لكاتب ستيفن ليدرو
ترجمة خالد أبو هريرة
الملخص
حقّق الإلـحــاد زخمًا متجددًا في الغرب خلال السنوات الأخيرة، بسيل من الكتب الأكثر مبيعًا، وعضوية متنامية في المنظمات العلمانية والعقلانية. ولكن، ما هي بالضبط طبيعة هذا الشكل المُعَيّن من عدم الإيمان؟. تؤصل هذه المقالة السياق الخاص بظهور «الإلحاد الجديد» New Atheism، مع مراجعة النظرية السائدة حول الأصول الدَيَالِكتِيكِيّة واللاهوتية للإلحاد، وتتبع الحلقات التاريخية الرئيسة في الفكر الإلحادي. والمؤلف يجادل بأن تطورًا مهمًا قد حظي باهتمام ضئيل: هو انقسام اﻹلحاد في القرن التاسع عشر الميلادي، والذي أنتج تيارين نقديين متمايزين: الأول هو الإلحاد العلمي scientific atheism، المرتبط بشكل وثيق بـ الداروينية وعقلانية عصر التنوير. والثاني هو الإلحاد اﻹنسانوي humanistic atheism، المتماشى مع صعود العلوم الاجتماعية، والمتخذ من ماركس وفيورباخ روادًا له. تتجذر حركة اﻹلحاد المعاصرة بشكل أساسي في التقليد العلمي – حاشا المقاربة الإنسانوية على أسس إبستيمولوجية وسياسية – وهذا على الرغم من أن التوترات الناشئة داخل الحركة، تقترح أن التقليد الإنسانوي لا يزال يلعب دورًا. والعلاقة بين هاتين المقاربتين داخل الحركة، يجب أن تكون بؤرة للبحث المستقبلي.
كان صدور كتاب وهم اﻹله The God Delusion لريتشارد دوكنز Richard Dawkins في العام 2006 حدثًا ثقافيًا رئيسًا، بعد أن آذن ببدء الظاهرة المعروفة اﻵن باسم الإلحاد الجديد، والتي اتسمت بسلسلة من الكتب الأكثر مبيعًا التي تجادل ضد وجود الله ومخاطر الدين النظامي، فضلاً عن الزيادة الهائلة في العضوية والنشاط داخل المنظمات اﻹلحادية، والاهتمام العام بموضوع الدين وعلاقته بالعلم. أصبحت هذه الظاهرة، وعن جدارة، موضعًا لاهتمام علمي متزايد. والقدر القليل من اﻷعمال المنشورة حولها حتى اﻵن، إنما ينقسم عمومًا إلى فئتين: (1) تحليلات نقدية للنصوص التي أنتجها المؤلفون الرئيسيون من الملاحدة الجدد، وتتضمن أعمال دوكينز (2006)، وسام هاريس Sam Harris (2004)، وكريستوفر هيتشنز Christopher Hitchens (2007) ودانييل دينيت Daniel Dennett (2006) (على سبيل المثال Eagleton, 2009; Stahl, 2010)؛ و (2) مباحث عن النشاط وبناء الهوية داخل المنظمات اﻹلحادية (مثل Cimino and Smith, 2007, 2010; Smith, 2011). والكتاب الرئيسي الوحيد الذي تم تحريره عن الإلحاد الجديد حتى تاريخه، وهو كتاب “الدين والإلحاد الجديد: تقييم نقدي” Religion and the New Atheism: A Critical Appraisal، لـ أمارناث أمارسينغام Amarnath Amarasingam (2010)، إنما يحوي مساهمات تعالج الموضوع على المنوال نفسه. إذ على الرغم من وجود أعمال قيمة، فإنها جميعًا مدفوعة في اتجاه الحاضر، وتتصدى للإلحاد الجديد باعتباره ظاهرة معاصرة.
