الثالث إدماج تشبيه ضوء الحبيب بالبرق اللامع والنور الساطع ، لقوله « كلما لاح بريق تلفتت للقاكا » . وقد أشرنا في غضون الشرح إلى ما في الأبيات من المحاسن . اهـ .
 
34 - إن تبسّمت تحت ضوء لثام *** أو تنسّمت الرّيح من أنباكا
35 - طبت نفسا إذ لاح صبح ثناياك *** لعيني وفاح طيب شذاكا
 
[ الاعراب ]
البيتان مرتبط أحدهما بالآخر لأن الأول شرط والثاني جزاء . وقوله « أو تنسّمت الريح » : معطوف على تبسمت فهو داخل في حيّز الشرط . و « من » : حرف جر و « أنباكا » : جمع نبا بمعنى الخبر . وقوله « طبت » بضم تاء المتكلم جواب الشرط .
و « نفسا » : تمييز . و « إذ » : تعليلية متعلقة بقوله طبت وذلك راجع إلى قوله إن تبسمت تحت ضوء لثام .
وقوله « وفاح طيب شذاكا » : راجع إلى قوله أو تنسمت الريح من أنباكا ، ومعنى البيتين معا إن صدر منك تبسّم تحت ضوء لثام أو حصل للريح تنسّم من أخبارك الطيبة حصل لي نشأة اقتضت طيب نفسي لأن صبح ثناياك قد لاح ، وطيب شذاك قد فاح . ففي الكلام لفّ ونشر على الترتيب ، والشذا طيب الرائحة ، وفي البيت الأول جناس التصحيف بين تبسمت وتنسمت ، وبين طبت وطيب .
 
[ المعنى ]
( ن ) : تبسمت بفتح تاء الخطاب للمحبوب الحقيقي ، والتبسّم هنا كناية عن انكشاف أسمائه تعالى الحسنى وصفاته العليا للعبد السالك في طريق اللّه تعالى .
واللثام هنا كناية عن الصور الكونية الحسّيّة والمعنوية . وضوء اللثام ظهور نور الوجود من حيث حضرة أسمائه الحسنى وصفاته العليّة على صفحات الصور الكونية .
وقوله تنسمت : أي أظهرت النسيم ، يعني ظهر عن أمرك نفسك بالتحريك كما ورد أني لأجد نفس الرحمن يأتيني من جهة اليمن فكأن الأنصار وهم الأرواح الآمرية في الأجسام الإنسانية . وقوله الريح من أنباكا : جواب الشرط فإن الريح حاملة لأخبار الحضرة الإلهية لأنها من أمر اللّه تعالى .
وقوله صبح ثناياك : كناية عن الأسماء الإلهية والصفات العلية ، يعني طابت نفسي وانبسطت وانشرحت في حالة ظهور نور ثناياك وفوح طيب شذاك . اهـ .
 
36 - كلّ من في حماك يهواك لكن *** أنا وحدي بكلّ من في حماكا

« 330 »
[ المعنى ]
قد علمت أن الحمى ما يجب أن يحميه الإنسان ، والمراد هنا من في وجودك الذي أنت تحميه بالفيض الباقي الذي لا ينقطع فكل من هو داخل تحت عبوديتك يحبك لأن لك عليه نعمة الإيجاد بل ذوات الوجود مائلة إليك بالعبودية مقرّة لك بالربوبية .
 
وقد قلت فيما يقرب من ذلك :
ورق الغصون إذا نظرت دفاتر * مشحونة بأدلة التوحيد
 
وقوله « لكن » استدراك ، لأن الكلام السابق يوهم أن الشيخ رضي اللّه عنه داخل في عموم كلامه وأنه مساو لبقية من في الحمى في المحبة والهوى ،
فاستدرك ذلك وقال : أنا وحدي بكل من في حماكا
فأنا واحد مساو للجميع :
ليس على اللّه بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد
 
وفي كلامه رضي اللّه عنه تقدير إذ المراد أنا وحدي معدود في محبتك بكل من هو مقيم في الحمى وهذا منه رضي اللّه عنه شطح يغتفر منه إن كان قد أراد العموم الحقيقيّ بالنسبة إلى سائر الأزمنة ، وإن كان قد أراد من في عصره من العارفين فلا بعد ولا بدع في أن يكون واحد كألف .
قال ابن دريد في مقصورته :
الناس ألف منهم كواحد * وواحد كالألف إن أمر عرى
 
وقال آخر :
ولم أر أمثال الرجال تفاوتوا * لدى الوصف حتى عدّ ألف بواحد
وفي البيت ردّ عى العجز على الصدر ، وشبه الطّباق بين الوحدة والجمعية المفهومة من لفظة كل ، وفيه الانسجام الذي يأخذ بمجامع القلوب والأفهام .
 
( ن ) : الحمى : عبارة عن تقوى اللّه تعالى وعن مقام الورع في الأعمال كلها ظاهرة وباطنة . وقوله أنا وحدي الخ . . . ، أي محسوب بكل الأولياء الكاملين المنسوبين إليك على طريقة شكر النعمة بذكرها كما قال تعالى : وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ( 11 ) [ الضّحى : الآية 11 ] ،
 
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « أنا النبي الأميّ الصادق الزكي ، الويل ثم الويل كلّ الويل لمن كذّبني وتولّى عنّي وقاتلني ، والخير لمن آواني ونصرني وآمن بي وصدق قولي وجاهد معي » . وقال أيضا : « أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي ، وأنا أول من تنشقّ عنه الأرض ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول مشفّع ولا فخر » .
وروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال على المنبر : الحمد للّه الذي لم

« 331 »
يجعل فيكم أفضل مني . فقيل له في ذلك ، فقال : رأيت نعمة اللّه فأحببت شكرها .
وقال الشيخ عبد القادر الكيلاني قدّس اللّه سرّه : قدمي على رقبة كل وليّ للّه فطأطأت له أولياء زمانه رقابهم .
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي قدّس اللّه سرّه : أخذت عن ستمائة شيخ ثم وزنت بهم فرجحتهم . اهـ .
 
37 - فيك معنى حلّاك في عين *** عقلي وبه ناظري معنّى حلاك
 
[ الاعراب ]
« فيك » : خبر مقدّم لإفادة الحصر . وقوله « معنى » : مبتدأ مؤخر ، والمعنى الذي في المحبوب الحقيقي هو ما يظهر من مفهوم تجلياته على العقول بحسب استعدادها وقبولها ويسمى المناظر العلا . وقوله « حلاك » : أي جعلك حلوا ، أي مليحا جميلا .
 
والباء في « به » للسببية . وقوله « معنّى » بتشديد النون اسم مفعول من عناني كذا يعنيني عرض لي وشغلني فأنا معني به . والحلا بالكسر جمع حلية ، وهي صفة الرجل ، يعنى أنه معنى تلك الصفات العليّة والأسماء الإلهية . اهـ .
 
38 - فقت أهل الجمال حسنا *** وحسنى فبهم فاقة إلى معناكا
 
[ الاعراب ]
قوله « فقت » بضم الفاء من فاق يفوق أجوف بالواو ، أي علوت وسموت مأخوذ من الفوقية ، والمراد بها في أصل اللغة التفوّق في الحسن ، ثم استعمل في كل رجحان ولو معنويّا . و « أهل الجمال » : أصحابه .
وقوله « حسنا » : منصوب على التمييز . و « حسنى » : معطوف عليه ، أي علوت أيها الحبيب على كل ذي حسن عجيب وعلى كل ذي إحسان قريب فأنت فوقهم جمالا ونوالا .
والفاء في « فبهم » فصيحة ، إذ المراد إذا كنت فائقا على أرباب الجمال في جميع الأحوال فهم إليك مفتقرون وإلى حسنك مائلون . والباء في « فبهم » بمعنى في . والفاقة : الفقر والحاجة .
و « معناكا » يروى بالعين المهملة ، والمراد به الوصف لأن وصف الرجل بمنزلة معناه الذي يعلم منه ويؤخذ عنه . وقد يروى مغناكا بالغين المعجمة على أنه مصدر ميمي بمعنى الغنى خلاف الفاقة ، فيصير المعنى عليه ففيهم احتياج وافتقار إلى غناك لأنك قد فقت وعلوت على أهل الجمال في الحسن وفي الحسنى ، فحيث علوت عليهم في هذين الوصفين فيلزم أن يكون لهم احتياج إليك ، وافتقار إلى ما في يديك .
 
وحسنا : منصوب على التمييز ، أي فقت أرباب الجمال من جهة الحسن ، ومن جهة الحسنى فيلزم أن يكون لهم افتقار إلى غناك واضطرار إلى معناك . وفي البيت جناس الاشتقاق بين قوله حسنا وحسنى ، وقرب الألفاظ بين فقت وفاقت ، والطّباق بين فاقة ومغناك على الوجه الثاني فيه .
 
« 332 »
[ المعنى ]
( ن ) : بهم : ضمير بهم لأهل الجمال وهم الرجال أصحاب القلوب المعمورة ، والبصائر التي هي بأسرار الحق مغمورة . وقوله إلى معناكا : أي إلى ما يتحصّل في العقول من معاني تجلياتك المختلفة على القلوب التي هي بك مؤتلفة . اه .
 
39 - يحشر العاشقون تحت لوائي *** وجميع الملاح تحت لواكا
 
[ الاعراب ]
يريد أنه سلطان العشاق كما أن حبيبه سلطان المعشوقين على الإطلاق .
فالعاشقون جنوده يسيرون تحت لوائه . و « الملاح » : جنود حبيبه يسيرون تحت لوائه .
واللواء بالمدّ ، وقد يروى بالقصر . العلم جمعه ألوية ، وجمع الجمع ألويات ، ولما كان يروى تارة بالمدّ وتارة بالقصر استعمله الشيخ رضي اللّه عنه بهما كما ترى .
ويجوز في « وجميع الملاح » : وجهان : أحدهما : أن يكون معطوفا على نائب الفاعل وهو العاشقون فيصير المعنى : ويحشر جميع الملاح تحت لواكا ، ولك أن تقول :
وجميع الملاح : مبتدأ . وتحت لواكا : خبره . وعلى الوجه الثاني لا يكون مقيدا بالحشر بل تصير التحتية في الجانب الثاني مطلقة ، أي وجميع الملاح مستقرون تحت لواك في أيّ موقف كان سواء كان موقف الحشر أم لا . وفي البيت الانسجام فهو بجميع البيوت عامّ .
 
[ المعنى ]
( ن ) : المراد بالعاشقين أهل المحبة الإلهية الفانون في وجود محبوبهم بالكلية الباقون به في حضرته العلية . فإنه يأتي يوم القيامة مقدّما عليهم لأنه يحشر المرء على ما مات عليه ، والمراد أن روحه التي كنى عنها بلوائه الذي بحمله تحشر عاشقو زمانه كلهم تحته ولواؤه محمول بأمر اللّه تعالى لأنه منفوخ فيه منه .
وقوله رضي اللّه عنه :
يحشر العاشقون الخ . . . اقتداء بمورثه صلى اللّه عليه وسلم حيث قال : « أنا سيد بني آدم » . وقال الشيخ عبد القادر الكيلاني قدّس اللّه سرّه :
كلامي عقار عتقت ثم روقت * وبعض كلام العارفين عصير
إذا ظهرت يوما بزاة خواطري * فما لعصافير الطريق صفير
وقوله وجميع الملاح الخ . . . كنى بالملاح عن المظاهر الأسمائية والتجليات الربانية ، فهو ملاح الأكوان وكنى باللواء عن روح اللّه الأعظم . اهـ .
 
40 - ما ثنائي عنك الضّنا فبماذا *** يا مليح الدّلال عنّي ثناكا
 
[ الاعراب ]
ثناه عنه : أداره عن مودّته وغيّره عن محبته . و « الضنا » : المرض الذي كلما توهم برؤه نكس . والفاء : فصيحة ، أي إذا لم يثنني عنك المرض المضني فبأيّ

 
« 333 »
 
شيء ؟ أي بأي سبب ثناك ومنعك عني الدلال يا مليح الدلال وجميل الخصال ، فالضنا : فاعل ثناني . وعنك : متعلق به ، وقوله بماذا : متعلق بقوله ثناك . وكذلك عني . وقوله يا مليح الدلال : معترضة بين المتعلّق والمتعلّق وفاعل ثناك يعود إلى الدلال في قوله يا مليح الدلال .
 
والمعنى :
ما ردّني عنك المرض الذي لا يرجى شفاؤه ، فبأيّ سبب ثناك عني دلالك ، ومنعك عني جمالك . هذا ولك أن تقول إن ثناك بمعنى المدح ، أي حيث ثبت عندك أن المرض المذكور ما منعني عنك ، فبأي شيء تثني عليّ بين المحبّين وتذكرني بين العاشقين ، هل تذكرني بينهم بالوفاء على اختلاف الأحوال وانقطاع الآمال ؟
وقد نظرت إلى هذا البيت حيث قلت من قصيدة :
لم يفنني عنك سقم قد برى جسدي * فما الذي يا قويم القدّ يثنيكا
 
( ن ) : الخطاب للمحبوب الحقيقي . وقوله الدلال : كناية عن امتناع بعض المظاهر الإلهية عنه ، وإقبال البعض عليه ، وفاعل ثناك ضمير الضنا ، والمعنى لم يتحوّل قلبي عن محبتك بسبب زيادة الأمراض التي اعترت جسدي وأسقمتني فبأيّ سبب من الأسباب ، وبأيّ اقتضاء في الضنا حتى صرفك عني فلم تقبل عليّ وكان ذلك منك بسبب زيادة سقامي في محبتك ، وشدّة مرضي في مقاساة مودّتك كما قال القائل :
رحلتم وقلتم أقم أو فسر * فخيّر تموني وحيّر تموني
نأيتم وقلتم براك السقام * فغيّر تموني وعيّر تموني
 
41 - لك قرب منّي ببعدك عنّي *** وحنوّ وجدتّه في جفاكا
 
[ المعنى ]
يريد بذلك أن لك قربا عندي في الفؤاد وإن كنت موصوفا بحسب الجسم بالبعاد ، فالقلب يدنيك وإن كانت الأيام تقصيك ، وجفاك أراه حنوّا كما وجدت بعدك دنوّا . و « مني » متعلق بقرب . كما أن « عني » متعلق ببعدك . « وحنوّ » : معطوف على قرب ، أي ولك حنوّ وعطف على وجدته في جفاكا . والباء في « ببعدك » بمعنى في الظرفية ، وإنما كان القرب يوجد في الجفاء والصّدّ لأنه يعلم أن بعادهم عنه وانقطاعهم منه إنما هو لعلمهم أنه محبّ صابر وعلى البلاء مصابر وعلى الحبّ مثابر ، فالبعد مبني على المحبة والجفاء والمودّة والصفاء . وهذا البيت مملوء بالمحاسن واللطائف لأنه فيه القرب والبعد ، ومني وعني ، والحنوّ والجفاء ، وفيه الإغراب وهو
 
« 334 »
وجود القرب في البعد والحنوّ في الجفاء والصّدّ ، ويدلّ هجركم على أني خطرت ببالكم .
( ن ) : قوله لك قرب مني ببعدك عني : يعني أن قرب الكائنات منه تعالى قرب أثر من مؤثر ، وقرب معلوم من عالم به لا يعزب عن علمه شيء ، وبعد الكائنات منه تعالى عدم مناسبتها له وعدم مشابهتها له ولا بوجه من الوجوه لأنها جميعها معدومات ولا وجود لها أصلا وإنما الوجود كله له تعالى وحده . اهـ .
 
