العمل شرط "الطريقة"
ولد أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن يحيى، المعروف بأحمد الرفاعي في قرية "أم عبيدة" من قرى مدينة "واسط" بالعراق سنة (512 هـ = 1118م)، وشاءت الأقدار أن يُتوفَّى أبوه قبل مولده، فكفله وعني به خاله "منصور البطائحي"، وكان رجلا ورعا صالحًا.
وجاءت شهرته بالرفاعي نسبة إلى جده السابع رفاعة، وكان من أشراف مكة، وغادرها إلى المغرب، واستقر في موطنه الجديد، وظل نسله هناك حتى هاجر أحد أحفاده وهو السيد أبو الحسن علي والد الإمام الرفاعي، ونزل العراق وأقام بقرية أم عبيدة.
عني منصور البطائحي بابن أخته، فحفّظه القرآن، وتلقى الرفاعي مبادئ القراءة والكتابة، ثم بعث به إلى "واسط" فتلقى العلم على شيوخها، وتفقه على المذهب الشافعي، وحفظ كتاب "التنبيه في فقه الشافعية" لأبي إسحاق الشيرازي. وبعد أن نهل من العلم عاد إلى قريته، وبدأت شهرته تتسع، وراحت الأنظار تتجه إليه لعلمه وصلاحه.
اسمه ونسبه:
هو الإمام العارف بالله الفقيه الشافعي الأشعري الشيخ أحمد بن علي بن يحيى نقيب البصرة المهاجر من المغرب ابن السيد ثابت بن الحازم وهو علي أبو الفوارس ابن السيد أحمد بن علي بن الحسن بن رِفاعة الهاشمي، المكي ابن السيد المهدي بن أبي القاسم محمد بن الحسن رئيس بغداد ابن السيد الحسين الرضي، ابن السيد أحمد الأكبر بن موسى الثاني بن إبراهيم المرتضى ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام، جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام زين العابدين علي الأصغر ابن الإمام الشهيد الحسين ابن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
أما نسبه لأمه فأنه يتصل بالصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري، وأما نسب أمه لأمها فإنه يتصل بالسيد الإمام الحسين رضي الله عنه، قال الشيخ الإمام عبد الكريم الرافعي في سواد العينين:
نسبٌ قلادته الفخمة كلها حتى الرسول فرائد وعصائم
وقال الشيخ أحمد بن جلال اللاري في جلاء الصدى:
نسب توورث كابر عن كابر
كالرمح أنبوب على أنبوب
وقد تشرف بذكر نسبه الطاهر جم غفير من الأكابر ورصعوا بذكر سيادته صفائح الدفاتر، وأفرد لنسبه الشريف جمع كبير من المشايخ، وزين بعضهم كتبه بذكر نسبه منهم: الشيخ برهان الدين علي الحلبي القاهري صاحب السيرة النبوية، والحافظ الزبيدي، والشيخ عبد العزيز الديريني، والشريف النسّابة نقيب النقباء شرف الدين محمد ابن عبد الله الحسيني في مشكاة الأنوار، والنسّابة ابن الأعرج الحسيني في بحر الأنساب، والنسابة ابن ميمون نظام الدين الواسطي في مشجَّرِه، والعلامة محمد الموصلي وغيرهم خلق كثير.
مولده ونشأته:
قدم أبوه العراق وسكن البطائح بقرية اسمها أم عبيدة، فتزوج بفاطمة أخت القطب الشيخ منصور البطائحي الزاهد ورزق منها أولادا أعظمهم قدرا وأرفعهم ذكرا السيد أحمد الرفاعي الكبير.
ولد رضي الله عنه في المحرم سنة اثنتي عشرة وخمسمائة ونشأ فى حجر خاله فأدبه وهذبه، وتلقى عن خاله الطريقة الصوفية وعلم التصوف ولبس خرقته وأخذ عنه علوم الشريعة، وتفقه على الشيخ أبي الفضل علي الواسطيّ المعروف بابن القاري، وعن جماعة من أعيان الواسطيين منهم خاله الصوفي الشيخ أبو بكر الواسطي شقيق الشيخ منصور المذكور. وانتهت إليه الرياسة في علوم الشريعة وفنون القوم وانعقد عليه إجماع الطوائف، واعترف رجال وقته بعلو قدمه ورفعة مرتبته.