إن أكثر ما تفتقده الأدبيات الخاصة بالموضوع في هذه المرحلة، وبشكل واضح، هو سعي لتأطير الإلحاد الجديد داخل التطور التاريخي للفكر اﻹلحادي. وهذا هو ما أريد معالجته في هذا المقال، معتقدًا بأننا نستطيع من خلال هذا السعي، التوصل إلى فهم مُثْرٍ للعمليات التي تجري داخل الحركة اﻹلحادية اليوم، والأهم فهم التوتر الناشئ بين الملاحدة والإنسانويين العلمانيين (Cimino and Smith, 2010). ثمة أدبيات غنية عن تاريخ الإلحاد الغربي الحديث، مع اتفاق عام بين الباحثين فيما يتعلق بأصوله اللاهوتية والديالكتيكية (على سبيل المثال Buckley, 1987, 2004; Henry, 2010; Hyman, 2007; Kors, 1990; Turner, 1985). وأنا أرغب في المساهمة في هذه اﻷدبيات (إضافة إلى تلك المتعلقة بالإلحاد الجديد بصورة أكثر تحديدًا) من خلال الجدال بأن تطورًا مهمًا في تاريخ الإلحاد لم يحظ بالاهتمام الكافي. وهو «انقسام» القرن التاسع عشر الميلادي الذي أنتج تيارين من الأفكار، أطلق عليهما: الإلحاد العلمي scientific atheism والإلحاد الإنسانوي humanistic atheism. يمكن فهم هذا الانقسام إلى حد كبير، باعتباره انقسامًا إبستمولوجيًا افتتح بظهور العلوم الاجتماعية، ونشوء نظرة للدين محورها إنساني واجتماعي. وكما سوف نرى، فإن هذه ليست مسارات متعارضة، بما أن المنهج الإنسانوي قد سَلَّم في الحقيقة بالعديد من افتراضات المنهج العلمي، حتى أنه يمكن اعتباره ثمرة لﻷخير. وفي استعارة لتشبيه داروين الخاص، ففي الشجيرة المضيئة لتطور الإلحاد، كان الإلحاد الإنسانوي فرع تحول عن الفرع الممثل للإلحاد العلمي.
في الإلحاد العلمي، ركز غير المؤمنين في اشتباكهم مع الدين على العلم، والتفسير، والمعرفة في مقابل الجهل. ومن وجهة النظر هذه، يمكن اجتثاث الدين بالنقد العلمي والتعليم. أما في الإلحاد الإنسانوي، فقد تحول التركيز إلى الدين باعتباره ظاهرة اجتماعية، ودلالة على الاغتراب والاضطهاد. ومن وجهة النظر تلك، فإن حل المشكلة الاجتماعية للدين، يكمن في المشكلة الأوسع للمعاناة الإنسانية: إذا اقتلعت، سيختفي الدين. وبالتالي، فإن التمييز بين الإلحاد العلمي والإلحاد الإنسانوي يعد ضرورة، لأن مصطلح «الإلحاد» لا يُعَرِف بدقة طبيعة التوجهات الإبستمولوجية والسياسية التي تسم التشكيلات المختلفة من عدم الإيمان، بما أن «الإلحاد» يُعَرَّف عادةً من ناحية الموقف من الطبيعة – على سبيل المثال، يزعم روس Ruse (2010) أن اﻹلحاد مساوي للطبيعانية الوجودية[1] metaphysical naturalism – بدلًا من تعريفه من حيث الفلسفة الإنسانوية أو الموقف السوسيولوجي.
يدعم البحث الحالي كلا الموقفين. فالإلحاد، أو عدم الإيمان، يرتبط بالتعليم في سياقات مختلفة، رغم أن بعض الأبحاث الحديثة تقترح أن المساواة السوسيو-اقتصادية والأمن هما مُتَغَيّرَات أكثر صلة به (Norris and Inglehart, 2004; Schieman, 2010; Zuckerman, 2008). وتوافر هذه الروايات المعقدة نظريًا، والغنية إمبريقيًا عن الدين والإلحاد، يؤكد الميل الصارخ للملاحدة الجدد إلى تجاهل المنظورات الاجتماعية للدين، وتفضيلهم بدلاً من ذلك نهجًا اختزاليًا يعتبر الدين نتاجًا ثانويًا، أو أثرًا عرضيًا لآليات تطورية تكيُّفيّة سيكولوجية[2] (انظر، على سبيل المثال،Dawkins, 2006: 172–9; Dennett, 2006: 97–115; Harris, 2010: 151) مقرونة بجهل مُبَسّط (من الجدير بالذكر أن كريستوفر هيتشنز يميل أكثر إلى معالجة العناصر الاجتماعية-السياسية للدين، أكثر من اختزاله إلى غريزة بيولوجية). ويعد التمادي في هذا الاتجاه معبرًا عن التطور التاريخي لمدارس الإلحاد المتجذرة في العلوم الطبيعية مقابل العلوم الاجتماعية، ولكن مع وجوب ملاحظة أن الانقسام الإبستيمولوجي كان مصحوبًا بمكون سياسي قوي. فالإلحاد الذائع اليوم أصبح أكثر فأكثر متعذِّرٌ تمييزه عن العلمويّة scientism، وباعث على تأمين السلطة المعرفية، والأخلاقية، وأخيرًا السياسية للعلوم الطبيعية. وبالتالي، فإنه يخون تقليدًا طويلًا من الإلحاد الإنسانوي، المستمد من أخلاقية عصر التنوير، والنقد الاجتماعي السياسي، والمشاريع الاشتراكية اللاحقة.