42 - علّم الشّوق مقلتي سهر اللّيل *** فصارت في غير نوم تراكا
 
[ الاعراب ]
علّم بالشد فعل ماض . والشوق : فاعل . ومقلتي : مفعول أول . والسهر :
مفعول ثان . والليل : مضاف إليه .
 
والمعنى :
أنه من شدّة الاشتياق يسهر الليل كله . وقوله « فصارت في غير نوم تراكا » وذلك لأن النوم يوجب انجماع الحواس الخمس كلها ، وإرجاع الإدراك كله إلى القلب ، ولهذا النائم لا يدرك شيئا في عالم الحسّ ، وعقله منحرف إلى جانب قلبه فلا يدرك منه بحواسه وبعقله إلا قلبه فقط ، وكذلك صاحب المحبة الإلهية والمعرفة الربانية إذا فني في وجود محبوبه الحقيقي بالكليّة انجمع حواسّه في قلبه وانجذب عقله إليه عن ملاحظة كل شيء ، فرأى في يقظته ما يراه النائم في منامه ، وزاد عليه بمعرفة حاله الذي هو فيه فلا يرى سوى محبوبه ولا يشهد غير مطلوبه. اهـ .
 
43 - حبذا ليلة بها صدت إسراك  *** وكان السّهاد لي أشراكا
 
« حبذا » الأمر ، أي هو حبيب جعل حب وذا كشيء واحد ، وهو اسم وما بعده مرفوع به ولزم ذا حب وجرى كالمثل بدليل قولهم في المؤنث : حبذا لا حبذه انتهى كلام القاموس . لكن غيره يقول في حبذا زيد : أن زيد : مبتدأ . وحب : فعل ماض .
وذا : فاعله ، والجملة خبر مقدّم لزيد . وبقاء ذا في المؤنث والمذكر والمفرد وغيره متفق عليه بها أي فيها . « صدت » بكسر الصاد على وزن بعت ماض من الصيد .
و « إسراك » : مصدر أسرى ، أي سار عامّة الليل وهو بكسر الهمزة . و « السهاد » : السهر .
 
والإشراك في آخر البيت بالشين المعجمة ، جمع شرك وهي حبالة الصيد . وآخر المصراع الأول الألف اللينة في إسراك ، وأول المصراع الثاني الكاف فيه أيضا .
 
الإعراب :
حب : فعل ماض . وذا : فاعله . وليلة : مبتدأ ، والجملة قبله خبر .
والإعراب ما ذكره صاحب القاموس . والباء : في بها ظرفية ، بمعنى في متعلقة بصدت . وإسراك : مفعوله . والواو في وكان عاطفة . والسهاد : اسمها . وإشراكا :
 
« 335 »
 
خبرها . ولي : صفة في الأصل قدم عليه فهو حال منه ، هذا واعلم أن هذا البيت والذي قبله إلى البيت السابع يتعلق بعضها ببعض ومعانيها مرتبطة ومقاصدها متقاربة فكأنها بحث واحد .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله حبذا ليلة : الليلة هي النشأة الكونية الظاهرة في الصور المثالية .
والمعنى بصيد الإسراء تحصيل معنى التجلّي الإلهي في الصورة الكونية ، وإنما كان السهر إشراكا له يصيد به الكشف عن التجليات الإلهية والظهورات الربانية لأنه صار في غير نوم يرى ذلك التجلّي والظهور كما صرّح به قبله في البيت المذكور . اهـ .
 
44 - ناب بدر التّمام طيف محيّاك *** لطرفي بيقظتي إذ حكاكا
45 - فتراءيت في سواك لعين *** بك قرّت وما رأيت سواكا
46 - وكذاك الخليل قلّب قبلي *** طرفه حين راقب الأفلاكا
 
[ المعنى ]
قوله « ناب » بالنون في أوله والباء الموحدة في آخره من النيابة ، وهي قيام النائب مقام المنوب عنه . و « بدر التمام » في أربع عشرة ليلة . والطيف : الخيال الطائف وأصله طيف بتشديد الياء كميت . والمحيّا : الوجه كله أو حرّ الوجه . والطرف : العين لا يجمع لأنه في الأصل مصدر أو اسم جامع للبصر لا يثنّى ولا يجمع .
واليقظة محركة نقيض النوم وفعله كرم وفرح . و « حكاكا » : يعني شابهك . قوله « فتراءيت » : أي ظهرت ، والفاء تدل على أن ما بعدها مفرّع على ما قبلها لأنه لمّا ناب بدر التمام عن طيف محياه ظهر منه فيه .
وقوله « وكذاك الخليل » إلى آخر البيت تلميح إلى قصة الخليل المحكيّة في القرآن العظيم .
فنقول : قوله ناب بدر التمام طيف محياك ، تقديره ناب عن طيف محياك ، فحذفت عن وأوصل الفعل إلى الطيف ، ويروى بات بالباء الموحدة أولا ، وبالتاء المثناة من فوق آخرا ، وهي حينئذ بمعنى صار ، أي صار بدر التمام طيف محياك ، وفيه استغناء عن دعوى الحذف والإيصال .
وإذ في قوله إذ حكاكا تعليلية ، أو ظرف لقوله ناب أو بات ، والتعليل عليه مستفاد من قوّة الكلام .
 
وقوله لطرفي : متعلق بحكاكا . وبيقظتي : متعلق به أيضا ، إذ المراد ناب عن طيف محياك لمّا حكاكا في يقظتي لطرفي . والمراد من سواك في قوله في سواك بدر التمام .
 
والعين متعلق بقرّت . وجملة بك قرّت : في محل جر على أنها صفة عين . إذ المراد لعين قريرة بك . قوله وما رأيت سواكا : إشارة إلى أن ظهور البدر بدر التمام نائبا عنك حاكيا وجهك ما أظهر لي سواك لأن عيني لا تشاهد إلا محياك . قوله وكذاك الخليل : يعني ما أنا أوّل من شاهد مطلوبه في النجوم ، وظهر له أنه أدرك برؤيتها من
 
« 336 »
 
حبيبه ما يروم ، فتلك قاعدة للخليل الجليل فكيف لا يسلك طريقه الصّبّ العليل ، وهيهات أن يبرد بذلك منه الغليل ، والأفلاكا في آخر البيت مفعول راقب ، أي قلب طرفه وراقب الأفلاك . ومعنى الأبيات لمّا شابه وجهك الجميل بدر التمام ، وشاهده في اليقظة لا في المنام ، ظهرت في البدر وهو سواك ، ولكني ما شاهدت إلا إياك فلذلك قرّت بك عيني وانجلى بنورك ديني ، وما أنا بدعا في مراقبة الأفلاك طلبا لمقاربة رؤياك ، فالخليل النبي إبراهيم والسيد المقدس الكريم راقب النجوم طالبا البحث عن الرب المعلوم الذي مضت بوجوب قدمه القرائح والفهوم . واعلم أن ما صدر من الخليل عليه الصلاة والسلام في قوله : هذا رَبِّي [ الأنعام : الآية 76 ]
 
إما أن يكون بناء على رأي الخصم ليكرّ عليه بالرّدّ بعد أن يعترف به من باب التنزّل ، وإما أن يكون في مبدأ بلوغه وبحثه عن أمور الربوبية والشريعة . وفي البيت الأول الجناس اللاحق بين طيف وطرف ، وفي البيت الثاني جناس الاشتقاق بين تراءت ورأيت ، وفي الثالث مع التلميح جناس القلب في قلب قبلي ، والتلميح بتقديم اللام للإشارة إلى قرآن أو حديث أو مثل أو قصة أو شعر أو ما أشبه ذلك . وأشهر الشواهد عليه قول أبي تمام حبيب بن أوس :
فو اللّه ما أدري أأحلام نائم * ألمّت بنا أم كان في الركب يوشع
وهو من محاسن أنواع البديع .
 
( ن ) : قوله بدر التمام كناية عن الإنسان الكامل الظاهر عليه له نور الوجود الحق . وطيف المحيا كناية عن ظهور وجه الحق تعالى بصورة الشيء الفاني الهالك ، كما قال تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ القصص : الآية 88 ]
وقوله بيقظتي لأن جنته عنده هي الكاشفة له عن رؤية خيال وجه المحبوب ما لا يكشفه المنام من نفوذ بصيرته في أسرار الغيوب وأنوار وجه المحبوب . وقوله حكاكا : كاف الخطاب للمحبوب الحقيقي وكون بدر التمام يحكي طيف وجهه من جهة أن نور شمس الوجود ظاهر في قمر صور الأعيان الكونية لا من جهة الكيف والكيفية .
وقوله فتراءيت في سواك : أي ظهرت لأراك في صورة كونية هي سواك ، أي غيرك ، لأنك مطلق وهي مقيدة ، وأنت قديم وهي حادثة ، لكنها فعلك وأثر أسمائك وصفاتك ، فمن رآها فقد رآك على التنزيه عنها .
 
وقوله وما رأيت سواك : أي ذلك السّوي الذي تراءيت فيه لأنه غاب في ظهور نور وجودك واضمحل في تجلّي سرّ شهودك . وقوله وكذاك : أي مثل ما ذكرت . وقوله الخليل : هو إبراهيم ، أي وقع لي في المظاهر الكونية نظير ما وقع له في الكواكب الفلكية قبلي ، أي في زمان احتجاجه على قومه
 
« 337 »
لمّا أراه اللّه ملكوت السماوات والأرض ، وكشف له عن مظاهر تجلياته . قال تعالى :
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( 75 ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ( 76 ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( 77 ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 78 ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 79 ) [ الأنعام : 75 - 79 ] . اهـ ) .
 
47 - فالدّياجي لنا بك الآن غرّ  *** حيث أهديت لي هدى من سناكا
 
الدياجي : حنادس الليل وظلماته . قال في القاموس : ودياجي الليل حنادسه كأنه جمع ديجاة . و « غرّ » الغين معجمة مضمومة على وزن قفل ، وهو جمع أغرّ ، نحو حمر جمع أحمر . والأغر من الخيل الأبيض الجبهة ، والأغر الواضح المشهور والأبيض من كل شيء ، وهو المراد هنا . و « حيث » : ظرف مكان مبني على الضم ، ويروى بناؤه بالحركات الثلاث . و « أهديت » من الهدية . والهدى : الرشاد الدلالة .
 
والسنا بالقصر الضوء ، كما أن الممدود بمعنى الرّفعة . والفاء في فالدياجي للتفريع ، أي لما ناب بدر التمام عن طيف محياك وتراءيت في البدر لعين قرّت بك ولم تر سواك ، صارت الدياجي المظلمة منوّرة لنا بك اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ النّور : الآية 35 ] .
 
الإعراب :
الدياجي : مبتدأ . وغر : خبره . وحيث : ظرف مكان متعلق بما في غرّ من معنى الحديث ، إذ المراد ابيضّت الدياجي لنا بسببك الآن حيث أهديت لي هدى من سناكا . وجملة أهديت لي الخ . . . في محل جر بإضافة حيث إليها .
 
والمعنى أمست ليالينا بك سافرة ورياض آمالنا بوجودك ناضرة ، حيث أبديت لنا نورا من سناك وأهديت لنا ضوءا من هداك . وفي البيت الطّباق المعنوي بين البياض المفهوم من غرّ والسواد المفهوم من الدياجي . وشبّه الاشتقاق بين أهديت وهداك .
 
[ المعنى ]
( ن ) : يكني هنا بالدياجي عن الأعيان الكونية باعتبار نظر أهل الغفلة والحجّاب إليها . وقوله لنا : أي معشر العارفين بك وبتجلّيك في كل شيء . وقوله بك : أي بوجودك الظاهر أو بحولك وبعونك أو بأمرك الذي نحن قائمون به .
وقوله الآن :
ظرف بمعنى الجملة ، يعني لا في حال جاهليتنا الأولى وغفلتنا عنك . وقوله غر :

 
« 338 »
 
يعني أن جميع الأشياء مشرقة بنور وجودك الحق عندنا الآن . وقوله حيث أهديت لي هدى : أي كشفا واطّلاعا على أسرار وجودك وأنوار شهودك . اهـ .
 
48 - ومتى غبت ظاهرا عن *** عياني ألقه نحو باطني ألقاكا
 
[ الاعراب ]
متى : شرطية . وغبت : فعل الشرط . والتاء : فاعله . وظاهرا : مفعول مطلق على حذف مضاف ، أي متى غبت غيبة ظاهر . وعن عياني : متعلق بغبت . والعيان بكسر العين بمعنى المعاينة . وألقه : فعل مضارع مجزوم بحذف حرف العلّة ، أعني الياء ، إذ الأصل ألقيه على أنه جواب الشرط . وألقى هنا بمعنى التوجيه . ونحو باطني : متعلق به .
 