ثناء العلماء عليه
أثنى عليه الكثير من العلماء والفقهاء والمحدثين، وأفردت التآليف في ذكر مناقبه، وممن أثنى عليه
القاضي أبو شجاع الشافعي صاحب المتن المشهـور في الفقه الشافعي، فقد ذكر الإمام الرافعي ما نصه: "حدثني الشيخ الإمام أبو شجاع الشافعي فيما رواه قائلا: كان السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه علما شامخا، وجبلا راسخا، وعالما جليلا، محدثا فقيهًا، مفسرًا ذا روايات عاليات، وإجازات رفيعات، قارئا مجودًا، حافطا مُجيدا، حُجة رحلة، متمكنا في الدين" إلى أن قال: "أعلم أهل عصره بكتاب الله وسنة رسوله، وأعملهم بها، بحرا من بحار الشرع، سيفًا من سيوف الله، وارثا أخلاق جده رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)" ا.هـ.
وقال الشيخ المؤرخ أبو الحسن المعروفُ بابن الأثير: "وكان صالحا ذا قبول عظيم عند الناس، وعنده من التلامذة ما لا يحصى " ا.هـ، ووصفه المؤرخ الفقيه صلاح الدين الصفدى بالزاهد الكبير سلطان العارفين في زمانه. بقوله: "الإمام القدوة العابد الزاهد، شيخ العارفين". ا.هـ. وترجمه ترجمة حافلة في تاريخه، ووصفه الأمام الجليل شافعي عصره عبد الكريم الرافعي الشيخ الأكمل والغوث المبجّل، وقال الشيخ المحدث الجليل عبد السميع الهاشمي الواسطي: "كان السيد أحمد أية من آيات الله" ا.هـ.، وقال فيه شيخه الشيخ منصور البطائحيُّ "وزنته بجميع أصحابي وبي أيضا فرجحنا جميعًا" اهـ، وقال فيه العلامة الفقيه اللغوي صاحب القاموس المحيط الفيروز آبادي:
أبا العلمين أنت الفرد لكن
إذا حُسب الرجال فأنت حزب
وقد بشر به قبل ولادته أكابر الأولياء منهم الشيخ الكبير تاج العارفين أبو الوفا، والشيخ نصر الهماماني، والشيخ أحمد بن خَميس، والشيخ أبو بكر النجاري الأنصاري، والشيخ منصور البطائحي وغيرهم خلق كثير.
وقد وصفه المؤرخ ابن خلكان بقوله: "كان رجلاً صالحًا، فقيها شافعي المذهب" ا.هـ، وقال فيه المؤرخ ابن العماد:" الشيخ الزاهد القدوة" ا.هـ.، وذكره ابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية وعدّه من فقهائهم، وأدخله كذلك الإمام الحجة المفسر الحافظ المؤرخ تاج الدين السبكي في عداد الفقهاء الشافعية فذكره في طبقات الشافعية ووصفه بقوله: "الشيخ الزاهد الكبير أحد أولياء الله العارفين والسادات المشمرين أهل الكرامات الباهرات". وممن أثنى عليه أيضا الشيخ الولي الكبير الإمام الغوث عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه.
وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني: "هو الغوث اكبر والقطب الأشهر أحد أركان الطريق وأئمة العارفين الذين اجتمعت الأمة على إمامتهم واعتقادهم" ا.هـ.