أريد الجدال بأن الإلحاد الجديد هو أساسًا، وإن لم يكن حصرًا، امتداد لأحد هذين المسارين الرئيسيين. وهذا يتطلب دراسة التطور التاريخي للفكر اﻹلحادي في الغرب، ما سيتم إجرائه في خطوات ثلاث: أولاً، أوجز النظرية الخاصة بكيفية ظهور الإلحاد من جدلية الدين/العلم في عصر الحداثة المبكرة، ما أفسح المجال تدريجيًا للافتراق بينهما في عصر التنوير، وخصوصًا في القرن التاسع عشر، عندما استعان الداروينيون بنظرية التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي، كإطار لتحرير العلم من أغلال الدين المؤسسي. ثانيًا، أوضح تأثير أولئك الداروينيين في صقل نوع معين من الإلحاد، اعتبر الدين في المقام الأول نقيضًا للعلم، وعقبة أمام التقدم الاجتماعي والعلمي (في الواقع، فإن التقدم في النوع السابق يعد مرتهنًا بالمسألة الأخيرة في هذه الرؤية). وأخيرًا، أُعَرَّف بتقليد مميز آخر للفكر اﻹلحادي نشأ في القرن التاسع عشر، وهو المقاربة الإنسانوية والسوسيولوجية – وليس العلمية – للإلحاد. يؤصل «الانقسام» في الفكر اﻹلحادي بالقرن التاسع عشر، السياق التاريخي الخاص بالظهور الأخير للإلحاد الجديد، والحركة الاجتماعية الوليدة المشابهة التي تحمل التقليد الدارويني/العلمي، بينما تهمل المقاربات المتجذرة في العلوم الاجتماعية والإنسانيات. ويعد أصل هذا الإهمال سياسي بقدر ما هو إبستمولوجي.
لقد انتقيت العديد من الأحداث والمفكرين المفتاحيين الذين يميزون مفهومًا معينًا للإلحاد الغربي الحديث، رغم أن هذا ليس بأي حال، محاولة لتقديم رواية نهائية وشاملة عن تاريخ شيء مراوغ للغاية، ومتنازع عليه في معناه. وتجدر الإشارة بداية إلى أنني عندما أستخدم كلمة «علم» هنا، فإنما أشير على وجه التحديد إلى العلوم الطبيعية، بينما عند اﻹشارة إلى العلوم الاجتماعية فإنني سوف أحددها على هذا النحو. إضافة إلى ذلك، فعندما أستخدم مصطلحات «الدين» أو «الله»، فإنني أشير عمومًا إلى المسيحية – الإيمان السائد في الزمان والمكان الذي أتصدى له (أي أوروبا الغربية الحديثة) – رغم أن الانتقادات التي ظهرت من هذا السياق، كان المقصود منها التطبيق على أي نظام اعتقادي يحوي إلهًا خالقًا متعاليًا.