اعلم أن هذا البيت وقع فيه خلاف من جهة هذه اللفظة وهي ألقه في زمن شيخنا الشيخ إسماعيل النابلسي ، وقد سأله عنها صاحبنا المرحوم الأديب الشيخ محمد الصالحي الهلالي ،
فقال : هي ألفة بضم الهمزة وبالفاء والتاء آخرها على أنها اسم بمعنى التألّف . أي ألقاك نحو باطني لأجل الألفة . والذي جزمنا به في الشرح هو الظاهر لفظا لمناسبة ألقاكا ،
ومعنى لموافقة البيت الذي نقلته عن الباخرزي فإنه موافق له في المعنى فإن قوله :
أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه * ترني فقلت لها فأين فؤادي
 
مطابق لما ذكرناه في الكلمة المذكورة فإن بعض الإخوان استبعد إلقاء العيان .
فقلنا له : كيف رمى الطرف إلى القلب وهما بمعنى واحد فافهم . وألقاكا : فعل مضارع ، وهو وفاعله المستتر ومفعوله الضمير جملة في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره فأنا ألقاكا في باطني .
والمعنى غيبتك عن عياني توجدك في جناني فإلى أين تغيب ، وأنت مني قريب .
 
ومن المعنى قول أبي الحسن الباخرزي صاحب دمية القصر من قصيدة يقول فيها :
قالت وقد ساءلت عنها كل من * لاقيته من حاضر أو بادي
أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه * ترني فقلت لها فأين فؤادي
 
وفي البيت المقابة لين الظاهر والباطن ، وجناس شبه الاشتقاق بين ألقه وألقاكا .
أهل بدر ركب سريت بليل فيه بل سار في نهار ضياكا
 
[ الاعراب ]
« أهل بدر » : مبتدأ ومضاف إليه . و « ركب » : خبر المبتدأ . وجملة « سريت بليل فيه » : موضع رفع على أنها صفة ركب . وقوله « بل سار » : ترقّ عن المعنى الذي قبله لأن المعنى الأول الركب الذي سريت فيه بالليل هم أهل بدر ، وكيف لا يكونون أهل
 
« 339 »
بدر وأنت في الركب . وأما الثاني فهو أن الركب يسير في نهار ضياك فيكون شمسا ، والوصف بها أعلى من الوصف بالبدر . وأنت إذا أزلت لفظة بل وقلت : أهل بدر ركب سار في نهار ضياكا ، كان الترتيب مستقيما . وما أحسن قول القاضي أبي بكر ناصح الدين الأرجاني رحمه اللّه تعالى حيث قال :
ما جاء إلا في نهار ضيائه * فأقول سار ولا أقول له سرى
وفي البيت المقابلة بين الليل والنهار ، وبين السير والسّرى ، لأن الأول للنهار والثاني لليل وبينهما جناس شبه الاشتقاق .
 
[ المعنى ]
( ن ) : أهل بدر أصحاب الغزوة المشهورة . وبدر موضع بين مكة والمدينة ، والكناية بأهل بدر عن العارفين المحقّقين من أهل اللّه تعالى الذي ظهر لهم نور شمس الوجود الحقّ في قمر تقدير أعيانهم الكونية وكونهم ركبا من قوله تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [ الإسراء : الآية 70 ]
وبنو آدم على الحقيقة هم العارفون بربهم الكاملون ، وغيرهم حاملون لأنفسهم بأنفسهم فهم بنو آدم في الصورة لا في المعنى . وقوله سريت بفتح التاء خطاب للمحبوب الحقيقي . وقوله بليل : أي في ليل من ظلمة الأكوان . وقوله فيه : أي في ذلك الركب ، ومعنى سيره فيهم ظهوره في أعيانهم العدمية وهو معنى المعية الإلهية من قوله تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [ الحديد : الآية 4 ] ،
وقوله : بل سار في نهار ضياكا ، أي في نورك الحقيقي الذي هو وجودك الحق . اهـ .
 
49 - واقتباس الأنوار من ظاهري *** غير عجيب وباطني مأواكا
 
[ الاعراب ]
لما أثبت في البيت الذي قبله أنه البدر بل الشمس . قال : « واقتباس الأنوار » البيت . واقتباس الأنوار : مبتدأ ومضاف إليه . ومن ظاهري : متعلق باقتباس . وغير :
خبر مضاف إلى عجيب . والواو في قوله وباطني : واو الحال ، وباطني : مبتدأ .
ومأواكا : خبره .
 
والمعنى :
إذا استضاء الناس من ظاهر وجودي فليس ذلك منهم عجيبا لأن النير الأعظم قاطن من ذاتي في الباطن والنور إذا كان في بيت له كوّة فمشارقه على الأنام مجلوّة والأجساد طلائع الأكباد . وفي البيت المقابلة بين الظاهر والباطن . وآخر المصراع الأول الياء الساكنة في غير ، والراء فيها أول المصراع الثاني .
 
( ن ) : قوله الأنوار كناية عن العلم النافع لأن يكشف عن غيوب الأسرار الإلهية . وقوله من ظاهري : أي ظاهر أحوالي وإشارات أقوالي . وقوله مأواكا ، هو
 
« 340 »
 
من قوله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث القدسي : « ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن » وهو وسع المعرفة باللّه تعالى فإن من عرف شيئا فقد وسعه . اهـ .
 
51 - يعبق المسك حيثما ذكر *** اسمي منذ ناديتني أقبّل فاكا
52 - ويضوع العبير في كلّ ناد *** وهو ذكر معبّر عن شذاكا
 
[ الاعراب ]
« يعبق » : مضارع عبق على وزن فرح يفرح وعبق الطيب عبقا وعباقة : لزق وبالمكان أقام ، والمراد هنا لمّا ناديتني لتقبيل فمك صار المسك ملازما للمكان الذي يذكر فيه اسمي لأجل مجرّد مناداتك لي لتقبيل فمك . وفي البيت مبالغة عظيمة لأنه أولا ما قبّله بل ناداه للتقبيل ، فبمجرّد ذلك صار المسك مقيما بمقام يذكر فيه اسمه فكيف لو حضر رسمه . قوله « ويضوع » : مضارع ضاع المسك إذا تحرك فانتشرت رائحته كتضوّع . و « العبير » : الزعفران أو أجزاء من الطيب مختلطة . والنادي : متحدّث القوم .
والذكر بكسر الذال المعجمة هنا عبارة عن نفح الطيب . شبّه نفح الطيب بالذكر الذي هو القول وحذف المشبه وأبقى المشبه به ، فيكون استعارة مصرّحة أو تشبيها بليغا ، لأن لفظة « هو » عبارة عن المشبه . وقوله « معبر » : اسم فاعل وقع ترشيحا لكونه مناسبا للمستعار منه ، لأنه يقال هذا قول عبّر به عن كذا . والشذى : الرائحة الطيبة ، وهو بالشين المعجمة والذال المعجمة .
ومعنى البيت الثاني إذا ضاع العبير فإنما هو نوع من التعبير عن شذاك الذي فاح وانتشر في جميع البطاح ، فليس في الوجود طيب انتشر ولا مسك فاح واشتهر إلا وهو ناقل شذاك الذي يحيي القلوب وينعش الفؤاد المكروب . وفي البيتين القرب بين ناديتني وناد ، وبين العبير ومعبّر .
 
( ن ) : قوله فاكا : الخطاب للمحبوب الحقيقي وذلك كناية عن مصدر الكلام الإلهي الذي هو صفة المتكلم ، وهو الذات . والتقبيل كناية عن الكشف عن غيب الذات بالتحقيق بحقيقة الوجود الحقّ بعد فناء كل ما سواه والرجوع إليه به .
 
المعنى :
أن كل مجلس ذكر فيه اسمه يعبق فيه مسك الحقائق والمعارف فضلا عن حضوره بذاته وذلك إنما كان من حين ناديته بالكلام الربّاني من دون حرف ولا صوت فيقع في القلب أثره . قال تعالى : رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [ آل عمران : الآية 193 ]
وهذا المنادي هو داعي الرشاد بالاستسلام . والعبير أخلاط الطيب كناية عن مجموع الأسماء والصفات الإلهية الظاهرة بظهور الناظم قدّس اللّه سرّه . وقوله وهو أي ذلك العبير ذكر مخبر عن كمال المعرفة بك والكشف عن أسرار تجلياتك . اهـ .
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة ته دلالا فأنت أهل لذاكا الأبيات من 01 إلى 60 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:24 pm

شرح قصيدة ته دلالا فأنت أهل لذاكا الأبيات من 01 إلى 60 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح القصيدة الخامسة ته دلالا فأنت أهل لذاكا الأبيات من 01 إلى 60
« 341 »
 
53 - قال لي حسن كلّ شيء تجلّى *** بي تملّى فقلت قصدي وراكا
54 - لي حبيب أراك فيه معنّى *** غرّ غيري وفيه معنى أراكا
55 - إن تولّى على النّفوس تولّى *** أو تجلّى يستعبد النّسّاكا
56 - فيه عوّضت عن هداي ضلالا *** ورشادي غيّا وستري انتهاكا
57 - وحّد القلب حبّه فالتفاتي *** لك شرك ولا أرى الإشراكا
58 - يا أخا العذل فيمن الحسن مثلي *** هام وجدا به عدمت إخاكا
59 - لو رأيت الذي سباني فيه *** من جمال ولن تراه سباكا
60 - ومتى لاح لي اغتفرت سهادي *** ولعينيّ قلت هذا بذاكا
 
[ المعنى ]
قوله « قال لي حسن كل شيء تجلّى » : المراد أن كل حسن من كل حسن تجلّى وظهر في الوجود بصورة الجمال . خاطبني بلسان حاله دالّا على لسان مقاله . وقال لي : تملّى بي ، أي تمتّع بي . وكان الواجب أن يحذف الألف في تملي لأنه فعل أمر معتل الآخر ولكن أشبع الفتحة على اللام فتولّد منها ألف . فقلت في جوابه مسارعا لخطابه « قصدي وراك » ، أي مقصودي ومطلوبي وراك ، أي غيرك ، لأن مطلوبي ليس داخلا في عالم التجلّي فكيف يدرك بالتملّي .
 
ولعل الأستاذ رضي اللّه عنه أشار بهذا المعنى إلى ما نقل عن الصديق الأكبر رضي اللّه عنه كل ما خطر ببالك ، فاللّه من وراء ذلك .
ومن ألطف العبارات قول الشيخ أبي الفضل أحمد بن عطاء اللّه الإسكندري رضي اللّه عنه : ما أرادت همّة سالك أن تقف عندما كشف لها إلا نادته هواتف الحقيقة الذي تطلبه أمامك ، ولا تبرّجت ظواهر المكوّنات إلا نادتك حقائقها إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [ البقرة : الآية 102 ] .
 
فإن قلت الأستاذ قال قصدي وراكا ، صاحب الحكم يقول الذي تطلبه أمامك فكيف تستشهد بأمامك لقوله وراك .
قلت : قد نصّ صاحب القاموس على أن وراء ضدّ يكون بمعنى خلف وبمعنى قدّام ، أو بمعنى ما توارى عنك فيشملهما ، فصحّ الاستشهاد لذلك . قوله « لي حبيب » من تتمة مقول ، فقلت قصدي وراكا . وكذا بقية الأبيات إلى آخر القصيدة مقول قول الأستاذ .
 
فقلت :
قصدي وراكا . ومعنى البيت خطاب لحسن كل شيء تجلّى يقول له : لي حبيب أراك معنّى فيه فكيف تدعوني إلى أن أتملّى بك وأنت معنّى واقع في محبة حبيبي . ثم ترى وقال : بل حسن كل شيء تجلى ، معنى من معاني حبيبي فكيف أخصّه بالميل والحال أنه وصف من بعض أوصاف حبيبي ومظهر من مظاهره .
وقوله « غرّ غيري » : جملة معترضة بين جزأي المقول ، أي غرّ غيري لينظر إليك ويقبل بالمحبة عليك .
 
« 342 »
( ن ) : أي اخدع بزينتك إنسانا غيري ، وأما أنا فلا تقدر يا حسن أن تخدعني لأني عارف بالجمال الحقيقي الذي أنت أثر من آثاره ، ونور منكسف بصورتك الفانية من حقائق أنواره. اهـ . قوله إن تولّى إلى آخر البيت جزء المقول .
وتولّى الأول بمعنى أعرض ونأى بجانبه . وتولّى الثاني بمعنى تسلّط . يعني إن تولّى وأعرض عن عشّاقه فإنه يتسلّط على النفوس ويفنيها ويخفيها ولا يبديها .
 
( ن ) : تولى الأول بمعنى استولى وتسلّط . وتولى الثاني بمعنى أعرض ، وذلك لأنه إذا استولى وغلب على النفوس أوهمها أنها غيره وألبس عليها أمره بصورتها التي يقدّرها وهو قائم عليها بما كسبت من خير أو شرّ .
قال تعالى : أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [ الرّعد : الآية 33 ] . اهـ .
وقوله وتجلى معطوف على تولى يعني وإن تجلى وما تولى ، أي أبرز جلوة جماله على العشّاق ، فإن نسّاك العباد يصيرون له من جملة العبيد .
قوله « فيه عوضت » إلى آخر البيت فيه : أي بسببه ، ولأجله عوّضت الضلال بدل الهدى ، وأصبحت غاويا بعد أن اكتسبت رشدا وانتهكت بعد الاستتار واضطربت بعد السكون والقرار . وهذا وصف لا يفارق عشّاق الجمال ولا يصرفهم عن سبيل الضلال .
 
