الذاهبون .. أنبياءا ورسلا .. أصحاب مهمات .. وترقي ومقامات ..
يجودون بالنفس والقلب والعقل والروح .. فكيف لا ؟؟ !! وهم الذاهبون ..
حتى الهدهد رسول سليمان والذي أمره بقوله عليه السلام "اذهب بكتابي هذا " ..
كان قد ترك نفسه تحت أعتاب مولاه وملكه ..
واليوم موعدنا مع الذاهبين ..
منهم خليل الله ..
صاحب الفطرة السليمة والقلب السليم والعقل السليم ..
كانت فطرته سليمة فكان إنكاره لهذه الأصنام فحطمهم بفأس التوحيد ..
وكان قلبه سليم فأتى الله به : إلا من أتى الله بقلب سليم ..
وكان عقله سليم .. فنظر إلى النجوم والقمر والشمس .. غير أنه لا يحب الآفلين .."
"إني ذاهب إلى ربي سيهدين " ..
ويرى كثيرون أن هذه الآية هي آية الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الله
والتي كانت منها هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المحمدية .. أرض إيمان ونصرة ..
وكان قول إبراهيم عليه السلام قول يقين ..
غير قول سيدنا موسى عليه السلام : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ..
فهو قول رجاء بعسى ..
غير أن هنا بيان لا بد له من تبيان
فسيدنا إبراهيم حينما قال : "إني ذاهب إلى ربي " .. كان بعين الفرق ..
أما سيدنا موسى ذهابه بالمجيء والميقات المعلوم : "وجاء موسى لميقاتنا" .. كان بعين الجمع ..
وأما عين جمع الجمع :
فقد كانت لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام حين قال ربنا : "سبحان الذي أسرى بعبده " ..
فلما فني الموجود وانقطعت القدرة وثبت المشهود بلا شاهد
قال الخليل عليه السلام : "إني ذاهب إلى ربى ".
ويقال إنه طلبَ هداية مخصوصة؛ لأنه كان صاحب هداية، إذ لو لم تكن له هداية لَمَا ذَهبَ إلى رَبِّه.
ومعنى { إِلَى رَبِّى } أي إلى المكان الذي يُعْبدُ فيه ربي.
إني ذاهب مني إلى ربي فأكون فانيا فيه باقيا معه .
فمن بقى له في القلب لمحة للعالم بأسره ( الملك والملكوت )
لم ينفتح له باب العلم بالله من حيث المشاهدة ولم يدخل عالم الحقيقة.
هذا ولما جعل الله النار عليه بردا وسلاما
واهلك عدوه النمرود وتزوج بسارة
وكانت أحسن النساء وجها وكانت تشبه حواء في حسنها عزم الانتقال من ارض بابل إلى الشام .
بامتثال أمره بالهجرة أو: إلى المكان الذي أتجرّد فيه إلى عبادة ربي ، { سَيَهدين }
أي: سيرشدني إلى ما فيه صلاح ديني ،
أو: إلى مقصدي، وإنما بتَّ القول لسبق وعده ؛
لأن الله وعده بالهداية ، أو: لفرط توكله ، أو: للبناء على عادته معه.
ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام حيث عبَّر بما يقتضي الرجاء.
وقيل : ما نعت الله نبيًّا بالحلم إلا إبراهيم وابنَه؛ لمَعَزَّةِ وجوده.
وكنت قرأت عجيبة أحب أن أنقلها حيث قال ابن عباس رضي الله عنهما في كبش الفداء :
هو الكبشُ الذي قرّبه هابيل فقُبل منه ، وكان يرعى في الجنة حتى فُدِي به ولد إبراهيم .
وعنه رضي الله عنهما : لو تمت تلك الذبيحة لصارت سُنَّة، وذَبَحَ الناسُ أولادهم .
وكنت قد سألت أحد الدراويش :
عن قول سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه : "حسين مني وأنا من حسين " ..
فقال لي ببساطة وبدون ادعاء ولاية ولا معرفة ..
اقرأ قول حضرة النبي : أنا ابن الذبيحين
وأن مولانا حضرة سيدنا الحسين هو الفداء ...
ولهذا كان قتل السيد الشريف الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم ( بالذبح ) ..
وتكفي هنا الإشارة .. بل وتغني عن كل عبارة ...
نعود إلى الذهاب الإبراهيمي :
فقد قال إني ذاهب إلى ربي بالتوجه والعزم ، سيهدين إلى صريح معرفته ، ومكافحة رؤيته، ودوام شهوده.