العلم والدين: جدلية الإلحاد
قدم مايكل باكلي Michael J. Buckley ( (1987، 2004) رواية مقنعة حول “الأصول الديالكتيكية للإلحاد”، تذهب إلى أن الإلحاد لم يظهر من العداوة بين الدين والعلم، وإنما بالأحرى، من الانسجام النسبي بين الدين والعلم في الحداثة المبكرة. فـ «في القرن السابع عشر الميلادي، لم يكن العلم فحسب . . . غير متعارض مع المسيحية الطائفية؛ بل اعتقد غالبًا بأنه يمكنه، وينبغي له، القيام بالتفكير التأسيسي للمسيحية» (Buckley, 2004: 32). كما جادل باكلي بأن الإلحاد لم يأتي من تضاد بين الدين والعلم، وإنما من تضاد داخلي ضمن اﻹيمان نفسه، دفع اللاهوت إلى التحول للعلم من أجل أساساته. ويؤيد جافين هايمان Gavin Hyman نظرية باكلي، مُذَكّرًا بأنه في الحداثة المبكرة نشأ تصور حديث عن الله، أطاح بمفهوم التعالي كملكية أساسية له (وكان هذا عنصرًا مفتاحيًا في لاهوت ما قبل العصر الحديث). وبدلاً من ذلك، فإنه «قدم تصورًا عن الله باعتباره “شيئًا” في العالم، له “ماهية” معرّفة، و”موقع” قابل للتحديد، يمكن اﻹشارة إليه بنفس الطريقة التي يشار بها إلى الأشياء الأخرى» (Hyman, 2007: 39). وعندما قرر اللاهوتيون أن الله شيئًا مُحَدّد الموقع والماهية، فإنه أصبح بحكم التعريف موضوعًا للبحث العلمي.
في أثناء ذلك، اعتقد العلماء بأنه من الطبيعي تعليل الحجج الدفاعية[3] apologetic arguments من خلال الأدلة اﻹمبريقية، وشٌجِعوا على القيام بذلك من قبل اللاهوتيين ورجال الدين على حد سواء. وكان أبرز المفكرين في الثورة العلمية من المؤمنين المتحمسين، بل وطور العديد منهم مواقف لاهوتية لمواكبة نظرياتهم الطبيعية (Henry, 2010: 41). وربما كان إسحق نيوتن، هو الشخصية اﻷكثر أهمية في التطور الخاص بهذه الجدلية الحديثة المبكرة. وهو مسيحي وَرِع اِتّكِلَ على فكرة التدخل الإلهي لسد بعض الثغرات في نظرياته (Thrower, 2000). حققت اكتشافات نيوتن تحولًا عميقًا، وخطوة أمامية في فهمنا للكون، أشارت إلى احتمالية أن يكون العلم قادرًا على إيجاد إجابات على أسئلة لطالما كانت مضمارًا للاهوت، تعمل على تحويل الكون المسحور إلى «نظام من القوى المعقولة» (Hampson, 1968: 37). ومع توسع المعرفة العلمية، كان يُنظر إلى الله بشكل متزايد باعتباره إضافة غير ضرورية إلى نظريات الاكتفاء الذاتي. وبحلول القرن الثامن عشر، رفض العلم نظرية الكون الإستاتِيكِيّ (السكوني) الذي وضع له الله القوانين، لصالح رؤية اعتمدت الطبيعة كنتاج لتحولات ثورية عظيمة وقعت على مدار فترة زمنية هائلة (انظر Hampson, 1968). لم يجادل العلماء بأن الله غير موجود، وإنما لم يعد مفهوم المصمم فحسب مطلوبًا لتفسير الكون. ومع هذا، فإن العلم بدأ في الادعاء بأهليته فيما اعتبره البعض الوظيفة الأساسية للدين: أي تفسير أصل وطبيعة الواقع المادي.
يقترح باكلي أن هذا التطور قد مهد الطريق للإلحاد: «إن اﻹيمان المبني على اكتشافات العلم يُنتج في النهاية نفيه» (2004:42). ولكي تطبق الانتقادات العقلانية الحديثة على الله، كان يجب أولاً أن يكون هناك بعض التغيير في اللاهوت لجعل الله موضوعًا يمكن درسه علميًا، ولهذا السبب «لم يوفر الإلحاد الكثير من التحدي الخارجي لﻹيمان، وإنما باﻷحرى ثورة داخل اللاهوت نفسه هي التي نشأ منها الإلحاد. وهذه دعوى بأن أصول الإلحاد الحديث هي في النهاية لاهوتية» (Hyman, 2007: 40). في هذه النظرية، فإن الإلحاد ليس نتيجة صراع بين العلم والدين – هذه النظرية الخاطئة حول الصراع المتواصل والمُستَعصِي بين إبيستيمولوجيات الدين ومؤسساته وبين العلم يشار إليها ببساطة من قبل بعض المؤرخين باسم «أسطورة الصراع» (Lindberg, 2010) – ولكن، على العكس من ذلك، فإن الإلحاد «نشأ من التناقض الجوهري داخل التقليد الأرثوذكسي نفسه واستراتيجياته الدفاعية» (Buckley, 2004: 46).