تلاميذه:
تخرج على يديه رضي الله عنه الآلاف من التلامذة، وسلك عليه العديد من العلماء والفقهاء والمحدثين فانتفع به خلق كثير ولا نستطيع إحصاءهم في هذه الورقات فمن منا يستطيع إحصاء النجوم، وقد اتفق المؤرخون ورجال الطبقات وأصحاب كتب الرقائق على ذلك. وممن تخرج على يديه الشيخ الفقيه الشافعي أبو شجاع صاحب المتن المشهور في الفقه الشافعي، والإمام المعمر محمد بن عبد السميع الهاشمي الواسطي، والشيخ الحجة عمر أبو الفرج عز الدين الفاروثي الواسطي (محدث حافظ)، والفقيه بقية الصالحين أبو زكريا يحيى بن يوسف العسقلاني الحنبلي، والأمام الكبير أبو الفتح الواسطي، والشيخ العارف أبو المعالي بدر العَاقولي، والشيخ الكبير حسن القَطناني المعروف بالشيخ حسن الراعي، والإمام الجليل جمال الدين الخطيب، والشيخ الولي الكبير إبراهيم الأعزب الرفاعي، والشيخ يعقوب الكراز الواسطي، والإمام العارف بالله حياة بن قيس الحرّاني، والشيخ العارف بالله إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الكازروني صاحب شفاء الأسقام، والشيخ الحجة عماد الدين الزنجي، والشيخ الفقيه عبد المحسن الواسطي ابن شيخه علي الواسطي، والشيخ تقي الدين الواسطي، والشيخ صالح بن بكران، والشيخ منصور البطائحي الصغير، والشيخ جعفر الخزاعي المغربي، والشيخ الولي الشهير سعد البرزباني، والشيخ أبو بكر خطيب السعدية العلامة الشهير، والشيخ علي بن نعيم المشهور، والشيخ عمر الهروي، وأمثالهم كثير رضي الله عنهم أجمعين.
وقد قيل في مدحه:
أبو العلمين الغوث ذو القدم التي
على إثرها الأفراد لله تذهب
عصابته زهرٌ النجوم وإنهم
متى غاب منهم كوكبٌ لاح كوكب
ما ألف في حقه:
ألف العديد من السادة العلماء كتبا مفردة في الثناء عليه وذكر محاسنه ومناقبه ونذكر منها
"ترياق المحبين في سيرة سلطان العارفين" للحافظ تقي الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن عبد المحسن الواسطي الشافعي محدث واسط، والنجم الساعي في مناقب القطب الكبير الرفاعي لأبي بكر بن عبد الله العيدروس العدني،
وسواد العينين في مناقب الغوث أبي العلمين للإمام الحافظ عبد الكريم بن محمد الرافعي شافعي عصره،
وغاية التحرير في نسب قطب العصر
وغوث الزمان سيدنا أحمد الرفاعي للشيخ المفسر المحدث عبد العزيز الديِّريني الشافعي،
وجلاء الصدى في مناقب إمام الهدى السيد أحمد الرفاعي للشيخ أحمد بن جلال اللاري المصري الحنفي،
والشرف المحتم فيما من الله به على وليه السيد أحمد الرفاعي من تقبيل يد النبي (صلّى الله عليه وسلّم) للحافظ جلال الدين السيوطي،
وروضة الناظرين للعارف بالله الوِتري، والنفحة المسكية للحافظ الصوفي عز الدين أحمد الفاروثي،
والوظائف الأحمدية للشيخ القطب أحمد عز الدين الصياد،
وإجابةُ الداعي في مناقب الإمام الرفاعي للبرزنجي، وشفاء الأسقام في سيرة غوث الأنام للشيخ إبراهيم بن محمد الكازروني،
وربيع العاشقين للشيخ جمال الدين الحدادي،
والدرة السامية في معرفة فضائل سلوك الطريقة الرفاعية للشيخ أحمد بن محمد بن خميس الحضرمي،
وبغية الطالبين للحافظ المتقن قاسم بن أحمد الواسطي الشافعي،
وقرة العين في مناقب أبي العلمين للشيخ الإمام العارف بالله تقي الدين علي ابن المبارك بن الحسن بن أحمد بن بأسلوبه الواسطي،
وغير ذلك من المؤلفات.
مؤلفاته:
ترك رضي الله عنه العديد من المؤلفات إلا أن أكثرها لم يصل إلينا وقد فقدت بعد دخول التتار إلى بغداد، ومن مؤلفاته نذكر ما يلي:
ا-معاني بسم الله الرحمن الرحيم، وهو كتاب في التفسير على طريقة القَوم.
٢-تفسير سورة القدر.
٣-شرح كتاب التنبيه للشيرازي، في الفقه الشافعي.
٤-الطريق إلى الله، في التصوف.
٥-البهجة، في التصوف.
٦-الحِكَم، في التصوف والمواعظ.