فالذهاب إليه يُفضي إلى الذهاب فيه ،
وهو غيبة العبد عن شهود نفسه، بشهود محبوبه ، وهذه الحالة متبوعة للامتحان ؛
إذ امتحان كل عبد على قدر مقامه، فكلما علا المقام عَظُمَ الامتحان.
فامتحن الخليل بأربع محن:
تسليم بدنه للنيران ، وولده للقربان ، ورمي آخر عند البيت في يد الرحمن ، وذهاب زوجه للجبّار،
فوقع اللطف في الجميع ، واصطفي خليلاً للرحمن.
وأيضاً: فإن الحق غيور،
لا يُحب أن يرى في قلب خليله أو وليّه شيئاً سواه ، فأمر بذبح ولده ؛ لإخراجه من قلبه،
كما فرّق بين يوسف ووالده، وامتحن حبيبَه صلى الله عليه وسلم في عائشة صدِّيقته،
( بل وفي أخذ إبراهيم ولده ) وهذه عادة الله مع أصفيائه.
والذاهبون كُثْرٌ :
منهم الصالح ومنهم الطالح
فمن الصالحون سيدنا موسى عليه السلام وأخيه هارون عليه السلام :
اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري ...
وكان لموسى عليه السلام الذهاب إلى فرعون : "اذهب إلى فرعون " ( سورة طه ) ..
وذهاب إلى القوم .. "اذهبا إلى القوم " ( الفرقان ) ..
وذكرنا الهدهد في سورة النمل اذهب بكتابي هذا ..فألقه ..
وكذا ذهاب يونس مغاضباً .. وذا النون إذ ذهب مغاضباً ( الأنبياء ) ..
وكذا أولاد يعقوب عليه السلام ..اذهبوا بقميصي ... ( يوسف )
وكان لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ذهاباً .. ( ليذهب عنكم الرجس .. ) ( الأحزاب )
غير أننا وجدنا نوعاً آخراً من الذهاب ( ذهاب الطالح ) .. وهو ذهاب الطرد واللعن ..
وهو الذهاب الإبليسي :
( فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس ... ) .. ( طه )
بقي أن أقول بأن الذهاب .. هو الانتقال من مكان إلى مكان ..
أما الذاهبون إلى الله فهم ذاهبون إلى اللا مكان
حيث أن الذهاب بالروح إلى رب الروح بإذنه في فلوات القبول .. ونعمة الاستقبال ..
فلربما اسقط عبدا من عباد الله كل ما بقي من نفسه وهواه ..
وتخلى في مقام إنتظار شرف الإذن والقبول ..
وكان هنا سؤال ربنا في سورة التكوير ... فأين تذهبون ؟؟؟؟ !
"إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا " [مريم : 93]
منه وإليه بلا مشيئة للعبد ....
فالمشيئة والإرادة بيد صاحب كن :
" إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " [النحل : 40]
وهنا ذهاب الترك وهو ما فعله قوم موسى عليه السلام مع نبيهم :
" قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون "[المائدة : 24] .
أما أصحاب حضرة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم فغير :
حيث تبقى خالدة المقداد بن الأسود ترتيلا محمديا الى يوم الدين :
اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ...
وهناك أيضاً ذهاب التأييد والاطمئنان والنصرة :
فقد قال الله سبحانه لموسى عليه السلام : كلا لن يقتلوك, وقد أجبت طلبك في هارون,
فاذهبا بالمعجزات الدالة على صدقكما، إنا معكم بالعلم والحفظ والنصرة مستمعون.
" قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون "[الشعراء : 15]
غير أن يعقوب عليه السلام علم أن الذهاب هو الطريق لرؤية الولد فقال لبنيه :
" يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " [يوسف : 87] ...
وكان رد النبي ابن النبي الناظر بعين المعرفة :
" اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا " [يوسف : 93] ..
ولا يحتاج العاقل لدليل بأن الذي خلق أول مرة بقادر على أن يخلق مثلهم آخرى :
" ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد " [إبراهيم : 19]
فهل ذلك على الله بعزيز ؟؟ !! . .. ما ذلك على الله بعزيز ....
بقي أن أقول لأهل المودة قولا لعلي ولعلهم : خير الذهاب ذهاب الحسنات للسيئات :
" إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين "[هود : 114]
وسلام على من ذهب وتخلى وخلع النعلين ..
وترضى بقبول التجليات قبل السفر وعند السفر وبعد السفر ....
واعذرونا فلسنا ممن يلقون الموعظة من فوق جبل .. ولكن ما حيلتنا فالعذر العذر فإنا على سفر