كان العلم واللاهوت الطبيعي [4] natural theology أساسيين بين تلك الاستراتيجيات الدفاعية. وبالتالي، ففي الأيام الأولى من الثورات المتزامنة في العلم واللاهوت، لم يكن ثمة صراع حقيقي بينهما، ولكن بالأحرى، كان العلم والدين مرتبطين معًا. وقد أدى تغيير الفهم اللاهوتي لله (بالانتقال من التعالي إلى المادية) إلى تحول في التركيز من الوحي إلى اللاهوت الطبيعي، كان قد استند إلى الفكرة القائلة بأن «وجود الكائن الإلهي وخصائصه، يمكن الاستدلال عليها باستخدام العقل الطبيعي» (Topham, 2010: 61)، فضلًا عن انعطافة صريحة نحو العلم لتقديم دليل قاطع على وجود الله في الطبيعة. هذه العلاقة سوف تتطور لتلد شكلاً حديثًا من الإلحاد، رفض شكلًا حديثًا من اﻹيمان كان في اﻷخير لا يمكن استدامته (Hyman, 2007: 40). وهذا يعني أن اﻹيمان القائم على تصور الله كـ كينونة طبيعية قابلة للبحث العلمي كان سيفشل حتمًا، عندما تفشل الأدلة في إثبات دوره في الطبيعة، ولكن يبدو أنها باﻷحرى أظهرت أكثر فأكثر أن مفهوم الله لم يكن مطلوبًا لتفسير الطبيعة.
ومع ذلك، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه التطورات بشكل عام لم تؤدي إلى الإلحاد مباشرة، وإنما إلى التشكيك في الوحي، والإيمان بـ «الدين الطبيعي» أو الربوبية deism (أو بعبارة أخرى، الانتقال من الوحي إلى اللاهوت الطبيعي). رفض الربوبيون خصوصيات الدين المُنَزَّل (الذي كان يستند إلى السماع، وبالتالي لا يمكن التحقق منه عقلانيًا أو إمبريقيًا)، بينما تبنوا الرؤية القائلة بأن الدين يجب أن يؤسس على براهين عقلانية، وأن الدليل على تصميم الله (للكون) يمكن العثور عليه في الطبيعة (Byrne, 1989). كان الشعور الطاغي في عصر التنوير هو أن «الدين الذي لا يمكن تأسيسه بواسطة العقل لم يكن دينًا على الإطلاق – وإنما هو خرافة» (Thrower, 2000:100). لقد نشأت هذه المرحلة الانتقالية إلى الإلحاد الحقيقي من العلاقة الجدلية بين الدين والعلم، كنتاج للثورة العلمية والثورة داخل اللاهوت.
كان الاستثناء الرئيس لقاعدة الربوبية تلك في أثناء عصر التنوير، حدثًا فاصلًا في تاريخ الإلحاد: وأعني نشر بارون دي هولباخ Baron d’Holbach كتابه Systeme de la Nature [نظام الطبيعة] في العام 1770. كان دي هولباخ مفكرًا واجتماعيًا[5] socialite فرنسيًا-ألمانيًا يعيش في باريس، و «ربما كان أول ملحد مُعلَن بشكل صريح في التقليد الغربي» (Thrower، 2000:106). يعتبر ديفيد بيرمان (1988) كتاب (نظام الطبيعة) أول عمل منشور عن الإلحاد «المجاهر به» (أي الصريح والمعلن جَهرَةً) في أوروبا. ويمكن استخلاص انتقاد دي هولباخ للدين في نقاط أساسية ثلاثة: أن الدين غير علمي وتعاليمه نقيض الحقيقة العلمية؛ وأنه يدعم النظام الاجتماعي الفاسد بصرفه الانتباه بعيدا عن عالم الواقع وتوجيهه بدلًا من ذلك نحو الحياة الآخرة؛ وأنه ليس أساسًا نافعًا للأخلاق (Thrower, 2000:107). تشير هذه النقاط إلى أبعاد ثلاثة للنقد هي: إبستمولوجية، وسياسية، وأخلاقية. وهذه بدورها تماثل الأبعاد الخاصة بنقد عصر التنوير للدين على النحو الذي بينه كازانوفا Casanova (1994)، والذي يتضمن التصنيفات «المعرفية»، و«السياسية-العملية»، و«الذاتية التعبيرية-الجمالية-الأخلاقية» المعقدة تمامًا، والتي يمكن تحديدها ببساطة أكثر كنقد أخلاقي-ذاتي.