٧- حالة أهل الحقيقة مع الله، وهو أربعون حديثا بالإسناد المتصل ألقاها السيد أحمد
الرفاعي في أربعين مجلسا جمعها الفقيه الشافعي أبو شجاع الشافعي.
٨- البرهان المؤيد، وهو من أشهر كتبه، وقد وصفه الإمام الرافعي بقوله: "هو الكتاب الجليل الذي عز شأن سبكه عن المثيل الذى جمعه من مجالس وعظه ودونه شيخ الإسلام شرف الدين ابن الشيخ عبد السميع الهاشمي العباسي الواسطي نفعنا الله بهم أجمعين" اهـ.
وقد جمع كلماته الحكَمية المحدث الشيخ عبد العظيم ابن عبد القوي بن أحمد المنذري في كتاب سماه "المجالس الأحمدية" أورد فيه ما قاله سيدنا أحمد الرفاعي رضي الله عنه في كل مجلس على الغالب بعينه. وكذا جمع الشيخ إبراهيم الراوي الرفاير البغدادي كتابًا ذكر فيه أحزاب وأوراد السيد أحمد رضي الله عنه وأسماه " كتاب السير والمساعي".
معنى التصوف الرفاعي
التصوف الحق ليس انعزالا عن العالم في خلوة أو خانقاه، أو انصرافًا عن دنيا الناس، أو انشغالا بالعبادة عن قضايا الأمة؛ وإنما هو الجهاد في أعلى ذراه، والعلم في أصفى موارده، والخُلُق في أعلى مثله، والقدوة الحسنة في أبهى صورها. إنه الصدق والأمانة، والإيثار والنجدة، ونصرة الضعيف وإغاثة الملهوف، والتعاون على البر والتقوى .
وقد كان الصوفية العظام منارات للهدى، وحصونًا منيعة يلجأ إليها الناس حين تلتوي بهم السبل، ويضلون الطريق، وقدوة صالحة تتعلق بها الأفئدة والقلوب، ولسان صدق يجهر بالحق حين ترتجف الشفاه وترتعد الفرائص .
حلقة الرفاعي
خلف الرفاعي خاله الصوفي الكبير منصور البطائحي في حلقاته ودروسه، وصار له أتباع ومريدون يؤمون مجالسه التي امتلأت بالمئات، وكان رحمه الله ملتزما بالكتاب والسنة، لا يخرج عنهما قيد أنملة.
يقول لتلاميذه ومريديه: "عظموا شأن الفقهاء والعلماء كتعظيم شأن الأولياء والعرفاء، فإن الطريق واحد، وهؤلاء ورّاث ظاهر الشريعة، وحَمَلة أحكامها الذين يعلمونها الناس، وبها يصل الواصلون إلى الله. إذ لا فائدة بالسعي والعمل على الطريق المغاير للشرع، ولو عبد الله العابد خمسمائة عام بطريقة غير شرعية فعبادته راجعة إليه، ووزره عليه، ولا يقيم له الله يوم القيامة وزْنًا، وركعتان من فقيه في دينه أفضل عند الله من ألفي ركعة من فقير جاهل في دينه".
ويؤكد لأصحابه ضرورة الالتزام التام بالكتاب في كثير من كلامه، وكأنه يرد على خصوم التصوف واتهامهم لأصحابه بالابتعاد عن نهج السنة النبوية، فيقول: "كل الآداب منحصرة في متابعة النبي (صلى الله عليه وسلم) قولا وفعلاً وحالا وخلقًا، فالصوفي آدابه تدل على مقامه، زنوا أقواله وأفعاله وأخلاقه بميزان الشرع، يُعْلم لديكم ثقل ميزانه وخفته".
مرقد الشيخ الرفاعي في العراق
تواضعه
وكان الشيخ - عَلَى جلال قدره وعظم هيبته في نفوس أتباعه - متواضعًا، ليّن الجانب، يأسر الناس بسلوكه قبل أن يبهرهم بكلامه، ويؤثّر بإخلاصه في القلوب ما لا تفعله فيها مئات الخطب والمواعظ . يقول لأصحابه حين رأى تعظيمًا وإجلالا له: "أنا لست بشيخ، لست بمقدّم على هذا الجمع. حُشرت مع فرعون وهامان إن خطر لي أني شيخ على أحد من خلْق الله، إلا أن يتغمدني الله برحمته، فأكون كآحاد المسلمين".