( ن ) : قوله فيه : أي في طريق محبته . وقوله عوضت : أي عوّضني هو .
وقوله عن هداي : أي عن اهتدائي بنفسي ودعواي الوجود والاستقلال دونه ، وهو هدى العامة الغافلين عنه المحجوبين بأنفسهم عن القيام به . وقوله ضلالا : مفعول ثان لعوض أي حيرة فيه ، وهو الضلال المحمود المقتضي للتنزيه عن جميع الحدود .
وقوله « ورشادي » : أي وعن رشادي الذي كنت فيه بنفسي . وقوله « غيّا » : هو الانهماك في الحيرة في اللّه بكمال التسليم القلبي للمقادير الإلهية تفعل به ما تقتضيه من غير تدبير نفساني في خير أو شرّ .
وقوله « وستري انتهاكا » : يعني عوّضني الحق تعالى من ستري الذي أنا مستتر به عنّي وعن غيري انكشافا وخرقا للحجاب بيني وبين حقيقتي عندي وعند غيري من المريدين الصادقين. اهـ.
قوله « وحّد القلب حبّه » الخ . . . : أي اعتقد قلبي حبّه واحدا ليس له ثان ، وليس عن ذلك الاعتقاد من صارف ولا ثان .
قوله « فالتفاتي » : الفاء فصيحة إذ المعنى فإذا كان قلبي معتقدا توحيد حبّه فالتفاتي إليك بالمحبة أيها الحسن الذي تجلّى يكون حينئذ شركا ، ويكون ما ادّعيته من الصدق في عشقه إفكا ، وأنا موحّد لا أقول بالإشراك ،
 
وقلت من قصيدة في المعنى :
وما ملت للإشراك في دين حبّه * على كل حال لم أزل عبد واحد
 
« 343 »
وقال بعضهم في المعنى :
وما كان تركي حبّه عن ملالة * ولكن أتى ذنبا يؤدّي إلى الترك
أراد شريكا في المحبة بيننا * وإيمان قلبي لا يميل إلى الشّرك
 
قوله « يا أخا العذل » : أي يا صاحب العذل الذي لازمه ملازمة الأخ لأخيه .
قوله « فيمن » : أي في حبيب هام في الحسن مثلي ، أو في الذي الحسن مثلي هام فيه ، فقوله فيمن : متعلق بالعذل إذ هو مصدر . وقوله « عدمت أخاكا » : جملة إنشائية دعائية ، أي جعلني اللّه عادما أخوّتك للعذل ، أي فارق اللّه بينك وبين أخيك الذي هو عذلك لي في حبيبي فلعلك لا تعذلني فيه بعد ذلك .
 
( ن ) : قوله عدمت أخاكا بفتح تاء الخطاب ، أي أعدمك اللّه تعالى مؤاخاتك للعذل ، أو بضم تاء المتكلم ، أي أعدمني اللّه تعالى مؤاخاتك لعذلي وملامتي حتى تصير مثلي ومثل حسنه هائما في محبته . اهـ . قوله « لو رأيت الذي » الخ . . .
خطاب لأخي العذل . أي لو رأيت الذي سباني لسباك وصيّرك مثلي في محبته ، ولكنك لن تراه قطعا لأن الأعمى لا ينظر إلى نور البدور ، ولو كانت في وقت الكمال .
 
قوله « ومتى لاح لي » إلى آخر البيت : أي متى لاح لي ذلك الحبيب اغتفرت السهاد ومقارقة الرّقاد ، وإن كان ذلك من أعظم أنواع العذاب ، وأصعب أصناف العقاب .
 
وقلت يا عينيّ إن فاتكما المنام ، ولم تفوزا بالأحلام ففي مشاهدة ذلك الجمال ما يغني عن كل نعيم ، ويهوّن كل عذاب أليم ، لأن لسع النحلة يهون في حلاوة عسلها ، والنفوس الأبيّة تلقى المعالي في تعبها لا في كسلها . قال أبو الطيب :
تريدين لقيان المعالي رخيصة * ولا بدّ دون الشّهد من إبر النحل
 
وقال الشيخ رضي اللّه عنه في القصيدة اللامية المشهورة :
ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
وقوله « ولعيني هذا بذاكا » : يمكن أن يكون إشارة إلى المثل المشهور ، وهو : هذا بذاك ولا عتب على الزمن .
ومن أمثالهم : الغنم في مقابلة الغرم ، والفنا في مقابلة الغنا .
وفي البيت الأول الجناس اللاحق في التجلّي والتملّي .
وفي البيت الثاني الجناس المحرّف في معنّى ومعنى .
وفي البيت الثالث الجناس التام في تولّى وتولّى ، والطّباق في تولّى وتجلّى .
وفي البيت الرابع المقابلة بين الهدى والضلال والرشاد
 
« 344 »


والغيّ والستر والانتهاك . وفي البيت الخامس المقابلة بين التوحيد والإشراك . وفي قوله هذا بذاك في آخر الأبيات إجراء المثل واكتفاء من قولهم : هذا بذاك ولا عتب على الزمن .
 
( ن ) : قوله اغتفرت : أي سترت بالعفو والصفح لسهري جنايته عليّ ومعاقبته لي . وقوله هذا : أي لذّة رؤية المحبوب الذي لاح لي . وقوله بذاكا : أي بالألم الذي جناه عليّ سهري في محبته . اهـ .
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: شرح قصيدة زدني بفرط الحبّ فيك تحيّرا الأبيات من 01 إلى 11 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:24 pm

شرح قصيدة زدني بفرط الحبّ فيك تحيّرا الأبيات من 01 إلى 11 .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

شرح قصيدة زدني بفرط الحبّ فيك تحيّرا الأبيات من 01 إلى 11
[قصيدة زدني بفرط الحبّ فيك تحيّرا]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
وقال رضي اللّه عنه :
01 - زدني بفرط الحبّ فيك تحيّرا *** وارحم حشى بلظى هواك تسعّرا
02 - وإذا سألتك أن أراك حقيقة *** فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترا
 
[ المعنى ]
هذه القصيدة مع شهرتها بين المنشدين في غاية المتانة وفي نهاية البلاغة .
وقد نظم كثير منهم على موازنتها .
 
قال الشيخ شرف الدين بن عنين الدمشقي رحمه اللّه تعالى :
ماذا على طيف الأحبة لو سرى * وعليهم لو سامحوني بالكرى
وقال الأديب الوزير أبو بكر محمد بن عمّار رحمه اللّه تعالى :
أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى * والنجم قد صرف العنان عن السرى
 
وقال الشيخ برهان الدين القيراطي رحمه اللّه تعالى :
لن ينقلوا عني الغرام مزوّرا * ما كان حبكم حديثا يفترى
 
وقلت في مطلع قصيدة في دمشق حرسها اللّه من الآفات :
خذ قصة الأشواق يا حادي السّرى * إن كنت عن أهل الغرام مخبرا
واقرأ صحيفة وجنتي مصفرّة * تدري الحديث فمن قرأ خبري درى
 
وأما قصيدة الشيخ رضي اللّه عنه فإنها غاية لا تدرك ، وطريقة لا تسلك ، وعقيلة لا تملك .
قال « زدني بفرط الحب » : الخطاب لحبيبه ، والفرط : بفتح الفاء وسكون الراء اسم مصدر من الإفراط في الشيء ، وهو المجاوزة في الحدّ .
و « الحب » : بضم الحاء مصدر بمعنى المحبة . و « فيك » : متعلق بما بعده ، أي زدني تحيّرا فيك ، أي أن أتحيّر وأندهش في محبتك . « وارحم » : معطوف على زد . والحشى : ما في البطن ،
 
..........................................................................................
( 1 ) انظر معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة ( 1 / 718 ) ، والأعلام للزركلي ( 3 / 25 ) .


« 346 »
 
وجملة تسعّرا من الفعل والفاعل صفة حشى فتكون في موضع نصب . وقوله « بلظى هواك » : متعلق بتسعرا ، أي ارحم حشى قد تسعّر وتوقّد بلظى محبتك . قوله « وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمح » الخ . . .
في البيت تلميح إلى قصة موسى عليه السلام حيث طلب من ربّه الرؤية فإنه أجيب بلن تراني في قوله تبارك وتعالى : قالَ لَنْ تَرانِي [ الأعراف : الآية 143 ]
واعلم أن كثيرا من الصوفية يعترض على هذا البيت ، ويقول إذا كان موسى قد منع الرؤية عندما طلبها ، فكيف ترقّت همّة الشيخ رضي اللّه عنه إلى طلبها ؟
والجواب أن مراده الرؤية في الآخرة بدليل التعبير بقوله : وإذا ، فإنها تدلّ على الزمان المستقبل على أنه إذا كان ممكنا فيجوز الطلب لكل من يمكنه ذلك ، ولا يدع في أن يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل من الخصوصيات ، ولا يلزم من الطلب الحصول أيضا فتدبّر .
 
وما أحسن قول أبي الفوارس :
لو نيل بالفضل مطلوب لما حرم الر * ؤيا الكليم وكان الحظ للجبل
وقد أشار إلى ذلك الشيخ رضي اللّه تعالى عنه حيث قال :
ومني على سمعي بلن إن منعت أن * أراك فمن قبلي لغيري لذت
 
فإنه طلب في هذا البيت أن يجاب بصورة النفي قوله فاسمح ، أي بما طلبته منك ، وهو أن أراك حقيقة لا مجازا . وهو رضي اللّه عنه ما طلب سوى رؤية مولاه ، ولا قطع العمر في السلوك إلا في طلب وفاه . وذلك معلوم من واقعته عند الاحتضار . وقال رضي اللّه عنه في التائية أيضا :
أروم وقد طال المدى منك نظرة * وكم من دماء دون مرماي طلت
وقد علمت ما ذكره القوم في علم العقائد من الاختلاف في جواز الرؤية في الدنيا وعدمه ، وفي وقوع ذلك في القيامة وعدمه ، وهو مشهور فلا حاجة إلى ذكره .
 
( ن ) : الحيرة في اللّه تعالى عين الهداية إليه ، ولهذا طلب الزيادة منها . وفي قوله وإذا سألتك إشارة إلى أنه ما سأله إلا لعلمه بأنه لا يظهر للمخلوق بغير مظهر ، لأن الوجود الحق المطلق عن جميع القيود لا يرى لتنزّهه عن المادة . وأشار بقوله إذا سألتك ، ولم يقل وإن سألتك إلى أن سؤاله سيتحقق منه لإمكانه ، وعدم امتناعه لأنه لما سئل هل أحاط أحد باللّه علما ، فقال : نعم إذا حوّطهم يحيطون .
وقوله لن ترى إشارة إلى ما أجيب به موسى ، ولعل طلب موسى عليه السلام للرؤية كان مع بقائه على مادته في جبلته ، ولهذا كان جوابه لن تراني ، يعني وأنت على ما أنت فيه من


« 347 »


المادة الطبيعية والنشأة الروحانية الإنسانية ، فإن الرؤية بالتجرّد المذكور كانت مدّخرة للحقيقة المحمدية والنشأة الأحمدية من غير سؤال ولا طلب ، ولورثته الأولياء المحمديين نصيب من ذلك ، ولهذا ودّ موسى عليه السلام أن يكون من أمته .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لو كان أخي موسى حيّا ما وسعه إلا اتّباعي » .
 
ولمّا كان الناظم من الأولياء المحمديين ومن ورثة محمد صلى اللّه عليه وسلم قال : لا تجعل جوابي لن ترى كما أنك لم تجعل جواب مورثي ذلك . فإن قلت إن طلب الناظم هنا يخالفه في التائية الكبرى حيث قال :
ومني على سمعي بلن إن منعت أن * أراك فمن قبلي لغيري لذت
قلت : للأولياء الكاملين مقامات ينتقلون فيها من حال إلى حال . فحاله الأوّل اقتضى له أن يقول ذلك ، وحاله الثاني اقتضى له أن يقول بخلاف ذلك . اهـ .
 
03 - يا قلب أنت وعدتني في حبّهم *** صبرا فحاذر أن تضيق وتضجرا
 
[ الاعراب ]
« يا قلب » بكسر الباء اكتفاء بها عن المضاف إليه وهو ياء المتكلم ، ويجوز الضم بناء على أنه نكرة مقصودة . وقوله « أنت وعدتني في حبهم صبرا » : فيه استعمال وعد متعديا إلى مفعولين : أحدهما : الياء في وعدتني ، والثاني : صبرا . وفي حبهم متعلق به ، وهو وإن كان مصدرا لا يتقدم عليه معموله لكن يغتفر فيما إذا كان المعمول ظرفا أو شبهه . قوله « فحاذر » : بمعنى احذر إذ قد يستعمل من باب المفاعلة بغير ملاحظة الاشتراك وهو كثير في كلامهم ، قوله « أن تضيق » : أي احذر أيها القلب من أن تضيق وتملّ من اصطبارك في محبتهم ، واحذر من أن تضجر وتسأم يا قلب لأن الوفاء بالوعد كالقيام بالعهد من أعظم اللوازم بل هو على الحرّ ضربة لازب ومن أراد مراتب الأعالي ومنازل المعالي فليصبر على اقتحام الشدائد وتقييد الأوابد ، وأراد أن يذكر لقلبه علّة أمره بالثبات على الصبر فقال :
 
04 - إنّ الغرام هو الحياة فمت به *** صبّا فحقّك أن تموت وتعذرا
 
وما ألطف الحصر المفهوم من تعريف الطرفين مع تأكيده بضمير الفصل ، وهو « هو » : أي لا حياة إلا الغرام فإذا متّ فيه فقد اكتسبت وصف الحياة .
فلذلك قال :
« فمت به » ، أي بسببه أو فيه على أن الباء ظرفية . و « صبّا » : حال . وقوله « فحقك أن تموت وتعذر » : تعليل لقوله فمت به لأنك معذور في موتك لأنك حيّ إذا متّ فيه ، ويا سعادة من مات ولم يخرج حرف الشكاية من فيه ، ولقد باح وناح واستراح حيث قال قل للذين الخ . . .