في الغالب، نادرًا ما كان الاشتباك النقدي مع الدين بين مفكري التنوير في القرن الثامن عشر، إلحاديًا بجرأة وبفخر مثلما كان عليه عمل دي هولباخ، كما أنه لم يتمكن أبدًا من اﻹفلات من تأثير الربوبية ومشكلة التصميم. ومع ذلك، فإن الإلحاد سيعثر في القرن التاسع عشر على حياة جديدة، وتعبير جديد، كما سيتشعب إلى مسارات جديدة. كانت هذه هي الفترة التي تطور فيها الإلحاد من أصوله التنويرية، وتبلور وفقًا لنقطتين جديدتين من اﻷصول، يمكننا من خلالهما استخلاص معظم الأشكال المعاصرة. نمت هذه الجدائل الجديدة من الإلحاد، من منهج عصر التنوير في الشُكوكيّة العامة، وزودت بأرضية جديدة في العلوم الناشئة من البيولوجيا، واﻷنثروبولوجيا، والسوسيولوجيا، والسيكولوجيا. و كان الإلحاد العلمي أولى هذه المسارات، والتي ظهرت من المناقشات التي أشعلتها نظرية داروين في التطور، وارتكزت على النقد المعرفي.
تطور الإلحاد العلمي
لا يعد نشر كتاب أصل الأنواع The Origin of Species (2003 [1859]) في العام 1859 فحسب أحد أكثر الأحداث أهمية في تاريخ العلم، ولكن ربما أيضًا الحدث اﻷكثر أهمية في تاريخ الإلحاد. فقد كانت نظرية تشارلز داروين للتطور عن طريق الانتقاء الطبيعي، واحدة من أكثر الأفكار استفزازًا وجَدَلِيّة في تاريخ البشر، ما يعزى أساسًا إلى تحديها الضمني للتفسيرات الدينية للأصول البشرية. قدمت هذه النظرية البسيطة، ولكن الناجحة جدًا، إجابة على لغز وجود الحياة، والذي كان يُقَابَل ﻵلاف السنين باﻹجابة: «الله»، وبالتالي زودت الإلحاد برد على الثُغرَة الذي ابتلي بها طوال قرون. لم تتحدى نظرية داروين حجة التصميم فحسب، بل ونسختها من خلال تقديم تفسير بديل، عقلاني وقائم على الأدلة، لظاهرة التصميم في الحياة (Dawkins, 1986). وقد لاحظ داروين نفسه آثار نظريته على أقدم حجة للدين في سيرته الذاتية: «يبدو أنه ما عاد ثمة تصميم في تنوع الكائنات العضوية، وفي عملية الانتخاب الطبيعي، أكثر من المسار الذي تهب فيه الرياح»[6] (2007 [1876]: 94). ورغم أن داروين لم يسمي أبدًا نفسه ملحدًا، فإنه كشف عن لاأدرية نمت من آثار نظريته للتطور، والتي قدمت أساسًا علميًا جديدًا للإلحاد ونقد الدين (Irvine, 1955: 133).