وقد عَدّ الصوفيَّ الحقيقي هو من يهتم بمجتمعه، ويضع نفسه في خدمة الناس، وقضاء مصالحهم. ويريد من الصوفي الذي سمت نفسه، وتهذبت خلائقه، وعلت روحه، أن يكون إيجابيًا فعالا، وبدأ هو بنفسه فكان يملأ قِرَب الماء، ويجعلها على ظهره وعلى كفِّه، ويوصلها إلى منازل النساء والأرامل، ويجمع لهن الحطب ويوزعه عليهن .
وكان إذا سمع بمريض في قرية- ولو كانت بعيدة- عاده وزاره، ويخرج إلى الطريق ينتظر العميان حتى إذا رأى أحدهم قام إليه وأخذ بيده وقاده إلى حيث يريد، وكان إذا رأى شيخًا كبيرًا ذهب إلى أهل حارته وأوصاهم به.
الدعوة إلى العلم والعمل
كان الرفاعي فقيهًا ملتزمًا، يعبد الله على علم، ويدعو الناس على بصيرة. وتتفق المصادر التي ترجمت له على ذلك، وعدّه "السبكي" فقيهًا شافعيًا، وأفسح له مكانًا في كتابه "طبقات الشافعية"، ووضعه في الطبقة الخامسة منها؛ ولهذا كان يحثّ أتباعه وتلاميذه على طلب العلم وإنفاق الوقت في مدارسته، والارتحال إلى أهله، مرددًا لهم نصيحة شيخه له: "من لا يعرف في العلم نقصانًا، فكل وقته نقصان".
وكان الرفاعي يعمل حتى يضمن لنفسه لقمة العيش التي تمكّنه من عدم الاعتماد على أحد وتحفظ كرامته من سؤال الناس، وكان بوسعه أن يحيا في سعة وبحبوحة لو أراد ذلك، وتكفي إشارة منه لأتباعه الذين كانوا يستجيبون لأي لمحة منه، ولكنه كان متعففًا، قدوة لأصحابه بالعلم والعمل، لا بالكلام والثرثرة. يهتف في أصحابه: "طريقي دين بلا بدعة، وهِمّة بلا كسل، وعمل بلا رياء، وقلب بلا شغل، ونفس بلا شهوة".
وقد بلغ من حرصه على احترام قيمة العمل أنه كان يرفض أن يحضر مجالسه عاطل لا يعمل، واشترط على من يأتي إلى درسه أن يكون له صنعة يعمل بها وحرفة يقتات منها، فإن عجز عن ذلك هيأ له "الرفاعي" حرفة يعمل بها.
نصح الحاكم
ليس غريبًا على الصوفي الحق أن يواجه الظلم ويقوّم المعوّج، وينصح الحكام؛ لأنه بطول المجاهدة والإقبال على الله انقطعت علائق قلبه بزينة الدنيا، وضاعت هيبة ذوي الجاه والسلطان من نفسه، وأصبح له من الله عون ومدد، وأمن ورجاء، فلا تثريب عليه بعد ذلك إن وقف يصدع بالحق، لا يخشى في الله لومة لائم، ويجهر به، لا طمعًا في شهرة، ولا رغبة في دنيا، ولا خوفا من سلطان .
يرى الناس في موقفه هذا أمرًا عظيمًا، وهو كذلك بلا شك، ويراه هو رسالة في عنقه وأمانة في رقبته أن يبصّر الناس والحكام، دون التفات إلى مكانة من يكلمه، فقد ماتت الصور في قلبه، وبقي وجه الله الذي تعلق به.