« 348 »
[ المعنى ]
( ن ) : يعني الغرام القلبي والحب الإلهي هو الوسيلة بي الحادث والقديم والوصلة السببية بين الحقير والعظيم . قال تعالى : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [ المائدة : الآية 54 ] .
وقوله فمت خطاب لقلبه في البيت السابق وموت قلبه في محبتهم حياة حقيقية لأنها قيام بأمر اللّه تعالى لا بحكم الطبيعة وهو الموت الاختياري موت النفس الذي من طريق العارفين . اهـ .
 
05 - قل للّذين تقدّموا قبلي ومن *** بعدي ومن أضحى لأشجاني يرى
06 - عنّي خذوا وبي اقتدوا ولي  *** اسمعوا وتحدّثوا بصبابتي بين الورى
 
البيت الأول جامع لمن مضى ولمن يأتي ولمن هو موجود مع المتكلم في زمانه . فقوله « قل للذين تقدموا قبلي » يشير إلى من مضى . وقوله « ومن بعدي » يشير إلى من يأتي من أهل المحبة . وقوله « ومن أضحى لأشجاني يرى » يشير إلى من هو مع المتكلم في زمانه من أهل المحبة ، والخطاب في قوله « قل » لكل من يصلح للقول .
والخطاب لمن مضى ممكن باعتبار أنهم عبارة عن الطبقة الذين تقدّموه في السلوك ولم يفنوا وذلك ممكن ، ويجوز خطابهم بمخاطبة الأرواح بعد فناء الأشباح ، إنما السر في الذي كان في الجسم وارتفع . و « أضحى » بمعنى صار وليست باقية على أصل معناها . والأشجان جمع شجن ، وهو الحزن .
 
الإعراب :
قوله قبلي : متعلق بتقدموا وفائدته التنبيه على أن المراد بالذين تقدموا من كانوا متقدمين على الشيخ رضي اللّه عنه ، إذ لو قال تقدّموا فقط لأوهم أن المراد المتقدّمين من السّلف سواء كان تقدّمهم عليه أو على غيره . قوله ومن بعدي : من معطوفة على الذين تقدّموا ، أي قل للذين تقدّموا عليّ وقل للذين يأتون بعدي ، وكذا القول في قوله ومن أضحى : واسم أضحى ضمير يعود إلى من وخبرها يرى لإشجاني ، لأن المراد ومن يرى أشجاني واللام في لأشجاني لام التقوية لتقدّم المعمول على عامله .
 
قوله رضي اللّه عنه « خذوا » : أي خذوا عني وقدّم المتعلق اهتماما لإفادة الحصر ، أي لا تأخذوا عن غيري بل اقتصروا في الأخذ عني . وكذا القول في قوله « وبي اقتدوا ولي اسمعوا » : أي لا يقتدى بغيري ولا يسمع إلا حديث سيري . قوله « وتحدثوا » الخ . . . لم يقع المتعلق فيه متقدما ، أي بأن يقال بصبابتي تحدّثوا لعدم مساعدة مواقع النظم من جهة الوزن . و « بصبابتي وبين الورى » : متعلقان بتحدّثوا .
واعلم أن للقوم حالات مختلفة فتارة يهضمون أنفسهم ويتضاءلون لعظيم القدرة ، وتارة يغلب عليهم الوجد فيشطحون ، وكل ذلك بحسب مواقع المواقف ولوامع بروق المعارف .
 
« 349 »
[ المعنى ]
( ن ) : الخطاب للقلب في البيت السابق فإن القلب المذكور هو الحيّ بالحياة الحقيقية القديمة الأزلية الأبدية لا بالحياة الطبيعية الحادثة الفانية فإنه مات منها بقوله فمت بها صبا وهو مطّلع بالاطّلاع الإلهي على من تقدّمه وعلى من تأخّر عنه ، وعلى من في زمانه اطّلاعا واحدا من حيث دخول الكل في حقيقته لرجوعه ورجوعهم كلهم إلى أمر اللّه تعالى الذي هو منشأ الروح المنفوخ منه أرواح في الأجسام الطبيعية .
وقوله عني خذوا : أي تعلّموا علوم اللّه تعالى الفائضة عليّ . اهـ .
 
07 - ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا *** سرّ أرقّ من النّسيم إذا سرى
08 - وأباح طرفي نظرة أمّلتها *** فغدوت معروفا وكنت منكّرا
09 - فدهشت بين جماله وجلاله *** وغدا لسان الحال عنّي مخبرا
 
قوله « ولقد خلوت مع الحبيب » : « خلوت » بالتاء المضمومة التي هي ضمير المتكلم . و « مع الحبيب » : متعلق به . والواو في قوله « وبيننا » : واو الحال ، أي خلوت به في حالة وجود سر بيني وبينه أرقّ من النسيم وألطف من الوجه الوسيم ، وأحلى من الثغر البسيم ، فيا فرحة المحبّ إذا خلا مع حبيبه وكان إبراز سرّه إليه منتهى نصيبه ، يشكو له بلسان دمعه ، ويبدي له درر نظره وسمعه ، ويخلع عليه حلّة جمعه ، وينزله في فراديس ربعه .
 
الإعراب :
اللام في ولقد واقعة في جواب قسم مقدّر ، أي واللّه لقد خلوت مع الحبيب . وبيننا : الواو للحال . وبيننا : متعلق بمحذوف على أنه خبر مقدّم ، وسرّ : مبتدأ مؤخر .
وأرق : بالرفع صفة سر . وقوله من النسيم : متعلق بأرق . وقوله إذا سرى : إذا هنا بمعنى الحال على حدّ قوله تعالى : وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ( 1 ) [ الليل : الآية 1 ]
وإنما خصّص ذلك بوقت السرى لأن لطف النسيم إنما يظهر إذا سرى أواخر الليل يحمد القوم السرى . قوله وأباح طرفي نظرة : ضمير أباح يعود إلى الحبيب ، أي وأباح الحبيب طرفي نظرة ، وأباح الشيء جعله مباحا بعد أن كان ممنوعا ، وأباح يتعدى إلى مفعولين الأول طرفي والثاني نظرة . وقوله أملتها : جملة في موضع نصب على أنها صفة النظرة .
قوله فغدوت : هي هنا بمعنى صرت ، والتاء : اسمها . ومعروفا : خبرها .
 
قوله وكنت منكرا : المنكر هنا اسم مفعول من نكر الشيء إذا جعله نكرة بعد أن كان معروفا . والفاء في قوله فغدوت إشارة إلى أن التعريف الذي صار له ناشىء عن النظرة التي أبيحت له فتلك النظرة آلة التعريف وحيلة التوصيف .
وقوله فدهشت على صيغة البناء للمجهول من الدهشة وهي الحيرة التي توجب اختلاط أسباب الشعور . وقوله
 
 
« 350 »


« بين جماله وجلاله » : أي وقعت لي الدهشة بين وصفين من أوصاف الكمال وهما الجمال والجلال والصدود والوصال والانقطاع والاتصال ، فأنظر تارة إلى وصف الجلال فأرتدع وأميل إلى وصف الجمال آونة فعليه اجتمع . وقوله « وغدا لسان الحال عني مخبرا » : أخبر بأن لسان الحال عنه أخبر لا لسان المقال ، لأن الدهشة بين الجمال والجلال تمحو المقال وتثبت الحال فيكون السر جهرا ويصير قطر الدمع نهرا .
ومتعلق مخبرا محذوف ، أي يخبر عني بجميع أقوالي ويفهم عن وجودي ظاهر أحوالي .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله سر : أي أمر خفيّ عن العقول والألباب وهو التحقّق بحقيقة الوجود الحق ذوقا وكشفا ومعاينة . وقوله أرقّ من النسيم إذا سرى : كناية عن الروح المنبعث عن أمر اللّه تعالى ، وهذا السر الذي هو أرقّ منه وألطف هو سرّ الوجود الحق الذي من شدّة لطافته لا يدرك . قال تعالى : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [ الأنعام : الآية 103 ] ،
وقوله وغدا لسان الحال : فلسان الحال على الاستعارة المكنية بتشبيه الحال بالإنسان الناطق لسانه بما هو فيه وإثبات اللسان له تخييل . وقوله عني مخبرا : قدّم الجار والمجرور للحصر .
أي يخبر الغير بأحوالي الباطنة لمن تبصر وتذكر وأعمى البصيرة تعرّض وأنكر واللّه أكبر . اهـ .
 
10 - فأدر لحاظك في محاسن وجهه *** تلقى جميع الحسن فيه مصوّرا
 
[ الاعراب ]
قوله « فأدر » : أمر لكل من يصلح منه فعل الإدارة . وقوله « في محاسن وجهه » :
أي انظر في عطفات محاسنه بلحظاتك التي تطلع من الحسن على مكامنه . قوله « تلقى » بالألف وكان القياس تلق بحذف الألف لأنه جواب الأمر في قوله فأدر ، ولكن الألف الموجودة ناشئة عن إشباع فتحة القاف في تلقى على حدّ قوله تعالى : إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [ يوسف : الآية 90 ] ولك وجه آخر وهو أن تجعل جملة تلقى مرفوعة المحل على الخبرية لمبتدأ محذوف ، أي وأنت تلقى جميع الحسن مصوّرا فيه ، ومثله يريد أن يعربه فيعجمه . و « تلقى » له مفعولان ، أحدهما جميع المضاف إلى الحسن ، والثاني مصوّرا . وفيه تعلق به ، أي إن أردت لحاظك في محاسن وجهه وجدت الحسن فيه مصوّرا .
 
[ المعنى ]
( ن ) : قوله أدر لحاظك : أي كرّر ملاحظتك ومراقبتك . وقوله وجهه : أي وجه ذلك المحبوب ، والمعنى في ذلك صور تجليات الوجه فإنها كلها حسنة . وقوله تلقى : لم يقصد به الجزاء فلم يجزم في جواب الأمر ، أي تجد لأنه ليس كل من أدار


« 351 »
 
لحاظه في وجه الحق الظاهر على كل شيء يرى وجه الحق ما لم يره الحق تعالى وجهه بمحض فضله وإحسانه . اهـ .
 
11 - لو أنّ كلّ الحسن يكمل *** صورة ورآه كان مهلّلا ومكبّرا
 
[ الاعراب ]
« لو » : تدخل على الفعل ولو مقدّرا ، وهنا كذلك ، أي لو ثبت أن الحسن تكمل صورته ، أي لو فرض ، وهو أنسب بالمقام لا سيما عند وجود لو . و « صورة » :
منصوب على التمييز المحوّل عن الفاعل ، أي لو فرض أن الحسن تكمل صورته .
قوله « ورآه » : الفاعل في ورآه يعود للحسن ، والهاء للمحبوب هلّل وكبّر من تعجّبه في حسنه وكماله وقدّه واعتداله . وفي البيت من المبالغة واللطافة ما لا يخفى .
 
وما أحسن قول الشيخ برهان الدين القيراطي رحمه اللّه تعالى حيث قال :
ذكرت فصغرها العذول جهالة * حتى بدت للناظرين فكبّرا
 
وأصله من قول أبي الطيب المتنبي حيث يقول :
صغت السّوار لكل كفّ بشّرت * بابن العميد وكل عبد كبّرا
لأن المراد وكبّر عند رؤيته تعظيما وتفخيما .
 
[ المعنى ]
( ن ) : لو أن كل الحسن : أي الذي تلقاه في ذلك الوجه المذكور في البيت قبله . وقوله يكمل صورة : أي يتمّ كله صورة واحدة . وقوله ورآه : أي رأى ذلك الوجه المذكور . وقوله كان : أي ذلك الحسن الذي كملت صورته . وقوله مهللا : أي قائلا لا إله إلّا اللّه تعجّبا من جمال ذلك الوجه . وقوله ومكبّرا : أي قائلا اللّه أكبر تعظيما لما رأى من الجمال الحقيقي . اهـ .
 
قد تمّ الجزء الأول
من شرح ديوان تاج العارفين وسلطان العاشقين أمير الشعراء بلا معارض سيدي عمر بن الفارض نفعنا اللّه به في الدنيا والآخرة بجاه سيّدنا محمد ذي المعجزات الباهرة صلّى اللّه عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين ورحم اللّه عبدا قال آمين
ويليه الجزء الثاني
 
وأوله القصيدة التي مطلعها ما بين ضالّ المنحنى وظلاله الخ ويليه الجزء الثاني
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Empty
مُساهمةموضوع: فهرس محتويات الجزء الأول .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي   شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي Emptyالخميس يناير 04, 2024 8:25 pm

فهرس محتويات الجزء الأول .شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول للشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي

شرح الشيخان بدر الدين الحسن بن محمد البوريني 1024هـ وعبد الغني بن إسماعيل النابلسي 1143هـ

فهرس محتويات الجزء الأول 
 فهرس المحتويات الجزء الأول
تقديم 3
ترجمة ابن الفارض 4
ترجمة البوريني 5
ترجمة عبد الغني النابلسي 5
ترجمة رشيد بن غالب الدحداح 6
[ مقدمة جامع الكتاب ] 7
ديباجة الديوان 9
ذكر سبب رحلة الشيخ برهان الدين الجعبري سلام اللّه عليه من جعبر 24


القصيدة الأولى
سائق الأظعان يطوي البيد * طيّ منعما عرّج على كثبان طيّ 35

وبذات الشّيح عنّي إن مرر * ت بحيّ من عريب الجزع حيّ 36
وتلطّف واجر ذكري عندهم * علّهم أن ينظروا عطفا إليّ 37
قل تركت الصّبّ فيكم شبحا * ما له ممّا براه الشّوق فيّ 38
خافيا عن عائد لاح كما * لاح في برديه بعد النّشر طيّ 38
صار وصف الضّرّ ذاتيّا له * عن عناء والكلام الحيّ ليّ 39
كهلال الشّكّ لولا أنّه * أنّ عيني عينه لم تتأيّ 40
مثل مسلوب حياة مثلا * صار في حبّكم ملسوب حيّ 41
مسبلا للنّأي طرفا جاد أن * ضنّ نوء الطّرف إذ يسقط خيّ 42
بين أهليه غريبا نازحا * وعلى الأوطان لم يعطفه ليّ 43
جامحا إن سيم صبرا عنكم * وعليكم جانحا لم يتأيّ 44
 