داروين، الخجول والمصاب بعزلة مزمنة، نادرًا ما تحدث علانية، تاركًا بدلًا من ذلك الدفاع عن نظريته المثيرة للجدل في المجال العام، وبشكل أساسي، إلى توماس هكسلي Thomas Huxley، الذي سوف يشتهر، من بين أمور أخرى، بسك مصطلح «اللاأدرية» agnosticism، والعمل كـ «بلدغ داروين Darwin’s bulldog – الذي انحاز إلى التطور بنشاط في النقاش العام ضد جميع المُتَحَدّين» (Larson, 2006: 80). قام هكسلي وحفنة من آخرين بالدفاع عن نظرية التطور، والترويج لها داخل الأكاديميا إلى جانب المجال العام الأكثر شمولاً، كما «تعاونوا بفاعلية لانتزاع المؤسسة العلمية، مع هدف تنصيب الطَبَعانيّة[7] naturalism كأيديولوجية للعلم، والعلم كدعامة أساسية للمجتمع الحديث» (المرجع نفسه: 108). قوبلت نظرية داروين، بالطبع، بمقاومة من السلطات الدينية (وكذلك من المعارضين من المجتمع العلمي). وهذا، مقرونًا بحقيقة أن السرد التوراتي عن الخلق ومكانة النوع البشري كان يتعارض مع التطور، قاد بعض الداروينيين الأوائل إلى الاشتباك مع اﻷفكار الدينية في صراع علني. ولا يزال هذا الصراع يشكل خطاب الإلحاد الجديد حتى اليوم.
بالنسبة لهؤلاء الداروينيين الأوائل، لم تكن نظرية التطور مُجَرّد حقيقة علمية في حاجة للدفاع عنها ضد القوى غير العقلانية التي تسعى إلى تشويه سمعتها. وإنما كانت النظرية، ومنذ البداية، مرتبطة بتوجه سياسي معين. فقد كان داروين «مولودًا، إذا جاز التعبير، في اﻹنتلجنسيا الآمنة مالياً في بريطانيا» (Browne, 2006: 10). وهذه التنشئة أثبتت أنها حاسمة في شخصيته وآرائه السياسية، والتي بدورها كانت مفيدة في تطوير نظريته العلمية: إذ «كان ضروريًا لمفهوم داروين، نظرة عالمية حديثة متأثرة بأفكار النفعانية، والفَردانِيَّة، والإمبريالية، ورأسمالية عدم التدخل». (Larson, 2006: 70). لم يشعر داروين بأي وخز للضمير نتيجة إعلانه الدعم للمد المتصاعد لليبرالية: «كان الفرد المتحرر من اﻷغلال، الذي يسعى وراء مصلحته الذاتية في مجتمع تنافسي دون قيد، هو المثل الأعلى السياسي طيلة نصف قرن … لقد كان هو مانِيفِستُو داروين في كتاب أصل اﻹنسان the Descent of Man، كما ظل هو نفسه “ليبراليًا كاملاً”» (Desmond and Moore, 1991: 625). وبعد وقت قصير من نشره، وصف هكسلي كتاب أصل الأنواع بأنه «”بندقية ويتوورث Whitworth [رشاش سريع الطلقات] حقيقية في مستودع أسلحة الليبرالية” – والسلاح الجديد الأكثر فعالية لقتل المعتقدات الخرافية وتطهير الميدان للمادية العقلانية» (Larson, 2006: 83).
بوضوح، كان التطور في أذهان المدافعين عنه بعيدًا عن المحايدة سياسيًا. وبدلاً من ذلك، كانت الفكرة قد رُبِطت بالليبرالية والعقلانية، واستخدمت للترويج للأهداف والقيم الحديثة. وبالتالي، فإنها تجاوزت العلم لتصبح حجر الزاوية في الأيديولوجية السياسية لﻹنتلجنسيا الليبرالية الفيكتورية (Jones, 1980). في الواقع، لم يتفق العديد من العلماء فحسب على أن نظرية داروين صَدَّقت على آرائه السياسية، وإنما على أن النظرية نفسها كانت نتاجًا للثقافة الفيكتورية، بما أن داروين ألزم نفسه منذ وقت باكر في حياته العلمية بنظرية الطبيعة، والتي عكست النوازع السوسيو-اقتصادية المالتوسية[8] للمجتمع الراقي البريطاني (Radick, 2009). وبمجرد ارتباط الإلحاد بنظرية التطور، فإنه انتقل من مجرد نَقض المعتقدات الدينية إلى التوكيد على الليبرالية،