ومما يُروَى عن الرفاعي أنه كتب إلى الخليفة العباسي "المستنجد بالله" كتابًا جاء فيه: "يا أمير المؤمنين، إن أنت نفذت أحكام الله تعالى في نفسك، نفذت أحكام كتبه في ملكك، وإن عظمت أمر الله، عظم اللهَ عمالك وولاة الأمور من قِبَلك. ثم زن يا أمير المؤمنين كل ما يصل إلى خويصة نفسك في هذه الدنيا من طعام تأكله وشراب تشربه، ورداء ترتديه، واجعل الشره على الدنيا بقدر ذلك، فإن رداءك ما سترك وطعامك ما أشبعك، ومالُك ما لَكَ منه شيء، وعليك بالعقل والدين، وإياك وأرباب القسوة والغدر والضلالة، فهم أعداؤك، وإذا أحببت فحكّم الإنصاف في عملك، وإذا كرهت فاذكر الله، والخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، وساو بين الناس بارًّا وفاجرًا، مؤمنًا وكافرًا". وكان المستنجد بالله من خيرة الخلفاء العباسيين، تولّى الخلافة سنة (555 هـ = 1160م) ودامت خلافته إحدى عشرة سنة، نَعِم الناس خلالها بالعدل والأمن وتخفيف المكوس والضرائب .
الطريقة الرفاعية
تُطلق لفظة الطريقة عند الصوفية المتأخرين على مجموعة أفراد من المتصوفة ينتسبون إلى شيخ معين، ويخضعون لنظام دقيق في السلوك الروحي، ويحيون حياة جماعية في الزوايا والخانقاوات، أو يجتمعون اجتماعات دورية في مناسبات معينة، ويعقدون مجالس الذكر والعلم بانتظام، ومن أشهر تلك الطرق الصوفية: "البدوية" نسبة إلى أحمد البدوي، و"الدسوقية" نسبة إلى إبراهيم الدسوقي، و"الجيلانية" نسبة إلى عبد القادر الجيلاني، و"الرفاعية" نسبة إلى أحمد الرفاعي. ولكل طريقة من هذه الطرق وغيرها أوراد خاصة بها للذكر، وألوان لأزياء أتباعها تُميّزها عن غيرها.
وتقوم الطريقة الرفاعية على العمل بمقتضى ظاهر الكتاب والسنة، ثم أخذ النفس بالمجاهدة والمكابدة، والإكثار من الذكر، وقراءة الورد، وذلك وفق إرشادات الشيخ وتوجيهاته، مع ضرورة التسليم والانقياد له.
وعلى المريد- حتى يسير وفق الرفاعي- أن يتبع تعاليمه، ويعمل بما قاله من الالتزام بالسنة، وموافقة السلف الصالح على حالهم، ولباس ثوب التعرية من الدنيا والنفس، وتحمل البلاء، ولبس الوقار واجتناب الجفاء.
وقد اشتهر عن أتباع الرفاعي القيام بأفعال عجيبة: كاللعب بالثعابين، وركوب الأُسود، والدخول في النيران المشتعلة دون أن تحرقهم أو تؤثر فيهم، وغيرها، فهذه مما لم تكن معروفة عند الشيخ الرفاعي، لكنها استُحدثت بعد وفاته، وإن كان الشيخ قد عُرف بحنانه الشديد على الإنسان والحيوان، وكان أشد ما يكون حدبًا ورعاية للحيوانات الظالة والمريضة.
وفي أصحاب وأتباع الرفاعي يقول الإمام الذهبي في كتابه "العبر": "ولكن أصحابه فيهم الجيد والرديء، وقد كثر الزغل (الغش) فيهم، وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت (احتل) التتار العراق: من دخول النيران، وركوب السباع، واللعب بالحيات، وهذا ما عرفه الشيخ ولا عرفه صلحاء أصحابه.. فنعوذ بالله من الشيطان".
مسجد الرفاعي بالقاهرة
وفاة الشيخ
والشيخ على زهده وميله عن الدنيا كان حَسَنَ الهيئة، نظيف الملبس، بهي الطلعة، ولم يكن ممن يطلبون الزهد بالثياب الخرقة، والهيئة المبتذلة، وكان لسان حاله يقول: إن الزهد إرادة النفس أن تزهد فيما في يديها عن استطاعة لا عن جبر، وإن القلب منصرف عن التعلق بمتاع الحياة الدنيا لا عن التعامل معه. وهذا ما عبر عنه بقوله: "الزاهد من ترك كل شيء يشغل عن الله". ولم يترك الشيخ كتابًا، وإنما جمع أتباعه شيئًا من أقواله في كتاب أطلقوا عليه "البرهان المؤيّد".