« 354 »
 
نشر الكاشح ما كان له * طاوي الكشح قبيل النّأي طيّ 45
في هواكم رمضان عمره * ينقضي ما بين إحياء وطيّ 45
صاديا شوقا لصدّا طيفكم * جدّ ملتاح إلى رؤيا وريّ 46
حائرا فيما إليه أمره * حائر والمرء في المحنة عيّ 47
فكأيّن من أسى أعيا الإسا * نال لو يغنيه قولي وكأيّ 47
رائيا إنكار ضرّ مسّه * حذر التّعنيف في تعريف ريّ 48
والّذي أرويه عن ظاهر ما * باطني يزويه عن علمي زيّ 49
يا أهيل الودّ أنّى تنكرو * ني كهلا بعد عرفاني فتيّ 50
وهوى الغادة عمري عادة * يجلب الشّيب إلى الشّاب الأحيّ 51
نصبا أكسبني الشّوق كما * تكسب الأفعال نصبا لام كيّ 52
ومتى أشكو جراحا بالحشى * زيد بالشّكوى إليها الجرح كيّ 53
عين حسّادي عليها لي كوت * لا تعدّاها أليم الكيّ كيّ 54
عجبا في الحرب أدعى باسلا * ولها مستبسلا في الحبّ كيّ 54
هل سمعتم أو رأيتم أسدا * صاده لحظ مهاة أو ظبيّ 55
سهم شهم القوم أشوى وشوى * سهم ألحاظكم أحشاي شيّ 56
وضع الآسي بصدري كفّه * قال ما لي حيلة في ذا الهويّ 57
أيّ شيء مبرد حرّا شوى * للشّوى حشو حشاي أيّ شيّ 57
سقمي من سقم أجفانكم * وبمعسول الثّنايا لي دويّ 58
أوعدوني أو عدوني وامطلوا * حكم دين الحبّ دين الحبّ ليّ 59
رجع اللّاحي عليكم آيسا * من رشادي وكذاك العشق غيّ 60
أبعينيه عمى عنكم كما * صمم عن عذله في أذنيّ 61
أولم ينه النّهى عن عذله * زاويا وجه قبول النّصح زيّ 62
ظلّ يهدي لي هدى في زعمه * ضلّ كم يهذي ولا أصغى لغيّ 63
ولما يعذل عن لمياء طو * ع هوى في العذل أعصى من عصيّ 64
لومه صبّا لدى الحجر صبا * بكم دلّ على حجر صبيّ 65
عاذلي عن صبوة عذريّة * هي بي لا فتئت هيّ بن بيّ 66
ذابت الرّوح اشتياقا فهي بع * د نفاد الدّمع أجرى عبرتيّ 67
فهبوا عينيّ ما أجدى البكا * عين ماء فهي إحدى منيتيّ 68

 
« 355 »
 
أو حشا سال ولا أختارها * إن تروا ذاك بها منّا عليّ 69
بل أسيؤا في الهوى أو أحسنوا * كلّ شيء حسن منكم لديّ 70
روّح القلب بذكر المنحنى * وأعده عند سمعي يا أخيّ 71
وأشد باسم اللّاء خيّمن كذا * عن كدا واعن بما أحويه حيّ 72
نعم ما زمزم شاد محسن * بحسان تخذوا زمزم جيّ 73
وجناب زويت من كلّ فجّ له * قصدا رجال النّجب زيّ 74
وادّراعي حلل النّقع وفي * علماه عوض عن علميّ 75
واجتماع الشّمل في جمع وما * مرّ في مرّ بأفياء الأشيّ 77
لمنى عندي المنى بلّغتها * وأهيلوه وإن ضنّوا بفيّ 77
منذ أوضحت قرى الشّام وبا * ينت بانات ضواحي حلّتيّ 79
لم يرق لي منزل بعد النّقا * لا ولا مستحسن من بعد ميّ 80
آه وا شوقي لضاحي وجهها * وظما قلبي إلى ذاك اللّميّ 81
فبكلّ منه والألحاظ لي * سكرة وا طربا من سكرتيّ 82
وأرى من ريحه الرّاح انتشت * وله من وله يعنو الأريّ 83
ذو الفقار اللّحظ منها أبدا * والحشا منّي عمرو وحييّ 84
نحلت جسمي نحولا خصرها * منه حالي فهو أبهى حلّتيّ 85
إن تثنّت فقضيب في نقا * مثمر بدر دجى فرع ظميّ 86
وإذا ولّت تولّت مهجتي * أو تجلّت صارت الألباب فيّ 87
وأبى يتلو إلّا يوسفا * حسنها كالذّكر يتلى عن أبيّ 88
خرّت الأقمار طوعا يقظة * أن تراءت لا كرؤيا في كريّ 89
لم تكد أمنا تكد من حكم * تقصص الرّؤيا عليهم يا بنيّ 90
شفعت حجّي فكانت إذ بدت * بالمصلّى حجّتي في حجّتيّ 93
فلها الآن أصلّي قبلت * ذاك منّي وهي أرضي قبلتيّ 94
كحلت عيني عمى إن غيرها * نظرته إيه عنّي ذا الرّشيّ 94
جنّة عندي رباها أمحلت * أم حلت عجّلتها من جنّتيّ 96
كعروس جليت في حبر * صنع صنعاء وديباج خويّ 97
دار خلد لم يدر في خلدي * أنّه من ينأ عنها يلق غيّ 97
أيّ من وافى حزينا حزنها * سرّ لو روّح سرّي سرّ أيّ 98
 
« 356 »
 
بئس حالا بدّلت من أنسها * وحشة أو من صلاح العيش غيّ 98
حيث لا يرتجع الفائت وا * حسرتا أسقط حزنا في يديّ 99
لا تملني عن حمى مرتبعي * عدوتيّ تيّما لربع بتميّ 100
فلباناتي لبانات ترا * ضعنا فيها لبان الحبّ سيّ 101
مللي من ملل والخيف حي * ف تقاضيه وأنّى ذاك ويّ 101
بالدّنا لا تطمعنّ في مصرفي * عنهما فضلا بما في مصر فيّ 102
لو ترى أين خميلات قبا * وتراءين جميلات القبيّ 103
كنت لا كنت بهم صبّا يرى * مرّ ما لاقيته فيهم حليّ 103
فأرح من عذل مسمعي * وعن القلب لتلك الرّاء زيّ 104
خلّ خلّي عنك ألقابا بها * جيء مينا وانج من بدعة جيّ 104
وادعني غير دعيّ عبدها * نعم ما أسمو به هذا السّميّ 104
إن تكن عبدا لها حقّا تعد * خير حرّ لم يشب دعواه ليّ 106
قوت روحي ذكرها أنّى تحو * ر عن التّوق لذكري هيّ هيّ 106
لست أنسى بالثّنايا قولها * كلّ من في الحيّ أسرى في يديّ 107
سلهم مستخبرا أنفسهم * هل نجت أنفسهم من قبضتيّ 107
فالقضا ما بين سخطي والرّضا * من له أقص قضى أو أدن حيّ 108
خاطب الخطب الدّعوى فما * بالرّقى ترقى إلى وصل رقيّ 108
رح معافى واغتنم نصحي وإن * شئت أن تهوى فللبلوى تهيّ 109
وبسقم همت بالأجفان أن * زانها وصفا بزين وبزيّ 110
كم قتيل من قبيل ما له * قود في حبّنا من كلّ حيّ 111
باب وصلي السّام من سبل الضّنا * منه لي ما دمت حيّا لم تبيّ 111
فإن استغنيت عن عزّ البقا * فإلى وصلي ببذل النّفس حيّ 112
قلت روحي إن تريّ بسطك في * قبضها عشت فرأيي أن تريّ 113
أيّ تعذيب سوى البعد لنا * منك عذب حبّذا ما بعد أيّ 113
إن تشيّ راضية قتلي جوى * في الهوى حسبي افتخارا أن تشيّ 114
ما رأت مثلك عيني حسنا * وكمثلي بك صبّا لم تريّ 115
نسب أقرب في شرع الهوى * بيننا من نسب من أبويّ 115
هكذا العشق رضيناه ومن * يأتمر أن تأمري خير مريّ 116

 
« 357 »
 
ليت شعري هل كفى ما قد جرى * مذ جرى ما قد كفى من مقلتيّ 117
حاكيا عين وليّ إن علا * خدّ روض تبك عن زهر تبيّ 118
قد برى أعظم شوق أعظمي * وفني جسمي حاشى أصغريّ 118
شافعي التّوحيد في بقياهما * كان عند الحبّ عن غير يديّ 119
وتلافيك كبرئي دونه * سلوتي عنك وحظّي منك عيّ 120
ساعدي بالطّيف أن عزّت منى * قصر عن نيلها في ساعديّ 121
شام من سام بطرف ساهر * طيفك الصّبح بألحاظ عميّ 122
لو طويتم نصح جار لم يكن * فيه يوما يأل طيّا يال طيّ 123
فاجمعوا لي همما إن فرّق * الدّهر شملي بالأولى بانوا قصيّ 124
ما بودّي آل ميّ كان بثّ * الهوى إذ ذاك أودى ألميّ 124
سرّكم عندي ما أعلنه * غير دمع عندميّ عن دميّ 125
مظهر ما كنت أخفي من قدي * م حديث صانه منّي طيّ 126
عبرة فيض جفوني عبرة * بي أن تجري أسعى واشييّ 127
كاد لولا أدمعي أستغفر اللّه * يخفى حبّكم عن ملكيّ 129
صارمي حبل وداد أحكمت * باللّوى منه يد الإنصاف ليّ 130
أترى حلّ لكم حلّ أوا * خي روى ودّ أواخي منه عيّ 130
بعدي الدّاريّ والهجر عليّ * جمعتم بعد داري هجرتيّ 131
هجركم إن كان حتما قرّبوا * منزلي فالبعد أسوا حالتيّ 133
يا ذوي العود ذوى عود ودا * دي منكم بعد أن أينع ذيّ 134
عهدكم وهنا كبيت العنكبو * ت وعهدي كقليب آد طيّ 134
يا أصيحابي تمادى بيننا * ولبعد بيننا لم يقض طيّ 135
علّلوا روحي بأرواح الصّبا * فبريّاها يعود الميت حيّ 135
ومتى ما سرّ نجد عبرت * عبّرت عن سرّ ميّ وأميّ 136
ما حديثي بحديث كم سرت * فأسرّت لنبيّ من نبيّ 137
أي صبا أيّ صبا هجت لنا * سحرا من أين ذيّاك الشّذيّ 138
ذاك أن صافحت ريّان الكلا * وتحرّشت بحوذان كليّ 138
فلذا تروي وتروي ذا صدى * وحديثا عن فتاة الحيّ حيّ 138
سائلي ما شفّني في سائل الدّ * مع لو شئت غنى عن شفتيّ 140
 
« 358 »
 
عتب لم تعتب وسلمى أسلمت * وحمى أهل الحمى رؤية ريّ 141
والّتي يعنو لها البدر سبت * عنوة روحي ومالي وحميّ 142
عدت ممّا كابدت من صدّها * كبدي حلف صدى والجفن ريّ 143
واجدا منذ جفا برقعها * ناظري من قلبه في القلب كيّ 143
ولنا بالشّعب شعب جلدي * بعدهم خان وصبري كاء كيّ 144
حلفت نار جوى حالفني * لا خبت دون لقا ذاك الخبيّ 145
عيس حاجي البيت حاجي لو أم * كّن أن أضوي إلى رحلك ضيّ 145
بل على ودّي بجفن قد دمى * كنت أسعى راغبا عن قدميّ 145
فزت بالمسعى الّذي أقعدتّ عن * ه وعاويك له دوني عيّ 147
سئ بي إن فاتني من فاتني ال * خبت ما جبت إليه السّيّ طيّ 148
حاظري من حاضري مرماك با * دي قضاء لا اختيار لي شيّ 148
لا برى جذب البرى جسمك واع * تضتّ من جدب البرى والنّأي بيّ 149
خفّفي الوطء ففي الخيف سلم * ت على غير فؤاد لم تطيّ 150
كان لي قلب بجرعاء الحمى * ضاع منّي هل له ردّ عليّ 151
إن ثنى ناشدتكم نشدانكم * سجرائي لي عنه عيّ عيّ 152
فاعهدوا بطحاء وادي سلم * فهي ما بين كداء وكديّ 152
يا سقى اللّه عقيقا باللّوى * ورعى ثمّ فريقا من لؤيّ 153
وأويقات بواد سلفت * فيه كانت راحتي في راحتيّ 153
معهد من عهد أجفاني على * جيده من عقد أزهار حليّ 154
كم غدير غادر الدّمع به * أهله غير أولي حاج لريّ 155
فثرائي من ثراه كان لو * عاد لي عفّرت فيه وجنتيّ 156
حيّ ربعيّ الحيا ربع الحيا * بأبي جيرتنا فيه وبيّ 156
أيّ عيش مرّ لي في ظلّه * أسفي إذ صار حظّي منه أيّ 157
أي ليالي الوصل هل من عودة * ومن التّعليل قول الصّبّ أيّ 157
وبأيّ الطّرق أرجو رجعها * ربّما أقضي وما أدري بأيّ 158
حيرتي بين قضاء جيرتي * من ورائي وهوى بين يديّ 159
ذهب العمر ضياعا وانقضى * باطلا إن لم أفز منك بشيّ 160
غير ما أوليت من عقدي ولا * عترة المبعوث حقّا من قصيّ 160
 
« 359 »
 
القصيدة الثانية
صدّ حمى ظمئي لماك لماذا * وهواك قلبي صار منه جذاذا 164
إن كان في تلفي رضاك صبابة * ولك البقاء وجدت فيه لذاذا 165
كبدي سلبت صحيحة فامنن على * رمقي بها ممنونة أفلاذا 165
يا راميا يرمي بسهم لحاظه * عن قوس حاجبه الحشا إنفاذا 166
أنّى هجرت لهجر واش بي كمن * في لومه لؤم حكاه فهاذى 167
وعليّ فيك من اعتدى في حجره * فقد اغتدى في حجره ملّاذا 168
غير السّلوّ تجده عندي لائمي * عمّن حوى حسن الورى استحواذا 168
يا ما أميلحه رشا فيه حلا * تبديله حالي الحليّ بذاذا 169
أضحى بإحسان وحسن معطيا * لنفائس ولأنفس أخّاذا 171
سيفا تسلّ على الفؤاد جفونه * وارى الفتور له بها شحّاذا 171
فتك بنا يزداد منه مصوّرا * قتلى مساور في بني يزدادا 173
لا غرو أن تخذ العذار حمائلا * أن ظلّ فتّاكا به وقّاذا 174
وبطرفه سحر لو ابصر فعله * هاروت كان له به أستاذا 175
تهذي بهذا البدر في جوّ السّما * خلّ افتراك فذاك خلّي لا ذا 176
عنت الغزالة والغزال لوجهه * متلفّتا وبه عياذا لاذا 177
أربت لطافته على نشر الصّبا * وأبت ترافته التّقمّص لاذا 177
وشكت بضاضة خدّه من ورده * وحكت فظاظة قلبه الفولاذا 179
عمّ اشتعالا خال وجنته أخا * شغل به وجدا أبى استنقاذا 180
خصر اللّمى عذب المقبّل بكرة * قبل السّواك المسك ساد وشاذا 181
من فيه والالحاظ سكري بل أرى * في كلّ جارحة به نبّاذا 182
نطقت مناطق خصره ختما إذا * صمت الخواتم للخناصر آذا 183
رقّت ودقّ فناسبت منّي النّسي * ب وذاك معناه استجاد فحاذا 184
كالغصن قدّا والصّباح صباحة * واللّيل فرعا منه حاذى إلحاذا 185
حبّيه علّمني التّنسّك إذ حكى * متعفّفا فرق المعاد معاذا 186
فجعلت خلعي للعذار لثامه * إذ كان من لثم العذار معاذا 187
ولنا بخيف منى عريب دونهم * حتف المنى عادى لصبّ عاذا 188
وبجزع ذيّاك الحمى ظبي حمى * بظبى اللّواحظ إذ أحاذ إخاذا 189
 
« 360 »
 
هي أدمع العشّاق جاد وليّها ال * وادي ووالى جودها الألواذا 189
كم من فقير ثمّ لا من جعفر * وافى الأجارع سائلا شحّاذا 190
من قبل ما فرق الفريق عمارة * كنّا ففرّقنا النّوى أفخاذا 191
أفردتّ عنهم بالشّآم بعيد ذا * ك الالتئام وخيّموا بغداذا 191
جمع الهموم البعد عندي بعد أن * كانت بقربي منهم أفذاذا 192
كالعهد عندهم العهود على الصّفا * أنّى ولست لها صفا نبّاذا 193
والصّبر صبر عنهم وعليهم * عندي أراه إذا أذى ازّاذا 194
عزّ العزاء وجدّ وجدي بالألى * صرموا فكانوا بالصّريم ملاذا 194
ريم الفلا عنّي إليك فمقلتي * كحلت بهم لا تغضها استيخاذا 195
قسما بمن فيه أرى تعذيبه * عذبا وفي اسّتذلاله استلذاذا 196
ما استحسنت عيني سواه وإن سبا * لكن سواي ولم أكن ملّاذا 196
لم يرقب الرّقباء إلّا في شج * من حوله يتسلّلون لواذا 197
قد كان قبل يعدّ من قتلى رشا * أسدا لآساد الشّرى بذّاذا 197
أمسى بنار جوى حشت أحشاءه * منها يرى الإيقاد لا الإنقاذا 198
حيران لا تلقاه إلّا قلت من * كلّ الجهات أرى به جبّاذا 199
حرّان محنيّ الضّلوع على أسى * غلب الأسا فاستنجذ استنجاذا 200
دنف لسيب حشى سليب حشاشة * شهد السّهاد بشفعه ممشاذا 201
سقم ألمّ به فآلم إذ رأى * بالجسم من اغداده إغذاذا 201
أبدى حداد كآبة لعزاه إذ * مات الصّبا في فوده جذّاذا 202
فغدا وقد سرّ العدا بشبابه * متقمّصا وبشيبه مشتاذا 203
حزن المضاجع لا نفاد لبثّه * حزنا بذاك قضى القضاء نفاذا 203
أبدا تسحّ وما تشحّ جفونه * لجفا الأحبّة وابلا ورذاذا 204
منح السّفوح سفوح مدمعه وقد * بخل الغمام به وجاد وجاذا 204
قال العوائد عندما أبصرنه * إن كان من قتل الغرام فهذا 205
 
القصيدة الثالثة
نعم بالصّبا قلبي صبا لأحبّتي * فيا حبّذا ذاك الشّذى حين هبّت 208
سرت فأسرّت للفؤاد غديّة * أحاديث جيران العذيب فسرّت 209
مهيمنة بالرّوض لدن رداؤها * بها مرض من شأنه برء علّتي 210
 
« 361 »
 
لها بأعيشاب الحجاز تحرّش * به لا بخمر دون صحبي سكرتي 210
تذكّرني العهد القديم لاءنّها * حديثة عهد من أهيل مودّتي 211
أيا زاجرا حمر الأوارك تارك ال * موارك من أكوارها كالأريكة 212
لك الخير إن أوضحت توضح مضحيا * وجبت فيافي خبت آرام وجرة 213
ونكّبت عن كثب العريض معارضا * حزونا لحزوى سائقا لسويقة 213
وباينت بانات كذا عن طويلع * بسلع فسل عن حلّة فيه حلّت 214
وعرّج بذيّاك الفريق مبلّغا * سلمت عريبا ثمّ عنّي تحيّتي 215
فلي بين هاتيك الخيام ضنينة * عليّ بجمعي سمحة بتشتّتي 216
محجّبة بين الأسنّة والظّبا * إليها انثنت ألبابنا إذ تثنّت 216
ممنّعة خلع العذار نقابها * مسربلة بردين قلبي ومهجتي 218
تتيح المنايا إذ تبيح لي المنى * وذاك رخيص منيتي بمنيّتي 219
وما غدرت في الحبّ أن هدرت دمي * بشرع الهوى لكن وفت إذ توفّت 220
متى أوعدت أولت وإن وعدت لوت * وإن أقسمت لا تبرىء السّقم برّت 220
وإن عرضت أطرق حياء وهيبة * وإن أعرضت أشفق فلم أتلفّت 221
ولو لم يزرني طيفها نحو مضجعي * قضيت ولم أسطع أراها بمقلتي 221
تخيّل زور كان زور خيالها * لمشبهه عن غير رؤيا ورؤيتي 222
بفرط غرامي ذكر قيس بوجده * وبهجتها لبنى أمتّ وأمّت 223
فلم أر مثلي عاشقا ذا صبابة * ولا مثلها معشوقة ذات بهجة 223
هي البدر أوصافا وذاتي سماؤها * سمت بي إليها همّتي حين همّت 224
منازلها منّي الذّراع توسّدا * وقلبي وطرفي أوطنت أو تجلّت 225
فما الودق إلّا من تحلّب مدمعي * وما البرق إلّا من تلهّب زفرتي 226
وكنت أرى أنّ التّعشّق منحة * لقلبي فما إن كان إلّا لمحنتي 226
منعّمة أحشاي كانت قبيل ما * دعتها لتشقى بالغرام فلبّت 227
فلا عاد لي ذاك النّعيم ولا أرى * من العيش إلّا أن أعيش بشقوتي 227
ألا في سبيل الحبّ حالي وما عسى * بكم أن ألاقي لو دريتم أحبّتي 228
أخذتم فؤادي وهو بعضي فما الذي * يضرّكم أن تتبعوه بجملتي 228
وجدت بكم وجدا قوى كلّ عاشق * لو احتملت من عبئه البعض كلّت 229
برى أعظمي من أعظم الشّوق ضعف ما * بجفني لنومي أو بضعفي لقوّتي 229
 
« 362 »
 
وأنحلني سقم له بجفونكم * غرام التياعي بالفؤاد وحرقتي 230
فضعفي وسقمي ذا كرأي عواذلي * وذاك حديث النّفس عنكم برجعتي 231
وهي جسدي ممّا وهي جلدي لذا * تحمّله يبلى وتبقى بليّتي 231
وعدت بما لم يبق منّي موضعا * لضرّ لعوّادي حضوري كغيبتي 232
كأنّي هلال الشّك لولا تأوّهي * خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي 233
فجسمي وقلبي مستحيل وواجب * وخدّي مندوب لجائز عبرتي 234
وقالوا جرت حمرا دموعك قلت عن * أمور جرت في كثرة الشّوق قلّت 235
نحرت لضيف الطّيف في جفني الكرى * قرى فجرى دمعي دما فوق وجنتي 235
فلا تنكروا إن مسّني ضرّ بينكم * عليّ سؤالي كشف ذاك ورحمتي 236
وصبري أراه تحت قدري عليكم * مطاقا وعنكم فاعذروا فوق قدرتي 237
ولمّا توافينا عشاء وضمّنا * سواء سبيلي ذي طوى والثّنيّة 237
ومنّنت وما ضنّت عليّ بوقفة * تعادل عندي بالمعرّف وقفتي 237
عتبت فلم تعتب كأن لم يكن لقى * وما كان إلّا أن أشرت وأومت 237
أيا كعبة الحسن الّتي لجمالها * قلوب أولي الألباب لبّت وحجّت 239
بريق الثّنايا منك أهدى لنا سنا * بريق الثّنايا فهو خير هديّة 239
وأوحى لعيني أنّ قلبي مجاور * حماك فتاقت للجمال وحنّت 240
ولولاك ما استهديت برقا ولا شجت * فؤادي فأبكت إذ شدت ورق أيكة 241
فذاك هدى أهدى إليّ وهذه * على العود إذ غنّت عن العود أغنت 242
أروم وقد طال المدى منك نظرة * وكم من دماء دون مرماي طلّت 243
وقد كنت أدعى قبل حبّيك باسلا * فعدت به مستبسلا بعد منعتي 244
أقاد أسيرا واصطباري مهاجري * وأنجد أنصاري أسى بعد لهفتي 244
أما لك عن صدّ أمالك عن صد * لظلمك ظلما منك ميل لعطفة 245
فبلّ غليل من عليل على شفا * يبلّ شفاء منه أعظم منّة 246
ولا تحسبي أنّي فنيت من الضّنا * بغيرك بل فيك الصّبابة أبلت 246
جمال محياك المصون لثامه * عن اللّثم فيه عدت حيّا كميّت 247
وجنّبني حبّيك وصل معاشري * وحبّبني ما عشت قطع عشيرتي 247
وأبعدني عن أربعي بعد أربع * شبابي وعقلي وارتياحي وصحّتي 248
فلي بعد أوطاني سكون إلى الفلا * وبالوحش أنسي إذ من الإنس وحشتي 249
 
« 363 »
 
وزهّد في وصلي الغواني إذ بدا * تبلّج صبح الشّيب في جنح لمّتي 249
فرحن بحزن جازعات بعيد ما * فرحن بحزن الجزع بي لشبيبتي 250
جهلن كلوّامي الهوى لا علمنه * وخابوا وإني منه مكتهل فتي 251
وفي قطعي اللّاحي عليك ولات حي * ن فيك جدال كان وجهك حجّتي 252
فأصبح لي من بعد ما كان عاذلا * به عاذرا بل صار من أهل نجدتي 253
وحجّي عمري هاديا ظلّ مهديا * ضلال ملامي مثل حجّي وعمرتي 253
رأى رجبا سمعي الأبيّ ولومي ال * محرّم عن لؤم وغشّ النّصيحة 254
وكم رام سلواني هواك ميمّما * سواك وأنّى عنك تبديل نيّتي 255
وقال تلافى ما بقي منك قلت ما * أراني إلّا للتّلاف تلفّتي 256
إبائي أبى إلّا خلافي ناصحا * يحاول منّي شيمة غير شيمتي 256
يلذّ له عذلي عليك كأنّما * يرى منّه منّي وسلواه سلوتي 257
ومعرضة عن سامر الجفن راهب ال * فؤاد المعنّى مسلم النّفس صدّت 258
تناءت فكانت لذّة العيش وانقضت * بعمري فأيدي البين مدّت لمدّتي 259
وبانت فأمّا حسن صبري فخانني * وأمّا جفوني بالبكاء فوفّت 259
فلم ير طرفي بعدها ما يسرّني * فنومي كصبحي حيث كانت مسرّتي 260
وقد سخنت عيني عليها كأنّها * بها لم تكن يوما من الدّهر قرّت 260
فإنسانها ميت ودمعي غسله * وأكفانه ما ابيضّ حزنا لفرقتي 261
فللعين والأحشاء أوّل هل أتى * تلا عائدي الآسي وثالث تبّت 262
كأنّا حلفنا للرّقيب على الجفا * وأن لا وفا لكن حنثت وبرّت 262
وكانت مواثيق ا * فلما تفرّقنا عقدتّ وحلّت 263
وتاللّه لم أختر مذمّة غدرها * وفاء وإن فاءت إلى ختر ذمّتي 263
سقى بالصّفا الرّبعيّ ربعا به الصّفا * وجاد بأجياد ثرى منه ثروتي 264
مخيّم لذّاتي وسوق مآربي * وقبلة آمالي وموطن صبوتي 265
منازل أنس كنّ لم أنس ذكرها * بمن بعدها والقرب ناري وجنّتي 265
ومن أجلها حالي بها وأجلّها * عن المنّ ما لم تخف والسّقم حلّتي 266
غرامي بشعب عامر شعب عامر * غريمي وإن جاروا فهم خير جيرتي 266
ومن بعدها ما سرّ سرّي لبعدها * وقد قطعت منها رجائي بخيبتي 267
وما جزعي بالجزع عن عبث ولا * بدا ولعا فيها ولوعي بلوعتي 268
 