توفي رضي الله عنه ونفعنا به يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة الموافق (22 من جمادى الأولى 578 هـ = 10 من آب 1182م) في أم عبيدة، ودفن في قبة جده لأمه الشيخ يحيى الكبير النجاري الأنصاري وله من العمر ستة وستون سنة وستة أشهر وأيام، وكان أخر كلامه لا اله إلا الله محمد رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم). اركًا آلاف الأتباع ينشرون طريقته التي لا تزال قائمة حتى الآن في العراق ومصر وغيرها من البلاد.
أخلاقه وسيرته:
كان رضي الله عنه غني النفس، حسن المعاشرة، دائم الإطراق، كثير الحِلم، كاتما للسر، حافظًا للعهد، كثير الدعاء للمسلمين، هيّنا ليّنا، يصل من قطعه، ويعطي من منعه، ويعفو عمن ظلمه، ويحسن مجاورة من جاوره، ويطعم الجائع، ويكسي العَريان، ويعود المريض، ويشيع الجنائر، ويجالس الفقراء، ويواكل المساكين، ويصبر على الأذى، ويبذل المعروف، إن مُنِعَ صبر، ويحث على فعل الخير ويرشد إلى مكارم الأخلاق، ويقبل عذر المعتذر له، حزنه أكثر من فرحه، إذا مشى في الطريق لا ينظر إلا موضع قدمه، يأخذ بأيدي العمي ويقودهم، ويتردد في الليل إلى أبواب المساكين، ويحمل لهم الطعام ولا يعرفهم بنفسه، كان لليتيم كالأب، وله مناقب كثيرة وهي كما قال الحافظ المؤرخ الحجة تاج الدين المسبكي:
"لو أردنا استيعاب فضائله لضاق الوقت "، وقال أيضا: "ومناقبه أكثر من أن تحصر". وروى الرافعي أيضا بالإسناد أن بنتا تسمى فاطمة الحدادية ولدت حدباء ولما كبرت وآن أوان مشيها فإذا بها عرجاء ثم سقط شعر رأسها لعاهة، ففي يوم من الأيام حضر السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه الحدادية فاستقبله أهلها والعرجاء فاطمة بين الناس مع النساء وبنات الحدادية يستهزئن بها، فلما أقبلت على سيدنا أحمد قالت: أي سيدي أنت شيخي وشيخ والدتي وذخري أشكو إليك ما أنا فيه لعل الله ببركة ولايتك وقرابتك من رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) أن يعافيني مما أنا فيه فقد زهقت روحي من استهزاء بنات الحدادية، فأخذته الشفقة عليها وبكى رحمة لحالها ثم ناداها: ادني مني، فدنت منه فمسح بيده المباركة على رأسها وظهرها ورجليها فنبت بإذن الله شعرها وذهب احديدابها وتقومت رجلاها وحسن حالها (ولذلك سمي شيخ العريجاء).
(1) راجع ترجمته في: وفيات الأعيان ۱/ ۱٧۱، الوافي بالوفيات ٧/ ٢۱٩،
سير الذهبي ۱ ٢/ ٧٧، الكامل في التاريخ ۱۱/٤٩٢, العبر ٤/ ٢٣٣،
شذرات الذهب ٤/ ٩ ٥ ٢، مرءاة الزمان ٨/ ٠ ٣٧، طبقات الشافعية لابن
قاضي شهبة ٢/ ٥، طبقات الشافعية للسبكي ٤/ ٤ ۱، النجوم الزاهرة ٦/ ٩٢.
عن موقع أهل السنة والجماعة
مصادر الدراسة:
- عبد الوهاب السبكي : طبقات الشافعية الكبرى ـ تحقيق محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح الحلو ـ هجر للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ 1413هـ= 1992م .
- الذهبي : سير أعلام النبلاء ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1410 هـ= 1990م .
- ابن خلكان : وفيات الأعيان ـ تحقيق إحسان عباس ـ دار الثقافة ـ بيروت ـ بدون تاريخ .
- عامر النجار: الطرق الصوفية في مصر ـ دار المعارف القاهرة ـ 1990م.
-جمعت من مصادر مختلفة - موقع آل الصوفي 2009