« 364 »
 
على فائت من جمع جمع تأسّفي * وودّ على وادي محسّر حسرتي 268
وبسط طوى قبض التّنائي بساطه * لنا بطوى ولّى بأرغد عيشة 269
أبيت بجفن للسّهاد معانق * تصافح صدري راحتي طول ليلتي 270
وذكر أويقاتي التي سلفت بها * سميرى لو عادت أويقاتي التي 271
رعى اللّه أيّاما بظلّ جنابها * سرقت بها في غفلة البين لذّتي 272
وما دار هجر البعد عنها بخاطري * لديها بوصل القرب في دار هجرتي 272
وقد كان عندي وصلها دون مطلبي * فعاد تمنّي الهجر في القرب قربتي 273
وكم راحة لي أقبلت حين أقبلت * ومن راحتي لمّا تولّت تولّت 273
كأن لم أكن منها قريبا ولم أزل * بعيدا لأيّ ماله ملت ملّت 274
ويا جلدي بعد النّقا لست مسعدي * ويا كبدي عزّ اللّقا فتفتّتي 275
ولمّا أبت إلّا جماما ودارها ان * تزاحا وضنّ الدّهر منها بأوبة 276
تيقّنت أن لا دار من بعد طيبة * تطيب وأنّ لا عزّة بعد عزّة 276
سلام على تلك المعاهد من فتى * على حفظ عهد العامريّة ما فتي 277
أعد عند سمعي شادي القوم ذكر من * بهجرانها والوصل جادت وضنّت 278
تضمّنه ما قلت السّكر معلن * لسرّي وما أخفت بصحوي سريرتي 279


القصيدة الرابعة
قلبي يحدّثني بأنّك متلفي * روحي فداك عرفت أم لم تعرف 280

لم أقض حقّ هواك إن كنت الذي * لم أقض فيه أسى ومثلي من يفي 282
ما لي سوى روحي وباذل نفسه * في حبّ من يهواه ليس بمسرف 282
فلئن رضيت بها فقد أسعفتني * يا خيبة المسعى إذا لم تسعف 283
يا مانعي طيب المنام ومانحي * ثوب السّقام به ووجدي المتلف 284
عطفا على رمقي و * من جسمي المضنى وقلبي المدنف 284
فالوجد باق والوصال مماطلي * والصّبر فان واللّقاء مسوّفي 285
لم أخل من حسد عليك فلا تضع * سهري بتشنيع الخيال المرجف 286
واسأل نجوم اللّيل هل زار الكرى * جفني وكيف يزور من لم يعرف 287
لا غرو إن شحّت بغمض جفونها * عيني وسحّت بالدّموع الذّرّف 287
وبما جرى في موقف التّوديع من * ألم النّوى شاهدت هول الموقف 288
إن يكن وصل لديك فعد به * أملي وماطل إن وعدت ولا تفي 289
 
« 365 »
 
فالمطل منك لديّ إن عزّ الوفا * يحلو كوصل من حبيب مسعف 289
أهفو لأنفاس النّسيم تعلّة * ولوجه من نقلت شذاه تشوّفي 289
فلعلّ نار جوانحي بهبوبها * أن تنطفي وأودّ أن لّا تنطفي 290
يا أهل ودّي أنتم أملي ومن * ناداكم يا أهل ودّي قد كفي 291
عودوا لما كنتم عليه من الوفا * كرما فإنّي ذلك الخلّ الوفي 291
وحياتكم وحياتكم قسما وفي * عمري بغير حياتكم لم أحلف 292
لو أنّ روحي في يدي ووهبتها * لمبشّري بقدومكم لم أنصف 292
لا تحسبوني في الهوى متصنّعا * كلفي بكم خلق بغير تكلّف 293
أخفيت حبّكم فأخفاني أسى * حتّى لعمري كدتّ عنّي أختفي 293
وكتمته عنّي فلو أبديته * لوجدته أخفى من اللّطف الخفي 293
ولقد أقول لمن تحرّش بالهوى * عرّضت نفسك للبلا فاستهدف 294
أنت القتيل بأيّ من أحببته * فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي 295
قل للعذول أطلت لومي طامعا * أنّ الملام عن الهوى مستوقفي 295
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى * فإذا عشقت فبعد ذلك عنّف 295
برح الخفاء بحبّ من لو في الدّجى * سفر اللّثام لقلت يا بدر اختف 297
وإن اكتفى غيري بطيف خياله * فأنا الّذي بوصاله لا أكتفي 298
وقفا عليه محبّتي ولمحنتي * بأقلّ من تلفي به لا أشتفي 299
وهواه وهو أليّتي وكفى به * قسما أكاد أجلّه كالمصحف 300
لو قال تيها قف على جمر الغضى * لوقفت ممتثلا ولم أتوقّف 300
أو كان من يرضى بخدّي موطئا * لوضعته أرضا ولم أستنكف 300
لا تنكروا شغفي بما يرضى وإن * هو بالوصال عليّ لم يتعطّف 301
غلب الهوى فأطعت أمر صبابتي * من حيث فيه عصيت نهي معنّفي 301
منّي له ذلّ الخضوع ومنه لي * عزّ المنوع وقوّة المستضعف 301
ألف الصّدود ولي فؤاد لم يزل * مذ كنت غير وداده لم يألف 302
يا ما أميلح كلّ ما يرضى به * ورضابه يا ما أحيلاه بفي 303
لو أسمعوا يعقوب ذكر ملاحة * في وجهه نسي الجمال اليوسفي 303
أو لو رآه عائدا أيّوب في * سنة الكرى قدما من البلوى شفي 303
كلّ البدور إذا تجلّى مقبلا * تصبو إليه وكلّ قدّ أهيف 305
 
« 366 »
 
 
إن قلت عندي فيك كلّ صبابة * قال الملاحة لي وكلّ الحسن في 305
كملت محاسنه فلو أهدى السّنا * للبدر عند تمامه لم يكسف 306
وعلى تفنّن واصفيه بحسنه * يفنى الزّمان وفيه ما لم يوصف 307
ولقد صرفت لحبّه كلّي على * يد حسنه فحمدت حسن تصرّفي 308
فالعين تهوى صورة الحسن الّتي * روحي بها تصبو إلى معنى خفي 308
أسعد أخيّ وغنّني بحديثه * وانثر على سمعي حلاه وشنّف 309
لأرى بعين السّمع شاهد حسنه * معنى فأتحفني بذاك وشرّف 309
يا أخت سعد من حبيبي جئتني * برسالة أدّيتها بتلطّف 310
فسمعت ما لم تسمعي ونظرت ما * لم تنظري وعرفت ما لم تعرفي 310
إن زار يوما يا حشاي تقطّعي * كلفا به أو سار يا عين اذرفي 311
ما للنّوى ذنب ومن أهوى معي * إن غاب عن إنسان عيني فهو في 311


القصيدة الخامسة
ته دلالا فأنت أهل لذاكا * وتحكّم فالحسن قد أعطاكا 313

ولك الأمر فاقض ما أنت قاض * فعلى الجمال قد ولّاكا 313
وتلافي إن كان فيه ائتلافي * بك عجّل به جعلت فداكا 314
وبما شئت في هواك اختبرني * فاختياري ما كان فيه رضاكا 314
فعلى كلّ حالة أنت منّي * بي أولى إذ لم أكن لولاكا 314
وكفاني عزّا بحبّك ذلّي * وخضوعي ولست من أكفاكا 315
وإذا ما إليك بالوصل عزّت * نسبتي عزّة وصحّ ولاكا 315
فاتّهامي في الحبّ حسبي وأنّي * بين قومي أعدّ من قتلاكا 315
لك في الحيّ هالك بك حيّ * في سبيل الهوى استلذّ الهلاكا 316
عبد رقّ ما رقّ يوما لعتق * لو تخلّيت عنه ما خلّاكا 316
بجمال حجبته بجلال * هام واستعذب العذاب هناكا 317
وإذا ما أمن الرّجا منه أدنا * ك فعنه خوف الحجى أقصاكا 317
فبإقدام رغبة حين يغشا * ك بإحجام رهبة يخشاكا 318
ذاب قلبي فأذن له يتمنّا * ك وفيه بقيّة لرجاكا 319
أو مر الغمض أن يمرّ بجفني * فكأنّي به مطيعا عصاكا 319
فعسى في المنام يعرض لي الوه * م فيوحي سرّا إليّ سراكا 319
 
« 367 »
 
وإذا لم تنعش بروح التّمنّي * رمقي واقتضى فنائي بقاكا 320
وحمت سنّة الهوى سنة الغم * ض جفوني وحرّمت لقياكا 320
أبق لي مقلة لعلّي يوما * قبل موتي أرى بها من رآكا 320
أين منّي ما رمت هيهات بل أي * ن لعيني بالجفن لثم ثراكا 321
فبشيري لو جاء منك بعطف * ووجودي في قبضتي قلت هاكا 321
قد كفى ما جرى دما من جفون * بك قرحى فهل جرى ما كفاكا 322
فأجر من قلاك فيك معنّى * قبل أن يعرف الهوى يهواكا 323
هبك أنّ اللّاحي نهاه بجهل * عنك قل لّي عن وصله من نهاكا 323
وإلى عشقك الجمال دعاه * فإلى هجره ترى من دعاكا 324
أترى من أفتاك بالصدّ عنّي * ولغيري بالودّ من أفتاكا 324
بانكساري بذلّتي بخضوعي * بافتقاري بفاقتي بغناكا 325
لا تكلني إلى قوى جلد خا * ن فإنّي أصبحت من ضعفاكا 325
كنت تجفو وكان لي بعض صبر * أحسن اللّه في اصطباري عزاكا 326
كم صدود عساك ترحم شكوا * ي ولو باستماع قولي عساكا 326
شنّع المرجفون عنك بهجري * وأشاعوا أنّي سلوت هواكا 327
ما بأحشائهم عشقت فأسلو * عنك يوما دع يهجروا حاشاكا 327
كيف أسلو ومقلتي كلّما لا * ح بريق تلفّتت للقاكا 327
إن تبسّمت تحت ضوء لثام * أو تنسّمت الرّيح من أنباكا 329
طبت نفسا إذ لاح صبح ثنايا * ك لعيني وفاح طيب شذاكا 329
كلّ من في حماك يهواك لكن * أنا وحدي بكلّ من في حماكا 329
فيك معنى حلّاك في عين عقلي * وبه ناظري معنّى حلاك 331
فقت أهل الجمال حسنا وحسنى * فبهم فاقة إلى معناكا 331
يحشر العاشقون تحت لوائي * وجميع الملاح تحت لواكا 332
ما ثناني عنك الضّنا فبماذا * يا مليح الدّلال عنّي ثناكا 332
لك قرب منّي ببعدك عنّي * وحنوّ وجدتّه في جفاكا 333
علّم الشّوق مقلتي سهر اللّي * ل فصارت في غير نوم تراكا 334
حبذا ليلة بها صدت إسرا * ك وكان السّهاد لي أشراكا 334
ناب بدر التّمام طيف محيّا * ك لطرفي بيقظتي إذ حكاكا 335


"368"

 فتراءيت في سواك لعين * بك قرّت وما رأيت سواكا 335
وكذاك الخليل قلّب قبلي * طرفه حين راقب الأفلاكا 335
فالدّياجي لنا بك الآن غرّ * حيث أهديت لي هدى من سناكا 337
ومتى غبت ظاهرا عن عياني * ألقه نحو باطني ألقاكا 338
أهل بدر ركب سريت بليل * فيه بل سار في نهار ضياكا 338
واقتباس الأنوار من ظاهري غي * ر عجيب وباطني مأواكا 339
يعبق المسك حيثما ذكر اسمي * منذ ناديتني أقبّل فاكا 340
ويضوع العبير في كلّ ناد * وهو ذكر معبّر عن شذاكا 340
قال لي حسن كلّ شيء تجلّى * بي تملّى فقلت قصدي وراكا 341
لي حبيب أراك فيه معنّى * غرّ غيري وفيه معنى أراكا 341
إن تولّى على النّفوس تولّى * أو تجلّى يستعبد النّسّاكا 341
فيه عوّضت عن هداي ضلالا * ورشادي غيّا وستري انتهاكا 341
وحّد القلب حبّه فالتفاتي * لك شرك ولا أرى الإشراكا 341
يا أخا العذل فيمن الحسن مثلي * هام وجدا به عدمت إخاكا 341
لو رأيت الذي سباني فيه * من جمال ولن تراه سباكا 341
ومتى لاح لي اغتفرت سهادي * ولعينيّ قلت هذا بذاكا 341
زدني بفرط الحبّ فيك تحيّرا * وارحم حشى بلظى هواك تسعّرا 345
وإذا سألتك أن أراك حقيقة * فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترا 345
يا قلب أنت وعدتني في حبّهم * صبرا فحاذر أن تضيق وتضجرا 347
إنّ الغرام هو الحياة فمت به * صبّا فحقّك أن تموت وتعذرا 347
قل للّذين تقدّموا قبلي ومن * بعدي ومن أضحى لأشجاني يرى 348
عنّي خذوا وبي اقتدوا ولي اسمعوا * وتحدّثوا بصبابتي بين الورى 348
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا * سرّ أرقّ من النّسيم إذا سرى 349
وأباح طرفي نظرة أمّلتها * فغدوت معروفا وكنت منكّرا 349
فدهشت بين جماله وجلاله * وغدا لسان الحال عنّي مخبرا 349
فأدر لحاظك في محاسن وجهه * تلقى جميع الحسن فيه مصوّرا 350
لو أنّ كلّ الحسن يكمل صورة * ورآه كان مهلّلا ومكبّرا 351 

.
عبدالله المسافر بالله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرح ديوان سلطان العاشقين عمر ابن الفارض الجزء الأول شرح الشيخين بدر الدين البوريني وعبد الغني النابلسي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة المنتديات :: ديوان أهل الغرام-
انتقل الى: